صحيفة المثقف

الحب من وجهة نظر فلسفة الأخلاق

علي رسول الربيعييبدأ لغز عاطفة الحب من رغبتنا بأن نحب ونكون محبوبين، وأن نعتز بما نحن عليه من هوية لا يمكننا وأن يُنظر الينا على أنه لا يمكن تعويضنا في الوقت نفسه. وينشأ اللغز ايضا عندما نسأل ما هو أساس هذا الحب. يقول الذين يشعروننا أنا محبوبين أنهم يحبوننا لأننا “مميزون” ولأن “لا يوجد أحد مثلنا تمامًا”؛ ويقولون أيضًا إنهم يحبوننا لسمات معينة فينا مثل: ملامحنا، أو مزاجنا الفكاهي، وما إلى ذلك. قد يبدو من الطبيعي أن نستنتج أن حب الآخرين لنا يعتمد على خصائصنا الشخصية ذات القيمة الفريدة.

ومع ذلك، لا يبدو هذا صحيحا. أولاً، لأن الأشخاص أنفسهم الذين يقولون أنه لا يوجد أحد مثلنا يعترفون أيضًا بأن كل شخص بذاته هو فريد من نوعه، وهذا ما يجعل من الصعب رؤية كيف أن مجرد التفرد يمكن أن يجعلنا ذا قيمة خاصة واستثنائية عندهم عندما يكون هناك عدد لا يحصى من الآخرين الذين ليسوا أقل منا تميزًا.

ثانيًا، إذا كانت القيمة التي يضفيها علينا من نحبه مبنية على اساس خصائصنا وشمائلنا فيمكن له أن يفضل أو يتبع شخص آخر يتمتع بشمائل “أفضل” – فشخص أكثر مرحًا، على سبيل المثال، أو يمتلك سمات او ملامح أكثر جمالا أو حيوية- سيكون أكثر جدارة بحبه منا. لكن وجود شخص متفوق علينا من هذه النواحي لا يجعلنا أقل جدارة بالحب؛ إذا كان حبيبنا يحبنا حقًا ولا يتطلع إلى “المقايضة أو الترجيح” بالأفضلية تلك.

ثالثًا، يجب أن يكون الحب مستقلًا إلى حد ما عن سماتنا. فمثلا من المتوقع أن يحب الآباء أطفالهم “بغض النظر عن كيف تكون ملامحهم”. ينعكس هذا الاستقلال أيضًا في الافتراض بأن يظل الحب ثابتًا في مواجهة التغيير في سمات الحبيب وحتى في مواجهة اكتشاف صفة غير مرحب بها عند الحبيب.

رابعًا، قد تبدو السمات التي يدعي الآخرون أنهم يحبوننا من أجلها غير مهمة نسبيًا لما نحن عليه حقًا. فالشخص الذي يقدّرنا فقط على أساس ملامحنا أو وروح الدعابة لدينا، على سبيل المثال، سيركز انتباهه في المكان الخطأ. (يمكن قول الشيء نفسه عن شخص يتهدد حبه لنا اكتشافه لما يعتبره صفة تافهة.

أخيرًا، فكرة أن الشخص عزيز لأن صفاته تجعله ذو قيمة فريدة لا تتناسب مع تجربة حب شخص ما. لأنه يمكن للمرء أن يحب صديقه دون التفكير في أنه “مناسب” له كصديق أفضل من الآخرين الذين ليسوا أصدقاءه حيث يمكن أن يكونوا كذلك؛ ويمكن للمرء أن يعتز بأطفاله قبل كل شيء، ولكن يظل يعتقد أنهم ليسوا أكثر استحقاقًا للحب من الأطفال الآخرين.

إذن، هناك لغز حول الحب هو: ما هو أساس حب الآخرين لنا إن لم يكن يتعلق بصفات أو خصائص معينة؟

هناك لغز آخر عن الحب يتصل بالعلاقة بين الحب والأخلاق. تتطلب الرؤية الأخلاقية المحايدة أن ينظر الشخص الأخلاقي إلى جميع الأشخاص الآخرين بالقدر نفسه من الأهمية. ومع ذلك، يبدو أن كونك محبوبًا ينطوي على تقديرك أكثر من الآخرين. لذلك قد يبدو أن الشخص الأخلاقي حقًا غير قادر على أن يحب شخصًا ما بصدق، لأن تحيزه لحبيبه سيتعارض مع التزامه بالتفكير والتصرف من وجهة نظر أخلاقية محايدة. أوضح الفيلسوف برنارد ويليامز هذه الصعوبة في قضية رجل يمكنه إنقاذ شخص واحد فقط من بين عدة أشخاص في خطر ويختار إنقاذ زوجته، فقط لأنه يعتقد أنه يجوز في مثل هذه المواقف إنقاذ الزوجة ”.

يبدو أن الحب يلعب دورًا أساسيًا في تعليمنا الأخلاقي على الرغم من هذا الصراع الروحي الواضح بين الحب والأخلاق. لقد تم تعرفنا على الأخلاق من خلال تجربة طفولتنا مع المحبة؛ وقد منحتنا علاقات المحبة مع الأشخاص المقربين والأصدقاء في وقت لاحق من حياتنا وعيًا أعمق واستجابة للاهتمام بالآخرين، بما في ذلك أولئك الذين هم خارج دائرة علاقاتنا. اللغز الثاني إذن هو: كيف يمكن لعاطفة تبدو متعارضة جدًا مع روح الأخلاق المحايدة أن تؤدي هذا الدور؟

يتعامل ديفيد فيليمان، أستاذ الفلسفة في جامعة نيويورك، مع هذه الألغاز حول الحب في عدة مقالات في كتابه ( Self to Self). يتناول الكتاب مفهوم الذات، ذاتنا من وجهة نظرنا في سياقات مختلفة: سياق الذاكرة والسيرة الذاتية والتوقع، حيث نبدو مستمرين مع أنفسنا في الماضي والمستقبل؛ سياق صورتنا الذاتية، حيث نأخذ في الاعتبار دوافع معينة كجزء من “من نحن” أو “ما ندافع عنه”؛ سياق الذات المستقلة حيث نعتبر أفعالنا محكومة من قبلنا؛ وسياق المشاعر مثل العار والحب، حيث نشعر بالخجل من أنفسنا ونريد أن نكون محبوبين لأنفسنا. تثير طبيعة هذه الذوات المتنوعة اهتمام فيليمان النظري، ويستخدم أسئلة عنها كأساس لإثبات الأفكار المستمدة من فلسفة كانط الأخلاقية ونظرية التحليل النفسي وعلم النفس الاجتماعي.

إن ما لفت تفكيري في عاطفة الحب هي الرغبة في أن نكون محبوبين. وقد حاولت فهمها من خلال حالة التنافس بين الأشقاء. إن مسألة التنافس بين الأشقاء هي: كيف يمكن لأبي وأمي أن يحبونني بالطريقة التي أريد أن أكون فيها محبوبًا ويحبون أطفالهم الآخرين أيضًا؟ بالنظر إلى أنني أريد أن أكون أعز بشكل خاص، كيف يمكن أن يكون هناك أبناء بجانبي يتم تقييمهم بالطريقة نفسها ؟ تؤدي هذه الأسئلة إلى التنافس لأني أعتقد أن ما أريده هو نوع من المقارنة الإيجابية مقابل إخوتي، ومن ثم نتنافس جميعًا للحصول على هذا التقييم.

يبدو لي أن هذا مثل مشكلة الصراع المفترض في الروح بين الحب والأخلاق الكانطية. يطرح الفلاسفة الذين يعتقدون أن هناك صراعًا من منظور شخص يريد أن يكون محبوبًا السؤال التالي: كيف يمكن لشخص ما أن يحترم جميع الأشخاص بالقدر نفسه بالطريقة التي تتطلبها الأخلاق الكانطية ولايزال يقدرني بوصفي لي خصوصية بالنسبة له. لأنه إذا كان شخص ما يخشى أن تمنعه الأخلاق من أن يكون محبوبًا بالطريقة التي يريدها، فإن ما يزعجه حقًا هو المقارنة بين جميع الأشخاص بوصفهم متساوين أخلاقياً حيث ستهدد تقييمه على أنه له محبة ومكانة خاصة ومميزة عن الآخرين.

لذلك، ما لم نتمكن من معرفة مسألة التنافس بين الأشقاء، فاذن هناك مشكلة عميقة في الوضع البشري. ولابد أن يكمن حل مشكلة التنافس بين الأشقاء في معرفة سبب عدم إجراء مقارنة، لماذا لا يعتمد حب والديك على رؤيتك أفضل أو أغلى من إخوتك. هذا يعني أننا نتعامل مع أسئلة حول القيمة: ما الذي فيك يجعلك غاليًا ولا يمكن استبدالك بآخرين؟ أي نوع من القيمة يتطلب التقدير في حد ذاته، والابتعاد عن المقارنة بالآخرين؟ أعتقد للإجابة عن هذه الأسئلة، أننا بحاجة إلى فهم فكرة كانط التي تقول: أن الأشخاص، كغايات في حد ذاتها، لديهم قيمة لا تُقاس بالقيم الأخرى، ولا تضاهى أو تقارن مع قيمة الأشخاص الآخرين.

نحتاج لفهم وجهة نظر كانط عن قيمة الأشخاص أولاً، إلى فهم فكرة كانط عن الشخصية. فبالنسبة إلى كانط، إن كونك إنسانًا يعني أن تكون مخلوقًا عقلانيًا، سواء على المستوى المعرفي أو العملي. يقدم فيليمان في كتابه Self to Self، تفسير لهذه الفكرة: إن جزءًا مما يجعل شخصًا ما عقلانيًا هو إمكانية تراجعه عن دوافعه والتفكير فيما يجب فعله. لذلك، على سبيل المثال، عندما يكون الشخص متحيرا بين رغبته في البقاء في السرير ورغبته في الالتزام بنظام التمرين، يمكن للفاعل العقلاني أن يسأل، في هذه الظروف، ما إذا كان الشعور بأن البقاء في الفراش والراحة سبب وجيه كافٍ لعدم ممارسة الرياضة. ليس هذا مجرد سؤال حول هذه المناسبة بالذات، فالأسباب التي تدفعه لاتخاذ القرار سوف تنطبق على جميع المناسبات المماثلة. علاوة على ذلك، لكي يكون هذا قرارًا صحيحا في كل الأوقات، يجب أن ينظر إلى الأمور على أنها ثابته حتى يكون لديه سبب لإعادة النظر. وقد كتبت فيليمان أنه بمجرد أن يدرك الشخص قدرته على تبني هذا النوع من المنظور المستمر لرغباته، فإنه سيكون متحفز بشكل لا مفر منه للقيام بذلك والتصرف بناءً على ما يعتقد أن لديه أكثر الأسباب للقيام به. بعبارة أخرى، سوف ينجذب إلى الاستقلال الذاتي حتمًا.

لكن، كما يوضح فيليمان، تتضمن فكرة كانط عن الشخص شيئًا أكثر من مجرد قدرته واستعدادته لتكوين منظور فردي ثابت ما لديه من سبب للقيام بالفعل؛ حيث تتمتع المخلوقات العقلانية بإمكانية الوصول إلى منظور أكثر شمولاً تمكنها من رؤية أشياء معينة، وترى أن هذه الأشياء كافة المخلوقات العقلانية. فعلى سبيل المثال، ليس فقط الشخص الذي يقوم بالحساب يرى أن مجموع 2 و 2 هو 4 ولكن أي شخص يضيف 2 و 2 سيرى أن المجموع 4. يعتقد كانط أنه مثلما تمتلك جميع الكائنات العقلانية منظورًا مشتركًا للحساب، يمكن أن يكون لديهم منظورا مشتركًا حول ما يمكن اعتباره أسبابًا للفعل من قبل أي فاعل عقلاني. يدعي كانط أن بإمكانهم تبني مثل هذا المنظور من خلال التساؤل عما إذا كانت مبادؤهم للفعل قابلة للتعميم. هذا يعني، السؤال عما إذا كانت أسباب تصرفهم من النوع الذي يمكًنهم من السماح بها للجميع باستمرار واعتبارها صالحة في ظروف مماثلة.

إن التصرف وفقًا لأسباب يمكن أن تكون قابلة للمشاركة عالميًا هو ما اعتبره كانط القانون الأخلاقي أو الواجب الأخلاقي المُلزم أو غير المشروط في جميع الظروف ولا يعتمد على ميول الشخص أو غرضه، ايً تصرف وفقًا لطريقة ثابتة يمكن أن تكون قانونًا عالميًا. كان يعتقد كانط أيضًا أنه بمجرد أن يدرك شخص ما إمكانية التصرف وفقًا للقانون الأخلاقي، فسوف ينجذب إلى القيام بذلك. كان لدى كانط عدة أسباب للتفكير في هذا. إحداها، أن التصرف لأسباب يمكن أن تقبلها جميع الكائنات العقلانية أمر جذاب لأنه طريقة لاستقلالية الشخص، بمعنى أن حكم المرء على ما يعتبر سببًا للفعل يصبح القوة الوحيدة التي تتحكم في أفعاله. يرى كانط أن هذه هي الطريقة الوحيدة لتكون مستقلًا تمامًا. وهناك طريقة أخرى، هي أن يقوم المرء، ومن خلال التصرف لأسباب يمكن للجميع قبولها عقلانيًا، بدوره في إقامة علاقة متناغمة معهم، حيث يمكنهم بعد ذلك تأييد الطرق التي ينظر بها المرء إليهم ويتصرف تجاههم. ومن ثم تنطوي النتيجة المذهلة لتعريف كانط للشخصية بالضرورة على طموح للتصرف بشكل أخلاقي.

 

بقلم/ الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم