صحيفة المثقف

أغنية السيّد الغريب (مقامة)

امين صباح كبةأوصبني إلمام الآلام، وتغلّب الأوهام، ودهمني حصر الكلام، وحموم الحمام، وحسرة أمدها سرمديّ، ومخاضها أبديّ، ودهيتُ بفقدان النِعم، فمن لم يعرف قدرها بوجدانها، عرفها بوجود فقدانها، فتسربلتُ بثياب الوحدة، متوقيًا وساوس الأمل، فلما نهش الزمان ألوانه، وحكّم أرذاله وأنذاله، أصبح قربي جافّا، (وضواحي قلبي موحشةٌ كهواء صفصاف)،

(لكنني أعرف أن قلبي قصرٌ قديمٌ وشاسع حتى إنّني كنت أتوه فيه في ما مضى

أما الآن فحجراته وزواياه كلّها معبأة بمئات الصناديق، ولم تبق فيه إلا هذه الفُسحة الضيّقة، قرب الباب حيث أتقرفص الآن) وأكتب هذه الأغنية.

١

فررت من أرض إلى أخرى، أعدو وخلفي جلبة الأبواق، ثمة من يضربون طبولاً، وثمة من يتهيأون لضرب السنوج، فلما سفرت وجوههم خجل النيّران، والتهبت القلوب بالنيران، ودهيت برشق ألحانهم، فهمت بلا هدى في القفار

(مهمة عسيرة

كان السير في العراء

تحت البدور أو الأهلّة

لذا سلكت بين كرات الجماجم

طريقي، وفي يديّ طلاسم وأسرار

غير عابئ بعينين تكاثر الرماد

فيهما، وشحّت بقية النرجس).

أظنّ أنكِ أصختِ لغنائه، عندما كنت معتلًّا في الفراش، عيونكِ جامحة، ومفاصل أصابعكِ حمراء، وهو يغني، أنا متيقنٌ أنه أخبركِ بكل شيئ قبل أن تدفنني عصاباته حيًا، (الأبواب معلّقةٌ من ظل مساميرها

جاء الطوفان مرارًا جاءت عدة عواصف. تهدّمت بيوتٌ عديدة)، ترمّلت النساء وفاضت الأنهار بالدم، وضجّت الأضرحة بالجنائز وامتلأت بالتوابيت وعزف الليل في آذاننا المرهفة من الأرق، عندما عاد سيدكِ من الحرب، قابلكِ في معبده وسلبكِ ثيابكِ عند الباب، أعتقد أنك أصغيت لغناءه عندما أخذكِ في طائرته، أدى ذلك إلى إخراج الحشد من المدرجات، ثم اغتال الأضواء في شوارع منعزلة، الآن هو ممددٌ على الأرض وجسدكِ يتدلى فوقه، وجسدي تنهشه الديدان، وتلسعه الأفاعي، سيدك يغني، رغم تحريمه للغناء، فلطم الخدود أحب إليه من عزف العود، وملامسة النيران، أرقّ عنده من عزف الكمان، ووأد البنات أحب إلى قلبه من تأدية الصلاة، وقطع الصلات، أسهل عنده من مناقشة المعضلات، ما وصل إلا وصال، وكلم الأوصال، وما حكّم الإ وجار، وقتل الأحرار، همه شن الحروب، وقطع الدروب، وركوب الاحتجاجات، وقمع الأصوات، وكان يتعمد الإيذاء، فما تدخل إلا وأساء، وسفك الدماء، كم طمس معلما، وأمر مطعما، ودمّر ملكا مكرّما، ادعى رزق الكرامة، ولم يرزق بالاستقامة، سيدكِ يغني وأنت صامتة، فصوت المرأة عورة، عبدةٌ مطيعة لا يحق لها أن تناقش أو تعارض، وبسبب ذعرك وتشردكِ وعبادتك للزمن ولأنكِ لا تعرفين ما سيأتي، لا يمكنكِ التنفس، لقد أوصلك القارب إلى هنا. لقد أغلقت الفراشة هروبك. لأنك لا تستطيعين أن تكوني هنا. اصطدمت الفراشة بصينية فضية وأغلقت هروبك مثل حجر تدحرج في نفق.، لأنك تتنفسين من قناع النقاء، ولأنه قتل الحراس ومنع التنفس، والآن أصبح حبكِ سرا ولن يتوقف حتى إذا فشل سيدكِ، (خذي زوار الضّجر والرغبات الكفيفة وفضّة الضحك الزائف. شفيت من حزني وحملت معي رفاته وطمرتها بالحصى.ارحلي إذا كان الرحيل لا يزال ممكنًا، أوعمّري أكواخًا في الجوار، وانتظري الوباء الجّوال في الأنحاء لقنوطي الذي يضاهي وحشة البئر المهجورة أو الحصاة في أميالٍ من الكثبان).أنتِ الآن محبوسة في معبده كعصفور في قفص يراقب فراشة، وأنا محبوس في قبري مع ملائكة الموتى، وجن الأحياء، ووحشة الأرض، وفوقي عصافيرٌ تحوم وتصنع جلبة، وقد أصبح حبكِ كغبار في سعال رجل عجوز، الآن سيدكِ أنهى أغنيته، وجسدكِ تنهشه القطط والكلاب بعد أن جرّته الجموع الغاضبة في الشوارع وجسده تناثر على الرصيف بعد اغتياله في غارة جوية، والجموع تحتفل وترقص وتملأ الشوارع فرحا بموته (وكل صوت سيقوم من قبره ويبحث عن حنجرة يبني بها عشّا لهتاف ما).

٢

قالوا :يا من أنار الظواهر بأنوار آثاره، ويامن أشرقت السرائر بأنوار أسراره يا منتهى طلب الحاجات ويامن عنده نيل النيّات، يامن لا يبيع نعمه بالأثمان ولا يكدر عطاياه بالامتنان قونا بسطوة سلطان فردانيتك، وأدخلنا لجّة بحر أدحيتك، وألبسنا خلع العزة والقبول، وسهل لنا مناهج الوصلة والوصول، يا غياثنا عند كل شدة، ويا مجيبنا عند كل دعوى، يا كائنا قبل كل شيئ ويا مكون كل شيئ، ألبسنا درعك الحصينة،  وافتح لنا من غيبك(فمن لم تفتح له ميادين الغيوب، مسجون بمحيطاته، ومحصور في هيكل ذاته)، اللهم قد انقطع الرجاء إلا منك، وخابت الآمال إلا فيك.انصرنا وثبت أقدامنا فلا ملجئ لنا الإ رحمتك.

خاتمة

كتبت هذه الأغنية في الأول من تشرين الثاني من عام ٢٠١٩ ميلادية عندما عثر على بطلها ميتًا بعد أن اخترقت رأسه قنبلة دخانية في ساحة التحرير ببغداد.

 

أمين صباح كبة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم