صحيفة المثقف

تداخل السِيَر في رواية (رُقم الغياب)

ثامر الحاج امينضمن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق صدر مؤخراً رواية (رُقم الغياب) للروائي العراقي المقيم في السويد "علي عبد العال" وهي تعد الكتاب العاشر في سلسلة اصدارته الأدبية التي توزعت بين الرواية والقصة القصيرة، وعلى خلاف رواياته السابقة التي اتخذت من المنافي وآثارها المؤلمة ثيمها الرئيسية لدرجة ان الناقد الدكتور حسين سرمك الذي درس في كتابه (الفردوس المشؤوم  المنجز الأبداعي للروائي عبدالعال وصفه  بـ "اختصاصي أدب المنافي"، فان هذه الرواية تتخذ من السيرة مادتها على مستوى الشخصيات والأماكن والحوادث، حيث يعيد فيها عبد العال احياء الماضي المتعلق به شخصيا وبمدينته الديوانية وذلك من خلال سرده جانبا من فصول حياته وحياة المدينة وطبيعة الأماكن التي شهدت طفولته ونضجه ومغامراته وكفاحه الطويل ضد الدكتاتورية .

في الفصول الأولى من الرواية التي اسماها بالرٌقم كي تعطي بعدها الزمني، يحرص الروائي عبد العال على ضبط الزمن اثناء بنائه الشخصية الرئيسية " حيان البصري " التي منها يبدأ التعريف بسلالته العريقة وتاريخ اسلافه، فبسرد ممتع يكشف عن مهارة في المزج  بين الذاتي والتخييلي وبلغة صافية يغلب عليها الشعر يدخلنا عبد العال الواقع الاجتماعي لحيان البصري نتعرف فيه على الصبي المكافح الذي تدفعه ظروف الفقر وحالة اليتم المبكر الى العمل مع (الصيادين الكسالى الشرسو الأطباع) حيث يقوم على خدمتهم بتلبية طلباتهم البسيطة لقاء أجر بسيط وبضع سمكات صغبرة يجودون بها في أخر النهار ليسد بها رمقه، ويمتعنا الكانب برهافة وصفة للواقع الاجتماعي الذي يحيط باسرة حيان المكونة من امه التي تعيش معه في كوخ بائس يظهر فيه حيان رغم الفقر والقهر انه يعيش في هدوء واستقرار راضيا بنصيبه الى ان يلتقي بعرافة  فتضطرب حياته ويتغير مجراها بعد ان تقرأ طالعه وتخبره انه سوف يتزوج من فتاة جميلة تنجب له ثلاثة صبيان  سيبتلعهم البحر الواحد تلو الآخر، الأمر الذي يدفعه الى الهرب من المصير الذي تنبأت به العرافة وذلك بالهجرة الى بلاد اخرى يتخذ فيها من البر وسيلة للعيش بدل الماء أملا في قطع الطريق على تحقيق نبؤة العرافة وينتهي به المطاف العيش في كنف الشيخ " بدر ذو النورين " الذي يلمس فيه الشهامة والقوة فيكافئه بان يهدي اليه ابنته " النوار "، التي تنجب له  ثلاثة ابناء يذهبون الواحد تلو الاخر طعما لسمكة القرش الجبار ولم يبق من العائلة الا ابن يحمل اسم" علي بن حيان البصري " الذي سيكون الامتداد و(الخيط الذي يروي هذه الرواية ص 62) .

 بهذه الحكاية الممتعة برهافة الوصف وتسلسلها الزمني، التي يرتدي بطلها قتاع الراوي  يستهل الكاتب روايته الجديدة، وللوهلة الاولى قد يظن القاريء انه امام رواية ذات طابع اجتماعي، لكنه ما ان يقطع شوطا في قرائتها حتى تتكشف له الابعاد السياسية للحوادث الصغيرة التي سربها الكاتب عبر لغه رشيقة غنية بالدلالات، فبعد قتل القرش الكبير الذي تمادى في افتراس الابناء يقول عنه (لم يمت القرش الكبير اذاً، خلّف له ذرية من القروش الصغيرة المفترسة تسبح بحرية في هذا العالم المظلم الجديد، العالم الغريب الهلامي الذي تضيع فيه جميع الحقائق والاصول ص 70) .

الرقيم الرابع الذي اسماه (في طريق العودة الى الرحم) يمثل انعطافة ونقطة تحول في مسار احداث الرواية ويؤكد فيه حقيقة ان لارواية تخلو بعض تفاصيلها من شخصية الكاتب، فبعدما كان الكاتب يتخذ في اشاراته للشخصيات والأماكن اسلوب الترميز وعدم المباشرة فانه يتخلى في هذا الرقيم عن قناع التخفي ويضعنا وجها لوجه امام شخصيات باسمائها وتاريخها الحقيقين الا عند بعضها حيث يجري التحوير البسيط على اسمائها احتراما لخصوصيتها وتجنبا المساس بمكانتها الاجتماعية من الاساءات التي قد تطالها عند ذكر بعض تفاصيل حكايته، فالحفيد " علي بن البشر بن حيان البصري " الذي يتولى سرد الفصول اللاحقة من الرواية ه العائد من اوربا عبر معبر ابراهيم الخليل في اب 2003 بعدغربة عن البلاد دامت اكثر من ثلاثين عاما هو نفسه الكاتب والمناضل "علي حسين عبد العال ص 98 " الذي يبدأ باستعادة ذكرياته مقاتلا في صفوف الانصار الشيوعيين منذ لحظة وصوله الى السليمانية ولقائه بصديقه الكردي " مام كمال " الذي شاركه تلك التجربة النضالية المريرة، بعدها يتوجه الى مدينته " الديوانية " ليكتشف حجم الخراب الذي طال النفوس والبنى ومظاهر الفوضى حيث لاقوانين ولانظافة  ونفوس مدمرة خلفتها سياسة النظام الدكتوري، عند ذلك يشرع الكاتب في فضح جرائم النظام السابق بحق الشعب وبحق عائلته على وجه الخصوص الممثلة بنكبة الاخت في اعدام ابنها وسجن زوجها ومصادرة بيتها وموتها كمدا بعد سلسة معاناة ثقيلة، وعلى صعيد تاريخه الشخصي يقول عبد العال انه صار شيوعيا بالفطرة نتيجة ماشهده من جرائم الحرس القومي بحق عائلته وبحق الاخرين عندما كان صبيا في الثامنة من عمره. كما ويسرد تفاصيل شخصية جدا عن علاقته بـ " النوار " الفتاة التي يصف ماجرى لها من انتهاك لعذريتها في لحظات حب حقيقية معه بانها ضحية التقاليد الاجتماعية المتخلفة، وفي الرقيم الرابع عشر والموسوم بـ " سيرة ثعبان " يختتم الكاتب سيرته التي تداخلت معها سيرة المدينة وسيرة النظام السياسي ويخوض في ظروف حياة الثعبان ــ الدكتاتور ــ الذي اذاق الشعب ذلا وقتلا انه انجبته افعى رقطاء الذي رغم نهايته وغيابه عن المسرح السياسي الا انه (مايزال يحكم المنطقة بجوقة من فراخ ثعابين سامة وأفاع مرقطة من نسله الشاذ ص 289) . 

وقد يحسب البعض على الكاتب خوضه في تفاصيل شخصية لاتعني القاريء، لكنني لا أجد عيبا في ان يتخذ الكاتب من سيرته وسيرة مدينته التي لحق بها الاهمال والخراب والتعسف وسيلة لفضح جرائم النظام السياسي وسيرة افعاله، وهو مافعله الروائي علي عبدالعال في روايته الممتعة (رٌقم الغياب) التي تمثل سيرة انسان وسيرة مدينة ونظام .

 

ثامر الحاج أمين

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم