صحيفة المثقف

محمد فتحي الشنيطي .. المفكر الموسوعي المغمور (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن شخصية محمد فتحي الشنيطي، والذي وصفناه بالمفكر الموسوعي المغمور.. نعود هنا في المقال الثاني عنه، لنتساءل سؤالاً هاماً ومحوريا ألا وهو: إذا كان الدكتور الشنيطي من الرعيل الأول من أساتذة الفلسفة بجامعة القاهرة، الذين حظوا بشرف نيلهم أعلي الدرجات العلمية، وهي درجة الدكتوراه من أكبر جامعات العالم آنذاك، وهي جامعة السوربون .. وإذا كان الدكتور الشنيطي من الأساتذة الذين خلفوا لنا كتباً وبحوثاً (مترجمة وغير مترجمة) في مجالات متعددة في كافة فروع الفلسفة كافة .. فلماذا أغفله الباحثون والدراسون حتي أننا لم نجد له نجد معلومة تؤرخ عنه ولو لصفحة واحدة له علي صفحات جامعة أسيوط أو شبكة الإنترنت؟

أتصور أن بداية الإجابة ترتبط بمدى التغير الجذري الذي يمارس به المفكر دوره في الحياة الفكرية في عصره، ومدى الأثر العميق الذي يحدثه فى مجرى الحياة الفكرية التي ينتسب إليها، من حيث قدرته على خلخلة الثوابت الجامدة وزعزعت الأفكار السائدة، وتأسيس نوع من الانقطاع الابستمولوجى بين المعارف القديمة من جانب، والمعارف الجديدة من جانب آخر، مستهلاًُ الجديد الجذري الذي يطرح سؤال المستقبل بقوة على الفكر، نفياً لتقاليد الأتباع وتأسيساً لقيم الابتداع.

وتتجسد فى حضور هذا النوع من المفكرين نقاط التحول الحاسمة في تاريخ الفكر الإنساني، حيث " لا توجد استمرارية فى منهجية المفكر، بقدر ما توجد قطائع واستحداثات لا تنتهى".. هذا النوع من المفكرين يهب على مجتمعه بما يشبه العاصفة الجائحة التى تتغلل فى كل الأركان، فلا تبقى شيئاً على حاله الذى كان عليه، حتى فى دائرة القوى والتيارات المناقضة والمناوئة للتحول والتغير. فحدة العاصفة التجديدية التى تندفع بها رؤية هذا المفكر لا تقل عن الاتساع الممتد لتجلياتها، والأثر العميق لمتولياتها، والتغلغل الناتج لنوافذها؛ خصوصاً إذا كانت اللحظة التاريخية مهيأة للتغير الجذري, دافعة إليه ومتجسدة فى الرؤية الشاملة للمفكر، ومتحققة بها فى الوقت نفسه.

عندئذ يكون الأثر التجديدي لإنجاز هذا المفكر شبيها بالزلزال، الذي يحدث تأثيراً جذرياَ فى صميم بنية العلم السائدة، وتكون حدة الاستجابات المتعارضة لهذا الإنجاز التجديدى في تتابعه المتصل أو تصاعده المستمر، متوازية مع عمق الأثر الذى يتركه في مجالات فلسفية كثيرة، تصل بين دوائر عديدة تشمل المجتمع المصري بأسره.

وبقدر عمق الأثر الذي يحدثه هذا الإنجاز من حيث جذريته ونفاذ تأثيره إلى صميم الأنساق، والأنظمة، والعلاقات في بنية الفكر السائدة، يظل هذا المفكر حياً في الذاكرة العامة، باقياً كالعنصر المستفز للوعي، مثيراً للأسئلة التي لا يتوقف ما يتولد عنها من أسئلة على امتداد العقود، والتي لا تكف عن وضع هذا المفكر موضع المسألة بالقدر الذي لا تكف به عن إعادة قراءة إنجازاته وتأويلها، أو تفسيرها بما يتيح نوعاً جديداً من الأجوبة الفلسفية التى لم تخطر ببال أحد.

وقد كان " زكي نجيب محمود" و" عبد الغفار مكاوي " وحسن حنفي" و" محمد مهران" على سبيل المثال لا الحصر من هؤلاء المفكرين الذين عاصرهم الدكتور الشنيطي عن قرب ؛ حيث كانوا من ذوى الحضور العاصف الذي أقاموا الدنيا، ولم يقعدوها مرات ومرات في مضمار التفلسف .. فكانت أطروحاتهم، ورؤاهم الفلسفية، أكثر جذرية وحدية من اطروحات الدكتور الشنيطي، كما ظلت أفكارهم أعمق تأثيراً، وأكثر قدرة على الإثارة من أفكاره، الذي غلبت عليه الترجمة أكثر من التأليف والكتابة .

أنا لا أنكر أن الدكتور الشنيطي مثل زكي نجيب محمود وزملائه الآخرين (الذين عاصرهم واحتك بهم)، متمرداً على القديم الجامد الذي يفرض منطق الأتباع، بدليل أن أبحاثه الفلسفية، تؤكد أنه كان يبحث فى مشكلات، وقضايا فكرية، أظهرت نتائج جيدة آنذاك في زمنه .

وليس من الضروري أن أقوم بإعادة تعديد بقية إنجازات الدكتور الشنيطي فى الفلسفة الحديثة والمعاصرة (كما بيناها في المقال الأول)، كما أنني لست فى حاجة أيضاً إلى تأكيد تعدد أدواره فى بحوثه الفلسفية الأخري، فكل ذلك تأكيداً للأثر الجذري الذي يصله بأبناء جيله.

ومع ذلك فإن تقييم عبقرية الدكتور الشنيطي الفلسفية، أصعب بكثير من تقييم عبقرية زكي نجيب محمود، وأقرانه الآخرين؛ ولعل مرد ذلك يرجع إلى أن أغلب كتب وأبحاث الدكتور الشنيطي، لم تكن مبتكرة وأغلبها كتب مترجمة (كما قلت من قبل)، وقد علمتنا التجارب أن مؤلف أي كتاب ينتظر من قرائه الثناء والمديح، إلا أن مترجم أي كتاب يتمني أن يتحاشي التقريظ والنقد.

أنا لا أشك ولو للحظة أن حب الدكتور الشنيطي للفلسفة وحماسته لها، لا يحتاجان إلى جدل، فمن المؤكد أن أنشطته تدل على أنه رجل فكر رائع، ولكن هل من الممكن أن ننسب إليه ابتكاراً فلسفياً واحداً، باستثناء تلك التى تحتوى عليه بعض بحوثه الفلسفية ضمناً. فلكي ينسب للمرء ابداع فلسفي لا يكفى أن يقوم به، بل يجب عليه أن يفسره، وأن يثبت بوضوح شديد أنه على استعداد لذلك، ويجب أن يكون مستعدا للدفاع عنه؛ بل إن الاكتشاف لا يتم ولا يكتمل إلا إذا تم تنفيذه وأصبح واقعة حقيقية. أما أن فكرة فلسفية تراود عقل المفكر، فهي كبذرة النبات لا تكون كافية، إلا إذا أخرجت لنا ثماراً .. ولقد كانت أفكار الدكتور الشنيطي؛ مثل البذور التى عجزت عن النضج والإنبات، وظلت رؤاه الفلسفية مدفونة فى بحوثه الفلسفية.

وعلي فرض أن الدكتور الشنيطي يملك بالفعل أفكاراً فلسفية مبتكرة، فإنه يظل فى ذلك بعيداً عن احتلال مرتبة هامة جداً فى تاريخ فكرنا العربي المعاصر.

والأهم فى تقديري هو مواجهة السؤال الذي فرض نفسه فى البداية، ولا بد أن يفرض نفسه في النهاية؛ أعنى السؤال الذي يرتبط بأسباب تراكم النسيان على بحوث الدكتور الشنيطي الفلسفية بالقياس إلى بحوث زكي نجيب محمود على سبيل المثال وأقرانه ؟

أحسب أن الإجابة أصبحت الآن واضحة من حيث ارتباطها بدرجة الثورة الفلسفية الجذرية التى لم تصل إليها أعمال الدكتور الشنيطي بالقياس إلى زكي نجيب محمود الذي وصَفَه الأديب الكبير "عباس محمود العقاد" بأنه "فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة؛ فهو مفكِّرٌ يصوغ فكره أدبًا، وأديبٌ يجعل من أدبه فلسفة".

أنا لا أنكر أن كتابات الدكتور الشنيطي فيها من الايجابيات ما يذكر لها بالقطع، ولكننا إذا وضعناها تحت مجهر الابستمولوجيا المعاصرة؛ وخاصة ابستمولوجيا " جاستون باشلار" القائمة على فكرة القطيعة الابستمولوجية، نجد أنها لا تستطيع أن تخلف لنا الأثر الجذري الذي تركته أعمال زكي نجيب محمود، ولذلك ظلت بحوثه الفلسفية بعيدة عن خلق قطيعة ابستمولوجية؛ كتلك التي أحدثها زكي نجيب محمود (كما قلت) والذي  نجح في تقديم أعسر الأفكار على الهضم العقلي للقارئ العربي في عبارات أدبيَّة مشرقة، وفكَّ أصعب مسائل الفلسفة، وجعلها في متناول قارئ الصحيفة اليوميَّة، واستطاع بكتاباته، أن يُخرج الفلسفة من بطون الكتب، وأروقة المعاهد، والجامعات، لتؤدِّي دورها في الحياة.

أنظر معي عزيزي القارئ إلي الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه العبقري "رؤية إسلامية"،والذي يقول فيه تلك العبارة: "يَكون القَولُ تَشاؤُمًا لَو أنَّنا زَعمْنا أنَّ طاقةَ الإبْداعِ فِينا قَدِ اقتُلعَت مِن نُفوسِنا اقتِلاعًا، لكنَّ حَقِيقةَ الأَمرِ فِينا، هِي أنَّ تِلكَ الطَّاقةَ في كُمُونٍ يُشْبهُ كُمُونَ الحَياةِ فِي حَبةِ القَمْح وفي نَواةِ التَّمْر، حتَّى إذا ما شاءَ لها فالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى أنْ تَنزاحَ عَن مَحابِسِها أقْفالُها تَوقدَتِ الشُّعلةُ مِن جَدِيد، وأوَّلُ خُطوةٍ على الطَّريقِ هِي أنْ تُنفَخَ فِينا إِرادةُ أنْ نَحْيا، ثُمَّ يُضافُ إلى ذَلِك إِرادةُ أنْ تَكُونَ حَياتُنا حَياةَ السَّادةِ لا حَياةَ العَبِيد: سِيادَةً فِي العِلْم، سِيادَةً فِي الفِكْر، سِيادَةً فِي الأَدبِ والفَن، سِيادَةً بالإِباءِ وبالكِبريَاء"... فأين الدكتور الشنيطي من هذا الكلام مع احترامي الشديد له فيما كتبه.

ومن  جهة أخري، فإنني لا أنكر أن الدكتور الشنيطي، قد أخذ من كل تجارب السابقين عليه بطرف في مضمار التفلسف، واهتم بالرجوع إلى نصوص كبار الفلاسفة الأوربيين والأمريكيين اهتماماً خاصاً، ولكنه ظل في المنطقة الهادئة من الفكر والإبداع، تلك المنطقة التي لا تعرف الحدية في رفض القديم، أو الجذرية في التجديد الفلسفي، فكان نموذجا للوسطية الفلسفية التي لا تثير العواصف ولا تهيج البراكين ولا تتحول إلى زلزال، وإنما تمضى في يسر إلى هدفها الذي يكمل مهمة غيرها .

لقد كانت بحوث وكتابات الدكتور الشنيطي كنجمة فى تاريخ فكرنا العربي المعاصر لمعت فجأة واختفت؛ وذلك لأنها لم تحول مجرى التفكير الفلسفي السائد والمنقول إلي تفكير ابداعي يحمل رؤية خاصة تتوائم مع مستجدات واقعنا الفكري . ومن ثم لم تُحدث تلك النقلة الكيفية فى أدوات البحث الفلسفي، وإن استخدم الدكتور الشنيطي وقضايا ومشكلات فلسفية تناسب حركة الحياة الفكرية فى عصره.

ولذلك أرجو ألا أكون جائراً حين أقول في نهاية هذا المقال بأن الدكتور الشنيطي لم يكن فيلسوفاً مبدعاً، بمعنى أنه أتى بنظرية فلسفية فى عصره، ولكن الانصاف يقتضى على الأقل أن نفرد له مكانة هامة فى تاريخ الفكر العربي المعاصر، وذلك لكونه في اعتقادي يمثل "العدسة الفلسفية" المجمعة التى عملت على استقطاب تيارات فكرية فلسفية عديدة من أوربا كانت متأججة في عصره وكان من فرط تأثره بما يدور حوله أن تمكن من تقديم كتاباته فلسفية (مترجمة ومرلفة) للقارئ العربي على أوضح ما تكون عليه صوره لجملة المذاهب والنشاطات الفكرية التى برز فكرنا العربي المعاصر من بين ثناياها.

هذا هو تفسير الابستمولوجى لأسباب تراكم النسيان على بحوث الدكتور الشنيطي الفلسفية، وهو أنه لم يتخلص كلية من فكر الفلاسفة الذين ترجم لهم، وبالتالي لم يحقق التغير الجذري كما حققه زملائه المعاصرين. وبالتالي لم تبرح بحوثه الفلسفية أرض فكرنا العربي الحديث لتحدث قطيعة، أو ثورة، تنتج عنه أمر جديداً كل الجدة.

إن تعطش الدكتور الشنيطي الشديد لمعرفة كل أشكال الفكر الفلسفي في شكل ترجمات رائعة، قدمها للمثقف العربي، ولبلوغ سر الكمال بالترجمة الفلسفية، كان من شأنه القضاء على أعماله المؤلفة كلها تقريباً بأن تبقى ناقصة دون أن تتم، وتأخذ طابع التروي، لأنه (رحمة الله عليه) كان يرى أن النقل دون بحث أو دراسة، والعمل دون معرفة، إنما هي عملية أشبه ما تكون بعمل صاري السفينة غير جديرة بالفلسفة، لأن كل شئ يجب أن يكون قد قِيس بقياس العبقرية، ودُرس دراسة مستفيضة. ولا يجب البدء في عمل أى شئ لم يبحثه العقل الجمعي والتأثيرات الفلسفية؛ وإن انتزاع كل قيمة من القيم من الإلهام الفلسفي الواعي يجب أن يكون هدف المفكر، وبهذا الشرط تمتزج الدقة بالحرية والحقيقة مع الجمال.

واكتفي بهذا القدر وأخيراُ أقول : فليغفر لي أستاذي الدكتور الشنيطي جرأتي ونقدي له بهذا الدرجة، فأنا أعبر عن حقيقة واقع كان يعيشه أستاذنا الدكتور الشنيطي، ولم يستفد منه ومن أقرانه، فانفلت به لساني رغم عني..

علي كل حال في النهاية أقول : لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون علي تقديم رؤية ضافية شاملة ومستوعبة لكل مقدمات شخصية الدكتور الشنيطي بأبعادها الثرية، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي الجانبين الإنساني والفلسفي لمفكر، مثل الدكتور الشنيطي الذي خلف لنا أعمالاً كثيرة ومتنوعة، وأضحي يمثل نموذجاً متفرداً لأستاذ جامعي وأكاديمي وموسوعي، نذر حياته بطوله وعرضه لخدمة الفكري الفلسفي والثقافة العربية، وأثري حياتنا الفكرية بكل ما قدمت من جهود.

وفي النهاية فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي هذا الأستاذ الاكاديمي حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة، فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب أساتذة لا يعرفون قدر هذا الأستاذ الاكاديمي، فتحية طيبة للدكتور الشنيطي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

رحم الله الدكتور الشنيطي، الإنسان، والأستاذ الاكاديمي، والموسوعي المغمور، وإن كان جسده قد فارقنا، فإن فكره سيظل باقياً، ما بقيت الحياة علي وجه الأرض . ولا يسعني إلا أن أقول مع أستاذنا الدكتور عاطف العراقي أن أخاطب روحه في السماء قائلا: اذكريني، وذلك بعد أن انتشر الفساد الفكري والظلام الثقافي، ازدادت فيه طرق وأساليب جيوش البلاء والظلام، بحيث أصبح الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان، وإن كان أكثرهم لا يعلمون .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم