صحيفة المثقف

كلب متوحش

ناجي ظاهركان صموئيل في العاشرة عندما خطر في باله ان يقتني كلبًا كبيرًا مهيبًا، اما كيف عنّ له ان يفعل ذلك، فقد كان لحظة رأى كلبًا ضخمًا بصحبة طفلٌ يافعٌ يكبرهُ بستةَ اعوام. لقد بهره منظرُ ذلك الطفل بصحبة كلبه، وبتجنب الاخرين له خشيةٍ وتوقيًا، فراح يَحلُم باليوم الذي يمشي فيه الى جانب كلبه مختالًا فخورًا، لا احد يقترب منه والكل يتجنّبه احترامًا في الظاهر وخشيةً في الواقع، بل انه لم يتردّد في ان يتخيّل كلبَه هذا ينقضُّ على طفلٍ يكبرهُ بستة اعوام، ويمزّقه شرّ ممزقة. "كلب مثل هذا يحلّ كل مشاكلي ويجعلني البطل نمرة واحد في الحارة". كان كلما جلس الى نفسه يقول.

بقي حُلمُ صموئيل هذا يكبر ساعة اثر ساعة ويومًا اثر يوم، بل اسبوعًا بعد اسبوع، وشهرًا في اعقاب شهر، وسنة بعد سنة، الى ان فاض به الكيل ذات يوم، وتعرّض لاعتداء غريب من نوعه. كان ذلك حين سيره في الشارع المؤدي الى بيته في احدى ساعات الشتاء المسائية المعتمة، وفجأة.. قفزت قطةُ جيرانه السوداء فخيّل اليه ان الليل انقض عليه مثلَ شبحٍ فضائيٍّ. لقد اطلق لحظتها صرخةً دوّت في ارجاء الحارة كلِها وكادت تصل الى اسماع جميع من في الحارة، كما خيّل له، غير ان ما حدث بالفعل هو ان صرختَه جاءت صامتة مهولة ولم يسمعها احدٌ لشدة ما رافقها من خوف، حتى هو. لقد اعاد ذلك العدوان القططي عليه حلمه بامتلاك كلب قوي معافى وشرس، ليتحوّل الى حلم حياته.

عندما دخل صموئيل بيته مرتجفًا خائفًا، كان اول ما فكر فيه هو ان يخفي وجله عن امه، اما ثاني ما فكر فيه، هو ان يسأل عن والده، وعندما ردّت عليه امه بنبرة غاضبة بات يعرفها جيدا قائلة" من اين لي ان اعرف". دخل الى غرفته واغلق بابها وراءه، وراح يفكّر في طريقة يقنع بها والده بان يساعده باقتناء كلب يرافقه في حلّه وترحاله. لقد سبق ورفض والده فكرة شراء كلب، بأكثر من ادعاء، مثل انه لا يعمل جيدا ولا يملك بالتالي المال لشراء مثل هذا الكلب، اضف الى هذا انه لا يوجد متسعٌ لكلب يقاسمه هو وزوجته وابنه حياتهم، ومثل الادعاء ان الكلب اذا كان شرسًا سيجلب له ولأبناء عائلته المشاكل، وما زال صموئيل يتذكّر كيف سخر ابوه منه وكيف ارسل نظرةً غامضة نحو امه  وهو يقول:" تريد يا سيد صموئيل كلبًا كبيرًا؟ الا يكفينا الكلاب والكلبات الكبيرة التي تملأ عالمنا نابحةً ليل نهار".

"ابي لن يوافق على ان احقق حلمي بشراء كلب يساعدني بالتفوّق والمحافظة على حياتي وكرامتي"، قال صموئيل وهو يحاول نسيان فكرة شراء كلب. في اللحظات التالية اختلطت الامور على صموئيل، فاستسلم لوسنٍ خفيف، رأى خلاله نفسه يخترق شوارع بلدته برفقة كلبه الموعود، فازدهى ومشى بين المعجبين والمعجبات من ابناء حارته مختالًا فخورًا. استيقظ صموئيل في صبيحة اليوم التالي، وكان اول ما فعله هو انه توجّه الى امه وسألها "اين والدي"، فما كان منها إلا ان اخبرته انه غادر البيت، وانها لن تسمح له ان يعود اليه فهي لا تحتاج الى زوج "عواطلي" يقضي سحابة يومه مع اصدقائه وخلّانه ناسيا انه اصبح ابًا لطفل وحيد وزوجة بالكاد تدبر امورها. ما ان سمع صموئيل كلمات امهِ هذه حتى لمعت بذهنه فكرةٌ جهنميةٌ، فلماذا لا يقترح على امه ان "يعمل لإعالتها واعالة نفسه؟".. وكان هذا ما اعلنه صموئيل لامه، اما السبب الحقيقي، فقد كان رغبتُه الجامحة في ان يقنتي كلبًا يؤدب به قطة الجيران وقطط الحارة المجاورة مجتمعةً اذا تطلّب الامر.. واستدعت الاحوال.

بين الرفض والقبول المتردّد، اعترضت الام على اقتراح ابنها العمل، وقالت له انها كانت تعمل بالسر ودون ان يعلم والده، لأنه كان يرفض ان تعمل هي. وأكدت انها ستواصل العمل لكن بالعلن هذه المرة. واضافت تقول من اجل اقناع ابنها الوحيد بالعدول عن فكرته:" انك ما زلت في السادسة عشرة من العمر وغدًا سوف تعمل حتى تكلّ وتملّ. ما ان نطقت الوالدةُ بهذه الكلمات حتى رآها فتاها فرصةً سانحةً لإقناعها، فراح يسرد عليها العديدَ من القصص التي شرع ابطالُها بالعمل فيها قبل السادسة عشرة!!

في اليوم التالي توجّه صموئيل إلى فُرنٍ كان قبل اقتراحَه العملَ لديه، وابتدأ العمل بحماس منقطع النظير، زاد في حماسه هذا سرور صاحب العمل من ناحية، وصورة الكلب التي لم تفارق خياله.

لم يمض سوى اشهرٍ حتى تمكّن صموئيل من تحقيق حلمه الابدي، واشترى كلبَ احلامه. كان الكلب ذا انياب مخيفةٍ وفم مرعب.. اما عيناه فكانتا تقدحان شررًا. هنا عادت مشكلة ضيق البيت وعدم توفر المكان الكافي لمبيت الكلب، غير ان صموئيل ما لبث ان توصّل الى حل، فلماذا لا يقترح على معلمه صاحب الفرن، ان يقوم الكلب بحراسة فرنه في ساعات الليل؟، وبدون ان يسأله معلمُه قال صموئيل، الكلب سيكون برفقتي وانا مسؤول عنه وعن كل ما يبدُر عنه.

عندما استتبت الامور لصموئيل واعتاد تمام الاعتياد على كلبه مصادقًا اياه، جاءت المرحلةُ الثالثة، على اعتبار ان المرحلة الاولى هي اقتناءُ الكلب والثانية هي مكان مبيتُه. هذه المرحلة الاخيرة تمثّلت في اهمية ان يدرّب صموئيل كلبه على الاستجابة لكل ما يطلبه منه. وابتدأ التدريب. لم يمض سو وقتٍ قصيرٍ حتى اتقنَ الكلبُ كل المطلوبَ منه. وكان اول ما حاوله صموئيل هو ان يصطحب الكلب في ليلةٍ معتمة مثلَ تلك "الما تتسمّى"، واختبأ هناك وراء جدار، وما ان اطلت القطة السوداء، حتى طلب من كلبه العزيز، مهاجمتَها فانقضّ عليها وامسك بها بين انيابه مقدّمًا اليه اياها على اعتبار انها يمكن ان تكون مشروعًا لضحيّة قد تستحق الانتقام. ارسل صموئيل نظرة احتقار الى قطة الجيران السوداء، ابتسم وطلب من كلبه ان يتركها. انصاع الكلبُ لصاحبه، ولم يفوّت صموئيل الفرصةَ وانما اعمل بسطاره في جسد القطة المسكينة وضربها بقوة هائلة.

كانت تلك ضربةٌ قويةٌ جدًا وقد اخترقت سكون الليل، ووصل صداها الى صاحبها جار صموئيل. فقرر بينه وبين نفسه امرًا عظيمًا، فهو لن ينام كما يفعل الجيران الا بعد ان يستعيد كرامة قطته المهدورة. اما صموئيل فقد مضى برفقة كلبه مبعدًا عن تلك المنطقة وراح يشعر انه الرجل الاقوى في الحارتين. وزاد في ثقته بكلبه انه بات يصطحبه الى كل مكان يحلُّ فيه. وكثيرًا ما كان ينتهر كلبه.. كلّما شكا احدهم من اعتدائه عليه، وفي قلبه جوقةٌ من الكلاب المؤيدة.

بقي وضعُ صموئيل يجري مثلَ ماءٍ زلال في غديرٍ حالم، الى ان وقعت الحادثةُ التالية. كان ذلك يوم عاد من احدى جولاته البطولية، الى حارته، وبينما هو يتوقع ان تطلّ تلك القطة الليلة السوداء اللعينة ليلقنها كلبُه دراسًا آخرَ لا تنساه، على افتراض انها نسيت..، اطلّ كلبٌ ضخمٌ جدًا يكاد يكون بضخامة جبل، وانقض على كلبه مُعملًا فيه انيابُه، كان يفعل هذا وكلب صموئيل المسكين يتحيّن الفرصةَ لينجو بما تبقّى لديه من جلد. عندما تعب الكلبُ الجبل، وارتخت اوداجه اول مرة، وجدها كلبُ صموئيل فرصةً سانحةً.. ففرّ هاربًا، وابتعد عن الحارة وعن رجاء صاحبهِ ومناداته له طالبًا منهُ العودة.

يقال إن ذلك كان آخر عهد صموئيل بكلبه الشرس.

***

قصة: ناجي ظاهر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم