صحيفة المثقف

من صَمُّود إلى مزهود

نور الدين صمودمجلسٌ فيه يُستطابُ النشيدُ**غاب عـنه "محمـدٌ مَـزهـودُ*"

كان يشدو في كل نادٍ بصوتٍ**جَهْوَريٍّ ينـداحُ فيـه القصيدُ

كلما قال خِلْتُـــه " المتنبيّ"**فالقوافي، إذا دعاها، عَـبيدُ(1)

قَيِّمَ الشعرِ كان، فهو عريق ٌ**وهو، في عالَم القريض، عميدُ

طَوّع الشعرَ للحياة، وهذا*****شعـرُه الفحـلُ طارفٌ وتليـدُ

فهو، إنْ رقَّ شعره، "بُحتريٌّ"**وإذا انْثالتِ القوافي"لَبيدُ" (2)

وهو في الحالتين، جِدُّ مُجيد*****يتسـاوَى قديـمُه والجديـدُ

كان نِدَّ الفحولِ يحفَظُ شعر الـْ**عُرْبِ، مما قد أفسدته "القرودُ"

طُغمةٌ "قلّدتْ" خُطَى الغربِ جهلاً** بالذي صاغهُ الفحولُ الجدودُ

فأتَوْنا بكـلِّ قولٍ غريـبٍ*****مثلما صالحٌ جفتـه ثمودُ (3)

ليس شعرا وليس نثرا، ولكنْ**هو بَـرْدٌ يُشتـق ُّ منه الجليـدُ

"وهو فَرٌّ لم يأتِ من بعد كرٍّ**وهو كالسيلِ حطَّه الجُلمودُ (4)

عفوَ "مزهودَ" إنَّ قوليَ هُـزْءٌ**وهو عَدْوَى مما جنَى التـقليدُ

وهو رَمزٌ من كل "قَـزْمٍ" دَعِيٍّ**بئس هذا الغموضُ والتجديدُ (5)

وهو مضْغ ٌللماءِ أو خلعُ بابٍ**ضاع منه مِزْلاجُهُ والوصيدُ (6)

وهو عَـقدٌ للريح إمّا اعْتراها،**يومَ قـيظٍ، حرارة ٌ وركودُ (7)

فيه عزفٌ كأنه زحفُ أفعَى**مالـهُ نغمـةٌ ولا تـرديدُ

* * *

يا إمامَ القريض قد كنـتَ سـدًّا**لِغُـثاءِ الأشعار حين تميـدُ

وحفظتَ القريضَ من كلِّ نَغْلٍ*وبكَ اختالَ، إذ يقالُ، القصيدُ (8)

ورأينا أنهارَ شعرك فاضتْ**مثلما فاض بالمِياه، "زَرودُ " (9)

شيمةُ النهر، حين يُرغي، اندفاعٌ**ليس نهرًا إنْ كبّلتْه السُّـدودُ

وتظلُّ اللُّـيوثُ تزأرُ زأْرًا** ذا دويٍّ يخـافـه الرِّعْديدُ

"ليس للكلبِ هيبةٌ في حياةٍ**ولَدَى الموتِ كم تُهابُ الأسودُ" ()

* * *

قد أتى إثركَ الأولَى حفظوا الشِّعْـ**ــــرَ، وكلٌّ مجدِّدٌ ومُجِيدُ

لم يَعُـقـّوا الآبـاءَ بل مجدوهمْ**وعلى ما أقولُ ها همْ شُهودُ

قد رثوْا شيخهمْ وأستاذَ جيلٍ**هو، في شعره المُجَلي، فريدُ (10)

نَََهَلوا مِنْ  معينِ شعرٍ أصيلٍ **وأتَوْا بالبديع،ِ وهو جـديـدُ

وإذا شـذ َّعـنهمُ ذو شذوذٍ**فهو، في الشعر، عاجزٌ وحسودُ

بعضهمْ شاءَ أن يكونَ أديبا**فأتانا منهمْ "أُوديـبُ" العنيدُ (11)

قتلَ الوالدَ الحنونَ وأضحَى** زوجَ أمٍّ، والأمُّ دومًا وَلــودُ

وأتانا بـ"أنتِغونَ" سِفاحًا**ولَدَى الخطب تقشعِـرُّ الجلودُ

سَمَلَ المقلتين مَحْوٌا لِجُرْمٍ**ودَّ فيه لـو بالحياة يجـودُ

ليتهمْ كفَّروا عن الذنب فورًا**مثل "أوديبَ"، وهو طاغٍ كَنودُ

* * *

قُلْ لمن شاءَ محْوَ إرثٍ أصيلٍ،**ذا "عمودُ الشعرِ" العريقِ عتيـدُ

كدِعامٍ لخيمةِ الشعرِ منـه،** في عيون المقصِّرين، عَمودُ

قد أتيتمْ بكلِّ قولٍ هجيـنٍ،** بئـس هذا اللقيـطُ والمولودُ

* * *

يا إمامَ القريض قد قلتَ شعـرًا**مثلما قال "عنترٌ وعَبيـدُ (12)

هو دُرٌّ يَزينُ صدرَ عـروسٍ*وهو دوما، في جيدها، منْضودُ

أنت "للقيروانِ" عالَـمُ شعـرٍ**لك فيها تـرِفُّ دومًا بُنـودُ

أنت خلَّدْها بما قلتَ فيها**وعليها، مما نظمتَ، عُـقودُ

أنت، إذ نمتَ في ثراهـا، حسامٌ**مُرهَفٌ، في قِِـرابه، مغمودُ

سوفَ تستلُّكَ الليالي وتجلو** سيفَ شعرٍ لم يكتنفهُ "الصديدُ"(13)

فانشروا شعــرَهُ كرايةِ نصرٍ**تحتها، باسمه، تسيرُ الجنـودُ!

وأراهـم، من حوله في حماهمْ**ليـس فيهـم إلا المحبُّ المُريدُ

* * *

أيها الراحلُ، الذي هو دومـا**في ذُرَى الشعر طائرٌ غِرِّيـدُ، !

لم تُسافرْ ولم تُغادرْ قلوبًا**لك فيـها مـدى الحيـاة الخلودُ

وإذا كنتُ لم أر "المتنبّي"**فـرفيـقي، في عصرنا، مزهودُ"

يا إمامَ القريضِ حيًّا وميْتا**هاكَ شعرا قد صاغه "صَمُّـودُ "!

***

نور الدين صمود

 

......................

* رسالة خاصة إلى رئيسة بيت الشعر بالقيروان الشاعرة جميلة الماجري التي نرجو أن تسعى جاهدة لنشر وتوزيع ديوان عميد شعراء القيروان محمد مزهود بمساندة جميع بيوت الشعر العربي مشرقا ومغربا من الخليج إلى المحيط:

* تعليقات:  أهدى الشاعر إلى صديقه محمد مزهود نسخة من كتابه "تبسيط العروض" إثر صدوره سنة 1969 ثم أهداه نسخة من كتابه الثاني "العروض المختصر" فقرّظهما بقصيدة نُشرت في صيف سنة1972 بعنوان (من مزهود إلى صمود) وقد أُلقيت هذه القصيدة يوم 2/1/2004 بالقيروان في أربعينية محمد مزهود القيرواني الذي يعتز بنسبته إلى مسقط رأسه. وقد كتبت القصيدة على النمط الذي يحبه الشاعر الراحل .

1) المتنبئ: هو أحمد ابن الحسين الجُعْـفي الكوفي الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس وقد اشتهر بصلته بسيف الدولة الحمداني الذي خلد أعماله في شعره.

2) البحتري: هو أبو عبادة الوليد ابن عُبيد الطائي، شاعر عباسي عرف برقة الشعر، ولَبيد ابن ربيعة العامري شاعر مخضرم من أصحاب المعلقات السبع.

2) إشارة إلى قول المتنبي عن نفسه:

أنا في أمة، تداركها الله، * غريب كصالحٍ في ثـمودِ

4) قلبٌ مقصودٌ من باب السخرية لمعنى بيت امرئ القيس الشهير من معلقته:

مِكَرّ مِفَرّ مقبل مدبر معا *

كجلمود صخر حطه السيل من علِ

5) يمكن إبدال كلمة "قزم"  بكلمة "رِمز" وهي عامية تونسية بمعنى بليد، للجناس من باب السخرية .

6) المزلاج ما يُستعمل لغلق الأبواب، والوصيد : من معانيها العتبة.

7) مستوحَى من قول الشاعر الأندلسي الفكِـه: الغـَزَال في شيخوختـه:

قالت: أُحبّكَ، قلتُ: كاذبةٌ غُرِّي بذا مَنْ ليس ينتـقدُ

سِيّانِ قولكِ ذا وقولكِ: إنّ  الرّيحَ نَعْقِدُها فـتـنقدُ

أو أن تقولي: النّارُ باردة ٌ أو أن تقولي الثلجُ يتّقِدُ

8) النَّغْل: حيوان متولِّد من الحِصان والأتان: (أنثَى الحمار) وهو ضد البغل المتولد من الحمار والفرس، والمعنى هنا: الهجين 9) زَرُود: اسم نـهر شهير يمر بالقيروان.

10) المُجَلـّي: السابق من الخيل، أو الأول.

11) "أوديب" أو أوديبوس: ابن الملك " لايوس" والملكة "جوكاستا "  في أساطير اليونان، بطل (تيـبة) أو (طيبة) المدينة المصرية القديمة التي لها أسماء أخرى منها " مدينةأمون" و "المدينة الحديثة الجنوبية "، خلّصها من وحش يدعى "أبا الهول" وقتل أباه ولما خلا العرش نصّبوه ملكا فتزوج ألملكة دون أن يعلم أنـها أمه، وقد ولدت له ولدين وبنتين، من أشهرهم" أنتيغون" التي رافقته في أحلك أيامه، وناضلت من أجل دفن أحد أخويها الذي قتله خاله"كريون" ومنع دفنه، ولما عرف أوديب حقيقته، فيما بعد، فقأَ عينيه، وانتحرت الملكة وظل هو هائما على وجهه، وقد كفِّر أوديب عن خطيئته التي أنزلتْ اللعنة بأهل طيبة وبأبنائه، ثم مات في "كولونوس "أو كولونيا، مغمورا، وقد ألّف "سوفوكليس" حول هذه الأسطورة، ثلاث مسرحيات: "أوديب ملكا" و"أنتيغونا" و" أوديب في كولونوس"كما ألف كثير من الأدباء الأجانب والعرب مسرحيات مستوحاة من هذه الأسطورة.

وقد شاعت بين بعض الشعراء الشباب نظرية فاسدة دعوها بـ( قتل الأب) ويقصدون بـها التنكر للشعراء الذين سبقوهم لكي لا يُغطُّوا عليهم، ودعوها خطأ بعقدة أوديب الذي قتل والده، غافلين عن أن ذلك قد كان، في الأسطورة، دون علم منه، وأنه قد كفَّر عن إثمه تكفيرا رهيبا وأنه أتى بأبناء ملعونين مشؤومين فليتهم أخذوا العبرة من هذه الأسطورة. والملاحظ أن عقدة أوديب يقصد بـها غير هذا المعنى في علم النفس.

12) عنترة ابن شداد العبسي من أصحاب المعلقات السبع، وعَبيد بن الأبرص من أصحاب المعلقات العشر

13) الصديد في الفصحى: القَـيـْح المختلط بالدم، وفي العامية التونسية هو الصّدأ وهو مادة تجمع في لونـها الحمرة والشقرة تبدو على الحديد بسبب رطوبة الهواء. وهما صحيحان في هذا السياق.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم