صحيفة المثقف

حينما ترسم الريشة روح الواقع قراءة في أعمال علي العبدلي

105  علي العبدلي 4عرفته في (الفيس بوك) يُعلق على ما أكتبه من رؤى فلسفية، فكنت أظنه قد درسها دراسة أكاديمية، ولكنني بعد أن زادت معرفتي به، عرفت أنه درس في كلية الفنون الجميلة، ورسام من طراز خاص، لم تشغله تحولات المدارس المعاصرة مثل التكعيبية والتجريدية، لأنه منهم بما يُمكن تسميته بـ "أصل العمل الفني" بعبارة مستعارة من "هيدغر".

105  علي العبدلي 3

 يرى العبدلي أن في هذه المدارس إتقان للعبة الرسم لتحويل العمل الواقعي إلى تمثلاته في الذهن، فأ صل العمل الفني هو الواقع، ومهمة الفنان الأصلية رسم الواقع أو التعبير عنه بما يجعله عملاً تنطق الروح فيه، فضلاً عن محاولته الحفاظ على مكوناته الواقعية أو الطبيعية الأصلية، فلا تجده يرغب باللعب على تحولات الشكل وفق مخيلة الفنان إلا بما يُصيّر الفنان مُنتجاً لنصه الإبداعي في الرسم وفق محمولات الشكل في الواقع وممكنات وجوده في مخيلة الفنان (الرسام) ومشاعره.  يرسم لوحته وكأنه متلق لها، ليستلهم من المدرسة التعبيرية في المقام الأول، التعبير عن ما تُثيره فيه من مشاعره , يكشف فيها بما يُمكن أن أدعوه بـ "تلاقي الأرواح" في عالم الواقع لا في "عالم الذر" بعبارة مستقاة من الفلاسفة المسلمين.

105  علي العبدلي 1

لا أخوض بتاريخ نشوء المدرسة التعبيرية التي مثلها (فان كوخ) أو (سيزان) أو (كاندنسكي) خير تعبير، لكنني سأشير لما قدمته التعبيرية من إضافة للفن وتاريخه، فهي مدرسة تعتمد في التشكيل على الاعتقاد بإمكانية جعل العالم أجمل عبر مشاركة الفنان التشكيلي المدرك لقيمة الجمال في ترميم خراب العالم. 

105  علي العبدلي 9

ما يُميز أعمال علي العبدلي أنه يرسم بعفوية مع موهبة واعية ليترك لريشته حرية الحركة وإنتقاء الألوان، وكأن وجدانه هو الذي يُحرك ريشته، فهو رغم أنه مغرم برسم الواقع برؤية إنطباعية، وله رسومات كثيرة تدخل في فضاء رسم الواقع والطبيعة والبورتريه، لكنه حتى في رسوماته هذه، نجد حضوراً للتعبيرية ونزوعه (الوجداني) = (الذاتي) في رسم الشكل لا ووفق مقاسات وألوان يحكمه بها اختياره للعمل المجسم الذي يرغب برسمه، فهو لا يرسم المظهر الطبيعي والشخصية كما هي، ولا ينشغل بالموديل أو الطبيعة الشاخصة أمامه، بقدر ما يُحاول أن يخلق منها سطحاً تصويرياً لا يفقد صلته بالواق المشخص، ولكنه في الوقت ذاته لا يكون نسخة تصويرة منه.

105  علي العبدلي 5

يرسم العبدلي لوحاته ليمزج فيها ذاتية الفنان وشاعريته التي يختار بها أنموذجه الذي يروم رسمه، لتكتشف أن علي العبدلي ينفّذ لروح الواقع (الأنموذج)، فتكتشف أنه يرسم صورته التعبيرية المندكّة بروح العمل الفني أو أصله؟. 

105  علي العبدلي 2

رغم ما يؤكده النُقاد على أن الإنطباعية تُناقض التعبيرية، لأن الإنطباعية تعتمد على المشاهدة الحسية المباشرة، بينما التعبيرية تحاول الكشف "المسكوت عنه" أو "الضامر" خلف الظاهر من العمل الذي يروم الفنان رسمه لإظهاره، أو ما أسماه كانط "النومين" أو "الشيء في ذاته" الذي لا قدرة للحس ولا للتجربة على إدراكه بروحية فيها من "التجلي الجميل" بعبارة غادمير ما يجعلها تخترق "أصل العمل الفني" وتحضر بتجاوز لمعناه في تلقينا لواقعه الشاخص. أقول رغم أن العبدلي يرسم الظاهرة "الفينومين"، لكنه لا يرسمه بقصد مطابقة الشكل للواقع الشاخص، بقدر ما يُحرك أو تتحرك ريشته لترسم روح الطبيعة بانتماء يقصده أم لا لمقاصد المدرسة التعبيرية في الرسم.

105  علي العبدلي 6

 يرسم العبدلي لوحته وكأنه يُعيد لنا رغبات التعبيرين في جعل الفن رسالة للمحبة، فتجده حينما يرسم بورتريه , أو يرسم الطبيعة يُظهر لك جمال الألوان في إندماجها، ولن تجد في لوحاته لوناً يُثير حين تلقيك له ما يستفزك أو يُثيرك، فهو ينقلك من جمال الألوان في الطبيعة لبهجتها في جمعها في سطحه التشكيلي. إنه يُجيد قصد أم من دون قصد الإنتقال من الإنطباعية بنزوعها الحسي إلى التعبيرية بنزوعها الوجداني.

105  علي العبدلي 7

في فنون "ما بعد الحداثة" تبني لما سُميّ بـ "جماليات القُبح"، وعلى ما في هذا النتاج من فن أثبت حضوره العالمي، إلّا أن العبدلي يميل إلى ما يُمكن أن نسميه "المدرسة الكلاسيكية" في الرسم، هذه المدرسة التي تُميز بين حقلين (الجمال) و(القُبح)، وهما نهران لا يلتقيان، ولا يُمكن أن يكونا وجهين لعملة واحدة، فالجمال جمال والقُبح قُبح، لذا فهو دائم الميل في أن تكون مهمة الفنان تجميل العالم، لا جعل القبيح من معطيات التذوق الجمالي، فكان كل همه في لوحاته تقريب البعد الجمالي، وإبعاد كل تصوراتنا للقُبح في الرسم، لأن مهمة الفنان ـ كما ذكرت ـ رسم عالم أجمل، السعي نحو أن يكون العالم أجمل.

105  علي العبدلي 8

لم يرغب في أن تكون أعماله (محاكاة) أو استنساخ للواقع، رغم ميله لرسم الواقع، ولكن لا كما يظهر، بل كما يبدو أو يتجلى له في عمله التشكيلي. أجد في العبدلي أنه من فيض قراءته للفلسفة، حضور للألوان بطراوة مشهدية فيها من (الإبهار) ما يجعلك تتذوق الواقع وكأنك لم تره من قبل، فهو لا يدعوك لرؤية ما تراه عيناك في رسم لوحة واقعية، بقدر ما يجعل من لوحته بمثابة حكاية يكتبها قاص أو سارد تصور الواقع برؤية فنان يحلم بتكريس "نزعة الأنسنة" في الفن العراقي، فرغم ما تجد في لوحاته من تعبير عن تلقي حسي للمكان، لكنه يخلق أمكنته الخاصة به، أمكنته المُحملة بما أسميته "نزعة الأنسنة" الفياضة بالعاطفة وكأنه صوفي يسكن الطبيعة ليعتزل فيها، بل ويسك الوجوه التي يرسمها، لعله يجد فيها من يظن أنها وجوه "رحمانية"، لذا هو لا يرسم الصورة بقدر ما يرسم تشكّلها في مجسّاته الفنية وتلويناته التعبيرية التي تظهر في لوحاته عبر محاولات استخدام بعض الألوان بطريقة مكنته من إظهار ملامح الوجوه بتعابير نفسية تجعل المتلقي مشاركاً في فهم الشخصية وإن لم يعرفها.  وكذا الحال حينما يرسم مشهداً طبيعياً، فتجده يجعلك ترى إحساسه بالمشهد لا المشهد ذاته.

 

ا. د. علي المرهج

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم