صحيفة المثقف

مجنون القصيدة (محمد تركي النصّار)

علي المرهجإنه محمد النصار تحتفي به القصيدة وتأخذك لعوالم فيها الحياة ونزوع الإنسان للعيش في جدبها وبعض من بقايا الأمل فيها

يكتب قصيدته، من دون ارتقاب لحاكم على رؤياه، فهو "صانع المطر":

يمشي على الحبل

من طرف الساحل

إلى سارية السفينة.

في شعره صرامة يتذوق بها شعر أليوت، ليُكتب نصّه الشعري، كشاعر يرنو لشعر وللشعر فقط، فحياته قصيدة:

دون أن يقوى على تحقيق ما أي تقدم.

الحياة عنده

"تواطؤ سافر"

تكمن المعرفة فيها في التفاصيل أو:

في الجمل المشطوبة

بالتملص الحاذق

من الحديث

عن زمن المُعجزات.

1650  محمد تركي النصار الخلاصة أن النصار لغة شعرية متفردة، والنصار تدوين شعري للخلاصة!.

فهو شاعر يستمد وجوده من (نصف الحكاية).

ويُبرر وجوده بأنه كائن متململٌ.

يكتب القصيدة الطويلة أحياناً، ولكنك ستجد فيه (ومضة شعرية) توجزها.

أقول لك أيها النصار أنك (وهمٌ) تشحذ حكايتك:

تتحدث عن

"شحاذ المنعطفات"!. الذي يعيش همه (بانتظار القصيدة)، ليجد القارئ في منعطفات الحياة عنده تحولات تكتبها القصيدة عنده.

ليكتب دمعته شعراً:

الدمعة التي لا تفترق

بين الماضي والمضارع.

"الشعر عنده سؤال خارج جبروت الزمن الذي يخذلنا بالموت". كان ولا يزال مشغولاً بكتابة الشعر لأنه فضاء التعبير عن "المعنى" عنده، فلا يهم عنده أن يكون الشاعر عمودياً أو شاعر تفعيلة أو نثر، لأن ما يهمه شغف الشاعر بالمغامرة التي تجعله يصطف مع الكبار في الكشف عن لؤولؤ المعنى في صدف المحار، فالشاعر عنده غواص ماهر يستخرج جواهر الكلام ليجعل من قصيدته بمثابة عتبة فلسفية يُسميها الفلاسفة (الدهشة):

تنبت في أعماف روحك دهشة ساحرة

أشعر أن النصار يقف كشجرة وارفة تمتلئ ثمارها من كل أصناف الشعر وتحمله رطباً أو:

شجرة واثقة من نفسها

تتطفل عليها

بضع كلمات لا يعنيه العُشاق

لأنهم عازمون على الرحيل.

النصار هو الشجرة يمر به عشاق القصيدة والشعر على اختلافهم، ولكنه واثق أنه فيء القصيدة في ثباتها وجنونها، لأنه يؤمن بالصراع:

صراع أبديٌ

بين الرغبة

والوهم

تجد في شعره سعي لبناء رؤية فكرية، ولك في نصه الشعري خهذا ما يُفسر قولنا:

ما أصعب أن تضع القصيدة

بين يدي فقيه

سلبته القواميسُ

روح أن يحيا إيقاع موجة

لا يقُرّ لها قرار

وفي نصه السابق هذا نقد للقبول بهيمنة الفقهاء على الحياة، والأحق أن يكون لأهل الفكر والشعراء رؤيتهم الحرة للحياة.

ما يُميز شعر النصار أنك حينما تتأمل فيه تجده:

قصيدة تنزف أسئلة

في مرايا عشوائية الوجوه

يكتب النصار مدونته الشعرية من وحي الفلسفة بوصفها سؤال مكتنز بالمعنى، في ظاهرة سؤال واحد وفي المضمر هو حُزمة أسئلة في نص شعري واحد، ولك أن تُنعم النظر والتأمل في هذا النص المفخخ الذي يُحيلك إلى دلالات عدّة وتأويلا عدّة يتحملها ويحتملها نصه الشعري:

ويظل الدم يشربُ

سمّ البحر

وفحيح الصحراء

بين السنبلة والعصيان

لأقف عند هذا النص الذي استخدم فيه ألفاظاً متناقضة:

الدمُ يشربُ

البحر والصحراء

السنبلة والعصيان

لأذهب به لأبعد مدى في حمولته للمعنى الضامر أو (المسكوت عنه)، فيظل الدم يشربُ، والبدم لا يُشرب، بقدر ما يرمز الشاعر لتفسير حياة أهل بلاد النهرين الذين بحسب رؤية علي الوردي صاروا ضحايا صراع البداوة والحضارة، والبداوة هي (فحيح الصحراء) والحضارة هي (السنبلة) وما حصل من تحديات في بلاد النهرين، فصار النهران كأنهما (سُمّ البحر)، وفي كل تاريخ بلاد النهرين عصيان ورفض لـ (فحيح الصحراء) التي جاءت لنا فألغت كل تباهينا بتاريخنا الحضاري:

الجهات لا تتعدد

بل تبحث عن نسياناتها

المسافات لا تتبعثر

لكن يداً واحدة

لا تُجيد الكتابة

ستخطفها

ذات يوم

وقد حصل أن يداً امتدت لنا من صحراء الجزيرة العربية لا تُجيد الكتابة ألغت تاريخ حضارة خلقت الكتابة وكتبت حروف القوانين الأولى في مسلة حمورابي.

محمد تركي النصار ليس (غيمة سيئة الحظ) وليس (فضاء قابل للمحو) وبالتأكيد هو ليس (كابوس يُثرثر) بقدر ما هو قصيدة وفضاء يقبل التأويل دوما:

لم يسقط القمر

فلا زال في العراق قمرٌ

...

بل إنكسرت ذراع الفضاء.

إنه النصار أو (الحياة الثالثة) التي تشبه الخيط الرفيع الرابطة بين حب الحياة في الشعر وحب الحياة بوهجها الأنسني في الواقع رغم ما في واقعنا من ألم، ولكنه شاعر يُجيد صناعة الأمل.

 

ا. د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم