صحيفة المثقف

الخطاب الهوياتي ينبعث من جديد

خديجة ناصرييعتبر مفهوم الهوية من بين المفاهيم الفلسفية المبهمة، ينخرط ضمن شبكة مفاهمية معقدة، إذ يتعذر حصره في تعريف محدد أو تصنيفه ضمن إطار معين، وقد يبدو في بعض الأحيان أنّ هذا المفهوم واضح وجلي لكثرة استعماله وتداوله، لكن سرعان ما ينكشف أمام الذات المتفحصة لخبايا هذا المفهوم أنّه يصعب ضبطه في صيغة واضحة المعالم. فمفهوم الهوية مفهوم ترحالي، يستقي قوامه من عدة مشارب معرفية، فلو بحثنا في الذاكرة الاصطلاحية لكلمة هوية يظهر أنّ أول استعمال لها يرجع إلى فلاسفة ما قبل سقراط، وخصوصا مع "برمنيدس" و"هرقليطس"، الأوّل عندما اعتبر الهوية هي وحدة الوجود والفكر، أما الثاني فقد اعتبر جوهر الهوية هو وحدة الأضداد أو اللوغوس. وقد هيمن هذا المفهوم على الخطاب الفلسفي إلى حدود العصر الحديث، ففلاسفة اليونان قد اعتبروا أنّ كل شيء إما أن يكون مطابقا لذاته أو مخالف، بمعنى إما أن يكون هو هو أو ليس هو تماشيا مع المنطق الأرسطي في مبادئ الفكر، وتعدى ذلك إلى القول أنّ الهوية في شكلها الأدنى أي كذات لا تحتاج في وجودها إلى وجود الآخر المختلف، وما يمكن صوغه أنّ التصور اليوناني القديم يؤكد على قضية واحدة وهي أنّ الهوية تتحدد كتطابق والاختلاف كتناقض، وهذا ما لخصه "علي حرب" في قوله:" التفكير الفلسفي اليوناني افتتح التساؤل حول ماهية الوجود، حيث تصوروا الوجود مماثلا بطبيعته لشيء يبقى هو هو على الدوام، بمعزل عن الاختلافات الظاهرة (...) ومن هنا يبدو أنّ مفاهيم الوجود والمعقولية والفكر المحض قد تمثلها الفكر اليوناني بدءا من فكرة الهوية".

وقد استمر حضور هذا التصور حتى عند الفلاسفة والمفكرين المسلمين الذين اعتقدوا في تماهي وتطابق الذات مع نفسها، ولم يسبح هذا التصور بعيدا عن منطق الفكر اليوناني الذي اعتبر أنّ الذات لا تحتاج في تجربة وجودها إلى الآخر المغاير والمتباين عن الذات التي تكتفي بذاتها، فنجد "الجرجاني" في تعريفه للهوية يقول: "الهوية هي الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق". وفي تعريف آخر نجد أنّ "الهوية هي الوجود المحض الصريح المستوعب لكل كمال وجودي شهودي". وهذا ما جسدته الحضارة الإسلامية في زمانها السابق، فعلى الرغم من انفتاح مفكريها على ثقافة الأجناس المغايرة خاصة اليونانية منها إلا أن ذلك لم يثنيهم عن محاولة تبيان تميز الثقافة الإسلامية عن غيرها واكتفائها بذاتها ليس فقط من حيث الأسس والمبادئ الداخلة في الشأن الإيماني العقائدي بل ان الامر تجاوز ذلك للقول بقدسية الموروثات من سنن الأوليين على انها اشتملت على صفة الكمالية والشمولية مستوفية الشروط لتكون نهج الحياة السائرة على الصراط المستقيم، وهي في جلها دعاوى ذات توجه عرفاني أصولي تنكر على العقل القدرة على التذاكر والتفاكر وتتنكر للنص القرآني في خطابه الصريح الداعي لضرورة اعمال العقل بالتدبر و التأمل في الآيات الكونية والنصية وهي مهمة ليست بحكر على زمن او جيل بل هي مهمة كل مسلم في كل الأزمنة والأمكنة لتجديد رؤيته للحياة وصوغ فكره وفق معطيات الزمن الحاضر ومتطلباته بعيدا عن فكرة التبعية للأولين وهذا ما اشتغل عليه العديد من المفكرين في ثقافتنا الحالية ودعوا لضرورة زحزحة العقل وتحريره من الذهنية الوثوقية الثبوتية بالتصدي للفئات التي تحاول مصادرة الحق الذي كفله النص القرآني في عديد من آياته الا وهو اعمال العقل بل وشدد على ضرورة ذلك من أمثال محمد اركون، أبو القاسم حاج حمد، ناصر حامد أبو زيد، ماجد الغرباوي، وغيرهم كثير.

ومع بزوغ فلسفة العصر الحديث تطور الأمر على يد "ديكارت" الذي أسس لفلسفة ذاتية تؤكد بشكل عام تمسك الذات بهويتها تلخص ذلك في الكوجيتو الديكارتي "أنا أفكر إذن أنا موجود"، مستبعدا بذلك احتمال التقاء الذات بالآخر المختلف في سعيها لإدراك حقيقتها ووعي وجودها، فهي لوحدها تمتلك المقدرة على وعي ذاتها وصنع حقيقتها، فالذات هي مصدر كل الحقائق ومنبع كل المعارف. فعلى الرغم من ان ابو الفلسفة الحديثة قد افتتح عصر فلسفي جديد قوامه العقل وبذهنية تجريدية تأملية بصبغة علمية رياضية الا انه لم يحرر الذات من انغلاقها وتقوقعها ولم يسهم في انفتاحها على الاخر بل أكد على تفردها واكتفائها بذاتها وهذا ما أدى الى تضخم الانا الوجودي الأوروبي بشكل خاص والغربي بشكل عام وهو نمط من التفكير جر الإنسانية الى مهالك ومزالق مازالت تبعاتها مطبوعة على جبين الجنس البشري الى حدود الزمن الراهن.

وإذا كانت الهوية قد تحددت ولعقود طويلة من تاريخ الفلسفة على أساس الوحدة والتطابق، فإنّه "منذ المثالية الألمانية، و"هيغل" على الخصوص، لم يعد بالإمكان طرح مسألة الهوية بعيد عن الاختلاف" فلم تعد الهوية مجرد انسجام ووحدة وتماهي، بل أضحت تعبر عن معاني الاختلاف والتمايز، وبذلك فتح إمكانات جديدة أمام الفكر الفلسفي، بزحزحة الاعتقاد بوحدة الهوية، وإحالة الذات للتواصل مع الآخر بعد أن كانت حبيسة نفسها وسجينة أوهامها وخيالاتها. وشهد العالم وفق هذا المسار الفلسفي انفراج وانعتاق للذات فبدأت تلوح في الأفق ثقافة الحوار والتعايش وتقبل الغير على اختلافه وتمايزه مع ان الامر لا يبدو أكثر من بهرجة ظاهرية تغلف جوهر مثقل بالضغينة والكراهية ونكران الاخر ومحاولة طمس هويته واقتلاعه من جذوره وانتمائه وقد تفنن الغرب في انتهاج سبل وحشية مجردة من الصفة الإنسانية قصد الاعلاء من الثقافة الغربية واحتقار ما دونها من الثقافات منها حروب مباشرة ومنها حروب غير مباشرة.

وما نشهده اليوم في العالم العربي هو محاولة لبعث التراث اليوناني في أسوء صوره وأشكاله بنفي الآخر ونبذه والنفور منه وهذا ما حاول "علي حرب" لفت الانتباه إليه "فهوية الأنا لا تستقيم من دون الآخر، والوعي بالذات يمر بالضرورة عبر الغير(...) الغير هو الوجه الباطن لنا، وهو ما كناه أو ما يمكن أن نكونه" ذلك أنّ مفكرينا ومثقفينا مازالوا ينظرون إلى الهوية على أنّها علامة خالدة وأبدية لا يمكن تجاوزها أو تجديدها في حين أنّ واقع الحال يشهد كل يوم موت هويات وولادة هويات جديدة، الشيء الذي يعني أنّ الهوية ليست معطى ثابت يمكن تملكه والتفاخر والتباهي به ، إنّما الهوية تتشكل في لحمة مع الآخر والذي لا يعني الذوبان والانصهار فيه  بقدر ما يعني التمايز عنه بالشكل الذي يسهم في بناء الذات دون إلغاء للآخر. لأنّ "لا ذات بدون آخر ولا آخر بدون ذات (...) فكلاهما في حاجة عضوية ووجودية إلى الآخر، لا انفكاك عنها"

 

ناصري خديجة - الجزائر

..............................

المصادر والمراجع:

1-علي حرب، التأويل والحقيقة، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 2007م، ص198.

2-جميل صليبا، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، الجزء الثاني، لبنان 1982م، ص 530.

3-عبد السلام بن عبد العالي، أسس الفكر الفلسفي المعاصر، دار توبقال للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، المغرب 1991م، ص89-90.

4-علي حرب، خطاب الهوية: سيرة فكرية، منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الثانية، الجزائر، بيروت 2002م ص43.

5- محمد شوقي الزين، الذات والآخر: تأملات معاصرة في العقل والسياسة والواقع، منشورات الاختلاف، منشورات ضفاف، الطبعة الأولى، الجزائر، بيروت 2012م، ص10.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم