صحيفة المثقف

محنة الاغتراب

محمد يونس محمدالغربة الروحية للأدب

عاش اهم ادبا العالم وماتوا غرباء، وأن كان قد قدر لهم المعيشة بداخل بلدانهم، وليس كمن تغربوا قسرا، وعانوا بشكل مضاعف في غربتهم، وفي التفسير المعرفي للشخصيات الأدبية التي عانت من اضطهاد روحي وحرمان مركب، فهي شخصيات مركبة من خوف خارجي وقلق داخلي، وهنا لا يمكن الوقوف على صورة كاملة لها، فهي تتغير بسرعة خاطفة من وضع نفسي الى اخر، ومنها من اختار وضعه هذا، لكن ليس برضاه، فهو قد قهر عليه من داخله، فمثلا شخصية ادبية مثل هيرمان هيسه قد اختار غربته وعاشها برضا، لكن دون توازن واضح في مساره، وفي تفسير نتاجه تقف على روح الامر، حيث هناك انهمام بالطبيعة، وهناك انقطاع بعد تواصل قصير النفس، وهناك تحول من المكتوب الى المرسوم، وذلك الوضع النفسي الطابع هو عام تقريبا، يجمع جميع من عانوا من اغتراب داخلي، وحيال التأزيم الحاد الذي يفرض من الوضع النفسي على المنتج، ارى أن هيرمان هيسه قد سعى اخفاء ذلك التأزيم في بعد فلسفي بروايته – لعبة الكرات الزجاجية -، واهتم بالناء التصاعدي هارمونيا يوازي التصاعد التأزيمي الداخلي، حيث سايكلوجيا الأدب لا بد أن تكون متكافئة فيها اطر النفسي والادبي، وهيرمان فعل ذلك اضاء لجوهره الروحي، وفي رواية - سدهارتا – اتجه الى المضمون، حيث عاد الى جوهره ليستكشف مساحة غربته، ويسعى روحيا الى اقصى نقطة تشكل لحظة فاصلة بين الواقعي والروحي، وهو هنا يتبع اثر ايمانه، فأن ايمانه (هو اولا وتعلقه الصوفي برسالته، وثانيا، ايمانه بحقيقته الخاصة اضافة الى اخلاصه لمهمته، والحقيقة أنه لا يمكن أن يكون ثمة ابدا ايمان اعظم من ثقة المرء بأنه يبذل قصارى جهده لكي يحقق غاية ما يتمناه)، وهنا الامر يرجع الى وجود الهام روحي هو ابلغ واعمق بكثير من الالهام العام اجتماعيا وعلميا ايضا، وطاقة خلاقة مثل هيرمان هيسه هي امكن واقدر بروحيتها الدافقة معنى ساميا، حتى على القيم العامة، ويوازي تماما القيم العليا .

إن الغربة الروحية امر حساس، ويجعل الشخص يتسامى على الاشياء، حيث يصبح الاديب هنا كائنا بلا وحدة زمنية، فيحلق بروحه عاليا ويكون الوجود الحي ادنى منه، وهذه من اهم مراحل سمو الأديب نحو انسانه، او ما اسميه – الفنان – حيث يجد توصيفا للكون الانساني بصيغة ابعد من خاطرنا، وهي تثير استغرابنا بشكل ربما ابعد مما اثارته فينا الموضات، فهي مادة فنية وليست ذات، فالسريالية اثارت ذائقة عالية في ظرفها، وكذلك كانت الدادائية، لكن على مستوى الذات كان الامر بلا مؤشر يؤكد خروجهم على السياق كليا، بل هم جعلوا رصيدهم الفني والادبي المثال الذي يعكس تعاليهم على السياق، ونحن هنا نهتم بالذات المتفوقة، والتي تسمو على وحدتها الاجتماعية،فالقصد الروحي للاغتراب الداخلي، ففي هذا الجانب انت كمؤلف (لست في حاجة الى معرفة التفاصيل، لكنك تعرف أن الضوء الذي ينعكس من الاشياء يسقط على عينيك)، وهذا يعني أن سقوط الضوء سيسبب احساسا مختلفا، حيث تشرق الروح بذلك الاحساس، برغم العزلة والاغتراب الروحي، والاحساس المختلف بالأشياء يمنح الروح طاقة جديدة تأهيلية للتوهج الى اقصى حد ممكن، تخرج الروح من الحبس النفسي الذي يمثله الاغتراب.

تشكل حالة العزلة الشخصية تفسيرات عدة، فهي من التفسير العام تبدو في ظاهرها كحالة اختيارية، لكن موضوعيا تأخذ وجهة نظر مختلفة، فهي تفسر عبر معناها، وبماذا يتصل، وطبعا ذلك المعنى يحتاج الى استدلال عليه دقيق، وهو هنا ايضا قد لا يحصر بحالة من حالات المعنى، بل هناك تفسيرات قد تتطلبها التغيرات النفسية، وما يمكن أن تنتج من انجذاب المشاعر او افتراقها عن المعنى .

 

محمد يونس محمد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم