صحيفة المثقف

رافائيل.. عندما تعانق البساطة الانسانية

يسري عبد الغنيعندما يجول فكرنا في النهضة الإيطالية، يتبادر إلى أذهاننا على الفور أسماء ثلاثة من عظماء الرسامين، مايكل أنجلو، وليوناردو دا فينشي، ورافائيل، الذين عاشوا جميعًا في نفس الوقت تقريبًا، وقد ولد رافائيل، أصغرهم، في قرية أوربينو في عام 1483 م، وفي نفس الوقت كان مايكل أنجلو في الثامنة من عمره، وليوناردو في الحادية والثلاثين .

تعلم رافائيل في الصغر الرسم من والده، وعندما بلغ السابعة عشرة، كان يعمل ويدرس تحت إشراف بيرو جينو، وقد كان هذا الفنان اليومبري، نسبة إلى مقاطعة يومبريا الإيطالية، مشهورًا بتركيباته الرائعة المتوازنة، وخلفياتها، من أبنية ومناظر طبيعية، وكما تقول الكتب التي تحدثت عن رافائيل فإنه من الممكن أن نرى تأثير الأستاذ الواضح على أعمال رافائيل المبكرة، مثل : لوحة (زواج العذراء)، والتي رسمها سنة 1504 م، والمحفوظة بمتحف بريرا بميلانو الإيطالية .

وفي هذه اللوحة يمكن أن نرى كيف أن الخلفية المعمارية، كسمة بارزة، قد بقيت متميزة عن الأشخاص الرئيسيين، الذين يظهرون في الصورة بوضوح أمام درجات المعبد، ويقوم يوسف النجار بتقديم الخاتم لها، بينما يقود القسيس يد السيدة / مريم العذراء تجاهه، مشجعًا إياها كي تضعه حول إصبعها، هذا هو موضوع اللوحة، وقد وضع التركيب الكلي للوحة بالطريقة التي تشد اهتمام المشاهد لها .

بعد فترة وجيزة من رسم تلك اللوحة، توجه رافائيل إلى فلورنسا، حيث كان يعمل العديد من الفنانين والنحاتين هناك، وهنا تعرف بالفنانين العظام، من أمثال: مايكل أنجلو ودا فينشي، وتلقى الكثير عنهم .

وأثناء وجوده في فلورنسا، رسم رافائيل لوحات عديدة للسيدة / العذراء، ومن أجمل هذه اللوحات لوحة (عذراء طيور الحسون)، والمحفوظة في متحف يوفيزيا بفلورنسا، بخطوطها المستديرة الناعمة، وتعبيرها الرائق .

ويرجع سحر هذه اللوحات إلى كونها طبيعية ورقيقة، وعلى الرغم من كونها أم السيد / المسيح (عليه السلام)، فقد صورت في لوحة (البستانية الحسناء)، والمحفوظة بمتحف اللوفر بالعاصمة الفرنسية باريس، صورت كامرأة عادية حافية القدمين تلعب مع طفلها، وتلك البساطة، قبل أي شيء آخر، هي التي أعطت لوحات رافائيل مثل هذه الشعبية الواسعة .

أما لوحة (آنسيدي) التي رسمت عام 1506 م أو 1507 م، فهي لوحة أكثر منهجية، فالملامح المعمارية الواضحة، والتوازن الدقيق بين الأشخاص على جانبي العرش، كل ذلك يوضح مدى التقدم الذي خلفه رافائيل خلال إقامته في فلورنسا .

أما (لوحة عذراء الكرسي)، والمحفوظة بقصر بيتي بفلورنسا، والتي رسمت في وقت لاحق في روما، فتظهر لنا قدرة رافائيل على تحقيق الاستخدام الأمثل بقماش (الكانفا)، وكما في لوحة (البستانية الحسناء)، صور القديس يوحنا كأقل الأشخاص أهمية، وعلاوة على ذلك فإننا نجد الأشخاص الثلاثة شديدي الترابط داخل الإطار المستدير المحيط بهم .

ومن المحتمل أن يكون رافائيل قد غادر فلورنسا عام 1508 م، وتوجه إلى روما، حيث كان مايكل أنجلو في سبيل البدء في رسم سقف (إبراشية سستين)، وعلى الرغم من أن رافائيل لم يكن قد تجاوز السادسة والعشرين من عمره، فقد أسند إليه البابا / يوليوس الثاني، زخرفة بعض الغرف الجديدة في الفاتيكان، وقد زينت الجدران الأربعة، وكذلك سقف كل من تلك الغرف، بلوحات رائعة من الفريسك .

ويطلق على الغرفة الأولى، الغرفة الباباوية للتوقيع، وتوجد بها لوحتان كبيرتان من الفريسك، وهما (الجدل) أو (الجدل بخصوص السر المقدس )، والثانية (مدرسة أثينا)، أما الجداران الآخران فتقطعهما النوافذ، ويحتويان على لوحات أصغر من الفريسك   (الشعر والقانون) .

والرسم المنشور في العديد من الكتب التي كتبت عن رافائيل، مأخوذ من لوحة  (الفريسك) والمعروف باسم (الجدل)، والتي تمثل عددًا من الأشخاص يشاهدون ظهور الثالوث المقدس : الأب، والابن، والروح القدس، وفي قمة الطرف الأيسر لصورة اللوحة، يمكن للمشاهد أن يرى يدًا، تلك هي يد القديس أوغسطين، وهي تجذب اهتمام المشاهد إلى أسفل، حيث يركع سكرتير يقوم بإملائه، وبمثل هذه الطرق، كانت لوحة الفريسك تكتسب حركة وحياة داخل إطار متوازن ومتناسق .

وعلى الجدار المقابل توجد لوحة الفريسك المعروفة باسم (مدرسة أثينا)، والتي تقوم على فكرة فلسفية، وتمثل هذه اللوحة الفيلسوفين الكبيرين : أفلاطون وأرسطو طاليس، يحيط بهما المستمعون داخل إطار معماري ضخم، ومما يبعث على الاهتمام أن نرى كيف أن رافائيل لم يكن مهتمًا فقط بالموضوعات الدينية، وهو ما قد يتوقعه المرء عندما يشاهد أي عمل فني في الفاتيكان، بل أيضًا بالثقافة والأساطير الدينية لدى الإغريق القدماء ، وهذا جانب مهم من جوانب الحركة الإنسانية في عصر النهضة، من حيث اهتمامها بالإنسان والله سبحانه وتعالى .

وفي نفس الوقت كان رافائيل منهمكًا في أعمال أخرى، بما فيها تصميمات النقوش النسيجية لتعليقها في أبراشية سستين، وتوجد تصميمات هذه الأقمشة النسيجية في متحف الملكة فيكتوريا وألبرت في العاصمة البريطانية لندن، ولا يفوتنا أن نذكره هنا اللوحة التي رسمها رافائيل مصورة إنزال السيد / المسيح (عليه السلام) من على الصليب، والمحفوظة في متحف يورجيزي في روما العاصمة الإيطالية .

وأثناء وجوده في روما، أصبح رافائيل رسامًا مشهورًا يشار إليه بالبنان، وكان هناك باباوات وأمراء من بين من قام برسمهم، ولم يستخدم رافائيل الأوضاع الأميل للجمود التي كان الرسامون الذين قبله يتميزون بها، بل ركز أكثر على شخصية وطباع أي شخص رسم صورته كائن من كان .

وفي وقت من الأوقات، كان رافائيل مسئولاً عن بناء الكنيسة البازيليكية الجديدة للقديس بطرس، وهو عمل تكفل به عند وفاة بارامانتي سنة 1514 م، وكانت قدراته المتعددة إحدى السمات التي تميز بها فنانو عصر النهضة، ومثله في ذلك مثل : مايكل أنجلو وليوناردودا فينشي .

لقد لقي رافائيل الاعتراف به كفنان عظيم، له قامته وقيمته، على الرغم من أن غالبية الفنانين الذين سبقوه كانوا يعاملون كحرفين مأجورين، وقد توفي رافائيل عام 1520 م، في سن مبكرة، ولما يتجاوز السابعة وثلاثين سنة من عمره .

وختامًا نذكر صورة رافائيل الذاتية في صباه، والمحفوظة في متحف أشموليان بأكسفورد البريطانية .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم