صحيفة المثقف

معنى الحزن في الحياة

هل نعشق الحزن أو نَكرهه؟. كُلُّنا نهرب من الإجابة كما نهرب من الماضي. الماضي لا ينام ولا يموت. الماضي هو الحاضرُ والمستقبلُ. هل الحزن شعور أو موقف فلسفي؟. ينبغي أن نُحدِّد المفاهيم قبل أن نطرحها للنقاش. الحزن غابةٌ بِكر غير مُكْتَشَفَة، وعلينا اكتشافها. رُبَّما نُنقِّب عن الحزن لنعرف معنى الفرح.

يُعلِّمنا الحزن أن نُغيِّر زاوية الرؤية باستمرار، ولا نطمئن إلى الأفكار التي تُصبَغ بهالة القداسة. كثيرٌ من الحقائق والمسلَّمات في الماضي، صارت أوهامًا وخُرافاتٍ في الحاضر، لأنَّ الإنسانَ كائنٌ جاهل ومحصور في نظام استهلاكي وحشي. وهذا النظامُ الاستهلاكي القاتل يَجعل الإنسانَ ضَيِّق الأفق، وقصير النظر. لقد تحوَّل الإنسانُ إلى خُرافةٍ تُدافع عن الخرافات. وهذا سبب منطقي لاندلاع الحزن في تاريخ الحضارة الإنسانية. ولكن الحضارة الإنسانية هي وهم قاتل، ولُعبة يضع الأقوياءُ قوانينها.

الحزنُ بُركان خامد، قد يثور في أيَّة لحظة. ونحن نجهل ساعة ثورانه، لأننا نجهل أنفسنا. كان علينا أن نُنقِّب في ذواتنا لاستخراج الحزن القديم، ونفض الغبار عنه، كي يُضيء طريقنا إلى أرواحنا. الأرواحُ مُشقَّقة، والدول تتساقط كطلاء أظافر العرائس. نحتاج إلى صدمة الحزن كي نستيقظ من سُباتنا الطويل. لا فائدة من الجمال إذا كان قائمًا على المكياج، لأن المكياج عَرَض زائل، وقناع سيسقط عاجلًا أو آجلًا. الجَمَالُ الحقيقي هو الجوهر، ونحن نحتاج إلى مشاعر الحزن كي نكتشف هذا الجوهر.

نحن في سباق مع الزمن لاكتشاف ذواتنا. نحن في سباق مع أحزاننا للتنقيب عن قلوبنا داخل أنقاض قلوبنا. ولكن ما الفائدة من اكتشاف الإنسان لذاته؟. لا بد من معرفة الذات في الطريق إلى المرايا. سنمشي إلى الضوء في نهاية النفق. وقد يكون هذا الضوء هو لمعان شاهد القبر. لا شيء مضمونًا في مدن السراب. لا تاريخ للمرايا سوى سقوط الأقنعة. إن المِرْآة هي الاختراع الأشد خطورة في تاريخ الحُلم الإنساني.

قد يَكون الحبُّ هو الطعنة المسمومة، وقد تكون زجاجة العطر هي قارورة السُّم. وقد يأتي الموت من أزهار الربيع. وقد تحرق قلوبُنا الأخضرَ واليابسَ، وتحترق في ذكريات الخريف. لا شَيء مضمونًا في ممالك الضباب.

هل الحزن عنصر أصيل في الكيان الإنساني أو عنصر دخيل؟. وهل يستطيع الأغراب تحديد العناصر الأصيلة والدخيلة؟. نخاف أن ننظر إلى المرايا، وإذا نظرنا نكتشف كَم نحن أغراب عن ذواتنا، وغُرباء في تاريخنا. نهرب من الماضي، لكنَّ الماضي هو الحاضر والمستقبل. الماضي لا ينام ولا يموت. نحن نحاصر أنفسنا بأنفسنا، ونمشي إلى الهاوية ضاحكين، كأننا تحت تأثير التنويم المغناطيسي.

الحزنُ فلسفةٌ متكاملة، ونظام فلسفيٌّ يُولد فِينا لِيُطهِّرنا، ونُولَد فِيه كي نرى وجوهنا خارج سُلطة الأقنعة. وهذا النظامُ الفلسفيُّ يصنع فلسفةَ الألم. والألَمُ ضروري للتطهر والتطهير، وإذا تكرَّسَ الألَمُ واقعًا ملموسًا، سيتحول إلى ندمٍ، والندمُ هو الرُّكن الأعظم في التَّوبة.

كيف يُولَد الحزن؟. إنه كامنٌ فِينا. إنه الذهب بين التراب في المناجم الواقعة تحت الأرض.  ونحن العُمَّال الفقراء الذين نُنقِّب في المناجم. نعيش تحت الأرض، ونموت تحت الأرض . لا أحدَ يَسأل عَنَّا في حياتنا، ولا أحدَ يتذكر وجوهنا بعد موتنا.

نذهب إلى المعارك، وقد لا نَعود. وإذا عُدْنا، لن نَعود كما كُنَّا. كل شيء فِينا يتغيَّر. خلعنا وجوهنا، وارتدينا الأقنعة. الأقنعةُ تريحنا، لأنها تُخفي حقيقتنا. الحقيقة دائمًا صادمةٌ ومُرَّة. نَحْنُ الوهمُ، نُقاتل عَدُوًّا وهميًّا، ونفرح بالانتصار عَلَيه. وفي الحقيقة، إن الوهم انتصر علينا، فصارَ الخيال واقعًا جديدًا لنا. أجدادُنا صنعوا الانتصارات، ونحن أبناء الهزائم. لذلك لا تاريخ لنا إلا الماضي. ولا إنجازات لنا إلا ما حقَّقه أجدادُنا. نحن مهزومون، وأعلامنا مُنكَّسة، لذلك نحن نرفع عظام أجدادنا أعلامًا.

كُلُّ شعور إنساني إذا تَحَوَّل إلى موقف فكري، صارَ فلسفةً. والحزنُ إذا انتقلَ مِن طَور الشُّعور إلى طَور المعنى، صَارَ فلسفةً. أنا ضِد الحزن حِين يَتحوَّل إلى مَحرقة، فعندئذٍ، سنقضي وقتنا في البحث عن كبش المحرقة. فليكن الحزنُ هو الماءَ المُقطَّر. قد لا نستسيغ مذاقَه، لكنَّ وجوده ضروري في حياتنا. وليكن الحزن سلاحنا في مُواجهة الوحوش الساكنة في قلوبنا. وليكن الحزن خُطةً لإحياء ما ماتَ فِينا.هكذا،يَتحوَّل الحزن مِن الوهم إلى المعنى، ومِن رَدَّة الفِعل إلى الفِعل.

ينبغي تحويل الحزن إلى قوة دافعة للإبداع، كما أن الموت ينبغي أن يَدفعنا إلى استثمار كل لحظة في الحياة. الحزنُ هو المعنى التكويني الذي يَصنع إرادةَ القويِّ. والقوي قوي بذاته، يصنع ظروفه بنفْسه. لا ينتظر الآخرين كي يضعفوا أو ينهاروا، ويبني مجده على انكسارهم، وإنما يكون عملاقًا قاهرًا للعمالقة، وليس عملاقًا بين أقزام. القوي لا ينتظر أحدًا كي يُساعده ويمد له يد العَون، ولا يتوقع شيئًا من أحد، ولا يُعوِّل على أحد. يمشي في طريقه ولا يلتفت لأنه يعرف مساره بدِقَّة. إنه يعرف نقطة البداية ونقطة النهاية.

قد يكون الإنسانُ حزينًا، ولا يَعرِف أنه حزين. هنا تتجلى مُتعة الاكتشاف، وتتَّضح أهمية العثور على المُدهِش في العناصر اليومية الميتة. كيف نعثر على معنى النظام في فوضى الاستهلاك وجنون العناصر المادية العمياء؟. ينبغي التَّسلح بالحزن الذي يشعُّ في ظُلمات قلوبنا. الحزنُ هو الفأسُ التي تُعيد ترتيب أشجار المقبرة. وكما تنبعث طاقة هائلة من انشطار الذَّرَّة الصغيرة، سينبعث معنى الحياة من انشطار قلوبنا الصغيرة. هذا القلبُ الصغيرُ الذي يضخُّ الدماء في أنحاء الجسد، يَمتلئ بالحزن والموت، لكنَّه يبثُّ الفرحَ والحياة في الجسد. والجسدُ هو العالَمُ الصغير الذي يُلخِّص تفاصيلَ العالَم الكبير، الذي نعيش فيه، ونموت فِيه.

 

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم