صحيفة المثقف

بصمة الهايكو وتاثيرها على النفس..

"الرسم شعر صامت والشعر تصوير ناطق"..سيمونيدس

يرجع المؤرخون اصالة الهايكو الى اليابان على يد شيخه ومؤسسه ماتسوو مانوفوسا الشهير ب(باشو)، 1644-1694

وقد ارتبط الهايكو بطقوس دينية تاملية"زن" تدعو الى تحرر النفس من ضغوطها واعبائها الى عالم اكثر راحة وسمو، كما ارتبط شعر الهايكو ارتباطا وثيقا بالطبيعة ومفرداتها الزاخرة التي تدعو المرء الى تاملها ووصفها بكل عفوية تاركة روحها التي تمتزج مع روح الهايكست"شاعر الهايكو"لتكوين قويصد سيامي لروحين امتزجا معا في لحظة معينة فاثمرقويصد مكثف"مضغوط"مكتنزبمشاهده قليل بمفرداته غني بروحه، فالمفردة الواحدة فية تعني الكثير وبامكانها ان تصف الكثير..

ومن الجدير بالذكر ان الهايكو اختص بالطبيعة البحتة، فيما اختص "السنريو"بالانسان نسبة الى مؤسسه"سنريوكاراي "الشاعر الياباني(1790-1718) وهنا يكون الانسان هو محور الموضوع الذي طالما يرتبط بالطبيعة ليكون القويصد"الايحائي" الذي قد يحمل بين طياته صورا’خر، وهنا تكمن براعة الهايكست الذي يمزج بين الصورة النمطية الواضحة وبين الصورة "الرمزية" ماوراء السطوروالتي تظهر دائما في النهاية والتي يعبر عنها"الدهشة"، وحقيقة هي اللحظة المدهشة التي يعتمد عليها بناء القويصد، وقد تطور السنريو ليشمل مواضيعا شتى تخص الانسان ..

عند القطاف

تتحزم بعبائتها

فلاحة

وبعد هذه المقدمة الموجزة عن نشوء وماهية الهايكو، ناتي الى كتابة الهايكو باعتباره فن ادبي يجمع بين الفن والادب وغالبا مايكون شاعر الهايكو فنانا تشكيليا يتغنى بحبه للطبيعة رسما وشعرا، اوشاعرا عاشقا للطبيعة ولان شاعر الهايكو يمتاز برهافة الحس، والعفوية الصادقة، وعشقه للطبيعة فلابد ان تبرز عنده حاسة دون غيرها تكون هي المسؤولة عن استنطاق ذائقته الفنية الادبية، تلك هي حاسة"البصر"، الحاسة الثاقبة التي تصور المشهد الظاهري ثم تخترق ماوراء الحدث و تكون عدسته اللاقطة الحاضرة دائما لالتقاط كل شاردة وواردة، ابتداءا من دبيب نملة الى ثورة بركان، فهو يعتمد اعتمادا كليا على عدسته اللاقطة التي تقتنص الجمال وتبروزه بمقاطع ثلاث تدهشه اولا وتشعره بالرضا لانجاز قويصد غني باللحظة والفكرة والصورة وتنشيه ثم تنشي قارئه الذي يستشعر جمال المشهد وروعة اللحظة المدهشة تاركة بصمة النشوة والابداع.

وبما ان الكتابة هي المتنفس الساحر للانسان لانها تنقله من حالة الياس والقنوط التي يعيشها عن طريق نقل خلجاته النفسية الى الورق تلك العملية التي تعني ازاحة مابنفسه المثقلة بالهموم والاحزان وتحويلها الى كلمات مكتوبة ترفع عن كاهله الهموم وهو يقراها كانها حالة اخرى لانها نقلت من المباشر الى غير المباشر، خصوصا اذا تم نشرها اوشاركه احدما او مجموعة افراد بقرائتها واعطاه رايه فيها تلك الاراء كفيلة بان تخفف عن كاهله، فهي بمثابة الدموع التي تريح الانسان الحزين وتطبب نفسه لانه اخرج همومه الجاثمة على صدره مع هذه الدموع واصبحت خارجا فيشعر بالارتياح لخروج طاقة سلبية تكاد ان تخنقه، بل ان الكتابة تعتبر فن علاجي لمن اعتاد ان يتطبب بالنقش على السطور، وقد اتخذ اغلب الناس الكتابة وسيلة للتنفيس عما بدواخلهم، فليس من الضروري ان يكون المرء محترفا ليكتب، بل ان الكثير من الخواطر والومضات الشعرية تثري حالة الانسان وتشعره بالارتياح مهما كانت بسيطة، والكتابة اسلوب من اساليب الدفاع النفسي التي يلجا اليها الكثير من الناس تجنبا للدخول في دوامة الفراغ والاكتئاب النفسي والقلق والكثير من المشاعر السلبية، وليس الهدف من الكتابة ان يكون الانسان مشهورا بل لاتخاذهاهواية تمارس في اوقات الفراغ او الشعور بالضيق لتحسين الصحة النفسية وتساعد على التخفيف والتقليل من التوتر العصبي، لذا يلجا الطبيب النفسي لوصف الكتابة على انها عامل مساعد للتصالح ولو نسبيا مع الواقع باعتبار ان المعاناة جزء من الواقع الذي نعيشه ويتعامل مع هذه الجزئية بصورة خاصة لجعلها مقبولة لدى الانسان الذي يجب ان يتعايش معها ليكون اقوى منها، فالكتابة عن موقف ما يجعل الانسان اكثر فهما لحالته من حيث نقاط الضعف والقوة، كما انها تعتبرالوسيلة المثلى لتفريغ المشاعروالطاقات السلبية، فبدلا من ان تكديس المشاعر السلبية التي تجعل من الانسان بركانا مايلبث ان ينفجر باي لحظة ليدمر نفسه والاخرين، فانه ينقل تلك المشاعر على الورق تاركا امانته التي اثقلت كاهله بين اسوار الغلاف خصوصا اذا كان لايريد لاي احد ان يطلع عليها، وبنفس الوقت لابد ان يفرغها لكي يشعر بالراحة، تلك المشاعر التي سببت له الالم عندما يقراها بعد حين تكون قد اضافت له درسا اوتركت ذكرى لموقف ما، وهي تساعد الانسان لكي يرى نفسه الاخرى بصورة اوضح، لان الكتابة عن حالة ما تجعل الانسان يرى نفسه خارج الصورة، ناظرا اليها من جميع زواياها فتتضح بذلك امورا لم تكن يعرفها او يراها وهي قابعة بداخله، فيحكم عليها من زاوية اخرى اكثر نضجا ووضوحا، ومع الوقت يتعامل مع الازمات والصدمات النفسية بعقلانية اكبر، هذا الاسلوب يجعل الانسان يشعر بالرضا والاحساس الايجابي عن النفس من خلال ملأالفراغ، وتحويل مشاعر القلق والحزن الى مشاعر تقبل وتعايش.

هذا الحال ينطوي على كتابة الهايكو، فالهايكست انسان حالم بطبعه لديه المقدرة والكفاءة على تحويل الجمادات الى لوحات ناطقة، فهو يستنطق الصخرة ويجعل منها لوحة ناطقة، اوارضية الممشى، او الجدار، او السقف، او السياج، او الباب، ...الخ، في حين ان تلك المفردات تبقى جوامد عند الانسان العادي ولاقيمة لها، اذن فالهايكست يتعامل مع الاشياء على انها قيم مطلقة ناطقة، يبتزها ادبيا ليخرج مكامن الجمال الصارخ فيها، فكل شئ عنده يمثل قيمة، ويتعامل مع هذه القيمة بمنتهى الصدق والامانة وكانها كنز نفيس كي لا يفسد جوهرها الذي يعتمد على مهارته بالصياغة والاخراج، مستثمرا وقت الفراغ او الشعور بالوحدة او الاكتئاب بطريقة ايجابية، وتلك مقدرة هائلة لتحويل الجماد الى روح ناطقة..

صمت

يقابله صمت

جدران!

ان المشاعر الانسانية بمجموعها تشكل الحالة النفسية للانسان فرحا، حزنا، الما، سعادة، وهذه بمجموعها تتحكم بحياة الانسان او يتحكم بها تبعا لقدرته على ادارتها، فالانسان المتحكم بحواسه ومشاعره هو انسان قوي يستطيع ادارة ازماته النفسية باقتدار وروحية عالية يستطيع من خلالها الخروج من ازماته النفسية بسهولة ويسر مع اقل الخسائر، في حين تتمكن هذه الحالات نفسها من انسان اخر فتطرحه ارضا من خلال تغلب الوساوس والهواجس ومشاعر الحزن والخوف لتجعل منه انسانا يائسا تنعكس عليه حالته النفسية المريضة وتؤثر عليه سلبا تاركة اياه فريسة للوهم والحزن والكابة، وقد تقوده تلك المشاعر المظطربة الى الانعزال او الانطواءاو سلوك طرقا اخرى اكثر ضررا كالادمان!!

وكما ذكرنا فان الهايكست يفرغ شحناته السلبية بين عالمين اولهما الطبيعة التي احتضنت مشاعره السلبية ووهبته روحها من خلال شهيقاعميقا خالقا من المه شيئا مثمرا، فبمجرد سرحانه او تامله باي مشهد امامه او اي صورة تنقله من حالة الياس الى حالة الرضا فمثلا بامكان عصفور يحمل قشة ليبني عشا على غصن شجرة خارج النافذة ان يزرع الامل في نفس انسان حزين يجعله يسرح معه ليعيد حساباته مراقبا و مقتديا بالعصفور!

ربيع

عصفور وعصفورة

يبنيان عشيهما

ومابالك اذاكان هذا الانسان هايكست، فوض مشاعره لتحسس الجمال واقتناص اللحظة وترجمها على الورق انيا، فذلك كفيل بان يحول مشاعر الحزن الى فرح، ومهما كان ذلك الشئ صغيرا سيكون وقعه بالنفس كبير، لانه اخذ هدنة وانجز شيئا يستحق التقدير، وبنفس الروحية التي كتب بها الهايكست قرأ بها متذوق الهايكو وشعر بنفس النشوة والانتعاش الذي ازاح عن كاهله المشاعر السلبية التي اثقلت كاهله وامتلات روحه بمشاعر ايجابية مفعمة بالامل انسته ولو قليلا مشاعر الحزن، وهكذا فان اكبر متنفس للهايكست هو نقل مشاعره على الورق فتصبح وكانها حالة مختلفة امامه تختلف عما كانت بداخله، وبما ان الانسان ومع تقدم الزمن بدات تتغير مفاهيمه وتتبدل امزجته وقد انطوى ذلك على الادب ايضا ونحن في عصر السرعة، فقراءة قويصد مكتنز بالصورة والمعنى لهو كفيل باشباع حاجة القارئ واشعاره بالنشوة بدل الاطالة التي يتململ كثير من القراء منها، وهكذا فقد احتل الهايكو مكانته المرموقة كفرع ادبي رفيع يثري النفس بتفاصيل منعشة عن طريق استحضار رياض الطبيعة الغناء على الورق، وكفن علاجي لتطبيب المشاعر النفسية.

 

مريم لطفي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم