صحيفة المثقف

الشاعر العراقي ريكان إبراهيم معالِجاً للروح وللجسد

حسين فاعور الساعدينماذج من شعره

من المعروف أن الأمراض التي تصيب بني البشر نوعان: أمراض عضوية وأمراض روحية. وقد ثبت بالدليل القاطع أن الكثير من الأمراض العضوية هي بالأساس أمراض روحية. في هذا النوع من الأمراض لا يمكن علاج ما أصاب الجسد إلا بعلاج ما أصاب الروح أولاً. وقد كان اليونانيون أول من اكتشف قوة الشعر وتأثيره على النفس البشرية. وقد تجلى تقديسهم للشعر ودوره في تقديس "أبوللو" إله الطب والشعر أي إله الجسد والروح. وقد كتب أرسطو عن "التطهير" الذي تحدثه التراجيديا في الملاحم الشعرية.

وقد كان الطبيب الروماني سورانوس الذي عاش في القرن الأول بعد الميلاد أول من استخدم الأدب في التداوي. وفي عصرنا الحديث بدأ استعمال الشعر كأداة علاجية تماماً كالموسيقى وغيرها من الأدوات والوسائل العلاجية قبل ما يقارب المئتين وخمسين عاماً في الولايات المتحدة وبالتحديد في العام 1751 في مستشفى بنسلفانيا. ومارسه الدكتور جاك ليدي في بروكلين بنيويورك في العام   1959 في علاج الكثير من الحالات المستعصية. وفي العام 1969 أصدر كتابه "العلاج بالشعر".

معروف في تراثنا العربي أن الكلمة تجرح كالسكين وتداوي كالبلسم وقد برز ذلك في أشعار شعراء معروفي كقيس ابن الملوح (مجنون ليلى) الذي قال:

وما أسرف الإيفاع إلا صبابة     ولا أنشد الأشعار إلا تداويا

فالشعر كان دواءه الوحيد مما أصابه في عشقه لليلى. كذلك كان حال امرؤ القيس في بكائه على الأطلال:

وإن شفائي عبرة مهراقة        فهل عند رسم دارس من معول؟

المقطوعة الشعرية التي تصلح لتكون مادة علاجية يمكن طرحها أمام الفرد المعالَج أو أمام المجموعة المعالَجة يجب أن تتوفر فيها العناصر الأساسية التالية:

1- الوضوح: يجب ألا تكون موغلة في الرمز أو اللغة بحيث يصعب على المتلقي فهمها وإدراك مغزاها.

2- الصدق: يجب أن تكون صادقة في تعبيرها عما يجيش قي نفس كاتبها. فبدون هذا الصدق لا يمكن أن تصل إلي مشاعر المتلقي.

3- العفوية: فالتصنع يجعلها بعيدة غير مستساغة وغير قادرة على الدخول إلى روح المتلقي.

4- إنسانية: المقصود أن تتناول هم إنساني يصيب أو يشغل الجميع ولا يسلم منه احد.

هذه المقطوعة أو القصيدة تُلقى على المعالَج أو تُكتب على الحائط ويتم إعادة قرائتها والتعليق على ما جاء فيها وهو ما سماه أرسطو بعملية التطهير. ويمكن تسميتها بعملية النبش لما ضُغط في أعماق النفس عند الحدث – عندما قامت النفس بتشغيل نظم الدفاع المعروفة في علم النفس.

يقول د. ريكان إبراهيم في إحدى قصائده مخاطباً أمه. (ومن ليس له أم؟):

يا أمَّ ريكانَ....خلّفتِ ريكانا

للهمِّ ... ليتَ الذي خلّفتِ ما كانا

من لا يقول ذلك في ساعة ضيق أو في حالة إحباطٍ أو حتى في لحظة تأمل؟ طرح ومناقشة مثل هذا الكلام ينفس عن الروح ويساهم في نبش ما ضُغط فيها من أوجاع وآلام في ساعة عسر. فترتاح النفس قليلا مما يثقلها.

في قصيدة "أريدُ ما لا أرى" أكثر من مقطوعة تصلح أن تكون مادة علاجية ممتازة. فهذه المقطوعة على سبيل المثال ملائمة لمعالجة المصابين بالكآبة أو الاكتئاب:

"هناكَ الكثيرُ الذي لم أرَهْ

ففي (أنتَ) وجهٌ أراهُ وآخرُ

ما زالَ لم يُكتشّفْ

وفي (هذهِ) بعضُ (هذا) ولكنني

لا أراهُ،،، وفي أسودٍ أبيضٌ

وفي أبيصٍ أسودٌ،، ولكنني لا أراى كلَّ ما عليَّ اختلفْ

وبين الذي قد رأيت وما لا أراهُ إلى الآنَ

كونٌ من الغامضاتْ

وسرٌّ يُسمى الحياة"

يصاب الإنسان بالاكتئاب عندما يفقد الأمل ويشعر انه أمام حائط مسدود ليس وراءه شيء. بواسطة هذه المقطوعة نجد أن هنالك الكثير من الأشياء التي لم نكتشفها بعد. وحتى في الأشياء ذاتها التي نظن أننا ملمون بها هنالك الكثير من الجوانب التي لم ننتبه لها ولم نرها. حتى الأبيض فيه من السواد ما لم نره وفي الأسود هنالك البياض الذي لم ندركه. والأهم من كل ذلك هنالك سر الحياة وما يتطلبه من تفكير وتأمل. عندما يشعر الإنسان بالاختناق خير دواء له هو المدى المفتوح.

قصيدة "البحث عن زمكان الحب" تصلح بكاملها أن تكون مادة علاجية غنية. وسأختار أجمل مقطوعة فيها في رأيي لأبين ما أقصده:

"لا شيءَ أرقى في الحياةِ من امتلاءِ

فراغِ كأسِكَ بالبياضْ

إنَّ البياضَ بدون ألوانٍ هو الألوانُ

أجمعُها وسَيّدُ كُلِّ أزهارِ الرياضْ

وفراغُ كأسِكَ صُورةٌ غنّاءُ من صُورِ المكانْ

بل لوحةٌ تحكي لياليكَ المِلاحَ

وتستعين على ضياعِكَ بالزمانْ

هذا هو الزمكانُ،فاحذرْ أنْ تُحِّبَ

وأنتَ خارجَهُ فتخسَرَ في

الرِهانْ؟"

في هذه المقطوعة الجميلة ما يكفي من الصور والرسومات المثيرة للدهشة والمحفزة على النقاش وإبداء الرأي. مما يوقظ في المعالَج روح المشاركة والتفاعل. الباب مفتوح على مصراعيه والمجال مشرع لمن يريد التجوال في أعماقه أو الاكتفاء بالبحث في حواشيه وجوانبه. هذا الشعر يستنطق القارئ ويغريه في التطلع إلى ذاته وتأمل ما لم ينتبه له من قبل.

في قصيدته "أبي" يمارس الشاعر إشعال حرائق فَقْد الأب بصدق وعفوية ليعبر أجمل تعبير عما يشعر به كل من فقد أباه. هذه الحرائق ما هي إلا "التطهير" الذي نحتاجه لنواصل الحياة الروحية السليمة:

يا ليتني جئتُ من أُميّ بدون أبٍ

                كي لا يموتَ فألقى فيه كارثتي

او أنّها أنكرتني أنْ اكونَ لهُ

                 أو أننيّ مَيّتٌ في بطنِ والدتي

أو أنَّ ذاكرتي شاختْ على صِغَرٍ

                حتّى اذا ماتَ لم يخَلدْ بذاكرتي

أو أنْ يعودَ أبي من موتهِ ليرى

        حُزْنَ العواطفِ في روحي وأوردتي

أقولها وأنا منها على ثقةٍ

        وصيحةُ الصِدْقِ في أوتارِ حَنْجرتي:

لن يعرفَ المرءُ حُبَّ الوالدينِ لهُ

              حتى يصيرَ أباً أو ثَدْيَ مُرضعة

هذا الذي يفوق البكاء هو مادة علاجية جيدة جداً لأنه يتناول الضعف الإنساني المشروع أمام فقدان الأب الحتمي والذي لا يسلم منه أحد. السلامة منه هو أن يولد الإنسان دون أب أو أن يموت الابن قبل أن يولد ويرى أباه ويتعلق به. أو أن يفقد الابن ذاكرته فلا يذكر أباه. هذه البدائل وهذا التفكير\الهذيان بما يحمله من مشاعر إنسانية صادقة حتى لو لم يكن واقعياً إلا أنه ينفس من الاحتقان ويخفف كثيراً من معاناة لا خيار فيها. هذه المقطوعة (كما القصيدة) غنية بالصور والخيارات التي يمكن مناقشتها مع المعالَج بأساليب مختلفة وفيها من الظلال ما يمكن المعالِج من الإبداع والابتكار.

في قصيدة "رثاء الذات" يحرر الشاعر ريكان إبراهيم النفس البشرية من قيود الموت أو الفناء ويغوص عميقاً في الذات المرعوبة الخائفة التي وصلت حد تمني الفناء وتفضيله على البقاء. لان البقاء الذي نهايته الفناء لم يعد يحتمل. 

  لمن باق؟ وقد عز البقاء

            وأصبح أنجع الحل الفناء

تغزل بالذي ولى وجهز

              لآتيك الرثاء كما يشاء

كفى بك موريات القدح عزما

           وحسبك أن يخلّدَك العطاء

على متنيك قد رقصت هموم

         وأمحل عارض وزها شقاء

وفي عينيك من سهر الليالي

         قذى وبريق شمعتك انطفاء

 هذا القلق وهذا الخوف من الفناء لا مفر منه وخير دواء له هو الحديث عنه وتناوله من مختلف الزوايا التراجيدية. كثرة الحديث عن الشيء تجعله عادياً مهما كان مرعباً ومخيفاً. هذا الإيمان المطلق والتسليم بالمصير المحتوم هو أنجع دواء للخروج من مأزق القلق والخوف من الفناء.  

في قصيدة "ابن الأرملة" يصل الشاعر ريكان إبراهيم إلى ذروة البوح الصادق المعبر عما تجيش به نفس الابن الذي فقد أباه والذي يفوق كثيراً البكاء:

 أشقى الرجالِ هو اليتيمْ

أشقاهمُ مَنْ ماتَ والدُهُ ولم يرَهُ

بما يُرضي هواهْ

هذا اليتيمُ يُطيلُ وَقْفَتَهُ،يُحدُقُ

في المرايا

وأمامَ صورةِ والدٍ هرئتْ يُفتِّشُ في الخفايا

متسائلاً: أأبي أنا؟ أم أنّنيْ

هو ما أراهُ وقد تجعّدتِ الثنايا؟

هذا الضعف الإنساني مشروع لابن يقف أمام صورة والده الذي لم يره حياً بكل ما في الأمر من حسرة ولوعة لا يمكن تعويضهما. ابن يُعاقَب وهو لم يقترف ذنباً. وهذا العقاب متواصل ويساهم فيه الآخرون دون قصد:

  "أشقى الرجال فتىً تَعوَّدَ أُمَّهُ

وأضاعَ من يدهِ أباهْ

ويظلُّ (أُوديبُ) المريضُ مطارداً وَهْمَ

التخلّصِ من أناهْ

لا الأُمُّ كافيةٌ عليهِ، ولا أبوهُ

اذا أرتجاهْ

فأبوهُ ماتْ"

أقسى ما في هذا الفقد هو الشعور بالذنب واتهام الذات بالشراكة فيما حدث. فالتعوّد على الأم هو مدعاة للشقاء! هذا التناقض أو هذا الشرخ في الروح هو العذاب بعينه. لأنه يشعر انه بسبب هذا التعود على الأم أضاع أباه. لكن هل يمكن ألا يتعوّد على الأم؟ موضوع للنقاش قد يوصل المعالَج إلى بر الأمان.

في هذه المقطوعة أعلاه تبلغ تراجيديا اليتيم منتهاها فهو بسبب ما ينتابه، فقد أمه أيضاً بعد أن فقد أباه "لا الأم كافية....وأبوه مات". لكنه لا يستسلم بل يُجمّع قواه وحواسه لاستجلاء صورة الأب ومقارنتها بالصورة التي رسمها من خياله: 

 "هو لا يرى منه سوى ما صار ذكرى

هو لا يراهْ فيستعينُ بأُذْنهِ عن عينهِ سِرّاً وجَهْرا

والكارهونَ له يَعيبونَ الكثيرَ

من الخِصالْ

والمُنصِفُونَ يُجمِّلونْ"

أراد صورة حقيقية عن والده الذي فقده. لكن كل من حوله خذله لأن كل واحد منهم أعطاه صورة صنعها هو وليست الصورة الحقيقية لوالده. هكذا هي الأشياء في هذه الحياة كل واحد يراها بمنظاره فما نراه قبيحاً قد يكون جميلاً في أعين آخرين.

"فأبي بقايا منْ ملابسَ في الخزانهْ

وأبي بقايا  صورتينِ على الجدارْ

وأريكةٌ كانتْ مُفضَّلةً لديهِ

  بَعضَ ساعاتِ النهارْ"

هذه الأشياء التي تخص والده قد تكون مصدراً قيما تفيده في رسم صورة قريبة لأبيه. الملابس تعطي صورة من كان هذا الأب أي الألوان كان يحب هل كان طويلاً أم قصيراً وهل كان نحيفاً ام سميناً. كما تعطي الأريكة المعلومة عن نمط حياته وهي أمور قد تكمل الصورة التي أعطاها الآخرون أو ربما تعدلها وتصححها. ما على الابن إلا الجد والاجتهاد في البحث والتنقيب للوصول إلى الحقيقة.

"وأنا أُحاصِرُ  فيهِ ذاكرتي بما

قد قالَ شاعرْ:

إنَّ الفتى مَنْ قالَ :هاأنذا

و(هاأنذا) صنيعةُ وعيِ أُمّيْ

والأُمُّ طيبةٌ ،تُعلِّمُني الوداعةَ

لا الشجاعةَ،

والسهولةَ لا الرجولةَ ،تلك أشياءٌ

يُعلِّمُها أبي لو كانَ حيّا"

الابن يقارن بين تربية الأب وتربية الأم وهو يعتمد في وجهة نظره على المتعارف الذي اكتسبه من المجتمع المحيط به والذي قرر أن الأب يعلم الرجولة والشجاعة بينما الأم تعلم الوداعة والسهولة. قد تكون بداية التطهير الذي تحدث عنه أرسطو. فتراجيديا فقد الأب وصلت إلى ما وصلت إليه من أبعاد مأساوية بالنسبة للابن بسبب كل هذه التداعيات التي ترافقها ومنها نوع التربية التي توفرها الأم. لكن الابن يستدرك لشعوره بالظلم الذي ألحقه بأمه نتيجة أفكاره المكتسبة من البيئة والتي لا تنطبق على أمه. إلا أنه بسبب القلق يعود ويؤكد أن اليتيم هو أشقى الرجال حتى وإن حظي بأم مثالية ربته أحسن تربية. فالأب لا يمكن تعويضه والطفل أي طفل بحاجة لأم وأب ولا يمكن لأحدهما التعويض عن الآخر: 

 "لكنّني في ظِلِّ أمي صرتُ مخلوقاً حَيّيا

أشقى الرجالِ أنا اليتيمُ

وكُلُّ عمري مُشكلةْ

رُحماكِ يا أُميّ فليسَ لكِ الخيارُ

بأنْ تكوني أرْملَهْ"

هذه القصيدة "ابن الأرملة" التي اقتبستها أعلاه بكاملها (ما عدا الاستدراك في الفقرة الأخيرة) مادة ممتازة لبناة البرنامج العلاجي المطلوب لمداواة مختلف أنواع الأمراض النفسية. وهي قريبة من الروح ونابضة بالحياة، عفوية، صادقة وإنسانية بامتياز.

شعر الدكتور ريكان إبراهيم هو ثمرة اجتماع الشاعر المرهف مع الطبيب مع الطبيب النفسي في شخص واحد. وهو ظاهرة فريدة في الشعر العربي المعاصر يجب متابعتها ودراستها بعمق أكبر.

*** 

حسين فاعور الساعدي

.....................

للاطلاع:

الشاعر ريكان ابراهيم

 

   

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم