صحيفة المثقف

بنت البلد

ناجي ظاهرفي يفاعته الاولى رآها بعين خياله فاختزنها في اعماق ذاكرته. في شبابه الاول رآها بأم فنه فرسمها في الف لوحة ولوحة... بسببها ومن اجلها اصبح رساما تحدو الركبان باسمها اولا واسمه ثانيا. امس خرجت له من اعماق كهولته، واقبلت عليه من متاهات بلدتها القديمة لتعلن له حضورها بعينيها العميقتين ونظرتها الحالمة الخلّابة..، وهذا منتهى ما يمكنه ان يصفها به، كانت نظرتها ذات عمق وتاريخ، ربما يساوى عمره منذ وعى هذه  الدنيا.. وابعد، ومع انها حاولت ان تخفي نظرتها تلك بإخفائها وجهها بطرف شالها، فقد تمكن من تصور المتبقي من ملامحها، وهل كان بإمكانه الا يفعل.. لقد الحت على ذاكرته منذ ظهرت شعاعا من نور في آخر نفق الديجور.. المعتم؟ حتى امس وبعده اليوم؟.

ما ان رآها، هو الكهل الرسام، ابن البلد، ترسل نظرتها اليه، حتى اختفت من امامه، لحق بها. ركض وركض وركض. محاولا ادراكها، الا انه لم يتمكن. كان ذلك في ساعات الفجر الاولى. عندما تعالى النهار وارتفعت شمسه، كان قد استلقى في مكانه لينام، مدّت يدها اليه.. بخفة فراشة قادمة من غابة حطّاب اسطوري، وهزت يده. فتح عينه مغمضًا الاخرى، الا انها اختفت بطعم المفاجأة ذاتها.

عندما اتى المساء تلفّت حوله. ليرى الشارع خاليًا الا من مار او مارين.. او اقل. افترش درجات الزقاق القديم، متنعّمًا بملامسة بلاطها، ومنتظرًا ان تأتي..، لقد احس ان مباغتتها له ومحاولتها ايقاظه، انما كانت محاولة او طلائع محاولة لبعث الحياة في جسده الكهل. " ما فعلته.. ما هو الا ايذان بتحقق حلم"، قال لنفسه وذكّرها بما كانت تقوله له امه المرحومة بلهجتها الفلسطينية الاصيلة: " لكل حدوث علامات وبشائر.. اذا بدها تشتي بتغيّم". محاولتها ايقاظه تلك كانت بمثابة غيّمة مبشّرة.. بعدها كان لا بد من ان يهمي مطرُ حضورِها مدرارًا ليروي روحًا طال انتظارُها لها..

ينتابه شعور بالرّاحة والاسترخاء.. انه يشمُّ رائحتَها تعبق في انفه، وتفوح متصاعدةً من اعماق الزقاق البعيد القريب.. هزّتُها لإيقاظه كانت بمثابة بشير وفأل حسن يحتّم عليه ان ينتظر.. وها هو يفعل.. الوقت يمضي مخفيًا سحرَ عينيه.. والمساء يرخى جدائله فيشعر بنعومتها.. المطمئنة.. يغمض عينيه ويفتحهما ليراها مُقبلة من هناك.. من اعماق البلدة القديمة كأنما هي نور حديث الولادة يطلّ عليه اولًا بأول.. هو لا يجري باتجاهها، حتى لا ينفّرها، اذا كنا صادقين بانتظارنا، فان ما ننتظره سيبحث عنا وسوف يجدنا.. لا تجرِ وراء ما تريد.. كن مخلصًا صادقًا فقط.. وسوف يبحث عنك ليجدك مهما كنت بعيدًا.. وانىّ كنت.

الضوء يقترب اكثر فأكثر.. يفتح عينيه.. تلتقي عيناه بعينيها، نورها ينتشر .. يملأ البلدة القديمة، يمكّنه من ان يراها ابهى واجمل، كل شيء يبتسم.. الحبق في تنكاته وردة الفيّ في اصيصها، من هناك من نافذتها العالية، تطلُّ امرأة ساحرة العينين.. بضة الساعدين. من يعلم ربما كانت مثله على موعد.

تعود ساحرته لتطلّ من بعيد.. تدنو.. انها تدنو.. منه تدنو..

-تعالي.. اقتربي. اقتربي. يقول لها وهو مغمض العينين. تقترب منه بخفتها الفراشيّة، يواصل اغماضه عينيه. يشعر بها تدنو منه اكثر فاكثر، انه يراها الآن بعينيّ قلبه، تمدّ يدها البضة الطرية.. تمدها لتداعب شاربيه.. شعور بالرجولة ينتابه. ها هي تأتي اليه اخيرًا. لقد وعدت واوفت. تنسل من المكان منسحبة الى الوراء.. يراها بأم بصيرته تنسحب وتبتعد.. انها تعود من حيث اتت.. تعود الى هناك.. إلى اعماق البلدة القديمة.. انها تعود لتتسربل في عتمتها، العتمة تلفها بدثارها. تهمي دمعةٌ حرّى من عينه ويواصل الانتظار.. لقد وعدته بكل ظهوراتها الماضية بان تحضر وحددت بوعدها له موعده وانتظاره.

هل هي ساعةُ اللقاء تحين؟.. وهل يمكن الا تكون هي..؟، ماذا عليك ان تفعل ايها الفنان الحالم؟ عليك ان تنتظر. لا مفرّ لك من الانتظار، وينتظر ويطول انتظاره.. لتأتي اليه ايفاءً بعهد، ولتنصرف عنه عملًا بجد، وبين هذا وذاك، يتساءل اناء ليله واطراف نهاره عما يمكنه ان يفعله انهاءً لانتظاره الحارق.. الفن. الفن كان دائما نقطة خلاصك الاولى وهو ما سيكون نقطته الاخيرة، وماذا تريديني ايها الكهل العاشق ان افعل؟ افعل ما تراه مناسبًا لك.. وماذا بإمكاني ان افعل؟ بإمكانك ان تفعل الكثير، الست فنانًا؟ الم ترسمها في شبابك الاول؟ ارتباكه ذاك يتحوّل إلى نقطةٍ من نور.. الان بعد هذا كله بإمكانه ان يرسمها.. بالضبط كما فعل في شبابه الاول.

يتناول الرسّام الكهل الحامل الخشبي القديم للوحته.. ويشرع في وضع مخطط لوجهها الناطق البسام واطلالتها من دنيا الاحلام. يلفت منظر الفنان الكهل، ابن البلد، انظار بنات البلد وابنائها.. يلتمون حوله ويصرخون جميعهم بصوت يشق عنان المكان.. ويكاد يكون واحدا: اين انت؟ فتردد الشوارع البعيدة.. اين انت.. ويخيم الانتظار على الاجواء.

***

قصة: ناجي ظاهر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم