صحيفة المثقف

المرتزقة .. رقيق الحروب

سامي عبد العالسياسات المرتزقة ظاهرة ما بعد حداثية بامتياز رغم جذورها القديمة، لقد أخذت طابع العالم الراهن. كلُّ شيء مُسطَّح بلا أعماقٍ ولامِع لدرجة التيه، واقعاً بذلك على مرمى اقتلاع الجذور ونزع الهويات وتعويم الأدمغة ونزع الإنسان من أية ثوابت إلاَّ بقايا الحياة المعلقة في فراغ سياسي. والظاهرة وليدة الحروب وصناعتها الثقيلة، فكما أنَّ هناك آليات واستراتيجيات تستعملها الأطراف المتصارعة، فكذلك تتطلب أدوات بشرية لحسم الصراع وتغليب القوى على الأرض. ظاهرة ليس يطويها على" قمقم الأسرار" أكثر من الحيل والمؤامرات التي تكتنفها. ولا تتحين فرصاً مواتية إلاَّ لاستعمال البشر( بمبررات لقيطة) لتحقيق المآرب، وكأنَّ الواقع يتطلب كافة الأسلحة دون تفرقة بين المواقف.

الارتزاق هو القيام بمهام معينةٍ طالت أم قصُرت، سهُلت أم تعقدت، برزت أم خفيت، نظير مقابل يجري التفاوضُ حوله بين الأطراف. يضغط كل طرف على الطرف الآخر لجنى أعظم قدر مما يتحقق. وهو ليس تفاوضاً، بل بالأحرى- لدقة الفكرة-  يعدُّ مساومة، والاثنان يعلمان أنهما يساومان بأهداف غير نظيفةٍ لا أقول قذرة. لأن المقابل يعني ضياع شيء ثالث هو الأصالة والقيمة والدفاع عن إنسانيتنا الحرة. كما أن المساومة نوع من تهديم المخاوف والحدود، بحيث يصبح كل شيء مباحاً، كله ماشي.

يقول أطراف الارتزاق: أنا أساومك على استعمالي غير الإنساني لأجل أن تحصل أنت على ما هو غير إنساني بالمثل. ولن أكون معك أقل وقاحةً مما كنته أنت معي، وإلاّ لو أنَّ هدفاً أردت انجازه كان مشروعاً ما كنت لتستعملني بطريقة غير مشروعة. ولذلك سأطلب منك مقابلاً يغسل العفن الذي ران على الضمير وبالإمكان الاستعانة بالمساحيق والمنظفات العولمية لتبرير قدومنا (المرتزقة) لمناطق الصراع، مثل منظفات حقوق الإنسان وحفظ الأمن والسلام وحماية المصالح والمكتسبات الديمقراطية!!

هكذا يكون الوضع من النهاية، من أخر نقطة على السطر، ليس ثمة لف ولا دوران، على المرتزقة توفير اللف والدوران إلى المهام الموكلة إليهم. ونهاية السطر تعني هات ما عندك وسأقول ما عندي بكل وضوحٍ، وبالتالي يمحى أي حضور لاعتبارات أخرى سواء أكانت أخلاقية أم انسانية. تسقط جميع الاعتبارات بمجرد هات من الأخر.

كل مساومةٍ من هذا القبيل " تبرئة مشبوهة " بعين الوقاحة وجها لوجه، وهو المعرفة المحددة سلفاً تحت عين الاستغلال المتبادل ويمثل الطرفان أنَّهما لا يدركان، لا يعلمان. والغريب كونه استغلالاً يتم بدم بارد مثلما تأتي مشاهد الحروب والانخراط فيها بكل دماء باردة. والتمثيل هو جوف الارتزاق: فالمرتزقة يمثلون بأنهم يقومون بتبني قضية جوهرية بينما يؤدي مستعملوهم طقوس إنسانية في الظلام، فاستعمال المرتزقة يقال إنَّه لأسباب إنسانية وإنَّه ليس هو الهدف، بل انقاذ الأوضاع قبل فوات الأوان.

السياسة هي الكهف الذي يشهد عقد الصفقات، لأن (المرتزَق) يفعل أي شيء حصولاً على الثمن و(المرتزِق) يفعل كذلك أي شيء لإتمامها، لأن هدفه أبعد ويستحق المغامرة. يشترك الاثنان في هذا الـ" أي شيء"... من الطرفين لا حدود هناك لما نتصور. ولذلك نحن نركز فقط على الفاعل الصغير( المرتزقة الصغار) دون الانتباه لأفعال المرتزِق الأكبر. والـ" أي شيء" في الواقع عبارة عن الاتيان بالمفاجأة والمغامرة، وربما تاريخ المرتزقة المعاصرين يمثل أعمق تمثيل المغامرة بأي شيء مهما يكن. فالدول التي تستعمل المرتزقة تفعل كل الحيل والأفاعيل للحصول على ما تريد، وهؤلاء المرتزقة – في موقف المساومة- يفعلون ما يراد لهم فعله. وقد يقال إن هناك حدوداً للارتزاق، لكنها بالطبع حدود واهية.

الارتزاق موقفٌ سياسي حتى بالنسبة لأنظمة القوى الكبرى، فهي قائمة تاريخياً على اللعبة المزدوجة: أَفعَلُ ما أريد بأيدي غيري، وأقف بعيداً عن المشهد واحصل على نصيب الأسد من الغنائم. المعضلة أننا لا نصدق كيف تكون قوى عالمية وترتزق بحكم ارتباط الارتزاق بالحاجة والمآرب الصغيرة. إن هناك دولاً كأمريكا وإسرائيل وأغلب دول الغرب روسيا وفرنسا وانجلترا تعيش سياسياً على هذه المواقف البرجماتية.

الدول التي توظف المرتزقة هي دولة ارتزاق بالدرجة الأولى، كل ما في الأمر أنها غير مرئية وتدير الأوضاع من وراء حجاب. دول لا تقع في الحُفر التافهة فتنجزع أقدامها وتفقد سطوتها، لكنها تتصدى لما تقارعه بالخطط المحكمة واللعب بأكثر من موقع. وما نشاهده من إرهاب واستبداد وتجارة حروب ونفوذ وأسواق عابرة للحدود .. كل ذلك يتم بوقت واحد، يخدم الممسكين بخيوط اللعبة. ليس الوضع تناقضاً لو فكر القارئ بمنطق جزئي، لكن صراع المصالح الضيقة (يصب) في المصلحة الأكبر. فأمريكا توجد في تفاصيل الحدث ونقيضة، تدعم الدولة المستبدة والمتمردين عليها، تصنع لاهوت الحروب وتبني دور العبادات.. وبصدد هذه الأطراف تستفيد من الجميع وتقف هنالك بمنأى عن الانزلاق!!

ليس صحيحاً كون أمريكا تؤيد هذا ضد ذاك أو العكس، أقول ليس صحيحاً على الدوام، لأنها- إذ أردنا توضيحاً- تمسكُ بخيوط المشهد ككل. وحينما يصرخ  البعض بأنها الشيطان الأكبر، وأنها ألة حروب لا تنتهي، وأنها استعمارية... فذلك كله غير صحيح بالمرة. الأقرب للصحة أنها برجماتية كونية تعيد توجيه الميتافيزيقيات والأيديولوجيات في جميع المناحي، لا تعترف بالثنائيات التقليدية: خير/ شر، حياة / موت، كراهية/ حب، إله/ إنسان، حرية / استبداد... هي تكون حيث توجد منافعها، وبخاصة المنافع الآتية من الأعمال التي تتعارض مع توجهاتها وحياتها الديمقراطية. كذلك هي تختفي حين توجد بقوة وعندما تصبح حاضرة لدرجة الظهور.

أمريكا تلعب ألعاب المقدس في الحضور والغياب، وترسب لدى أتباعها وأعدائها على السواء قدرات فوق قدراتها، ليس ذلك خبط عشواء، لكنها تستثمر الهيمنة الناعمة والخشنة معاً. بضربة واحدة هي تحل وتختفي وتتلاعب بالجميع في غير حالةٍ.

ولم تكن أنظمتها المتعاقبة بمنأى عن ثلاثة اتجاهات ..

أولاً: شن الحروب وإثارة الصراعات في المناطق العربية لحصد الثروات من جيوب الشعوب والأنظمة السياسية ومن الثوار والمعارضين معاً. كانت حروب أمريكا بالمنطقة العربية تشغيلاً لمنظومات المرتزقة على نطاق بعيد، لم يكن ما فعلته بالعراق الحرب الأولى والثانية ليتم دون هذا الارتزاق. تدفق الكثيرون منهم وتولت شركات كبرى على تدريبهم وانشاء معسكرات في دول أخرى تمهيداً لضخ حشودهم على خريطة العراق المنهك من الحرب الإيرانية ومن الحكم الاستبدادي.

اجتاح الجيش الأمريكي العراق كجراد من المرتزقة، لم يكن يعنيه إلاَّ الهيمنة على مقدراتها، وتصرف الجنود بهذا المنطق الارتزاقي الوحشي، هناك نهب لكل ما يجدونه وهناك تصفيه للرموز وتدمير الآثار العراقية الضاربة في أعماق التاريخ. ولم يترك الجيش الأمريكي العراق إلا بعد أنْ حقق أغراضه ببث الفوضى وتفكيك المؤسسات وجلب المرتزقة من كل حدب وصوب.

ثانياً: تكوين مجموعات المرتزقة (الأساليب والخطط وكيفية الإدارة والقيادة والاغراق في الجماعات والتنظيمات). لم تخرج أمريكا شكلياً من مناطق الصراع في الشرق الأوسط إلاَّ بعد أن زرعت المرتزقة في كل مكان. وغذَّت لديهم نزوع الغلبة واجتياح الأنظمة بتقوية المظلومية لديهم. وهذا الارتزاق اختلط بمبادئ الدين والأيديولوجيا والسياسة، فكان سهلاً أن تنجرف الجماعات الدينية لمحاربة الأنظمة الحاكمة وتغنم بعضَ المكانة في المجتمعات. وهي لا تدري أنها بمنطق القوى الكبرى خاضعة للاستعمال، وأن أفعالها – كما حدث مع داعش والإخوان وجماعات العنف- تصب في حصالة المآرب السياسية، بالإمكان تجنيدها في هذا الإطار.

الارتزاق هنا ليس إكراها، لكنه اختيار ملتوٍ، يدرك الارهابيون أنهم يؤدون مهاماً تجاه الدين بينما تستطيع القوى توظيفهم على خريطة أكبر. هم غارقون في التفاصيل الصغيرة حول اقتحام المدن وتطبيق الحدود وحف الشوارب وتعيين أمراء الولايات والمكاتبات السرية في حين ترسم القوى الكبرى المسارات. لأن النتائج في النهاية ستصب لمصلحتها، فالنفط والثروات والهيمنة الثقافية وتجارة الأسلحة ستكون أشياء رائجة.

في عهد أوباما، قالت الإدارة الأمريكية إن عشر سنوات كافية للقضاء على الدواعش، وفعلاً تمَّ كسر شوكة الدواعش حربياً بتحرير بعض المدن العراقية والسورية، غير أن أوباما لم يقل متى ستنتهي الفكرة الداعشية، لكونه يغذيها، ولكونها فكرة باقية، تتناسل وتخرج أجيالاً وراء أجيال. إذ يمكن احيائها وإدارتها بأساليب الارتزاق. وقد حدث بالفعل لقد حولت أمريكا العالم إلى مخازن إمداد للجماعات الإرهابية، من يُرد الجهاد، عليه الانخراط في الصراع. فهو يظن كونه جهادياً، بينما تعتبره أمريكا مجرد رقم مستعمل للاتصال بالواقع وإدارة الأحداث.

ثالثاً: استعمال المرتزقة في الحروب والصراعات المسلحة. وهذه المهمة تُركت للوكلاء الإقليميين الصغار، لأن المرتزقة يحتاجون رعاة من جنس أيديولوجياتهم. فالإرهابيون تعوزهم أخيلة الخلافة لتختمر بحواشيهم وتفرِّخ في جيوبهم الفارغة، حين يتصورون دولتهم المستقلة التي تبتاع الثروات والبشر وتسبي النساء والرجال وتراكم العوائد في خزائن مقفلة عليها خازن من جهنم. وسيكون الخلفاء(أمراء التنظيمان) أشباحاً تملأ الخيال بكل استيهام ممكن طوال الأحداث. ولذلك ليس غريباً أن تنصب أمريكا خليفة لهذه الجماعة أو تلك. والتنصيب هنا هو صقل الأحداث وتضيق الخيارات ورعاية الزعماء الدينيين كما فعلت أمريكا مع ابراهيم بن عواد ( أبو بكر البغدادي) حينما كان في سجن أبي غريب. حيث لاحظت المخابرات ميوله للزعامة والقيادة ولعب كرة القدم، فسربت إليه الفكرة وتم إعداده لخلافة دولة العراق والشام.

وعندما لا تريد أمريكا الظهور تترك الخرائط والعتاد البشري لدول إقليمية (دول ودويلات)، وهذه الدول تجيّش للجماعات الإرهابية كافة الرموز المطلوبة...  من فكرة الجهاد حتى الإفتاء بدخول الجنة والنار وتكفير المناوئين. كما حدث مع دويلة الخليج الشهيرة التي تقف على أكبر مخزون للغاز في المنطقة وتقف بالمثل على آبار الإعلام الوظيفي. المصدران( النفط والاعلام) غارقان في تحريك القطعان الدينية لمسح الأرض واحداث الفوضى في المنطقة العربية.  فغدا" البترو إعلام" مع تحولات المجتمعات العربية ذراعاً خلفياً يشد خاصرتها نحو الفوضى والتخلف.

" البتروإعلام" المرتبط بـ"البترو جهاد" و" البترو ثقافة" و" البتروسياسة"... يخدم أسياداً يحركونه ويرسمون المراحل ويظهرونه براقاً تحت إبط الشعوب. إن فضائيات عربية تستحل الدماء والقتل تحولت إلى منصات تكفيرية مرتزقة. حتى وإن كانت ثرية بدرجات فاحشة، فهي متوحلة في الارتزاق حتى أذنيها. لأنها تدفع لمن يجاهد المؤمنين قبل الكفار، إنها مجرد مخالب وقحة لطيور الظلام القابعة بأعالي البحار انتظاراً للانقضاض على المجتمعات. وليس دور البترو إعلام سوى ضرب التماسك الاجتماعي وتهديم الوعي وتنويم الشعوب حتى تسهل العملية.

وقد كانت أحداث الربيع العربي فرصة سانحة لتجريب الكتل البشرية الفارغة من الحياة والتي يكون ولاؤها الأول لمن يدفع ويخدع. والجديد أنها كتل سائبة عضوياً تملأ الحفر الغائرة في أبنية المجتمعات. والملاحظ كونها قد تصطف باسم الأيديولوجيا، فالجماعات الإسلامية مدمنو الارتزاق إلى وقت ربيعي ليس بالبعيد. وظلت تحارب بأسماء مختلفة في سوريا والعراق واليمن وليبيا... وطالما لا تعترف بالوطن ولا تنتظره في المستقبل، فإنها تصبح قنابل بشرية تنفجر بأي منطقة.

لكن تركياً تمثل دولة الارتزاق الفاحش منذ نشأتها العثمانية تحت عمامة الخلافة، وكأن نظامها السلطاني أبى إلاَّ أن يظل وفياً للنشأة والتكوين ثم التواتر حتى الآن. لم تمر أحداث على الدولة العثمانية دون قنص ومساومة وأخذ الغنائم حيثما وطئت قدماها. فعندما احتلت مصر نهبت ثرواتها الرمزية والمادية... لقد جرفت المجتمع من أرباب الصنائع والتجارة والفنون وتم نقلهم إلى الأستانة.

ليس خافياً أن ذلك قتل للمجتمعات التي تحتلها وترتب عليه تدهور أحوال الصناعة والفنون والتجارة وأوكلت الدولة العثمانية أمور البلاد التي احتلتها للجهلة وأنصاف المتعلمين وتلاعبت بتكوينها الديموجرافي لأجل تغليب الطوائف الموالية.

ظل هذا ديدن  الدولة العثمانية حتى اللحظة، كانت بالأمس القريب في سورياً، فهي "الوكيل اللاهوتي السياسي" الذي تم مبايعتك بشكل مزدوج.

1- من الجماعات الإسلامية، إذ انطلت عليها العباءة العثمانية بمسوح الخلافة وبخورها وأشباحها. وأردوغان لم يقطف ثمار اللحظة الراهنة عبثاً، بل كم بيّت النية وأعد العدة التاريخية جرياً وراءها. لم يترك فرصة للظهور بعباءة الخلافة في أي موقف إلاّ و إقتنصها. فأصبحت لديه الدربة على أرسال رسائل للوعي العربي الإسلامي الجاهل بالخلفيات والأحداث.

كان أردوغان يندد من أعلى الأناضول بسياسات إسرائيل التعسفية تجاه الفلسطينيين وهو الذي قدم خدمات يضيق عنها السياق لدولة الاحتلال، وكان يعلن اعتراضه على سياسات أمريكا هو الذي يضع يده في يد قادتها لزيادة حجم التعاون التجاري والعسكري بين تركيا وإسرائيل. المهم أن يكسب الجولة في وعي المسلمين، لأنه يعرف أنهم الكتلة الحرجة التي تمر خلالها المكاسب والثروات  إلى اسطنبول كما مرت في السابق. لم يكن أردوغان حريصاً على شيء قدر حرصه على حجم الاستثمارات والإتاوات التي تأتية من المسلمين بالتبادل التجاري وسيولة حركة البضائع التركية. ولم يخلو ماركت عربي واحد من أطنان البضائع التركية بدءاً من الأجهزة الكهربائية والإلكترونية وليس انتهاءً بالملابس الداخلية. حتى أصبحت السلع التركية رمزاً للنفوذ التركي في المنطقة وبخاصة ليبيا ومصر.

ولا يفوتنا أن اردوغان استعمل الرصيد البشري( الاسلامي والعربي) في تخويف الغرب كي يضم بلاده إلى الاتحاد الأوروبي، فلكم وضع نفسه على فوهات العالم العربي تجاه أوروبا موهماً قاداتها أنه يمسك الشرق بين أصابعه يقلبه كيفما شاء. وفي رسائل برقية زعم أنه المنصف للإسلام والمتشبث بتاريخه حتى النهاية وأنه يقدم نموذجاً حضارياً يضاف إلى الحضارات العالمية. والاشارة لا تخطئها العين بكلامه الضمني باعتباره خليفة تحت الطلب!!

فإذا كان الغرب يريد شيئاً من المسلمين( لو انضمت تركيا إلى الاتحاد الأوروبي)، فإن أردوغان سينجزه بجرة قلم. الوكيل الحصري للمهام التي تريدها دول الاتحاد من أية دولة عربية. وقد جعل مجتمعات العرب صفاً واحداً داخل عباءته، تؤتمر بأمره وتنتهِ بزواجره وعقابه. مثل المدرس الذي يحرص على اصطفاف التلاميذ دخولاً وخروجاً وهو القائد الأعلى لحركتهم وسكناتهم.

وذلك بالطبع لا يمنع من عمالته الآتية من الخارج، شريطة أن يدخل الاتحاد الأوروبي حينذاك. ونسى أردوغان كلامه حول اسرائيل ومواقفه الداعمة لرمزية الإسلام والتراث العثماني، المهم هو الصفقات التي يعقدها على جثة التاريخ بأي ثمن.

2- مبايعة تركيا من الغرب للمهام القذرة في المنطقة استكمالاً لفكرة (الخلافة). وكأن الخلافة القديمة كانت مدفوعة بنشر الاسلام ثم سرعان ما انقلبت إلى عمالة خسرت ما ربحته سلفاً. أبرز مثال حين قام أردوغان بجمع التنظيمات الاسلامية وهندسة حركتهم في مناطق الصراع عن طريق أموال وفقهاء قطر. وقد نال أردوغان ملايين الدولارات نظير المهمة ناهيك عما جناه من تجارة النفط السوري في شمال سوريا. ونجم عنه التوغل التركي في كل مدن الكرد وتهجير أهلها وتوطين فئات موالية له. ولم يفعل الكرد له سوى المطالبة بحقوقهم الضائعة تاريخياً، ولم يعدهم  إلا خطراً محدقاً بالدولة التركية، وهي خطوة استباقية توصل إليها بقرون استشعار فشلت في كل مكان ونجحت مع الكرد فقط.

والارتزاق التركي امتد من أسيا إلى أفريقيا حيث ثروات ليبيا، استعمل هاتين النقطتين لنقل المرتزقة( قيل حوالي 23 ألف مرتزقاً من سوريا وخمسة آلاف أخرى من الصومال ودول أفريقية مجاورة) إلى الصحراء الليبية. ولم لا والخليفة العثماني خبير دولي في استعمال الدين والسياسة بهذا الباب. لو تخيلنا أنَّ هناك كتاباً للمرتزقة في التاريخ، فسيحتل أردوغان أكبر صفحاته الممهورة بالدماء والنفط. وهو يعلن مباشرة كونه أتياً لليبيا لأجل البترول، وأنه لا يمانع من تقسيم الثروات مع أية دولة كبرى شريطة الحصول على حصته منها.

بالنتيجة ومهما قيل بصدد سياسات المرتزقة، فالمجتمعات العربية والأنظمة الحاكمة وانظمة التعليم وتاريخ الأفكار والموروثات الثقافية... جميع هذا كان متورطاً في انتاج رقيق الحروب. لا تستثني دولة واحدة ولا يجنب مجتمع واحد من ذاك التاريخ الغارق في استعمال البشر  وتدمير إنسانيتهم. ليس ذلك تأشيراً سلبياً للنيل من الذات ولا جلدها، بل إن هشاشة الفكر – مثلاً- وتحريم التفكير الحر دينياً واجتماعياً وسياسياً آليات لتربية المرتزقة وإعداد الأفراد ليكونوا أبرز صانعي الحروب والصراعات بالوكالة. الإنسان حين يدجن وتنزع إرادته الحرة وحركته اليومية، فإننا نفرغه من أقوى طاقة تستطيع الانطلاق والدفاع عن الأوطان. وأن تستطيع فرز المواقف وتأييد المواقف الوطنية ومعرفة الأصالة فيها.

ولقد اسهم الاسلام السياسي في تلك الظاهرة إسهاماً بالغاً، لكونِّه قائماً على "السمع والطاعة"، وهذا القيام بمثابة إقامة طويلة الأمد، تجرد الإنسان من جميع ملكاته النقدية والإبداعية وتجعله لقمة سائغة لكل ارتزاق ممكن. وإلاً ما الذي دفع هؤلاء أو أولئك بعناوين مختلفة للانتقال من سوريا إلى ليبيا ومن أفغانستان إلى العراق وحتى تنظيمياً من الإخوان إلى داعش أو إلى جبهة النصرة... كم هو فاقد الأصالة هذا الإنسان المدجن والمكبل بالقيود!!

المرتزقة .. رقيق الحروب

سامي عبد العال

 

سياسات المرتزقة ظاهرة ما بعد حداثية بامتياز رغم جذورها القديمة، لقد أخذت طابع العالم الراهن. كلُّ شيء مُسطَّح بلا أعماقٍ ولامِع لدرجة التيه، واقعاً بذلك على مرمى اقتلاع الجذور ونزع الهويات وتعويم الأدمغة ونزع الإنسان من أية ثوابت إلاَّ بقايا الحياة المعلقة في فراغ سياسي. والظاهرة وليدة الحروب وصناعتها الثقيلة، فكما أنَّ هناك آليات واستراتيجيات تستعملها الأطراف المتصارعة، فكذلك تتطلب أدوات بشرية لحسم الصراع وتغليب القوى على الأرض. ظاهرة ليس يطويها على" قمقم الأسرار" أكثر من الحيل والمؤامرات التي تكتنفها. ولا تتحين فرصاً مواتية إلاَّ لاستعمال البشر( بمبررات لقيطة) لتحقيق المآرب، وكأنَّ الواقع يتطلب كافة الأسلحة دون تفرقة بين المواقف.

الارتزاق هو القيام بمهام معينةٍ طالت أم قصُرت، سهُلت أم تعقدت، برزت أم خفيت، نظير مقابل يجري التفاوضُ حوله بين الأطراف. يضغط كل طرف على الطرف الآخر لجنى أعظم قدر مما يتحقق. وهو ليس تفاوضاً، بل بالأحرى- لدقة الفكرة-  يعدُّ مساومة، والاثنان يعلمان أنهما يساومان بأهداف غير نظيفةٍ لا أقول قذرة. لأن المقابل يعني ضياع شيء ثالث هو الأصالة والقيمة والدفاع عن إنسانيتنا الحرة. كما أن المساومة نوع من تهديم المخاوف والحدود، بحيث يصبح كل شيء مباحاً، كله ماشي.

يقول أطراف الارتزاق: أنا أساومك على استعمالي غير الإنساني لأجل أن تحصل أنت على ما هو غير إنساني بالمثل. ولن أكون معك أقل وقاحةً مما كنته أنت معي، وإلاّ لو أنَّ هدفاً أردت انجازه كان مشروعاً ما كنت لتستعملني بطريقة غير مشروعة. ولذلك سأطلب منك مقابلاً يغسل العفن الذي ران على الضمير وبالإمكان الاستعانة بالمساحيق والمنظفات العولمية لتبرير قدومنا (المرتزقة) لمناطق الصراع، مثل منظفات حقوق الإنسان وحفظ الأمن والسلام وحماية المصالح والمكتسبات الديمقراطية!!

هكذا يكون الوضع من النهاية، من أخر نقطة على السطر، ليس ثمة لف ولا دوران، على المرتزقة توفير اللف والدوران إلى المهام الموكلة إليهم. ونهاية السطر تعني هات ما عندك وسأقول ما عندي بكل وضوحٍ، وبالتالي يمحى أي حضور لاعتبارات أخرى سواء أكانت أخلاقية أم انسانية. تسقط جميع الاعتبارات بمجرد هات من الأخر.

كل مساومةٍ من هذا القبيل " تبرئة مشبوهة " بعين الوقاحة وجها لوجه، وهو المعرفة المحددة سلفاً تحت عين الاستغلال المتبادل ويمثل الطرفان أنَّهما لا يدركان، لا يعلمان. والغريب كونه استغلالاً يتم بدم بارد مثلما تأتي مشاهد الحروب والانخراط فيها بكل دماء باردة. والتمثيل هو جوف الارتزاق: فالمرتزقة يمثلون بأنهم يقومون بتبني قضية جوهرية بينما يؤدي مستعملوهم طقوس إنسانية في الظلام، فاستعمال المرتزقة يقال إنَّه لأسباب إنسانية وإنَّه ليس هو الهدف، بل انقاذ الأوضاع قبل فوات الأوان.

السياسة هي الكهف الذي يشهد عقد الصفقات، لأن (المرتزَق) يفعل أي شيء حصولاً على الثمن و(المرتزِق) يفعل كذلك أي شيء لإتمامها، لأن هدفه أبعد ويستحق المغامرة. يشترك الاثنان في هذا الـ" أي شيء"... من الطرفين لا حدود هناك لما نتصور. ولذلك نحن نركز فقط على الفاعل الصغير( المرتزقة الصغار) دون الانتباه لأفعال المرتزِق الأكبر. والـ" أي شيء" في الواقع عبارة عن الاتيان بالمفاجأة والمغامرة، وربما تاريخ المرتزقة المعاصرين يمثل أعمق تمثيل المغامرة بأي شيء مهما يكن. فالدول التي تستعمل المرتزقة تفعل كل الحيل والأفاعيل للحصول على ما تريد، وهؤلاء المرتزقة – في موقف المساومة- يفعلون ما يراد لهم فعله. وقد يقال إن هناك حدوداً للارتزاق، لكنها بالطبع حدود واهية.

الارتزاق موقفٌ سياسي حتى بالنسبة لأنظمة القوى الكبرى، فهي قائمة تاريخياً على اللعبة المزدوجة: أَفعَلُ ما أريد بأيدي غيري، وأقف بعيداً عن المشهد واحصل على نصيب الأسد من الغنائم. المعضلة أننا لا نصدق كيف تكون قوى عالمية وترتزق بحكم ارتباط الارتزاق بالحاجة والمآرب الصغيرة. إن هناك دولاً كأمريكا وإسرائيل وأغلب دول الغرب روسيا وفرنسا وانجلترا تعيش سياسياً على هذه المواقف البرجماتية.

الدول التي توظف المرتزقة هي دولة ارتزاق بالدرجة الأولى، كل ما في الأمر أنها غير مرئية وتدير الأوضاع من وراء حجاب. دول لا تقع في الحُفر التافهة فتنجزع أقدامها وتفقد سطوتها، لكنها تتصدى لما تقارعه بالخطط المحكمة واللعب بأكثر من موقع. وما نشاهده من إرهاب واستبداد وتجارة حروب ونفوذ وأسواق عابرة للحدود .. كل ذلك يتم بوقت واحد، يخدم الممسكين بخيوط اللعبة. ليس الوضع تناقضاً لو فكر القارئ بمنطق جزئي، لكن صراع المصالح الضيقة (يصب) في المصلحة الأكبر. فأمريكا توجد في تفاصيل الحدث ونقيضة، تدعم الدولة المستبدة والمتمردين عليها، تصنع لاهوت الحروب وتبني دور العبادات.. وبصدد هذه الأطراف تستفيد من الجميع وتقف هنالك بمنأى عن الانزلاق!!

ليس صحيحاً كون أمريكا تؤيد هذا ضد ذاك أو العكس، أقول ليس صحيحاً على الدوام، لأنها- إذ أردنا توضيحاً- تمسكُ بخيوط المشهد ككل. وحينما يصرخ  البعض بأنها الشيطان الأكبر، وأنها ألة حروب لا تنتهي، وأنها استعمارية... فذلك كله غير صحيح بالمرة. الأقرب للصحة أنها برجماتية كونية تعيد توجيه الميتافيزيقيات والأيديولوجيات في جميع المناحي، لا تعترف بالثنائيات التقليدية: خير/ شر، حياة / موت، كراهية/ حب، إله/ إنسان، حرية / استبداد... هي تكون حيث توجد منافعها، وبخاصة المنافع الآتية من الأعمال التي تتعارض مع توجهاتها وحياتها الديمقراطية. كذلك هي تختفي حين توجد بقوة وعندما تصبح حاضرة لدرجة الظهور.

أمريكا تلعب ألعاب المقدس في الحضور والغياب، وترسب لدى أتباعها وأعدائها على السواء قدرات فوق قدراتها، ليس ذلك خبط عشواء، لكنها تستثمر الهيمنة الناعمة والخشنة معاً. بضربة واحدة هي تحل وتختفي وتتلاعب بالجميع في غير حالةٍ.

ولم تكن أنظمتها المتعاقبة بمنأى عن ثلاثة اتجاهات ..

أولاً: شن الحروب وإثارة الصراعات في المناطق العربية لحصد الثروات من جيوب الشعوب والأنظمة السياسية ومن الثوار والمعارضين معاً. كانت حروب أمريكا بالمنطقة العربية تشغيلاً لمنظومات المرتزقة على نطاق بعيد، لم يكن ما فعلته بالعراق الحرب الأولى والثانية ليتم دون هذا الارتزاق. تدفق الكثيرون منهم وتولت شركات كبرى على تدريبهم وانشاء معسكرات في دول أخرى تمهيداً لضخ حشودهم على خريطة العراق المنهك من الحرب الإيرانية ومن الحكم الاستبدادي.

اجتاح الجيش الأمريكي العراق كجراد من المرتزقة، لم يكن يعنيه إلاَّ الهيمنة على مقدراتها، وتصرف الجنود بهذا المنطق الارتزاقي الوحشي، هناك نهب لكل ما يجدونه وهناك تصفيه للرموز وتدمير الآثار العراقية الضاربة في أعماق التاريخ. ولم يترك الجيش الأمريكي العراق إلا بعد أنْ حقق أغراضه ببث الفوضى وتفكيك المؤسسات وجلب المرتزقة من كل حدب وصوب.

ثانياً: تكوين مجموعات المرتزقة (الأساليب والخطط وكيفية الإدارة والقيادة والاغراق في الجماعات والتنظيمات). لم تخرج أمريكا شكلياً من مناطق الصراع في الشرق الأوسط إلاَّ بعد أن زرعت المرتزقة في كل مكان. وغذَّت لديهم نزوع الغلبة واجتياح الأنظمة بتقوية المظلومية لديهم. وهذا الارتزاق اختلط بمبادئ الدين والأيديولوجيا والسياسة، فكان سهلاً أن تنجرف الجماعات الدينية لمحاربة الأنظمة الحاكمة وتغنم بعضَ المكانة في المجتمعات. وهي لا تدري أنها بمنطق القوى الكبرى خاضعة للاستعمال، وأن أفعالها – كما حدث مع داعش والإخوان وجماعات العنف- تصب في حصالة المآرب السياسية، بالإمكان تجنيدها في هذا الإطار.

الارتزاق هنا ليس إكراها، لكنه اختيار ملتوٍ، يدرك الارهابيون أنهم يؤدون مهاماً تجاه الدين بينما تستطيع القوى توظيفهم على خريطة أكبر. هم غارقون في التفاصيل الصغيرة حول اقتحام المدن وتطبيق الحدود وحف الشوارب وتعيين أمراء الولايات والمكاتبات السرية في حين ترسم القوى الكبرى المسارات. لأن النتائج في النهاية ستصب لمصلحتها، فالنفط والثروات والهيمنة الثقافية وتجارة الأسلحة ستكون أشياء رائجة.

في عهد أوباما، قالت الإدارة الأمريكية إن عشر سنوات كافية للقضاء على الدواعش، وفعلاً تمَّ كسر شوكة الدواعش حربياً بتحرير بعض المدن العراقية والسورية، غير أن أوباما لم يقل متى ستنتهي الفكرة الداعشية، لكونه يغذيها، ولكونها فكرة باقية، تتناسل وتخرج أجيالاً وراء أجيال. إذ يمكن احيائها وإدارتها بأساليب الارتزاق. وقد حدث بالفعل لقد حولت أمريكا العالم إلى مخازن إمداد للجماعات الإرهابية، من يُرد الجهاد، عليه الانخراط في الصراع. فهو يظن كونه جهادياً، بينما تعتبره أمريكا مجرد رقم مستعمل للاتصال بالواقع وإدارة الأحداث.

ثالثاً: استعمال المرتزقة في الحروب والصراعات المسلحة. وهذه المهمة تُركت للوكلاء الإقليميين الصغار، لأن المرتزقة يحتاجون رعاة من جنس أيديولوجياتهم. فالإرهابيون تعوزهم أخيلة الخلافة لتختمر بحواشيهم وتفرِّخ في جيوبهم الفارغة، حين يتصورون دولتهم المستقلة التي تبتاع الثروات والبشر وتسبي النساء والرجال وتراكم العوائد في خزائن مقفلة عليها خازن من جهنم. وسيكون الخلفاء(أمراء التنظيمان) أشباحاً تملأ الخيال بكل استيهام ممكن طوال الأحداث. ولذلك ليس غريباً أن تنصب أمريكا خليفة لهذه الجماعة أو تلك. والتنصيب هنا هو صقل الأحداث وتضيق الخيارات ورعاية الزعماء الدينيين كما فعلت أمريكا مع ابراهيم بن عواد ( أبو بكر البغدادي) حينما كان في سجن أبي غريب. حيث لاحظت المخابرات ميوله للزعامة والقيادة ولعب كرة القدم، فسربت إليه الفكرة وتم إعداده لخلافة دولة العراق والشام.

وعندما لا تريد أمريكا الظهور تترك الخرائط والعتاد البشري لدول إقليمية (دول ودويلات)، وهذه الدول تجيّش للجماعات الإرهابية كافة الرموز المطلوبة...  من فكرة الجهاد حتى الإفتاء بدخول الجنة والنار وتكفير المناوئين. كما حدث مع دويلة الخليج الشهيرة التي تقف على أكبر مخزون للغاز في المنطقة وتقف بالمثل على آبار الإعلام الوظيفي. المصدران( النفط والاعلام) غارقان في تحريك القطعان الدينية لمسح الأرض واحداث الفوضى في المنطقة العربية.  فغدا" البترو إعلام" مع تحولات المجتمعات العربية ذراعاً خلفياً يشد خاصرتها نحو الفوضى والتخلف.

" البتروإعلام" المرتبط بـ"البترو جهاد" و" البترو ثقافة" و" البتروسياسة"... يخدم أسياداً يحركونه ويرسمون المراحل ويظهرونه براقاً تحت إبط الشعوب. إن فضائيات عربية تستحل الدماء والقتل تحولت إلى منصات تكفيرية مرتزقة. حتى وإن كانت ثرية بدرجات فاحشة، فهي متوحلة في الارتزاق حتى أذنيها. لأنها تدفع لمن يجاهد المؤمنين قبل الكفار، إنها مجرد مخالب وقحة لطيور الظلام القابعة بأعالي البحار انتظاراً للانقضاض على المجتمعات. وليس دور البترو إعلام سوى ضرب التماسك الاجتماعي وتهديم الوعي وتنويم الشعوب حتى تسهل العملية.

وقد كانت أحداث الربيع العربي فرصة سانحة لتجريب الكتل البشرية الفارغة من الحياة والتي يكون ولاؤها الأول لمن يدفع ويخدع. والجديد أنها كتل سائبة عضوياً تملأ الحفر الغائرة في أبنية المجتمعات. والملاحظ كونها قد تصطف باسم الأيديولوجيا، فالجماعات الإسلامية مدمنو الارتزاق إلى وقت ربيعي ليس بالبعيد. وظلت تحارب بأسماء مختلفة في سوريا والعراق واليمن وليبيا... وطالما لا تعترف بالوطن ولا تنتظره في المستقبل، فإنها تصبح قنابل بشرية تنفجر بأي منطقة.

لكن تركياً تمثل دولة الارتزاق الفاحش منذ نشأتها العثمانية تحت عمامة الخلافة، وكأن نظامها السلطاني أبى إلاَّ أن يظل وفياً للنشأة والتكوين ثم التواتر حتى الآن. لم تمر أحداث على الدولة العثمانية دون قنص ومساومة وأخذ الغنائم حيثما وطئت قدماها. فعندما احتلت مصر نهبت ثرواتها الرمزية والمادية... لقد جرفت المجتمع من أرباب الصنائع والتجارة والفنون وتم نقلهم إلى الأستانة.

ليس خافياً أن ذلك قتل للمجتمعات التي تحتلها وترتب عليه تدهور أحوال الصناعة والفنون والتجارة وأوكلت الدولة العثمانية أمور البلاد التي احتلتها للجهلة وأنصاف المتعلمين وتلاعبت بتكوينها الديموجرافي لأجل تغليب الطوائف الموالية.

ظل هذا ديدن  الدولة العثمانية حتى اللحظة، كانت بالأمس القريب في سورياً، فهي "الوكيل اللاهوتي السياسي" الذي تم مبايعتك بشكل مزدوج.

1- من الجماعات الإسلامية، إذ انطلت عليها العباءة العثمانية بمسوح الخلافة وبخورها وأشباحها. وأردوغان لم يقطف ثمار اللحظة الراهنة عبثاً، بل كم بيّت النية وأعد العدة التاريخية جرياً وراءها. لم يترك فرصة للظهور بعباءة الخلافة في أي موقف إلاّ و إقتنصها. فأصبحت لديه الدربة على أرسال رسائل للوعي العربي الإسلامي الجاهل بالخلفيات والأحداث.

كان أردوغان يندد من أعلى الأناضول بسياسات إسرائيل التعسفية تجاه الفلسطينيين وهو الذي قدم خدمات يضيق عنها السياق لدولة الاحتلال، وكان يعلن اعتراضه على سياسات أمريكا هو الذي يضع يده في يد قادتها لزيادة حجم التعاون التجاري والعسكري بين تركيا وإسرائيل. المهم أن يكسب الجولة في وعي المسلمين، لأنه يعرف أنهم الكتلة الحرجة التي تمر خلالها المكاسب والثروات  إلى اسطنبول كما مرت في السابق. لم يكن أردوغان حريصاً على شيء قدر حرصه على حجم الاستثمارات والإتاوات التي تأتية من المسلمين بالتبادل التجاري وسيولة حركة البضائع التركية. ولم يخلو ماركت عربي واحد من أطنان البضائع التركية بدءاً من الأجهزة الكهربائية والإلكترونية وليس انتهاءً بالملابس الداخلية. حتى أصبحت السلع التركية رمزاً للنفوذ التركي في المنطقة وبخاصة ليبيا ومصر.

ولا يفوتنا أن اردوغان استعمل الرصيد البشري( الاسلامي والعربي) في تخويف الغرب كي يضم بلاده إلى الاتحاد الأوروبي، فلكم وضع نفسه على فوهات العالم العربي تجاه أوروبا موهماً قاداتها أنه يمسك الشرق بين أصابعه يقلبه كيفما شاء. وفي رسائل برقية زعم أنه المنصف للإسلام والمتشبث بتاريخه حتى النهاية وأنه يقدم نموذجاً حضارياً يضاف إلى الحضارات العالمية. والاشارة لا تخطئها العين بكلامه الضمني باعتباره خليفة تحت الطلب!!

فإذا كان الغرب يريد شيئاً من المسلمين( لو انضمت تركيا إلى الاتحاد الأوروبي)، فإن أردوغان سينجزه بجرة قلم. الوكيل الحصري للمهام التي تريدها دول الاتحاد من أية دولة عربية. وقد جعل مجتمعات العرب صفاً واحداً داخل عباءته، تؤتمر بأمره وتنتهِ بزواجره وعقابه. مثل المدرس الذي يحرص على اصطفاف التلاميذ دخولاً وخروجاً وهو القائد الأعلى لحركتهم وسكناتهم.

وذلك بالطبع لا يمنع من عمالته الآتية من الخارج، شريطة أن يدخل الاتحاد الأوروبي حينذاك. ونسى أردوغان كلامه حول اسرائيل ومواقفه الداعمة لرمزية الإسلام والتراث العثماني، المهم هو الصفقات التي يعقدها على جثة التاريخ بأي ثمن.

2- مبايعة تركيا من الغرب للمهام القذرة في المنطقة استكمالاً لفكرة (الخلافة). وكأن الخلافة القديمة كانت مدفوعة بنشر الاسلام ثم سرعان ما انقلبت إلى عمالة خسرت ما ربحته سلفاً. أبرز مثال حين قام أردوغان بجمع التنظيمات الاسلامية وهندسة حركتهم في مناطق الصراع عن طريق أموال وفقهاء قطر. وقد نال أردوغان ملايين الدولارات نظير المهمة ناهيك عما جناه من تجارة النفط السوري في شمال سوريا. ونجم عنه التوغل التركي في كل مدن الكرد وتهجير أهلها وتوطين فئات موالية له. ولم يفعل الكرد له سوى المطالبة بحقوقهم الضائعة تاريخياً، ولم يعدهم  إلا خطراً محدقاً بالدولة التركية، وهي خطوة استباقية توصل إليها بقرون استشعار فشلت في كل مكان ونجحت مع الكرد فقط.

والارتزاق التركي امتد من أسيا إلى أفريقيا حيث ثروات ليبيا، استعمل هاتين النقطتين لنقل المرتزقة( قيل حوالي 23 ألف مرتزقاً من سوريا وخمسة آلاف أخرى من الصومال ودول أفريقية مجاورة) إلى الصحراء الليبية. ولم لا والخليفة العثماني خبير دولي في استعمال الدين والسياسة بهذا الباب. لو تخيلنا أنَّ هناك كتاباً للمرتزقة في التاريخ، فسيحتل أردوغان أكبر صفحاته الممهورة بالدماء والنفط. وهو يعلن مباشرة كونه أتياً لليبيا لأجل البترول، وأنه لا يمانع من تقسيم الثروات مع أية دولة كبرى شريطة الحصول على حصته منها.

بالنتيجة ومهما قيل بصدد سياسات المرتزقة، فالمجتمعات العربية والأنظمة الحاكمة وانظمة التعليم وتاريخ الأفكار والموروثات الثقافية... جميع هذا كان متورطاً في انتاج رقيق الحروب. لا تستثني دولة واحدة ولا يجنب مجتمع واحد من ذاك التاريخ الغارق في استعمال البشر  وتدمير إنسانيتهم. ليس ذلك تأشيراً سلبياً للنيل من الذات ولا جلدها، بل إن هشاشة الفكر – مثلاً- وتحريم التفكير الحر دينياً واجتماعياً وسياسياً آليات لتربية المرتزقة وإعداد الأفراد ليكونوا أبرز صانعي الحروب والصراعات بالوكالة. الإنسان حين يدجن وتنزع إرادته الحرة وحركته اليومية، فإننا نفرغه من أقوى طاقة تستطيع الانطلاق والدفاع عن الأوطان. وأن تستطيع فرز المواقف وتأييد المواقف الوطنية ومعرفة الأصالة فيها.

ولقد اسهم الاسلام السياسي في تلك الظاهرة إسهاماً بالغاً، لكونِّه قائماً على "السمع والطاعة"، وهذا القيام بمثابة إقامة طويلة الأمد، تجرد الإنسان من جميع ملكاته النقدية والإبداعية وتجعله لقمة سائغة لكل ارتزاق ممكن. وإلاً ما الذي دفع هؤلاء أو أولئك بعناوين مختلفة للانتقال من سوريا إلى ليبيا ومن أفغانستان إلى العراق وحتى تنظيمياً من الإخوان إلى داعش أو إلى جبهة النصرة... كم هو فاقد الأصالة هذا الإنسان المدجن والمكبل بالقيود!!

 

سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم