صحيفة المثقف

نهر النيل كالكعبة المشرفة.. له رب يحميه!! (1)

محمود محمد عليعندما بدأت مفاوضات سد النهضة، قررت الدولة المصرية بقيادة الرئيس عبد الفتاح السياسي أن تفتح صفحة جديدة بيضاء مع إثيوبيا، وذلك بعد أن تعهدت إثيوبيا على لسان رؤساء وزرائها، بأنها لن تسمح بوقوع أي ضرر بالوضع المائي لمصر الشقيقة، لأنّ الهدف من السد، هو توفير الكهرباء لمواطني إثيوبيا، وليس الإضرار بمصر وشعبها. وقد صدّقهم جزء كبير من الشعب المصري بعد أن تم الاتفاق في 2015 مع إثيوبيا على إعادة دراساتها لسد النهضة، وتحديد كيفية تجنب تأثيراته السلبية على تدفقات نهر النيل لمصر.

وبالفعل انخرطت الدول الثلاث: مصر، وإثيوبيا، والسودان فى مفاوضات لإعادة الدراسات الإثيوبية لسد النهضة، بهدف التوصل إلى سياسات متفق عليها لملء السد وتشغيله، ولكن للأسف حتى منتصف 2019، لم تنجح المفاوضات المستمرة طوال هذه السنوات إلى بدء أى من الدراسات المطلوبة أو التوافق حول سياسات ملء وتشغيل السد؛ وفى نفس الوقت استمرت إثيوبيا فى إنشاءات السد وقاربت من انتهائه لفرض أمر واقع غير قابل للتفاوض.

فاضطرت مصر إلى الإعلان عن فشل المفاوضات، والمطالبة بتدخل وسيط دولى للوصول إلى تفاهمات مقبولة من الأطراف الثلاثة، وذلك تبعاً لإعلان المبادئ الموقع من الدول الثلاث؛ وبعد محاولات من الصد والرد، تم الاتفاق في منتصف يناير 2020م على أن تراقب الولايات المتحدة الأمريكية جولة جديدة من المفاوضات تهدف إلى التوصل إلى اتفاق حول سياسات ملء وتشغيل السد تحت الظروف الهيدرولوجية المختلفة لتدفقات النهر.

لكن يبدو أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، ففي خلال الأسابيع الماضية أصدرت وزارة الخارجية المصرية بياناً مهماً جداً عن تعثر مفاوضات سد النهضة مع الجانب الإثيوبى بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبى.

وهنا اضطرت الدولة المصرية إلي أن تتقدم بشكوي رسمية لمجلس الأمن تشكو التعنت الإثيوبي ، حيث وجه وزير الخارجية سامح شكري خطابًا إلى المندوب الفرنسي الدائم لدى "مجلس الأمن" بصفته الرئيس الحالي للمجلس بشأن أزمة "سد النهضة" الإثيوبي، وكان نص الخطاب: “سعادة المندوب الدائم، أكتب إليكم مرة أخرى اتصالاً بـ"سد النهضة" الإثيوبي، وهو أمر جلل ذو تداعيات ضخمة على مصر كما أشرت في خطابي السابق المؤرخ الأول من مايو 2020، فضلاً عن طبيعته العاجلة في ظل مواصلة إثيوبيا إصرارها على بدء ملء السد بشكل أحادي الجانب خلال موسم الأمطار في شهر يوليو المُقبل بما يخالف التزاماتها القانونية الدولية، وهو ما تُدلل عليه تصريحات علنية بما في ذلك تصريحات السيد رئيس الوزراء الإثيوبي بتاريخ 8 يونيو 2020.. وبالنظر إلى خطورة الوضع، وفي ضوء التعنت المستمر لإثيوبيا، والذي قد يُشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين، أكتب إلى سعادتكم لأطلب من "مجلس الأمن" الدولي أن يتدخل في هذه المسألة على وجه السرعة.. وقد اختارت مصر إحالة هذه المسألة لـ"مجلس الأمن" الدولي بعد أن بحثت واستنفدت كل سبيل للتوصل إلى حل ودي لهذا الوضع عبر إبرام اتفاق بشأن "سد النهضة" الإثيوبي يحفظ ويعزز حقوق ومصالح الدول الثلاث المُشاطئة للنيل الأزرق.

وبالفعل اجتمع مجلس الأمن في مساء يوم الأثنين في الأسبوع الماضي ، وقد شهد هذا الاجتماع  جلسة عاصفة وأبلى فيها وزير الخارجية سامح شكرى بلاءً حسناً، وكان ملماً تماماً بملف القضية بكل تفاصيله ابتداء بالمخاطر التى ستلحق بمصر والسودان، وانتهاء بالموقف الإثيوبي الغريب الذى لا يضع فى حساباته حقوق ومصالح الأطراف الأخرى.

ربما كانت المرة الأولى التى تطرح فيها مصر والسودان، قضية سد النهضة أمام العالم بهذه الكثافة وهذا الانتشار، أن يعرف العالم لأول مرة ، حقيقة هذه الأزمة وحدود هذا الصراع، وكان ذلك انجازاً كبيراً يتحقق لأول مرة على المستوى العالمى.. على الجانب الآخر فإن الوزير سامح شكرى عرض القضية ببراعة ودقة فى كل التفاصيل ابتداء بموقف أثيوبيا فى كل مراحل التفاوض طوال عشر سنوات وانتهاء بكل الآثار السيئة المترتبة على إقامة هذا السد بالنسبة لمصر والسودان..

حاول العدد الأكبر من أعضاء مجلس الأمن إحالة القضية إلى الاتحاد الإفريقى لأنه اتخذ خطوات فى التفاوض بين الدول الثلاث، ولا شك أن إلقاء القضية عند الاتحاد الإفريقى قبل عرضها على مجلس الأمن خطوة خبيثة من إثيوبيا، فقد اتفق أعضاء مجلس الأمن تقريباً على ضرورة أن يستكمل الاتحاد الإفريقي إجراءاته؛ خاصة أنه كان على مستوى الرؤساء، وقرر إنشاء لجان فنية لدراسة الموقف، بحيث تقدم تقريرها خلال أسبوعين.. ربما وجد مجلس الأمن فى موقف الاتحاد الإفريقي فرصة لكسب بعض الوقت وأن يبقى الخلاف فى حدود البيت الإفريقي ولهذا كانت كلمات أعضاء المجلس بلا استثناء تشير إلى ما حدث فى الاتحاد الإفريقي وأن مجلس الأمن لابد أن يمنحه الفرصة لاستكمال المفاوضات من خلاله.

هناك ملاحظات حول مواقف الدول خاصة فى قضية تخزين المياه وقرار إثيوبيا بأن تبدأ ذلك دون الالتزام بتوقيع اتفاق مسبق يمنعها من ذلك.. هناك دول عارضت ذلك بصراحة ودول أخرى تجاهلت قضية التخزين تماماً، وربما طرح ذلك سؤالا ضرورياً حول قضية التخزين، وهل تفعلها إثيوبيا؟..

إذا كان مجلس الأمن قد منح مصر والسودان فرصة كبيرة لطرح قضية سد النهضة أمام الرأى العام العالمى وكشف حقيقة الموقف الإثيوبى فى قضية من أخطر قضايا الصراعات، وهى المياه، فلا شك أن الاجتماع ترك أثراً دوليا كبيراً، ولكن ينبغى ألا ننتظر الكثير بعد ذلك.. ما أكثر المواقف والقرارات الدولية التى اتخذها مجلس الأمن فى قضايا كثيرة، ولكنها بقيت حبراً على ورق وأكبر دليل على ذلك قرارات المجلس وتوصياته فيما يخص القضية الفلسطينية..

يبدو من الواضح أمامنا الآن أن إثيوبيا مازالت تماطل وتراوغ، ويبدو أنها تصر على موقفها، ولن تبالى بقرارات دولية أو افريقية.. لقد انتهت من بناء السد، وأصبح الآن حقيقة أمام العالم كله، وحين عرضت القضية على مجلس الأمن، لم تتراجع عن مواقفها السابقة التى اتخذتها، حين رفضت استكمال مفاوضات واشنطن تحت رعاية أمريكية مع البنك الدولي، ثم أكدت موقفها أمام مجلس الأمن فى وجود الدول الأعضاء الخمس، وكانت آخر شواهد سوء النية عند إثيوبيا، أن وزير الخارجية الإثيوبى لم يحضر الاجتماع، واكتفت إثيوبيا بمندوبها فى مجلس الأمن،  رغم حضور وزير خارجية مصر..

إن اجتماع مجلس الأمن،  كان انجازاً دعائيا كبيراً لمصر والسودان، ولكنه لا يتجاوز حدود الإعلام، فلم تغير إثيوبيا موقفها، ولم يحدث ما توقعناه من مجلس الأمن فى صورة قرار أو توصية، ومازلنا واقفين أمام سد أقيم، ومفاوضات لم تصل إلى شئ وتضارب، بل وتعارض كامل فى المواقف حول قضية تمس حياة الشعوب.. ينبغى ألا نبالغ فى نتائج اجتماع مجلس الأمن،  فلم يحسم شيئاً، ولم يتخذ قراراً، ولم يغير شيئاً فى التعنت والتحايل الإثيوبى، وربما سيكون ذلك سبباً فى أن يزداد الموقف الإثيوبى مراوغة ورفضاً وتشدداً.

كان من حسنات هذا الاجتماع أن موقف مصر والسودان، كان موقفاً واحداً فى كل المطالب والتفاصيل، ولا شك أن جبهة مصر والسودان الموحدة، قد أعطت للقضية أبعاداً أخرى، وهذا أيضاً إنجاز كبير. إن الجميع الآن بما فى ذلك مجلس الأمن سوف ينتظر ما تسفر عنه الأحداث والقرارات والنتائج في الاتحاد الإفريقي، وإن كان من الصعب أن يتنبأ أحد بذلك، خاصة أن مواقف الدول الإفريقية فى قضايا المياه لا تختلف كثيراً، ولن يكون غريباً أن تصدر من الاتحاد الإفريقي قرارات لا تتسم بالحسم والموضوعية، ولكن لا أحد يستطيع الآن أن يقرأ صورة المستقبل.

إن الرهان الآن بين إثيوبيا، ومصر، والسودان، من يسبق الآخر، فهل تتسرع إثيوبيا وتبدأ تشغيل السد وتخزين المياه أم تلجأ إلى قدر من الحكمة وتؤجل قرارها حتى يصدر الاتحاد الإفريقى قراراته؟.

إن إثيوبيا قد تعيد مسلسل التأجيل، والمراوغة، وتدخل بالمفاوضات فى سرداب جديد مظلم بدأته من عشر سنوات مضت.. لا أدرى هل يتوقف كل شئ الآن بعد أن انتهى اجتماع مجلس الأمن!،  وأحيلت القضية إلى الاتحاد الإفريقى!، وما الذى يضمن أن يحسم الاتحاد آخر فصول القضية!، هل تتوقف مصر والسودان عن كل شيء الآن أم أن هناك إجراءات يمكن أن تجعل إثيوبيا تعيد النظر فى تعنتها؟!..  حتى الآن لم تستخدم مصر والسودان وسائل ضغط على الجانب الإثيوبى.

مازالت الاستثمارات العربية خاصة فى الزراعة والثروة الحيوانية، تنتشر فى كل ربوع إثيوبيا، وهو جانب لم يتحدث فيه أحد ولا أحد يعلم هل سحبت دول الخليج شيئاً من استثماراتها؟! ، هناك مليارات من الدولارات للدول والأشخاص، ومن حق مصر والسودان، أن تطالب بسحب هذه الاستثمارات، لأنها ستقوم على مياه النيل التى يعيش عليها شعبان عربيان مصر والسودان.

فى الأسابيع الماضية بدأت إثيوبيا تتحرش بالجيش السودانى على الحدود، وقد ترى أن الصراع مع السودان يمكن أن يدخل بقضية سد النهضة إلى مواجهة أخرى بين إثيوبيا والسودان، وتتحول القضية من صراع على المياه إلى صراع على الأرض والحدود.

هناك من يرى أن وراء إثيوبيا أطرافاً تشجعها، منها تركيا، وقطر، وإن كان ذلك صحيحاً ، فإن مصر قادرة على قطع يد تركيا فى ليبيا والبحر المتوسط، ولابد أن تتخذ دول الخليج السعودية والإمارات والبحرين إجراءات حاسمة لقطع يد قطر ابتداء بتمويل الإرهاب وانتهاء بالقوى الأجنبية التى تهدد الخليج كله، وتقيم قواعدها فى الدوحة، ابتداء بتركيا، وأمريكا، وإيران، وإسرائيل.

إن الشيء المؤكد هو ضرورة البحث عن بدائل، تعيد إلى إثيوبيا توازنها، حتى لا تصل الأمور إلى مواجهات لا أحد يعرف مداها، أن لدى مصر والسودان أشياء كثيرة يمكن اللجوء إليها فى هذه المواجهة، هناك دول للجوار، ومصالح مشتركة، وعلاقات اقتصادية، وهذه جميعها يمكن أن تكون وسائل ضغط، حتى تدرك إثيوبيا، أنها لا تعيش وحدها، وأن النيل نهر للجميع.

فى اجتماع مجلس الأمن، وفى كلمات، ومواقف الدول، لم تكن المواقف على درجة كافية من الوضوح، خاصة فى الدول الثلاث الكبرى: أمريكا، والصين، وروسيا.. وهنا لا بد أن نمد جسوراً سريعة مع هذه الدول؛ خاصة أنها تستطيع أن تتخذ مواقف مؤثرة مع إثيوبيا، لأن منها من يمول السد، ومن يبيع السلاح، ومن يقدم خدمات اقتصادية وسياسية يعرفها الجميع.

لن يكون اجتماع مجلس الأمن رغم نجاحه إعلامياً أخر الجولات، هناك مواجهات أخرى، وأوراق غامضة، ربما تطرحها إثيوبيا فى أخر مفاجأتها، وهى أنها تريد بيع المياه، وهذه قضية أخرى.. إذن ما هي الخيارات المطروحة الآن؟.. هذا ما سوف نجيب عنه في المقال القادم..

 

د. محمود محمد علي

رئيس فسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

.........................

المراجع

1- محمد نصرالدين علام: تحول مفاوضات سد النهضة من تعهد إثيوبيا بعدم الإضرار بمصر إلى المساومة حول تخفيف الأضرار.

2- عماد الدين حسين في مقاله هل هو الموقف الإثيوبي الأخير بصحيفة الشروق.

3- مراوغة وتعنت وتشويه الحقائق.. مصر تشكو تعامل إثيوبيا مع أزمة "النهضة" لمجلس الأمن .. تقرير نشرته مصراوي المصرية بتاريخ .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم