صحيفة المثقف

التدبُّر مفتاحُ الإيمان

صالح الفهديسبحان الذي شقَّ الصخرةَ الصمَّاءَ في الجبلِ الصَّلدِ فأخرجَ نبتةً من أحشائها..! سبحانَ الذي أحالَ القلوبَ القاسيةِ، الحاقدةِ إلى هيِّنةٍ ليِّنةٍ، وبدَّلَ القناعات من التحقير إلى التقدير..! دارت هذه المشاعر في نفسي وأنا أطالعُ بضعُ حلقاتٍ من البرنامج الجميل "بالقرآن اهتديت" للشيخ فهد الكندري، حيث يذهبُ العقل بعيداً في رؤيته للشخصيات التي شكَّل اعتناقها الدين الاسلامي نقطة تحوُّلٍ في حياتها.. ذهبَ بعيداً للأفواهِ التي تقذفُ اللعنات على أعداءِ الدِّين، بدلَ أن ترجو من الله الهدايات لهم، وكأنهم لم يقرأؤا سيرة نبيهم عليه أفضل الصلاة والسلام وموقف أهلِ الطائفِ معه، ودعواته التي أثمرت فيهم تحوُّلاً إلى الإسلام حتى أصبحوا من الدعاةِ التقاةِ لدينه.. ذهبَ العقلُ بعيداً إلى كلِّ من ينصِّبُ نفسه متحدِّثاً باسم المسلمين وهو يدعو بشتى أنواعِ الدعاءِ على أولئك الضَّالين الحاقدين، ولا يدعو لهم بالهداية، فما كانت ضلالتهم إلاَّ لأنهم نشأوا في بيئاتٍ لها معتقداتٍ وقناعاتٍ، وليس لأن الحقَّ قد عُرضَ عليهم بجمالِ مضامينه، وحلاوةِ طعمه، فأدبروا عنه، واحتقروه، ورأوه دين التخلُّفِ والرجعية..!

ولنتمعن في أرنود فان دورن وهو سياسي هولندي شارك في إشهار فيلم "فتنة" المسيء لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان عضواً في حزب الحرية الحاقدِ على الإسلام.. تحوَّلَ هذا الرجل من كارهٍ للإسلام إلى محبٍّ له، ومن عدوٍّ يحاربه، إلى مؤيِّد يذودُ عنه..! فأينَ ذلك ممن قذفهُ باللعنات ودعى عليه؟! واللهِ إن في ذلكَ آيةً للمسلمين في الحالَين، يقول الحقُّ سبحانه وتعالى:"إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (القصص/56)، وتلك هي نصيحةُ الله لنبيه، أن عليك القيام بالدعوةِ وحسب إذ لله أمرُه وحكمته في البشر:"وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ۗ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (الأنعام/107)، تقودُ هذا الرجل قدماهُ إلى المسجدِ ليستطلعَ هذا الدِّين الذي لقِّنَ وعيه، وضُلِّلَ إدراكهُ بأنه دينٌ متخلِّفٌ لقومٍ رجعيون، وقد كان يُريدُ أن يتصيَّدَ ما يتوافق مع ذلك الزعم لكن أُسقطَ في يده، إذ أنَّه وبعد أن قرأ القرآنَ متدبِّراً آياته في أربعِ سنواتٍ يُعلنُ إسلامه دون تأثيرٍ من أحدٍ عدا نفسه التي طلبت الهداية فهداها الله.

يتحوَّلُ هذا الرجل السياسي الحاقد على الدين من موقفهِ المناويء للإسلام في حزب الحرية، ليؤسس حزب الأمَّة الإسلامي موظفاً قدراته السياسية للدفاع عن حقوق المسلمين في هولندا.. ذكَّرني هذا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين"  ويقصد عمر بن الخطاب، وعمرو بن هشام ( أبو جهل )، فاستجاب الله دعوته وأعز الإسلام بالفاروق رضي الله عنه، والعبرةُ هنا هي الدعوة الحميدة لأعداء الدِّين كي ينصروه ولعلها كانت دعوة من أحد الصالحين لنصرة الإسلام بأرنود فان دورن.

حين سألهُ الشيخ فهد الكندري عن الآية أو الآيات التي استوقفته في القرآن، قال: إن كل آيات القرآن عظيمة، لكن الآيات التي استوقفته هي الآيات (36-40) من سورة النساء التي تدلُّ على خيرية الإسلام، والتي يقول الحق سبحانه وتعالى في مطلعها:"وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ...".

ثم نطالعُ قصةً أُخرى لعقيدٍ في الشرطة البريطانية حين تمعَّن في المظاهرات الغاضبة التي خرجت بعد نشر سلمان رشدي لكتابه "آيات شيطانية"، تساءل في نفسه: ما هذا الحب الذي يدفع هؤلاءِ للغضب مما فعله الرجل، فقرأ القرآن الكريم، فإذا به وهو الذي تخصص في الفيزياء الكونية يُصدم وهو يقرأُ آيات ثلاث لأنه تساءل: كيف يمكن لقرآن نزل قبل 1400 عام أن يتحدَّث عن حقائق كونية لم يكتشفها العلمُ إلاَّ في القرن الأخير؟! فأدخلته الإسلام ثلاثُ كلماتٍ هي كلمة "أوتادا" الواردة في الآية:"وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (النبأ/7)، وكلمة "لموسعون" الواردة في الآية "وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (الذاريات/47)، وكلمة "ففتقناهما" الواردة في الآية:" أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (الأنبياء/30)، حيث دلَّت الكلمة الأولى إلى ما لا يعلمه الناس قبل 1400 من أن الجبال مغروسة كالأوتادِ في الأرضِ وأن ما خرج منها يعادل ثلثها فقط، ودلَّت الكلمة الثانية على توسُّع الكون، ودلَّت الكلمة الثالثة على نظرية الانفجار العظيم Big Bang.

ثم نستمعُ إلى قصَّة شاب أمريكي اعتنق الإسلام في بواكير شبابه لآيةٍ استوقفته وهي قول الحق سبحانه وتعالى:"وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (الأنبياء/105) فأراد أن يكون من العباد الصالحين الذين يرثون الآرض.

الشاهدُ هنا، أن التدبُّرَ في القرآن هو مفتاحُ الإيمان، وأن القراءة التي لا تتدبر معانيه، ولا تتقصى مغازيه لا يكون لها التأثير الحقيقي على القاريء، فالتدبُّر هو عينُ الرؤية، يقول الحق سبحانه وتعالى:"أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (محمد/24).

 

د. صالح الفهدي

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم