صحيفة المثقف

رؤيا نقدية في شعر يحيى السماوي (2)

رحاب عوضــ غرس في نصوصه مباعث الموسيقا الداخلية والخارجية فأثمرت جرساً نغمياً عذباً، تنوعت بين التكرار والجناس والتصريع والتوازن وتشابه المكونات النحوية وتناغم حروف الهمس والجهر واستحضار الصيغ الاشتقاقية التي تنتمي إلى جذر واحد. كقوله:

أنا المسجون والسجان

والخادع والمخدوع

في حلم فراديسي الكذوب

أوقوله:

فهي الولادة والولودة

والوليدة

وهي الشهادة يوم أُبعث

والشهيدة

أو بث إيقاع من تتالي الصيغ الاشتقاقية المتناغمة":

أيتها الرشيقة كرمح أنكيدو

الفرعاء كنخلة

المنتصبة كمئذنة

الهادئة كالنعاس

الصاخة كشغفي

إذا لم يكتب في دفترك

فما فائدته قلمي؟

أو الموسيقا المنبعثة من توازن وتوافق المكونات النحوية:

الهوى من دُبرٍ قدَّ سفني/ والدجى من قُبُلٍ قدَّ شراعي/

أو الإيقاع الشعوري الذي أوقعه أسلوب التقديم والتأخير في بيان أهمية المتقدم وإعلاء شأنه " أو دبّ التشويق " كل، محض ــ تأخير الخير" مع تقطيعه للجمل والمفردات في الشطر تبعاً لما تمخض عن الشعور:

النهر أنت

وكل ما خلق الإله من الحسان

بمقلتيّ

فمحض جدول

أو في تأخيرالفاعل في اعتراض الجملة له: هل كان سينمو / قبل أن نسقيه نبض اللثم / وردُ الجلنار؟/

وماذا عن التـكـــرار في نصوصه؟: كان له حضور جليٌّ في كثير فيها، فهو لا يأتي اعتباطياً وإنما لغايات مختلفة يخضع للحالة النفسية التي تتطلب الاستزادة من تكرار الجملة واللفظة والحرف بما يروي ظمأ الشعور والانفعال، يعكس الرقعة النفسية قبل أي شيء ولا يقتصر على الجانب الفني الموسيقي. ومن صوره "المتوالي":

كلٌّ يذهب في حال سبيله / النهر نحو البحر/ السنابل نحو التنور/ العصفور نحو العش/ الآفك نحو اللعنة / القلم نحو الورقة/ الصلوات نحو الله/ الوطن نحو الصيارفة/ وقلبي نحوك.

أوقوله:

السفينة غرقت؟ /لا ذنب للميناء/ إنه ذنبها / لا ذنب لها/ إنه ذنب المجاذيف/ لا ذنب للمجاذيف / إنه ذنب السواعد/ لا ذنب للسواعد / إنه ذنب الرأس ! / آه / كم مملكة عشق اندثرت/ لأن رأساً واحداً / رمى الفتيل في الغابة/ ليذيب الجليد المتجمد / في عروقه.

فقد حقق التكرار مجمل وظائفه ولم يقف عند حد المستوى الصوتي المرتبط بالبعد الإيقاعي المؤثر بالقارئ وإنما تعداه إلى خلق ترابط وتماسك في بنية النص وتوازن نفسي انفعالي شعوري بين الجمل بالإضافة إلى توكيد المعنى بمعية حرف التوكيد "إن" أيضاً، وأبرز الكلام في أكثر من صورة حين كرر اللفظة ذاتها في أكثر من موضع مما أضفى تلويناً جمالياً حقق للقارئ متعة القراءة فكان ضوءاً شعريا يعكس الجانب النفسي اللاشعوري للشاعر وباتت وظيفته تأكيدية بلاغية جمالية إيقاعية إمتاعية بنائية . .

أو التكرار "المتباعد" الذي كان له وقعه التأثيري المميز كما تذوقه مسمعي:

عيناي نائمتان لكن النوافذ ساهرةْ

 

هاجرت وحدي

حاملاً بعضي معي

وتركت بعضي في ملاذكِ لائذاً

خوفاً عليَّ

من احتمال اللارجوع

إلى ظلالكِ

فالطريق معبد بالجمر والضِّباع وأخوة "يوسف"

والذئاب الغادرةْ

 

أوكلت أمر سفينتي للموج

والريح الغضوب وللدجى ..

عيناي نائمتان

لكن النوافذ ساهرةْ

 

فخذي بأمر خطاي

هاأنذا أتيتك

رافعاً قلبي على ضلعي:

أسيفاً..

خاشعاً..

مستسلماً..

تعبتْ خيولي من حروب متاهتي ..

كل المعارك خاسرةْ

 

إلا انتصاري حين يقتلني هواكِ ..

فألتقيكِ ..

على سريرٍ من زهور التين والريحانِ

يوم الآخرةْ ..

تكرار العنوان مرة أخرى في متن النص كان له وقع الإمطار في فيافٍ لم تكن لتنتظره. مباغتة صوتية موفقة في ضخ دفقة انفعالية متشربة بالشجن وجرس موسيقي لم يكن القارئ يتوقعه، فأمتعه ودفعه للاستزادة من القراءة .. بالإضافة إلى الانزياح التركيبي الذي حققه من خلال الالتفات الضمائري حين عطف عن ضمير المتكلم إلى المخاطب الذي أحدث انزياحاً في مساره الصوتي تلقفه القارئ بذائقة إحساسه، مع احتساب جمالية التقطيع النظمي الشعري، يقودني تفسير هذه النقلة الشعورية المؤثرة إلى أن الشاعر كان يعيش صراعه في هدأة وحكمة، يتنقل بين الذاتي الروحي والموضوعي، بين الخارج والداخل قبل أن يشرع بالكتابة، إذ استهل النص بسرد استذكاري لحيثيات هجرته حاملاً بعضه تاركاً كله، ثم وثب إلى الخطاب" ملاذك، ظلالك"، بينما لا يزال الحديث أشبه بمونولوج داخلي لم يخرج عن داخله يجري بين طيات نفس ينهشها التمزق والفصام الروحي "حاملاً بعضي معي، وتركتُ بعضي في ملاذك لائذاً.."  ثم غير وجهته وسافر بخياله مطلاً على شرفة الوطن حيث تراءت له الرموز المظلمة فيه " الضباع، والذئاب وأخوة يوسف"، مر بالبحر والموج والريح الغضوب ..امتلأت نفسه وحمل في جعبة قلبه كماً كبيراً من الألم، ثم عاد إلى ملاذه الروحي ليُقحم الجملة في المتن ويكرر: عيناي نائمتان، لكن النوافذ ساهرة. تكراراً جاء صدى لتردد صدى صوت الشجن في داخله المضطرم، فكيف تغفو عين من يبصر النور من وطنٍ يسكنه أغمض عينيه عن مرآه مرغماً، هذا وإن انسدال الجفن لايعني النوم، ما دامت بصيرة القلب والعقل في دوار من أرقٍ وقلقٍ وتفكير. مع التماسه المدود ذات الصوت المستطيل عالياً كصدى لاستطالة الشعور المتردد في داخله مما يتيح المجال لتمدد تصاعد الانفعال وانطلاقه على صهوة ألف تمدّ حركتين أو أكثر وتاء تلفظ هاءً تتسع بخاصيتها الصوتية بمشاعر وآهات الألم والأسى " أباطرةْ سماسرةْ خاسرةْ غادرةْ ..    يعتمد شعر السماوي فكرة الكفاح والنضال والمقاومة وحب الوطن والتشبث بالأرض في كلا اتجاهيه العمودي والنثري الحداثوي اللذين أبدع فيهما. لكنه في النثري كان طائراً يعانق فضاء يتسع بذاته بأحلامه وبحريته . ونصوصه النثرية تخرج عن الأوزان العروضية المتداولة وتحشد أقصى الطاقات الشعرية التي تجعل من النص عالماً متكاملاً متماسك البنية مثقلاً بالدلالات والاختلاف الدلالي والتركيز وتخضع للزمنية فالزمن حاضر فيها يجري في حركة منتظمة لا اعتباطية ولهذا يمضي القارئ مع النص في نسق معين قلما يأخذه دوار الزمن وارتداداته في التجربة الشعرية بنقلات فجائية مرتدة بين الحاضر والماضي والمستقبل بقدر ما تأخذه رصانة الفكرة وجمالية الدلالة في حضور الزمن. من قصائده ما توجه به إليه للوطن بشكل مباشر ومنها ما مزج فيها بين الوطن والحبيبة ومنها ما احتوى الاثنين خطاباً ومضموناً متماهيين فلا فصل فيما إن كانت لذاك أو تلك، فالمرأة والوطن مندغمان متلازمان في داخله العاشق بلا فكاك، وهو القائل " من ذكورة التراب .. وأنوثة الماء .. ينبت العشق " .. وفي كافة الأحوال الحبيبة وطن ويبقى الحب المتجذر في طبيعة الإنسان هو منطلق حبه للأشياء كلها من حوله .. من ديوانه نقطف هذا المشهد المتشرب بالروح الرومنسية في صورة للتماهي المطلق في العشق تحت خيمةٍ وارفةِ الرمزِ المشعِّ بظلالِ الإيحاء ...حين يفرَغ كل من العاشق والمعشوق من نفسه ويجدها في الآخر، وتبلغ المشاعر ذروة السمو في ماهيتها مما جعله يتخذ هذا الحب ديناً ويلبسه ثوب القدسية والنزاهة ..

أنا أنتِ .. أنتِ أنا

كتاب السر مفضوح المتونِ

 

أنا أنتِ .. أنتِ أنا

حروف لم تزل

في طور سينِ !

 

صبي جنوني

واشربيني

قبلاً معتقة الحنينِ

 

فلربما

حاز الثوابَ فمٌ

على عطشي معيني

 

فدعي الوقار المستعار

إذا سريرك

يحتويني

 

هل تستحي الأشجارُ من عشّ؟

وحقلٌ من غصونِ؟

 

أم قد سمعت

بمرسلٍ حمل الكتاب

بدون دين؟

الاستهلال بضمير المتكلم أنا المؤكدة للذاتية وإلحاقه بالإخبار بضمير الخطاب ثم مبادلاتهما. واختزال الشطر بهما دون متتمات تركَ مساحات بيضاء أفسحت المجال لاسترخاء شعور القارئ فيتذوق الإحساس ويتشرب بمنثور الحروف النابع من خلق جملة تكتفي بضميرين لا متناهية المعاني فكلاهما المبتدأ والخبر منذ بدء الخليقة. ومن خلال التناص الديني أشار إلى أزلية هذا الحب. لم يخاطب الوطن من خلال المرأة هنا كما فعل في أشعاره الأخرى بدلالة قرائن لفظية: فالوطن لا يستعير الوقار ولا يستحي. إلا أنه جسد فكرته متكئاً على الاستعارة المكنية، الاندغام العاطفي الروحي في أقصى درجاته. والخلاص إلى الطبيعة بالمطلق بعيداً أي قيد هو محتوى دعوة الشاعر، الدلالات شفيفة غير قابلة للتذبذب في عيني التفسير بدلالة قرائن والفكرة مستقاة من عوالم غير مطروقة أجرى لها هندسة بنائية زراعية مهذبة بالمجاز حتى أنه لم يخدش حياء الورق ..والشاعر حالم عاشق بامتياز .أما القفلة فهي مستلهمة بطريقة متينة الإحكام ..

من جميل ما ورد من مبنى شعري متماسك النظم وتشكيل صوتي يلبي احتياج المعنى بلغة لا يكتنفها الغموض اعترافات صريحة بمحاولات له باءت بالفشل. "محاولات فاشلة":

فقد فشل في استبدال الأرض المماهية لمضمون المرأة بسواها في خيال ابتكاري يجمع بين النور والجذر في قلبه:

جرّبتُ يوماً

أنْ أمسّد غيرَ جذعكِ ..

أنْ أمشّط غيرَ سعفك ..

أنْ أشمّ سوى رحيقك ..

فانتبهت إلى يدي حجراً

وكأسي خمرها الغسلينُ

والزّقوم في صحتي

وحقلي دون عشبِ

 

ورأيتُ قلبي يستحي مني ..

فيا سُبحانَ غارسِ جذرك الضوئي

في بستان قلبي!

كما فشلَ صدقه وإخلاصه بخيانة حبيبته في الخيال:

فعرفت أني / حين أجنح عن صراط هواكِ /

أبدأ بالرزيلة والخطيئة / والزوال.

و فشلت أصالته بخيانة الأصدقاء ورفاق الدرب:

فخشيت أن يعتابني شرفي / ويبرأ من جذوري/ طين بستاني الأصيل..

ومن الفشل ما فيه ارتقاء وسمو للنفس

الرمز والأسطورة: ضمَّن نصوصه الشعرية الكثير من الإسقاطات التاريخية والدينية "ميثولوجية الدين" والأسطورة كسائر الشعراء المعاصرين فكان يستمد منها الأجواء الروحية العميقة في حاضر أسود يغص بالظلم والاستبداد مثقل بالمتناقضات شائك بالتعقيد، ومن خلالها ينطلق بالتجربة الشعرية الفردية إلى الكلية وإلى المستوى الإنساني بالمطلق لما لهذه التقنية الأسلوبية من دور في التكثيف والتركيز والإيحاء وتقديم الفكرة بعيداً عن المباشرة والتقريرية وتمكين الصورة المؤطرة لها، هذا وتحفز المتلقي لإعمال عقله والتفكير في دواعي استحضار هكذا رمز في النص، فأكسبت نصوصه حصانة فكرية ومنحتها فاعلية التأثير. وتعددت الرموز في ديوانه التراثية والأدبية والدينية فتفاحة آدم التي أخرجت آدم من الجنة أدخلته الجنة من أوسع أبوابها انطلاقاً من رؤياه وتصوراته الخاصة، فحب المرأة في نصوصه فردوسه وخمرته ووطنه التي أغنته عن كل ما في الدنيا من مغريات مادية فكيف لا يرى فيها الجنة .يقول:

وأنا دخلت جنائن الفردوس

حين قطفت من تفاح حقلك..

هل أنا في العشق آدمه البتولي الجديدْ؟

 

ما دمتِ لي

ما حاجتي بكنوز قارون

ومخدع شهريار ومُلك هارون الرشيد؟

فالحب فردوسه الذي يأخذه يسمو إلى عالم من السحر فترتوي من طيباته روحه الظامئة .

أو تجسيده للحكم الجائر من خلال استدعاء شخصية دموية ظالمة من التاريخ" أبرهة الحبشي ": أبرهة الجديد يستحم في الفرات / فمن خلال هذا الرمز في القسوة والدموية والطغيان استطاع أن يحتوي مجمل المعاني التي يريدها بحذر، "فالرمز خيمة حانية على الشاعر". وأن يُلبِس الكلمة ثوبها الجديد المعاصر يشحنها بالانفعالات والدلالات القائمة في السياق بحيث صبت تأثيرها في القارئ فبعثت على الغضب والسخط .

أو ترميزه المبتكر " صوفائيل، عشقائيل" فأراد الشاعر أن يُكسب عاطفة الحب سمواً من خلال منحها رسولاً وملاكاً جمع اسمه من الصوفية والملاك. أو العشق والملاك:

وكدت أرميني إلى حيث القرار/ فصاح صوفائيل بي/ عدَّ النبض / نحو / ظلال نخلتك الأمينة.

أو قوله:

وينبئ الجفاف عن مسغبة/ وينبئ الأثرْ

عن خيل هولاكو..

أو قوله:

كل عصر وله "ربّ" و"هولاكو" جديد/ فلمن جيَّشت الخوذةَ أمريكا / وأرستْ سفنا

في إشارة إلى الحكم الجائر الظالم في البلاد. استحضر في نصوصه شخوصاً أسطورية " آلهة العشق والجمال والحكمة والخلود" التي يجد فيها الشاعر عالماً شمولياً روحياً يغذي الخيال ويمتد اتساعاً ليتجاوز حدود اللفظة بعيداً عن قسوة الحياة فحضورها ليس افتعالاً لصنعة أو زخرف وإنما تمثيلاً لكونية التجربة والقيم الإنسانية، كجلجامش وأنكيدو وعشتار وسيزيف وشهرزاد وشهريار وإينانا وغيرها من الأساطير السومرية والبابلية: وشعراء الحب معمر بثينة وقيس ليلى العامرية  وأورد ذكر الطيور الحمامة والهزار والعندليب والصقر واللقلق والهدهد الذي يعتبر واتخذ القائد الروحي للطيور،. الطبيعة كانت حاضرة بكامل تجلياتها كانت مورد الشاعر في استلهام معانيه، ماؤها وهواؤها وترابها ونباتها وطيرها حتى رحلاته الروحية رمز لها بالإسراء والمعراج والألوان كانت ذات دلالات ورمز للمرأة والحب بالفردوس والخمرة ..فالرمزية لفظ يأخذ اختلافه بانتباه القارئ يدفعه للبحث عن ثقل المعنى بين إيحاءات تطرحها المخيلة ليوجد صلات ترابط مشتركة تمكنه من القصد فيندمج في عمقه ويتذوق جمال جمع دالٍّ ومدلول متباعدين شكلاً متداخلين مضموناً، والرمز كلمة جامدة لكنها تكتسب حركية دلالتها في كيفية وحيثية غرسها في السياق وفي الوقت ذاته تحقق حصانة للشاعر.

ـــ تكرر ذكر الخمرة مراراً في نصوصه التي كانت نديمه وسميره، لا الأشخاص. فهو على أغلب اليقين لا الظن يعتبرها رمزاً من رموز معرفة الذات الإلهية، والتماهي مع المعاني الروحية التي لا يمكنه بلوغها إلا من خلال الحرية التي يجد نفسه وذاته فيها على حقيقتها في موج كأس. الجمع بين " خمرتي" و" جمر لهاث " حرك الدلالات في السياق وخلقت دلالات جديدة تنامت فبات القصد يناور التأويل. إلا أنه ما لا شك فيه أن خمرته تستمطر غيم إلهامه وروحه حتى الارتواء. نذكر:/ خمرتي جمر لهاث / أنضب الحرف بزق الكلمات/ فأنقذيني من بقايا نزواتي/ وفي ركن آخر يقول: وأزفُّ للكأس الحرام / بشارة الخمر الحلال بزقّ مائدة / الذهول.

ــ حرص السماوي على بث مفرز الذات من الفكر المبتكرة بل كان ذلك بالنسبة له هاجساً في امتطاء سجية الخروج عن المألوف والمقتبس المجتر من صور الشعر القديم، فكيف لشاعر أن يتميز وهو لا ينفك اجتراراً لصور لطالما تكررت، وفي كل تكرار تستحضر الأصل البعيد حتى ضجرتها الآذان لمجرد أنه يضعها في قوالب لغوية مختلفة صنعها بنفسه دون جديد يُنسب له ويتفرد به! من هنا نجد ديوانه يحمل الكثير من الصور الفنية البليغة المبتكرة القائمة على مفارقات قوامها التناقض والتضاد والتقابل والتضارب اللفظي الظاهري الأمر الذي يخلق ضباباً أمام عينيِّ القارئ إلى إعمال مخيلته في البحث عن الروابط التي تقبع خلف هذا الإيهام ليستجليها فتبهره بجمال حبك ورصانة وعمق الفكرة وتزجه في متاهات الدهشة:

ما أقرب السماء من عيني

وما أبعد الأرض عن قدمي

**

وطني مستنقعٌ

إذن سأتضرَّع الله

أنْ يجعلني

صرصاراً

**

أيها الحزن لا تحزن ..

أدرك أنك ستشعر باليتم بعدي ..

لن أتخلى عنك ..

أنت وحدك من أخلص لي ..

فكنت ملاصقي كثيابي ..

حين تخلى عني الفر ح

في وطنٍ

يأخذ شكل التابوت !

**

إنْ لم أكنْ عبدَ هواكِ

فكيف سأعرفُ أنَّني

حرٌّ

**

يا عباس

أحزانُنا كأرغفةِ فقراءِ العراق

تصغرُ يوماً بعد يوم

وأحزانُنا كأرصدةِ اللصوصِ الجُدد

تكبرُ يوماً بعد آخر.

**

جئتك

أبيعكِ عمري

لأشتريك.

**

بعض السَّخين يكون برداً

حين يُمزج ... بالسَّخين

**

قلبي كالسمكة

يموتُ إن لم يغرقْ

بنهرك.

**

هي عاقلة حدّ الجنون

وأنا مجنون حدَّ الحكمة

**

أرأيتَ كلباً في الوفاء

يخونُ

 

أخلاق الكلاب؟

**

حين اتسخ علمُ الوطن

غسلناهُ بالماء ...

تُرى

بماذا نغسل الماءَ

إذا اتَّسخ؟

أنهارنا تفيضُ قيحاً وصديداً

**

إذا قشرتكِ مثلَ البرتقالة

لا ترتبكي

فأنا أريدُ أن ألبسكِ فستاناً

من القبلات

**

ما دمنا قد أوقدنا نار الخصام

فليرحل كلُّ منا في حال سبيله

أنا نحوكِ

وأنتِ نحوي!

**

سأبقى خائفاً على وطني

طالماً بقي في " قصر الخلافة"

سياسيٌّ فاسدٌ واحد..

انتهازيّ واحد ..

تاجرُ دينٍ واحد ..

إرهابيٌّ واحد ..

عميلٌ واحد ..

ولصٌّ واحد ..

هؤلاء كالطحالب

سريعو الانتشار مثل بذور الجدري.

الشاعر بطبيعته حالم في آفاق بعيدة وشاعريته هي انعكاس لأحلامه التي يجد فيها ملاذاً آمناً حين تضيق سبل الدنيا والحياة بذاته وروحه. وهو معتاد على الخيبات وخسارة الأحلام وربما بينه وبين الخيبة اتفاق ومعاهدة، يبقى بموجبه مهزوماً بينما وحدها الحروف والكلمات من تنتصر وتغنم ألقها.

يقول:

حلمتُ يوماً أنني جناحْ

وحينما استيقظت

كانت السماء صهوة وسرجها الرياحْ

وكان ما بيني وبين الوطن المباحْ

مشنقة تمتد من ستارة الليل

إلى نافذة الصباحْ.

لا غرابة في أن يكون الحلم كابوساً حين يحلم بأنه جناح سيجتاز الفضاءات ليغسل وجهه بشمس الوطن ثم لا يلبث أن يصطدم حلمه بصخر الواقع .فما كان سوى المشنوق بالشوق والحنين في لحظاته تلك منذ الغروب حتى الشروق. استحضر سرده لهذا الحلم المترع بالأسى والخيبة حلم الماغوط في إطار مبطن ملغم بالسخرية والسخط قال في قصيدته اليتيم:

وحلمتُ مرةً بالبحر

وفي الصباح

كان فراشي مليئاً بالأصداف وزعانف السمك

ولكن حين حلمت بالحرية

كانت الحراب

تطوق عنقي كهالة الصباح.

كان وارداً أن يستجيب البحر لحلمه فيجده بعظمته حاضراً بأصدافه وأسماكه في غرفته، أما الحرية فمحال. الشعراء حالمون وشاعريتهم هي انعكاس لأحلامهم وأحلام الشعب..

أو حين قال:

أنا الراعي ...

لا أملك من القطيع إلا

الروث والبعر !

ومن الوطن بعض ترابه

العالق حذائي

وأملك من "مجاهديه":

وعداً بمرحاض في الجنة!

حيث اتبع أسلوب "المدح في معرض الذم". والقدح المباشر في تحقير الحقير فالتقى مع سخرية الماغوط المبطنة بالتورية: لا يربطني بهذه الأرض سوى الحذاء. مع اعتماده القصر القائم على الاستثناء المنفي فيما أفاد الحسر والتخصيص والتأكيد وبلاغة الإيجاز.

قراءة وتجوال سريع بين ما تسنى لي الاطلاع عليه من نتاجات هذه الموهبة الفذة التي كلما سقتكَ من كؤوس القصيدة ظمئت وطلبت المزيدَ، تترك في نفس القارئ حبلَ وصالٍ ممتدٍّ إليها بشغف العودة والإحاطة بها كاملة والاستزادة مما تدرُّ هذه القريحة الخصبة السامقة من شذر الشعر في سماء الأدب ..

***

رحاب عوض

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم