صحيفة المثقف

إدارة السياسة بين الأهواءِ والبصائر

صالح الفهديالسياسة في المفهومِ الإسلامي هي رعاية مصالح الأُمَّةِ، وتدبير شؤونها، وهي أشبهُ بالحلقةِ التي تبدأُ من هذه الواجباتِ التي تقومُ بها الحكومةِ خدمةً الشعبِ، ثم قيام هذا الأخير بمراقبةِ أداءِ الحكومةِ، وتصويبِ مسارها، وتصحيح أعمالها.

فهي بهذا المفهوم إذن لا تعني إدارة الحكم وفق ممارسة الإكراهِ بالمنطقِ الفرعوني " مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ"1 ، أو المنطقِ الميكافيلي في تعريفهِ للسياسةِ بأنها: "فن الإبقاء على السلطة، وتوحيدها في قبضة الحكام، بصرف النظر عن الوسيلة التي تحقق ذلك"، أو بمنطقِ دزرائيلي بأنَّ:" السياسة هي فنّ حكم البشر عن طريق خداعهم"..! بل السياسة الحاذقةِ هي فنُّ التَّبصرِ بالأمور، والتَّدبرِ في العواقبِ، والإعتبارِ من التاريخ، والتَّفكر في مجريات الأحداث، ومعقِّبات الأسبابِ. السياسةُ في جوهرها هي الرَّحمةُ واللِّين والعفو والشورى "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ"2 .

إن الأحداث السياسية التي يمورُ بها العصر تجعلنا نقفُ عن منهجِ السياسةِ وتأثيرها على مصائر الدول والشعوب، إذ أنَّ المتمعِّنَ في الأحداث السياسة يصلُ إلى حقيقةٍ جليَّةٍ بأنَّهُ متى ما حُكم الأفرادُ وفق المنطق الفرعوني أو الميكافيلي بالقوةِ والإقسار، تفشَّى الظلمُ والطغيان، وانتشر الفسادُ وباتت الشعوبُ وهي تئنُّ من ثقل القيود، ومن حرقات السِّياط.

وإنَّ الدول التي لا يستطيعُ مواطنها أن ينفِّس عن رأي وإن كانَ متعقلاً، مخلصَ النيَّةِ، مهذَّبا، واعياً فهي دولٌ تغتالُ العقول، وتحصرُ المصائرَ في دائرةٍ مغلقةٍ، مظلمةٍ أشبه ما تكون بالقوقعة الفارغة التي ترجِّعِ أصداءَ المتمتمِ إن نطقَ فترعبهُ وقد حسبها أصواتَ الجلاَّدين..! الدول التي لا ينبسُ مواطنها بكلمةٍ إلاَّ ويصاحبها ارتفاعٌ في دقاتِ القلبِ هي دولٌ تمارسُ الضيم، والقهرَ على البشر، لأنها تقتلُ فيهم شعورهم الإنساني بذواتهم، وبفاعليتهم في الحياةِ، وتكبحهم عن التفكير في مستقبلٍ مشرقٍ، أو فكرةٍ مبدعةٍ، أو ابتكارٍ طريف..!

هذه دول تقودها الأهواءُ، وتتحكم فيها الأمزجة، فحكمها على ضدٍّ من المنطقِ السماوي، أو حتى منطقِ المنطقِ نفسه..! ولا يمكن أن تكون من مبرراتٍ لحكَّامها في أن يديروا دفَّتها بالأهواءِ والأمزجةِ مستخدمين وسائل القهرِ والطغيان سوى أنَّهم يشعرون بجنونِ العظمةِ، وطغيانِ النرجسيَّةِ، وانتفاخِ الذات، يسيطرُ عليهم إحساسُ الفوقيةِ، واصطفاءِ المشيئة القدرية لهم، والتعالم، وحدَّة البصيرة مصاحباً باستحقارٍ دونيٍّ للمحكومين..! هؤلاءِ لا يمكنُ أن يكونوا ساسةً حكماء لأنهم لا يستفيدون من مجريات التاريخ المتجدِّدةِ، التي تطرحُ أمامهم ألواناً من الدروس، وأشكالاً من العِبر..! حتى أنَّ المرءَ ليتساءل: آليس لهؤلاءِ آذانٌ تسمع، وأبصارٌ ترى، وبصائرَ تتفكر، وعقولٌ تتدبَّر؟!. في الحقيقة لهم كل ذلك، ومن الحماقةِ أن نقول خلاف ذلك، غير أنَّ الذات السلطوية قد استحوذت عليهم بعلاَّتها وعقدها، فوضعتهم في طريقٍ اللارجعةِ إن لم يكن قد استقامَ من بدايته..! حتى أنَّهم يحسبون أن الطغيان وحده وسيلةٌ البقاءِ وقد علَّم التاريخ من يتدبَّر في وقائعهِ أن ذلك منطقٌ الأرعنِ الأحمق، وأنَّ نمط هذا الحكم إنَّما مآلهُ إلى زوالٍ مهما طالَ أمده، واتَّسعت رقعته، وتباعدت أطراف شُقَّته..!

دولٌ ذبلت أعمارَ خيرة مواطنيها في ظلمات السجونِ، وقد كانت أقدر على العفو عنهم، وكان يمكنها لو أنها عفت عنهم إن افترضنا أنهم أخطأوا وفق مباديءِ شرعيةِ الدول ودساتيرها، لا أهواءِ الحكَّام وأمزجتهم، كان يمكنها أن تخرجهم من الظلمات إلى النور.

وعلى نقيضِ ذلك فإنَّ الدول التي تُدار بسياسةِ البصائرِ؛ قيادةً، وحكمةً، وتدبُّراً فإنَّها هي التي تحقُّق معاني التنمية الحقيقية المتمركزةِ في الإنسان ككائنٍ تنمويٍّ، يفكِّرُ، ويبدعُ، ويعمل. دولٌ لا يخشى فيها إنسانها الخطأ لأنَّ دولته ستنظرُ إليه نظرة الأبِ الرحيمِ إلى الإبنِ المخطيءِ يصوِّبهُ إن أخطأ ويعاقبهُ عقابَ رحمةٍ ورأفة. دولٌ لا تآخذ الجميع بجريرةٍ مقترفٍ واحدٍ للذنبِ، بل تعاقبَ صاحبَ الذَّنب بقدرٍ ما يكونُ في العقابِ من حكمةٍ قبل أن يكون فيه من رادع.

كنتُ في مجلسٍ من المجالسِ فاشتكى عربيٌّ بأنَّ حاكم بلاده ضعيفٌ في الخارجِ قويُّ على شعبه، تراهُ ذليلاً ضعيفاً في حضرةِ الحكَّام الآخرين، طاغياً مستبداً على شعبه، وليتَ هذا يعلمُ أن الجبهتين الداخلية والخارجية مرتبطتانِ ببعض وأن قوَّة الداخل تعني قوة الخارج، يقول جوزيف فرانكل في كتابه "العلاقات الدولية":"إن فصلاً بين السياسة الداخلية والسياسة الدولية أمرٌ جد عسير، وذلك تبعاً لما بين مقومات السياستين من "ارتباط" متبادل".

إن الدول التي تحكمها البصائر تُدركُ أن زجَّ سجناء الرأي في السجون إنما يعني اغتيال العقول خارجها، وتسويرِ الأفكار، وتحطيم النفوس، كما أنها تدركُ أنها إن ألقت في السجون العشرات فإنَّما تولِّدُ خارج السجون الآلاف لأسبابٍ منطقية..!

ولا براحَ بأنَّ مقولة "افتح مدرسة تغلق سجناً" هي أوسعُ من المعاني الحرفية لكلماتها، ويمكنُ تفسيرها بأنَّ فتح الفضاءات الحرَّة أمام العقل الإنساني يعني إحترام قدراته، وتقدير حريَّته، كهبةٍ ربَّانية فضَّل الله بها البشر عن سائرِ مخلوقاته.

الدول التي تحكمها البصائر تُشركُ مواطنيها في بناءِ الأوطان، تجعلهم رقباءَ لحكوماتها، مستشارين لأجهزتها، مصوِّبين لمساراتها، مخططين لتنمياتها، فيصبحُ المواطنُ هو الوطنُ ذاته، حينها ترقى قيمة المواطنة إلى أعلى مستوياتها.

إن يرشد الحكاَّم يرشد الشعب بهم، وإن يضلُّوا تظلُّ الشعوب معهم، وإنَّ مصائر الدول معلَّقةٌ في أيادي حكَّامها سواءً كانوا ذوي أهواءٍ وأمزجةٍ، أو كانوا ذوي بصائرَ وافهام، وسجلُّ التاريخُ من بعد ذلك شاهدٌ على العواقب.

 

د. صالح الفهدي

...............................

  1- (غافر/29)

 2 - (آل عمران/159)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم