صحيفة المثقف

أجيال الحروب وتطور خطابنا الإعلامي

محمود محمد عليمنذ بدء التاريخ والبشر يعيشون في صراعات وحروب متتالية راح ضحيتها ملايين البشر، فعلي مدي أكثر من ثلاثة آلاف عام شهد العالم حروباً ساهمت بشكل كبير في تشكيل خريطة العالم، وتطورت خلال أشكال الحروب والتي ظلت تعتمد في مجملها علي الجيوش النظامية للدول، ووفقاً للدراسات العسكرية، فقد تم تقسيم الحروب إلي عدة أجيال.

ورغم أن تلك الحروب في تغير مستمر، إلا أنه يمكن تقسيمهم إلي حروب الجيل الأول، وهي الحرب التقليدية بين جيوش نظامية وعلي أرض معارك محددة ومواجهة مباشرة بين الدول، وهذا النوع من الحروب يعتمد علي التكتيك المباشر في استخدام السلاح بصورة مباشرة وصفوف من القوات. وقد حكم هذا النوع صراعات القرن التاسع عشر، ويعتبر هو الجيل المؤسس للتكتيكات والتقاليد العسكرية .

ثم ظهرت حروب الجيل الثاني قبل الحرب العالمية الأولي، وقد شهدت تلك الفترة استخدام القوة النارية الشاملة متمثلة في نيران المدفعية غير المباشرة، وأصبح الهدف هو استنزاف العدو، كما لُخصت العقيدة القتالية الجديدة في أن “المدفعية تقهر والمشاة تحتل”، وفيها تم الحفاظ علي ثقافة النظام العسكري والتراتبية التي يفرضها .

كما تم التركيز علي التعليمات، والإجراءات، والقواعد العسكرية، وظهرت الأولوية في طاعة الأوامر عن الارتجال، حتي دشنت الحرب العالمية جيلاً ثالثاً من الحروب؛ حيث أطلق الجيش الألماني الاستراتيجيات التي عرفت بالحرب الخاطفة، أو حرب المناورات، وقد بنيت العقيدة القتالية علي أسس السرعة، وعنصر المفاجأة، والتشويش الذهني والمادي للعدو، وبالتالي انتهت فكرة الحرب كسباق دفع بين الطرفين .

ولم تصمت أصوت مدافع الحرب العالمية الثانية في ألمانيا والمحيط الهادي، حتي بدأت الحرب الباردة من خلال صراع غير مباشر بين القوتين العظميين المتبقيتين في العالم : الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، والتي شهدت مواجهة غير مباشرة في ألمانيا، والشرق الأوسط، وفيتنام، وأفغانستان، وكوبا، وكوريا، وغيرها من الأماكن .

وقد استمرت تلك الحرب منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتي نهاية القرن العشرين، حين أفاق العالم يوم التاسع من نوفمبر عام 1989 علي لحظة سقوط “سور برلين” ، وكذلك تفكيك حلف وارسو وتساقط دوله واحدة والأخرى، ثم انهيار الاتحاد السوفيتي بقوة الشارع المدني معلناً بذلك عن بداية ظهور ما عرف بعد ذلك باسم “الجيل الرابع من الحروب Fourth-Generation Warfare ” ،

ويعتمد هذا النوع الملحوظ علي “مبدأ اللامركزية”؛ حيث تصطدم فيه مجموعات غير نظامية بكل الوسائل التكنولوجية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعسكرية، بهدف إجبار القوة العسكرية النظامية للدولة علي التخلي عن سياساتها وأهدافها الاستراتيجية، فتنتقل الحرب في هذه المرحلة من صراع مسلح بين قوتين عسكريتين نظاميتين إلي صراع بين دولة وبين مجموعات غير نظامية، معتمدة في ذلك علي استراتيجية الهدم من الداخل، وتوسيع الخلافات الموجودة، والدفع بالدولة نحو التآكل البطيء، والانهيار الداخلي، والتفتيت إلي الحد الذي يسمح للسيطرة عليها، وفرض واقع جديد علي نظامها الحاكم، مع تأزيمه وتشويه صورته .

إن موضوع حروب الجيل الرابع يثير من الجدل والأسئلة أكثر مما يؤدي إلي اتفاق أو توافق أو يوفر إجابات؛ حيث يصعب الفصل بين أجيال الحروب المختلفة، لأنها لا تأتي بصورة متعاقبة؛ بمعني أن الجيل الجديد من الحروب لا يكون إذن حتماً بانتهاء الجيل السابق، فكل جيل من الحروب جاء ليعالج سلبيات الجيل السابق والاستفادة من دروسه وخبراته.

ولكن ما سوف نتحدث عنه في ثنايا هذا المقال يقع تحت مسمي الجيل الرابع من الحروب، يمثل نوعية جديدة وصورة مختلفة عن أجيال الحروب المتعارف عليها، إلا أنها لا تلغي وجود الحروب التقليدية واستمرار الحروب غير المتماثلة بأشكالها وأبعادها المختلفة .

إن حروب الجيل الرابع والتي أشعلتها الولايات المتحدة بمساعدة بعض الدول الغربية، كانت تمثل ناتجاً طبيعياً لظروف استراتيجية وفرتها الثورة العلمية في الاتصالات والمعلومات والتقدم في أدوات إدارة العلاقات الدولية، ومتطلبات الحد من التدخل العسكري المباشر، حتي لا تتعرض القوات المسلحة لهذه الدول لخسائر مادية، أو بشرية، أو عسكرية.

فهي إذن حرب وسائل أخري تسمح بتحقيق الأهداف الاستراتيجية والعسكرية بأقل قدر من التكلفة والخسائر، إنها حرب تدار علي الدولة المستهدفة في كل المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإعلامية، والثقافية، والعسكرية، والأمنية، فهي لا تقتصر علي المسرح التقليدي للحرب بأبعاده البرية، والبحرية، والجوية.

كما أن حروب الجيل الرابع تختلف بصورة جذرية عن الجيل المعروف للحروب، سواء من حيث الهدف منها، أو أدوات تنفيذها أو طرق إدارتها؛ إذ كانت الجيوش تقود الحرب بصورة مباشرة وفق أهداف سياسية ، فإن في حرب الجيل الرابع يتراجع دور القوات المسلحة، ليحل مكانه قوات أخري تستطيع إدارة مثل هذه الحروب عن بعد ، إنها حرب بالوكالة وبالقيادة من خلف الكواليس تعمل علي إسقاط الدولة المستهدفة دون حاجة إلي التدخل العسكري الخارجي المباشر.

والسؤال الآن: كيف نطور خطابنا الإعلامي لمواجهة حروب الجيل الرابع ؟

لا شك في أن حروب الجيل الرابع تتطلب من إعلامنا أن يواجهها بطريقة علمية، ومهارية، ومهنية، وابتكارية بشكل احترافي نظراً لأن مثل هذه الحروب تشنها أجهزة معلوماتية من الدرجة الأولى، وتستهدف بالمقام الأول والأخير بث سموم الشائعات لإشاعة جو من اليأس والإحباط والتفريق بين مواطني الدول التي تستهدفهم بحيث تمزقهم و تدفعهم للانتحار في نهاية المطاف ، خاصة في مسألة إشعال فتنة النزاع الطائفي والقبلي .

ومع تتابع الأحداث التي تحيط بنا وتهز مجتمعنا، يمكن القول بأننا بحاجة ملحة إلى تجديد الخطاب الإعلامي، الذي يقوم بدور مهم ومؤثر في توجهات الرأي العام، واتجاهاته، وصياغة مواقفه، وسلوكياته من خلال الأخبار والمعلومات التي تزوده بها وسائل الإعلام المختلفة، إذ لا يستطيع شخص تكوين موقف معين أو تبني فكرة معينة إلا من خلال المعلومات والبيانات التي يتم توفيرها له، مما يؤكد قدرة الإعلام بكافة صوره وأشكاله على إحداث تغييرات في المفاهيم والممارسات الفردية والمجتمعية، عن طريق تعميم المعرفة والتوعية والتنوير، وتكوين الرأي ونشر المعلومات والقضايا المختلفة.

والناظر إلى واقع إعلامنا العربي في هذه الآونة ليدرك بصورة واضحة مدى تفشى الأمراض التي اجتاحت الكثير من وسائل الإعلام، كالخلايا السرطانية، والتي تكاثرت وتفشت وانتشرت كالسوس ينخر العظم ووصل حتى الجذور، ولا يعرف كيف يمكن مقاومته، فقد برزت خطابات التحريض والكراهية بشكل واضح في مشهد الخطاب الإعلامي العربي، حتى تعددت أوجهه وأدواته وغاياته وأهدافه، وحتى أضحى اليوم ما يسمى بصناعة الكراهية، وهي صناعة تتدخل فيها الحرب القولية والافتراء على التراث والعلم والتاريخ، بل وتزييفه بين الجماعات المختلفة، وما أن تدخل الكراهية في مجتمع حتى تمزقه إرباً إلى جماعات وشيع منافرة ومتضادة.

مما يؤكد أننا في حاجة شديدة إلى تجديد الخطاب الإعلامي ليكون وسيلة أساسية لتجديد الخطاب الديني، مما يستدعي المراجعة والتقييم وبلورة الوسائل الجديدة لهذه المرحلة، التي باتت من الخطورة ما يحتم أن تكون لها معطيات ومنطلقات تخدم هذه المرحلة بكل تحدياتها الراهنة والمستقبلة، في ظل الضغوط الخارجية والتحديات المقبلة التي أصبحت تفرض قسراً وليس اختياراً ذاتياً؛ خصوصاً أنَّ عالمنا العربي محط الأنظار والأطماع والتوجسات والاستهداف أيضا من الآخر.

فلا يكفي في هذه المسألة التحذير والتخويف والتنظير الكلامي غير الواقعي، لمواجهة مشاكلنا، وإنما يجب أن تتم المواجهة برسم الخطط، وإيجاد الوسائل الحديثة، وإعداد البرامج الأكثر تشويقًا، وجاذبية لخدمة قضايا المجتمع بصفة عامة، ومواجهة ما يحيق بنا من أخطار بصفة خاصة بصراحة وحرية بعيداً عن المبالغة والتهوين أو البتر والتحويل، لأن هذه المرحلة وما يجتاحها من مخاطر ثقافية وفكرية واجتماعية تستدعي إعطاء روح جديدة للوسائل الإعلامية العربية استهدافاً لتنمية الفكر البشري لتطوير المجتمع وإكسابه الخبرات العلمية والعملية ومهارات التفكير العلمي الناقد، وأهمية مقومات القدرة على تسخير المعرفة واستغلال إمكانات التداخل والترابط المعرفي في محاولة التعامل مع المشكلات المعقدة .

ومن هنا كان لا بد من إعادة النظر في الخطاب الإعلامي العربي مما يؤكد على حتمية تجديده، مما يوجب وضع صيغ جديدة لأخلاقيات البث والنشر الإعلامي تواكب روح العصر ومعطياته؛ خاصة في مجال المستحدثات والمتغيرات الجديدة الإعلامية والمعلوماتية والتكنولوجية، وأن يراعى في هذه الصيغ وجود نصوص واضحة تؤكد عنصر الالتزام بالأخلاقيات المهنية ومبادئها الأساسية واحترام إنسانية الإنسان ومشاعره ومعتقداته .

ونحن اليوم نشدد على أهمية الإعلام وأهمية تجديد القائمين عليه سواء معدين أو مقدمي برامج أو مخرجين ومهندسي الصوت والاضاءة والجرافيك والسوشيال ميديا ، والصحافة الورقية والالكترونية وصحافة الفيديو وكل ما يستجد من تكنولوجيا في المعدات تفيد في إعلام المجتمع بما يجري حوله من أحداث وفق ميثاق الشرف الإعلامي بكل صدق وامانة وحيادية .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم