صحيفة المثقف

طَمِّنْ بالَكْ

سمير محمد ايوبعشوائيات في الحب   

لأني ما زِلتُ أعلم، أنَّ مِنْ طبائعِ الرّحيلِ إختيارُ الأفضل، كنتُ كلَّما سألتُكَ هل ستَرْحل ؟! تضْحكُ وتّتَّهِمَني بالجنون اللذيذ، لأنني اسألك عمّا في علم الله وحده . في توالي هذا الليل، ألِحُّ عليكَ وأنت تتعافى الآن، على سرير الاستشفاء في دار النقاهة، وقد خفت حركة بِيضُ الحمائم من حولك، أنْ تُبدِّدَ خوفيَ منَ الرحيل، وأنْ تُؤكِّد ليَ بأنَّكَ باقٍ لأطمَئِن . فمِثْلُك يَتعجَّلُ الرحيلُ في انتقائه، ومثليَ للوجعِ منذورةً وللبكاء .

إنِ أختارَكَ الرحيلُ يا صاحِ، وغادَرْتَ مُضطرَّا، لنْ تَبتعد كثيرا . فكلُّ ما بَيننا مُختلفٌ مُميَّزٌ باستثنائيتِه . ستَظلُّ كحبلِ الوريد قريبا . صوتُك معي أنَّى وجَّهتُ عُيوني، أوَشْوِشُكَ الفَقْدَ ونحن نُثَرْثرُ كعادتِنا. ثِقْ أنّ مِنْ بَعدِك نبعُ الكَلِمِ لنْ يَنضَبْ، ولكنَّ الكثيرَ مِنَ الكلامِ سيفقدُ دفئَه المسكوت عنه، وستَتَبدَّدُ خوافيَ معانيه، والكثيرَ مِنْ مَذاقِه ونَكهتِه المُبطَّنة .

وكلّما جُنَّ الوجَعُ، سأحملُه إلى كلِّ أماكنِنا، لأحكيَ لها عمّا يُؤلِمُني . ونستَعيدُ ساعاتٍ مِمّا أمضينا هنا وهناك . وبحرقةٍ سأبكي , حتى تُعانقَ شفتيَّ دموعٌ صامتةٌ، تنتظرُ أصابعَك وشفتيك لِتُلَمْلِمها . فأنت وحدَك من يفهمُها ويُهدِّئ منْ رَوْعِها .  لَيتَنا كنَّا نُدركُ مسبقا موعدَ الرّحيل، لأزددنا اختلاطا واستَزَدْنا  منْ كلّ شيءٍ شَيئا . 

سأفتقدُكَ كلّما دقَّتْ ساعةُ مَولدي، فأنتَ أوَّلُ منْ يأتيَ بالكثيرِ منَ الحب، ويَسْتَوْلدُ الكثيرَ من الأحلام المُلَوِّنَةِ، وننثرها معا في كل عام جديد، أحلاما وأفراحا طازجة .

سأفتقدكَ كلَّ صباحٍ تُشرقُ شمسُه، ولا تُربِّتْ على ظهري الذي تَحتَضِن , سأفتقدُكَ كلَّ مساءٍ يُداهِمُني دونَ أنْ تَهِمسَ فيه بَوحا حميما، يستطيلُ مع سهَرِ عيونِ القلب . سأرتجفُ خوفا عندما أركضُ لهاتفي لألتقيك عبرَهُ، ولا أجدُ ضُحكتكَ تُضيء شاشَتَه . سأغرقُ في يُتْميَ كُلّما اسْتَسْقَتْ طِفلَتي ابتسامَتَك ولمْ تَجدها، وكلَّما قَفَزَتْ فَرِحَةً، ولا تُلاقي في منتصفِ الطّريقِ فَرَحَكْ، فيموتُ يُتْمُها من جديدٍ غَمَّاً وكَمَدا وغَيظاً .

ولَكنْ، كُلَّما سألونيَ عنِّي، سأخبرُهُم أنَّك بِخير، وأنّك تُقبِّلُني كلَّ مساءٍ، وتَحكيَ لي حكاياتَ الذِّئب مع ليلى ومع يوسف، وتُحدِّثُني كثيرا عن حوت يونس وسفينةِ نوحٍ عليهم السلام . وحين أغفو مُبتسمةً، تُدثِّرُني بفرحٍ وشوقٍ . تُطفِئُ النورَ وأنت تغلق الباب وراءَك . وعلى رؤوس أصابعك تُعاود الرحيل . وحين أصحو أحكي لهم عنك، وحين تعود إليَّ، أحكي لك عنهم، قبل أن نتابع حكاوينا .

كي لا نفترقَ قبلَ الأوان، وأعيشَ اليُتْم المُكرّرَ مُطوَّلا بعدَك، سأنقشُ حكاوينا على نجوم السماء، علَّها تهدي حيارى مثلنا، وأطرِّزُها على نسائمِ ليل العطاش،علَّها تَروي لهم ظَمَئاً، وأعطّرُ بشذاها الأرْبُعا، وأخبِؤُها في حفيف الربيع، وعميقا في تقاسيم حسون يُرتِّلُ للفَرَحِ، وبرفقة هديلِ يمامٍ ينوحُ حَزَنا على أصابعٍ مجنونةٍ وشفاهٍ بربريةٍ ووميضِ عيونٍ باتَتْ ثَكلى تائهة .

أيُّها الشقيُّ لا تحزن كثيرا، طَمِّنْ بالَك فأنا معَك، لنْ أدَعَكْ تَرحَل وحدَك . خُدْني معَك، فَكُلُّ المعارِج والمدارِج إليكَ وَلِي .

 

كتب الدكتور سمير محمد أيوب

الاردن – 27/9/2020

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم