صحيفة المثقف

كيف نقرأ جورج طرابيشي من إسلام القرآن إلي إسلام الحديث (3)

محمود محمد علينعود وننهي حديثنا عن قراءة جورج طرابيشي للتحول من إسلام  القرآن إلي إسلام الحديث، وهن نقول : يبدأ طرابيشي هذا الفصل بتعريف العقل النصي بانه العقل الذي يقدم تعقل النصوص على تعقل الواقع، أو يرهن الثاني بالأول ويمكن أن نقول من طرفنا أن طرابيشي يعمد في هذا الفصل إلى توضيح أن العقل النصي في زمن مالك أو في الحالة المالكية كان لم يكن قد فقد بعد مرونته الجدلية وهذا ما قصد به بأن مالك قد أعطى لعقله هامشا من الحرية حيث أن اختلافه كأحد عواميد مدارس الحديث عن بقيتهم بأنه كان لا يستبعد وجود تناقض في النصوص حيث كان يأتي مالك بالحديث وضده في نفس المكان وكان يصمت في أحيان من منطق ان اختلاف الأمة رحمة ويعطي لنفسه الحق أحيانا في التعليق على النصوص حيث أن نصاب المشكلة كما أوضح طرابيشي في هذا الفصل أن حد التعارض في النصوص كان يصل أحيانا بالصحابة إلى حد التكذيب أو الاتهام بالكذب (ص118)، وباختصار شديد يمكننا أن نقول أن مالكا والذي كان له يد طولى في بناء المنظومة الحديثية فقد رفض أن يغلقها سواء من رده من أحاديث العراقيين فلقد كان كان يقول "يا أهل العراق يخرج الحديث من عندنا شبرا ويصير عندكم ذراعا"، أو من خلال ما رده من أحاديث أهل المدينة إذا كان عمل أهل المدينة قد مضى بخلافها .

ثم يأتي طرابيشي ليوضح الخطأ الذي اثر في مسار العقل في الحضارة العربية الإسلامية،وقبل أن نوضح ذلك الخطأ يجب علينا أن نقول أن تلك الحضارة كانت دائما ما تنتج عقليا نقديا –حتى ولو كان تابعا للنص- وعقلا يغلق العقل ويمقت النقد . فيما يخص المنظومة الحديثية فقد كان هناك مدرستان مدرسة الرأي ومدرسة الحديث، وكان الخطأ الذي نوه إليه طرابيشي أنه قد وضع مالك رائدا لمدرسة الحديث وأبو حنيفة رائدا لمدرسة الرأي، وقد أسهب طرابيشي بشكل مطول على أن كيف أن مالك كان "رأييا" بامتياز، بل وكيف تصدى له الشافعي في كتابه الأم لما رأى له من استخدام للرأي أو للعقل –ولو بشكل محدود.

، ثم يبهرنا طرابيشي بتحليل إحصائي للموطأ يقوم فيه بتحليل داخلي لمعجم مفردات مالك والذي كان على سبيل المثال يدل على أن مالكا كان لا يتواني على قول "أنا أحب" أو "أنا اكره"، وأنه قد ذكر قول "أنا رأيي" في 1529 مرة. ثم نرى بعد ذلك كيف تم رد مالك إلى صراط النص المستقيم بخلق روايات تؤكد أن مالكا كان قد تراجع عن أقواله وأرائه في آخر حياته وقد افحم طرابيشي من تقول على مالك بهذا الهراء، وينطلق من هنا طرابيشي غوصا في علم الحديث حيث يشرح الآليات التي اعتمدها مالك في كشكل من أشكال مدرسة الرأي وهي "القياس والاستحسان والاستصلاح" .

وقد وضح طرابيشي أن القياس عند مالك هو واحدة من الآليات، وهو الآلة الأولى عند أبو حنيفة، وهي الآلة الوحيدة لدى الشافعي، ويمكننا تلخيص منهج القياس بقول أن فيه ظاهر من الحرية وباطن من العبودية، وأما بالنسبة للاستحسان فلنقل أنه كآلية أن فيه حرية أكثر من القياس لأن استخدامه مشروط بإشكالية استخدام القياس، أما الاستصلاح فهو ذروة الاجتهادالمالكي حيث أباح للعقل أن يجتهد في حالة غياب النص .ثم ينطلق طرابيشي من هنا ليتكلم على الفقه الافتراضي والظاهري الحنبلي ويورد الفروق بينهما.

ثم نأتي على "الإسناد" والتي سيعكف طرابيشي على هدم صرح تلك الآلية وقلع أسسها وتحطيم بنيانها بل وفضح منظومتها بأكملها ولأني هنا أقول هذا فذلك لأن مالكا عاش وقال أقواله في حقبة كان لا تزال دوائر العقل مفتوحة ولقد أشار طرابيشي إلى كيف أن مالكا كان منعتقا بشكل نسبي من سلاسل الإسناد، ولكن قام المتأخرون بوصل كل حديث مرسل أو منقطع أو من البلاغات –أي خالي الإسناد أو في سلسلة اتصاله مشكلة- وبالتالي يصبح مالك خاليا من أي حرج . وفي عرض مشكلة الإسناد يعطينا طرابيشي مثالا عبقريا على تطور المدونة الحديثية بل وتغليبها على القرآن ويثبت لنا بالدليل القاطع كيف كانت عبارة عن تطور زمني وتلفيق محكم لحكم ما كان له أن يبقى لو للقرآن من وضع تقديسي أعلى بما آل له الحديث . ثم يأتي على ما وضعه مالك للتصرف مع الحديث .وقد اعتمد الاجتهاد المالكي على القرآن والسنة – وقد فصل طرابيشي تطور هذا المفهوم اللغوي بالتفصيل- وفتوى الصحابة وعمل أهل المدينة، وبالتالي كان اجتهاده نبويا صحابيا تابعيا.

ونخلص هنا بجمع ما لخصه طرابيشي وأكد عليه بما يتعلق بآلية الإسناد وما لمالك من أهمية بما كان له من هامش من الحرية : "إن آلية الإسناد في القرن الثالث الهجري فصاعدا لم تكن وظيفته الحقيقية ضمان عدم الكذب على الرسول ووضع حد لظاهرة وضع الحديث بل على النقيض، إتاحة الفرصة للمزيد من الكذب على الرسول وللتمادي في الوضع على لسانه تحت حماية سلسلة الضامنين .

والواقع إن العيب الإبستمولوجي الذي ينخر في المنظومة الحديثية كما تضخمت في القرن الثالث فصاعدا هو قلب معيار الصحة وإزاحته من المتن إلى السند وهذه الشكلية الخالصة هي المسؤولة عن اللامعقول الذي شحنت به المنظومة الحديثية ويمكننا أن نقول هامش الحرية الذي أعطاه مالك لنفسه في مداورة أسانيد الحديث كان لا بد أن يلغى، وبإلغائه تحدد المسار النهائي للعقل الفقهي الإسلامي كعقل يحكمه ميل وسواسي قهري إلى إغلاق الدوائر وسد كل الثغرات التي قد تتأدى إلى قدر من عدم الانضباط في الدوران داخل مدارات المركز .

وبالتالي يمكننا أن نقول أن السنة بمفهومها المالكي أكثر تعددية وأقل انغلاقية من السنة كما سيفرضها الشافعي فمرجعية مالك نبوية صحابية تابعية أما عند الشافعي فنبوية خالصة، ولا شك ان بين السنة متعددة الخلايا والسنة أحادية الخلية فارقا في درجة الإلزامية، وبالتالي في درجة المرونة في التأويل والاجتهاد، ومن دون أن نستخدم هنا كلمة "حرية" التي ستكون في هذه الحال مبالغا فيها إلى حد التورط في مغالطة إبستمولوجية فلنا أن نقول أن أسار العبودية في سنة متعددة الخلايا يبقى اكثر تراخيا مما في سنة أحادية الخلية".

إذن يسعي جورج طرابيشي في هذا الكتاب إلي توظيف المفهوم الخلدوني عن النشأة المستأنفة، بما  تنطوي عليه من معنى القطيعة والاستمرارية في آن معاً، يسلط هذا الكتاب ضوءاً  باهراً على عملية  إعادة تأسيس الإسلام  القرآني في إسلام  حديثي، وذلك طرداً  مع التحول الموازي  من إسلام الرسالة  إلى إسلام التاريخ، ومن إسلام " أم القرى " إلى  إسلام الفتوحات.

فعلى  حين أن إسلام الصدر  الأول قد ركّز كل مجهوده " الإبستمولوجي" على تثبيت الخطاب القرآني في نص مؤسس أول، فإن الإسلام القرون التالية قد صرف كل جهده بالمقابل إلى تثبيت السنة، أي الحديث المنسوب إلى الرسول، في نص مؤسس ثانٍ من خلال المقولة الشهيرة التي ما فتئ يرددها بصوت واحد الإمام الأوزاعي في القرن الثاني والإمام الشاطبي في القرن الثامن من أن السنة جاءت قاضية على الكتاب ولم يجئ الكتاب قاضياً على السنة.

والخطورة في هذه النقلة في المرجعية في الإسلام من القرآن إلى الحديث تتمثل أولاً في ما تمخضت عنه من انقلاب خطير من المنظور التشريعي: ففي القرآن لم يكن هناك من مشرِّع سوى الله وحده ولم يكن من نصاب للرسول سوى أنه مشرَّع له . ولكن مع الحديث لم يحوَّل الرسول إلى مشرِّع فحسب، بل إن أولئك الذين أباحوا لأنفسهم أن يضعوا الحديث على لسانه  قد نصّبوا أنفسهم في الواقع  مشرِّعين له كما لله.

ثم إن عدد الأحكام الملزمة للمكلّف  في القرآن محدود للغاية ؛ أما المدوّنة الحديثية، التي حكمها قانون التضخّم المتسارع، فتتضمن آلافاً وآلافاً من الأحكام . وعلى هذا النحو يكون المكلّف في الإسلام قد تحوّل إلى ما يشبه الإنسان الآلي الذي لا يتحرك في كل نأمة من نأماته إلا بالنصوص التي تتحكم بكل ما جلّ ودقّ من شؤون حياته العامة والخاصة. وبما أن الفرضية اللاهوتية التي انتصرت في الإسلام هي فرضية الشافعي القائلة إن الرسول لاينطق إلا عن وحي حتى عندما لا ينطق بالقرآن، فقد أُنزلت الأحاديث التي وُضعت  على لسان الرسول بعد وفاته  منزلة الوحي الموحى، وتواضع أهل الحديث والفقه على اعتبار السنة، كالقرآن، تشريعاً إلهياً متعالياً. وككل ما هو إلهي ومتعالٍ، أو مفترض فيه أنه كذلك، انعتقت السنة وأحكامها من شروط المكان والزمان، وصارت ملزِمة للمكلّف – كما يقول ابن حزم- "إلى يوم القيامة" : فلا يتغير فيها، ولا يجوز أن يتغير فيها شيء مهما تغيرت الأحوال والوقائع وشروط التاريخ . وهذا ما حكم على العقل العربي الإسلامي ابتداء من القرن الخامس الهجري بالانكفاء على نفسه وبالمراوحة في مكانه في تكرار لا نهاية له ؛ وهذا أيضاً ما سدّ عليه الطريق إلى اكتشاف مفهوم التطور وجدلية التقدم وما يستتبعانه من تغيّر في الأحكام الوضعية ذات المصدر البشري لا الإلهي ؛ وهذا ما أسّسه أخيراً في ممانعة للحداثة تنذر في يومنا هذا بالتحوّل إلى ردّة نحو قرون وسطى جديدة.

وبهذا الكتاب الذي يرصد الآليات الداخلية لإقالة العقل في الإسلام يختتم جورج طرابيشي مشروع " نقد نقدِ العقل العربي " ؛ ويُحسَب لدراسة طرابيشي أنها واحدةٌ من الدراسات المهمة التي أعادت صياغة إشكالية النهضة بالتركيز على العوامل الداخلية والبُنى الفكرية المؤسِّسة للوعي، ومع التسليم بالدور الفاعل الذي قام به تيار أصحاب الحديث عبر قرون وما خلفه من آثار ما تزال ماثلةً حتى اليوم.

إلا أن طرابيشي في تفكيكه الناقد لمنظومة أصحاب الحديث قد اصطف -عن قصدٍ ربما- في الاتجاه المضاد إيديولوجياً، ولعل واحداً من أهم ما يُستشكَل في دراسة طرابيشي هذه هو خلطه بين "السنة" كميراثٍ معرفي لا سبيل لإنكار وجوده موضوعياً، وبين ما آل إليه هذا الميراث بعد تداوله في أزمنة وأمكنة وثقافات مختلفة؛ فلئن لم تسعف طرابيشي قراءتُه الإحصائية/الظاهرية لألفاظ القرآن في العثور على اعترافٍ قرآنيٍّ بوجود "سنةٍ للرسول"، فإنه لا ينبغي أن يترتب على ذلك نفيُها بالمطلَق ثم ردُّ ما رُوي أو ورَدَ منها وإحالته على اختلاقات الرواة ورجال "الصنعة الحديثية" كما فعل طرابيشي، خصوصاً إذا لاحظنا الدعوة القرآنية الصريحة والمتكررة في أكثر من موضع إلى "اتباع" الرسول و"طاعته" و"اتخاذه أسوةً".

بل إننا إذا أخذنا بما يقرره طرابيشي نفسه من كون القرآن نصاً صاغ وعياً جديداً في البيئة العربية واتخذ موقعه المركزي في الحضارة العربية الإسلامية، فإن من غير الطبيعي أن يكون "مبلِّغُ" هذا النص نكرةً في التاريخ فلا يُعرَف من سيرته وسنته شيءٌ يذكَر، كما أنه من الطبيعي بالمقابل أن ينالَ "مبلِّغَ" هذا النص نصيبٌ من الوضع والدس والافتراء، وهو ما تم بالفعل؛ الأمر الذي يضطرنا إلى إعادة ترتيب فرضية طرابيشي بحيث تكون "السنة" كحاجةٍ دينيةٍ و"الرواية" كمصدرٍ معرفيٍّ هما مَن صَنَعَ رجال الحديث وليس العكس.

وبناءً على هذا فإنه يمكن النظر إلى دور أصحاب الحديث باعتباره دوراً تقنياً بحيث تملي عليهم "الصنعة الحديثية" إيلاء الإسناد عناية تفوق العناية بالمتن، وربما يكون "تكليفاً لهم بما لا يطاق" مطالبتُهم بأن يبرعوا في الجمع بآنٍ واحد بين "الرواية" و"الدراية" معاً؛ بل لنا أن نزيد على ذلك بالقول بأن "عقلية" أهل الحديث المنهمكة بطبيعتها في "التفاصيل" و"الحرْفية النصية" التي لا تجرؤ حتى على نقد الحديث أو رده إلا قليلاً هي العقلية الأكثر انسجاماً والأقدر "مهنياً" على القيام بمسؤولية "التوثيق من أجل التوثيق" تاركة مهمة النقد والتمحيص لمن يجيدها، ولا تنشأ المشكلة إلا عندما نطلب من مثل هذه العقلية أن تجتهد نقداً أو رداً أو حتى استنباطاً، وفي حال تم ذلك -وهو ما تم فعلاً بحسب طرابيشي- فإن التهمة لا ينبغي أن توجه للإيديولوجية المتغلبة المناوئة للعقل، بل للإيديولوجية العقلانية المهزومة التي فوتت فرصة إثبات نفسها سياسياً عندما قبلت ممارسة الإكراه ودعوياً عندما تعالت بنخبويتها على "العامة" ثم شلّتها المذهبية والتقليد أكثر مما شلتها الإيديولوجية الحديثية.

ولعلنا إن شئنا مجاراة طرابيشي في استعانته بعلم النفس التحليلي لقلنا إن "هاجسه الإنكاري" تجاه السنة قد شوش عليه الرؤية وأوقعه في حالة "نكوص" إلى أحضان المعتزلة الذين هم برأيه ممثلو "العقل" و"القرآن"، الأمر الذي يستبطن وصف "الآخر" بضد ذلك، وسنكون عندئذٍ إزاء دعوةٍ لاستئنافِ معركةٍ إيديولوجيةٍ قديمةٍ بكل تكتيكاتها واصطفافاتها، واستعادةٍ للمقولات الناظمة لذلك الصراع المزمن، وعندها لن نكون على أعتاب ردةٍ نحو قرون وسطى جديدة كما ينذر طرابيشي، بل سنكون مراوحين فيها دون مغادرةٍ لها أصلاً.

وإذا يختتم طرابيشي كتابه مشيراً إلي أن أصحاب الحديث أثبتوا مرجعية بالحديث، ثم بالحديث أثبتوا مرجعيتهم، وبالحديث انتصروا للحديث ولأنفسهم وباتوا بذلك هم المشرعين الحقيقيين، فإنه يري أن عشرة قرون من تقديم الحديث وسيادة أهله قد أفضلت إلي ثلاث نتائج بالغة الخطورة من حيث انعكاساتها علي جدلية التقدم/ التأخر الثقافي الحضاري، أولاها تغييب القرآن وخطابه الفتوح القابل للتأويل، وثانيتها تغييب العقل وتقليص فاعليته إلي  أدني مستوياتها إلي حد إدخاله في ضرب من البيات الشتوي، بحيث يمكن القول إن العقلانية العربية الإسلامية قد هُزمت تحت ضغط الإيديولوجيا الحديثية، وثالثتها القضاء علي التعديدات في الإسلام سواء كانت فرقاً داخلة أو طوائف وديانات من خارجه، وذلك بعد حصر الهدي في الفرقة الناجية ؛ ومن هنا فإنه ما لم يعد تفتيح ما أغفلته الإيديولوجية الحديثية من مسام العقل، وفي مقدمتها العقل الديني، فإنه لا أمل في كسب رهان تجديد النهضة، بل ستبقي الاحتمالات قائمة للارتداد نحو " قرون وسطي " وذلك كما أكد محمد أبو الخير.

كما يحسب لدراسة طرابيشي أنها كما قال محمد أبو الخير واحدة من الدراسات المهمة التي أعادت صياغة إشكالية النهضة بالتركيز علي العوامل الداخلية والبني الفكرية المؤسسة للوعي، ومع التسليم بالدور الفاعل الذي قام به تيار أصحاب الحديث عبر قرون وما خلفه من آثار ما تزال ماثلة حتي اليوم، إلا أن طرابيشي في تفكيكه الناقد لمنظومة أصحاب الحديث قد اصطف – عن قصد ربما – في الاتجاه المضاد إيديولوجيا، ولعل واحدا من أهم ما يُستشكل في دراسة طرابيشي هذه هو خلطه بين " السنة " كموروث معرفي لا سبيل لإنكار وجوده موضوعيا، وبين ما آل إليه هذا الميراث بعد تداوله في أزمنة وأمكنة وثقافات مختلفة ؛ فلئن لم تسعف طرابيشي قراءته الإحصائية / الظاهرية لألفاظ القرآن في العثور علي اعتراف قرآني بوجود " سنة للرسول " فإنه لا ينبغي أن يترتب علي ذلك نفيها بالمطلق ثم رد ما روي أو رد منها وإحالته علي اختلافات الرواة ورجال " الصنعة الحديثية" كما فعل طرابيشي ؛ خصوصاً إذا لاحظنا الدعوة القرآنية  الصريحة والمتكررة في أكثر من موضع إلي "اتباع " الرسول و" طاعته" و"اتخاذه أسوة".

بل إننا إذا أخذنا بما يقرره طرابيشي نفسه من كون القرآن نصاً صاغ وعياً جديداً في البيئة العربية واتخذ موقعه المركزي في الحضارة العربية الإسلامية، فإن من غير الطبيعي كما يقول محمد أبو الخير أن يكون " مبلغ" هذا النص نكرة في التاريخ فلا يُعرف من سيرته وسنته شئ يذكر، كما أنه من الطبعي بالمقابل أن ينال " مبلغ" هذا النص نصيب من الوضع والدس والافتراء، وهو ما تم بالفعل ؛ الأمر الذي يضطرنا إلي إعادة ترتيب فرضية طرابيشي بحيث تكون " السنة" كحاجة دينية و" الرواية" كمصدر معرفي هما من صنع رجال الحديث وليس العكس.

وبناء علي هذا فإنه يمكن النظر إلي دور أصحاب الحديث باعتباره دورا تقنيا بحيث تملي عليهم " الصنعة الحديثية" إبلاء الإسناد عناية تفوق العناية بالمتن، وربما يكون " تكليفا لهم بما لا يطاق" مطالبتهم بأن يبرعوا في الجمع بأن واحد بين " الرواية" و" الدراية" معا ؛ بل لنا أن نزيد علي ذلك بالقول بأن "عقلية" أهل الحديث المنهمكة بطبيعتها في " التفاصيل" و" الحرفية النصية" التي لا تجرؤ حتي علي نقد الحديث أو رده إلا قليلاً هي العقلية الأكثر انسجاما والأقدر " مهنيا" علي القيام بمسؤولية " التوثيق من أجل التوثيق " تاركة مهمة النقد والتمحيص لمن يجيدها، ولا تنشأ المشكلة إلا عندما نطلب من مثل هذه العقلية أن تجتهد نقدا أو ردا أو حتي استنباطا، وفي حال تم ذلك – وهو ما تم فعلاً بحسب طرابيشي – فإن التهمة لا ينبغي أن توجه للإيديولوجية المتغلبة المناوئة للعقل، بل للإيديولوجيا العقلانية المهزومة التي فوتت فرصة غثبات  نفسها سياسيا عندما قبلت ممارسة الإكراه ودعويا عندما تعالت بنخبويتها علي " العامة" ثم شلتها المذهبية والتقليد أكثر مما شلتها الإيديولوجية الحديثية.

ولعلنا إن شئنا مجاراة طرابيشي كما يقول محمد أبو الخير في استعانته بعلم النفس التحليلي لقلنا إن " هاجسه الإنكاري" تجاه السنة قد شوش عليه الرؤية وأوقعه في حالة نكوص إلي أحضان المعتزلة الذين هم برأيه ممثلو " العقل " و" القرآن"، الأمر الذي يستبطن وصف " الآخر" بضد ذلك،وسنكون إزاء دعوة لاستئناف معركة إيديولوجية قديمة بكل تكتيكاتها واصطفافاتها، واستعادة للمقولات الناظمة لذلك الصراع المزمن، وعندها لننكون علي اعتبار درة نحو قرون وسطي جديدة كما ينذر طرابيشي، بل سنكون مراوحين فيها دون مغادرة لها أصلا.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

...........................

2- عمر كوش: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث.. (مقال).

3- سعيد ناشيد: الحاجة الماسة لقراءة كتاب "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث".. (مقال).

4-من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث… النشأة المستأنفة .. الأوان .. (تقرير).

5- هاشم صالح: قراءة في كتاب: جورج طرابيشي .. (مقال).

6- محمد أبو الخير السيد: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة.. (مقال).

7- محمد أبو الخير السيد : عرض كتاب من إسلام القرآن إلي إسلام الحديث :  النشأة المستأنفة، المسلم المعاصر، جمعية المسلم المعاصر، مج 35، ع 140، 2011.

8-مناف الحمد : من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث (قراءة نقدية في كتاب جورج طرابيشي)، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 7  كانون الثاني/ يناير 2018.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم