صحيفة المثقف

دروس الحرب الباردة بين حسين سرمك وقصي الشيخ عسكر

صالح الرزوققراءتان سريرية وفنية

يبدأ الدكتور حسين سرمك حسن كتابه (رسالة وجودنا الخطيرة: تحليل رواية “رسالة” للمبدع قصي الشيخ عسكر)(1)  من بعض المصلطحات أو الأساسيات في قراءة النصوص. وينظر بعين الشك لفكرتين هامتين.

الأولى أن عنوان النص بمثابة عتبة أو ثريا. وأنا معه أنها فكرة غربية، فالعناوين غير مرتبطة مع المحتويات في كثير من الأحيان. وربما  تعكس هذه القناعة حالة الشيزوافرانيا الحادة التي يعيش فيها المواطن الغربي. فموطنه ممزق بين المسموح والممنوع. والمنع هنا ليس سياسيا أو طائفيا فقط، كما هو في البلدان المتخلفة، ولكنه أيضا اقتصادي أو طبقي. وفي هذه الحالة تأخذ الحياة اتجاها رمزيا وتعبر عنه بأشكال وأساليب سريالية، بحيث لا تتطابق المرئيات مع الواقع النفسي للإنسان. حتى أن رواية (الأب غوريو) لعراب الرواية الواقعية في أوروبا لا تدور حول غوريو نفسه، فقد كان يظهر ويختفي بسرعة البرق، ويتركنا مع أشخاص آخرين ليس لهم أي تأثير عليه. ثم ليس بالضرورة أن ما ينطبق على الغرب ينطبق على حضارة روحية تعيش في ظل أساطير ومرويات. إن العلاقة بين الرموز والصور والكتابة في هذا الجو تكون إحيائية، وتحكمها الرغبة بالعودة وتحقيق المنطق الحتمي لدورة التاريخ. ولذلك يمكن أن يتكلم النص عن شيء وتفهم منه شيئا آخر. وبغاية التوضيح أذكر رواية (الطريق) لكورماك مكارثي و(الطريق) لنجيب محفوظ. الأولى عن دايستوبيا تأويلية، تنظر للماضي وكأنه هو المستقبل المحتم. بينما الثانية هي بحث عن الذات المفقودة في الحاضر الممزق الذي يتحكم به أموات، ولو رأى فيها جورج طرابيشي أنها رحلة إيمانية للبحث عن الله وبدائله. بتعبير آخر إن ما يحكم الغربي هي ثقافة الإنكار بينما ما يحكم أبناء المشرق هي إعادة التثبيت أو التوطين، ولذلك تعجز عن تفسير المستجدات كأفول المعاني وتدهور الحضارة واتساع الفجوة بين الأطوار. وحتى لا نبتعد عن الموضوع أذكر أيضا كتاب (عمر والتشيع) للمفكر حسن العلوي، إنه عن التاوية والاتجاه الاشتراكي في الصين، ولا تحتل مشكلة خليفة المسلمين عمر غير 10 صفحات من أصل 500 صفحة. فما علاقة سياسة عمر بدولة تحارب التفسير الميتافيزيقي وتعتبره قيدا اجتماعيا؟. والأمثلة لا تعد ولا تحصى على العناوين التي تغش القارئ عوضا عن ان تنير له دربه.

الفكرة الثانية هي أن الراوي هو صوت الكاتب. ويرى الدكتور سرمك أن هذا الأمرغير مضمون  بالضرورة. حتى في أدب السيرة يكون هناك الكثير من التستر بسبب الحياء والخجل والتابو إن لم يكن بسبب رقابة الشعور وتكتمه. ثم إن الكاتب لا يمكن أن يفهم  نفسه ببساطة، وفي بعض الأحيان ينحاز  للمعارف ويختبئ خلفهم، ويدمج صورته بصور أشخاص مروا به مرور الكرام. ولا يوجد مثال أوضح على ذلك من سيرة إدوارد سعيد (خارج المكان). هناك دلائل قوية أن ذاكرته البعيدة كانت تخونه بسبب أهوال النكبة. وكانت حياة المعارف والأصدقاء تتسلط على تفاصيل حياته. وبوجيز العبارة إن الصورة الكلية لمذكرات إدوارد سعيد هي المعول عليها وليس التفاصيل. ويمكن القول إن مذكراته وثيقة عن مرحلة ولكنها ليست وثيقة أو مدونة شخصية حتى لو توهم هو نفسه ذلك. ناهيك عن أعمال معاصرة مثل (مقتل بائع الكتب) لسعد محمد رحيم. فالحبكة تتنتقل بين بغداد وباريس وبراغ مع أن الكاتب لم يغادر بغداد. ومثله محمود الريماوي كتب في (حلم حقيقي) عن بنغلاديش، وهو لم يذهب إليها في كل حياته، هذا إذا تناسينا الحبكة، وهي عن الصراع الطائفي بين المسلمين والهندوس. ولا يغيب عن الذهن (تاجر البندقية) لشكسبير، فهو لم يسافر إلى إيطاليا، ولم يشاهد فينيسيا بالتلفزيون أو الفيديو أو الصور الفوتوغرافية، وإنما اخترعها من بنات خياله بشكل محض. ولذلك أصاب  الدكتور سرمك كبد الحقيقة حينما رأى أن صوت الراوي لا ينقل أفكار الكاتب، إن لم نضع معه أصوات بقية الشخصيات وبنية العمل وسياقه إجمالا كما تبين مدرسة الجشطالت المعروفة، فمعنى أي جزء يتحقق من خلال بقية الأجزاء أو " الكل". وأيضا يمكن للراوي أن يخالف الكاتب بكل معتقداته ومواقفه الإنسانية، كما تجد حتما في "لوليتا" نابوكوف. ولا يوجد شخص واحد عاقل يؤمن أن همبرت بطل (لوليتا) هو نفسه فلاديمير عاشق الطبيعة والفراشات الذي نتعرف عليه في سيرته الذاتية "تكلمي أيتها الذاكرة". والنزوع التدميري المشبع بالعنف والاستهتار ثم الندم والعدمية في (لوليتا) لا يشبه التوجه الإنساني والنخبوي للمذكرات. وأصلا لم يكن نابوكوف يعيد إنتاج نفسه في أعماله حتى وهو في المنفى، باستثناء روايته (بنين) التي تصور الحياة الباردة والمتواضعة في أمريكا لأستاذ جامعي روسي هرب بجلده من المسلخ. وربما كانت الغاية من الرواية تحرير الخيال من الوعي، وعزل جزئيات الحياة عن المعنى الكلي والسامي والأصيل للوجود. والروايات العسكرية بكل ما فيها من حروب ودماء وجناية على أمنا الطبيعة  موجهة للكشف عن الفراغ المعيب الذي يفصل  الشخصيات والحبكة من جهة ووجدان الكاتب من جهة ثانية.

 بعد ذلك ينتقل الدكتور سرمك لموضوع الكتاب. ويبدأ من المختارات التي صدر بها قصي الشيخ العسكر روايته “رسالة” تحت عنوان “تهويمتان”. ويرى أن هذا التعبير مولد ومشتق وليس له وجود بالعربية الفصيحة. ولكن شاء القدر أن يرد هذا الفعل في المعجم الوسيط والرائد والغني، بالإضافة لـ “منجد الطلاب” و“المنجد الأبجدي”. وكلاهما من المعاجم القريبة من العربية المعاصرة. وتذكر هذه المعاجم كل صيغ وأشكال التهويم، وتؤكد أنها كلمة من فعل رباعي لازم (له فاعل وليس له مفعول). وهي مصدر لأحد أهم الأساطير العربية الجاهلية (الهامة). وهذا يضع الرواية أمام مشكلة أساسية من مشاكل السرد: أنها تتكلم عن أنداد، وأنها تبحث عن متهمين وليس عن أبرياء، وأن خيط الدم الذي يربط أطراف الحبكة هو الذي يقود خطواتنا. ولذلك يمكن أن نقرأ هذا العمل بضوء كتابات قصي العسكر التي تتابع مشاهد العنف والخراب النفسي مثل قصة (عائلة) و(المقصف الملكي) و(ربيع التنومة) . فهي أعمال تختلط فيها الأحداث بمجريات حياتنا الجوهرية كما ورد في عبارة للدكتور سرمك نفسه. وأضيف إنها تضع القارئ في وسط مشكلة المعرفة وليس العمل، لأنها تعتمد على تأجيل النتائج واستباق التكهن. وهذا التعبير تقريبا ورد بالحرف الواحد في دراسة سرمك.

86  husansarmak600

مع ذلك تختلف رسالة عن بقية أعماله بأمرين اثنين. الأول له علاقة بكشف المعنى.  لقد كانت شخصيات (رسالة) لا تكشف محتوياتها أو تفكيرها مباشرة، وتترك مساحة عائمة ومختفية. وهناك مساحات غائبة عن الإدراك بسبب انشطار مكان الأحداث إلى تفصيلات داخلية وخارجية، والجدار العازل ليس المكان أو الفترة فقط، بل الإيديولوجيا والكوارث، ومنها كارثة الحرب. وهي مفصل أساسي لأنها بدلت من اتجاه الرواية. فبعد أن كانت رحلة للبحث عن المعرفة تحولت إلى رحلة للهرب من الذات المعرفية. وهذا نفهمه بضوء دراسة الراوي في موسكو ثم فراره إلى الدانمارك بجواز سفر مزور.

الأمر الثاني له علاقة بالبنية.  فـ “رسالة”، كما لاحظ الدكتور سرمك، تستعمل التهويمات للانتقال من مسرح أحداث إلى غيره. وتكثر فترات الغياب عن الوعي والتغييب بواسطة الموت. ولذلك إن شخصياته ليست مسؤولة عن أفعالها، بعكس (ربيع التنومة) مثلا. كان كل شيء واضحا، والنتائج مبنية على الأسباب والمقدمات. بمعنى أن الجلاد واضح والضحية معروفة. ومن ثمار هذا التكنيك أن الدراما انحسرت من داخل الرواية، وتركت المجال مفتوحا للتأمل والتفسير. لم يكن هناك صراع حقيقي، وكان الغرب مغيبا قسرا مع أنه طرف أساسي من أطراف الحرب الباردة. بل هو طرف موجب بوجوده. وتطورت الرواية على أساس جانب صامت (الغرب) وآخر مشارك (الشرق)، مع متورط بالتضامن (وهو الراوي). ولذلك يمكن قراءة الرواية على أنها كتابة مسروقة.. الراوي يرتكب جريرة الكشف عن محتويات الرسالة، والشخصيات الدانماركية ترتكب جريرة الشهود عليها. ولا أعلم ماذا يمكن أن نستنتج من هذه المتاهة اللفظية بالضبط؟. هل الراوي أراد أن ينظر للحرب العالمية على أنها حرب تحرير، وأن يشيطن حروب العالم الثالث؟. فالمنطق الذي تحكم بالعمل من أول لحظة إلى آخر لحظة كان منطقا ينفي نفسه، ويخيم عليه شبح الموت. ويمكن أن تقول إن شهادة الضابط الروسي المتقاعد لا تعدو أن تكون تحية لأيام الحرب، وإدانة لأيام السلم. وعلى هذا الافتراض أفسر أهمية دور التهويمات، وسقطات اللسان التي اعتمد عليها الدكتور سرمك في تحليل العمل. وتجد الدليل الدامغ في ما يسميه الدكتور سرمك الخطوة الأولى، وهي تبني عائلة دانماركية للمهاجر العراقي. فالحرب كانت بالنسبة له بابا من أبواب الجنة، وهي لم تمنعه من العودة إلى حفرة الوطن، أو دولة الدكتاتور المجنون كما سيتكرر ذلك علنا أو ضمنا في عدة مواضع، وإنما سهلت له اكتشاف الجانب المدني والحضاري (الحياة في الدانمارك). وأن يعود المهاجر إلى جنة الطفولة وإلى رعاية الأم (بتلقي التوجيهات السلوكية وتعلم اللغة) ليس مثلبة بأي مقياس من المقاييس. فنوستالجيا الطفولة مرض من الأمراض الشائعة، لأنه يحرر الإنسان من مسؤولياته ويلقي العبء على الطرف الحاضن. ولذلك كانت قسوة الطبيعة في أيام الجليد والثلوج تجد ما يلغيها، ومن ذلك البيت الدافئ (أحضان الأم) والحدائق الغناء (خمائل الطفولة). وقد اهتمت الرواية لأبعد حد بهندسة وترتيب الأحياء، وجعلت الطبيعة الرقيقة تقوم مقام محطات استراحة متكررة تخفف من الشدة النفسية للراوي والقارئ معا. وإن لم تدمج الرواية معناها العميق بأي من الإضاءات الهامة التي بدأ منها فن السرد مثل المأساة والإضحاك، فقد استبدلتها بمشاهد بانوراما الطبيعة. وكانت الأمكنة هي التي تحلّق، وليس الشخصيات. وكانت العناصر المحايدة هي التي تشد الدراما، وبالأخص إذا قارناها بالعناصر المشاركة والمتورطة كالخوف والمخاطر والتخلف وسوى ذلك. وبتعبير آخر إن دراما الرواية كانت بالمقارنة والتجاور، أو الإلغاء وليس بالصدام والنفي والتقابل.

وينتهز الدكتور سرمك هذه الفرصة ويحدد شخصيات الرواية في أربع. وبشيء من الاستطراد نستدل أن الحبكة بلا محور أو مركز، وهي تتطور بكل الاتجاهات وداخل ميدان أو مسرح الأحداث، وتعكس البنية صرامة في التوازي وعلى النحو التالي: 

2 من الشرق+ 2 من الغرب.

2 من الدكتاتوريات العسكرية المؤمنة بالعنف لحل المشاكل+ 2 من الأنظمة الديمقراطية التي تؤمن بحق الاختيار وتضمن الحد الأدنى من الحرية.

2 حضور ومشاركة وبصلاحيات مطلقة (الجيل حامل الرسالة) + 2 في الصف الخلفي أو الداعم.

ويبدو أن فكرة الدراما (وهي ثنائية الطيب والخبيث أو المضحك والمبكي) جزء لا يتجزأ من عالم قصي العسكر. فروايته (الرباط) تدور حول اثنين أحدهما بالأسود والثاني بالأبيض. ونفس الشيء ينطبق على (المقصف الملكي). لكن ما يصنع الفرق هو المكان، فالتقابل في رسالة مخالف (شرق وغرب) ولذلك هو يعكس جوهر الحرب الباردة. أما التقابل في المقصف الملكي فهو متماثل (أختان من بيروت) ولذلك كان محور الرواية هو الحرب الأهلية. وهذا يجعل للمكان علاقة مع اتجاه الدراما أو الصراع. وقد استغل الدكتور سرمك هذه التعاكسات لتعمل مثل مرايا متقابلة، الظاهر يعكس الباطن، أو أن الواقع يحمل علامات على النشاط الذهني والمنطق المحرض لخط الأحداث. وهنا ينتبه لأساس النموذج الفني للرواية، وهو تعاكس الضمير مع الشعور بالذنب أو حالة الندم المازوشية والتي تقود الإنسان أحيانا لإلحاق الضرر بنفسه. ويستنتج أن المحرك الذي جر الأحداث من وسط الحبكة إلى نقطة التنوير هو الأنا الأعلى. وهو ما يصدق أيضا على لحظة أحلام اليقظة التي تورط بها الراوي مع ليزابيث ابنة باول. وهي ولا شك تمهيد لما سيفعله في روايته المهجرية التوأم (وأقبل الخريف مبكرا هذا العام). في (رسالة) يغرق بأحلامه ورغباته، وفي (أقبل الخريف) يخطئ عمليا مع تيرينا ويكتشف أنها عذراء، بمعنى أنه سيريق دمها، ولك أن تتخيل الاضطراب الذي وقع به.  كانت خطيئته مثل حجرة سقطت في بئر جاف،  لها دوي، ولكن لم ترسم الدوائر الوهمية والمؤقتة في ضميره. لقد ذكرته بمغامراته السابقة في موسكو، وبتجاربه اللامتناهية مع النساء هناك، وفي نفس الوقت غطت الأنا الأعلى ببرقع من الشعور بالربح. لقد فاز بمعركته على السرير وفي غرفة النوم. وهذا يتيح لنا التمييز بين الأنا المثالي (الأعلى - سوبير إيغو) وهو صفة تشترك بها كل الأمم، وتقع مسؤولية تفسيرها على عاتق النمط، ومثال الأنا (يسميه سرمك في لمحة عابرة: الأنموذج) أو القدوة البراغماتية التي تختلف من أمة لأمة. أما من وجهة نظر الحضارة يمكن أن نجزئ  متلازمة فرويد (أو تناذر الصدع نتيجة عصاب المعرفة) إلى تفكير وأداء بحيث لا يتساوى الاثنان كما يفهم فرويد من معنى الضمير، الأمر الذي يسمح للشخصيات التي تعيش في الواقع أن تعزل أناها الأعلى عن قدوتها، وأن تعطي الضمير إجازة قصيرة حتى استكمال الأدوات أو تحيّن الوقت المناسب. وهو ما يدعوه سرمك بالانتقائية ويعزوه لظاهرة يقول عنها العمى النفسي، ويعرفها بالشكل التالي: أن لا يرى الفرد من جرائها غير مشاهد يريد أن يراها وهي التي تحدد له الأفكار والدروس والعبر “الناقصة والمجتزأة حتما”.  وهذا يتسبب لا بفوضى نصف الحلال ونصف الحرام فقط، وإنما بفوضى الأحكام غير المكتملة وغير الناضجة كذلك (بتعبير سرمك أيضا).

ولا تخلو رواية لقصي العسكر من جرعة من التبرير. وهو يستعمل الصلح مع الذات أو تفسير الذات بالتلبس والتقمص (تكرار التجارب الناجحة، الاختباء خلف شعارات واقعية مثل أن: الحق يؤخذ ولا يعطى. ومثل أن الحياة أقوى من الموت). وذلك لإنجاز هدف مؤجل أو مسكوت عنه. وعلى هذا الأساس يقفز الراوي في (رسالة) من التفكير بالشر إلى تجميل صورته. وربما لو أتيحت له الفرصة لسماه الشر الطيب. وهو ما يقول عنه الدكتور سرمك إنه محاولة مستميتة لكبت صوت الضمير وتمرير الأفعال المشبوهة والانهزامية. وحتى أن ما يمكن أن يتسبب له بالقلق وإعاقة تقدم دورة حياته الطبيعية بدأ يأخذ شكل التبشير بطريق للخلاص. وأعتقد أن الراوي في لحظة المعصية الكبرى وجد نفسه رسولا من موسولوف الروسي إلى باول الغربي، كأنه مسيح أو نبي مرسل من الشرق إلى الغرب، أو وسيط مصالحة أصبحت ممكنة. وقد توقف الدكتور سرمك مطولا عند طريقة راوي (رسالة) بتفادي المصاعب وأقصد الهروب. 

والحقيقة أن قصي العسكر يلجأ لهذا الإجراء في معظم الحالات. وإن استعرضت أهم رواياته ستلاحظ أن (قصة عائلة) تنتهي بهرب أفراد الأسرة المنكوبة إلى إيران. ومثلها (الرباط)، يختم البطل حياته بالفرار إلى الدانمارك. وكذلك في (الهاربان)، أساسا عنوانها يدل على بتر العلاقة المتينة مع المكان. إن سياسة إلغاء الأمكنة من أهم علامات أدب الشيخ عسكر. وهو بذلك يخالف كل أدبيات المرحلة الوطنية وصعود سياسة المواجهة، سواء عند أدباء عراقيين مهاجرين مثل غائب طعمة فرمان (خصص كل أعماله المكتوبة من الخارج لتحليل ذكرياته عن الداخل)، أو أدباء فلسطين، ولا سيما من رفع شعار العودة (وأشهرهم غسان كنفاني ).  ويبدو أن الشيخ عسكر ينفرد بإيمان لا نظير له أن تبديل مكان الإقامة يلغي الأزمة ويحلها. وقد اتبع عدة طرق لتحقيق ذلك.

أولا بالاختباء في صندوق المعرفة. وسفره من بغداد إلى موسكو للدراسة لم يكن إلا حجة واهية للتملص من التزاماته.

الطريقة الثانية  بالاختباء في صندوق الديمقراطية. وفراره من موسكو إلى الدانمارك تحدوه حجة مضحكة، وهي عدم المشاركة في حرب الدكتاتور.

أما آخر وثالث طريقة فهي التواري في صندوق الحضارة. ولم يكن هذا المفهوم واضحا في الرواية، وهو أشبه بموشور متعدد السطوح. فهل كان يعني بالنسبة لشخصية الراوي الهشة والضعيفة الحياة، غريزة البقاء، المسرات اليومية التافهة والعابرة، اكتشاف مجاهيل الذات الإنسانية، أو إشباع مبدأ السعادة (الفرويدي المبسط)؟؟!!. لا يمكنك أن تحدد بالضبط لأن كل الشخصيات كانت ثابتة في مواقعها، وتحمل هوية واضحة مع انتماء متبلور وجازم باستثناء الراوي. فقد مر بعدة تحولات دون أي باعث واضح. ويمكن القول إنه ببنيته شخصية مركبة، أينما انبثق نور الحقيقة يهرب منه، لقد كان مدمنا على تبديل معارفه وخلفياته، ودائما يحجب الحقيقة في ساعة الشدة، ويترك لأساليب التلاعب بالواقع أن تعمل عملها. وبهذا الخصوص اتبع الأساليب التالية:

1- اكتفى بدور شاهد على الأحداث بالرؤية أو بالترجمة أو بالانطواء ضمن قشرته الباردة.

2- بالتذكر والعودة بالعقل لمراحل ميتة انتهى وقتها.

3- وأخيرا بالتخيل. وهو ما يسميه الدكتور سرمك اتباع أدوات سحرية. ولذلك غالبا ما كان لصيقا بطفولته أو طفولة سواه. وبهذه الطريقة يتوهم ما يفكر به أنه واقع  لا جدل حوله. وأعتقد أن تماسكه وتوازنه النفسي لم يكن مسألة فعلية، بل هو نتيجة سياسة الهروب، أو يمكن أن نقول نتيجة استراتيجية التملص (= التهرب)، وهو ما أتقنه عن جدارة.

ودون أي تردد أضع الراوي بين الشخصيات المرجئة. كان يعزم على فعل ما ليؤجل نفاذ مصيره أو قدره. وإن تتبعت خطواته تجد أنها ترسم خطا مستقيما بين عدة نقاط مشتعلة.. الحكومات العسكرية، النزاعات المسلحة، والحرب الباردة. لقد كان يهرب من الموت ولكن ليذوب في بوتقته. وبقيت في هذه المسألة نقطة لم يتطرق لها الدكتور سرمك: وهي أن هذا البطل الضعيف يرى في الهرب رجولة. ومثل هذه الادعاءات تدل على ضعف نفسي وخلل في الهوية والانتماء. لقد شكل قصي العسكر روايته بأسلوب الوحدات الجزئية، كل شخصية لها نواة خاصة، وتجاورها هو الذي يقود مركبة الأحداث، ولكن بقي موضوع مزمن عبر عن نفسه بطريقة معاكسة ودائرية وهو الموت، أو الحساسية من الموت، ثم لحظة الفناء والعدم نفسها. وإذا كان الراوي (غير المسمى - غير المعلوم - الذي تنكر الرواية كل معالمه وقسماته) قد حافظ على بقائه الميتافيزيقي فقد فقد بقاءه الفيزيقي، ورمز لذلك بموت الأب، وهو الأب البديل، الحامل لمشعل الحياة والحارس لها. وهذا يضعنا أمام سؤال مباشر: ما معنى أن تنفصل معرفيا عن ذاتك السابقة ولا تجد أي مفصل أو عروة ارتباط ؟. بل ما تفسير موت  حارس برج الحياة؟. لقد كان الراوي يهرب من هويته نحو انتماء وهمي. وخريطة درب قصي العسكر مشابهة تماما، من البصرة إلى بيروت ودمشق ثم الدانمارك، ليستقر أخيرا في وسط إنكلترا، وهو مكان كتابة هذه الرواية. وإن كانت العلاقة واهية بين تفاصيل الرواية وتفاصيل كاتبها، لكن الرسالة أو الخطاب جزء لا يتجزأ من الاثنين.  وعليه يمكن تعديل سؤالنا ليصبح كما يلي: هل هنا شيء يفصل بين الحرب والموت؟.

أعتقد أنهما وجهان لعملة واحدة. ويمكن اختصار مضمون الرواية بعنوان عريض: إنها عن الموت، وليس عن العائلة. وهي بذلك رواية ذات هم وجودي وحضاري، وتتحرك من فوق خط السياسة. بمعنى آخر: هي رواية عن استراتيجيات وليس شخصيات، وعن موضوع وليس عن أحداث. ومن الصعب أن لا نفهم دور الموت بكل شيء. حتى أن الرسالة (موضوع الرواية) كانت مجمدة لخمسين عاما، ولم تصل إلا بعد موت المرسلة إليه. وتستطيع أن تقرأ في ذلك: أنها أداة تبليغ مجهضة وميتة ولا جدوى منها. أو أنها عمل عقيم. وما الجدوى من مخاطبة ميت؟. وبتعبير الدكتور سرمك نفسه في موضوع أسبق: الأموات لا يشمون الزهور. إنهم لا يعقلون شيئا. وهكذا تسقط رسالة الانفتاح واستراتيجية ما بعد الستار الحديدي، وتسقط الكلمات في آذان لا تسمع. ويرى الكتور سرمك في هذا المنعطف المؤسي نهاية لجيل نشيط خلق أعظم التحولات، ليحل محله  جيل بلا ماض. ويخترع له ألقابا مجوفة ومنها: جيل الصور وجيل العولمة. وربما أراد أن يقول من وراء ذلك: إن رسالة الامتنان من مجتمع انفتح على نفسه، ليكتشف طرقا جديدة للإنسانية، لن يفهمها جيل فقد أباه، أو أنكر قوانينه، وباشر بتحطيم لغته ورموزها. وأيضا لا توجد إشارة إلى ظاهرة الإبدال بين الشخصيات. فالفاعل دائما غائب ويأخذ محله نائب الفاعل. ولا أستطيع أن أقرر لماذا كل هذا الاحتياط. هل لإزاحة الإثم عن كاهل الأب المرهوب الجانب وتحويل التهمة لبديله. أصلا لم يكن للأب أي دور، وكان يأخذ موضعه في العراق: العم في العراق. وفي روسيا: مدينة موسكو في روسيا. وفي الدانمارك: باول. وقل نفس الشيء عن الأم المحبوبة. لقد اختفت عن ساحة الأحداث وأخذت مكانها حورية (خطيبته وابنة عمه) في العراق. وليزابيث في الدانمارك. وعموما مثل هذه التجريدات لم تلحق الضرر بالحبكة، لقد بقيت هي هي.. الراوي يتنقل بين المحطات، ويبحث في كل محطة عن علاقة بديلة، لتطهره من ماضيه وليس من أخطائه فقط. لقد كان نزوع التطهير موجودا عند الجميع، بزرع ضمير مستيقظ وإرادة قوية. وهو ما يمكن أن تسجله للذكور في المقام الأول. كانت دروبهم متباينة مثل انتماءاتهم، كل رجل هو رمز لبلد أو أرض أو اتجاه وطني. غير أن ما وحدهم هو علاقتهم غير النفعية بالراوي، وذلك تحت مظلة استشعار المستقبل، أي أنهم شخصيات رديفة. وهذا برأيي ما يفيد لأن يكونوا أمكنة أو أنماطا وبنفس الطريقة التي تبناها نجيب محفوظ في طور رواياته القصيرة. في هذه المرحلة أعفى محفوظ شخصياته  من الاشتباك مع الواقع، وحوّلها إلى شخصيات تقضم نفسها، وتمثل النمط الذي جاءت منه. إنها صور عاكسة لمنطق خارجي مفروض كما فعل قصي العسكر في (رسالة)، مع فرق بسيط، وهو تذويب جليد الطبيعة وأنانية البشر بالضمير الحي والمتذمر. ولذلك كان أبطاله في حالة دفاع عن النفس، يتسلحون بدروع الندم والأسف، حتى وإن سقطوا بالخطيئة. وهو ما يعزوه الدكتور سرمك لسلوك الإزاحة. لقد استمرت هذه الاستراتيجية في التحكم بكل مواقع الراوي منذ تحكم عمه بمشروع زواجه، وتصرف باول ببناء شخصيته الجديدة، وسيطرة ليزابيث على رغباته. ويمكن القول إن هذا الثلاثي عمد لإلغاء أسرته وأحل محلها البديل، أو المربي الآخر وليس الحاضن. وبهذه الطريقة اغتنت الرواية بالجدل الصراعي، وبحبكة أو سرد صراع الحضارات والثقافات، ولم تستسلم لحياة راكدة ومنتهية الأجل، وهو ما يسميه سرمك بالمراجعة النقدية للذات والتي تعكس اتجاه الفعل التعويضي للأنا الجريحة، وتفرض عليها اجترار مخاوف حياتها. ومثلما تدمج الرواية الماضي البعيد بالحاضر، ومثلما تضع الأجواء العسكرية الساخنة إلى جانب مشاهد الشمال بطبيعته المقسومة بين الجليد الرمادي والغطاء الأخضر، يدمج الدكتور سرمك في شخصية البطل نفوره من نفسه (مشاعر التبرع بخصاء الذات) مع نفوره من آثار وصور المجتمع البطريركي. وفي هذه المرة لم يكن الدكتاتور معنيا،  وإنما الأب والأم والجدة. لقد استعملوا العصا في تربيته، وخلقوا لديه بوادر أنا ضعيفة ( تعاني من شرخ نفسي). وهذا بمعنى من المعاني يتضمن أن وجدان الراوي أو تاريخه كان عرضة لجملة مؤثرات عامة وشخصية. ولذلك اشتدت حدة النزاع في داخله، وكشفت الغطاء عن الضمير، أو الأصح وضعته على نار هادئة وبين عدة تجاذبات. ولو أضفنا لكل ذلك الخوف من الموت،  يمكن أن نفهم لماذا كانت كل شخصيات الرواية تنتمي لنفسها طائعة، بينما ينفرد الراوي بصفة الإفلات أو الهروب. لقد كان مستعدا لكل أشكال القطيعة مع الذات، وفي كل مرحلة كان ينصهر في بوتقة التجربة الراهنة ويستعد لتبني شكل ومضمون جديد. ويمكن أن نستنج أن استعداده لتبديل جلده هو نزوع أصيل ويعبر أيضا عن استعداده لتبديل قلبه أيضا. كانت شخصية الرواية مثل 3 في 1. وهذا ليس دليلا على أنها بلا معايير، ولكنه دليل على خلل في العلاقات، فالبنية الأساسية للراوي تميل لعناصر الأمان الغريزية وليس لعناصر الهوية. وكان على ما يبدو لا ينظر إلى الأرض كمحرض على الكدح وبالتالي كمصدر للثروة، ولكن كقبر كبير، ويجدر بنا أن لا نتماهى به. وهذا أول فرق أساسي بين أدبيات الحارة والوطن والأب (الشرف)، والأدبيات الحاملة لفلسفة الفصول الأربعة أو فلسفة دورة الحياة (الخصوبة ومبدأ البقاء). وإذا سلمنا  مع  الدكتور سرمك أن وصولية الراوي في رسالة سببها الشرخ النفسي، هذا لا يعفينا من اتهام الحداثة أنها ظاهرة تقوم على إنكار الذات. وبالتالي هي تحمل أعراض اضطرابات متعددة، منها جريمة قتل الأب والتكفير عنه بما يسمى التطبيع مع الأصول. ويمكن أن تتلمس ذلك بشكل ظاهر في جيل من رموز الحداثة أمثال سالم بن حميش والأعرج واسيني ونجيب محفوظ وآخرين. إن الحداثة بشكل عام افتراء على جيل الآباء، وهي انحراف له مبرراته. ولكن السؤال: ماذا يضمن  لتزويد (رسالة) وراويها بشخصية متفردة. ماذا يجعلها رواية لها جيناتها الخاصة أو أسلوبها. وبلغة مقننة عتبتها الفنية؟.

بالمقارنة مثلا مع محاولات محفوظ، لتحديث رؤيته ابتداء من (اللص والكلاب)، نجد الفوارق الهامة التالية:

بطل رسالة غائب بدلالة حضوره. فهو منفعل بالأحداث، وتطوره النفسي يأتي بشكل ردة فعل على الظروف،  لكن أبطال نجيب محفوظ يعانون من خلاف حاد مع وجودهم. إنهم يقضمون أنفسهم أو هم يقلّبون في صفحات دفتر الحياة، ولا يعرفون شيئا عنها.

وبطل رسالة يسمع ويشاهد، ونادرا ما يتكلم،  حتى أن كلامه يتخذ عدة ألسن. فهو يتكلم مع كل شخص بلسان مختلف، وهذا بديهي باعتبار أنه إنسان متنقل مثل أي بدوي، يحمل متاعه ويلقيه أينما حل، ومتاعه دون هوية، وهو مجرد شيء قابل للتحميل. بعكس أبطال محفوظ، إنهم يتكلمون مع أنفسهم، وينظرون لصورهم في المرآة، ولا يمكن أن تسجل أي اختلاف في خزانة كلام الصعلوك والوزير. كلهم يستعملون مفردات من قاموس واحد، وكأنهم مفصلون بمسطرة واحدة.

وتبقى نقطة هامة، أن بطل رسالة يعي غيره ولا يعي نفسه، لذلك إنه لا يتكرر، مثل إنسان ديمقريطيس، لا يسبح في مياه النهر مرتين. وبلغة أخرى: إنه سطح نفوذ. أما شخصيات محفوظ صلبة جدا، لها قشرة قاسية، ولا  يمكن أن تفكر إلا بموضعها من واقعها الراكد والساكن.

لقد ورط قصي العسكر شخصياته في (رسالة) بأحداث أكبر منها، واستعمل أسلوبا متعدد الوسائط ليصيغ هذه الأحداث بمطرقة الحداثة. ونحن نسمع ضربات هذه المطرقة وهي تدق على جدران المغارات المحفورة في كل نفس بشرية لتوقظ مشاعرها، ولتدعوها للإسراع بالرد واكتشاف الجواب. لكن محفوظ جرد شخصياته من هذه المسؤوليات، وأود أن أقول إنه حرمها من قدراتها الدفينة، وسرّع من شيخوختها بعد أن كانت صانعة للحدث بكافة معانيه، سواء هو سلبي أو إيجابي، سواء هو صانع عاهات يحتال على ضمير المجتمع، أو شرطي بسيط لديه طموح لمغادرة أزمة شريحته. ولكن لا بد من تسجيل ملاحظة هامة عن حداثة قصي العسكر. من الواضح لي أنها ليست مأزومة، على الأقل أسلوبيا، فهي تشحن الواقعية بجرعة من التقنيات الداعمة، وتحولها من سرد مباشر ينافق الواقع إلى سرد بلا تسويات. ويمكن أن تقرأ ذلك بكل شفافية في خلفيات الراوي. إنه شخصية زئبقية، لا يترك مستمسكات عليه، ويعرف كيف يتملص من النفق الذي أردى نفسه به. كانت اختياراته هي التي تصنع مستقبله، والظروف لم تفعل شيئا إن أردت الحقيقة سوى أنها فتحت أمامه الباب على متاهات الحياة. لقد ألقت به الظروف على أتوستراد عالمي، وهو من رسم اتجاهه عليه.

وإذا وجد الدكتور سرمك زلتي لسان، منهما إطلاق اسم باول ويوهان على شخصية واحدة، فهذا عندي ليس بذي بال. ما يهم هو مخطط حياة الراوي نفسه. فما نسميه بعهد الطفولة في البصرة تفاقم في موسكو إلى رجولة مبكرة. والرجال تخاف من السقوط، لذلك ارتكب المحظور وهرب بجلده من مخاطر الحرب الظالمة واحتمال الموت. والاثنان صنعا في بنيته حفرة نفسية مع ثقب وجودي، ولم يجد حلا إلا بالتخلي عن دكتاتورية الأرض ونظام التفكير الأبوي. وهو نظام قطاعات أو أمكنة، نظام مقصورات وحجيرات، منها الأسرة (غرفة اجتماعية) والبيت (غرفة وجودية) والعمل (غرفة اقتصادية). وكان إنهاك هذه المواضع أو هدمها (هجرانها) يحتاج لمعادل موضوعي كي لا يتسبب بخراب الواقع النفسي كله، فاستسلم للنكوص. ويقر سرمك بهذه الحقيقة من خلال واقعة التبني. فقد فرضت أن يكون له أب يطوعه وهو أساسا مروض خيول. وهكذا يمكن أن تكتمل المأساة ولكن في نفس الوقت أنت تهرب من تحمل مسؤولياتها لسبب واحد، أنك طفل كبير، ولا ينظر إليك المجتمع العالمي كواحد من الجناة، بل يرى من الواجب إحسان تربيتك وتهذيبك. وإن كانت هناك زلة لسان فعلية فهي دخوله الغابة والاستفادة من غلالها (فرز وجمع الفطر غير السام). وهذا عندي نكوص أيضا من مرحلة الرجولة والإنتاج إلى طفولة البشرية ومرحلة جمع الثمار (القطاف). لقد اتسم سلوك الراوي بمشاغبات صبيانية عديدة، ولم يكن بينها أي دليل على الدموية. بمعنى أنه لم يكن كائنا افتراسيا يخاف أن يقتل أو أن يكون هدفا للقتل، وهربه من حفلة الصيد الحقيقية (الحرب) تتماشى مع جمع الثمار في الغابة، وليس مع الصيد وإراقة الدم. حتى ألعاب الطفولة كانت من بين الدمى وليس مسدسات الخشب. ولم ينفر الراوي وحده من الحرب، بل أيضا بقية الشخصيات، موسولوف الذي ينتظر البيروسترويكا، وباول الذي اعتنى بالأسرى رعاية رحيمة وأخوية. وهذه هي رسالة كل العمل.

مثل هذه البادرات المرتدة، أو أفعال العكس، من أهم صفات حداثة قصي العسكر. وهو ما يبعدها عن الإبهام  الذي أغرقت به حداثة الستينات نفسها.

والآن نصل إلى الفرضية التي بدأ منها الدكتور سرمك كتابه. وهي أن الجزء بعض من الكل. وإن كان الراوي مثالا يحتذى في المراءاة والنفاق، فهذا لأنه الحامل النموذجي للمورثات التي جاء منها. بتعبير آخر هو ذرة متناهية الصغر من المنافق الأكبر منه، وأشير بذلك لمجتمعه (الطيب) الذي يعطي بيد ليأخذ باليد الثانية. وهنا أرى أكثر من رابط بين التهويمة الأولى عن البدوي أو الأعرابي الذي خلعه قومه والراوي الذي اختار التزوير والتلفيق ليمسك بحبل النجاة. والواقع أن الدكتور سرمك كان منصفا جدا مع جميع الأطراف، وبارعا في قراءة ما بين السطور، هذا إذا أسقطنا عن عائلة الراوي أنها ليست جزءا من نظام المجتمع الشرقي الضاغط، أو جزءا من ماكينته الشرسة والثقيلة.

لا يمكن أن يكون اختيار التهويمات عبثيا، وهي كما تفضّل سرمك بالقول: تبرر غدر الراوي وخلعه لنفسه أو اختياره الغربة. وهذا لا يجعل منه مكيافيليا فقط، بل حاملا للبذرة التي أحسن مجتمعه رعايتها، وهي بذرة الرياء. وتوجد أكثر من قرينة على ذلك، أنه هو وعائلته كارهون للنظام، إنما لأسباب واقعية يحتفظون بعلاقات طيبة جدا معه. وباستغلال مثل هذه العلاقات كان رحيله ممكنا. فقطع الحبل السري مع مصادره تم بالاتفاق والتواطؤ. وإن ما يبدو كرما وتعطفا (البعثة ) ليس إلا جزءا من ديكور النفاق الوطني. إنه مكياج يتبرج به النظام الفاشي ليستر عورته وقبحه. ولذلك يسمي سرمك الإيفاد (وهو حادثة غير خاصة لكنها تشمل الراوي أيضا) باسم “الأمل الكاذب”. فهو رشوة رخيصة  من ترسانة النظام لتعزيز موقعه ولشراء أو تنويم الضمير العالمي قبل أن يفتعل حرب الثماني سنوات. وهذه  أول رسالة أرسلها الكاتب لقرائه. وأغتنم هذه الفرصة لألفت الانتباه لبنية الرواية: إنها لا تكتفي بصوت سارد واحد، ولكن  أمامنا سارد آخر، منفصل عن الأحداث ومتصل بالبنية، وهو من اختار التهويمات، وجزأها ووزعها على الفصول. وحتى نفهم مغزى العمل يجب أن نتعامل مع السارد الآخر بمزيد من الجدية، وأن نعتقد فعلا أن صوته أعلى من بقية الأصوات. وأن إشارة الأعرابي لغبن قومه هي بنفس الوقت تنبؤ بالغبن الذي تخوّف منه السارد المهاجر. فهو لا  يحلم أن تستقبله بغداد ببساط أحمر تمده من المطار إلى باب بيته، بل كان يعتقد أنها تطارده، وتريد أن تراه أسيرا لديها، وربما تكبّل يديه بالأغلال وقبل أن يهبط من سلم الطائرة” (ص 18).

ويضيف لاحقا:” وماذا ينتظرني في بلادي غير الحرب أو العقاب الصارم”(ص 28).

ثم يتابع بمرارة أشد:”العودة تعني الموت بالحرب أو تهمة الخيانة”(ص 62).

وبوجيز العبارة حافر الأعرابي يقع على حافر السارد. يعني الساردان متفقان على مضمون واحد، أن العلة ليست بالحرب، ولكن في النفوس، والعنتريات الباردة لا تصنع رجالا حقيقيين.

وللرواية رسالة كلية ثانية متضمنة، وهي ولا شك مضللة بشكل كبير. فالراوي منبهر بالغرب منذ أول لحظة، لكنه يوسع الشرق شتما وإهانة، ولا يرى أي فرق يذكر بين سلطة بلاده وسلطة موسكو، ويشير لذلك في عدة مناسبات، ويقول حرفيا: إن الرفيق في موسكو سيسلمه عن طواعية للجلاد الرفيق في بغداد. ويستغل هذه النقطة ليقارن بين طبيعة الدانمارك الفاتنة وسهولة إغراء بنات روسيا.  حتى أنه يمكنك أن تفوز بأي بنت جميلة لقاء حمالة صدر تشتريها من البصرة أو لقاء قطعة علكة. ويسخر سرمك من هذه الإشاعة الرخيصة ويسأل نفسه: كيف تشتري بنات أمة تغزو الفضاء بقطعة علكة؟.

الجواب في قلب الشاعر. وكما يقول المثل الطيور على أشكالها تقع. لا شك أن بطل (رسالة) كان يواعد فتياته في الديسكو والأسواق وربما المطاعم، حيث يكون العقل والثقافة في الخلف والغريزة في الأمام. وهذه من شيم  الراوي، فهو مدمن على التزوير وانتحال الصفات وعلى الفرار. لكن لم أجد قرينة واحدة تدينه، وهذه إحدى الفراغات القليلة التي تحتل جزءا من فحوى العمل. لماذا لا نسجل فلتة لسان واحدة ضد تسليع المرأة في الغرب، بينما نجد الشرقيات أرخص من التراب؟؟.

أعتقد أن السبب هو بالترابط وليس في العمى. فقصي العسكر لم يدق طبل الحرب على روسيا إنما استفاد من الشرخ السياسي في البيروسترويكا  لينظر من خلاله إلى الغرف المعتمة. وهي نفس الغرف التي أجاد بوصفها هرمان هيسة في (ذئب البوادي  - عن ألمانيا)،  ثم  جبرا جبرا في (الغرف الأخرى - عن أنانية البشر وغريزة الامتلاك). لقد كان قصي العسكر يحاول أن يستنتج الكل من الجزء، أوالمشكلة الأساسية من الثانوية، وبعبارة مباشرة ضرب عصفورين بحجر واحد.. انتقد الأداة (الجهاز الإيديولوجي المسن أو الميت)، ليصل لانتقاد وإدانة الأسلوب (الدكتاتوريات العسكرية في العالم الثالث). وحماسة الراوي للتبشير بالسلام ولتجريم الحروب، جعلته ينظر لما حوله بعين واحدة. ولكن إذا فتح عينه الأخرى، كما فعل جبرا وهيسة، سيسمع هذه الأرقام وهي تتكلم وتعطيك فكرة عن البلد الذي منع العلكة والجينز.

تشير الإحصائيات إلى أن السوفييت حافظوا منذ 1961 على أكبر معدلات في النمو الزراعي. ومنذ عام 1990 على أكبر انتاج في قطاع الغاز والفحم. ومنذ 1961 على أكبر مساحة منتجة من الأراضي. لكن سقوط دولة الحزب الواحد لم تأخذ معها الخدمات الثقافية وخدمات التعليم ووسائل الترفيه من حدائق ومتنزهات. وتذكر الإحصائيات نفسها أن ما في موسكو من مساحة خضراء (حديقة غوركي مثلا) تعادل ما في واشنطن العاصمة من مروج ومتاحف. وإن فحصتها عن قرب ستجد أن موسكو تضيف لحدائقها أدوات التسلية للصغار واليافعين، مقابل   المطاعم وأكواخ المثلجات في أمريكا بشكل عام. إن مشكلة السوفييت هي في تداخل الإيديولوجيا مع حدود التفكير، وفي مرحلة من المراحل أصبح التبشير بالدولة أعلى من الفن ذاته. ولم يعد هناك وازع حقيقي يفصل المهرج عن العمل الأصيل.

ولا يفوتني هنا التنويه أن ما تحمّله الاتحاد السوفياتي من سمعة رديئة في السياسة الثقافية هو مثل سمعة جبال الزمرد في سيرنا الشعبية. إنه نتاج خيال مريض ومشحون بروح العداوة. فتقرير اليونسكو المطبوع في باريس عام 1970 * يذكر الأرقام التالية:

22.8% من الميزانية المخصصة للثقافة والنشاط الاجتماعي أنفقت على المدارس (بقيمة: 3354.2 مليون روبل - عام 1955).

مقابل  0.4% فقط على دور النشر الحكومية (بقيمة 62.4 مليون روبل لنفس العام ).

و1.8%  أدوات تثقيف وجوائز (بقيمة 270 مليون روبل لنفس الفترة). وما تبقى يذهب للمتاحف والرياضة والمعارض.

ويبين الجدول أن الإنفاق على النشر والإعلام (البروباغاندا)  يتراجع كل 10 سنوات بمقدار 50%. ولا أعتقد أن الكلام يفيد بوجود هذه الأرقام. كانت حصة الإيديولوجيا تنحدر على طول الخط مع أنها أساسا لا تتجاوز النذر اليسير. وبهذه الطريقة الرمزية، تعرفنا على كاتييف وبونداريف وغايدار. وأرى أنه في الثقافة تغلب الدسم على السم، وذاب الزبَد في مياه النهر الجاري، بينما حاليا لا نعرف أي شيء حقيقي وملموس عن أدباء الصف الأول، أمثال شاروف وسوريكين ويوليتيسكايا. ولم نسمع بالبيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش إلا بعد أن نالت الوسام الذهبي الرفيع من نوبل. وهكذا تنطبق الدائرة على نفسها، ونجد أننا أمام الكابوس القديم.. لا نسمع إلا بمن يفوز بشهادة شرف وحسن سلوك من الغرب، كما جرى سابقا مع باسترناك وسولجنتسين. ولو لا سياسة البروغاندا والنقود الطائلة التي تنفقها الدولة على تجميل صورتها هل سيكون اسم إيتماتوف عند أبناء اللسان العربي مسموعا أكثر من نظيره سوروكين؟. إن الستار الحديدي على ما يبدو لي مسؤولية مشتركة، وهو اسم لشيء وهمي ترعاه تقاليد الطرفين.

ويبدو لي أن أرقام الدعاية السوفييتية نكتة مضحكة إن قارناها بما أنفقته أمريكا على النشر (الدعاية والبروباغاندا) من خلال مؤسسة واحدة هي فرانكلين. فقد كان لها فروع في أهم عواصم الشرق الأوسط. وتذكر السجلات أن ميزانيتها بلغت 113 مليون دولار. وهي تساوي في الخمسينات (ذروة نشاطها) ما  يزيد على 141000 مليون روبل (أضعاف مضاعفة مما أهدره السوفييت على شعوب تعتقد أن بين الروس والله أحقاد قديمة). وفي مذكرة وزعها مكتب فرانكلين الرئيسي في نيورك عام 1956 على فروعه ورد ما يلي: ضرورة التركيز في اختيار العناوين على معاداة الشيوعية. وأن يكون سعر الكتاب مقبولا ولا يثير الشبهات**.  ويلاحظ الباحث الإيراني إسماعيل هداديان مكدام أن نشاط فرانكلين غطى رقعة نشاط دار التقدم الروسية بالإضافة إلى لغات لم تكن نفوذة للروس ومنها الأردو والتركية والفارسية والإندونيسية. ناهيك عن توفير خدمات  تأهيل الكوادر التعليمية المحلية بالإضافة لسخاء الدار وكرمها على المترجمين ***.

 إن “حطب” الشهرة ، بتعبير الدكتور سرمك، هو المؤسسات الغربية. وكلها تقف بجهوزية كاملة لدفن الأحياء ونبش الموتى. فالمعايير سائلة،  بالإضافة إلى أنها متحيزة مثل السوفييت. وإلا كيف نفهم منح نوبل لبيغن والسادات وهما شاكي السلاح وفي نوبة من العزلة والغيبوبة، ونمنعها عن غاندي النبي المعاصر لأسلوب اللاعنف في التحرير والاستقلال!!؟؟.

ولكن ليس هذا موضوعنا.  

 يمكن النظر لرواية (رسالة) أنها صف أمامي في معركة الحضارات. ولنفهمها بشكل جيد يجب أن نضعها في الإطار المناسب لها، وهو كل أعمال لقاء الشرق والغرب، ابتداء من (الحي اللاتيني) لسهيل إدريس وانتهاء بدرة أعمال برهان الخطيب (على تخوم الألفين). وطبعا مرورا بقصص الرائد والملهم عبدالسلام العجيلي، ومن سبقه مثل يحيى حقي (في قنديل أم هاشم) وطه حسين (في أديب) وآخرين. وينفرد قصي العسكر عنهم بنغمة التحير والإبهام التي تلف مسعاه. فهو بعكسهم لا يسافر لطلب المعرفة فقط، وإنما للاستقرار، ليضع عصا ترحاله، ويلقيها بين أقوام قال عنهم المتبي سابقا، وهو يبحث عن أناه النرجسية وليداوي جرح  أهله ومجتمعه: إنه فيهم غريب الوجه واليد واللسان. لكن بطل الشيخ عسكر يهلك نفسه ليجد نقطة توازن، بمعنى بؤرة تجميع. لقد كان هدفه من البداية مجتمعا معولما عابرا للقوميات، تخلع نفسك فيه من ماضيك ومن خلفياتك، وتنغمس بمياه يوتوبيا فردوسية، تنعم على البشر بما يرغبون به، وتعمل بشكل فلتر يمنع عن البشر رهاب الموت وأدواته البشعة: كالمرض والكد والشقاء والتعب. ولذلك أنا مع الدكتور سرمك، مائة بالمائة، أن هذه الرواية هي “حلم حقيقي”، نسرح فيه بتخيلات اليقظة، وندخل أيضا في أعماقنا لنتعرف على الرغبات التي تتململ فيها، وكل ذلك بفضل آليات التكثيف والاستبدال والتوسيع القانوني. لقد تصرف الراوي في (رسالة) كأنه بلغ آخر نقطة من حياته، وأصبح الواجب يقتضي أن يحرق ذاته لينير ظلمات الإيديولوجيا بنور الحقيقة، وبهذا المعنى نجد أنه يحض على البراكسيس ويضعه فوق المعرفة، أو أنه كان من طرف العقل التجريبي وليس العقل الخالص، وما ننعم به الآن وهنا (بتعبير هيدجر) سيحجب بالضرورة أوهامنا عن أشياء مؤجلة، وإن لم يكن  بين أيدينا دليل واحد على إنجازها. وفيما أرى كسب قصي العسكر نقطة بهذا المنطق وخسر نقطة.

فهو لم يقدم أي صورة لا إيجابية ولا سلبية عن بلاده أو حتى عن روسيا بعد سقوط الستار الحديدي. ولكنه حرر نفسه من الحبكة الغرامية، وزود أبطاله بمدارك واسعة ذات أفق حضاري وإنسانوي. لقد كان ينتمي للإنسانية وليس لأرض بعينها، ويؤمن بعالم دون حدود، لذلك كانت البصرة بالنسبة له مثل موسكو وهلسنكي، أمكنة لا فرق بينها. وأعفاه ذلك من “حكاياتنا الداخلية” بتعبير سرمك، وبالتالي من مفهومنا للقانون الذي سيجرّمه حتما. ومثل هذه التبرئة قرّبته من المضمون الذي يمكن أن يعبر عنه الشعر (باعتبار أنه فن حذف) وليس السرد (باعتبار أنه فن إضافة) بلغة سرمك أيضا. إن العازل الذي وضعه قصي العسكر بينه وبين جيل الرواد يتمثل بفكرة بسيطة: أنه لبى نداء الهجرة والغربة طوعيا وعلنا، ولم يخبئها وراء هجرة مؤقتة أو رحلة علمية. حتى لو قارناه مع أيقونة الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) كان منتميا لكل ما يرفع جدار عزلته ويبعده عن ماضيه أو هويته الأساسية. وإن جردنا هذه الحبكة من قشورها واختزلناها بحجم الفكرة - النواة نلاحظ أن الرواد كانوا ميالين للعزف على نغمة الأخلاق  (في مفهوم الخيانة والاحتلال) لكن قصي العسكر انحاز لعاطفته، وكان يقيسها بالغريب الذي يقبع في داخله أو بمعايير الهو Id . وهكذا انفصل عن جهاز الرقابة وتمدد بكل امتنان على سرير الهجرة والاغتراب.

 

د. صالح الرزوق

...................

*Cultural Policy of the Soviet Union. Unisco. Paris. 1970.  p.57.

** Franklin Book Programs Records. Philadelphia Area Archival Research Portal.

*** The Cultural Cold War and the Circulation of World Literature: Insights from Franklin Book Programs in Tehran.  Esmaeil Haddadian-Moghaddam.  Journal of World Literature.

 1- صدر الكتاب عن مؤسسة المثقف العربي بالاشتراك مع دار أمل الجديدة في دمشق عام 2020.

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم