صحيفة المثقف

خلي نتفلسف شويه: في التباس مفهوم الحداثة

علي المرهجكغيره من المفاهيم الغربية طال مفهوم الحداثة الكثير من الغموض، فهناك من يرادف بينه وبين التحديث، وشتان ما بين هذا وذاك، وهناك من ربطه بالفلسفة وتحولات الخطاب الفلسفي من نزعة التوفيق بين الفلسفة والدين في الفلسفة الوسيطة (الإسلامية والمسيحية) إلى نزعة الخلاص من هيمنة الدين ورجاله والبحث عن خطاب العلم وفلاسفته لاسيما مع (فرنسيس بيكون) التجريبي و(ديكارت العقلاني) اللذيّن وضعا منهجين للعلم أطاحا بهما منطق القياس الأرسطي وخففا من وطأة الفلسفة الاسكولائية (المدرسية) التأملية بنقدهما لمعطيات المنطق الأرسطي الذي تأسست عليه جل الفلسفات اللاحقة عليه لأنه لا يُعطينا نتيجة جديدة لأن النتيجة فيه متضمنة في المقدمة الكبرى.

وفي العلم الطبيعي مع (سبنسر) و(لامارك) اللذان آمنا بأهمية المنهج العلمي بوصفه الأداة الموصلة للتقدم على أسس عقلية وعلمية.

في السياسة يرى كُتابها أن الحداثة بدأت مع (مكيافيلي) في كتابه الشهير "الأمير" و(توماس هوبز) في كتابه "الليفيثان" وجون لوك في كتابه "العقد المدني"..

وهناك من يرى أن الحداثة بدأت مع الثورة في الفنون في الرسم والموسيقى والشعر متمثلة بموسيقى بيتهوفن وغيره، وفي الفن النحت والتشكيل مع مايكل أنجيلو وغوغان وبيكاسو وغيرهم، وفي الشعر مع (رامبو) و(فاليري)...إلخ، وفي السرد مع (بروست) و(جويس) و(كافكا) و(إليوت) وغيرهم.

والبعض يرى أن الحداثة ظهرت جلية في الثورة الصناعية في أوائل القرن التاسع عشر. وفي الفن هناك من وجد في الحركة الرومانسية التعبير الحقيقي عن الحداثة.

وإذا كانت الحداثة تعني التعامل مع أجواء المدينة والمجتمع تعاملاً خيالياً حينذاك يكون مؤسسها (فلوبير).

الحداثة مفهوم غامض فلا يحده زمن ولا جغرافيا مكانية، فالحداثة عند الفرنسي هي غير الحداثة عند الإنكليزي، والحداثة عند الأمريكي مغايرة للمتبنى الإنكليزي والفرنسي، ولا يرى الألماني سوى حداثة أنشأها مفكرون ألمان، لكن ما يُميز الحداثة أنها فكر مديني مرتبط بوعي الإنسان بقيمة المدينة بوصفها ركناً أساسياً من أركان بناء الوعي العقلاني الحر.

لذلك أجد أن (هابرماس) على حق في تبنيه لمفهوم (الحداثة التواصلية) لأن الحداثة مشروع لم ينه بعد إن نظرنا لها على أنها ظاهرة تاريخية متطورة، لان الحداثة بمفهومها العام هي نقيض التقليد، لأنها حركة ترنو للتغيير والتجديد في العمل والفكر للنهوض بالواقع الإنساني والاقتراب من طموح مثالي فلسفي في تحقيق عالم أفضل بعبارة (برتراند رسل) ومن بعده (كارل بوبر).

إن ميزة الحداثة هي ثقتها بقدرة العقل الإنساني على فهم متغيرات الواقع من دون الاستعانة برؤى غيبة أو سحرية، فعقل الحداثة ليس عقلاً اتكالياً ولا يقبل بوصاية آخر عليه يوجهه لذلك نجد الكثيرين يربطون الحداثة بزوغ الحداثة بنشر الفيلسوف الألماني (إيمانويل كانت) لمقالته "ما التنوير؟".

ولك أن تبحث عن الحداثة الاقتصادية لتجدها حداثة متأخرة بالقياس للحداثة في الفن والأدب والعلم والفلسفة، فلا حداثة اقتصادية خارج دائرة التنافس بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي، وستجد حداثة اقتصادية في كلا النظامين بوصفها نتيجة حتمية لطبيعة الصراع بين النظامين، وستجد نفاذ بعض مقولات نظام لآخر على قاعدة أتبناها وهي: (أن المنظومة الناقدة تحمل بوعي أو من دون وعي بعض عناصر المنظومة المُنتقدة).

تحدث محمد سبيلا في كتابه (الحداثة وما بعد الحداثة) عن أساليب انتقل فيها التفكير من المرحلة التأملية الكلاسيكية إلى الحداثة على عدة مستويات:

الأول في المعرفة حينما عمل الفلاسفة والعلماء على إعمال العقل في المعرفة العلمية والتجريبية وتحديث النظرية العلمية لغرض التجديد في انتاج التقنية.

الثاني في الطبيعة حينما تمكن العلم من الانتقال من الإيمان بمركزية الأرض إلى الإيمان بمركزية الشمس، والتحول في معرفة الطبيعة من العلم المغلق إلى العالم اللانهائي.

الثالث في الزمن والتاريخ، فقد أصبح التاريخ سيرورة وصيرورة، بمعن اختفاء غائية التاريخ وربط تطور التاريخ بعوامل الصراع الطبقي والاجتماعي. أما الزمن الحداثي فهو زمن متسارع يكون فيه الحاضر هو اللحظة التي يتم فيها الانتقال المتسارع لزمن مختلف كلياً.

الرابع هو النظرة للإنسان عبر إيلائه الأهمية القصوى بوصفه قيمة مركزية وارتكازية بها ومنها تكون المعرفة التي تساعدنا في بناء عالم أفضل. وقد ربط (هيدجر) بين نشأة الحداثة بالفلسفة حينما جعل الفلاسفة المعاصرون من الذات الإنسانية مركزاً ومرجعاً.

بايجاز الحداثة لا تعني غير تخليص العقل من قصوره الذاتي بعبارة (كانت) ومحاولة تحريره من سطوة وهيمنة المقدس بكل تمظهراته المغيبة لفاعليته الذاتية للانتقال بالإنسان من "التبعية" إلى "الاستقلال المعرفي".

في الحداثة خارج البحث عن تجذير زمني لها أو جغرافي تعني احترام حرية الفرد وعقله، وهي تحمل بصريح القول نقداً لكل مدع يصادر عقول الناس فيوهمهم بأنه الأعلم، لأن الحداثة تحترم عقل الفرد ويعرف أهلها أن لا وجود لأعلم في عوالم المعرفة الإنسانية الرحبة وكل بشر خطَاء ولربما يعلم أشياء في تخصصه ويجهل أشياء وأشياء.

الحداثة فكر يبحث أهله عن عقل ابداعي لا عن "عقل مستقيل" لأنها حركة ترنو للجديد وتدعم كل وعي مُتجدد يُقلق (العقل بذاته) ويستفزه ليكشف عن مواطن خلاقة كامة في الوعي الإنساني.

الأمر الذي يقتضي الإيمان بحرية الإنسان بوصفه كائناً عاقلاً حباه الله بالعقل فهو مسؤول عن أفعاله بعبارة مستعارة من رؤى المعتزلة تلتقي مع رؤية الفلاسفة الوجوديين في بعض مواضع شتى.

 

د. علي المرهج

..............................

مصادر ومراجع المقال:

- تيمونز روبيرتس: من الحداثة إلى ما بعد الحداثة.

- غيرترود هيملفارب: الطُرق إلى الحداثة.

- محمد سبيلا: الحداثة وما بعد الحداثة.

- تحرير: بيتر بروكر:

الحداثة وما بعد الحداثة.

- تحرير مالكلم برادبري وجيمس ماكفارلن.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم