صحيفة المثقف

مجلس السّكلمان

سوف عبيدالسّكلمان أو ـ بخور مريم ـ زَهرة نادرة جميلة لطيفة شذيّة تراها ذات بتلات رقيقة متعدّدة الألوان وهي من الزهور الجبلية التي لا مثيل لها في برّ البلاد التونسية ولا تنبت إلا في غابة جبل - بو قرنين - الذي تنبسط بين سفحه وساحل بحره مدينة حمام الأنف في تناسق بديع الألوان كأنها قوس قزح يلوح من خضرة الجبل وبياض سطوح المنازل وحمرة قرميد الفيلات وزرقة الخليج وصفرة شمس الضحى وهي تبدو من ناحيته فإذا أنت أمام لوحة تَبارك الله أحسن الخالقين.

عندما أقصد مدينة حمام الأنف من ناحية تونس العاصمة أو رادس سواء بالسيارة أو بالقطار لابدّ أن ألتفت إلى يميني قبل الوصول لأرى جبل بوقرنين - يقابلني بقرنيه وبينهما الثلمة الكبيرة التي ورد في المخيال الشعبي أنها حدثت بسبب ضربة سيف عليّ بن أبي طالب عندما كان يقارع الكافرين وللّه في خلقه شؤون ولكن يا سيّدنا عليّ كرّم الله وجهك بعد صولاتك وجولاتك في جيش الأعداء عاد العرب والمسلمون يضرب بعضهم رقاب بعض طمعًا في الحكم وتفرّقوا سَبَهْلَلَا وكلّ منهم يدّعي أنه على حق وأن الآخرين على باطل وهم إخوان الشياطين يا سيّدنا عليّ كرّم الله وجهك قد أمسى العرب المسلمون منذ قرون وقرون وعصور وعصور في أسفل السّافلين فلا علوم ولا صناعة ولا فلاحة ولا نظام ولا عدل إلا الخراب والتخريب 

خراب قصر الباي خراب الحديقة التي أمامه خراب مبنى الحمّام خراب الكازينو خراب حوض السّمك والنّخيل الذي كان صفوفا صفوفا قطعوا اغلبه فيا حسرة على حمّام الأنف التي كانت في عهدها الزّاهر مثالا للنظافة والنظام والجمال والحضارة يا حسرتاه على الغابة في الجبل فقد غزتها البناءات  وهي التي صدرت فيها قوانين منع البناء ولكن حاميها حراميها وضاعت دماء الأشجار هدرا وتفرّقت بين المجلس البلديّ وإدارة الغابات ووزارة البيئة....إلخ...إلخ....

وبينما أنا في شجوني إذ بي أجدني في محطة حمام الأنف فنزلت من القطار وما كدت أغادر النّفق حتى اِستقبلني صديقي الشاعر عبد الحكيم زريّر هاشّا باشّا ولكن بدون مصافحة ولا أحضان فنحن في زمن الكورونا يا صديقي وتكفي الاِبتسامة والكلمة الطيّبة وما في القلب يصل إلى القلب وصديقنا حكيم هذا من المتيّمين بحبّ حمام الأنف فقد نشأ فيه منذ الصّغر وله أمتع ذكريات شبابه في أرجائها بين بحرها وجبلها فتسمعه متحدّثا عن جولاته وصولاته وسهراته فيها بحنين وحرقة فكلما مررنا بمكان يقول كان وكانت... ويذكر السّاعةَ الكبيرة التي كانت وسط المدينة وهي ساعة أرقامها من الأزهار والورود على بساط عشب يانع وعندما وصلنا بالقرب من بقايا حجارة متناثرة وقد غمرها العشب البرّيّ  أشار إلى ناحيتها متحسّرا متذكّرا أنها كانت حوضا جميلا من الفسيفساء وفيه سابحاتُ الأسماك الملوّنة كأنها تستقبل الزائرين أمام الكازينو...الكازينو... يا حسرتاه على الكازينو...!! ويضرب ـ حَكيمُو ـ كفًّا على كفّ في أسف ونكَد وهو ينظر إلى نوافذه وأبوابه المكسّرة وإلى جدرانه المتداعية إلى السّقوط وقد كان هذا المَعلم إلى حدود السّنوات الأولى من الاِستقلال مطعمًا وفندقا تُقام فيه الحفلات خاصة في الصّيف وهو يشبه في هندسته ومعماره الكازينو الذي في مدينة اللاذقية بسوريا فقد شدّني الشبه بينهما عندما زرتها منذ عشرين سنة فحسبت نفسي حينذاك أنني في حمّام الأنف

 هذا الكرنيش يا عزيزي يقول صديقي ـ حكيمُو ـ اُنظرْ فقد قطعوا نخيله فلم تبق من صفوفه إلا نخلات هنا وهناك لست أدري كيف ماتزال صامدة أمام هجومات ـ ياجوج وماجوج من الوندال والمغول والتاتار وأعراب بني هلال والذين يشبهونهم من الاِنتهازيين بعد الاِستقلال والثورجيين على أنواعهم وأشكالهم بعد 2001....خراب....خراب

فما الذي أتى بي إلى حمام الأنف إذن ؟

إنّه مجلس السّكلمان يا حبيبي! وأكرم به من مجلس والبحر أمامك والجبل وراءك والنّسيم عليل والفصل خريف معتدل وأنت في أنس الأحبّة بين حديث يشمل آخر الأخبار السّياسية والاِجتماعية وبين اِستذكار الطرائف الأدبية والشعرية وبين التدقيقات التاريخية واللغوية وما أسعدنا عندما نتذكّر معلّمينا وأساتذنا وكم تغمرنا البهجة عندما يكشف بعضنا أنه درس على نفس أولئك المعلمين والأساتذة

أمّا واسطة عقد هذا المجلس فهو الصديق الأديب والشاعر والمترجم جلال المُخ الحريص على الحضور من منتصف النهار إلى الثانية ظهرا كامل أيام الأسبوع حتى في العطل والأعياد ـ حسب ما سمعت ـ حتى وإن لم يحضر أصدقاؤه الأدباء فلديه مُريدون عديدون من حمّام الأنف يسعون إليه في شغف واِحترام وصاحبنا هو أيضا من عشّاق حمّام الأنف ومن متيّميها وقد تَرجم عشقه هذا في كتاب عنها أصدره منذ سنوات والغريب الغريب والعجب العُجاب أن هذا الكتاب لم تقتن منه البلدية ولا نسخة واحدة فلاتحدّثني عن رواج الكتاب وتوزيعه في حمام الأنف ولا في غيرها ورغم هذا الجحود وهذا الإهمال فإنّ ـ جلال المخ ـ أصدر أكثر من أربعين كتابا في شتّى الأجناس الأدبية باللغة العربية والفرنسية وهو يمثل حجر الزاوية في نادي ـ إضافات ـ الذي يجتمع مرتين في الشّهر في دار الثقافة وقد اِحتفى هذا النادي بعشرات الأدباء والشعراء والمثقفين من تونس وغيرها من الزائرين والمقيمين العرب وهو ناد يقوم على الجهود الذاتية طبعا ويضمّ نخبة من أقلام حمام الأنف من بينهم خاصة أذكر ـ عبد الحكيم زرير ـ فتحي جوعو ـ صالح الطرابلسي ـ فتحي جوعو. ـ هشام الخلادي ـ عمر سبيكة ـ منيرة الشطّي ـ علي بوزميطة...

تحية أريج السّكلمان إلى ـ مجلس السّكلمان ـ هكذا أسمّيه وأقصده من حين إلى آخر لأجد فيه متعة السّماع وأقطف منه جَمّ الفوائد من أناس ظرفاء أحبّوا الأدب ولا شيء غير الأدب !

 

سٌوف عبيد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم