صحيفة المثقف

جماليَّاتُ التَّكرارِ والإضمارِ في النَّصّ الشّعريّ

وليد العرفي قصيدة: (ولأنَّني)  للشَّاعر طارق الحلفي أنموذجاً

مما لا شكَّ فيه أنَّ لكل شاعر أسلوبه الخاص، وسمته الذي يبوصل رؤياه الشعرية نحوه ما يجعل لكل شاعر لغته التي يتميز فيها من الآخرين فيما يُعرّف بالأسلوب، وأسلوب الرجل كما يرى بوفون هو الرجل ذاته، وفي هذه المقاربة لنص الشاعر طارق الحلفي سأسلّط الضوء على سمتين من السمات الأسلوبيّة التي تميّز الأسلوب الشعري للشاعر، وهما سمتان لا يقتصران على هذه القصيدة، وإنما في أغلب شعره، وما أقوله في هذا السياق من النص هو من باب التمثيل لا التعميم، إذ الجزء يعني الكل .

الإضمار:

من نافل القول أن عدم التصريح أحياناً بالشيء أبلغ من البوح والإفصاح به .

ومن هنا يبدو لنا  استهلال الشاعر طارق الحلفي بالواو يشي بأن ثمة ما هو مسكوت عنه، وهذا المسكوت عنه يتطلّب من القارىء إعمال الذهن، وكدّ الفكر فيما يُمكن أن يكون ذلك المُضمر، وهي أسلوبية تبعث على جمالية خاصّة تُحفّز المُتلقّي للمشاركة في إنتاج النص، وإعادة خلقه من جديد بما يخلقه من توقّعات وإضافات، وكلما ازدادت دائرة تلك الإضافات حسب رؤيا المتلقين،  وعددهم، وتنوّع ثقافتهم كلما زاد ثراء النص، ومدّه بطاقات وقدرات متجددة قابلة لتأويل القارىء وتفسيراته، ومن غير الخفي أن تعدّد التأويلات للنص الواحد يُحمّله معانٍ ودلالات ربَّما لم تكن تخطر في بال مبدعها الأوَّل، إننا في مثل هكذا حالة من الإضمار نكون أمام شعراء عدّة يعملون بخفاء على تخليق النص،لا شاعر واحد هو الأب الحقيقي للنص، ومبدعه الأول:  " فالكاتب يصوغ النص حسب معجمه الألسني، وكل كلمة في هذا المعجم تحمل معها تاريخاً مديداً ومتنوعاً، وعى الكاتب بعضه، وغاب عنه بعضه الآخر، ولكنَّ هذا الغائب، إنَّما غاب عن ذهن الكاتب، ولم يغب عن ذهن القارىء،  فالكلمة تظلُّ حبلى بكل تاريخياتها و القارىء حينما يستقبل النص؛ فإنه يتلقاه حسب معجمه، وقد يمدُّه هذا المعجم بتواريخ للكلمات مختلفة عن تلك التي وعاها الكاتب حين أبدع نصه، من هنا تتنوَّع الدلالة وتتضاعف، ويتمكَّن النص من اكتساب قيم جديدة على يد القارىء، وتختلف هذه القيم، وتتنوع بين قارىء وآخر، بل عند قارىء واحد في أزمنة متفاوتة "[1]

يقول:

ولأنَني مستسلمٌ لِهواكِ

أنحازُ فجراً للندى

عشبٌ يطرزُ مقلتي

لأراكِ

يستهلُّ شاعرنا قصيدته بالواو،وهو استهلال يشي بمضمر مسكوت عنه،" والمجيء بالواو مبتدأً بها على هذا النحو يشي بأشياء مضمرةٍ، لا بدَّ من تقديرها جمالياً ولغوياً " [2]؛ لأنَّ مساحة اللغة في بعض المواقف قد تكون: " أضيق من أن تستوعب كلّ ما في نفوسنا من مشاعر وأحاسيس، وأحزان وطموحات وآلام وآمال وتصورات ورؤى في النفوس، ولذلك أيضاً قد يحس الإنسان عامةً، والشاعر خاصةً أن ما لم يقله أعمق وأغنى وأخطر مما قاله " [3]، ولا شكَّ في أن حالة المخاض الشعري الحق حالة احتقان، حالة ضيق الشاعر بما هو فيه لائذاً باللغة علَّها تُفضي ببعض ما لديه، ذلك الإفضاء الذي بدأ لدى الشاعر مع الواو المرتبطة بالتعليل ؛ فتلازمت مع (لأنني)، مشكّلة بذلك لازمةً تتردَّد بين مقاطع القصيدة ؛ لتكون بمثابة  فواصل تفيد الاستئناف في الكلام من جديد، إذ يجد الشاعر في كلّ مقطع ينتهي به أنه لم يُحقّق كلَّ ما في داخله، فيعيد من جديد البدء وفق تسلسل يسعى من خلاله إلى استكمال التعبير عمّا لم يقله، ” وهذه البداية المخلِّقةُ شعرياً مكملةٌ للحالة الشعرية الحقة المستمرة في حالة مخاض، على أن التخلُّق الشعري في هذه الحالة يقِر صراحة بأنه لم يأتِ على كل ما يطمع الشاعر في أن يبوح به"، وهو ما يقودنا إلى الكشف عن السمة الثانية في هذا النص .

التكرار

يبدو التكرار سمة من سمات النص لدى الشاعر طارق الحلفي، كما يبرز ركناً من أركان بناء النص الشعري في قصيدته، وتُشير: نازك الملائكة إلى هذه الظاهرة في الشعر العربي، إذْ بينَّتْ أنَّ التكرار في ذاته ليس جمالاً يضاف إلى القصيدة، وإنما هو كسائر الأساليب في كونه يحتاج إلى أن يجيء في مكانه من القصيدة، وأن تلمسه يد الشاعر تلك اللمسة السحرية التي تبعث الحياة في الكلمات، لأنه يمتلك طبيعة خادعة ؛ فهو على سهولته وقدرته في إحداث موسيقي يستطيع أن يضلل الشاعر، ويوقعه في مزلق تعبيري؛ فهو يحتوي على إمكانيات تعبيرية تُغني المعنى إذا استطاع الشاعر أن يسيطر عليه ويستخدمه في موضعه، وإلا فإنَّه يتحوَّل إلى مجرد تكرارات لفظية مبتذلة[4]. كما أشارت إلى أنواع التكرار وحصرتها في تكرار الحرف والكلمة والعبارة والمقطع، والتكرار ليس الهدف بحد ذاته، وإنما جمالية التكرار تتأتى من أسلوبه، وهو ما أشار بالي إليه انطلاقاً من فهم الأسلوبية على أنها  علم الوسائل اللغوية من زاوية نظر وظيفتها الانفعالية والتأثيرية.[5] وسننظر في نوعي التكرار الواردين في قصيدة الحلفي، وهما التكرار الحرفي، وهو  يُمثّلُ: ( أبسط أنواع التكرار أو أقلها أهمية في الدلالة) [6]، والحرف هو الصوت الذي لا معنى له، فهو: (المادة الخام التي يُبنى منها الكلمات أو العبارات )[7]  لأنه ظاهرة طبيعية ندرك أثرها دون أن ندرك كنهها)[8]، فتكرار الحرف في النص الشعري يُحدث نغمة موسيقية لافتة للنظر لكن وقعها في النفس لا يكون كوقع التكرار للكلمات وأنصاف الأبيات الكاملة،  وعلى الرغم من ذلك، فإن تكرار الحرف يسهم في تهيئة السامع للدخول في أعماق الكلمة الشعرية )[9].فهو  صيغة خطابية رامية إلى تلوين الرسالة الشعرية بمميزات صوتية مثيرة هدفها إشراك الآخر المتلقي في عملية التواصل الفني، ولذلك يعد التلازم الحرفي من أعم خصائص الخطاب الشعري في البنيات التشاكلية[10]   وقد جاء التكرار بالحرف (الواو) في هذه القصيدة ( 28) مرة،  وهو عدد  ترداد يُسجّل في دائرة السمة الأسلوبية في هذه القصيدة، وهو ما يستدعي وقفة تأملية من الباحث للكشف عن وظيفة التكرار التي تخلّقت في القصيدة  وإلى أي مدى أدَّى التكرار جماليات وجوده في بنية القصيدة على مستوى البناء الكلي فيها . بداية لا بدَّ من الإشارة إلى أن الشاعر لا يكرر إلا لغاية نفسية أو حاجة تفرضها طبيعة النص، وسننظر إلى نمطية التكرار وفق مستويين لدى  شاعرنا الحلفي

ـــــــــــ التكرار الأوّل  على مستوى التركيب: وهو ما جاء بتكرار حرف الواو وسيطاً بين المتعاطفين، وأغلب هذا التكرار جاء على هذا الشكل كما في قوله:

ولأنني ذَكرُ الحَمامِ وأنتِ لي

اُنثاهُ جمراً والهديلُ

سناكِ

ـــــــــــ التكرار الثاني  على مستوى المقاطع، وهو التكرار الذي جاء على شكل وصلات فاصلة واصلة شكّلت لازمة في بناء مقاطع القصيدة التي تعاقبت فيها تكرارات حرف الواو الاستهلالي في المقاطع بعددها البالغ ( 17 ) مقطعاً وفق علاقات متباينة قامت على التعليل وإيجاد منطقية النتيجة بناء على السبب: فالمقطع الأول يوائم بين:

الاستسلام للهوى ــــــــــــــــــ والانحياز فجراً للندى

ولأنني مستسلمٌ لِهواكِ

انحازُ فجراً للندى

عشبٌ يطرزُ مقلتي

لأراكِ

في المقطع الثاني تبنى العلاقة بين  :

الوحدة ـــــــــــــــــــــــ المنفى صد المخاطبة والدنو رضاها

ولأنني وحدي وفيكِ هواجسي

منفايَ صَدُّكِ

والدنوّ رضاكِ

وهكذا تتابع إشاريات القصيدة عبر متوالياتها:

احتياج الذكر ــــــــــــــــــــ تحرسه القصائد

ولأنني احتاجُ ذكركِ دائماً

فليَ القصائدُ حارساً

ورَواؤها لِصَداكِ

الإصغاء ــــــــــــــــــــــــ الصهيل نداؤها

ولأنني اَصغي لِنبضِ حبورنا

سَرجُ الليالي

والصهيلُ نِداكِ

الانتظار ــــــــــــــــ يطرد النعاس

ولأنني كنتُ انتظرتُكِ طائعاً

طردَ النعاسُ دروبَهُ

فلعلَهُ القاكِ

وهم الانتظار ــــــــــــــــــــ لم يعد إلاها

ولأنني كنتُ انتظرتكِ واهِماً

صفوُ الصدى

لم يَرتجعْ الاكِ

احتياج الركض ـــــــــــــــــ نمو الخطى بالخضاب

ولأنني أحتاجُ اركضُ في المدى

خضراءَ تنمو بِالخضابِ

خُطاكِ

احتياج البوح ـــــــــــــــــــــــ له الأصائل

ولأنني أحتاجُ بوحُ غياهبي

فليَّ الاصائل نَرجِساً

وقصائدي بِرعاكِ

فيض ـــــــــــــــــــــــــ يبذر غيمة 0

ولأنني فيضُ سأبذرُ غيمتي

متزنّراً زلزالَ قلبي

والحصادُ رؤاكِ

شفق الشاعر ــــــــــــــــــــ هتف الوجود

ولأنني شفقٌ وأنتِ وميضهُ

هتفَ الوجودُ لِوَجدِنا

متلألئاً بِسَماكِ

وعلى هذا المنوال تبدو علائقية الفصيدة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً وفق قانوني الترابط السببي كما بينت في المقاطع السابقة،  أو التكامل كما في المقاطع الأخيرة

ولأنني اُطريكِ قوساً سِحرهُ

قزحٌ يُلونُ شهقتي

بهواك

ولأنني اُهريقُ قلبي خمرةً

أسعى لِأسهرَ في فضاءِ

مداكِ

ولأنني تاجٌ وأنتِ جواهري

بَذخاً اُرمِّمُ مهجتي

لِرضاكِ

ولأنني أحرقتُ كلَّ سفائني

قدري إليكِ ولائِذاً

بِحماكِ

ولأنني ذَكرُ الحَمامِ وأنتِ لي

اُنثاهُ جمراً والهديلُ

سناكِ

ولأنني اَتأملُ الصبحَ الجميلَ جميلتي

أتذكرُ القبلَ التي

بَهرتْ مساءَ وسادتي بِشذاكِ

ولأنني الزهرُ الذي باركتِهِ

يأتي رَخيماً مِثلُ نَفحَةِ عاشقٍ

حتّى يضمخَ بالأريجِ مَساكِ

ويُلاحظ في هذه المقاطع كثرة الفعل بالزمن الحاضر ما يعني الاستمرار في الحدث، وإفادة التكامل على مستوى الفعل، كما نجد ذلك في المقطعين الأخيرين، إذ يكون فعل: ( أتأمل) مبعثاً للتذكّر، وفي المقطع الأخير نجد الفعل: ( يأتي)  بما فيه من حركة وقدرة على إحداث التغيير يتكامل مع الفعل: ( يُضمّخ) المسبوق بحتى، وهي حرف تحقيق الغاية، وبلوغ أقصى ما يُمكن إحداثه من تغيير في مساء المُخاطبة الذي يريد تعطيره بالأريج .

 

للاطلاع على قصيدة الشاعر في المثقف

ولأنني!! / طارق الحلفي

د. وليد العرفي

.................

[1]ــ  عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية، جدة، النادي الأدبي  الثقافي بجدة، 1985 م ص 79  .

[2]ــ  محمد عبدو فلفل: (2013) م، في التشكيل اللغوي للشعر ــ مقاربات في النظرية والتطبيق ـ وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق،  ص44.

[3] ــ محمد عبدو فلفل،: في التشكيل اللغوي للشعر،  ص 45.

[4] ـ نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر،  دار العلم للملايين، بيروت،طبعة سابعة، 1983 م،ص 263.

[5] ـ صبحي البستاني،الصورة الشعرية في الكتابة الفنية، دار الفكر اللبناني،1986 م، ص 49 .

[6] ـ عمران خضير حميد الكبيسي، لغة الشعر العراقي المعاصر، وكالة المطبوعات،الكويت،   1982 م، ص 144

[7] ـ أحمد عمر مختار، دراسة الصوت اللغوي، عالم الكتب، القاهرة،  ط ثانية 1997 م،  ص 401.

[8] ـ إبراهيم أنيس، الأصوات اللغوية، أنجلو المصرية، القاهرة، 2013 م، ص 9  .

[9] ـ نعمة النقد اللغوي حتى القرن السابع عشر الهجري

[10] ـ عبد الرحيم كنواه،من جماليات الإيقاع في الشعر العربي، دار أبي رقراق،2002، م، ص 290    .

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم