صحيفة المثقف

مكانة الدين في الجمهورية (6): دين الحرية عند فيرولي

علي رسول الربيعيلم يلعب الدين أي دور مهم في منظور فيرولي الجمهوري السابق. ولاتأخذ جمهورية فيرولي[1]  الدين في نظر الأعتبار، وتقاطع فيرولي في كتابات أخرى مع ما يقوله بعض المفكرين الجمهوريين حول العلاقة بين الدين والجمهوريّة. لكن يعبر فيرولي، في عمله الأحدث، عن منظور يعتمد على أحد الفلاسفة الجمهوريين التقليديين الذين يعبرون في الغالب عن رؤية مفيدة حول الدين أقصد: نيكولو مكيافيلي. مهد تطوير فيرولي لنوع معين من الجمهورية الطريق لتركيزه على الدين كعنصر رئيس لإحياء التقليد الجمهوري. فبينما يشترك الجمهوريين مثل بيتيت مع راول  الذي  يلتزم بمركزية العقل العمومي في السياسة، يؤكد دفاع فيرولي عن الجمهورية على مركزية العواطف وحب الوطن والخطاب، يهتم فيرولي، كرد فعل على  ما يعاني العقل العمومي كما الليبرالية من  ضعف الولاء السياسي، على أهمية "حب الوطن" والفصل بين صيغة تعددية للوطنية باعتبارها خلاصة الفضيلة المدنية وبين التعصب والاستبعاد القومي.[2] ويصبح مكيافيلي طبقا لتفسير فيرولي له  ليس ذاك الذي يفكر وفق حسابات  العقل البارد  بطريقة آليًة  ويصبح  عنده خبيراً في السياسة الواقعية، وشخصية مدفوعة كثيراً بعاطفة حب الوطن (more della patria). لا تحتاج الوطنية والحرية إلى تجانس اجتماعي أو ثقافي أو ديني أو عرقي. إذا كان الوطن أقل من جمهورية بالمعنى الكلاسيكي ، فلا يمكن للمواطنين أن يكونوا فاضلين: لا يمكنهم أن يحبوا دولة تعاملهم ظلما (على الرغم من أنهم يفعلون ذلك في بعض الأحيان). إذا كان الوطن جمهورية جيدة خيرة ربما تصل الفضيلة المدنية إلى أقصى حد. ولكن قد، قد يتدهور المواطنين أيضًا إلى حب متعصب للوحدة، وليس حب المواطن السياسي. هذا يعني أنه لكي نرى النوع الصحيح من الوطنية ينمو، لا نحتاج إلى تعزيز التجانس والوحدة ولكننا نعمل على تعزيز ممارسة وثقافة المواطنة.[3]

يستمر التركيز على الدين كمركز للعواطف والخيال في عمل فيرولي حول الجمهورية الوطنية: فيمكن أن يكون حب الله وحب الحرية وحب الوطن متداعمين. يضيف فيرولي الدين إلى تفسيره السابق لـ مكيافيلي الذي يركز على حب الوطن.  فيجادل بأن لم يكن مكيافيلي ضد الدور العام للدين المسيحي أبدًا، حيث فسره على أنه دين الفضيلة العامة والمشاركة من أجل خير البلاد.[4] وحجته هي أن مكيافيلي لا يؤكد فقط أن الحرية الجمهورية تحتاج إلى دين يغرس ويدعم الإخلاص للصالح العام ولكن أيضًا أن الدين المسيحي ، إذا تم تفسيره بشكل صحيح ، مناسب لخدمة هذه المهمة المدنية. ليس الدين، طبقاً هذا التفسير، أداة مفيدة للمؤسسات السياسية القائمة فقط، ولكن  السعي إلى الدفاع عن الحرية السياسية جزء لا يتجزأ من الغايات الدينية في المقام الأول. وهكذا يلعب الدين دورًا تأسيسيًا من خلال التعريف الداخلي للروح الجمهورية: فدعا مكيافيلي إلى دين جوهري لروح الشعب، "من شأنه أن يترجم إلى شعور بالواجب المدني وحسن الروح الحقيقية: ليس أداة للمملكة، بل أداة للحرية. الدين، أذن ، كما هو وسيلة هو غاية.[5]

يجادل فيرولي بأن ورثة هوبز والتقليد الليبرالي قد قاموا بتهميش دور بلاغة الخطاب والفضيلة في السياسة  مما أدى الى تلاشي الشعور بالمواطنة وبقيم الجمهورية. يجب على الدين المدني المعاصر أن يبتعد عن المسيحية المذهبية ليُفسر مرة أخرى على أنه دين الحرية، المتميز عن تجسيداته المؤسسية المحددة أو التي حصلت في التاريخ. إن موضوع هذا الدين هو المواطن الجمهوري: فيعترف فيرولي بأهمية تجديد مفهوم بيتيت للحرية، بأعتبار أن عدم الهيمنة يعبر بشكل فعال عن السمة الأساسية للحرية كما تظهر في التقليد الجمهوري. لكن ضعف نهج بيتيت الجمهوري هو التركيز الحصري على مثال سلبي للحرية لا يفسر كيف يمكن أن يصبح عدم الهيمنة في الواقع عاملاً يقدم شكلًا إيجابيًا للمواطنين. إن فرض عدم الهيمنة ممكن في المجتمعات المعاصرة ، كما كان الحال في المجتمعات القديمة، فقط كثمرة للالتزام الفاضل للمواطنين بدلاً من كونه نتاجًا للتصميم المؤسسي والسياسات المستنيرة.  وليس الأخلاق المجردة للحقوق والواجبات كافية أيضًا. فيحتاج نوع التفاني العام والخطاب السياسي الذي يحرك القلوب والعقول بدلاً من ذلك إلى أن يكون مستوحى من البلاغة العامة وروح الشعب الحقيقية التي هي نموذج للأديان، بنفس الطريقة "كما لو كان الله موجودًا".[6]

تؤكد جمهورية فيرولي على (i) دور الفضيلة المدنية كشرط  بنيوي لتجنب انحطاط الديمقراطية إلى الشعبوية والديماغوجية. ويتطلب هذا حماية الحرية الجمهورية من المواطنين (ii) التزاماً أخلاقيأً شاملاً بالحرية يتجاوز الاحترام المتبادل، ليشمل بعدًا من اليقظة وضبط النفس والشهادة أشبه بأشكال التفاني الديني أكثر من مبادى الأخلاق العامة.

حتى إذا كان تشخيص فيرولي لقصور الخطاب السياسي المعاصر مقنعًا، فإن منهجه يعاني من مشاكل عملية ومعيارية. ثم إن التركيز على الفضيلة المدنية المتبعة كدين للحرية أمر شاق للغاية والاعتماد الشديد على رؤية مكيافيلي السياسية يسلط الضوء على بعدنا عن سياقه التاريخي أكثر مما يضيء سياقتنا. يعتبر تبني السمات الدينية والأخلاقية للمسيحية في القرن الخامس عشر والسادس عشر إشكالية معيارية لكل من المتدينين وغير المتدينين. يعترض المتدينون على استعمال المفاهيم والقيم الدينية المجردة من  جوهرها الديني الأصيل: أنها شكل من أشكال الدين المدني بدون دين. من ناحية أخرى، سيرى غير المتدينين  فيها خطر الهيمنة. الاعتماد الكبير على شكل جوهري من الخطاب الأخلاقي، من خلال تعزيز بعض الفضائل والعواطف، سينتهي به المطاف إلى التدخل في الحرية المدنية - بافتراض أن هذا الشكل من الأخلاق يخدم مصلحة الجميع.

يقدم نوربرتو بوبيو في حوار نقدي مع فيرولي[7] توضيحًا  لهذه النقاط بالقول (i) من الأفضل أن تُفهم السياسية بوصفها مسألة قوة وإكراه ، كما ادعى هوبز. اوأن لسلطة السياسية ضرورية لأن معظم المواطنين ليسوا فاضلين على الإطلاق. إن نقطة البداية للترتيبات السياسية ليست الفضيلة، بل الافتقار إليها وما يترتب على ذلك من تبرير للاستخدام المشروع للسلطة. (ii) أن دور الأديان مهم اجتماعياً، ولكن يجب عدم تسييسه حتى لا يقوض الحرية المدنية. لا يمكن تجنب احتواء التأثيرات المهيمنة للدين عن طريق استبداله ببعض البدائل العلمانية، لأن الأوجه المثيرة للإعجاب والخطيرة للدين متشابكة للغاية. يجادل بوبيو بأن  الأحسان  والمحبة في الكاثوليكية تحفز الناس على التضحية بأنفسهم من أجل قضية أولئك الذين تبدو آفاقهم في الحياة الجيدة غير متوفرة تقريبًا كما في الطريقة التي قد تقلدها وتحاكيها الأيديولوجيات العلمانية. لا يلعب الإيمان اللاهوتي والمعتقدات الأخروية دورًا عرضيًا هنا، بل دورًا جوهريًا، نظرًا لأنها توفر منظورًا متفائلًا حيث لا توفره النظرة العلمانية.

يشكك هذا الاعتراض الثاني في قابلية تحويل اللغات والطقوس والدوافع الدينية إلى أشكال مؤسسية غير دينية. لا يمكن اختزال الدين بسهولة إلى مجرد جزء من الأجزاء التي يمكن عزلها وأخذها واستخدامها لأغراض سياسية. حتى بافتراض أن تفسير فيرولي لوجهة نظر مكيافيلي بشأن الدين هو أمر سليم، 51 فأن تجسد الدين المسيحي في فلورنسا تاريخياً في ممارساته ومعتقداته التي نظمت حياتة الناس الخاصة والعامة لا يمكن تكراراها في الديمقراطيات  في الزمن الحاضر. إن تفكيك الدين وإعادة تفسيره للأغراض المدنية في القرن الحادي والعشرين هي مهمة تنطوي على تفكيك عناصر من الدين لم تكن ضرورية لمكيافيلي. عندما يدعو فيرولي إلى إعادة تمثيل الدور المدني للدين من خلال أشكال جديدة من الالتزام العلماني العميق بالحرية الجمهورية، فهو لا يقترح تفسيرًا مختلفًا للكاثوليكية أو البروتستانتية فقط ، بل بالأحرى عملية هندسة عكسية  للدين المسيحي. تشبه هذه الخطوة بعضًا من شرط ترجمة هابرماس ( أيً تحويل اللغة الدينية الى لغة علمانية لتكون مقبولة للجميع): يهدف فيرولي إلى الحفاظ على السمات التحفيزية والخطابية للدين، بينما يركز هابرماس على المصادر المعرفية المتضمنة أو المترسخة في المعتقدات الدينية. يفترض كلاهما أنه يمكن الحفاظ على بعض مكونات الدين أثناء علمنة الآخرين، مثل الخلفية الميتافيزيقية لجوهرللمعتقدات أو قلبها، أو اللجوء إلى سلطة الكتاب المقدس، أو العلاقة التأويلية بين المعتقد الديني والممارسة الدينية داخل المجتمع. يهدف اللجوء الأداتي للدين والمقاربة التحويلية إلى إنقاذ سماته المفيدة سياسياً فقط لكنها تتجاهل طريقة عيش الدين وممارسته من قبل المتدينين. المراجع الدينية ذات أهمية سياسية طالما أنها على غرار النموذج الذي تفترضه هذه المفاهيم في الأديان التي يمارسها المواطنون فعلا. يعتمد الدين المدني على المحتوى والخطاب والمصادر التحفيزية للتقاليد الدينية. إن اللجوء لوجهة نظر شاملة واحدة حصريا غير مناسب لبناء الحياة السياسية في البيئات التعددية. ومع ذلك، فإن إنتقاء بعض العناصر الأخلاقية والخطابية من وجهات نظر متعددة لخلق روح جمهورية ملفقة لا يحل هذه الصعوبة ، لأنه يؤدي إلى مجموعة مختلطة غريبة عن المتدينين وغير المتدينين على حد سواء. يسعى المواطنون، من خلال الإجراءات الديمقراطية، إلى ترتيب سياسي متوافق، أو على الأقل ليس على خلاف، مع تفسيراتهم الشخصية للأخلاق والخلاص. إن الأحتكام الى  نجاح هذه التفسيرات من خلال الرموز والأشكال المألوفة للكلام يتطلب مصادر تحفيزية قوية، وبالقدر نفسه القطيعة عن المحاولات الفاشلة.

قد تفرض المؤسسة الجمهورية إطارًا رمزيًا وخطابيًا شاملاً باعتبارها العمود الفقري لولاء المواطنين يكون عقبة أمام اندماج الأقليات. يجب التعبير عن طقوس ورموز الولاء السياسي بطرق متنوعة تستوعب الطبيعة التعددية للمجتمعات الديمقراطية، مع الاستمرار في التعبير عن التزام أخلاقي معترف به.  كما في الدور الذي يؤديه أداء قسم المنصب الذي يدل، في هذا المعنى على وظيفة طقسية مهمة. وإن الأحتكام الى بعض السلطات الدينية أو الأخلاقية الملزمة التي تتجاوز سلطة أولئك المسؤولين هي قيمة رمزية مهمة: فالأشكال الدينية والعلمانية تعبر عن هذا الأحتكام  أو هذه التأكيدات باشكال مختلفة. علاوة على ذلك، يمكن الوصول إلى الفكرة المعيارية الأساسية في كلتا الحالتين. علاوة على ذلك ، يُسمح للمسؤولين المنتمين إلى الأقليات الدينية بأداء القسم على نصوصهم المقدسة. تخضع الطقوس والرموز السياسية في منظور عدم الهيمنة لحق الطعن  كلما رأت مجموعة أو فرد أنها تعبير عن مؤسسات مهيمنة أيضًا.

يمكن أن يقدم الدين مساهمة  تتصل بالتعبير العملي والتمثيلي للمفاهيم الأساسية للحرية والتضامن والسمو والرفعة. وإلى أي مدى يمكن إضفاء الطابع المؤسسي على هذه المساهمة من خلال الطقوس والخطابات التي تشير إلى المجال الديني للمعاني. إنه  يعتمد على عوامل تاريخية واجتماعية متباينة. كما أن تخفيف  من المراجع الدينية لجعلها متوافقة مع المجال العام المتوتر بشكل متزايد ينتهي به الأمر إلى جعل مساهمتها أقل أهمية. من المرجح أن تحترم الاستراتيجيات المختلفة للخطاب الديني أصالة التفسيرات والآراء الدينية وأهميتها أكثر من اللجوء الى الأشكال العامة من الأخلاق وإضفاء الطابع المؤسسي على الدين المدني المخفف.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.........................

[1] Viroli, M. (2001) Republicanism.

[2] Nussbaum, M. (1997) Cultivating Humanity: A Classical Defence of Refom1 in Liberal Education,

Cambridge, MA: Harvard University Press.

[3] Viroli, M. (1995) For Love of Country. An Essay on Patriotism and Nationalism. Oxford: Oxford

University Press.

[4] Viroli, M. (2010) Machiavelli's God.148.

[5]. م، ن،ص 5-6

[6] Viroli, M. (2012) As if God Existed: Religion and Liberty in the History of Italy. Princeton, NJ: Princeton University Press.

[7] Bobbio, N. and Viroli, M. (2003) The Idea of the Republic. Cambridge, UK: Polity Press.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم