صحيفة المثقف

محمد فتحي الشنيطي.. المفكر الموسوعي المغمور (1)

محمود محمد عليما زلت أومن يل ربما أكثر من أي وقت مضي، بأن هناك العديد من المفكرين الموسوعيين، الذين تنحسر عنهم أضواء الشهرة من أساتذة الفلسفة في مصر والعالم العربي بسرعة لافتة للنظر، مع أنهم أسهموا قدر استطاعتهم في الارتقاء بالبحث والدرس في مجالها، وعملوا قدر طاقتهم علي أن ينقلوا ما عرفوه إلي تلاميذهم، وعلي أن يبدعوا في أكثر من مجال؛ مثل أقرانهم الأكثر شهرة الذين كان عليهم الإسهام في كل مجال من مجالات الفلسفة المختلفة، استجابة إلي تحديات الركود الفكري في مجتمعهم ورغبة في الوقت نفسه في الارتقاء بهذا المجتمع من خلال نشر التنوير.

والأستاذ الدكتور "محمد فتحي الشنيطي (أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة بكلية الآداب – جامعة المنيا بجمهورية مصر العربية)؛ حيث أنه قلما لا يعرفه إلا المتخصصون الذين درسوا علي يديه أو رجعوا إلي مؤلفاته وترجماته . وللأسف ليس بين أيدينا أية بيانات عنه، أو وثائق يمكن أن تكون عوناً لنا في رسم سيرته الذاتية.

علاوة علي أنه قلما يُذكر اسمه أيضاً في المؤتمرات والمحافل التي تهتم بالفلسفة الحديثة والمعاصرة في مصر وفي العالم العربي، مع العلم بأن هذا الرجل؛ كان واحداً من الأساتذة الجامعيين الذين استطاعوا ببحوثهم ومؤلفاتهم، أن ينقلوا البحث في مجال الفلسفة الحديثة والمعاصرة، من مجرد التعريف العام بها، أو الحديث الخطابي عنها – إلي مستوي دراستها دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارماً إلي أبعد حد: فالنص الفلسفي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

هذا بالإضافة إلي اتقانه الرائع للغة الإنجليزية، وله ترجمات في ذلك كثيرة لا تحصي .. يكفينا منها ترجمة كتاب تاريخ الفلسفة الحديثة لبرتراندرسل، حيث كان الشنيطي يتميز في ترجمته بالبعد الاكاديمي، وهو يمثل لنا واحداً من كبار المترجمين المصريين، الذين يؤمنون بأن الترجمة عملية لا تقتصر على النقل اللغوي للجُمل والعبارات ومعاني الكلمات فحسب، بل تمتد لتشمل البعد الثقافي أيضًا، فالمترجم هو نظره كاتب، أي أن عمله هو صَوْغ الأفكار في كلماتٍ موجهةٍ إلى قارئ. والفارق بينه وبين الكاتب الأصيل هو أن الأفكار التي يصوغها ليست أفكاره، بل أفكار سواه، لذا على المترجم قبل أن يشرع في ترجمة النص، عليه أن يراعي جيدًا الأبعاد والبيئة الثقافية التي وُلِد فيها هذا النص، والقارئ المتلقي له، ليُخَاطبه ليس بلغته فحسب، بل بثقافته أيضًا التي قد تشبه ثقافة المترجم، وقد تختلف عنها تمام الاختلاف؛ فالنصوص الفلسفية كما علمتنا التجارب ليست كالنصوص الاعتياديّة التي يمكن ترجمتها بحسب كلماتها، بل هي تندرج ضمن الترجمة الأدبية التي تحتاج إلى وجود حس إبداعي لدى المترجم بحيث يستطيع قراءة ما بين السطور والحفاظ على أسلوب الكاتب الفلسفي وروح النص الأصلي. وهذا يعني وجود مترجم محترف متخصص بالترجمة الفلسفية من أصحاب الخبرة في هذا المجال من الناحية اللّغوية والإبداعيّة.

ولد محمد فتحي الشنيطي (مع حفظ الألقاب) بمدينة الإسكندرية بجمهورية  مصر العربية في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، حيث التحق بالتعليم الابتدائي، والإعدادي، والثانوي بحي باكوس (وهو من الأحياء الشعبية بالإسكندرية)، ثم سافر هو وأسرته إلي مدينة القاهرة ليلتحق بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وقد دخل قسم الفلسفة، وكان من الرعيل الأول الذي درس له الدكتور "طه حسين" ومجموعة من كبار المستشرقين الفرنسيين (من أمثال "لويس ماسينون" الفرنسي، و"بول كرواس" الألماني، و"أرنولد نيكلسون" الإنجليزي..) وغيرهم من كبار المستشرقين ؛ وفي تلك المرحلة عاصر الأستاذ الدكتور "عبد الرحمن بدوي"، والدكتور زكي نجيب محمود، والأستاذ الدكتور حسن حنفي، والأستاذ الدكتور عبد الغفار مكاوي، والأستاذ الدكتور محمد  مهران رشوان.. الخ... وكان من زملائه وأصدقائه المقربين بقسم الفلسفة الأستاذ الدكتور "يحيي هويدي" (الغني عن التعريف)، ثم بعد ذلك الأستاذ الدكتور "زكريا إبراهيم "، والذي التقاه في باريس قبل عودته إلي أرض الوطن.

كان الشنيطي متفوقاً في دراسته بقسم الفلسفة، فقد كان يحصل علي تقديرات عالية، واستطاع أن يجتاز مرحلة الليسانس بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، وعقب ذلك تم تعيينه معيداً بكلية الآداب (فرع المنيا) بجامعة أسيوط، وبعد عدة سنوات من تعيينه معيداً أرسلته جامعة أسيوط في عهد الأستاذ الدكتور "سليمان حزين" (رئيس الجامعة آنذاك) في بعثة خارجية للحصول درجة الدكتوراه من جامعة السوربون بفرنسا، وذلك بصحبة مجموعة من زملائه بالأقسام الأخري بكلية الآداب بالمنيا من أمثال:  مصطفي مندور،  وجلال يحيي، ويسري الجوهري.

وبعد عشر سنوات من الدراسة بجامعة السوربون، تمكن الشنيطي من أن يجتاز درجتي الدكتوراه الصغري والكبري، وعقب عودته في أواخر خمسينيات القرن الماضي، التحق بقسم اللغة العربية، لكي يقوم بتدريس المقررات الفلسفة بالأقسام الأخري، كما كان يقوم بتدريس المنطق وفلسفة العلوم ومقررات أخري في الفلسفة الحديثة والمعاصرة بالجامعات الأخري؛ من أمثال جامعة الإسكندرية وجامعة عين شمس، وجامعة القاهرة، وجامعة الزقازيق.

وخلال تلك الفترة من الخمسينيات إلي أواخر الستينات من القرن الماضي، تمكن الشنيطي من الحصول من خلال بحوثه التي كان يكتبها في مجالات الفلسفة آنذاك، من أن يحصل علي درجتي: أستاذ مساعد وأستاذ دكتور في مجال الفلسفة الحديثة والمعاصرة،  وفي أوائل السبعينات من القرن الماضي، أسس الشنيطي قسم الفلسفة بجامعة أسيوط، وكان من نواة إنشاء هذا القسم تعيين أحمد محمود الجزار معيداً للفلسفة الإسلامية (فرع التصوف) .

وخلال تلك الفترة عُين الشنيطي وكيلاً للكلية، واستمر في منصبه إلي أن انتقل إلي جامعة الزقازيق، وأسس هناك قسم الفلسفة أيضاً، وعند تم افتتاح فرع للجامعة في مدينة " بنها"  آنذاك،  تم تعيينه نائباً لرئيس جامعة الزقازيق في هذا الفرع .. واستمر في منصبه إلي أن وصل إلي سن المعاش، وبعدها عاد لقسم الفلسفة أستاذاً متفرغاً إلي أن توفاه الله، وهو لم يتجاوز الخامسة والستون من عمره، وذلك علي أثر جلطه في القلب.

مات الشنيطي في غفلة، مات وهو ولسان حاله يقول كما قال صديقه الدكتور عبد الرحمن بدوي :" بالصدفة أتيت إلي هذا العالم، وبالصدفة  سأغادر هذا العالم!" .. مات الشنيطي وحياته كلها مملوءة بالمتناقضات منها القلق والطمأنينة، الكراهية والحب، الموت والحياة... نتيجة فلسفة التوتر الناتجة عن التهميش فيتحدث عنها في تعاقب وانتقال ديالكتيكي من الذات إلي الآخر، وهو احتكاك ومصادمة وصراع نتيجة الإدراك بشعور اللحظة التي ربما أخفقته أحقيته، لكنها ساعدته من خلال تحفيز الصدفة إياه لمعني الكتابة وتجاوز الهامشية التي تمثلت عنده في لحظة ما باللامنطوق، فهو لا يريد أن يُغير اهتماماً للامنطوق كونه  لا يؤمن بالصدفة إلا لكونها حافزاً علي اختراق معني الهامشية وهذا من خلال معايشى التوتر.

أما عن أولاد الشنيطي (فعلي حد علمي)، له ثلاثة أولاد، ولم أعرف من أولاده إلا ابنته الكبري الأستاذة "عبلة" ؛ حيث عرفتها والتقيت بها في أوائل 2001 عن طريق الصدفة، حيث كانت تدير أحد فروع مصر للطيران بأسيوط، وذهبت إليها عندما أرسلني الأستاذ الدكتور "محمد رأفت محمود" (رئيس جامعة أسيوط آنذاك) لمهمة علمية بالولايات المتحدة الأمريكية بجامعة جورجيا الأمريكية، فذهبت لاستلام تذاكر الطيران منها، وأخبرتني عن والدها كثيراً، ولكن عقب عودتي من المهمة لم ألتقي بها وحتي الآن.

وللأستاذ الدكتور الشنيطي مؤلفات كثيرة نذكر منها الكتب المطبوعة (سواء المؤلفة أو المترجمة) علي سبيل المثال لا الحصر : المعرفة (ط. أولي 1956 - ط. ثانية 1957)، وظاهريات الفكر لهيجل، والبراجمية لوليم جيمس، وتاريخ الفلسفة الغربية (الكتاب الثالث) برتراند راسل (ترجمة)، أسس ميتافيزيقا الأخلاق كانط، (ترجمة)، وبعض مشكلات الفلسفة، وليم جيمس، مراجعة زكي نجيب محمود (ترجمة)، ومدخل إلى الفلسفة لكارل ياسبرز (ترجمة)، ومحاورات في الدين الطبيعي (1956)، ومشكلات فلسفية، (كارل ياسبرز، ووليم جيمس- 1957)، والشيوعية والفلسفة - بحث في كتاب "الشيوعية اليوم وغداً" (1959)، والشخصية بتحليل فرويد، كلفن هال (1960)، ونماذج من الفلسفة السياسية (1961)، والنظرية السياسية عند هيوم (1962)، وقوة الإرادة لجون كندي (1945)، وفلسفة هيوم (ط. أولي 1956- ط. ثانية 1957)، والتحليل النفسي لـ إرنست جونز (1957)، ووليم جيمس (1957)، وتاريخ الفلسفة الأمريكية، هربرت شنايدر (ترجمة)، وأسس المنطق والمنهج العلمي، وأصول علم النفس الفرويدي، كلفن هال (ترجمة) (1970)، وجون لوك دراسة نقدية لفلسفته التجريبية، وفلسفة هيوم بين الشك والاعتقاد، وفي الفلسفة الحديثة والمعاصرة، وأسس ميتافيزيقا الأخلاق لإيمانويل كانط، والنظرية السياسية، وأصول علم النفس الفرويدي (ترجمة) ... وهلم جرا.

ومن خلال تلك الكتابات المترجمة والمؤلفة استطاع الشنيطي أن جمع بين الأفق الفلسفي الواسع، والرؤية العلمية المحددة، والبعد الديني.. وهنا يتضح عدم تعصبه لمذهب بعينه من المذاهب الفلسفية المعاصرة، فلم يكن وضعياً ولا برجماتياً ولا وجودياً، ولا شيوعباً، ولا متمذهبا بأي حال من الأحوال فموضوعتيه غلبت عليه في كل أحكامه، وأراءه .. وعندما يوجه سهام نقده لأى من هذه المذاهب، فهو لا ينكرها أو يريد هدمها أو نقضها، إنما يطالب بإعادة النظر إليها لاشتمالها علي نقائض وعيوب، كما يهتم بصياغة المصطلح صياغة فلسفية، وعلمية دقيقة ويظهر التفرقة الواضحة بين الصياغتين.

وعندما يكتب الشنيطي (عن الفلسفة المنطق ومناهج البحث أو عن الفلسفة الإنجليزية، أو الألمانية، أو الفرنسية، أو أي فرع من فروع الفلسفة، أشعر بأن أنفاسه تترد بين الكلمات، وأن روحه المتردة القلقة تبعث بداخلي حيرة جميلة، وتثير في أعماقي السؤال تلو السؤال . والشنيطي علي الأوراق هو الشنيطي في الحياة .. لا فرق بين الإنسان المترجم والإنسان المؤلف .. كلماته عندما يحادثك هي نفسها كلماته التي يكتبها . وعندما أقرأ عبارة واحدة أو سطراً له في كتاب أو بحث ما لست بحاجة إلي أن أبحث عن الاسم، فاسمه منقوش بثنايا كلماته وتراكيب عباراته .

وكم أُحار عندما أكتب عن الشنيطي، وأي الطرق أسلك، وأي الفضاءات أرتاد؟ تُري هل أتحدث عن أفكاره في الفلسفة الحديثة أو المعاصرة، أم رؤاه في المنطق ومناهج البحث، أم ترجماته الرائعة، لا شك أن هذا المفكر الخصب لا يمكن اختزاله في مقال، إن الأمر يحتاج إلي مئات الصفحات، لذلك فقد حاولت جهدي أن أفتش عن خيط واحد يجمع كل هذه الاهتمامات المتنوعة، ويوحد كل هذه الجوانب، فاكتشفت أن الشنيطي يصعب أن نصفه أو نحصره داخل تيار فكري محدد، فيصعب أن نصفه بأنه برجماتي، أو وجودي، أو بنيوي .. أو غيره من التيارات ..

إنه كل هؤلاء، بمعني أنه استوعب فلسفات عصره وصهرها جميعاً في بوتقة فكره، وأخرج لنا في النهاية رؤية فلسفية قوامها : أنّ النقد هو روح الفلسفة وقلبها النابض، وهو الباعث الأساسي لتحولاتها المتتابعة منذ نشأتها العقلية والمنهجية الأولى عند الإغريق حتى صورها وأشكالها المختلفة عند المحدثين والمعاصرين، فقرر أنه لا يمكن أن يكون هناك مفكر أصيل بدون موقف نقدي، فالموقف النقدي هو بمثابة نقطة الانطلاق، كما أنّه ليس ثمة معرفة مقبولة إلا بعد بحث وفحص وتمحيص، فالنظرة النقدية تكون الحافز والدافع للباحث لسبر غور موضوعه، ولولا النظرة النقدية للظواهر الكونية ولفكر السابقين لما وجد لدى الباحثين والعلماء والمفكرين موضوعات للبحث والدراسة، ولأصبح الإنسان تابعاً لا مبدعاً، مقلداً لا مجدداً، وبدون هذه النظرة أيضاً تموت روح الابتكار والإبداع... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم