صحيفة المثقف

دولةُ المُتملِّق: في ذهنية الاحتيال (5)

سامي عبد العالقد لا يَحُوْل الوعي دون هيمنة الثقافة من جانب ممارسة الشائع والدفاع عنه حتى الرمق الأخير. لأنَّ المثقف ما لم يكن متمرداً بكلِّ حيوية سيأتي خطابه مهادناً للسلطة. والمهادنة قبُول يومي لإملاءات فوقية لا تتوقف، ولن ترضى السلطة بأقل من حيوانية الإنسان. وأكثر أنماط السلطة خطورة ليست ماديةً تمارس أدوارها بخشونةٍ، لكنها سارية ضمن تجاذب المعتقدات والقضايا التافهة وهوامش الحياة. والثقافة العربية – بغرائزها السياسية- تنتج القهر الوثير إلى حد الصمت. نظراً لغياب الإبداع والتسليم بالحاضر وتجريم المختلف وتحريم الفكر المناوئ. حتى إذا ما قبل الناس بالواقع، يستدرجهم إلى تواطئ وقبول لبدائله عن العالم.

أما نتيجة المهادنة، فأنْ يتوهم المثقف إيجاد قاعدة ضرورية لقناعات وأفعال ليست إلاَّ صناعة سياسيةً صرفاً. أي أنَّه يقدم الاوضاع السائدة بحسبانها المطلق، اليقين، الحقيقة. لكنه لم يسأل ولو مرة واحدة:  من انتج هذه الحقيقة، من أين أتت؟ من جعلها حقيقة؟ كيف تشكلت بما لا يُطاق تاريخياً؟ ما المسكوت عنه في تفاصيلها؟ ولماذا طفرت وتحورت إلى درجة الانحراف الأعمى كالسرطان؟

ابن خلدون ينزع فتيل كلَّ أسئلة حين يقول: "... فقد تبين أنَّ الجاه هو القدرة الحاملة للبشر على التصرف في من تحت أيديهم من أبناء جنسهم بالإذن والمنع والتسلط  بالقهر والغلبة ليحملهم على دفع مضارهم وجلب منافعهم في العدل بأحكام الشرائع والسياسة وعلى أغراضه فيما سوى ذلك. ولكن الأول مقصود في العناية الربانية بالذات والثاني داخل فيها بالعرض كسائر الشرور الداخلة في القضاء الإلهي. لأنه قد لا يتم  وجود الخير الكثير إلاَّ بوجود شر يسير من أجل المواد فلا يفوت الخير بذلك بل يقع على ما ينطوي عليه من الشر اليسير. وهذا معنى وقوع الظلم في الخليقة فتفهم..." (ابن خلدون، المقدمة، ص289).

كما سأحلل هنا بتوسع، يتم الإشارة إلى كون الجاه أكبر من مجرد سلطة عادية. فهو قدرة تفوق أية قدرة سواها، نظراً لارتباطه بعلاقة كونية ذات ظلال لاهوتية سياسية. والجاه بذلك ليس فكرةً ولا حقيقة ولا صورة، لكنه معنى مقدس آخر دوماً. يصعب ترويضه ولن يتسنى اصطياده بشص الأفراد على ما يمتلكون من مهارات، فلا مفر من الامتثال لسطوة الجماعة وأوامرها. ولعل ابن خلدون جعل القدرة التي تسكن أفاقه مجهولةً، شائعةً، طاغيةً، لا قبل لنا بها. لكي يعطي من يملكها إمكانية قصوى في تضخيم نفسه. فلئن كانت ذات أبعاد سياسة، فلتكن كذلك، ولئن كانت نظاماً اجتماعياً، فليكن هكذا... ولو جاءت اقتصادية، فلتتحول إلى هيمنةٍ وتحكم في رغبات الناس. المهم أنَّه – أي الجاه- قدرة بلا حدود ولا ضوابط إلاّ بالخير والشر وهما أيضاً بلا تعيُّن.

إنَّ حد الجاه (تلك القدرة الباذخة) يوازي نزع أية أسئلة. لِمَ الاستفهام أصلاً طالما أنه يظهر كرؤية يقف خلفها الفاعل؟! فلقد لجأ صاحب المقدمة إلى فعل" تبيَّن" كما ورد بالنص أعلاه. والتبيُّن والبيان والتبيين دوال لبلاغة التوضيح والإقرار دون شك. ولا سيما أن تلك الدوال هي أهم خيوط الخطاب ومشتقاته ورسائله في المعجم العربي. فكلُّ خطاب إذا كان ضرورياً وعند الدرجة الصفر للسلطة، يكون بياناً حاسماً. وأقرب الأمثلة أن البيانات تستخدم بلغة الحتم التي تعقب الأحداث الكبرى في حياة المجتمعات بعد الثورات والوقائع والتحولات  السياسية البارزة.

إذ ذاك ينتظر الناس بياناً من مصادر سلطوية لتأكيد أوامر أو اجراءات عملية. حيث لا محيص من الانتظار على قارعة الحياة اليومية، تلك التي تأتي المنتظرين بالقطعة. وبخلاف كل شيء، هناك أفق محدد سلفاً في كل بيان خطابي بهذا الوضع السياسي. لأنَّ السلطة لا تستطيع أن تعطيك كل شيء في وقت واحد.

فعل التبيين يطرح رأياً خلدونياً بما سيقول ويذهب إليه. فالجاه يحمل البشر، يدفع، يأمر، يقرر أنَّ ثمة أصحاباً له يستعملون ما دونهم من البشر. وهؤلاء الأخرون كمتلقين خاضعون لآثاره، في الغالب عليهم الاعتراف العملي بأنهم بطانة لطبقة أعلى يتحركون كما يتحرك الفوق ويذهبون أينما يذهب الأعلى. الأثر بالأثر والحافر بالحافر والنعل بالنعل... تلك هي الاتجاهات والمسافات والعلاقة المترتبة على أطراف لا حل لها من هذا التعامد الرأسي. إنَّ كلَّ سلطة هي "اقرار عمودي- رأسي) بما يجب فعله حيث تقرر كل شيء يحيط بالإنسان. لا شيء هناك في فضاء السلطة خارج التوجيه بفعل الأمر. ولأنَّها تكمن في المعاني المتولدة عن توجيهها، فالأفعال والرؤي تنبثق من ذات المصدر.

هكذا تلتزم عبارات ابن خلدون تلك المزاحمة المادية (الجسدية) في عملية التصرف لفئة معينة من البشر (أصحاب الجاه) تجاه الآخرين. فالمهم كما يبدو هذا التطاحن للاستيلاء على كيان الإنسان باسم الثقافة وسلطة الدولة. بكلمات أوضح يأتي المضمون التالي: أن اجسام الناس لا يجب التصرف فيها بحرية.. لأنها بالسياسة ليست ملكية خاصة لأصحابها. بل هي قوالب عامة لمعطى الحكم الذي يؤكد علاماته من خلالها. الأجسام - وهي منزوعة الملكية الشخصية - تتحرك بفنون الإدارة والهندسة السياسية لأفعال الدولة. وأي مظاهر خارج تلك العلامات لن تقابل إلا بمزيد من الهيمنة.

السلطة في بلاد العرب تحلم ليلاً ونهاراً في شيئية البشر، أن تحولهم إلى أشياء على رقعة شطرنج المجتمع. وتصبح السياسة تصريفاً لمواقعهم بما يخدم أهدافها. هل ثمة استقلالية للأفراد والأفكار؟ إن اساطير السلطة العتيدة هي تعميم التشيؤ على البشر والكائنات. لا فرق بين الإرادة البشرية وقوانين المادة وحركة عناصرها في فضاء تهيمن عليه دون مساءلة. ابن خلدون أحد المنظرين القلائل لسلطة الأشياء وترويج أساطيرها باسم الله قبل أية اسماء أخرى. لكن وحدها السلطة تعرف كل التفاصيل ومن ثم تحيطنا من جميع المنافذ والزوايا.

وبالتالي ليس أبعد من أن يسقط الأفراد في فخ هذا التصريف الممنوح مجاناً. هل هناك سلطة عربية ليست مجانية لنا ونحن مجانيون لها؟ إنها ظاهرة معطاة كهبة وغلبة وقهر إزاء المواطنين. وتلك ظاهرة أساسية في أوضاع الأزمات التي يعيشها العرب تاريخياً من جيل إلى آخر. من الذي قال إن هذه الدولة أو تلك ملكٌ عضوض للعائلة الفلانية تحكم باسمها كيفما تشاء؟ من الذي حدد طبيعة الحكم في تلك الدويلة العربية أو هذه بناء على الوراثة المطلقة للسلطة؟ هل كراسي العرش نزلت من السماء حصراً لآل فلان وآل علان بعناوين شتى دون سابق ودون لاحق إنذار حتى تحولت الجمهوريات إلى ممالك وإمارات كذلك؟

إن البيان الخلدوني يُنزل العروش فوق النعوش بالمعنى القهري. لأن حياة السلطة مقدمة على حياة الشعوب وقائمة عليها كالطفيليات التي تعيش على دماء سواها. فإذا كان ثمة حكم مطلق، فالرعية مجرد كائنات سائمة حيث لا حرية ولا إرادة. والتصريف وثني: المنع، التسلط، الغلبة، الإذن... وكأن ابناء جنس أصحاب الجاه مقذوفون في عالم الضرورة بلا أي أمل في التحرر. هذه ثقافة الحشود والرضا بالواقع كما هو، وتحديد الوجود فيما هو ضروري من قبل سلطة عليا.

ولا يفوتنا أن السياسة هي فن إدارة الضروري من الحياة لزيادة القدرة على استعمال المهمل والتافه والعشوائي. أخطر ما يتجنبه الحاكم العربي هو الجماهير، كأفراد، كإرادات حرة  وكجماعات متمردة. عليه أن يفكر مرات تلو المرات فيما ينتظر سلطته من الأفراد الأحرار حتى ولو كانوا مجرد آراء على سطور ممحوة هنا أو هناك. إنه يستيقظ فجراً لا ليطالع الزمن، بل ليفتش داخل الوجوه والعيون والأظافر والعواطف عن أي "لا". وقد وصل  حكام العرب بعد الربيع العربي إلى عدِّ الأنفاس على المواطنين... ماذا يلوكون، ماذا يقولون، في ماذا يفكرون، كيف ينظرون، هل يتحركون أم ينامون أم يستيقظون أم يتسرنمون؟ ورغم أن الحكام جاءوا على أسطح ثورات منها للريح والسماء، لكن حكام العرب يصرون يومياً على الالتحاف بالتسلط والقمع.

لا تكف السلطة لدى العرب عن إفهام رعاياها بأنها تفعل ما في صالحهم وخيرهم ليس أكثر. فالغلبة برأي ابن خلدون لدفع " مضارهم وجلب منافعهم في العدل بأحكام الشرائع والسياسة وعلى أعراضه  فيما سوى ذلك". ليس مبالغة أن التراث العربي والاسلامي يتلخص في تلك المقولة. فمن الذي يحمل البشر على منافعهم وتجنب مضارهم. إنَّه الإله الحاكم على أنفاس السلطة لدى مجتمعات العرب. وهنا المماثلة المفترضة التي يروج لها ابن خلدون حتى على سبيل فهم المسألة وتأويلها في شكل أفعال داخل حظيرة الدولة.

وهذا الطيف السياسي ليس اعتباطاً، لأن الفقهاء كم تعاركوا على حرية الإنسان وجبره. وفي هذا يأتي كلام بن خلدون ضمن الإطار السلفي الأشعري. أنَّ الأفعال مقررة ومحددة وعلى الإنسان كسبها لا حقاً وبإرادة إلهية أيضاً. والفكرة الجارية عبارة  عن نظرية في ماهية الدولة وآليات الحكم والهيمنة. فهل الضرر والنفع يحتاجان إلى دفع ومنع؟.... وإذا افترضنا أنهما كذلك، فالأبعاد الوثنية تجسد المعنى عبر هيئة سلطة شاخصة لدى كل إرادة حرة. لتحول دون تحررها ابتداءً، لأن الذي يدفع هذا أو ذلك إلى نفع أو نقيضه إنما يعرف ما هو الشيء المفيد وما هو الشيء الضار. إذن لا حرية سوى الامتثال لمن يعرف أو بالأحرى سيدعي ذلك. والسلطة في المجمعات العربية سبّاقة في تحديد ما يضر مواطنيها وما ينفعهم!!

إنها الرقابة اللصيقة إلى حد الهوس بتحجيم تفضيلات الناس ودفعها في اتجاهات معروفة وآمنة. السلطة تذهب مع رعاياها لتعود بهم موثوقي الأرجل والعقول والأذرع في إطارها. ولو كانت تمتلك الكون لجعلت مواطنيها إلكترونات ونيوترونات تدور بلا كلل في مداراتها. وتحكم حركتها بالصالح والطالح اللذين تحددهما. إن فيزياء السلطة تشكل تصورات الناس وهواجسهم ومشاعرهم وأجسامهم وأناملهم. حتى تقليم الأظافر يجب أن يكون بطريقة آمنة لا تخدش حياء السلطة ورجالها.

وتصبح المسألة انتقالاً من قيد إلى قيد حتى ينال العربي حقوقه. وتبدو الوضعية محيرة: كيف تلجأ السلطة إلى الغلبة لدفع المضار عن المواطنين؟ أليست وظيفتها بالأساس تحقيق رفاهية الشعوب وخيرها وأمنها ؟! ربما هذا الفهم لما ينبغي عمله والتلاعب به يعتبر من آثار الوثنية داخل السلطة. وبالمناسبة فإن مفاهيم الأخيرة وممارساتها ومهابتها هي أخر معاقل الأوثان في الذهنية العربية. لأن الدفع والجلب هما وجهان للسلطة في واجبها المجرد بصرف النظر عما يطلبه الإنسان ولا ما يسعى إليه. لأن توافر الزجر يعني أن عملها مؤقت ينتهي حيث تشاء ويمتد إلى ما تريد. وتلك مسألة متروكة لأهواء الحكام ونزواتهم وتفضيلاتهم إجمالاً. بحيث تجد مجتمعات تدعي أنها مجتمعات موحِدة وتصلي لإله الكون طوال اليوم والليلة لكنها بالسياسة تتعبد في محراب الاستبداد وتقدم القرابين لأوثانه.

هكذا فالقهر الخارجي داع لتجسيد السلطة في دافع مادي. وطالما أن سياقها مزري، فلن يكون أثره إلا َّعنفاً حتى لو ذكر ابن خلدون أن الدفع والجلب تحت مسميات العدالة.  كأن الافتراض هو ضرورة وجود قوة باطشة لإتيان العدل الذي يجب اتيانه بصرف النظر عن الأوضاع القائمة. وهذا تسطيح لفكرة العدالة التي هي أساس الملك في الثقافة العربية الإسلامية (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) كما توجد كشعار فوق منصات القضاء ودور المحاكم. بينما ابن خلدون يشترط وجود السلطة أولاً وبصرف النظر عن ماهيتها وكيف تمارس عملها. وكأنه يدعم الفكرة السارية إلى الآن داخل كواليس الأنظمة العربية: فكرة الحاكم المستبد المستنير (المستبد العادل). أي الذي يبطش برعيته ويحكم بالحديد والنار، ولكنه عند اللزوم يعطي بعض الحقوق لأصحابها وينصف المظلومين (ويتبنى مشروعاً ثقافياً ما).

ذلك برغم من أن سلطته في حد ذاتها هي الظلم نفسه!! فلم يدرك العقل العربي هذا التفكير الكلي خارج ما هو يومي. فليس ممكناً  أي عدل دون كلية الرؤية من الجذور. كما أن انعدام السلطة الظالمة (الانتقائية) من بدايتها أولى من بعض الحقوق اللاحقة. فالجانب المفترض في تأسيس المسألة على الكلي أكبر من بعض الاستثناءات الجزئية. ويضمن أعظم قدر من الحق لا الحقوق فقط. فالأول هو ما يدفع الناس باختلاف اشكالهم لبذل الحقوق والمناداة بها وممارستها دون انحياز.

إذن العدالة بمنطق الشرائع والسياسة هي لزوم مالا يلزم شريطة وجود القوة القاهرة عليه. والخطوة واضحة في سرقة المقدمات ووضعها تحت تصرف الحاكم بينما يكون التطبيق بعد ذلك فيما تؤول إليه الأحوال لمجرد ذر التراب في العيون. والمعالجة الخلدونية تظهر من قبيل الإجابة الخجولة حول: ما إذا كان الحاكم عادلاً أم لا؟ هل يستمر الظالم في حكمه أم غير جدير بذلك؟ وهي القضية الشهيرة في التراث الديني: هل يجوز الخروج على السلطان أم أن ذلك أمر غير مستحسن؟ أشار أهل السلف إلى عدم الخروج على الحاكم مهما يكن.

وهذا يفسر: لماذا كان السلفيون يدعمون أنظمة الاستبداد العربي؟ ولماذا يضعون تحت أقدامهم فتاوى البطش والتوريث للعائلات المالكة؟ فهم يعتبرون طاعة ولي الأمر واجب ديني. لأن خروجاً على الحاكم الظالم ربما يجر فتنة لا حدود لها. وقد يعصف بالمجتمعات ويدفع المسلمين إلى الاقتتال الأهلي. ابن خلدون يقف عند هذه النقطة المتأخرة من تحولات السلطة تجاه مواطنيها معتبراً أن مهامها ليست إقامة الحكم الرشيد، بل الاجراء الشكلي لتأدية العدالة كاستثناءٍ. مع اعتبار أنَّها أحد جوانب الحكم وليست جميعه. ولنلاحظ أن ابن خلدون يفرق بين الشرائع والسياسة على قاعدة أن الشرائع هي الخلفية الضرورية لإقامة الحكم، بينما السياسة هي التي توسع القاعدة وتغطي الثغرات والجوانب الأخرى.

وكأن ابن خلدون يستبق إلى اعتراض أي قارئ يقول: كيف يكون هناك استبداد أو ظلم في النظام السياسي؟ هنا يعتبر أن ذلك من قبيل الشرور العارضة. ليست القضية شيئاً أساسياً، إنما مصادفة. والشر في هذا الاطار كالشرور في دائرة القضاء الإلهي... فهو شر جزئي، نسبي مقارنة بالخير العميم. ثم يقيس ذلك بوجود الظلم في الخليقة، نظراً لأن العدل أكبر مساحة من ذلك الوضع الظالم.

لكن نسي ابن خلدون أنَّ الأنظمة السياسية- أو هكذا ينبغي- ليست قدريِّة ولا كونية حتى تتحكم في مساحة الشرور إجمالاً. وذلك لو حدث لكان قميناً بتدمير المجتمع. لأن الظلم لابد أنْ يقع على أفراد وجماعات... فما المطلوب منهم حتى يتسامحوا في أخص حقوقهم؟ كمن يريد لأحد الأشخاص أن يتنازل عن الحياة لأجل الحياة. هذا التصور لاهوتي صرف ويحتاج لا إلى أسباب السياسة ومنطقها المرتبطين بالمصلحة، إنما يحتاج إلى الإيمان. والسياسة ليست إيماناً ولن تكون في مستواها العملي والقابل للتعديل والتصحيح. لانعدام وجود الضامن الأخروي فيها، كما أنها ليست عقائد دنيوية إنما استراتيجيات وأساليب مرحلية. فإذا كانت النهايات في الدين بحجم الثواب والعقاب (أي الجنة والنار)، فالنهايات في السياسة بدايات جديدة. لا يوجد ما يسمى بالجنة الأرضية، هناك وجود لخطط وأبنية مفتوحة على التنوع والاختلاف نحو الأفضل من مرحلة إلى أخرى.

ونفس مقولة تطبيق الشريعة هي التي تحكم هذا المعنى، فابن خلدون يشرط السلطة بإقامة الشريعة حتى أنه يؤيدها شكلياً باسم السماء. وهي الدعوة التي رفعها الارهاب الديني المعاصر في ميادين القتال ومع التفجيرات التي تحصد أرواح المسلمين والمسيحيين والناس العاديين. وفي النهاية لن يكون المواطن في الدولة الخلدونية سوى فريسة للرعب، كأنه تحت الاقامة الجبرية منتظراً رحمات الحاكم. فإنْ كان عادلاً، فليكن وضع الناس أفضل، أما إن كان غير ذلك، فلن يكون الحال غير المآل. ولا يوجد لديه من الشرائع العملية ما يضمن معالجة المشكلة جذرياً، رغم ترسانة الفتاوى والنصوص الدينية الحاثة على إقامة العدل والرحمة. وعليه سيكون الوعي مجرد مضغ غسقي لما مارسته الأنظمة الحاكمة من أفعال وأفكار. وسيعد وعياً طفيلياً لن يكون إلاَّ امتثالاً لما يحدث في الواقع وهو كذلك بتعبئة السلطة التي تسلبه آفاقه وحريته وانفتاحه. حيث يسود نموذج الفقيه (أو المثقف) الذي يوظفه الحاكم للتمكن من رقاب المجتمع وقمع حريته.

 

سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم