صحيفة المثقف

الحوار مع الفكر الغربيّ في تراث السيد محمد حسين فضل الله

باسم الحسناويأفضل ما يمتاز به أسلوب السيِّد محمَّد حسين فضل الله في الحوار مع الثقافات الأخرى المغايرة للإسلام هو هذا الإنفتاح اللامحدود على بيان المرتكزات والأسس النظرية التي تعتمد عليها المدارس الفكرية والفلسفية المضادَّة للإسلام، ناهيك عن الإنفتاح الكبير على بيان كلِّ ذلك في إطار الحوار مع المذاهب الإسلامية المجاورة للمذهب الإماميِّ الشيعيّ، حتى أنَّ القارئ قد يتخيَّل في بعض المواقف أنه يشاء أن يتنازل عن ثوابت المذهب في مقابل تبنِّيه لوجهة النظر المغايرة، حتى إذا ما صبر معه قليلاً، ومضى في القراءة حتى النهاية اتَّضح له أنَّ السيِّد فضل الله لم يتنازل عما تخيَّل أنه في طور التنازل عنه، ولكنه شاء فقط أن يكون أميناً في عرض الأفكار والأسس التي تستند عليها تلك الأطروحات والمذاهب في إطار المناقشة لا غير.

إنَّ البلاء الكبير الذي مُنيت به العقلية الدينية مع الأسف هو ظنُّها بأنَّ الإنتصار للدين لا يمكن أن يحصل إلا عن طريق اتخاذ الموقف السلبيِّ من أية فكرةٍ موجودةٍ في البناء النظريِّ للمذاهب الدينية والمدارس الفلسفية التي تختلف قليلاً أو كثيراً مع الإسلام ككلّ، أو مع المذهب الإماميِّ الشيعيّ بوجهٍ خاصّ.

 ربما كان لبعض المواقف الفقهية السابقة يدٌ في ترسيخ مثل هذا المبدأ في ذهنية الجماهير، فلقد ساد عبر التأريخ الموقف الفقهيّ المتشدِّد من كتب الضلال وحفظها فضلاً عن مدارستها ومطالعتها ونشرها وتوزيعها، وربما كان جمعٌ منهم على حقٍّ في توجيه المسائل الفقهية المتعلِّقة بهذا المورد، ولكنَّ المشكلة أنَّ الموقف الذي ساد فعلاً في الوعي الجمعيِّ المتشرعيّ هو الموقف الرافض لكتب الضلال، وتبعاً لها كلّ الحيثيات والتفاصيل الأخرى المتعلِّقة بها، ولهذا فإننا لا ننكر أنَّ هناك بعض المواقف النيِّرة التي تميِّز بين حالٍ وحالٍ بشأن هذه الكتب، مثل موقف المحقِّق السبزواريّ الذي قال"الظاهر أنه لو كان الغرض الإطلاع على المذاهب والآراء ليكون على بصيرةٍ في تميُّز الصحيح من الفاسد، أو يكون الغرض منه الإعانة على التحقيق، وغير ذلك من الأغراض الصحيحة لم يكن عليه بأسٌ"[كفاية الأحكام،المحقق السبزواري، ص88].

إذن، الغاية من التشريع الخاصِّ بتحريم كتب الضلال هو حماية المجتمع من العقائد المنحرفة، ومن أن يقع ضحية الآراء الضالَّة المنحرفة عن العقيدة الحقَّة، فيجب أن يكون الحكم دائراً مدار هذه الغاية، وتأسيساً على ذلك، فإنَّ إحراق الكتب أو إتلافها أو منعها من التداول، وما إلى ذلك من الشؤون والتصرُّفات، ليس من شأنه -في هذا الزمان خصوصاً- أن يؤدِّي إلى حصول هذه الغاية، بل لا بدَّ أن تحصل النتيجة المعاكسة بالتأكيد.

إنَّ صيانة المجتمع الإسلاميّ من المضامين الإلحادية واللاأخلاقية المخالفة للروح القرآنية إنما تكون بتوفير الحصانة الفكرية ما أمكن في الفضاء الإسلاميّ العامّ، ولن يكون المنع المباشر للكتب الإلحادية أو الضالَّة أو المبتدعة من التداول اليوم حلاً صحيحاً للمشكلة، فلقد تعولمت الثقافات والحضارات، وامتدَّت بينها جسور التواصل عبر وسائل الإتصال الحديثة وثورة المعلومات، فما قيمة كتابٍ ورقيٍّ تمنعه من التداول إذا كان موجوداً في مواقع الأنترنت مع مختلف الدراسات عنه، وبإمكان أيِّ شخصٍ أن يحمِّله وأن يضعه على سطح المكتب في الكومبيوتر خلال خمس دقائق، وما هي الفائدة المتوخّاة من منع الحوارات وفتح الملفّات المحرَّمة في النقاشات إن كان بإمكان أيِّ أحدٍ أن يخوضه مع أيِّ شخصٍ آخر في الماسنجر والواتساب..إلخ، فلعمري تلك تصرُّفاتٌ تدلُّ على ضعف تبصُّرنا بالأمور وما يجري من حولنا في عالم اليوم، ولا تدلُّ على أننا حريصون فعلاً على ثقافة الإسلام من التشويه، فإنَّ هناك سبلاً ووسائل لتحقيق هذه الغاية تأخذ في نظر الإعتبار كلَّ ذلك، وتضع الخطط والبرامج التي تحصِّن الفرد المسلم والمجتمع الإسلاميَّ على هذا الأساس.

 هدفنا هو أن نقول إنَّ موقفنا كمسلمين من ثقافة الحداثة الغربية يجب أن يكون متوازناً ونابعاً من ثقتنا بقدرة ثقافتنا الإسلامية على توفير الإجابات الشافية على مجمل الأسئلة التي تثيرها للتشكيك في الإسلام، هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى فإنَّ الحوار بين الثقافات والحضارات بات ضرورةً لازمةً أشبه ما تكون بالضرورات البايلوجية التي يعمل طبقاً لها الكيان الحيّ، فمهما أردت أن تنكر وجود هذه الضرورة البيلوجية، فإنَّ الجسم الحيَّ لن يتخلّى عن العمل طبقاً لها في كلِّ الحالات، وإلا فقد الحياة من الأساس، وكذلك يقال في مسألة العلاقة الحوارية بين الإسلام وسائر الثقافات والحضارات، فإنه لم يعد من المجدي أن يتقوقع المسلم في ثقافته ويقول هذا هو الحقُّ الذي يقبل النقاش والجدال في حوزتي، ولتذهب كلُّ الأفكار المغايرة إلى الجحيم.

فبالإضافة إلى أنَّ هذا الأسلوب لم يكن أسلوب القرآن في يومٍ ما، فإنَّ هناك عدَّة ضروراتٍ حضاريةٍ فرضت علينا أن نطلَّ على هذه الحقيقة ببصيرةٍ أشدَّ ورؤيةٍ أعمق، وبناءً على هذا فإنَّ السيِّد محمَّد حسين فضل الله محقٌّ إذ يقول: "إنَّ هذا الإنسان –يقصد الإنسان المسلم- ليس محبوساً في قمقمٍ سحريٍّ أو في غرفةٍ موصدة الأبواب والنوافذ ليبقى على مفاهيمه وتطلعاته ونظراته إلى الكون ليفكر فيها بهدوءٍ أو يجترُّها في تثاؤبٍ وكسلٍ، بل هو منطلقٌ مع سرعة الحياة وحركتها مع كلِّ الرياح التي تهبُّ في كلِّ يومٍ، والعواصف التي تعصف بالأشياء التي تحيط بفكره وبحياته، والزلازل التي تهزُّ الكون من حوله وتتحدّى أعماقه ومشاعره في هزَّةٍ فكريةٍ جديدةٍ، وفي هذا الجوِّ تولد نفسه في كلِّ يومٍ ولادةً جديدةً بفكرةٍ جديدةٍ وتطلُّعاتٍ مثيرةٍ تبعاً للمؤثرات التي تندفع إلى الداخل بكلِّ عزمٍ وقوَّةٍ، وقد تهتزُّ قناعاته الإسلامية بخفَّةٍ وحذرٍ، وقد يفلسف تلك القناعات بفلسفةٍ تبقي عليها في إطارها الفكريّ، ولكنها تدخلها في أجواء شعوريةٍ تبتعد بها عن أجوائها الأصلية"[خطواتٌ على طريق الإسلام، السيد محمد حسين فضل الله، ص296].

الحقيقة أنَّ هذا الإحساس بالمشكل الحضاريِّ الذي يواجه الإسلام رافق السيِّد فضل الله منذ بداية حياته الفكرية، حتى أنه انخرط مع السيِّد محمَّد باقر الصدر في تحرير مجلَّة الأضواء تحت وطأة هذا الشعور، وهو مشكلٌ واقعيٌّ لم يلتفت إليه المجتهدون الآخرون إلا التفاتاً بسيطاً في فتراتٍ متأخِّرةٍ نسبياً مع شديد الأسف.

لا يعيش الإنسان المسلم في منطقةٍ خارج الفضاء الكونيِّ العامّ، كما إنَّ الإسلام يدعو إلى الإنفتاح على عوالم السؤال، وعندما يقرِّر الإسلام أن يجيب فإنه يجيب من موقع القدرة لا من موقع الضعف والإنسحاب من ميادين الحوار.

بيد أنَّ ما يتلقّاه المسلم في الرسائل العملية من الفتاوى له قيمته طبعاً، ولكنَّ هذه القيمة لا يمكن لها أن توجد إلا في مرحلةٍ لاحقةٍ، أي بعد أن يخرج الإسلام من ميادين المواجهة الفكرية منتصراً وظافراً، وليس قبل ذلك في كلِّ الأحوال.

الآن نحن نواجه مشكلةً واقعيةً على صعيد النخب المثقَّفة في العالم الإسلاميّ، بيد أنَّ المجتهدين إلى الآن يعتبرونها مشكلةً بسيطةً وهيِّنةً لا تستحقُّ الكثير من الإهتمام، فإنَّ هذه النخب تشعر بأنها في مواجهة الحداثة الغربية، وأنها لا بدَّ لها من أن تختار موقفاً من اثنين لا ثالث لهما:

1- إما أن تحمل فكر الإسلام وتتمسَّك به على قاعدة التسليم المطلق، وليس على قاعدة الحوار والنقاش، ومقارنة ثقافة الإسلام بثقافة الحداثة، فالتعبُّد بالإسلام وحده يكفي لأن يتمسَّك هؤلاء المثقَّفون بالإسلام أسوةً بكلِّ الأجيال الإسلامية الماضية، ولا حاجة إلى طريقةٍ جديدةٍ في التحقُّق من تفوُّق ثقافة الإسلام في هذا المضمار.

2- أو أن تتخلّى عن الإسلام وتعتبره إنجازاً تأريخياً رائعاً في أفضل التقديرات، أي إنَّ الزمن قد تجاوزه إلى فضاءٍ معرفيٍّ وثقافيٍّ أرحب، وهو الفضاء الحداثيّ، أما الإسلام فيمكن إعادة تأويله أو قراءته بما ينسجم مع الحداثة، أي إنَّ الحاكمية النهائية تكون للفكر الحداثيِّ على الإسلام وليس العكس، وفي اعتقادي إنَّ مثل هذا الصنيع لا يختلف عن قضية التخلِّي عن الإسلام نهائياً مع اختلاف الاستراتيجية المتبَّعة من أجل الوصول إلى هذه النتيجة.

هذا ما يجعل مسألة الإنخراط في صنع الخطاب الإسلاميِّ الحداثيِّ ضرورةً لازمةً، وليس عملاً كمالياً كما يتصوَّر بعض الفقهاء، وهو ما استطاع السيِّد فضل الله التوفيق بينه وبين متطلبات عمل الفقيه، على الرغم من الصعوبات الكثيرة التي أثارها الفقهاء في وجهه.

هناك ملاحظةٌ جديرةٌ بالإهتمام في هذا المقام، وهو أنَّ الخطاب الحداثيَّ الإسلاميَّ لا يمكن أن يقوم به الفقهاء وحدهم، لكنَّ عليهم أن يفتحوا الباب واسعاً أمام وجود نخبٍ مثقَّفةٍ من بين الإسلاميين ليقوموا بهذه المهمَّة، ويكون ذلك عن طريقين:

الأوَّل: أن يقوم الفقهاء الفلاسفة بالتصدِّي لتأليف الكتب التي تضع الأسس الرئيسية في هذا المجال، كما فعل الشيخ مطهَّري والسيِّد محمَّد باقر الصدر والسيِّد محمَّد الصدر والسيِّد محمَّد حسين فضل الله.

الثاني: أن تقدَّم الرعاية التامَّة للمفكِّرين الدينيين بحيث يكونون قادرين على دفع المشروع الفكريِّ الحداثيِّ الإسلاميِّ إلى الأمام بسرعةٍ، وذلك بأن تتكفَّل الحوزة أمر طباعة كتبهم، وتنظيم بعثاتٍ لهم إلى الخارج، وما إلى ذلك من الأمور.

المهمّ، فإنَّ السبيل الوحيد لأن يثبت الإسلام جدارته في عالم اليوم هو أن يخوض الحوار الثقافيَّ والمعرفيَّ العميق مع الفلسفات والثقافات الحديثة، وليس من الصحيح الإعتماد على قداسة الإسلام في نظر معتنقيه، فحتى هؤلاء يحتاجون إلى الثقة بقوَّة الفكر الذي يمثِّله الإسلام، ولن تتوفَّر هذه الثقة إلا بأن ندرس المنهجيات الحديثة ونطَّلع على كتب الحداثة ونستوعبها جيداً، ثمَّ نقوم بغربلتها على قاعدة المحاكمات المنطقية، مع الإستعداد التامِّ لمراجعة الفكر الإسلاميِّ أيضاً وتخليصه مما علق به من شوائب خلال حقب التأريخ الماضية، ليس هذا فحسب، بل علينا أن نقوم بتجديد منظوماتنا الفكرية والفلسفية بحيث تستجيب للواقع النظريِّ والفلسفيِّ المعاصر، وأن تقدّم الحلول البديلة لتلك المناطق التي يتمُّ نقدها وطرحها من حداثة اليوم، هذا هو السبيل الوحيد لأن نكون مساهمين في صناعة الحداثة العالمية، مع ضرورة الإشارة إلى أنَّ من لم يفلح في أن يكون مساهماً في صناعة حداثة العالم اليوم فليس أمامه من سبيلٍ الا التبعية أو الانزواء.

حتى المسلم المعاصر، فإنه لا يمكن الثقة بأنه سوف يبقى صامداً أمام موجات التفكير الحداثيّ، خاصَّةً في خطوطه المنحرفة، ما لم يحصل على ثقافةٍ رصينةٍ تساعده على مواجهة هذا الفكر ببصيرة الناقد، فأنا أعرف أناساً من بينهم بعض طلاب الحوزة لا يصمدون أمام قراءة كتابٍ حداثيٍّ واحدٍ، فيعتنقون آراءه كلَّها، وهي تخالف توجُّهات العقيدة وثوابتها، لأنهم يشعرون بأنَّ الفكر الإسلاميَّ عاجزٌ عن توفير منظوماتٍ فكريةٍ تواجه المنظومة الفكرية الغربية، ومع علمي بأنَّ هناك كتباً ومؤلَّفاتٍ هامَّةً في هذا المجال، إلا أنها لم تبلغ بعد مرحلة التأصيل الحقيقيّ للفكر الإسلاميِّ الحداثيّ، نظراً للملاحظتين الآتيتين:

الملاحظة الأولى: إنَّ المرحلة التي تمَّ إبداع نظريةٍ حديثةٍ للمعرفة على يد مطهَّري والسيِّد محمَّد باقر الصدر لم تعد مشابهةً للمرحلة التي نعيش ضمن اشتراطاتها، فلقد ولدت موجات الفكر التفكيكيّ وغيرها من الموجات الفكرية في فضاء فلسفة ما بعد الحداثة، ونحن بحاجةٍ إلى منظوماتٍ فكريةٍ وفلسفيةٍ تؤصِّل للفكر الإسلاميّ في هذا الفضاء بالذات.

الملاحظة الثانية: إنَّ المؤلَّفات التي تحاول أن تنحو هذا المنحى ليست أصيلةً بما يكفي لأن تزعزع الأسس الخاطئة للمفردات الحداثية التي تتقاطع مع الإسلام، لأنها لا تفارق المنهجيات التقليدية في الكثير من المواطن، فلا ينفع على سبيل المثال أن يستشهد المؤلِّف بين الفينة والأخرى بالآية القرآنية أو بالحديث الشريف، كما لا ينفع ترديد الحجج التقليدية ذاتها، فإنَّ ذلك من شأنه أن يجعل من هذه الكتب مؤلَّفاتٍ نمطيةً، سرعان ما تفقد قيمتها في نظر القارئ الحديث.

أعتقد أنَّ الكارثة الكبيرة التي أُصيبت بها ثقافتنا الإسلامية المعاصرة هي الإستسلام المطلق للأحكام المسبقة والجاهزة عن الثقافة الغربية وعن الفكر الآخر بصورةٍ شاملةٍ، حتى لقد انعدم وجود الحدود المائزة بين المفكِّر وغير المفكِّر في هذا المجال.

نحن نصغي يومياً إلى عشرات الحوارات حول الفكر المختلف، سواءٌ كان في الدائرة الإسلامية ذاتها، أو في الدائرة التي تحكم عملية الصراع والحوار بين الإسلام والفكر الغربيّ، فلا نسمع إلا صراخاً لا يغني عملية الحوار ذاتها بقدر ما يشير إلى وجود أزمةٍ من ذلك النوع الذي لا يمكن القضاء عليه إلا بأن يصمت المرء طويلاً قبل أن يتَّخذ مجدَّداً قرار استئنافه عملية الصراع والحوار.

إنَّ الصمت ضرورةٌ لا يجب أن يتنازل المرء عن أداء اشتراطاتها لكي يكمل جاهزيته للحديث في الموضوعات المعرفية الخطيرة من قبيل العلاقة بين الإسلام والحداثة من جهة، أو الأسس التي تتشكَّل منها نظرية المعرفة في الإسلام، وتلك التي تتشكَّل منها نظريات المعرفة المختلفة في الفكر الغربيّ، حيث تقف خلف وجود ما نراه من التمظهرات النظرية والعملية المختلفة عن الإسلام من جهةٍ ثانية.

لكنَّ ما نراه أمام عيوننا هو أنَّ كلَّ من هبَّ ودبَّ يسمح لنفسه أن يطلق الأحكام السطحية والجاهزة في أيِّ موضوعٍ من هذه الموضوعات الخطيرة، ثمَّ يعتبر نفسه صاحب الحقِّ الأوحد في أن يطلق الحكم الفصل في أية مسألةٍ من المسائل العالقة، من دون أن يحسَّ أنَّ هناك حاجةً لأن يخوض الفكر الإسلاميّ حواراً فلسفياً أو نظرياً على أعلى المستويات مع الفكر الغربيّ من قبل أن يطلق حكماً بسيطاً واحداً من تلك الأحكام.

أستثني طبعاً تلك الظروف التي تقتضي في بعض الأحيان أن ينخرط المثقَّفون عموماً في حالة التعبئة ضدَّ الإحتلال العسكريِّ للبلدان الإسلامية وما شابهها من الظروف والحالات، فلربما كان من حقِّ الجميع أن يعتمد على تلك الأحكام الجاهزة من أجل إنجاز حالةٍ تعبويةٍ رائجةٍ تنجح في التصدِّي لمشاريع الإحتلال.

لكنَّ المشكلة ليست ها هنا، بل المشكلة في تصدِّي أنصاف المثقَّفين للأخذ بزمام الحديث عن تلك الشؤون اعتماداً على منطق التعبئة نفسه، ثمَّ يطالبنا بعد ذلك، ويطالب الآخرين المختلفين عنا، بأن يحاكموا ثقافة الإسلام وفلسفته كلَّها التي يواجه بها الفلسفة الغربية وأسسها النظرية العميقة على ذلك الأساس.

فلنسأل أنفسنا رجاءً، كم تبلغ نسبة الكتب التي تؤصِّل للوعي الإسلاميِّ على غرار ما فعل مفكِّرو الإسلام من أضراب مطهَّري والسيِّد محمَّد باقر الصدر أو العلامة الطباطبائيّ بالقياس إلى ما نراه في المكتبات من المؤلَّفات التي هي إما أنها تردِّد حجج هؤلاء وبراهينهم في صيغٍ فجَّةٍ بعد بعثرتها من سياقها الفلسفيِّ العامّ، وإما أنها تلجأ إلى أساليب لا قيمة لها في الميزان المعرفيِّ في سبيل التنديد بالفلسفة الغربية ومدارسها واتجاهاتها.

يذكر السيِّد فضل الله واحداً من هذه الأساليب إذ يقول: "قد تمثَّل هذا الإبعاد الموجَّه عن هذه الحضارة بعدَّة أساليب، كان من أبرزها التركيز على أسلوب الإحصائيات العالمية في عدد جرائم الجنس وحوادث الإدمان وطبيعة العلاقات التي تربط الجنسين، الرجل والمرأة، ومدى الحرية التي أصبحت تطبع تلك العلاقات، سواءٌ في الأوساط الجامعية، أو في غيرها من أوساط الشباب التي وصلت الحرية الجنسية فيها إلى الحدِّ الذي يجعل منها قضيةً شخصيةً لا تهمُّ غير أصحاب العلاقة، إذا لم تحدث أثراً عكسياً في المجال الإجتماعيِّ العامّ.. وهكذا أصبحت ترى الصحف والمجلات الإسلامية مملوءةً بمثل هذه الإحصائيات التي تنطق بفظاعة النتائج المترتِّبة على مواكبة هذه الحضارة والإعتماد عليها باعتبار هذه النتائج شاهداً حياً على الإنهيار والإنحلال"[خطواتٌ على طريق الإسلام، ص293].

هذا واحدٌ من الأساليب، حيث يمكن تجريده عن الخصوصية ليشمل كلَّ الأساليب الأخرى التي لا تجنح نحو التحليل والتفكيك وهي تتناول منظومات الفكر الغربيّ بالدراسة، ولا يعترض السيِّد فضل الله على هذا الأسلوب عندما يكون الخطاب موجَّهاً للشرائح الإيميانية في المجتمع المسلم، لكنَّ مثل هذا الأسلوب لا يبدو مجدياً على الإطلاق عندما يكون الخطاب موجَّهاً إلى الغرب نفسه، إو إلى النخب الثقافية التي تأثرت بفلسفة الغرب على أسسٍ معرفيةٍ عميقة، حتى بدت تلك التمظهرات اللاأخلاقية تمثل مستوىً حضارياً راقياً في نظرهم، وليس شيئاً يبعث على التقزُّز والإشمئزاز.

يقول السيِّد فضل الله: "قد يجدي هذا الأسلوب في تركيز الحاجز النفسيِّ الذي يحجز المسلم عن الإندفاع اللاواعي مع مظاهر هذه الحضارة ونتائجها بما يثيره في أعماق هذا الإنسان من الشعور بالخطر الداهم على ما يؤمن به من القيم والمفاهيم ....ولكن هل يجدي في المجتمعات المنطلقة مع المفاهيم الحديثة للحياة والأخلاق والإنسان، وهل يمكن أن يثير في نفوس أهلها مما يثيره في نفوس المجتمعات المحافظة؟"[خطواتٌ على طريق الإسلام،ص293].

لا يفهم هؤلاء الناقدون للحضارة بناءً على هذا الأسلوب أنَّ الإنسان الغربيَّ عندما يرتكب تلك الموبقات لا يرتكبها وهو ناظرٌ إليها بوصفها رذائل خلقيةً تجلب العار على مرتكبيها، بل هي تصرُّفٌ طبيعيٌّ لا يعني في نظره أكثر من أنه يمارس حقاً من حقوقه الطبيعية، وبالتالي ليس لمثل هذه الدراسات من أثرٍ فعليٍّ في تحصيل النتائج المتوخّاة منها، بل إنَّ الإنسان الغربيَّ ليضحك من صميم قلبه وهو يقرأ مثل هذه الدراسات لو قيِّض له أن يطَّلع على واحدةٍ منها عن طريق الصدفة، "لأنَّ هذه المظاهر التي تدور الإحصائيات في نطاقها لم تكن نتيجة مغامراتٍ شخصيةٍ أو انحرافاتٍ ذاتيةٍ مجنونة، بل كانت نتيجة فلسفةٍ معيَّنةٍ تحاول أن تفلسف الإنحراف على أنه ثورةٌ، وتفسِّر التمرُّد على القيم والمفاهيم الروحية بأنه حركةٌ في حياة المجتمع، وتعتبر الإنسان وحده مصدر القيم دون اعتبارٍ لأيِّ شيءٍ يتجاوزه أو يخرج عنه، وقد اتخذت الأخلاق في ضوء هذا معنىً جديداً يتَّسع لكلِّ ما تتَّسع له الحرية الفردية في نطاق النظام الإجتماعيِّ العامّ في العالم، فليست هناك مفاهيم مفروضةٌ أو قيمٌ مسلَّمةٌ لننطلق منها في الحكم على الواقع ببديهيات الوجدان ومسلَّمات النظرة، بل كلُّ ما عندنا في هذا المجال هو المفاهيم الحديثة المنطلقة من فلسفة التمرُّد مهما كانت النتائج أو المفاهيم الروحية القلقة التي أصبحت غائمةً حتى في أفكار بعض القائمين عليها الذين يعيشون الإرتباك والقلق والحيرة بين النظرية والتطبيق"[خطواتٌ على طريق الإسلام، ص294].

هؤلاء يتخيَّلون أنَّ العالم قد تمَّت صياغته طبقاً لنظرتهم مرَّةً واحدةً وإلى الأبد، وهم بالطبع واهمون، إلا أنَّ الغريب أنهم لا يلتفتون إلى هذا الوهم مع مرور كلِّ هذا الزمان الطويل، ومع وجود مئات بل آلاف الدراسات التي تشير إلى أننا نحتاج إلى أساليب جديدةٍ نخوض من خلالها مقاومتنا الثقافية للثقافة الغربية، ولن تكون هذه المقاومة الثقافية ناجحةً إلا باتباع خطواتٍ، منها:

1- دراسة الفكر الغربيّ في جذوره الأولى، أي من عهد اليونان إلى الآن، لمعرفة البنى العميقة التي تتحكَّم في إنتاج المنظومات الحديثة للفكر الغربيّ.

2- دراسة المفاهيم الفلسفية العميقة التي تمَّ إنتاجها في فضاء الفكر الغربيّ، مثل مفهوم حقوق الإنسان ومفهوم الليبرالية ومفهوم الديمقراطية ومفهوم البراغماتية وإلخ من المفاهيم التي تشكِّل النقاط البارزة في الفلسفة الغربية الحديثة.

3- متابعة الإصدارات الفلسفية والفكرية التي تصدر هناك في الفضاء الغربيّ، ليس متابعتها فقط، فهذا أمرٌ سهلٌ وميسورٌ، لكنَّ المهمَّ مناقشتها بعد المتابعة، على أن يتولّى ذلك الكتاب الفلاسفة لا أنصاف الكتاب الذين يغرقون في شبر ماءٍ كما يقال، فإنَّ واحدةً من دعائم المشكلة هي هذه، وهي أننا نتخيَّل أنَّ كلَّ من اقتنى كتباً وصار يقرأ مقدِّماتها وملخَّصاتها الصغيرة في نهاياتها قادرٌ على أن يؤدِّي هذه المهمَّة مع شديد الأسف.

4- أن نقوم بدراسة الإسلام دراسةً عميقةً من الداخل، وأن نركِّز على دراسة التفاسير القرآنية الناجحة مثل تفسير السيِّد الطباطبائيّ، لكي نكون قادرين على توفير الإمتداد المناسب لهذا الفكر بتقديم الأطروحات الجديدة، لكنَّ تقديم الجديد انطلاقاً من نقطة الفراغ محالٌ بالطبع، فلا يمكن للفكر الإسلاميّ أن ينمو إلا باستغلال هذا التراكم المعرفيِّ الطويل وليس بالقطيعة التامَّة مع الفكر الإسلاميِّ السابق كما يتخيَّل الكتاب الحداثيون عادةً.

 

د. باسم الحسناوي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم