صحيفة المثقف

مفهوم الصدق عند ألفريد تارسكي (1)

محمود محمد علييعد مفهوم الصدق Truth واحداً من المفاهيم الأساسية التي عني الفلاسفة بالنظر فيها طوال تاريخ الفلسفة، وليس الاهتمام بالصدق وقفاً علي الفلاسفة، بل هو الشغل الشاغل لغيرهم من العلماء والمفكرين في شتي فروع المعرفة . علي أن عناية الفلاسفة بالصدق زادت في وقتنا الحالي زيادة بالغة جعلت مفهوم الصدق يحتل موضع الصدارة بين مفاهيم الفلسفة المعاصرة، وليس أدل علي ذلك من أنه يكاد يتعذر عليك أن تجد فيلسوفاً معاصراً لم يخصه ببحث ولم يسهم فيه برأي . وتأتي أهمية هذا المفهوم – شأنه في ذلك شان مفهوم المعني – من أن وجهات النظر المتباينة والمتنافسة في كثير من المسائل الفلسفية الأخري هي بمثابة انعكاس لاعتقادات مختلفة حول هذا المفهوم . وإذا كانت مشكلة الصدق تؤثر تأثيراً واضحاً في مشكلات الفلسفة الأخري، فإنها تتأثر بها كذلك، بل وتتطور معها إن أصابها شئ من التطور والتجديد .

ومن ناحية أخري يعد مفهوم الصدق موضوعاً أساسياً في مبحث نظرية المعرفة لأسباب كثيرة، منها أن الصدق يمثل سمة أساسية للمعرفة، وأن عبارة " المعرفة الكاذبة " عبارة متناقضة عند كل الفلاسفة منذ أفلاطون Plato (427 ق.م- 347ق.م) حتي يومنا هذا، كما تقوم حجة الشكاك على أن المعرفة الصادقة اليقينية مستحيلة للإنسان . وحين يتعرض فلاسفة المعرفة للإدراك الحسي يميزون بين الإدراك الصحيح والإدراك الخادع، والمقابلة بين الصحيح والخادع في هذا السياق مقابلة بين الصادق والكاذب

ولقد نشأت مشكلة الصدق حين تعددت إجابات الفلاسفة عن السؤال: متى تكون القضية صادقة ؟

ويعد " أرسطو " Aristotle (484 ق.م – 322ق.م )، هو أول من تناول بالتعريف وبالتحليل المنطقي مفهوم الصدق، والذي يقابله مفهوم " الكذب "، فهو يري أن الصدق والكذب لا ينتسبان للأشياء، بل إلي الأفكار والأقوال، ويعرف الصدق بأنه:" القول بأن ما يوجد يكون صادقا وما لا يوجد لا يكون صادقا، وعلي العكس من ذلك يكون الكذب " ولعل السبب الذي قدمه أرسطو – فيما يقول " ج.م.بوشنسكي" J.M.Bochenski – فيما يبدو لذلك هو أن القضايا هي فقط التي تنطوي علي وقائع كمعان إما موجودة أو غير موجودة، بينما الأقوال الأخرى فتدل علي الأشياء .

لذلك فإن الصدق يمثل أحد الملامح الأساسية للمعرفة، فالمعرفة في معناها الدقيق هي اعتقاد صادق له ما يسوغه أو يبرره . وعندما نقول بأن شخصاً معيناً، وليكن (س)، يعرف قضية معينة، ولتكن (ص)، فإننا نقول بأن (ص) قضية صادقة وإن (س) يعتقد بـ (ص)، وإن (س) يملك أدلة كافية لتبرير اعتقاده بـ (ص ) . وإن شئت أن تصوغ ذلك بلغة منطقية دقيقة فقل إن هناك ثلاثة شروط أساسية لا بد من توافرها في المعرفة: الأول هو أن تكون القضية موضوع المعرفة صادقة، وهذا شرط الصدق، والثاني أن يعتقد بها العارف ويقبلها، وهذا هو شرط الاعتقاد، والثالث أن يملك العارف أدلة وبراهين تثبت صدق القضية موضوع المعرفة، وهذا هو شرط التبرير أو التسويغ Justification، كما يرتبط مفهوم الصدق بالميتافيزيقيا ويتضح هذا في نظرية الإتساق ؛  The Coherehce Theoryفقد دافع عن هذه النظرية فلاسفة يؤيدون الميتافيزيقيا المثالية، ولم تكن هذه النظرية مرتبطة بوجهات نظرهم الميتافيزيقية فحسب، بل كانت بالأحري عنصراً متمماً لها . وكذلك يرتبط الصدق بالمنطق واللغة كما يبدو في النظرية الدلالية .

ويحسن بنا أن نتحدث أولاً عن ألفريد تارسكي Alfred Tarski (1901-1983) حديثاً موجزاً عن حياته الفكرية وتوجهه الفلسفي قبل أن نشرع في معالجته للصدق، والدافع إلي ذلك هو أن هذا الفيلسوف لم يكتب عنه بالعربية من قبل، فتارسكي فيلسوف بولندي معاصر، ولد في الرابع عشر من يناير سنة 1901م في " وارسو Warsaw  " ؛ حيث تعلم في مدرسة وارسو المنطقية، تلك المدرسة التي كان يترأسها "يان لوكاشيفتش Jan Lukasiewicz "، ثم " ت. كوتاربنسكي T. Kotarbiniski ، ومن بعده " س. لينفيسكي  S. Legniewski " الذين عمدوا إلي تنقية المنطق التقليدي من رواسب اللغة العادية ,  ليكتسب مزيداً من الصورية من خلال رموز خالصة ذات معان ثابتة وبعلاقات رياضية تتسم كما كان الظن الشائع باليقين المطلق, فإنما كان منطلقهم وهدفهم في الوقت ذاته, هو تجاوز ثنائية القيم    الراسخة  ؛ التي حاول أن يجسدها دعاة المذهب المنطقي اللوجستيقي المتمثل لدي "برتراندرسل Bertrand Russell (1872-1970) وألفريد وايتهد A.Whitehead ومن قبلهما "جوتلوب فريجه Gottlob Frege (1848-1925) وجيوسيب بيانوGiuseppe Peano  (1858-1932)، وذلك إيماناً منهم بمبدأ "المنطق المتعدد القيم Many Valued Logic" ؛ الذي كشف لنا عن قضايا    لا يمكن أن توصف، وبالأخص الآن بأنها صادقة أو كاذبة، فتكون محل إشكال، أو احتمال .وقد تتحدد قيمة صدقها،أو كذبها في المستقبل القريب أو البعيد، وقد لا نستطيع أن نحكم على القضية بأنها صادقة أو كاذبة بسبب جهلنا، وعندئذ قد ندخل قيمة ثالثة أو رابعة كمتوسطات بين القيمتين صفر وواحد وعلى مسافة واجدة من كل   منهما .

وفي عام 1924 حصل تارسكي علي درجة الدكتوراه علي يد لينفيسكي، وفي عام 1939هاجر تارسكي إلي الولايات المتحدة الأمريكية ليعمل أستاذا للمنطق وفلسفة الرياضيات في جامعة كاليفورنيا University of California، وله إنتاج ضخم يستوعب معظم المجالات التي تشغل بال الفلاسفة في عصرنا، وتأتي في مقدمتها اللغة والمنطق وعلم الدلالة Sementics والرياضيات ؛ حيث يسهم تارسكي بآراء في الصدق والمعني والتفسير والإشارة والصورة المنطقية والاستدلال والبنية المنطقية ... وهلم جرا . وأخيراً وافته المنية في السابع عشر من أكتوبر سنة 1983م، بعد رحلة طويلة من البحث والدرس .

لكل ما سبق قصدنا إلي إنجاز بحث عن " مفهوم الصدق عند ألفريد تارسكي "، أتوخي من خلاله التعرف علي مفهوم الصدق وخصائصه وأهميته، وهل نجح تارسكي في الوصول إلي التصور السيمانطيقي أم لا ؟ وهل قدم تارسكي الجديد لمفهوم الصدق، ولماذا أهمل تارسكي اللغة الطبيعية وتمسك باللغة الصورية  ؟  وما موقف فلاسفة اللغة المعاصرين الذين جاءوا بعد تارسكي ؟

وقد اعتمدنا في معالجة هذا البحث على المنهج التحليلي المقارن , الذي يعتمد على تحليل النصوص ومقارنتها بمثيلاتها من المتقدمين والمتأخرين من كبار المناطقة وعلماء اللغة , حتى تتضح أمامنا مدى تحقيق الغرض من البحث, والهدف الذي من أجله تم دراسة هذا الموضوع . كما نضطر – أحيانًا- لاستخدام المنهج التاريخي بالقدر الذي يفي بمقتضيات البحث.

وبالتالي فإن المحاور التي نناقشها في تلك المقالات، تكون علي النحو التالي:-

1- مفهـــوم الصــدق في المدارس السابقة على تارســكي.

2- التصور السيمانطيقي (الدلالي) للصدق.

3-  حدود  الصـــدق .

4- تعـديلات دافيدسون وسول كريبك علي  نظرية تارسكي لتتلاءم مع اللغات الطبيعية .

أولا ً: مفهـــوم الصــدق في المدارس السابقة على تارســكي

1-: نظرية المطابقة . The Correspondence Theory

وفقاً لصياغة نظرية المطابقة نجد أن القضية تصدق إذا كانت توجد واقعة ما تطابقها، وأن القضية تكذب إذا لم توجد هذه الواقعة . وقبل الدخول في شرح هذه النظرية، تجدر الإشارة إلى أنه قد شاع الاهتمام بمشكلة الصدق وقامت المناقشات حولها في أول هذا القرن فقط، حين كتب فيها " برتراندرسل "، وذكر ثلاث نظريات تفسرها، وهي " نظرية المطابقة " و" نظرية الاتساق " و" النظرية البرجمانية "، وأنه تحمس للنظرية الأولى دون غيرها ولقد توسع رسل قليلاً في شرح نظرية المطابقة في محاضراته عن " فلسفة الذرية المنطقية " في سياق تعريفه للقضية، وهو أنها تقرر واقعة، وحدد الواقعة بتقريرنا أن شيئاً ما جزئياً تستند إليه خاصة معينة، أو أن هذا الشئ على علاقة ما بشئ آخر .

ويمكن القول بوجه عام أن أغلب الفلاسفة التجريبيين يدعون إلى نظرية المطابقة، وإن كنا نجد بعضهم يرفضونها مثل أصحاب الوضعية المنطقية . فنجد " جون لوك John Locke (1632-1754) " يدعو إلى هذه النظرية حين يقول إن أفكارنا عن الصفات الأولية للأجسام تشابه تلك الصفات وتمثلها، وحين يقول إن فكرتنا المركبة عن جسم ما هي نتيجة أو أثر للوجود الواقعي الخارجي لذلك الجسم . يمكننا أيضاً التماس نظرية المطابقة عند "إيمانويل كانط Immanuel Kant (1724-1804)" رغم أنه ليس تجريبياً لأنه يقول في معرفته أن الإدراك الحسي يتألف من استقبالنا لحدوس حسية عن الأشياء بالإضافة إلى مقولات قبلية نطبعها على تلك الحدوس لتعطينا المدركات الحسية  ؛ فلقد ضم الاعتبار الأول لنظرية التطابق كل من:  أفلاطون، أرسطو، جورج مور George Moore  (1852-1933)، رسل، كارل بوبر Karl Popper          (1902-1994)، وآخرون . فالقضية (أ) تكون صحيحة لو أن (أ) قد تطابقت مع الواقع . لذا فإن الصدق يعني التطابق مع الواقع " ولشرح هذه النظرية بطريقة أوسع نقول على سبيل المثال " إنه صحيحاً " أن بعض الكلاب تنبح " لو أن بعض الكلاب تنبح " قد تطابقت مع الحقائق " . وأية الحقائق حقيقة واحدة، فحقيقة أن كل الكلاب تنبح .

والصدق يعتبر مطابقة بين قضية ما وواقعة ما، ونجد هنا معنيين أساسيين للمطابقة هما:

(أ) المطابقة تشابه تام  بين أصل ونسخة، وكأن القضية صورة ذهنية لواقع خارجي، كما لو كانت القضية صورة دقيقة في المرآة، والأصل هو الواقعة . لكن هذا المعنى للمطابقة يثير اعتراضات عديدة نذكرها فيما  يلي :

تسمح صياغة القضية بالدرجات من حيث دقتها لكن الواقعة لا تسمح بالدرجات إذ أنها أمر وقع فحسب . كما أننا نصف القضية بصفات مما لا يمكن إسنادها إلى الواقعة، فمثلاً إذا قلت القضية " هذه البرتقالة صفراء اللون حلوة الطعم " وأعلنت صورتها، فذلك لأن هناك أمامي فعلاً هذا الشئ وأن له تلك الصفات، وما نقوله عن القضية فقط أنها صادقة أو كاذبة .

(ب) المعنى الثاني المقترح للمطابقة هو وجود علاقة واحدة بواحدة بين كل عنصر في القضية وكل عنصر في الواقعة، مثلما نتحدث عن مدرس يقرأ قائمة تلاميذه في الفصل ليعرف الحضور والغياب فيضع علامة أمام اسم التلميذ الحاضـر وعلامة مختلفة أمما اسم التلميذ الغائب .

ونلاحظ هنا أن معظم المشكلات التي وردت حول نظرية التطابق قد تنحصر في هذا السؤال: ما هي العلاقة التي تميز هذا التطابق ؟ عندما تتطابق القضية مع الواقع: حسناً يمكننا أن نعتقد في التطابق على نحو من التكافؤ للعلاقة ...... لو أن القضية يمكن أن تتكافى مع الوقائع، وهنا فإن هذه القضية تتطابق مع الواقع، ونرى هنا أن التطابق يعني " التكافؤ " فبتراندرسل و" لودفيج فيتجنشتين  Ludwig Wittgenstein (1889-1951)، اقترحا أن القضية والواقع يتطابقان لو أن هذا البناء كان متسقاً .

وعلى أية حال، فإن هناك شيئاً واحداً ينبغي أن نلاحظه هنا، فمن أجل أن تكون القضية صحيحة وفقاً لنظرية التطابق، يجب أن تكون بعض الحقائق متطابقة، لذا فإن الواقعة لكي تصدق يجب أن تكون متكافئة مع القضايا ؛ فالتقليد المشهور للواقع يقول إن الصدق هو التطابق، وإن القضية تكون صحيحة لو أن هذه القضية قد تطابقت مع الواقع . فعلى سبيل المثال: لو أن الواقع يقول إننا نمتلك نمراً أليفاً ولو إننا قلنا حقاً ذلك ؛ أي أنك تملك نمراً أليفاً، فإن عبارتنا هذه سوف تكون صادقة لأنها تتطابق مع الواقع . ولذا فإن الصدق هو التطابق مع الواقع Truth is Corresponce with Fact.

بيد أن نظرية المطابقة قد اعترض عليها الكثير من المفكرين    والفلاسفة، نذكر من هذه الاعتراضات علي سبيل المثال لا الحصر اعتراضات " ألفريد آير Alfred Ayer (1910-1980) " الذي بدت نظرية التطابق بالنسبة له أنها مربكة علي الأقل في شكلها التقليدي، فمن أهم مميزاتها أنها تفصل الحقائق عن العبارات، ومن عيوبها أنها تحاول الربط بينهما باستدعاء علاقة التطابق التي ندركها علي أنها علاقة توازن وتشابه في البنية، وبسبب هذه العلاقة بادر " آير " برفض هذه النظرية استناداً إلي فكرة " التمرئي" أو " إنعكاس المرآة "، فلو أخذنا هذه الفكرة وحللنا معناها بصورة حرفية، سوف يكون من الخطأ الفادح افتراض أن العبارات أو الجمل أو الاعتقادات أو الأحكام سوف تكون صادقة لمجرد كونها مرآة للحقائق، أو صورة لها، حيث إنه من المعروف أن النموذج الذي تقوم عليه النظرية هو نموذج التصوير الفوتوغرافي أو الرسم الخرائطي، ومن ثم فالنظرية تحثنا علي التفكير فيما يجعل الصورة الفوتوغرافية أو الخريطة نسخة صادقة طبق الأصل من الحالات التي تصورها أو تطابقها، وفي وجود علاقة تشابه في البنية بين الخريطة والحالة التي تطابقها مثلاً، والتفكير في المحتوي بين الصورة المرسومة أو الفوتوغرافية وما يناظرها، وهذا هو جوهر ما أكده رسل وأيضاً فيتجنشتين، في كتابه " رسالة منطقية فلسفية " من أن الجمل أو القضايا هي أيضا تصويرات للواقع وترجع في صدقها إلي دقة المطابقة.. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم