صحيفة المثقف

"سلطة الكذب أم كذب السلطة" أي تكاذب مسلّط هذا؟

محمد بنيعيش1) حينما تتحول الفضيلة إلى رذيلة والغاية إلى وسيلة والعامل إلى عميلة والباسل إلى بصطيلة فتلكم هي المشكلة التي ليست لها تعديلة. وأستسمح عن هذا السجع الثقيل والممل لأنه نابع من فرط تأثير الأكاذيب وسيطرة الوهم والتأويل. فقد أصبحت الفرامل غير مكبوحة والحناجر غير مبحوحة والأوجه شبه مكلوحة وما لها مندوحة. . .

هناك مشكلة تاريخية وفلسفية حيرت المفكرين في حل لغزها وأصبحت مضرب المثل في جلد الذات والآخر وذلك من خلال الكلية الكاذبة محورها:"كل الكريتيين كذابون".

ومجمل القصة أن أحد الكريتيين (سكان جزيرة كريت) راح يشيع مقولة عن مواطني جزيرته مؤداها:"أن كل الكريتيين كاذبون". وهذه المقولة توقعنا كما يذهب الكثير، إن التزمنا بقانون الثالث المرفوع، في مأزق لا نحسد عليه:

-فهو إن كان كاذبا فإن قوله هذا يكون صادقا (له ما لهم لأنه منهم)

- أما إن كان صادقا فإن قوله هذا يكون كاذبا (له ما ليس لهم مع أنه منهم، وهذا تميز له عنهم). . .

وهكذا يمتزج الصدق بالكذب ويلتحم الخطأ والصواب ويصبح التمييز والفصل بينهما أمرا غير ممكن. وهكذا تصبح مقولة الكريتي صادقة وكاذبة، صائبة وخاطئة في نفس الوقت، وتصبح إعادة النظر في قانون الثالث المرفوع أمرا واجب التنفيذ. على حد تعبير بعض الباحثين.

لكن في نظرنا أن عند هذا الحكم والتعميم بكلية الكذب قد أغفل جانب موازي له في باب المنطق، وهو ما يعرف بالكلية الناقصة المبنية على الاستقراء الناقص والتي مثلوا لها ب:"كل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ" لكنه بعد اكتشاف التمساح تبين أنه يحرك فكه الأعلى عند هذه العملية"ومن ثم فإن الكلية لا يمكن اعتبارها كاذبة وإنما هي ناقصة . ونقصها ناتج عن عدم استيعاب كل الظاهرة واستقرائها كاملة، فيكون الاستثناء خارجا عن هذا الشمول. ويكون حينئذ أن الرأيين صحيحان سواء عند المضغ بالفك الأعلى أو المضغ بالفك الأسفل وبهذا يحل الإشكال. وعلى هذا فقد يكون الكريتي الذي حكم على غيره صادقا بالرغم من أنه منهم لأنه لم يدخل نفسه في عدهم، ولربما يكون قد تميز عنهم بأخلاق وصفات جعلته يخرج عن هذه الدائرة المزيفة ويراها من خارج أو من أفق غير الذي عليه قومه. أو لربما يكون قد حدث له ما جرى لجُحا لما كان بصدد عد الحمير، فمرة يراها عشرة حينما يكون مترجلا، ومرة يراها تسعة حينما يكون راكبا إحداها، وما أكثر الراكبين على الشعوب والدول الصغيرة أيضا !والذين يخطئون العد والإحصاء أو يكذبون فيه، فتضيع بذلك الحقوق والواجبات ويلغى الآخر حتى لا يحسب له وجود أو حضور !!!.

2) وقد نجد في الإسلام مقاربة لهذا الموضوع بوجه أو آخر وذلك من خلال قول النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:" إذا قالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهو أهْلَكُهُمْ". ويفسر بأن:" مَعناها: أَكثَرُهم هَلاكًا، وهوَ الرَّجلُ يُولعُ بعيبِ النَّاسِ، ويَذهبُ بنَفسِه عُجبًا، ويَرى له فَضلًا عَليهِم. ورِوايةُ الَفتْحِ مَعناها: هوَ جَعَلَهم هالِكينَ لا أَنَّهم هَلَكوا في الحَقيقةِ".

والمعنى من خلال الحديث والتفسير أنه يحيل الكذب على القائل لا على المقول فيه. أي أن الكريتي هو الكاذب ابتداء، لأنه يسقط حاله على غيره ويعمم الأمر إذا لم يكن متميز عنهم بمزية حقيقية وفضل مستحق فوق مستواهم .

ومن هنا فإنه قد تطرح قضية مهمة جدا في باب دعوة الرسل والأنبياء حينما يصدعون بدعوتهم ويصفون قومهم بالضالين والفاسدين والظالمين وما إلى ذلك وينادونهم ب"ياقوم" مع أن أولئك الرسل من نفس أولئك القوم ولكنهم لا يندرجون ضمن الصفات التي وصفوهم بها، وبهذا فيكون الرسول أو الولي أو المصلح الديني المستبصر على دراية شاملة بقومه حتى يحكم عليهم بما يناسبهم، ومن ثم تنتفي عن هؤلاء المصلحين صفة الكذب وما يتبعها من مظالم هم بعيدون عنها كل البعد بالرغم من مجاورتهم لقومهم ما دام هناك أمل في التغيير :" حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُنجي مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ". وهنا وقع التمييز حقا وصدقا وواقعا حتميا.

وهذا المشهد هو الذي من خلاله يمكن تحديد مفهوم سلطة الكذب، التي إن هي عمت أدت إلى كذب السلطة ضرورة، لأن السلطة القائمة حينئذ تكون مبنية على المرعن الأخلاقي والنفسي، حيث إذا عم الحرام -كما يقول بعض الفقهاء - جاز التعامل به. فتصبح عملة الكذب مما يجوز تصريفه في الأمور الحياتية العامة والسياسية خاصة، وذلك على نهج الميكيافلية التي تسخر الشعوب بشكل مزركش ومتناغم مع الكذب والإلهاء، وبالتالي تعميم هذه الخصلة حتى تصبح مُودَة أو طرازا نمطيا للمجتمع يعمل على تزييف كل شيء . فحتى العمل الديني الروحي، الذي من المفروض أن يكون هو مركز الصدق ومرجعيته الأصيلة، سيصبح رياء ومظاهر ومساومات ومركبة لتحقيق الأهداف والأجندات كما يصطلح عليه سياسيا.

والأكثر غرابة في هذا الأمر هو أن استعمال سلطة الكذب عند السلطة، أية سلطة عبر العالم الواقعي أو الافتراضي، قد تنقلب صفتها عليها نفسها فتصبح هي بدورها فريستها، وستكذب فتصدق كذبها، وهو ما نراه في البرلمانات عبر العالم وعند العرب خصوصا يستوي فيه الحزب المعارض كما الحزب الحاكم بنفس اللهجة ونفس التهمة ونفس النهمة، تماما كما يحكى عن أشعث الطماع لما اجتمع عليه الصبيان وحاصروه بصياحهم وهتافاتهم، ولكي يخرج من مأزقه هذا قال لهم :اذهبوا إلى تلك الدار الكبيرة عند مفترق الطرق فهناك يوزع الجوز مجانا، وكان غرضه تفريقهم وصرفهم عنه بهذه الكذبة، فما أن سمع الصبيان توزيع الجوز بالمجان حتى هرعوا مسرعين نحوها. وبعد هنيهة تساءل أشعث الطماع مع نفسه بحكم جشعه وطمعه المفرط قائلا:لم لا يكون فعلا هناك جوز وربما لوز وكرز يوزع حقيقة ؟فلحقهم أسرع من البرق عسى أن ينال حظه من كذبته التي أوهم بها نفسه !!!

3) وهكذا تحكمت سلطة الكذب في البداية فنالت من الصبيان المستغفلين ما نالت ثم انتقلت عدواها ووباءها إلى كذب السلطة ومصدرها البالغ والمسؤول، أي سلطة العقل المدبر للإجراء السليم واتخاذ القرار المناسب للمصلحة ومقتضيات الواقع فأصبح هو بدوره في دائرة التوهم، ومصيدة في شبكته العنكبوتية تحاصره بخيطها الواهن مع ترك الفضاء الموهم بالحرية من خلال تلك المنافذ الصغيرة، التي إن مر بها الرأس اصطدم بها الجدع أو اشتبك وتوحل.

ولنا فيما جرى ويجري في العالم العربي خصوصا عبرة من سلطة الكذب وكذب السلطة، وكيف أن شعوبا دمرت بلدانها بنفسها وبمعولها ومعول غيرها تحت سلطة الكذب لكي تؤسس لكذب السلطة، فانظروا إلى ليبيا مثلا وقسوا حالها في زمن المرحوم العقيد معمر القذافي، بالرغم من إيجابياته وسلبياته المتناغمة والطريفة، مع ما كانت عليه قبل من استقرار ونعيم ورخاء تروا العجب العجاب، وتروا الأشاعث الطماعين الآن يلهثون ويتقاتلون على بترولها وخيراتها نهارا جهارا وبغير حياء ولا خباء، بعدما كانت ليبيا مصونة عن العبث والعابثين شعبا وثروة وثورة . وانظروا إلى العراق وما ذهب من عز أهلها وما دمر من منشآتها ومقدراتها العلمية والعسكرية والتنموية بعدما كانت بلد الشموخ برئيسها ورجالها ونسائها النشامات كما كان يصفهم الشهيد صدام حسين رحمه الله تعالى، وانظروا إلى سوريا وقسوا حالها الجميل والمتكامل من قبل على ما آلت إليه من دمار وعار شنار بعد الثورة المشؤومة والمدعمة بأكاذيب الإعلام وأكاذيب المفتين والفتانين والمحرضين والطامعين والشامتين من غربيين، وأمهم الكاذبة أمريكا وربيبتها الصهيونية، وخليجيين متخمين، وكاذبين على أنفسهم أو هي كذبت عليهم، لا يستحقون أن تذكر أسماؤهم هنا. فضاعت سوريا وجوعت وحوصرت وما اليمن السعيد من قبل أيضا منكم ببعيد، وضاعت أو ضاقت آمال فلسطين والفلسطينيين المستضعفين والصامدين، بل ضاعت أو كادت أن تضيع القدس الشريفة بفعل رعونة الكذب والتكاذب وسلطة ترسيخ الأكاذيب حيث الصفقات والفقاعات والنكبات !.

وقس على هذا من حال المغرب العربي الذي لم يعد له وجود سوى على المخيلة والخريطة المهلهلة والمتداخلة، بعدما اختلقت لتفكيكه، ولتحقيق أطماع توسعية واهية بواسطة دولة جارة شقيقة تعاني الشقيقة، قضية الشعب الصحراوي المزعوم من أجل إقامة دويلة وهمية ودمية ملعوب بها، ثم قطع أوصاله عن وطنه الأم ودولته العريقة المملكة العلوية المغربية . مع أن هؤلاء الصحراويين في الجنوب بمقوماتهم العرقية واللغوية والعرفية قد كانوا بالأمس القريب ومازالوا تربطهم أواصر البيعة والولاء واللغة والدين والتاريخ والجغرافية التي لا يماري فيها إلا كاذب أو طامع، وهي أشهر من نار على علم، ومع ذلك استنزفت فيها الأموال والدماء بغير مبرر ولا طائل بسبب الأكاذيب المفتعلة وبإصرار صبياني متهور من طرف جار السوء ومطامعه المفضوحة والموبوءة والمستهجنة أسوأ من أطماع أشعث الطماع. مع أنه كان من المفروض أن يكون التعاون هو سيد الموقف بين الجارتين حيث التكامل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والتاريخي، وحيث رسوخ روابط الأخوة الأسرية والمصير المشترك للمنطقة وتكوين أكبر سوق اقتصادية وقوة عسكرية وتنمية حضرية وثقافية لا يضاهيها أي تجمع أو تكتل عبر العالم ككل. . . بل حتى بعض الصحراويين وخاصة من الجيل الجديد قد لُعب بهم وأثخنوا كذبا وأُلّبوا ضد وطنهم وبني جلدتهم فصاروا يناصرون وهم الانفصال عبر القنوات المشبوهة والمغرضة ويعقون أصلهم ويساقون إلى مقصلة الاستغلال والتحريض سوقا وهم لا يدرون أين مصلحتهم من مضرتهم سوى أنهم: قيل لهم ويقال عنهم، ووعدوهم وواعدوهم وأوعدوهم وأطمعوهم، ومن هنا كان وصفهم بالمغرر بهم أولى !.

ونحن في زمننا، ككل شبيه بكلية الكريتي، قد أصبحنا على هذا المنوال من الأكاذيب والانسياق لها أو أسوأ، نكاد نقول هلك الناس وما هم بهالكين، ونكاد نعمم حكم الكريتي إن كان صادقا على أهل جزيرته، وذلك نظرا لسلطة الكذب التي عمت المثقف والأمي والفقير والغني والحاكم والمحكوم والبائع والمشتري، وعمت البرلمانات والتصريحات الحكومية الموالية منها والمعارضة، وعمت القنوات والإعلام ومنابر التواصل الاجتماعي بأنواعه إلا ما رحم الله، فافتقدنا تلك الفضيلة الذهبية والعملة الناصعة السامية القائمة على صدق المبادئ والثبات عليها. والغريب بل العجيب في الأمر أن سلطة الكذب قد طالت كبار الباحثين والمفكرين والمحللين الموضوعيين بالرغم من حرصهم على النزاهة وطلب شرف الحقيقة، ومع ذلك فهم يستدرجون ويجرون جرا إلى التسليم بالكذب سواء على المستوى السياسي أو الطبي أو المذهبي بل حتى على مستوى الشعبذة والسحر والخرافة وما إلى ذلك، ولم لا؟ فالكذب إذا التبس بالصدق ولو مرة واحدة فسيميل بالطبع إلى صفة إبليس اللعين الذي قد يصدق مرة ويكذب ألف مرة، وتلك سلطته على الكاذبين والطامعين . . . فمرة نكذب في السياسة ومرة نكذب في التجارة ومرة نكذب في العلم والفتوى، ومرة نكذب في الشهادة والقانون، ومرة نكذب في الطب و الأوبئة والأمراض والعلاج، ومرة نكذب في الفقر والغنى، ، بل نكذب في الموت والحياة، ومرة نكذب في الكذب نفسه، أي أصبحنا كذابين أكثر من الكذب نفسه، فهل من مخرج لنا معشر البشر من هذا المأزق حتى يستقيم المنطق السليم لدينا وتعود للعقل سلطته وللدولة هيبتها وللمجتمع التحامه وللعلماء مصداقيتهم ؟نرجو ذلك في زمن ما. . .

 

الدكتور محمد بنيعيش

شعبة الدراسات الإسلامية

كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم