صحيفة المثقف

العولمة إشكالية العصر الكبرى.. نظرة تحليلية (1)

المقدمة: بداية العقدين الماضيين وحتى الآن، تحدث الكثير عن العولمة، فبعضهم قام بتفصيلها حسب تخصصه فنظر اليها من زاوية واحدة وانتهى الى تضخيم هذا الجزء على حساب الاجزاء الاخرى التي لم ينظر من خلالها بعين فاحصة ليرى الاشياء من كل زواياها الحقيقية. والبعض الآخر تحدث عن العولمة ونظر اليها بمنظار لا يرى منها سوى الهيكل العام فخرجت أحكامه مسطحة شكلية تعتمد على وصف الظاهرة فقط دون ان ينحدرتفكيره الى جذورها وتشعباتها والمفاهيم الفلسفية وفرضياتها التي تنتمي اليها، او يقف عند حد طفحان هذه المفاهيم على سطح الاحداث، وخاصة بعد انهيار التوازن في القوة على المسرح السياسي الدولي، إخفاء انحرافاتها وتجاوزاتها تحت مظلة حقوق الانسان والديمقراطية والعدالة ونزع اسلحة الدمار الشامل.

وفي الوقت الذي اثارت فيه العولمة هواجس مقلقة وصلت حد اعتبارها تحدياً استراتيجياً في تقييمها والنظرة اليها من قبل الشعوب والدول والمؤسسات والساسة والباحثين، تبعاً لما وصفت به كوجه آخر للهيمنة الامريكية على العالم تحت زعامتها المنفردة، اخذت الاقلية تبحث عن حجج تبلور تصورها وتدعو عبرها الى ان الظرف والوعي التاريخي بفصوله يحتم على الجميع التعامل مع ظاهرة العولمة بواقعية سياسية تبتعد من خلالها عن رواسب القطبية الثنائية وتعتمد على مفاهيم معينة وآليات تعمل على اساس التجربة والحتمية التي تفرضها حقائق التحولات التي تجري في العالم .

ومن اجل دراسة العولمة بأبعادها المختلفة لا بد من معرفة مفهومها الاصطلاحي ومرجعيتها الفكرية والتاريخية واشكالياتها الفلسفية، فضلاً عن مقترباتها الثقافية والاقتصادية والاستراتيجية ايضا، ومن ثم دراسة ظروف ظهورها بوصفها فكرة وظاهرة، والكشف عن وسائلها والياتها.. وهذا يعني، البحث في مخاطرها على العالم بأجمعه، وكذلك البحث في كيفية مواجهة تحدياتها الراهنة والمستقبلية.

المفهوم الاصطلاحي للعولمة : تعني موضوعة العولمة كمصطلح وحدة العالم الحر ووحدة اقتصاد السوق المعبر عنها في ثورة المعلومات والفضاء الخارجي ومفهوم (القرية الكونية الصغيرة) التي عليها ان تستقبل رسالة الليبرالية البراغماتية الامريكية والسوبر امبريالية (1) كواقع لا مفر منه. وقد ينصرف معنى العولمة الى الاممية بمنطلقاتها المختلفة، وقد تعني النزعة الانسانية  ذات المعنى الحضاري التي حاولت الولايات المتحدة ان تبشر بها عبر اجهزتها الاعلامية والسياسية، لنشر نمط الحياة الامريكية التي ترغب امريكا في سيادته على العالم، لتأكد حضورها الكوني في الألفية الثالثة. (*)

فالعولمة من هذه الزاوية الاصطلاحية تعني (العصر الأمريكي)، بيد ان مثل هذا الفهم يدفع الى التعرض لـ(جوهر العولمة) الذي يدعو اليها المجتمع الامريكي الذي لا يتعدى عمره القرون الثلاثة، وهو قصير الجذور وهش التكوين وتعوزه منظومة القيم الحضارية وبالتالي الهوية القومية.

إن مفهوم الأممية ظهر كما هو معروف في النظريات والفلسفات ولدى الحركات ذات المنطق الديني والمنطق المادي إلخ .. فالموسوعة الكوسموبوليتية (*) تفسر الاممية بأنها نظرة رجعية تدعو الى نبذ المشاعر الوطنية والثقافة القومية والتراث القومي بأسم وحدة الجنس البشري. وتعكس هذه الأيديولوجية طموح الاستعمار في تحقيق السيادة على العالم تحت مزاعم إنشاء حكومة عالمية مما يتعارض مع الاستقلال الوطني والسيادة الوطنية. فالمكونات الفكرية للكوسموبوليتية، تكشف انها ضد الدولة البروليتارية- ضد الأممية(الطبقية) وضد الهوية (القومية). وعند التعرض لتحليل المعنى الاصطلاحي هذا وتطبيقه على مصطلحات الأممية، البروليتارية، والكوسموبوليتية يتضح ان كلا المفهومين يقف حاقداً منغلقاً مقيداً بقيود اللآسامية أو يفتقر للحس الطبقي.

في خضم الحرب الباردة استخدم المعسكر الشرقي الاممية البروليتارية، اي عولمة الطبقة العاملة، للرد على هذا المصطلح كفكرة، استخدم المعسكر الغربي  الكوسموبوليتية. فالمعسكر الشيوعي أعلن عولمة الطبقة، فيما مال المعسكر الرأسمالي الى عولمة الفرد لأهداف تخدم خطط الصراع بين المعسكرين والمدرستين الفكريتين اللتين تنطلقان مما جاء به الفكر الماركسي والفكر البراغماتي.

وبعد أفول المقابل (الاتحاد السوفياتي) عن ساحة الصراع، كما قال فوكوياما بـ(انتصار الليبرالية)، فأن مثل هذا المواطن الكوسموبوليتي اصبح واقعا معاشا تجاوزته ظروف التقدم العلمي – المعلوماتي الفضائي، فلم يعد ذلك المواطن العالمي كونياً متسلحاً بجميع اسلحة العلم والدمار، ويحلم بالسيادة على (الكرة الصغيرة- القرية الصغيرة)، التي تتوجب متطلبات الهيمنة التحكم بكل مدخلاتها ومخرجاتها وقناعات سكانها .

ومن ذلك يتضح ان هذا المصطلح قد تطور واتسع وامتد ليشمل المصالح في كل روافدها  وعناصرها المادية من وجهة نظر الفكر الامبريالي الذي تقوده الشركات متعددة الجنسيات والبنك وصندوق النقد الدوليان مدفوعة بمزاعم رفض الاعتراف بالحدود القومية والسياسية والثقافية التي اوجدتها ثورة المعلومات والاتصالات والقدرة على الاختراق والتأييد في صيغة معلومات اعلامية وافكار سياسية واقتصادية ليتشكل العالم بالتالي بعداً واحداً تتحكم به قبضة امبريالية صهيونية واحدة .. فهل ان مثل هذه العولمة يمكن ان تصل الى غاياتها في ضوء طبيعة الاشياء وحقائق الجغرافيا والتاريخ ؟

المقترب الفلسفي للعولمة (الإشكالية): إشكالية العولمة هي في حقيقتها اشكالية ميتافيزيقية ومادية تعين الازمة الانسانية في أزمة الحضارة الغربية مرتين، الأولى: في العصر الوسيط عند الصدمة بالحضارة الهلنستية( الصدام مع الافلاطونية والتوراتية). والثانية: في العصر الحديث عند الصدمة بالحضارة الجرمانية (الصدام مع الافلاطونية – التوراتية – الجرمانية) . لذلك سنضع اشكالية العولمة ونسعى الى تحليلها الى (ظاهرة العولمة وحقيقتها- إثارة الاشكالية مع المقترب الاوربي- الوجه العرضي للعولمة- المشكل الجوهري- التناقض في الموقف الاساسي وتعليل المواقف- طبيعة الظاهرة ومستوياتها- صياغة الاشكالية وتناقضاتها- واخيرا الوعي بالازمة). وقبل الشروع في تناول هذه المسائل بشكل مكثف حيث لا يتسع مثل هذا البحث للعوم في الاجابة تفصيلا على كل الاسئلة خشية  الخروج عن مسار البحث ومنهجيته القائمة على وصف الظاهرة وتحليلها بارجاعها الى عناصرها الاولية ومن ثم الإستنتاج عما تفصح عنها الاجابات التي يتم التوصل اليها، وينبغي التنبيه الى أمرين مهمين، الأول: هو ان هذه المحاولة ليست تاريخية، كما يبدو للوهلة الاولى، إنما القصد منها هو النظر في شرط فعل التاريخ فعلاً حراً وليس وصفاً إنشائياً مسطحاً. فمشكلات الماضي هي جوهر أزمات الحاضر وعوائق المستقبل، ورغم ذلك فأن فعل التاريخ يشترط ان لا يكون المستقبل أمراً حتمياً، وان معاني الاحداث الماضية أمر يتحدد في ضوء الخيارات التي هي درجة الوعي بما لم يحسم منها في محاولات التحقيق المتوالية للفعل المؤسسي من التاريخ . إنه مقوم تحديد السلم الوجودي بصورة عامة وتحديد منزلة الانسان على هذا السُلَمْ خاصة . أما الثاني : فهو ان هذه المحاولة لا تستهدف رد التاريخ الى بعدٍ واحد  كما تريده الاتجاهات الامبريالية والصهيونية بإلغاء الوعي بالخاص وإعمام الوعي بالعام، إنما السعي الى إدراك المحددات الوجودية الأسمى لهذا التاريخ من خلال أرقى درجات الوعي فيه، ومن زاوية لا بعداً مؤسسياً ترتد إليه الابعاد الاخرى، إنه السُلَمْ الوجودي الذي يؤشر منزلة الحضارة والتاريخ.

وينتج عن هذين التنبيهين، ان ما حصل في التاريخ من احداث ومعان لا ينبغي اعتبارها عدماً، إنما باتت هذه الاحداث ومعانيها جزءا لا يتجزأ من الوعي وهي تمثل تراكماً تاريخياً ضرورياً للتجربة والتجارب الانسانية الأخرى .

يتبع رجاء ...

د. جودت صالح

12/07/2020

..........................

الهوامش :

- ا. د. علي حسين الجابري/ مصير الحضارة العربية المعاصرة في المنظور الحيوي لفلسفة التاريخ- مجلة الحكمة سنة 1998.

- تعني الكوسموبوليتية (مواطن عالمي غير محلي وغير قومي)، تعكس كأيديولوجيا طموح الاستعمار في تحقيق السيادة على العالم، تحت دعاوى إنشاء حكومة عالمية . وللإقتراب اكثر من مكونات المصطلح (Cosmoplies) في قاموس المورد/90 أن هذا المصطلح يعني مدينة يتألف سكانها من عناصر اجتمعت من مختلف ارجاء العالم (كوسموليتاني)، تعني مواطن عالمي غير محلي وغير قومي، وهو المواطن المتحرر من الاحقاد القومية والمحلية وغيرها.!! ، ولنشدد على على كلمة الاحقاد القومية والمحلية وندقق في مكونات المجتمع المؤلف من عناصر اجتمعت من مختلف ارجاء العالم .!! بمعنى مدينة وثقافة  (City and Culture) لا لينصرف الى معنى هجين يفتقر الى الاصول الحضارية، بل الى معنى (مواطن العالم هو شخص يعتبر العالم كله وطناً له) . إذن هو بلا هوية قومية او اجتماعية او دينية، فهو مواطن العالم الـ(كوسموبوليتي).!!

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم