صحيفة المثقف

قراءة في كتاب

إعادة النظر في "الحضارة"

بقلم: ستيفن بول

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كيف صنع العالم الغرب: تاريخ يمتد إلى 4000 عام، بقلم جوزفين كوين

تاريخ  جذري جديد للعالم القديم يتحدى الشوفينية الحديثة

مثل السكك الحديدية والتلغراف، تم اختراع الحضارة الغربية في القرن التاسع عشر. وكانت جذورها النبيلة في أثينا وروما الكلاسيكيتين، ومن هناك، كما تقول القصة، شرع الأوروبيون البيض في تقدم تدريجي نحو التطور التقدمي والتنوير الذي بلغ ذروته، ولم يكن ذلك من قبيل الصدفة، في مجد الإمبراطورية البريطانية.

لم تكن هذه هي الطريقة التي بدأ بها كل شيء، كما تقول أستاذة التاريخ القديم جوزفين كوين في هذا التقرير الرائع عن الأنشطة الثقافية والعسكرية حول البحر الأبيض المتوسط في ألفي عام قبل الميلاد، ومن ثم حتى العصور الوسطى. بالنسبة لها، "التفكير الحضاري" في حد ذاته هو العدو، ليس فقط في علم التاريخ ولكن في الجغرافيا السياسية الحديثة.على سبيل المثال، توقع صموئيل هنتنغتون في كتابه "صراع الحضارات" (1996) أن الحروب المستقبلية لن تحدث بين الدول بل بين "الحضارات" الشمولية والمتجانسة مثل "الغربية" أو "الإسلامية" أو "الإفريقية" أو "الصينية" (صينى).3750 ستيفن بول

لكن "الحضارة الغربية" لم تكن لتوجد لولا تأثيراتها الإسلامية والأفريقية والهندية والصينية. لفهم السبب، تعيدنا كوين إلى الوراء في الزمن، بدءًا من ميناء جبيل الصاخب في لبنان في حوالي عام 2000 قبل الميلاد. كان ذلك في منتصف العصر البرونزي، الذي "افتتح حقبة جديدة من التبادل المنتظم لمسافات طويلة". إن تقنيات التأريخ بالكربون المطبقة على الاكتشافات الأثرية الحديثة توفر أدلة دامغة حول مدى "عولمة" البحر الأبيض المتوسط بالفعل، قبل 4000 سنة. ذهب النحاس الويلزي إلى الدول الاسكندنافية، والقصدير الكورنيش إلى ألمانيا، لصناعة الأسلحة البرونزية. تم صنع حبات عنبر البلطيق الموجودة في قبور النبلاء الميسينيين في بريطانيا. وبعد مرور ألف عام، كانت التجارة صعودًا وهبوطًا على ساحل المحيط الأطلسي تعني أن "المراجل الأيرلندية أصبحت ذات شعبية خاصة في شمال البرتغال".

مع هذه التجارة والسفر المتواصلين يأتي مزيج ثقافي طبيعي. تقول كوين: "كان التبادل الأجنبي يعني أن الكريتيين يمكنهم اختيار خيارات ثقافية مختلفة، وقد فعلوا ذلك". ولم يكن الاستيلاء الثقافي وصمة عار بعد؛ في الواقع، يمكن أن يكون ذلك بمثابة قوة، كما علمنا لاحقًا من تعليقات بوليبيوس حول الرومان المغرورين: "إنهم على استعداد على نحو غير عادي لاستبدال عاداتهم الخاصة بعادات أفضل من أماكن أخرى."

الكتاب غني بالتفاصيل الرائعة ويتمكن من جعل عالم ما قبل الكلاسيكية ينبض بالحياة. هناك شيء من التملق المراهق الحديث في الملك الصغير المتذمر الذي ينهي رسالة إلى ملك مصر بعبارة "أرسل لي الكثير من الذهب". وهذه إحدى رسائل "العمارنة" بين ملوك مصر وقبرص وبابل وغيرهم، والتي تقول كوين إنها "تكشف عن أهمية الاتصال والتواصل بين ما يُنظر إليه عادةً على أنه ثقافات أو حضارات قديمة منفصلة".

الكتاب غني بالتفاصيل الرائعة، وينجح في إعادة الحياة إلى عالم ما قبل الكلاسيكية

لكن هل اعتقد أحد يومًا أن الثقافات القديمة كانت موجودة في حالة انفصال محكم، دون أي اتصال بينها؟ هنا نصل إلى جوهر السؤال: إذا لم تكن هناك "حضارات" متجانسة، فلا تزال هناك "ثقافات" متميزة. في بعض الأحيان يبدو كوين في حالة إنكار. وتشتكي قائلة: «حتى الأفكار الليبرالية حول «التعددية الثقافية» تفترض وجود «الثقافات» الفردية، بل وقيمتها، كنقطة انطلاق». لكن قصتها عن "التبادل الثقافي" المستمر بين الشعوب حول البحر الأبيض المتوسط لا تكون منطقية إلا إذا كانت هناك ثقافات مختلفة في البداية؛ وإلا فإن كل شيء سيكون مجرد حساء واسع غير متجانس.

وتتحدث كوين نفسها عن "الثقافات" في أماكن أخرى ــ على سبيل المثال، "الثقافات الأبجدية المبكرة" في مصر وأماكن أخرى. وتشير إلى أن "فكرة أن الميسينيين والمينويين كانت حضارتين منفصلتاين عمرهما أقل من قرن من الزمان". "في البداية كانت مجرد أسماء متنافسة لنفس ثقافة بحر إيجه في العصر البرونزي من وجهات نظر مختلفة. وتوضح أن "ثقافة" بحر إيجه لم تكن "حضارة بحر إيجه واحدة، بل كانت تتألف من عدد كبير من المجموعات السكانية الصغيرة التي تتنافس وتتبادل الأفكار. وقد يتساءل المرء، أليس هذا صحيحا بالنسبة لكل "ثقافة" أو حتى "حضارة" واسعة؟

على أية حال، فمن الواضح أن الهوية خلال هذه الفترة كانت متقلبةوكانت على الأقل جزئيًا مسألة اختيار. تصف قطعة من عمل مفقود ليوربيدس قدموس، مؤسس مدينة طيبة، على النحو التالي: "ولد فينيقيًا، وغير نسبه إلى اليونانية". (تترجم كلمة "Stock" هنا الكلمة اليونانية genos، والتي منها لدينا كلمة "genes").

والثقافة نفسها أيضًا لا تُخلق من جديد أبدًا، بل تنمو من تأثير أوسع. يوضح كوين في فقرة رائعة حول أصداء هوميروس لملاحم سابقة: "ليس هناك شك في أن الأعمال الأولى للأدب اليوناني تحتفظ بآثار لقاءات مع عالم أكبر من الأغنية في لغات أخرى". وفي الوقت نفسه، تكتب"مثل خروج بني إسرائيل من مصر في الكتاب المقدس العبري، فإن الإلياذة هي قصة عن رحلة استكشافية مشتركة في الماضي البعيد جمعت شعبًا معًا كمجتمع، وتُروى بلغة مشتركة." مع لغة مشتركة، باعتبارها "ثقافة". ربما لا تكون الحجة هي أن الثقافات غير موجودة، بل ببساطة أنه كان لا بد من اختراعها؛ أنهم مبنيون اجتماعيا. حسنًا، نعم: وإلا كيف يمكن أن يأتوا إلى الوجود؟

وفي الوقت نفسه، لم يستغرق الأمر حتى القرن التاسع عشر حتى تصل فكرة "الغرب"، كما تشير كوين. وتلاحظ أن «أقدم نسخة معروفة من القطبية الثنائية التي تضع أوروبا في مواجهة آسيا، موجودة بالفعل في حكايات هيرودوت عن الحروب الفارسية؛ كما بدأ المسيحيون الفرنجة يعتبرون أنفسهم "أوروبيين" في أعقاب الفتح العربي

ومع ذلك، مما لا شك فيه أن هؤلاء السادة المؤرخين في القرن التاسع عشر كانوا ضيقي الأفق، بنفس الطريقة التي سنبدو بها للمؤرخين بعد قرن من الآن. وتوضح كوين هذه النقطة بشكل جميل عند مناقشة "قصص النساء المحاربات في السهوب" في الألفية الأولى قبل الميلاد، والتي رفضها العلماء لفترة طويلة باعتبارها خيالًا. وتلاحظ قائلة: "لم يكن هناك مجال في التفكير الحضاري للثقافات التي تديرها النساء بقوة وبنجاح". "لكن في العقود الأخيرة، تم الكشف عن أكثر من مائة مقبرة للنساء تحتوي على فؤوس وسيوف وأحيانا دروع في روسيا وأوكرانيا".

وفي حين أن النسخة القوية من أطروحة كوين ــ التي تقول بعدم وجود ثقافات منفصلة ــ مشكوك فيها، فإن النسخة الضعيفة، التي تقول "لم تكن هناك قط ثقافة غربية أو أوروبية خالصة واحدة"، تظل حجة قيمة، وكتابها ممتلئ. تحولات صغيرة تشبه الجوهرة في المنظور. على سبيل المثال، يوصف قسطنطين بأنه أدخل "إلهًا آسيويًا" (الإله المسيحي) إلى الإمبراطورية الرومانية.كتبت عن أثينا الكلاسيكية: "مثل اللواط والعري العام، كانت الديمقراطية ممارسة محلية مميزة عملت على التمييز بين بعض المجتمعات الناطقة باليونانية..." في وقت لاحق، تجادل بأن الحروب الصليبية لم تكن "صراع حضارات" بل اتخذت بالأحرى "صدام حضارات". مكان في عالم حيث "ليس للثقافة موقع طبيعي".

قبل كل شيء، ينتصر هذا الكتاب باعتباره تحديًا علميًا رائعًا للشوفينية الغربية الحديثة. تذكرنا كوين، إلى الحد الذي ورثنا فيه الثقافة الكلاسيكية، فهي في شكل منحرف إلى حد ما. (إنها تعتقد، وأنا أتفق معها، أننا ينبغي لنا أن نتبنى بعض ممارسات الديمقراطية الأثينية، مثل الانتخابات عن طريق القرعة، والتي "تقوض الشعبوية الساخرة").

في النهاية، قد يتفق القراء على أنه من الأفضل عدم الحديث عن "الحضارات"، سواء كانت متعارضة أم لا. دعونا نستخدم الكلمة بصيغة المفرد فقط لوصف شيء، كما قال غاندي ذات مرة، سيكون فكرة جيدة.

(تمت)

***

.......................

الكاتب: ستيفن بول / Steven Poole مؤلف وكاتب بريطانى ولد فى لندن يكتب فى الجارديان والتلجراف وغيرهما من الصحف المعروفة

*جوزفين كوين /Josephine Quinnأستاذة التاريخ القديم في جامعة أكسفورد، وزميلة مارتن فريدريكسن ومعلمة في التاريخ القديم في كلية ورسستر، أكسفورد. حصلت على زمالات في فيلا جيتي ومركز كولمان للعلماء والكتاب في مكتبة نيويورك العامة. حصلت على درجات علمية من جامعة أكسفورد وجامعة كاليفورنيا في بيركلي، ودرّست في أمريكا وإيطاليا والمملكة المتحدة، وشاركت في إدارة الحفريات الأثرية التونسية البريطانية في أوتيكا. وهي تساهم بشكل منتظم في مجلة لندن ريفيو أوف بوكس، وكذلك في البرامج الإذاعية والتلفزيونية. تعيش في أكسفورد.

https://www.theguardian.com/books/2024/feb/28/how-the-world-made-the-west-by-josephine-quinn-review-rethinking-civilisation

تميز كتاب "حكمة الجنوب" بقلم الكاتب والمدرس المغربي رشيد خويا، باللغة الإنجليزية، كإضافة ثرية ومميزة للمكتبة الثقافية المغربية. يُعتبر هذا الإصدار الرابع للكاتب، الذي يحمل عنوان "حكمة الجنوب"، خطوة مهمة في رحلته الأدبية، حيث يتجلى فيها اندماج اللغة الإنجليزية مع الطابع والروح الفنية المغربية. من خلال صفحاته، يقدم رشيد خويا لقرائه لمحة مذهلة عن ثقافة وفلسفة الجنوب المغربي، ممزوجة بقوة وجاذبية الأدب الإنجليزي. يتناول الكتاب مواضيع متنوعة تشمل الحياة والموت، والفلسفة والروحانية، والجمال والقبح، مما يضفي على قراءته قيمة عميقة وتأملات شاملة للحياة والكون. رشيد خويا، الأستاذ المتميز للغة الإنجليزية بمدينة العيون، يواصل براعته الأدبية من خلال هذا الكتاب، الذي يُظهر تجربته الثرة ورؤيته الفريدة للحياة والعالم. يتناول الكتاب مجموعة من الأفكار والمفاهيم التي تتعلق بالفلسفة والثقافة والعلم، مما يعزز الفهم العميق والتأمل الواعي للواقع والوجود. هذا الكتاب ليس مجرد مجموعة من الكلمات، بل هو دعوة لكل متعلم ومدرس للغة الإنجليزية للاستمتاع برحلة عقلية وروحية. يهدف الكتاب إلى تحفيز التفكير الإبداعي والتحليلي، وتعزيز المهارات اللغوية والفكرية للقراء من جميع الأعمار. بين صفحاته، ينطلق القارئ في رحلة مثيرة نحو استكشاف أعماق الذات والعالم الخارجي، مستفيدًا من عبقرية الكاتب في تقديم الأفكار بأسلوب شائق ومفيد. يعتبر "حكمة الجنوب" مصدرًا غنيًا بالمفاهيم الإيجابية التي تعزز الأمل، والتفاؤل، والطموح، والتميز. يتحفز القراء من خلاله على التساؤل والتفكير الإبداعي، ويُلهمهم لاستكشاف عوالم جديدة من الفكر والخيال. في صفحاته، يتجلى تميز الكاتب في نقل رسالة إيجابية مشحونة بالحكمة والإلهام، ما يجعل القراء يترقبون كل سطر بشغف وترقب. تناغمت الكلمات في الكتاب لتصنع لوحة فنية تنبض بالحياة والإيجابية، تنير طريق كل من يمتطي رحلة الاستكشاف والتعلم من خلاله. يُعد "حكمة الجنوب" مجرد كتاب، بل هو رحلة ممتعة ومثيرة في عالم الفكر والإبداع. يعتبر الكاتب رشيد خويا براعة في تقديم محتوى غني بالفلسفة والحكمة والجمالية، مما يجعل القراء يستمتعون بتجربة قراءة مميزة ومفيدة. بين صفحات الكتاب، يتجلى تنوع المواضيع وغنى الأفكار، مما يثري ذهن القارئ ويثير فضوله لاستكشاف المزيد. يتألق الكاتب في توصيل رسائله بأسلوب شيق وممتع، ما يجعل القراء ينغمسون في عوالم الكتاب ويتفاعلون مع كل فكرة ومفهوم. في النهاية، يجسد هذا الكتاب الروح الفنية والثقافية للمغرب بأسلوب متميز وفريد، مما يجعله إضافة لافتة وقيمة للمكتبة الثقافية العالمية. تتجلى أهمية هذا العمل في تعزيز التفاهم الثقافي والحوار بين الثقافات، وفتح نوافذ جديدة للتفكير والإبداع على مستوى عالمي.

***

زكية خيرهم

في كتاب كاظم المقدادي (الكتابة على جذع نخلة) مقال عنوانه (المحتقن في تصفير الزمن)، هو الأول من مقالات الكتاب، وواحد من أكثر الموضوعات قراءة وردود أفعال ممن قرأوه وعلقوا عليه لدى نشره في بعض وسائل التواصل الاجتماعي.

وهو يصف بطريقة مجازية ضيقَ الكاتب بما يتوفر له من هذا الزمن ومحاولته ذات الطبيعة الرياضية تحقيق الشعور بوجود المزيد من ساعات هذا الزمن وأيامه، فيما يبدو هذا الزمن، على العكس من ذلك، زائدًا، ولا معنى له لدى كثيرين غيره من العراقيين ممن لا يشكل مرور الدقائق والساعات والأيام أيُّ معنى بالنسبة إليهم.

وما نسمعه الآن من رئيس وزراء العراق محمد شياع السوداني من كلام يردده لدى حديثه مع العاملين في إنجاز بعض المشاريع في العاصمة بغداد:

- ترى ما عندنا وقت!

يبدو علامة طيبة على هذا الإدراك المتزايد لخطورة الزمن في حياتنا العامة في العراق بعد سنوات طويلة من الإهمال وضياع الفرص.

وقد قلت في مقالة سابقة عن كتاب المقدادي هذا إن الزمن موضوع يستحق بنفسه التوقف عنده بشيء من التأني والتأمل، لأنه يلامس، أكثر من غيره، ربما، واقعَ الحالة العراقية، التي توقف فيها الزمن أو تراجع إلى الوراء خلال سنين طويلة، خلافا لما حصل ويحصل لدى شعوب وأمم أخرى قريبة وبعيدة، نهضت حديثا مما يشبه العدم، وحققت تقدما وتطورا فاقت به بلدا كالعراق كان قد تقدمها بأشواط في ماضيه القريب والبعيد. ولذلك، فإن ما نتحدث عنه هنا ليس فقط زمنا شخصيا أو فلسفيًا، وإنما هو أيضا زمن عام  تسجل فيه عقارب الساعة دقات القلب ونبضاته، مثلما تسجل دورة الزمن الأرضي وحركة التقدم العلمي والتكنولوجي والرقمي والذكاء الاصطناعي الذي غيّر وسيغيّر  وجه التاريخ والمجتمع البشري الحديث.

ومحاولة المقدادي في ذلك المقال (تصفير) هذا الزمن من أجل البدء من جديد، تشبه لديه عملية (تصفير) العملة النقدية بحذف الأصفار الثلاثة. وهي عملية تبيّن فيما بعد أنها لا تختلف في عدم جدواها عن وضع هذه الأصفار على الشمال، بدلا عن وضعها على اليمين، لأنها غيرُ ذات أهمية وقيمة لدى المتعاملين بهذه العملة من العراقيين الذين عرفوا الدينار ومضاعفاته الورقية زمنا طويلا  دون هذه الأصفار، وتعاملوا معه بوضعه القديم ذاك عهودا طويلة. وكأن الزمن وتغير المآل من حال إلى حال كان يحدث على السطح، ولا دور له فيما يحصل في عمق الذات العراقية والذاكرة الجمعية التي لا تريد أن تنفض عنها غبار الماضي لتعاود النهوض من رمادها من جديد مثل عنقاء مغرب.

يقول المقدادي:

"فكرت جديا بتصفير الزمن على طريقة تصفير العملة النقدية. ولم لا ، ونحن نعرف أنه ، وفي العملية الحسابية والمالية، ترفع الأصفار الزائدة التي ترعرعت وفرّخت، وتكاثرت على وجه العملة الورقية وأصبحت عائلة من الآباء والأولاد والأحفاد والأجداد، ولم تتوقف بسبب فشل النظريات الاقتصادية في دول غابت عنها العقول الذكية، وجبرت فيها العقول الغبية"

والسؤال الذي يضعه المؤلف عن كيفية تصفير الزمن بعد هذا الكلام هو المهم، أو الأكثر أهمية، وهو:

"هل نلغي الثواني والدقائق والساعات، والأيام والأسابيع والشهور والسنوات، أو نجعل من الثانية ساعة، والدقيقة يوما، والساعة أسبوعا، والشهر سنة ؟"

والجواب على هذه الأسئلة الافتراضية المتخيلة لا يأتي على لسان علماء مثل أينشتاين أو ستيفن هوكينج، ولا فلاسفة مثل نيتشة أو جاستون باشلار، ممن يستعرض الكاتب بعض ما توصلوا إليه بعلمهم ومعادلاتهم من واقع زمني غريب، وإنما يمكن لهذا الجواب أن يأتي بطريقة أكثر بساطة وعملية من عشاق الطرب من مدمني الأرگيلة البغداديين من الذين فضلوا المعسل بتفاحتين على تفاحة نيوتن، وتفاحة ستيف جوبز، لانهم وجدوا حلا لموضوع تسارع الزمن عند كوكب الشرق أم كلثوم وهي تقول للشمس في إحدى أغنياتها، تعالي تعالي بعد سنة، موش قبل سنة..!

هذا ما يقوله المقدادي، وفيه تصل السخرية والمفارقة إلى أقصاهما بين الكاتب الذي يبقى "محتقنا" لأنه لا يجد حلا لمرورالوقت وكرّ السنوات السريع، وبين مدمني الأركيلة ومتبطلي المقاهي والدوائر الحكومية الفائضين عن الحاجة، وعاشقي أغاني أم كلثوم وجمهور حفلاتها الذي لا يملّ من طلب إعادة مقاطع أغنياتها مرفوقا بالكلمة التي كنا نسمعها من إخواننا المصريين باستمرار "دا احنا ورانا حاجة!"، وغير أولئك وهؤلاء من الذين تبدو ساعاتهم مكسورة أو بلا عقارب، ويعانون من فائض الوقت، لا من نقصه.

وكل ذلك يحتاج ، كما نرى، إلى مزيد من التأمل والبحث عن الأسباب التي أدت إلى هذا التواكل والكسل وما يتبعهما من سخرية مؤذية، وعدم إدراك للضرورات التي أدت إلى تأخّر البلد، وجعلت منه واحدا من بلدان العالم الثالث التي توقفت فيها الأرض عن الدوران، وصار  يضرب بها المثل في التراجع وعدم استغلال الفرص المتاحة للتقدم إلى أمام وصنع زمن جديد ينتظم فيه العراق في إطار دول العالم الحديث التي تدور فيها الأرض حول الشمس وحول نفسها دون توقف.

ولست أدري إن كان كاظم المقدادي وهو يكتب تلك الفقرة عن الزمن قد اطلع على ما كتبه الشاعر النمساوي رينر ماريا ريلكه في بداية القرن الماضي في مذكراته الباريسية التي نسبها في رواية مذكراته إلى بطل خيالي أسماه مالته لوريدز بريغّه. لأن ما رواه بريغه هذا عن موظف صغير اسمه نيقولاي كزمتش كان جارا له في فندق بسان بطرسبورغ، عن موقف هذا الموظف من الزمن، يشبه كثيرا ما رواه المقدادي هنا.

فقد خطر لكزمتش هذا ذات يوم أحد بأن يعدّ ما تبقى له من عمر إذا افترض أنه سيعيش خمسين سنه أخرى، بالأيام والساعات والدقائق. بل إنه حول عمره إلى ثوان، وذهل لذلك الرصيد العظيم الذي تحصل عليه فجأة. وحين غمره ذلك الثراء الزمني غير المتوقع أخذ يتدبر حساباته بعناية فائقة، محاولا أن يوفر الزمن ما أمكنه ذلك. فبدأ يفيق باكرًا، وينفق وقتا أقلّ من ذي قبل في الاغتسال، ويجري في كل اتجاه، ولكنه كان حين يوازن حساباته في كل أحد تالٍ لم يجد لديه أيَّ وفر ملموس، فبدأ يوبخ نفسه لأنه لم يقدّر عمره بوحدات أكبر – مثلا بأربع قطع من فئة العشر سنوات، وبقطعة واحدة من فئة الخمس، والباقي بمبالغ صغيرة، بدلا من أن يتقاضاه بالفكة الصغيرة التي تنساب بسهولة بين أصابع يده.

وأخيرًا صحا نيقولاي كزمتش على حقيقة أنه كان يخدع نفسه حين كان يطبق على العمر مفهوم المالية، ذلك أن الزمن، بعد كل شيء، بعدٌ يؤثر في كل إنسان بالطريقة نفسها، وليس مجرد تحدٍ ذاتي. وحين بلغ هذا التسويغ المعزّي، صكّه إحساس جديد حين كان يجلس في غرفته المظلمة، حين بدأ يحس بتيار هوائي، ويشعر أنه تيار الزمن الذي كان يجري ماضيا في سبيله دون توقف. ودارسو تيار الوعي في الرواية الحديثة كما اطلعوا عليها لدى فرجينيا وولف ومارسيل بروست وجيمس جويس وغيرهم يعرفون مدى التأثير العالمي الذي مارسته كتابات ريلكة في هذا الكتاب المبكر عليهم؛ بل إن مصطلح (تيار الوعي) ربما جاء من هذه الفقرة في مذكرات ريلكة الباريسية.

وما نود أن نقوله عن علاقة زمننا العراقي الخاص بكل ذلك، هو أننا لا نعيش زمنا وحدا، وإنما أزمانا مختلفة تتعايش في فضائنا الاجتماعي والثقافي المتعدد، بعضها ينتمي للماضي البعيد، والآخر إلى الحاضر الراهن، بهذه الكيفية أو تلك.

وهو أمر لا علاقة له بما أثبته العلم من وجود أزمنة متعددة في الفضاء الواحد، وأن الزمن يتباطأ في السرعات الكبرى، ويكون صفرا في سرعة الضوء.. إلخ. فما نتحدث عنه هنا هو زمننا الثقافي والاجتماعي العراقي الخاص.

ومن ير إلى الجموع التي تزحف من المحافظات العراقية المختلفة نحو النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء في بعض المناسبات الدينية هذه السنوات الأخيرة، يمكنْ أن يدرك هذا النوع من التجاور بين الماضي البعيد المترسخ في ذاكرة هذه الجموع السائرة في نومها أو وعيها مدفوعة بحبها  للأئمة الأطهار ولسيد الشهداء أبي عبد الله الحسين المقتول قبل أكثر من ١٤٠٠عام، وبين زمن الحاضر الراهن الذي تسجله عقارب ساعات أيديهم وهواتفهم الذكية.

والأمر لا يتعلق باتصال وتجاور طبيعي عند هؤلاء فيما نسميه التراث والمعاصرة، لأن الهوة واسعة والبون شاسع بين ما يجري التفكير فيه، وبين ما تتم ممارسته من طقوس دينية وشعبية تختلط فيها النوايا الطيبة مع الأفعال والممارسات الدنيوية المناقضة لها.

وقد نظلم أولئك الذين يمضون زمنهم في المقاهي بلعب الطاولة وتدخين الأركيلة وسماع أغاني أم كلثوم وهم يعيشون في حال شبه دائمة من الزمن الصفري وتياره الممتد أفقيا بلا نهاية، ولا علاقة له بعقارب الساعة المتقدمة إلى الأمام أو المتوقفه والمتراجعة إلى الوراء. إذ إن السياق العام الذي توقف فيه كلُّ شيء داخل البلد من حولهم ضمن حالة الانسداد السياسي في مراحل معينة من تاريخه، لا يمكن أن تؤدي إلى شيء آخر غير حياة التبطّل وقضاء مثل هذا الوقت غير المحسوب في المقاهي والبيوت. فالدوافع والمحفزات مفقودة، وهي تدعو إلى اليأس من حصول ما هو حاسم في حياة هؤلاء الناس من شأنه أن يدفع للتغيير، أو يحرّض عليه. والشباب والصبيان الذين يبيعون قناني الماء وعلب الكلينكس في شوارع العاصمة أو ينقبون في مزابلها، قد لا يختلفون كثيرا عن هؤلاء الجالسين في المقاهي أو إلى جانب زوجاتهم في البيوت، في عدم جدوى الفعل الذي يقومون به لكسب حياتهم في أعمال رثة مثل هذه. وكأنهم يقومون بما يسميه الفلاسفة العرب حركة (اعتماد) يبقى صاحبها في المكان نفسه، ولا يتقدم بحياته وزمنه الملتبس خطوة واحدة إلى أمام.

وقد لا يختلف الأمر مع بعض الموظفين الزائدين عن الحاجة في الدوائر الرسمية، مع أن الدولة لا تتحمل فقط رواتبهم ومخصصاتهم بعد أن تمّ تعيين الكثير منهم لأسباب اضطرارية وخاصة ضمن اقتصاد الدولة الريعية التي يجري فيها تدوير العملة النقدية وتوزيعها بين الناس دون انتاج حقيقي، وإنما هي تتحمل أيضا التعقيدات التي يخلقها وجود هؤلاء الموظفين الزائدين في دائرة يمكن أن تدار بثلاثة موظفين بدلا من ثلاثة عشر، وما يحصل من جرّاء ذلك من وجود ضعاف نفوس وفاسدين من بينهم، يعمدون إلى وضع العراقيل والمشاكل أمام الموظفين الشرفاء والمراجعين ورجال الأعمال والمقاولين لابتزازهم.

والنتيجة المترتبة على كل هذا هي أن عقارب ساعة البلد تتوقف أو تقوم بدورة عكسية للعودة إلى الوراء، لولا أننا نستذكر مرة أخرى قولة رئيس الوزراء العراقي المهندس محمد شياع السوداني ذات النغمة الزمنية المختلفة الموحية بالأمل والمحفّزة عليه:

- ترى ما عندنا وقت..

***

الدكتور ضياء خضير

ينادونه العم احتراماً ومحبة، والأخ الكبير، والأستاذ القدير، وشيخ النقاد، وعميد التراثيين، ذلك أن باسم عبد الحميد حمودي الذي ينوء بثقل 87 عاماً لم ينقطع يوماً عن قلمه وقرائه وبحوثه التراثية وكتاباته النقدية، والأهم من ذلك كله انه لم ينقطع عن أحبته وزملائه وتلامذته، وتواصل مع الأجيال الجديدة من الكتاب والصحفيين والادباء الشباب بذهنية منفتحة وكأنه واحداً منهم. ومنذ مقالته الأولى التي نشرها في العام 1954 تحت عنوان " الفراغ " لم يبق حمودي لمفهوم الفراغ معنى في حياته، فملأ الدنيا نتاجاً ونشاطاً وعطاءً أدبياً وثقافياً وفولكلورياً وإنسانياً على امتداد أكثر من سبعة عقود متواصلة.

في كتابه الجديد الفخم " أكثر من 500 صفحة من القطع الكبير" الصادر عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب، يقدم حمودي ما يشبه الموسوعة الفولكلورية تتضمن أكثر من مائة وثمانين مقالاً توزعت على موضوعات متعددة في التاريخ العراقي، والفولكلور البغدادي، وتناولت العديد من الأسماء التي أسهمت بإغناء المشهد الثقافي العراقي في مختلف صوره وأشكاله وميادينه وفنونه، فولكلوراً وتراثاً ونصوصاً وغناءً ورقصاً وسحراً وشخوصاً ولغة وطعاماً وحكايات شعبية. وعلى الرغم من أن عنوان الكتاب: "العراقي دكتور داهش في صندوق الولايات" يشير إلى حكاية غريبة تخص العراقي سليم موسى العشي الشهير بلقبه " الدكتور داهش"، فإن صفحاته تأخذ القارئ بعيداً ليتعرف على تفاصيل وحكايات طريفة من الفولكلور البغدادي وكتابات المهتمين والمشتغلين بالتاريخ والتراث من أمثال احمد مطلوب وكاظم سعد الدين وعلي الوردي والباحث التراثي حسين علي الحاج حسن وحضيري أبو عزيز وجعفر الخليلي وكاظم الدجيلي ومحسن مهدي وبغداديات طارق حرب وجليل إبراهيم العطية وعز الدين مصطفى رسول وزهير العطية وسامي سعيد الأحمد وعادل الهاشمي وعاشق بغداد عزيز جاسم الحجية وعريان السيد خلف ونبيهة عبود وقحطان المدفعي ولميعة عباس عمارة ومحمد علي القصاب ومصطفى جواد وناجية المراني ونبيل الربيعي وشفيق مهدي ورائدة فن الطبخ الحديث نزيهة أديب وغيرهم الكثير.

لكن من هو" العراقي" دكتور داهش الذي خصه حمودي بعنوان كتابه هذا؟، وما غرائبه في مجال سيطرة السحر على الفكر وألاعيب التقمّص حتى أصبح يمثل ظاهرة روحية غريبة، وهو الذي أسس كذلك متحفاً وأصدر مائة وخمسين كتاباً ؟. الغريب ان " داهش العراقي الأصل لم يرَ العراق بل ولد في بيت لحم قبل أن يكون عراقياً "!. يشرح المؤلف ذلك اعتماداً على ما يقوله جورج غانم: اكتشفت أن سليم العشي الشهير بالدكتور داهش يمتّ لي بصلة ما، فهو أساساً من بلاد النهرين ووالده "موسى العشي" ووالدته " شموني حنوش" من سريان العراق وقد هاجرا بعد زواجهما عام 1906 إلى فلسطين ليسكنا "بيت لحم" طلباً لبركة السيد المسيح عليه السلام. ويأتي لقب "العشي" تحريفاً عن " أليشي" وهي تسمية النبي " اليشع" أو "يوشع". وقد كتب الكثير من الكتاب ورجال الصحافة عن داهش و" الداهشية " كظاهرة روحية تدعو إلى الروح ملاذاً وإلى "الدين" الإنساني الواحد، ومنهم جبرا إبراهيم جبرا وهو أيضاً مثل داهش من بيت لحم قبل أن يكون عراقياً، وقبل ذلك كتب عنه المصري محمد حسين هيكل صاحب كتاب حياة محمد ورواية زينب، وانتحرت الرسامة ماري حداد من أجله، كما شهد الاعيبه السحرية العلامة عبد الله العلايلي الذي تعرض لعملية التنويم المغناطيسي على يديه، مثلما شهدها الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي خلال اقامته بفندق فاروق في بلدة المتن بجبل لبنان. وأخيراً استقر العشي في نيويورك قبل أن يتوفى في أحد مصحاتها عام 1984.

" العراقي دكتور داهش في صندوق الولايات" من أمتع الكتب التي أصدرها الكاتب الفولكلوري والناقد الأدبي باسم عبد الحميد حمودي، إنه يمثل خلاصة قراءات كثيرة، وخبرات نقدية، وتجارب واقعية، ومعرفة تراثية واسعة، ورؤى ناضجة، جمعها العم باسم بين دفتي هذا الكتاب ليقدم للقراء ولبغداد وللفولكلور العراقي هدية لا تقدر بثمن .

***

د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي

 

المؤلفون الأقدمون كانوا أمناء في ذكر مصادرهم وليس كما يُشاع

كان كتاب محمّد بن إسحاق النَّديم الوراق (تـ: 380هـ) «الفهرست» معجماً لأسماء الكُتب أكثر مِنه للرِّجال؛ وهو مِن الأعمال المبكرة في هذا الشّأن، ثم أتت مِن بعده الفهارس. تجد في هذا المعجم مئات الكتب المفقودة، التي لا أثر لها حتّى يومنا هذا، لكن العديد مِن هذه المفقودات، التي ذكرها النّديم، ثم ياقوت الحموي (تـ: 626هـ) في «إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب» (معجم الأدباء)، ظهرت نصوص في كتب اطلع مؤلفوها عليها واقتبسوا منها، ومَن جمع هذه الاقتباسات وأظهرها في كتاب مثل جهود مصطفى جواد (تـ: 1969) وجمعه للضائع مِن «معجم الأدباء»، جامعاً مادة كتابه ممن اعترفوا بالأخذ مِن الحموي، مطلعاً على معجمه قبل ضياع صفحات أو فصول منه. هذا يجعلنا نقرُّ للمؤلفين الأقدمين بأنهم أمناء في ذِكر مصادرهم، وليس مثلما يُشاع، ويؤخذ عذر للسرقة والاعتداء على جهود الآخرين.

مِن أسباب الضّياع، مِن غير عوادي الزّمن، أو حرق المكتبات، أو أفعال الغزاة، أو منعها مِن التداول فيقضي عليها الإهمال، التلخيصات التي يقوم بها بعضهم، فيهمل الأصل لطوله ويظل المختصر متداولاً، مثل كتاب «مختصر كتاب البلدان»، والكتاب الأصل عنوانه «أخبار البلدان» لابن الفقيه (القرن الثّالث الهجريّ)، الذي ضاع ثم عُثر عليه بعد الاختصار، فوجد أن المُختصر أهمل بلداناً عديدة مِن الأصل، فورد في خاتمة الكتاب «تم الاختصار» (طبعة ليدن 1302هـ)، ثم جاء مَن نشر النَّاقص (السّواد، والأهواز، والتُّرك) محققاً، بجهود المحققين: ضيف الله الزّهراني ومريزن عسري، وصدر عن جامعة أم القرى بمكة (1997).

غلاف «الضائع من معجم الأدباء»

حصل الإنقاذ مِن أعداء ومِن أصحاب، فلولا ردود المعتزلي أبي الحُسين الخياط (تـ: 290هـ) على أبي الحُسين أحمد بن يحيى الرّاونديّ (تـ: 245هـ)، ما وصلنا كتابه «فضيحة المعتزلة»، الذي ردَّ به على كتاب عمرو بن بحر الجاحظ (تـ: 255هـ) «فضيلة المعتزلة»، فكان كتاب «الانتصار والرّد على الملحد بن الرّاونديّ»، والأخير كان معتزلياً ثم عدل عن الاعتزال، فصار عدواً. لا وجود لأصل ولا منسوخ لـ«فضيحة المعتزلة» لكنه وصل كاملاً بفضل الرّد عليه، ولو عَلم الخياط شيخ المعتزلة في زمانه أنَّ رده سيحيي كتاب عدوه، ما ردّ عليه، وفي العصر الحديث قام الباحث عبد الأمير الأعسم (تـ: 2019) بجمع نصوص الرّاونديّ، التي رد عليها الخياط، وأصدرها بعنوانها: «فضيحة المعتزلة»، لكن جاءت بعض نصوص الفضيحة متداخلة مع نصوص الرَّدِّ، فظهر كأن الراوندي يرد على نفسه، ويرميها بأقذع النُّعوت.

كذلك لولا رد ابن الرّاوندي ما شمر شيخ المعتزلة الخياط عن ذراعه؛ وترك لنّا تاريخاً لأفكار ومقالات المعتزلة، وكان دفاعه عن الجاحظ، الذي يشير إليه بشيخنا، وبالفعل كان الجاحظ أحد شيوخ الاعتزال، مع كل مَن ردَّ عليهم الرَّاوندي. كذلك كتاب «فضيحة المعتزلة» أرخ لمقالات مَن عاصرهم مِن المعتزلة، وكان هو مِن داخلهم. إنها أسباب ومسببات، فكمْ مِن كتابٍ صار سبباً لتأليف ضده، وبذلك تنتعش الأفكار، فلا نعلم أن للجاحظ كتاباً في «حيل اللُّصوص» لولا مَن عيره به قائلاً: «وأما كتبه المزخرفة فأصناف منها حيل اللُّصوص، وقد عَلم بها الفسقة وجوه السَّرقة» (البغداديّ، الفرق بين الفِرقِ)، ولولا ما استشهد به الآخرون فيما كتبوا عن اللُّصُوص.

إذا كان الخياط أنقذ كتاب «فضيحة المعتزلة» لخصمه اللدود أبي الحسين الرّاونديّ، فإن محباً أنقذ كتاب «الأخبار» للجاحظ، الذي ما زال مِن المفقودات، ولم يجمعه أحد، كي يصدر مستقلاً؛ فنشوان الحميريّ (تـ: 573هـ)، وهو يُعد مِن معتزلة اليمن، وهم بالأصل الزّيدية، مِن معتزلة بغداد، أنقذ جزءاً مِن كتاب الجاحظ المفقود «الأخبار»، ذكره أبو الحُسين الخياط بعنوان «تصحيح مجيء الأخبار».

شغل كتاب «الأخبار» مِن كتاب نشوان الحميريّ «الحور العين» (دار أزال 1985) تسع عشرة صفحة (270 - 289)، نقدرها بنحو أربعة آلاف كلمة، ولا نظن أن الكتاب كامل، لكن أهميته لنشوان الحميريّ كمعتزلي هو ما يُعد بمثابة الجرح والتّعديل في الحديث؛ فيما قاله شيخ المعتزلة وفيلسوفهم إبراهيم بن سيار النَّظام (تـ: نحو 230هـ)، وهو أستاذ الجاحظ، فعنوان «الأخبار» المقصود به روايات الحديث، التي يراها النّظام متناقضة، ويتهم الرواة في هذا التّناقض.

بطبيعة الحال، لم يهتم أصحاب السنن والصّحاح، ولا أصحاب الجرح والتّعديل بمثل هذا الكتاب، لِما بين المعتزلة وأهل الحديث مِن خلاف كبير؛ يصعّب اعتراف بعضهم ببعض. بعد نشوان الحميريّ، وربّما عنه مباشرة، لا عن كتاب «الأخبار» نفسه، نقل النصّ إمام زيديّ ومعتزلي، متأخر عن الحميري بنحو ثلاثة قرون، مِن اليمن أيضاً، المهدي لدين الله أحمد بن يحيى بن المرتضى (تـ: 840هـ)، في كتابه «المُنية والأمل في شرح الملل والنِّحل» (ص 46- 59). كانت مجلة «لغة العرب» البغداديّة قد اهتمت بكتاب «الأخبار» (1931)، ونشرت النّص نقلاً عن «المُنية والأمل» (المجلة التاسع 1931).

ورد في مقدمة النّص: «قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب (الأخبار): بعد، فإن الناس يحضون الدين من فاحش الخطأ، وقبيح المقال، بما لا يحضون به سواه من جميع العلوم والآراء والآداب، والصناعات؛ ألا ترى أن الفلاح والصائغ والنَّجار، والمهندس، والمصور، والكاتب والحاسب، من كل أمة، لا تجد بينهم من التفاوت في الفهم والعقل والصناعة، ولا من فاحشة الخطأ وإفراط النقص، مثل الذي تجد في أديانهم، وفي عقولهم، عند اختيار الأديان؛ والدَّليل على ما وصفت لك: أنَّ الأمم التي عليها المعتمد، في العقل، والبيان، والرَّأي، والأدب، والاختلاف في الصِّناعات، من ولد سام خاصة: العرب والهند والرُّوم والفرس، ومتى نقلتهم من علم الدِّين، حسبت عقولهم مجتبلة وفطرهم مسترقة» (الحميريّ، الحور العين).

يميز الجاحظ في كتابه بين الأُمم، وكلُّ أمة بما تختص، أو ما تحسنه، وعدَّ العرب مخصوصة بالبيان واللُّغة «ليس مثلها في السِّعة لغةً، وقيافة الأثر مع قيافة البشر... وللعرب الشّعر الذي لم يشاركهم في أحد مِن العجم». ثم يميزها عن العجم قائلاً: «وقد سمعتُ للعجم كلاماً حسناً، وخطباً طوالاً، يسمونها أشعاراً، فأمَّا أن يكون لهم شعرٌ على أعاريض معلومة، وأوزان معروفة، إذا نقص منها حرفٌ أو زاد حرفٌ، أو ترك ساكن، أو سكن متحرك، كسره وغيره، فليس يوجد إلا للعرب» (نفسه). ثم يُعدد خصائص بقية الأُمم.

غير أنّ الأهم في الكتاب هو توضح التقليد في العقائد، الدّينية والمذهبيّة، أنها لا تؤخذ بالنّظر إنما بالتقليد، قال: «وقد تجد الأخوين ينظران في الشَّيء الواحد فيختلفان في النَّظر، ولربما نظر النَّاظر فيصير له في كلِّ عامٍ قول، ولربما كان ذلك في كل شهر؛ فصح أنَّ دين النَّاس بالتقليد لا بالنَّظر، وليس التَّقليد إلى الحقِّ بأسرع منه إلى الباطل» (نفسه).

كذلك جاء في أهمية الكتاب نقد الأخبار في رواية الحديث؛ وهذا يفيد بالحث على مراجعة الرّواية، فعليها توضع قوانين العقوبات، والعبادات والمعاملات، وكلُّها تهم النّاس وسياسات القضاء، فتراه يقول: «كيف يجيز السَّامع صدق المخبر، إذا كان لا يضطره خبره، ولم يكن معه علم يدل على صدق غيبه؛ ولا شاهد قياس يصدقه، وكون الكذب غير مستحيل منه مع كثرة العلل؛ التي يكذب النَّاس لها، ودقة حيلهم فيها، ولو كان الصَّادق عند النَّاس لا يكذب، والأمين لا يخون، والثِّقة لا ينسى، والوفي لا يغدر، لطابت المعيشة، ولسلموا من سوء العاقبة» (نفسه).

ليس كتابا «فضيحة المعتزلة»، و«الأخبار»، الفريدين اللذين أنقذتهما مِن الضِّياع كُتب، للرد في الكتاب الأول، أو الاستشهاد في الكتاب الثّاني، بل كتبٌ كثيرةٌ، فُقدت أصولها وضاع ما نُسخ منها، لكن يمكن إحياؤها باستخراج نصوصها مِن بطون الكتب، بهدى ما قام به المحقق المعروف إحسان عباس (تـ: 1993) في كتابه «شذرات مِن كُتب مفقودة في التَّاريخ» (1988)، جمع فيه نصوصاً لثلاثين كتاباً مفقوداً، على شاكلة كتاب «الأخبار» للجاحظ، فالرَّجل كان محققاً، والتحقيق عادةً يحتاج إلى مطالعة وتصفح مئات الكتب المصادر، فوجد ما وجده من الاستشهادات مِن كتب مفقودة، وقال عما دونه يسيراً، قياساً بالعدد الهائل مِن الضَّائعات.

***

د. رشيد الخيّون

تبتكر الكاتبة ميسون عوني نمطاً جديداً من الحوارات الصحفية والأدبية مع شعراء وأدباء رحلوا عن دنيانا منذ حقب وعقود طويلة، لكنها تبعثهم من جديد عبر طيف يحاورهم هو طيفها الذي يطرح الأسئلة حول تفاصيل متنوعة ومثيرة من سيرهم وابداعهم وحكاياتهم مع الأصدقاء والناس والحياة. وضمن هذه الفكرة المُبتكرة أصدرت خلال السنوات السبع الأخيرة كتاب " أبو العلاء يلتقي طيفاً "، و"محمود درويش يلتقي طيفاً "، و"جبران يلتقي طيفاً "، وآخرها "بدر شاكر السيّاب يلتقي طيفاً " وكلها صادرة عن دار الذاكرة للنشر والتوزيع في عَمان وبغداد .

تحاول عوني في كتبها هذه أن تخرج من النسق التوثيقي الجامد للشخصيات التي تختارها، وتحرص على بث الحيوية والمتعة في حواراتها معها حتى لتبدو تلك الحوارات وكأنها أجريت في أيامنا الراهنة لما فيها من تدفق واثارة وتفاصيل قد لا تكون معروفة عن تلك الشخصيات، مثلما عززت كتابها الأخير عن السياب بتواصلها مع غيلان نجل الشاعر الذي قدم لها ملاحظات واضافات مهمة " أغنت صفحات الكتاب بما يتناسب والجهد المبذول لتحقيقه"، وفق تعبيرها. وكان لافتاً ان تهدي الكتاب الى الشاعر الكويتي علي السبتي الذي حمل ورافق نعش السياب من المستشفى الأميري حتى أوصله إلى مثواه الأخير في البصرة، ومن الأمور الجديدة ان غيلان بدر شاكر السياب قد صحح للمؤلفة تاريخ ميلاد والده وجعله 1927 بدلا من العام 1926 كما هو متداول في اغلب المراجع عن حياة الشاعر.

يبتدأ طيف ميسون عوني بمرافقة السيّاب ومحاورته وفق مراحل حياته، منذ اللقاء الأول في جيكور بالبصرة، وهو يتذكر بحزن أمّهُ: " وكان تعلّقي بها شديداً، وكنتُ أرافقها لزيارة جدّتي والدتها في جيكور، أو لتزور عمّةً لها تسكن عن نهر بويب أيضاً ولها على ضفتّه بستان جميل، فتشكَّل في قلبي عالمٌ حملته معي أينما ذهبت وكيفما حللت".

ينهي السياب دراسته الثانوية لينتقل إلى بغداد عام 1943 طالباً في دار المعلمين العالية، ويلاحقه الطيف وهو يتعرف على بغداد، وفراشات دار المعلمين، وفي مقهى الزهاوي، وعلى خفقات دجلة حيث لميعة تطل من الشرفة، وشارع أبي نواس، ولقاءات للطيف اقرب للهمسات مع شاذل طاقة، وخالد الشواف، وجبرا إبراهيم جبرا، وانتماء بدر للحزب الشيوعي العراقي : " وجاءت الشيوعيّة تنادي بالعمل للجميع والطعام للجميع والمساواة بين البشر، وكنتُ أحد المنتمين إلى هذا الشعار الأخّاذ الذي يطمح إليه الإنسان الحرّ للعيش الكريم"، ويكشف السيّاب أن عمه الأكبر كان من أقطاب حزب لا ديني تأسس في جيكور، وكان من الذين يترددون عليه في معتكفه بغرفة الضيوف الرفيق فهد مؤسس الحزب الشيوعي العراقي، كما يشير السياب إلى أن فصله من دار المعلمين العالية خلال الأشهر الأولى من عام 1946 اقترن بانتمائه للحزب.

يمضي طيف الكاتبة إلى محطات أخرى من حياة السياب ومراحل تطور شعره، ومنها زيارة لشارع المتنبي، وبين الجاحظ والسياب، ونازك الملائكة، وغريب على الخليج، وأنشودة المطر، والسفر إلى الكويت، وما بين هذا وذلك، زواج بدر، ومقابلة إنعام كجه جي مع لمعان البكري، وحوار مع السيدة إقبال السياب تقول فيه عن زوجها: " أقدر أن أصف فرحته بأولاده، وكانت ولادة غيلان هي الحد الفاصل في حياتنا، وكلمة بابا من أولاده لها وقعٌ كبيرٌ على قلبه". يصف علي السبتي ما جرى بعد وفاة السياب في المستشفى الاميري بالكويت: ثم باشرنا في تحضير الجثمان ووضعناه في سيارة، واتجهتُ مع الشاعر محمد الفايز لصوب البصرة لتسليم الأمانة وقد خيَّم الصمتُ علينا، غلبنا الحزن، وأضاع حتى كلمات المواساة، والسيارة تنهب بنا الأرض، وفجأة حدث مالا يخطر على البال .. رشَّ المطر مِزْنَة، ثم انهمر سيلاً جارفاً، كأن المزاريب شقت الدروب سواقي كأنها تعرف بأنها تودع ارتعاشة أنشودة المطر.

تعتمد ميسون عوني على مراجع ومصادر ومذكرات ومقابلات كثيرة عن الشخصيات التي يلتقيها طيفها، لا تفوتها في ذلك شاردة ولا واردة، تقدمها بنمط مغاير لا يشبه الدراسات الاكاديمية في قوالبها التقليدية. إنها تصنع كتابا مثيراً، وتجري حواراً ممتعاً، وتخلق طيفاً كأننا نعيش معه، ونشاركه الحوار مع شخصيات من العالم الآخر، مازالت تثير ألف سؤال وسؤال .

***

د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي

احتضن المجمع التونسي للعلوم والاداب والفنون ـ بيت الحكمة يوم الثلاثاء 3 افريل 2018ـ لقاءا حول كتاب مفهوم الجبر بين الديني والسياسي في الصراع الأموي الجهمي للباحثة الشابة نسرين بوزازي. صدر الكتاب خلال شهر مارس الماضي عن دار الجنوب للنشر ضمن سلسلة معالم الحداثة التي يشرف عليها الأستاذ عبد المجيد الشرفي، قدّمت للكتاب الأستاذة ناجية الوريمي. الكتاب من الحجم المتوسط ويقع في 244 صفحة. الكتاب في الأصل رسالة ماجستير أعدّتها الباحثة ضمن اختصاص حضارة عربية إسلامية قديمة بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس تحت إشراف الأستاذة ناجية الوريمي.

1ـ المنهج المتبع في مقاربة مسألة الجبر:

تشير الباحثة الى أن موضوع الجبر قد صنفت فيه العديد من الكتب والمصنفات وهو مفهوم قد احتكرته الثقافة العالمة المرتبطة بالسلط السياسية لذلك ظلّ مفهوما قابلا للتوظيف السياسي رغم أن المفهوم في أصله تيولوجي فأضحى بفعل الإستثمار السياسي مفهوما تيولوجيا ـ سياسيا.. فزخمه العقائدي والذي يعني نسبة أفعال العبد إلى الله سبحانه وتعالى جعل منه الدعامة الأساسية لبني أمية يؤسسون عليها مشروعية حكمهم القائم على الاستبداد المطلق مستعينين في ذلك بطائفة من المحدثين وفروا لهم جملة من الأحاديث النبويّة تؤصّل لمفهوم الجبر. إن جوهر الدواعي لإعادة النظر في مسألة الجبر يعود أساسا إلى شخصية الجهم بن صفوان ( ت 128 هـ). هذه الشخصية بحكم ما لعبته من أدوار في حياتها وما عُرفت به من أقكار ستكون القادح للتفكير من جديد في المسألة كما سيكون لها الأثر البالغ في ضبط المنهج المتبع لمقاربة المسألة

تثير شخصية الجهم قلقا معرفيا كُنت قد تعرضت له أثناء بحثي في مسألة خلق القرآن فالرجل يتبنى مقولة الجبر وفي الآن نفسه يقول بخلق القرآن وهما أمران متضادان لأن نظرية خلق القرآن في أبعادها الدلالية تحرير للإرادة الإنسانية وجاعلة من الإنسان المسؤول عن أفعاله فكيف يكون القائل بهذا جبريا. لقد عُرف الجهم بمعارضته للحكم الأموي وهو ما يطرح تساؤلا مشروعا: هل يُعقل أن يتبنى الرجل مقولة الجبر التي هي إيديولوجية الحُكم الأموي ثمّ يشارك في أكبر ثورة تعرضت لها الدولة الأموية وربما كانت احدى الأسباب التي أنهت الحكم الأموي.

لم يكن من السهل على الباحثة أن تتقصى مفهوم الجبر عند الجهم فالرجل لم يترك آثارات تعبر عن آرائه وأفكاره رغم أنّ ابن النديم في كتابه الفهرست قد ذكر له عددا من المصنّفات لم تصلنا وذلك بسبب أن آثار المعارضين كانت تحرق وتُتلف ويتمّ التخلّص منها لأنها تكرّس المختلف لما تمتّله من تهديد للنُظم القائمة لذلك عمدت نسرين إلى البحث عن آراء الجهم في مسألة الجبر عند خصومه الذين أوردوا البعض منها للردّ عليها وربما لتشويهها. لقد اعتمدت الباحثة في ذلك منهجا يقوم على قراءة النصوص في سياقها التاريخي وآعتبرت أنّ السياق يلعب دورا في تحديد المعنى ثمّ اتخذت من منهج تحليل الخطاب آلية لتفكيك نصوص صاغها أعداء الجهم وذلك للكشف عن نظرية غُيّبت لأسباب سياسية. إن الإستئناس بمكتسبات العلوم الإنسانية الحديثة كان الهدف منه تخليص التراث من الأدلجة والأسطرة لأنّ ما وصلنا لم يُكتب ببراءة كما نتصور فتاريخنا مليء بالمقموع والمطموس والمسكوت عنه ولعلّ منهج ميشال فوكو مهم في هذا المجال فهو الذي أكد على أهمية البحث عن الحقيقة خارج المدوّنة، أي خارج الخطاب الرسمي للإديولوجيات بمختلف أصنافها. صحيح أنّ فوكو جعل من الوثيقة نصبا لا لأنه يريدها أن تصمت عن كلّ كلام بل تصمت فحسب عن ذاك الكلام الذي يريد صاحب الوثيقة أن يُنطقها به. إن إسكات الوثيقة عن كلامها المعهود يفتح الطريق أمام تفجير كلّ ما صُمت عنه هذا الكلام، كلّ الهامشي والمنحرف والمهمل والمُبعد والمبتعد عن خطاب النصّ(مطاع صفدي ‹خطاب التناهي› مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 60ـ61، ص7). فنحن إزاء منهج نصّي يُرفد بالسياقات التاريخية والفكرية والسّياسية أي بكلّ ما هو خارج النصّ. لقد رجعت الباحثة في ذلك إلى كتب الملل والنحل وإلى كتب أصول الدين وكتب الطبقات كما استعانت باختصاصات أخرى كالفلسفة الإغريقية القديمة والتي تؤكّد أنها قد تسرّبت إلى الثقافة العربية الإسلاميّة منذ العهد الأموي وليس في العهد العباسي مثلما هو متعارف عليه ويعود الفضل في ذلك إلى الأعاجم الذين اعتنقوا الإسلام وحملوا معهم رواسب فلسفية وأفكار خاصة بهم وبثقافتهم

2ـ في النتائج المُستخلصة:

تعتبر الباحثة أن لمفهوم الجبر ثلاثة مستويات، دلالية وتاريخية ونظريّة. فالدلالية تعني أن الإنسان مجبر في كلّ ما يعتريه من أفعال في حياته وأمّا التاريخية فيُعد العصر الأموي ولاسيما معاوية ابن أبي سفيان (ت سنة 60 للهجرة) هو أول من صاغ هذا المفهوم وضبط دلالته وأمّا النظرية فهي الانتقال بالمفهوم من معناه التيولوجي إلى معناه السياسي وأثر ذلك في الواقع. أمّا الجهم بن صفوان (ت 128 للهجرة) فهو عالم كلام، معارض للدولة الأموية وقد جمع بين القول بالجبر والقول بخلق القرآن وقد أشرنا إلى ما في هذا الجمع من تضارب. لقد أفضت عملية الحفر في مصطلح الجبر التي قامت بها الباحثة إلى أنّ المصطلح في دلالته المُشار إليها أعلاه قد ظهرت في القرن الأول للهجرة وأن الأمويين ربطوا تلك الدلالة بصفة الجبّار الواردة في القرآن الكريم ضمن تصور يرى كلام الله قديما لا ينفصل عن ذاته سبحانه وتعالى، في حين أن الأمر مختلف عند الجهم اختلافا كبيرا بل فيه شيء من المعقولية فالجبر عنده جبر طبيعي أو هو حتمية طبيعية وهو معنى تمّ تغييبه. إنّ الجبر عند الجهم مفرغ من كلّ معنى تيولوجي فهو خضوع الإنسان لنواميس الطبيعة وقوانينها لا غير. إن الإشكال الظاهر يتمثّل في اشتراك كل من الأمويين والجهم في الدّال واختلافهم في المدلول فهذه النتيجة المُتَوَصَّل إليها قد بدّدت حيرة معرفيّة لعدد من الباحثين. و أضحى هناك تناسقا بين القول بالجبر الطبيعي والقول بخلق القرآن الذي يرى في النصّ القرآني مكرّسا لحريّة الإرادة الإنسانية في اختيار أفعالها بعيدا عن كلّ وصاية. فلا غرابة حينئذ أن يكون الجهم منظّرا لثورة الحارث بن سُريج وأن يكون كاتبه ووزيره وأن يدفع حياته ثمنا لمبادئه التي تقوم على رفض الظلم ونشر العدل والعمل بأحكام الكتاب والسُنّة وجعل الأمر شورى بين المسلمين

تعتبر الباحثة أن الجبر اللاهوتي قد استشرى في العقلية الإسلامية وأصبح عائقا أمام التطور ومقولة ‹ليس في الإمكان أحسن مما كان› هي احدى تجلياتها. لقد استثمرت السلط السياسية المتعاقبة بشكل أو بآخر الجبر اللاهوتي في ممارستها للحكم فقد كان يوفّر لها استقرارا سياسيا وتماسكا اجتماعيّا هي في أشد الحاجة إليهما. أمّا فيما يخص علاقة الجهميّة ببقية الفرق الإسلامية تذكر كتب التاريخ أن واصل بن عطاء (ت 131 للهجرة) اتصل بالجهم بن صفوان ليقنعه بضرورة تغيير نظرته للإيمان، فقد كان المعتزلة يرون الإيمان قولا وعملا في كان الجهم يرى الإيمان معرفة. كما أن الأشعري (ت 324 للهجرة) انتقد الجهم في مسألة الإيمان وفي مسألة حرية الإنسان في أفعاله وردّ على ذلك بنظرية الكسب. بالنسبة للحنابلة فقد توجه نقدهم للجهمية في ما يتصل بنظرية خلق القرآن. بالنسبة إلى بقية المذاهب يبدو أن أفكار الجهم كان لها امتداد عند كل من الخوارج والمعتزلة والشّيعة ولاسيما القول بخلق القرآن. يبدو أن أفكار الجهم مثلما كانت عرضة للتشويه من قبل السلطة السياسية كانت أيضا ضحية الصراع المذهبي. لقد كان مفهوم الجبر بمدلوليه المختلفين عرضة للتوظيف السياسي من هذا الطرف أو ذاك فقد استعمله الأمويون لإضفاء مشروعية على حكمهم وتبكيت خصومهم واستعمله من كانوا مع الجهم للتحريض على السلطة القائمة وللطعن في مشروعيتها.

إن العودة إلى مفهوم قديم كالجبر للنبش فيه بآليات جديدة وضمن تصور حداثي من شأنه أن يستعيد ما يسمييه محمد أركون بالتراث الكُلّي. عسانا نُلملم شتات وعينا بما حدث حتى تتضح الرؤية لقد حفل تراثنا منذ بداية تشكّله بنواتات لتصورات ورؤى فيها الكثير من المعقولية القابلة للتطوير إلا أنّها أُجهضت بفعل عوامل عديدة قد أتت الباحثة على البعض منها.

***

رمضان بن رمضان

...............................

* تقديم كتاب "مفهوم الجبر بين الديني والسياسي في الصراع الأموي الجهمي" لنسرين بوزازي

ثمة سر وراء كتاب السر The Secret للكاتبة والمنتجة التلفزيونية روندا بايرن1951في أستراليا، هوكتاب نفساني يصنف في درج التنمية البشرية، عدد صفحات الكتاب 438 نُشر الكتاب عام 2006 لاقى رواجاً كبيراً غير مسبوقاً بالمرة في سوق الكتب والمكتبات حيث بيع منه 21 مليون نسخة لحد 2019وترجم إلى 44 لغة عالمية، وأستنسخ الكتاب إلى فيلم أنتاج نفس الكاتبة وبنفس العنوان (السر) وتحتهُ يافطة كتب عليها : أفكارك الحالية تشكل حياتك المستقبلية، وصل ريع الكتاب والفيلم ل300 مليون دولار.

فحوي ملخص الكتاب فكرته تقوم على "قانون الجذب" الذي يتقارب مع المثل (شبيه الشيء منجذبَ أليه) ما تركز عليه دوما وتفكر به غالباً سوف يظهر في حياتك ويمكن أن يجعل الحياة أفضل، وهي دعوى أنسانية للسلام والخير والصحة والسعادة وراحة البال من خلال أستثمار (الطاقة الأيجابية) للأنسان بظروف أيجابية مفعمة (بالتفاؤل) والحب والجمال والموسيقى والتمتع بفسيفساء اللوحلات الخلابة لطبيعة كوكبنا الجميل حينها تخرج من قوقعة التوحد والكأبة، كتاب السر ثراء روحي ونفسي يقدم لنا التجارب الأيجابية للأفراد والجماعات لمواضيع مهمة في حياتنا كالسعادة والصحة والثروة وراحة البال، ولهذا الكتاب أثرفي عملية التغيير السايكولوجي والسوسيولوجي الفردي والجمعي للمجتمع، ويعمل على تذليل الأزمات الأقتصادية التي تعصف بالعالم، صنف الكتاب في درج (التنمية البشرية) والتي تعني السعي الجاد في تطوير قدرات الأنسان ومهاراته في ظل عالم خالٍ من الحروب والسلاح المنفلت والتشاحنات الأثنية، وجعل الأنسان العنصر الأساسي بل الرافعة الديناميكية المهمة والفعالة في عمليات البناء فهو فعلا أثمن راسمال كما تقول الما ركسية، وأن أهداف التنمية البشرية أن يحصل الأنسان على:

- حياة أطول

- مستوى مرتفع من الدخل

- وصحة وعافية بدن

- وراحة بال لا للحروب نعم للسلام

تغوص المؤلفة عمقاً مقتحمة الذات البشرية الوجدانية (الضمير) وتتفحصهُ بدقة شديدة وتخضعهُ أفتراضياً لجهازالذكاء الأصطناعي لتكشف مكنوناته الغريزية وأسراره وطموحاته السوية والشريرة، وهل يمكن تدجينهُ لشخص مصلح خير مؤثر متصالح مع ذاته ؟ عند قراءتي للكتاب وجدتُ (سر السر) يكمن في " قانون الجذب " تقصد المؤلفة: إن التفكير الأيجابي يمكن أن يجعل حياتنا أفضل مثل زيادة الثروة والصحة والسعادة حيث أن أفكارك الحالية تشكل حياتك المستقبلية، وكل تطلع تركز فيه دوماً وتقكر فيه سوف يظهر في حياتك، وبفعل قوة قانون الجذب يتحقق مشروعك بحيث تُجذبْ أليه مغناطيسياً، الكتاب يعزز الثقةُ بالنفس ويهم الأشخاص الذين تكون الثقة بأنفسهم ضعيفة : فمحتويات المدونة تتماهى مع المقولة الشهيرة " تفاءلوا بالخير تجدوه " وحديث قدسي (يعجبني الفأل)، والكتاب يدعوللحب والتفاؤل والخير العميم للبشرية، ويدعوللعمل وتقديسه وهذا رد لمعارضيه من رجال اللاهوت الديني الذين دعوا لتحريم قراءتهِ.

ومن خلال قراءة ما بين السطور يظهر لك:

-تؤكد الكاتبة عن وجود " قوة جذب" كونية فعالة لتحقيق ما يفكر به الفرد

- عامل نفسك بالحب والأحترام وتصالح معها سوف تجد أناساً يبدون لك الحب والأحترام.

- في التخيل لعملية خلق الصور للعقل الباطني وهي كمرآة ترى فيها نفسك.

- فعندها تولد أفكار ومشاعر قوية لأمتلاك الشيء فوراً وحالاً.

- ولاحقا سريعا يحمل أليك قانون الجذب ما تمنيت وطلبت تُجذبْ أليك مغناطيسيا.

فإذا أردت المال ركز على الثروة

وإذا أردت الشهرة والأضواء ركز على فرص العمل الصالح والمفيد للبشرية جمعاء.

وإذا أردت السعادة فكر في أسعاد الآخرين.

- وإذا أردت الصحة ركز على نظام غذائي سليم، وأدمن على رياضة المشي ولو لمدة ثلاث ساعات في الأسبوع

- أهمل مشكلات الساعة للعالم وركز على طاقتك الأيجابية في حب الآخرين والسلام على الأرض، فكن مغناطيسا للطاقة الأيجابية المنتجة ترضاها لنفسك ولجميع البشرية عموما.

ومن تجربة الكاتبة والمنتجة الأسترالية (رواندا بايرن) تقول : وصلتْ حياتي لحافة هاوية الأنهيار التام لمعايشتي صخب العمل المتعب ولساعات طويلة بدون توقف وتزامنا مع ظروف العمل المضطربة وفاة والدي ومعلمي وقدوتي مع أضطراب علاقاتي مع أصدقائي شعرتُ بالتوحد والكآبة، قررتُ كسر قوقعتي الظلامية وتحقيق مشروعي الأنساني في نشر أفكاري الأيجابية في عموم جغرافية العالم في تحقيق حلمي في نشر الكتاب وأنتاج الفيلم وتحقق لي ذلك بوقت وجيز !؟

لذاهممت أن أقرأ الكتاب فألتهمتُ صفحاتها ال438 وعرفتُ (سر السر) لهذه الأنثى تبين لي أنه (قانون الجذب) الأفتراضي الذي يجعل منك حقل مغناطيسي يُجذبْ أليك تحقيق مشروعك الأمنية.

***

عبد الجبار نوري - كاتب عراقي مغترب

في نيسان 2024

صدرت الطبعة الثانية من كتاب "جامع الحيدر خانة وأثره في الحركة الوطنية العراقية"1 للدكتور معن فيصل القيسي2، وهو كتاب فريدٌ من نوعه، وقد إختاره القيسي كإطروحة للدكتوراه، ولكن لم تتم الموافقة عليه3.

قَسّم القيسي كتابه لمقدمة وأربع فصول وخاتمة:

الفصل الأول "نشوء ومراحل تطور جامع الحيدر خانة" بثلاثة مباحث: الأول "فكرة التأسيس"، والثاني "المساحة والتصميم والترميمات"، والثالث " أبرز المدرسين والخطباء فيه ومكتبة الجامع وأبرز كتبها".

الفصل الثاني "بغداد والدور الريادي في مقاومة الاحتلال البريطاني البغيض" بثلاث مباحث: الأول "جمعيات الحركة الوطنية العراقية المقاومة للاحتلال في بغداد 1914 ـ 1920"، والثاني "الجامع الثائر والمواقف المناهضة للاحتلال والانتداب البريطاني للعراق 1920 ـ 1932"، والثالث "النشاطات الدينية والاجتماعية والثقافية في جامع الحيدر خانة".

الفصل الثالث "مذكرات القادة البريطانيين والتقارير والوثائق البريطانية ووثائق الحركة الوطنية العراقية" بثلاثة مباحث: الأول "مذكرات القادة البريطانيين وألمس بيل"، والثاني "الوثائق البريطانية"، والثالث "وثائق الحركة الوطنية العراقية".

الفصل الرابع "تراجم الشخصيات الوطنية التي كان لها دور بارز في الأحداث التي جرت في جامع الحيدر خانة" بثلاثة مباحث أيضاً: الأول "الخطباء والشعراء"، والثاني "رجال السياسة"، والثالث "علماء الدين".

لا يمكن للقارىء الجاد أن يطمئن لكتاب خالٍ من الاستشهادات والاحالات، والدكتور القيسي "خبير" بهذا المجال، فكانت مصادره:

1ـ الكتب العربية: عددها 61 كتاباً، منها على سبيل المثال لا الحصر: أمين المميز "بغداد كما عرفتها"، جلال الحنفي "المغنون البغداديون والمقام العراقي"، جعفر الخليلي "هكذا عرفتهم"، دليل الجمهورية العراقية 1960، دليل المملكة العراقية 1936، مذكرات سليمان فيضي، علاء موسى نورس "حكم المماليك في العراق"، عبد الله فياض "الثورة العراقية الكبرى ...

2ـ الكتب المعربة: أربع كتب منها: آرنولد ولسن "الثورة العراقية"، كوتلوف "ثورة العشرين التحررية" ...

3ـ المجلات والصحف: عددها 11، وقد رجع القيسي الى عدد من الصحف القديمة: صدى بابل 1912، العراق 1920، العالم العربي 1930 ...3677 جامع الحيدر خانة

جامع الحيدر خانة هو أفخم جوامع بغداد بناءً وأتقنها رونقاً وبهاءً، وقد تواترت أقوال المؤرخين الذين عرضوا لتاريخ بناء الجامع على أن الوالي داود باشا المتوفي سنة 1850م هو الذي أسّسه4، وقد شُيدَ بطابوق وجص، ويتصف بناؤه بمتانة وضخامة ظاهرة، ويزيد سُمك جدران بيت الصلاة على المترين، وقد بُنيت بهذه الصورة لتتحمل ثقل القُبة الضخمة التي تغطي بلاط المحراب وتفصل بين أساكيب المصلى5، وكانت قبته من أكبر قباب مساجد العراق السابقة وأجملها من حيث الشكل والتحليات الزخرفية التي تُزينها من الداخل والخارج6.

وأبرز من دَرّس فيه: العلاّمة الشيخ سعيد أفندي السويدي، أبو الهدى البندنيجي7. وأبرز من خطب فيه: العلاّمة الشيخ عبد الفتاح الواعظ، الشيخ عبد العزيز البدري، الشيخ عبد الوهاب الطعمه8.

سَلّط القيسي الضوء على أروع فصل في حياة هذا الجامع، فقد كان جامع الحيدر خانة المركز الرئيسي للاجتماعات التي يعقدها الوطنيون لمقاومة السلطة البريطانية، وقد تم أول اجتماع في أواخر شهر شعبان سنة 1338 للهجرة الموافق 11 آيار 1920م 9، فكان جامع الحيدر خانة بحق مركزاً للوعي في ميزان التحرر والانعتاق يقصده الناس ولو فصلتهم عنه مسافات ليشهدوا زعماءهم السياسيين وهم في عنفوان جهادهم ينشدون الشعر ويُلقون الخطب الحماسية10. وركّز القيسي على التعاون الذي تم بين السُنة والشيعة آنذاك في مظاهرة 19 مايس 1920 11، مُعرّجاً على فتوى محمد تقي الحائري الشيرازي الشهيرة 12.

أما عن الشخصيات التي كان لها دور بارز في أحداث هذا الجامع فهي كثيرة، وقد تَعَرّض لها القيسي، منها على سبيل المثال لا الحصر:

1ـ الخطباء والشعراء13: الدكتور محمد مهدي البصير، معروف عبد الغني الرصافي، عبد الكريم العلاّف، محمود الملاّح.

2ـ رجال السياسية14: جلال بابان، سامي شوكت، سامي خوندة، صادق البصّام، عبد المحسن شلاش، عبد المجيد كَنّه والذي قام البريطانيون بشنقه في فجر 25 أيلول 1920، علي البازركان، جعفر أبو التمن، علي جودة الأيوبي، محمد باقر الشبيبي.

3ـ علماء الدين15: الشيخ أمجد الزهاوي، محمود شكري الآلوسي، السيد محمد الصدر، محمد بهجة الأثري، الشيخ يوسف السويدي.

وفي ختام هذا المقال المتواضع نقول: نحن مع الدكتور عادل البلداوي،  فقد استطاع القيسي فعلاً ان يُعيد البريق التاريخي لجامع الحيدر خانة 16، والرائع في القيسي أنه يؤكّد دائماً على الموضوعات "المهمشة" التي لا تحظى باهتمام كبير من قِبَلِ المؤرخين.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

.........................

الحواشي:

1ـ معن فيصل القيسي: جامع الحيدر خانة وأثره في الحركة الوطنية العراقية 1914 ـ 1920 "دراسة تاريخية"، دار ومكتبة البيارق للنشر والتوزيع بغداد ط2 2021

2ـ وُلِدَ الدكتور القيسي في بغداد القديمة 29 آب 1964، أكمل الدراسة الإعدادية في بغداد 1982، دخل الكلية العسكرية في تشرين الأول 1982 ومُنح رتبة ملازم ثان في الجيش العراقي في 14 تموز 1984، وهو خريج كلية الأركان في 12 تموز 1994، وأُحيل الى التقاعد برتبة عقيد ركن بموجب قرار الحاكم المدني الأمريكي بريمر. يُنظر: المصدر السابق ص227

3ـ المصدر السابق ص14 مقدمة الدكتور عادل البلداوي، ومما يجدر ذكره هنا أن أطروحة الدكتور القيسي موجودة في مكتبتنا وهي:

معن فيصل القيسي: وزارة الدفاع العراقية 1920 ـ 1958 "دراسة تاريخية"، مراجعة: الدكتور محمد كامل الربيعي، دار البيارق مطبعة الكتاب بغداد 2020.

4ـ القيسي: جامع الحيدر خانة ص23

5ـ المصدر السابق ص40 و 41

6ـ نفس المصدر والصفحة

7ـ المصدر السابق ص46 و 47

8ـ المصدر السابق ص51 الى 55

9ـ المصدر السابق ص79

10ـ المصدر السابق ص79 و 80

11ـ المصدر السابق ص81

12ـ المصدر السابق ص88 و 89 وقد أكّدَ لنا الدكتور القيسي شخصياً على أهمية هذه الفتوى.

13ـ المصدر السابق ص147 الى 156

14ـ المصدر السابق ص157 الى 172

15ـ المصدر السابق ص173 الى 186

16ـ المصدر السابق ص14

 

يعتبر كتاب الأمير- Le Prince لـ "نيقولا مكيافيللي" الكاتب الإيطالي الشهير، من بين الكتب الأكثر أهمية في علم السياسة، ليس لأنه وضع فيه خارطة طريق الحكم الجيد أو الإمارة القوية المستمرة في الزمان والمكان، بل لكونه قام بوصف واقع السياسة الذي يعتمد على الدينامية والتفاعل والمصلحة أكثر من ِاعتماده على النوايا الحسنة والمبادئ الأخلاقية، وبهذا فقد قام مكيافيللي في هذا الكتاب برسم مسافة واضحة بين السياسة والأخلاق، باعتبار أن السياسة تعتمد على حسن فعل الأمير وليس على فعل الخير؛ كونها تهدف إلى الحفاظ على الحكم والإمارة وحماية مصالح الأمير وليس إلى زرع الخير والفضيلة؛ إذ لا يمكن لأي ملاحظ أن يخطئ إذا لاحظ وجود علاقة " صداقة استثنائية " بين صاحب كتاب: " الأمير"  وبين الحكام الطغاة والمستبدين؛ ولا يمكن لأي قارئ لهذا الكتاب المؤسس للسياسة الواقعية " الميكيافلية " أن يتجاهل مدى العلاقة الحميمة التي توجد بين هؤلاء.

لقد كتب مكيافيللي كتاب الأمير وأهداه لحاكم فلونسا من آل ميديتشي الذين حكموا فلونسا ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر الميلادي " الأمير لورينزو دي ميديتشي"، طمعا في إعادته إلى منصبه الذي فقده بعد سقوط آل البوربون و سيطرة (آل ميديتشي) على فلونسا وطرد آل البوربون الفرنسيين منها الذين كان مكيافيللي يشتغل لحسابهم في منصب سكرتير للمستشارية الثانية وهي تشرف على الشؤون الخارجية والعسكرية؛ وقد قام مكيافيللي في هذا الكتاب بجمع خلاصة تجربته السياسية إبان عمله كموظف سام في ولاية آل البوربون، وضمنه مجموعة  من النصائح التي على الأمير أن يلتزم بها إذا أراد الحفاظ على سلطته وإمارته وحكمه، وإن كان نقاد هذا الكتاب زعموا أن مكيافيللي قام بتكريس مبدأ " الغاية تبرر الوسيلة " المرادفة لمعاني الإنتهازية في أقبح صورها، غير أن مكيافيللي في الحقيقة لم يقم سوى بنقل الواقع السياسي بأمانة علمية، وذلك من خلال الفصل التام بين السياسة والأخلاق، وتعرية أخلاقيات السياسة، خاصة أخلاقيات الطغاة والمستبدين، وتقديمها كوصفة جاهزة لمن أراد البقاء في الحكم والسلطة لمدة طويلة.

ومن ببين أبرز النصائح التي أسداها الكاتب للأمير:

1- توطيد أركان الحكم بالقوة والدهاء السياسي:

يعتمد الكثير من الحكام المستبدين في توطيد أركان حكمهم كثيرا على نصائح صديقهم مكيافيللي، وهذا الأخير قدم لهم نصائح من ذهب فيما يخص هذه الجزئية الهامة جدا، فتوطيد أركان الحكم حسب مكيافيللي يحتاج إلى أن تتوفر في الأمير خصال وأن يقوم بأعمال من أجل تحصين حكمه من طمع الطامعين، ومن بين هذه الخصال عدم الإعتماد على النوايا الحسنة وحسن الطالع؛ لأنهما لا يستمران طويلا ولا يبقيان ثابتين، لأن طبيعة البشر متقبلة ومن السهل تحفيزهم لشيء ما ولكن من الصعب استمرار هذا الحافز، لهذا يجب استعمال القوة معهم لردهم إلى الإيمان الذي ارتدوا عنه، ومن الأعمال التي يجب عليه القيام بها عدم السعي إلى تقوية الآخرين والقيام بإضعاف الأقوياء وتقريب الضعفاء دون منحهم أي امتياز، والإعتماد على السلاح وإضعاف الأحزاب وتوحيد الجميع تحت صف الأمير أو الحاكم، وتوليتهم أعمالا كل حسب قدره، والبطش بالزعماء وعدم الوثوق بالذين ساعدوه للحصول على الحكم أو الإمارة لأنهم مهما بلغوا من الإخلاص له سوف يطمعون يوما ما في منازعته إمارته، لأن طبيعة البشر ميالة للطمع فيما في أيدي الآخرين، واللجوء إلى الخداع وإخفاء النوايا والأغراض الحقيقية جيدا، وتوطيد أركان حكمه بالقوة والخديعة، وأن يسحق كل من يستطيع أن يؤذيه أو من الممكن أن يؤذيه، ويجب عليه أن يقوم بتوزيع المزايا على الرعايا جرعة جرعة حتى يستمتعوا بها ويشعروا بفائدتها، واستخدام القوة عند وقوع طارئ يهدد حكمه أفضل من فعل الخير الذي لن يجني من ورائه أية فائدة لأنه سيؤخذ على أنه اِضطرار وليس ناتجا عن الأخلاق الحسنة، وعليه أن يكون صارما وشفوقا في نفس الوقت كريم الخصال واسع المدارك، وأن يحافظ على صداقته مع الملوك والأمراء بطريقة تسعدهم إذا فعلوا ما يفيده وتخيفهم إذا ناله منهم مضرة.

2- التخلص من الخصوم  والمنافسين:

في كل إمارة لابد أن تجد الشعب وطبقة الأرستقراط (الأغنياء)، والشعب يريد العدل في حين تميل الأرستقراطية إلى العنف من أجل حماية مصالحها، وهي تدعي حماية الأمير من أجل الحفاظ على مكانتها وحماية ممتلكاتها، والأمير ضمن هذه الخطاطة بحاجة إلى الولاء، ولأن المواطنين لن يستطيعوا طاعة أوامره في حالة الطوارئ وهم ألفوا تلقي الأوامر من الولاة، فالأمير في الظروف الصعبة بحاجة إلى رجال يمكنه الإعتماد عليهم، وعليه كذلك أن يبحث دائما عن وسائل تجعل الشعب في حاجة مستمرة إلى حكومته وسيخلصون الولاء له دائما.

وعلى الأمير أن يعرف من بين رجاله من هم الأخيار حتى يوظف خيرتهم ومن هم الأشرار حتى يتقي شرهم، وخصوصا من بمقدورهم التحول إلى خصوم أو منافسين عندما يشعرون أنهم أقوياء أو عندما يشعرون أنهم محميون من الخارج، لذلك فعلى الأمير أن يحتاط من الإثنين معا أي من الأخيار والأشرار، لأن الأخيار يمكن أن يتحولوا إلى متحالفين مع الأشرار عندما يشعرون بضعف الأمير وقوة الآخرين، وعلى الأمير ألا يتساهل أبدا ومهما كانت الظروف مع أي خيانة من أي جهة كانت، سواء من الأخيار أو من الأشرار، وعليه أن يكون صارما وحازما في أوقات الشدة، ولينا متسامحا في أوقات الرخاء، حتى يظهر بمظهر الحاكم العادل، لأن طبيعة البشر تميل إلى الخوف من الأمير القوي الذي لا يغفر الذنوب والزلات، وليس إلى الأمير المتسامح والغفور، وعلى الأمير أن يسعى دائما لأن يوصف بالرحمة وليس الشدة وأن يحرص على عدم إساءة استخدام الرحمة بأي حال من الأحوال، يجب على الأمير أن يحرص على أن يكون مهابا ومحبوبا في نفس الوقت، لأن من صفات البشر أنهم ينكرون المعروف وتتقلب مشاعرهم بين الحب والكراهية، فلو كان الأمير مهابا خافوا منه ولن يستطيعوا الإضرار بمصالحه، ثم لأن البشر يترددون في الإساءة إلى من يحبون أقل من ترددهم في إيذاء من يهابون، وذلك لأن الحب مرتبط بسلسلة من الإرتباطات التي تتفكك عندما تؤدي غرضها، وذلك بسبب أنانية الناس، لكن استخدام المهابة والخوف من العقاب طريقة صحيحة لا تفشل أبدا.

3- توظيف الدين في السياسة:

يتعين على الأمير الذي يرغب في ربط أواصر من الود مع شعبه أن يدين بدينه، وليس هذا فحسب بل عليه أن يظهر كل الإحترام والتبجيل الواجب للدين ورجال الدين، وأن يرفعهم إلى مكانة مرموقة والحفاظ على مكاسبهم الدنيوية ومنحهم الإحترام الواجب، ومن المفيد  جدا توظيف الدين في السياسة؛ وذلك من خلال جعله يساهم في تقوية أركان الإمارة، بحيث يقوم الأمير في المناسبات الدينية بالظهور بمظهر المتدين وعليه أيضا أن يوظف الخطاب الديني في توطيد أركان حكمه والحرص جيدا على ألا يتناقض سلوكه مع مضمون وجوهر الدين، وأن يظهر بمظهر المدافع عن حوزة الدين ضد التيارات الإلحادية والتشكيكية، ولكن عليه في نفس الوقت ألا يترك المجال للآخرين من أجل استغلال الدين والخطاب الديني لبلوغ أهداف سياسية، وعليه أن يقطع عليهم الطريق بصرامة، لأن من شأن ذلك أن يدغدغ عواطف البسطاء من الناس وهم الغالبية العظمى من الشعب باسم الإصلاح أو ماشابه ذلك، فينقلبون على الأمير.

4- إستعمال المرتزقة:

من الأهمية بمكان وجود الدعائم التي تمكن من توطيد أركان الحكم، ومن بين هذه الدعائم كذلك؛ القوانين الجيدة والأسلحة الجيدة، وفي واقع الأمر لا توجد قوانين جيدة بدون وجود أسلحة جيدة، والأسلحة التي يدافع بها الأمير عن ممتلكاته إما أن تكون أسلحته الخاصة أو أسلحة لقوات مأجورة أو أسلحة حلفاء له أو أسلحة مختلطة.

فأما فيما يخص أسلحة المأجورين فهي بلا فائدة وخطرة، ولا يمكن التنبأ بما يحدث منها، لأنها قوات مفككة ولها مطامع خاصة، وهي غير نشطة ولا عهد لها، وهي تبدو قوية أمام الأصدقاء لكنها جبانة عند مواجهة الأعداء، وليس لهم أي دافع للبقاء في الميدان سوى الأجور الزهيدة التي لا تجعلهم على استعداد للموت من أجل الأمير.

وأما ضباط المرتزقة؛ فإما أن يكونوا أكفاء أو غير أكفاء، فإذا كانوا أكفاء فلا يمكن الإعتماد عليهم؛ لأنهم يثبتون أنهم عظماء إما بابتزاز الأمير أو بالضغط عليه في غير صالحه، أما إذا كانوا غير أكفاء فإنهم يدمرون الأمير تماما، ولكن يمكن استعمال المرتزقة في الحروب القذرة والتي تدار رحاها بعيدا عن أرض الإمارة، فإذا انتصروا لم ينقلبوا على الأمير وإذا انهزموا لم يضر ذلك الأمير في شئ.

وأما القوات المعاونة أو قوات الحلفاء والجيران والقوات الوطنية ؛ أي القوات المختلطة فهي عديمة النفع مثل المرتزقة  وهي أيضا مصدر خطر على من يستعيرها، لأنها إذا خسرت المعركة فإنها تكون قد هزمت الأمير، أما إذا كسبتها فان الأمير سيضل أسيرا  لتلك القوات.

وعلى من يريد أن ينتصر ألا يعتمد على هذه القوات التي تزيد خطورتها قليلا على قوات المرتزقة، فوجودهم سيجلب خرابا شاملا على الأمير، ذلك لأن ولاءهم ليس ثابتا بل متغير حسب المصلحة، فإذا كانت قوات المرتزقة تحتاج إلى وقت وفرصة مناسبة من أجل الإضرار بالأمير، بحكم أنها مرتبطة به و تتسلم رواتبها منه، فإن القوات المختلطة يمكن لها أن تضر بالأمير بسرعة، لأن خطورتها تكمن في شجاعتها وسرعة تحركها في الميدان، بينما لا تتوفر هذه الخاصية لقوات المرتزقة.

يجب على الأمير أن يكون ملما بتاريخ وجغرافية بلده وأن يقوم بتنظيم قوات بلده بنفسه وألا يترك هذا الأمر لأحد، وإلى جانب القيام بذلك عليه أن يتفرغ للصيد باستمرار، فهو يعود جسده على المشقة والتعب، كما يجعله يدرس طبيعة البلاد في نفس الوقت، فيعرف أماكن الجبال والهضاب والوديان والأنهار والمستنقعات والمنحدرات والسهول، لأن هذه المعارف تعلمه كيف يلتقي عدوه وكيف يقيم المعسكرات؟ وأين يقيمها؟ وكيف يضع الخطط للمعارك؟ وكيف يحاصر المدن ويظفر بها؟

***

محمد آيت بود

باحث في العلوم السياسية

عبد الجبار الرفاعي يكتب عن العلاقة التي ربطته بعالم الكتب

يأتي كتاب «مسرات القراءة ومخاض الكتابة - فصل من سيرة كاتب» (تكوين - دار الرفدين - 2023)، للدكتور عبد الجبار الرفاعي، ليضيء جانباً من سيرته الذاتية انطلاقاً من العلاقة التي ربطته بعالم القراءة. وهو الدافع الرئيس لتحديد «فصل من سيرة كاتب». لكن السيرة الذاتية للرفاعي لا تنحصر بالتحديد في هذا الجانب، وإنما تمتد لتشمل فصولاً أخرى يتداخل فيها الحياتي بالثقافي والفكري.

من ثم فـ«مسرات القراءة ومخاض الكتابة» جزء من حياة دون أن يعني كونه الحياة في كليتها. وهو ما يوحي على السواء بكون هذه السيرة سوف تتشكل من أجزاء أخرى وفق ما طالعنا، مثلاً، في تجربة عميد الأدب العربي طه حسين، وصولاً إلى الأدباء جلال أمين ومصطفى الفقي وغيرهما. ويحق الحديث على أن المفهوم الذي يرسخه الرفاعي للسيرة الذاتية، يتجسد - كما سلف - في الجمع بين عالمين: عالم القراءة وعالم الحياة. وبذلك، فإنه يغاير ويخالف السائد والمتداول في كتابة السيرة الذاتية. ويمكن التمثيل بما كتبه هنري ميللر في «الكتب في حياتي» وكولن ويلسون في «الكتب في حياتي» (والعنوان متداخلان)، وإيتالو كالفينو في «لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟»، وألبرتو مانغويل منذ «تاريخ القراءة» إلى «حياة متخيلة». وإذا كان الصوغ في هذه المؤلفات مباشراً، فإنه في غيرها تحقق على نمط كتابة روائية، كمثال «عاشق الكتب» و«جنون كتاب» لهوفر بارتليت. وأما عربياً فيمكن التمثيل بكتابات عبد الفتاح كيليطو في أغلبها، إلى الروائي والقاص لؤي حمزة عباس في كتابة «النوم إلى جوار الكتب»، وبثينة العيسى في «الحقيقة والكتابة»، وطريف الخالدي في «أنا والكتب»، وصفاء ذياب في «أن نحكي»، وحسن مدن في «حبر أسود».

تشكل الوعي

تبدو صيغة الوعي بالقراءة في كتاب «مسرات القراءة ومخاض الكتابة» بسيطة، لتتحول لاحقاً إلى التعقيد. فالبسيطة ترتبط بالفضاء كما الزمن، وهي انتقالات في حياة الشخصية وتكوينها. ذلك أن مرحلة التعليم الابتدائي في حياة الرفاعي لم تعرف سوى الكتب المدرسية، بحكم الارتباط بالواقع القروي وسواد الأمية بين الفلاحين على مستوى القراءة والكتابة. وفي سياق هذه المحدودية، فإن أفق التوسع والاضطلاع لم يمتلك مؤهلات التطوير وروافد الإغناء. من ثم فإن الصورة التي جاءت عليها المكتبة الشخصية الأولى، اتسمت على السواء بالبساطة ما دامت قد ضمت ما يشبه كراسات تتم العودة إليها بين فترة وأخرى في نوع من التكرار وشح الإضافة:

«لم أر في المرحلة الابتدائية كتاباً غير الكتب المدرسية، ولا أتذكر أني رأيت كتاباً في بيت أحد في قريتنا، الفلاحون من جيل آبائنا لا يقرأون ولا يكتبون». (ص/13)

«قرأت قصص: المياسة والمقداد والسندباد البحري وغزوة بئر ذات العلم وعنترة بن شداد». (ص/13)

«نشأت مكتبتي بهذه الكراسات وأشباهها، أصبحت أكرر مطالعتها، وأضيف لها ببطء وعلى فترات متباعدة ما أظفر به». (ص/14)

بيد أن الانتقال إلى بغداد بداية السبعينات بهدف الدراسة سيجسد تحولاً مغايراً على مستوى التكوين، ذلك أن ما بدا في السابق بسيطاً، سيغدو معقداً أمام وفرة الكتب وتعدد سبل المعرفة وما يترتب من دهشة وحيرة في الاختيار وتوقاً إلى امتلاك مكتبة غنية تتضمن مراجع معتمدة، علماً بأن هذه المكتبة الشخصية ستخضع لظروف قاسية تتحدد في الإجهاز عليها بالاغتيال - إذا حق - ثم القيام مجدداً بالبناء والإنشاء، وكأن الأمر يتعلق بسيرتين متداخلتين: سيرة تكوين وتكون القارئ، وسيرة نهضة مكتبة - مكتبات لا تتوقف وظيفتها في تشكيل صورة القارئ، وإنما الكاتب على السواء، من منطلق كون كل قراءة عميقة دقيقة موضوعية تقود إلى بناء شخصية الكاتب التي تقولها وفق صيغة خاصة تتفرد على مستوى التفسير والتأويل وترسيخ الفهم المغاير:

«أتذكر أولى زياراتي لشارع المتنبي سنة 1973 عندما كنت طالباً ببغداد، لم تكن المكتبات في الشارع بهذه الكثافة وهذا الحضور الواسع المتنوع اليوم». (ص/23)

«بعد انتقالي للدراسة ببغداد سنة 1973، بدأ تراكم الكتب يتنامى ويضيق معه فضاء الصندوق بالكتب المضافة». (ص/ 44)

«تجمع مكتباتي نحو 30000 من الكتب ودوريات الدراسات والمجلات الثقافية». (ص/55)

وتأسيساً على السابق، فإن تشكل الوعي بالقراءة تجسده نوعية المقروء. بمعنى آخر، إنه أمام فيض وغزارة المكتوب تحتم الضرورة انتقاء ما ينبغي قراءته من منطلق كون الزمن والحياة لا يسمحان بالإحاطة الشاملة. ثم إن التخصص المتعلق، سواء بحقل التدريس أو الكتابة، يستدعي القراءة، وبالضبط ضمن حدود المحفل، حيث تتمثل كيفية تصريف المقروء في المكتوب، إلى توظيفه التوظيف الملائم.

يقول الرفاعي في فقرة دالة مكثفة وجامعة تضعنا أمام المفهوم الحق للقارئ:

«ليس المهم كمية ما يقرأ الإنسان، المهم نوعية ما يقرأ، وكيفية تلقيه لما يقرأه، وقدرة عقله على تمثله وتوظيفه، وتجلي أثره في نمط تفكيره وشخصيته وسلوكه». (ص/29)

إن ما تقود له/ إليه صورة القارئ، ميلاد الكاتب ونشأته. والأصل أن الميلاد والنشأة يرتبطان بالقراءة. فلا يمكن ولا يتأتى خلق النص في غياب المرجعيات التي يتم الامتياح منها بغاية إنتاج المعنى الجديد الذي لا يقول الشيء نفسه، وإنما ما يغايره ويختلف عنه. وثم تتحقق الفرادة والخصوصية. على أنه ومثلما تحققت ولادة القارئ في زمن مبكر، تسنى أيضاً للكاتب فرض قوة حضوره في المراحل التي قطعها تكوينه التربوي والجامعي، وكأن تمرين الممارسة التعبيرية الإبداعية نصاً وموضوعاً يعلن عن ذات تمتلك مشاعر وأحاسيس قيض لها الاستمرار وليس التوقف كي تغدو بنفسها مرجعاً معتمداً لا يمكن تجاهله أو غض الطرف عنه:

«كتاباتي خلاصة مطالعات بدأت في مرحلة مبكرة من حياتي لم ولن تتوقف، وما زالت، كما كانت أول مرة، خلاصة عواصف ذهنية وتأملات فرضها علي عقلي الذي لا يكف عن التفكير، وأوقدتها مشاعري وانفعالاتي، وما ترسب بأعماقي من جراح محطات الحياة المتنوعة، مما لا أراه ولا أدرك تأثيره في فهمي». (ص/69)

ويبرز الاختلاف بين العالمين: عالم القراءة وعالم الكتابة، في كون الأخير كما ورد في التعريف المقتبس عن الروائية الفرنسية آني إرنو: «الكتابة كخنجر»، عالم عذابات ومعاناة ومتعة أيضاً. ذلك أن كتابة نص، أقول ولادته، لا يمكن على الإطلاق استسهالها. على أن أولى هذه العذابات والمعاناة يعكسها مكون اللغة بما هي أداة التواصل والاتصال بين الكاتب والقارئ. إذ الكاتب وهو يخوض مهمة الإنجاز يحلم بأن يكون منجزه دقيقاً من حيث الكتابة والتحرير، وهو ما يفرض عليه انتقاء العناصر المكونة للغته وبناء أفقه الإبداعي الخاص. فلا قيمة البتة لما يكتب بانتفاء القارئ الذي تصنعه الكتابة. وهذا ما يشير إليه الرفاعي بالاشتراك أو المشاركة، بحكم كون بناء النص تتداخل فيه كفاءتان: كفاءة الكاتب وكفاءة القارئ.

«اللغة كأداة هي ما يرهقني في الكتابة أكثر من الفكرة، أعيد تحرير النص عدة مرات. حين أكتب أمارس وظيفة تشبه وظيفة المهندس المعماري الذي لا يغفل عن وجه البناء الجمالي». (ص/ 69)

«الكتابة فن الحذف والاختزال». (ص/70)

«لم أجد نفسي خارج الكتابة منذ أكثر من 45 عاماً تقريباً». (ص/74)

«الكتابة اقتصاد الألفاظ وتدبير الدلالات. الكتابة تحرير النص من عبودية الكلمات الميتة، وأساليب البيان المنقرضة. كل كتابة إعادة كتابة كتابة على كتابة». (ص/ 166)

إن ما يمكن استخلاصه من السابق: كون تشكل شخصية القارئ يتداخل وصورة الكاتب كما سلف، اعتبار بدايات الوعي بالقراءة والكتابة، تحقق منذ سنوات التكوين الدراسي والجامعي، والغاية التأسيس لمنطلقات في التعبير وعلى التفكير تتفرد في خصوصياتها وتصوراتها، وهو ما يلمس في الآثار الفلسفية للرفاعي.

في سؤال السيرة

لعل السؤال الذي يفرض نفسه في نهاية هذه الكتابة النقدية: أترى يتعلق الأمر في كتاب «مسرات القراءة ومخاض الكتابة - فصل من سيرة كاتب» بسيرة محض، سيرة ذاتية، أم أنها سيرة ذهنية؟

إن التحديد الذي أقدم عليه المؤلف، والمتمثل في «فصل من سيرة كاتب»، يجسد ميثاق التعاقد الذي يربط بين المؤلف والقارئ. بمعنى آخر إننا أمام سيرة توازي بين القراءة والكتابة دون أن تشمل تفاصيل ترتبط بالحياة أو الذات برمتها كما مر مطلع هذه الكتابة، ومثلما المتداول والمعهود في السيرة الذاتية العربية التي نزع بعض مؤلفيها إلى ضبطها بالتحديد الدقيق، في حين غيب البعض التحديد، ومنهم من اختار تمرير وقائع ذاتية في كتابة روائية يتعامل معها في هذا السياق.

على أنه وإلى ميثاق التعاقد، فإن الإشارة «فصل من سيرة» تؤكد بأن أفق التلقي المنتظر مستقبلاً، سيكون أمام فصول أخرى تستكمل السيرة وتشمل الغائب مما لم يتم ذكره، وآنئذ تستوفي السيرة بعدها الذاتي في شموليته، ولئن كانت بعض الإشارات الذاتية الحياتية وردت في هذا الكتاب وفق تدقيق زمني صارم.

بيد أن اختيار الأستاذ عبد الجبار لهذه الصيغة، وليد قناعة واقتناع بأن المؤلف قارئ وكاتب بمثابة ذات، وجود وكينونة تنتج وعياً بالثقافي والفكري في ثوابته ومتغيراته. والواقع أن الاختيار يهدف في مستوى آخر من الفهم والتأويل إلى الاختلاف عن السائد في كتابة مادة السيرة، إلى التنويع والإضافة، وهو ما جنح إليه أكثر من كاتب ممن ذكرت سابقاً البعض منهم:

«كتابة السيرة بهذا الشكل من أمهر أنواع الكتابة وأكثفها وأثراها. كتابة السيرة تعني إعادة بنائها بوصفها طوراً راهناً لوجود الإنسان يبعث في حياته ولادة مستأنفة». (ص/75)

ويحق أن نضيف بأن الاختيار تمثيل عن إضاءة لجوانب من وفي حياة المؤلف. الفضول يتنازع القارئ الذي عرف الرفاعي من خلال دراساته وأبحاثه، والآن انطلاقاً من هذا الكتاب يخبر ما لم يكن يعرفه، وأقصد صورة القارئ والكاتب. ومن ثم، فإن «مسرات القراءة ومخاض الكتابة - فصل من سيرة كاتب» بمثابة المرآة العاكسة لشخصية المؤلف وتكوينه الثقافي والفكري، إلى أن غدا اسماً علماً يتفرد بموقع ومكانة وتعتمد آثاره مراجع في الأبحاث والدراسات: «كتاباتي مرآة سيرتي الفكرية والروحية والأخلاقية، أكتب تجربتي في الكتابة كما تذوقتها بوصفها تجربة وجود. تجربة الوجود فردية، كل ما هو فردي ليس ملزماً لأي إنسان». (ص/75)

***

صدوق نور الدين - كاتب مغربي

نشر في صحيفة الشرق الاوسط يوم 3/4/2024م أيضا

 

كل امة تفتخر بعلمائها وادباءها ومثقفيها، وكل مدينة او قرية يكون كل الفخر بإبراز دور رجالها ممن قدموا لها وللبشرية من خدمات جليلة. ومن قرية الحصين التي تغفو على الضفة اليسرى لشط الحلة جنوب مدينة الحلة برز المعلم والمدرس والأستاذ الجامعي، الشاعر والخطيب الدكتور حازم سليمان الحلي، ان لقب المعلم الذي اطلقه المؤلف على الدكتور حازم الحلي يستحقه وبجدارة، لأنه سبق واطلق على فلاسفة عظام مثل ارسطو والفارابي.

صدر عن دار الصادق في الحلة كتاب "المعلم حازم سليمان الحلي" للأستاذ عدنان محمد الحسيني، وهو السيرة الشخصية لمعلمه واستاذه الشخصية الوطنية الشاعر والخطيب والعالم اللغوي الدكتور حازم سليمان الحلي . الكتاب يحوي على 382 صفحة من الحجم الوزيري، يحتوي على مقدمة وأربعة فصول مع ملحق وملحق للصور .

تقدم الكتاب شهادة للدكتور عدنان حسين العوادي بعنوان "حازم سليمان الحلي – صورة بألوانها "، استعرض فيها السيرة الشخصية للسيد حازم ابن قرية الحصين التي شغلته شؤونها واحوال أهلها، لقد اصبح معلم مدرستها ثم مديراً لها ولسنين طويلة فتتلمذه على يده الكثير من تلامذة القرية . نشأ السيد حازم في اسرة توارثت دراسة علوم الشريعة، ونظم الشعر والقاء الخطابة، فكان سليل المنبر الحسيني الذي تخلخل في اعماقه، فسار على سيرة اباءه واجداده لإحياء مآثر آل بيت النبي (ص) عبر القرون. التحق السيد حازم بكلية الفقه بالنجف الاشرف وهو مستمر بالدوام في احدى مدارس النجف التي نقل اليها، فكان طالباً مثابراً ونشيطا حتى تخرج منها، فكانت شهادته التي حصل عليها سبيله الى اكمال دراسته العليا في مصر ليحصل على شهادة الماجستير في علوم اللغة. فعاد من مصر لينال شهادة الدكتوراه من جامعة بغداد، ثم عمل استاذاً في كلية الفقه التي كان أحد طلابها ليصبح من بعد معاون لعميدها.

تطرق الدكتور عدنان العوادي الى "ندوة عشتار"، وكان السيد حازم الحلي في طليعة الداعين اليها، وهو القائم على توثيق مسيرتها، فكان شاعر القصيدة العربية بتقاليدها العريقة وموضوعاتها العصرية. ثم تطرق الى ثقافة السيد حازم بظهور سمة "المعلم الخطيب"، فالخطابة هي قوام ثقافته، وكان له من المنبر الحسيني بدءاً، ثم منبر التعليم المدرسي، فمنبر التعليم الجامعي، والتي كانت تعبيراً عن النزوع الجمعي فكانت غايتها ان يُبّلغ الخطيب رسالته الى متلقيه بحيث تكون واضحة ومفهومة .

في الفصل الأول تطرق المؤلف الى نشأت حياة الدكتور حازم الحلي وسيرته العلمية، فذكر تاريخ ولادته التي صادفت النصف من رمضان عام 1354هـ المصادف 25 كانون الأول من عام 1935م في قرية الحصين، وكان والده قد درس في حوزة النجف الاشرف فتعلم تفسير القرآن الكريم وعلوم اللغة العربية فيها، فاصبح من خطباء المنبر الحسيني، ومرجعاً في المسائل الفقهية والشرعية لسكان قرية الحصين والقرى المجاورة لها، وذكر نسبه واسرته (اخوته واخواته) وحياته العائلية . ثم تطرق المؤلف الى دراسته الابتدائية في مدرسة الإبراهمية الابتدائية التي تقع في الضفة الأخرى لشط الحلة لعدم وجود مدرسة في قريته الحصين، وعندما أصبح في الصف الخامس الابتدائي عام 1953م قام بفتح صف لمحو الامية في مضيف شيخ قريته ومختارها السيد ضايع كريم لتعليم شباب القرية الأميين القراءة والكتابة.

ان فتح صف لتعليم شباب القرية الاميين وهو لا زال في الصف الخامس الابتدائي يدل على موهبة كبيرة ومقدرة عالية يتمتع بها السيد حازم الحلي بالرغم من صغر سنه.

ولعدم وجود متوسطة أو اعدادية في قرية الحصين فقد أكمل السيد حازم الدراسة المتوسطة في متوسطة الحلة للبنين والثانوية في ثانوية الحلة للبنين ليتخرج منها عام 1958م، ثم دخل دورة تربوية لمدة سنة واحدة ليصبح معلماً في مدرسة التقدم الابتدائية التي فتحت في قريته الحصين عام 1959م، ثم أصبح مديراً لها.

لم يكتفي السيد حازم بشهادة الدراسة الإعدادية فدخل كلية الفقه في النجف الاشرف عام 1964م، فدرس فيها الفقه الإسلامي وعلوم اللغة العربية ليتخرج منها سنة 1968م، وينتقل الى التعليم الثانوي ليعمل في ثانوية 17 تموز للبنين في الحلة.

حصل السيد حازم الحلي على قبول في كلية دار العلوم في القاهرة لنيل شهادة الماجستير في الادب العربي فحصل عليها سنة 1978م، وبعد عودته الى العراق نقلت خدماته الى وزارة التعليم العالي سنة 1979م استاذاً في كلية الفقه جامعة الكوفة، وهي الكلية التي حصل منها على شهادة البكالوريوس. لم يكتفي السيد حازم بشهادة الماجستير بل حصل على شهادة الدكتوراه من كلية الآداب جامعة بغداد. وقد استمر استاذاً في كلية الفقه، ثم معاوناً لعميدها حتى خروجه من العراق سنة 1991م على أثر مشاركته في انتفاضة آذار(الشعبانية) التي حصلت ضد نظام حزب البعث بعد هزيمة الجيش العراقي من الكويت.

تطرق المؤلف الى إمكانية السيد حازم كشاعر وخطيب، فقد نشأ في كنف والده السيد سليمان مرزة الحلي، الذي كان حوزوياً وشاعراً، فلازمه في حله وترحاله، فوجهه لحفظ سور من القرآن الكريم ونصوص من نهج البلاغة وبعض المختارات الشعرية، فكان يمتلك الجرأة الأدبية والقدرة العالية في أداء ما استحفظه في المجالس الحسينية. لقد كان للسيد حازم موهبة عالية في حفظ الشعر، فقد كان يحفظ قصائد بكاملها لقدامى الشعراء. لذلك فقد برع في نظم الشعر، فكان يلقي شعره في كل المناسبات الدينية والوطنية التي حضر فيها سواء كانت في قريته أو مدينة الحلة، وقد شارك في مهرجانات الخطابة عندما كان طالباً في مرحلة الثانوية، كما كان يلقي شعره في الاحتفالات التي تقام في كلية الفقه عندما كان طالب يدرس فيها، أو عندما أصبح استاذاً فيها. لقد تميز التاريخ الشعري للسيد حازم بتوثيق المناسبات التي حصلت في قريته أو في مدينة الحلة أو في مدينة النجف الاشرف.

في الفصل الثاني تطرق المؤلف الى "ندوة عشتار" التي ولدت في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وهو تجمع ثقافي ضم لفيف من الادباء والمثقفين الحليين، يُقرأ فيه نتاجاتهم الأدبية من شعر وقصة قصيرة، ويعرض الفنانون التشكيليون لوحاتهم والمسرحيون نتاجاتهم المختلفة، وتتبادل فيه الأفكار الأدبية المختلفة الأنماط الشعرية والنقدية.

كان السيد حازم الحلي صاحب فكرة تأسيس الندوة، حيث كان الاجتماع الأول في داره ومنها انبثقت فكرة تأسيس الندوة وانتخاب هيئتها الإدارية وانتخب السيد حازم أميناً لسرها.

لقد كانت مساهمة السيد حازم الحلي في اماسي ندوة عشتار فعالة سواء بإلقاء قصائده الشعرية في المناسبات الدينية والوطنية، او تقديم أوراق نقدية حول القصائد الشعرية أو القصص القصيرة التي تلقى في الندوة منذ انطلاقها في آذار 1971م حتى توقفها في آذار 1973م بعد ان نظمت 33 أمسية.

في الفصل الثالث تطرق المؤلف الى انتفاضة آذار (الشعبانية) سنة 1991م التي اندلعت في البصرة وامتدت الى مدن الوسط والجنوب وبضمنها مدينة الحلة ضد نظام حزب البعث الحاكم، على أثر هزيمة الجيش العراقي في الكويت من قبل قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية. لقد كان للدكتور حازم الحلي دور بارز في التنسيق بين ثوار الحلة والنجف، فكان ينقل التوجيهات من النجف الى المنتفضين في الحلة. وكان للدكتور حازم الحلي دور في مساندة وتشجيع الشباب على الثورة والنهوض ضد نظام القمع البعثي الصدامي، ولكن بعد أيام من تحرير الحلة اجتيحت من قبل قوات السلطة البعثية مستخدمين المدفعية والدبابات والطائرات السمتية واستطاعت قمع الانتفاضة والسيطرة على مدينة الحلة.

بدأت رحلة الدكتور حازم الحلي وعائلته من مدينة النجف متوجهاً الى الديوانية ثم الكوت في محاولة للخروج من العراق نحو ايران، فلم يكن هنالك سبيل للخروج منها فاتجه نحو العمارة ثم الى بغداد ثم الى الموصل وتلعفر محاولاً التوجه نحو سوريا، فكانت الأمور من الصعوبة الوصول الى الحدود السورية، فرجع الى الموصل ومنها الى أربيل والتوجه نحو الحدود الإيرانية عن طريق حاج عمران حتى وصل الى مدينة (خوي) ثم مدينة (قم) وعمل فيها أستاذاً للغة العربية في جامعة الامام الصادق .  لكن الظروف التي وجدها في ايران غير مشجعة لبقائه فيها منها الخلافات بين الفصائل المعارضة لنظام البعث، والتي يأس من التقريب بينها، وعدم قبول بناته في الجامعات الإيرانية مما اضطره في عام 1992م الى ترك ايران والتوجه الى سوريا التي قضى فيها عدة أشهر ومنها انتقل الى ليبيا عن طريق تونس. وفي ليبيا استقر في مدينة الزاوية التي تقع في اقصى الغرب الليبي، فعمل في جامعة السابع من ابريل أستاذاً للنحو واللغة العربية، واستمر فيها الى نهاية شهر أيلول عام 1995م، وقد قضى فيها قرابة ألاربع أعوام .

غادر الدكتور حازم مع أسرته ليبيا الى المانيا، فعمل في جامعة نوتردام الإسلامية في هولندا لتدريس النحو والصرف وعلوم القرآن لمدة سنتين، ومنها حصل على درجة الاستاذية للمرة الثانية (حصل عليها في المرة الأولى من جامعة الكوفة في نهاية عقد الثمانينيات). وفي المانيا عمل في جامعة غيلنغن في جنوب المانيا وقد أشرف على عدة رسائل جامعية.

تطرق المؤلف الى زيارات الدكتور حازم الحلي الى العراق بعد سقوط نظام البعث عام 2003م، وكانت زيارته الأولى الى الحلة سنة 2005م ترافقه زوجته، فزار قرية الحصين حيث الحنين الى الطفولة والصبا والشباب وتفقد بستانه التي قطعت اشجارها آليات السلطة البعثية بعد انتفاضة 1991م، وبعد ان تفقد اهله واقربائه وأصدقائه وترحم على المتوفين منهم، زار حسينية الزهراء والقى محاضرة حول الخلافة والتنافس الذي شهدته سقيفة بني ساعدة بُعيدة وفاة النبي(ص) عام11هـ لاختيار خليفة المسلمين. كما زار جامعة الكوفة والتقى مع زملائه في كلية الفقه ومن تبقى من معارفه في النجف الاشرف، ثم عاد بعدها الى المانيا. بعدها تكررت زيارات الدكتور حازم الحلي الى العراق وبفترات متباعدة، وشارك أثناء زياراته بعدة نشاطات ثقافية واجتماعية أقيمت في محافظات النجف الاشرف وبابل وكربلاء، وفي رحاب جامعة الكوفة وجامعة بابل وبعض المنتديات والتجمعات الثقافية والاجتماعية، والقى فيها محاضرات ثقافية وقصائد شعرية.

في الفصل الرابع تطرق المؤلف الى مؤلفات وبحوث الدكتور حازم الحلي التي ابتدأ فيها منتصف ستينيات القرن الماضي عندما كان طالباً في كلية الفقه، واولها تحقيق ديوان جده السيد مرزة الحلي في مراثي آل البيت (عليهم السلام)، حتى آخر كتاب له (علي مع الحق والحق مع علي). فقد استعرض المؤلف مؤلفات الدكتور حازم الحلي التي بلغت 15مؤلفاً، شملت ديوانه الشعري اطلالة الفجر، تحقيق ديوان السيد مرزة الحلي، اطوار المعجم العربي، الشريف الرضي وجهوده النحوية، القراءات القرآنية بين المستشرقين والنحاة، السيد حيدر الحلي شاعر عصره، الاصفهاني المؤرخ الادبي، النبي وآله في الشعر العربي، الحلة واثرها العلمي والادبي، موسيقى الشعر العربي، أثر المحتسب في الدراسات النحوية، أضواء على ندوة عشتار، اول حماة الإسلام أبو طالب ولاميته، الجهاد الليبي في الشعر العراقي، علي مع الحق والحق مع علي.

كما تطرق المؤلف الى بحوث ومنشورات الدكتور حازم الحلي على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد ذكر منها: المعنى واللفظ في العبارة، فلسفة التاريخ في الفكر الإسلامي، قبس من اسرار القرآن، من بديع القرآن وتضمن معنى القطمير والنقير والفتيل، من بيان القرآن، المحاولات الفاشلة لمسح اسم الحلة، مظلومية الامام علي(ع)، مع سيبويه وشيخه الخليل، عبقري من الحلة (سيرة الشيخ عبد الحسين الحلي)، اعتداء داعش على قبر الصحابي حجر بن عدي، مولد الامام الحسن (ع)، مولد الامام الحسين (ع)، لا تصدقوا كل ما يقال، عيد الفطر السعيد، السلام عليكم أسود العرين (وهي قصيدة بحق القوات المسلحة والحشد الشعبي الذين حرروا ارض العراق من احتلال داعش)، من أدب قراءة القرآن وفضل قراءته.

في ملحق الكتاب ملف لابن عم الدكتور حازم الحلي السيد شاكر محمد الحلي بعنوان (الدكتور حازم سليمان الحلي قدوة وصديق) تناول فيه علاقته المميزة مع الدكتور حازم عبر عقود من الزمن منذ الولادة وحتى انتقاله للسكن في مدينة الحلة، ولولع السيد شاكر بالشعر فقد تأثر بشخصية الدكتور حازم المتميزة وجعل منه قدوة في حياته. وقد تطرق الى بعض المواقف والاحداث التي حصلت وكان له دور متميز فيها، وتطرق الى القصائد الشعرية المتبادلة بينهم.

وفي نهاية الكتاب ملحق للصور الخاصة للدكتور حازم الحلي ولبعض النشاطات الثقافية والاجتماعية التي ساهم فيها عند زياراته الى العراق.

***

صباح شاكر العكام

كتاب عبارة عن عمل بحثي مميز من إعداد عادل المساتي، صادر عن سلسلة المعرفة الاجتماعية السياسية، يتألف من ثلاثة فصول رئيسية تنصرف مضامينها إلى تلخيص النتاج الفكري لجاك بيرك (1910 _ 1995)، والذي يصفه الباحث المغربي بأنه "من رواد السوسيولوجيا الكولونيالية ومن كبار الناقدين والمحررين لها". فما هي أبرز الأفكار التي طرحها هذا الباحث السوسيولوجي الفرنسي عن المغرب، وهو الذي نسج علاقة وثيقة بأهله مكنته من البصم على إنتاج معرفي محترم حول تاريخه وشتى أبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية والوجدانية؟

أولا: المغرب ما قبل الكولونيالي من منظور بيرك

يُرجع جاك بيرك نشأة الدولة بالمغرب إلى النصف الثاني من القرن السادس عشر بالتزامن مع وصول السعديين إلى الحكم، الذين وضعوا جذور مفهوم واقعي للدولة لا يقتصر على المحددات الدينية، هذه النزعة ستتعمق مع الشرفاء العلويين فيما بعد الذين كرسوا النزعة المركزية للسلطة.

وعليه، أقام العلويون مسافة مع "الحركات الشعبية" (القبائل، الزوايا... إلخ) لتلافي التبعية والارتهان لها، وهو ما يتبدى على سبيل المثال في تأسيس المولى إسماعيل لجيش غريب عن القوى الاجتماعية (جيش عبيد البخاري)، مما وضع الإرهاصات الأولية لدولة مركزية، هذا بالإضافة إلى الاعتماد على موارد اقتصادية أخرى مثل التجارة الخارجية عبر الموانئ المغربية لتخفيف التبعية للقبائل من حيث استخلاص الضرائب الزراعية منها.

بيد أن التحليل السوسيولوجي لبيرك لم يذهل عن حقيقة تعدد مستويات السلطة بالإيالة الشريفة، ذلك أن النزوع لمركزة السلطة سيولد نزعة مضادة للمخزن المركزي لدى بعض القوى الاجتماعية التي لطالما حظيت بسلطة رمزية لا يستهان بها كالزوايا، ويضرب الباحث مثلا على ذلك بالدلائيين الذين صعد نجمهم خلال الفترة الانتقالية المضطربة بين حكم السعديين والعلويين.

وفيما يخص الانتشار المجالي للسلطة بالمغرب، تطرق بيرك في البداية للمدينة وأبرز الفاعلين فيها، وفي مقدمتهم البرجوازية التجارية التقليدية التي لم تضطلع بالدور الذي نهضت به البرجوازية الأوروبية في التقدم الاقتصادي والفكري بسبب سلوكها السياسي والعملي المحافظ، وعدم انفتاحها على التطورات التقنية والفكرية الحديثة. وصولا إلى فاعلين آخرين مثل الفقيه الذي عُهِدَ عنه دفاعه عن تطبيق الشرع الإسلامي ضد "الأعراف الجاهلية" للقبائل.

أما في البادية، يعرض جاك بيرك لمناطق السيبة حيث تنشط القبائل بمعزل عن أية تبعية فعلية للمخزن المركزي، وهي التي كانت تشكل عنده حوالي ثلثي مساحة البلاد قبل الاستعمار، ومن أبرز الفاعلين في مجال البادية نذكر القبائل، إلى جانب القياد الذين لطالما سعوا في القضاء على "الديمقراطية الأمازيغية" في تقدير الكاتب.

ثانيا: آثار الحقبة الاستعمارية بالمغرب

يعرض جاك بيرك لتجليات التغيير الذي مس بعض فئات المجتمع المغربي في  عوائدها وأنماط سلوكها كالأكل، إذ يشير في هذا الصدد: "أهم ما يعكس التحول الغذائي يظهر بوضوح في آداب الطعام حيث أن عوض القاعدة السائدة القائمة على الاغتراف من نفس الصحن حيث ينبغي دائما ترك فائض من أجل البركة، أصبحت العائلات البورجوازية تقوم بتوزيع الحصص في الصحون على طاولة مرتفعة". أما فيما يتعلق باللباس، يمكن الإشارة إلى تخلي بعض النسوة عن اللباس التقليدي المحافظ (الجلابة) وارتداء الزي العصري خاصة في المدن ذات التواجد الأوروبي الكثيف ولدى الأسر البرجوازية.

وبالنسبة للتغيرات المجالية، فقد تضررت البادية التي عانت من سطوة وطغيان الإقطاعيين (ملاك الأراضي الكبار) الذين تحولوا إلى قواد كبار في خدمة المستعمر، فضلا عن المعاناة الاقتصادية الناجمة عن توسع أراضي المعمرين الخصبة، الشيء الذي حمل المزارع البسيط إما على الاشتغال لدى المعمر أو الهجرة إلى المدينة ومن ثم التحول إلى عامل بروليتاري مما أدى إلى نشأة مدن الصفيح. وعطفا على ما سبق، نشأت المدن الحديثة (بما تضمه من مرافق صناعية وتجارية) بالموازاة مع التهميش الذي طال المدن العتيقة مثل فاس (من مظاهره تضرر الصناعة التقليدية) التي فقدت مكانتها لصالح الدار البيضاء التي تحولت إلى متروبول اقتصادي جذاب، وآية ذلك هجرة بعض سكان فاس ومناطق الأمازيغ إليها.

وفي الأخير، استعرض بيرك بعض الملاحظات عن الملامح العامة للمغرب المستقل، ومن ضمنها استمرار هيمنة القانون الفرنسي على حساب القانون الفقهي التقليدي الذي اقتصر حضوره على الإرث والمادة العقارية، بالإضافة إلى تعقد الصيرورة المجالية في ظل الحديث عن ترييف المدن (أحياء)àج الصفيح)، وتمدين الريف الذي عرف تزايد التجمعات البشرية وانتقال بعض المرافق الحديثة إليه. وصولا إلى الحصيلة الثقافية للمغرب الحديث، حيث لا ينكر السوسيولوجي الفرنسي التطور الهائل للثقافة المغربية في مجالات الفكر والفلسفة والأدب، إلا أن تلك الدينامية لم تجد بعد امتدادا جماهيريا وشعبيا كبيرا بسبب اختيار طيف واسع من الكتاب المغاربة تأليف أعمالهم بلغة الأجنبي (الفرنسية) رغبة منهم في تحويلها إلى ثقافة كونية.

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

البنية القصصية والرؤية التحيينية المضاغفة

توطئة: تمنحنا البنية السردية في خطاب ومبنى ومتن فضاءات (القصة القصيرة جدا) شكلا مكينا من ملازمات عديدة ومتكاثرة اهمها المادة المخصوصة بـ (صياغة - واقعة - رؤية-اختزال) شيوعا مبررا نحو إستكمالية عملية الإنشاء والنشأة الحادثية المتبلورة ضمن محددات هوية منصوصة للنص، تتجاوز في مضمونها العديد من المتون السردية المطولة والطويلة -اختزالا-  لمحتوى حادثة حكائية - ومضية، لها في الظاهر مصقولية السرد، وفي الداخل حيازية الدليل المقرون بذلك الخطاب المحكي  المراوغ تقاربا وبعدا في حيز متباينات المداليل المدهشة والفجائية والمأزومية والتفارقية، حضورا وإنطلاقا في أوجه مشخصة أو غير مشخصة من عين اللحظة الزمنية والمكانية والفضائية. من هنا لعلنا عند التعامل مع مميزات تجربة أنواعية في المحضر السردي، قد تدفعا عنايتنا الاولى بتلك الجوانب المختصة بما يمتاز به هذا النوع السردي من خصوبة ما أختصت بها تلك المتواليات من البنية الأساسية في مجال أوليات الكتابة للقصة القصيرة جدا، وقد اتحاح لنا المجال للتعرف بمهام هذا النوع السردي من خلال طابعه الاسلوبي وفحوى تجلياته في الإطار والهيئة والصياغة آلتي تتطلب من كاتبها توفير أقصر الحوادث في سبيل بلوغ أكبر الضربات المضمونية إيقاعا ودالا، إذن نحن إزاء مكون جنيني ذات سمات تلفظية مقننة في المساحة والأداء والحد الذي به يكون منتجا يمتلك كل أهليات الجنوح بالمخيلة نحو كيانيات دلالية مكتومة ومعلنة في سياق تفجيرها اللغوي عبر مراحل مختزلة  من علاقة العقد والانعقاد المضموني المنغلق والمنفرج بطريقة أسلوبية برقية خاطفة في الدال ووظيفة المساحة القصوى من الدال.

- شذرات ناعمة: النسيج النصي دالا على زمن ملتبس

في سياق تجربة أقاصيص قصيرة جدا، جاءتنا مجموعة (شذرات ناعمة) للقاص والروائي الجميل فلاح العيساوي متخذة من موصفات الصور اليومية للواقع المعاش، ذلك المحكي المعادل لمجريات لغة الاشياء المجتزءة من  نسيج حالات آنية صادفها القاص في مقاطع ووقفات تشغلهما حسية الفقدان وروح التهكم وتجذير الهوية المفارقة لتلك العناصر والعوامل المتشظية من حقيقة رحم الصراعات النفسانية وسلوكية في حياة الافراد، مما جعلها تبدو  للوهلة وكأنها خليط من مقادير مطموسة في الواقع واللاواقع، وما حفزنا هنا  بتعقب حالات نصوص المجموعة، هو ذلك الرجوع المقارب في تقديم هالات الاشياء عبر أنفاس هذه النصوص،والتي بدا عليها ذلك التوق في رصد أشد الحالات أهمية في الطابع التكويني للنص القصير جدا، وهذا الامر بدورة ما جعلنا نعاين أشكال وبنيات وموضوعات نصوص المجموعة بروح التطلع والتقويم والإضاءة لها وبالترافق مع طبيعة هواجسها الأخذة في المد في علاقات وروابط لأشكال وتلوينات مختلفة المشارب .

1- الفروقات والمقاربات في تكوين إغرائية الدلالة الذروية:

من الممكن أن تبدو بعض تجارب مجموعة (شذرات ناعمة) في قيمتها الفنية غير تامة في ممارسة أدوات الصنعة الحاذقة لهذا النوع السردي بادئ ذي بدء، وذلك نظرا الى شكلها الإيحائي من حيث المرصود الدلالي في الاختيار والحبك بدرجة مقبولة ومؤثرة في الغاية. فهناك حالات بدت وكأنها مجرد خطوط من الإنشاء والافتعال ليس إلا، كحال قصة (أبن العم) وقصة (أدب) على العكس مما وجدناه في حال قصة (انتظار) وقصة (البستاني) أنموذجا: (الاميرة بدور كانت تجلس في شرفتها، المطلة على البستان، شاهدت أبن البستاني يرفع الأدغال الضارة عن الزهور، أعجبت بشخصه وأحبته، قررت الاقتران به، أخبرته برغبتها، رفض لأنه يعشق أميرة أخرى./ قصة: البستاني) لعل خطوات النص شبه مكتملة فنيا، تداخلها الجملة الاسبابية وآثارها الوقوعية من حيز مبررات المعنى (الشكل- الدلالة) ولكنها لا تمتلك في الآن نفسه كل متمحورات (التشاكل- الأداة- الذروة) أو ما يمكننا قوله أن النص يفتقر الى جملة ن تقانة (الادغام- الانفكاك- تفريد الاوضاع) فالنص في حدود مستهله يقدم حالات زمنية تقترب من محمول الأمثولة  التي هي في مادتها غير متوفرة في مجال متحكمات الواقع العيني و للزمن الذي يؤهلها كحالة موضوعية مناسبة، ولكن هذا لا يمنع لو تعاملنا مع النص كحالة إنتاجية فحسب. فالشخصية البستاني يحيا في ظروف علاقة المعنى المجرد، وهو ما يتمثل به عمله من فضيلة ومثالية والجهاد في الاخلاص (يرفع الادغال الضارة عن الورد) فهو بذلك حتما لا يعشق القيم الأهوائية، عشقا خلوصا للفضيلة في حال مثاله الفردي. فالقاص العيساوي وضعنا إزاء بنية تواردية متحررة  ومرتبطة قي أوجه شواغلها النفسانية والقيمية في ذات الطابع من كفاءات المثل في المعنى،ذلك المنحى من المعنى الذي تفترضه خصوصية القيمة الاعتبارية عبر شواغلها النفسانية والشيئية المتكونة بمعنى ما. كذلك تواجهنا قصة (البيضة) وقصة (الحارس الهمام) وقصة (المؤدة) وقصة (انتظار) بذات التنصيص الحامل لذات(التضاد) إذا انها تستند الى لغة مفارقة تضادية في مفعولها التقابلي، لذا فهي من جهة ما محفوفة بصور وحالات ملتحمة في مجال أحدوثتها في النص، مما جعل بعضها وكأنه خطية من المواعظ والنصح، ولكنها ملزمة في مجال تحركها داخل نسيج متماهي في أحواله ومساراته الدلالية المتفارقة بأبعاد تهكمية تارة، و إيمانية تارة أخرى.

1- النص القصصي القصير جدا كخاصية إستعارية في خلفيات التوظيف:

نتبين من خلال أبنية وأشكال أقاصيص قصيرة جدا، موضع بحثنا، بأن الأفعال الأدائية تتلخص عبر إمكانية إستعارية مكثفة في الوسائل والوسائط الايقونية للنص، مما جعل هذه الوسائط بمثابة الموجهات الاتمامية في مصاحبات لعبة تفارقية فنية لها خصوصية قصدية في تفعيل الأدوات والأداة المكلفة في نسيج النص، لذا فلا يجوز للنص وكاتبه أضفاء المقطوعات والاراجيز واللغات المسكوكة على طوابعها الدلالية والإيقاعية، ذلك لأن في هذا النوع من القص السردي، ثمة حالات من المعنى الذي يؤشر على أنها ليست من عواملية التخييل، بقدر ما تكشف عن كونها جملة من الاقتباسات والملصقات التناصية أحيانا، لذا فلكل حالة من نوع ذلك المجموع الملصقي بذاته هو علامة لا تمنح لجنس النص القصصي القصير جدا، ادنى علاقة سياقية وأسلوبية ومرجعية ما، على أن تلعب دورا هاما في مجال متحكمات نوعها الاجناسي ، بل لو تعرفنا على قصة (إنسان)  لوجدنا أن العيساوي يحمل نصه انعكاسات مباشرة لحالات غير مفيدة تماما، فهو يخالط في مكونات نصه مجموعة أشياء لا تعنى بوظيفة دلالية متكاملة، كحال قصة (أوهام) وقصة (,انغام)  فقصة -اوهام-  بحد ذاتها تتمظهر بأسلوب قريبا من الايهام، لتبرز منه حالة خواصية ما كخواصية الاستعارة في بناء القصيدة، وهذا الامر ما راحت تتصف به القصة  الرائعة (بحث) كذلك قصة (بيضاء) الى جانب قصة (تضحية) وقصة (تميمة) فجميع هذه النصوص التي قمنا باستعراضها مؤخرا، تدخل في خانة العد القصصي القصير جدا، ذلك لكونها تعبر في ذاتها عن علاقة (متقاطعة - متبادلة- معادلة - مغايرة في الأداء) على العكس من حال ما تحمله بعض من نصوص المجموعة (شذرات ناعمة) من حالات كأنها لا تستدعي سوى ذاكرة حافظة ومجموعة كلمات تتحرك نحو مواطن سائبة من المقاصد التي لا تمثل سوى الخواء من روح التدليل النصي الرصين.

أريج أفكاري: الإيغال في عمق اللعبة المحكية القصيرة جدا

يمكننا قبل توجيه اية وصاية للقارئ بشأن مجموعة (أريج أفكاري) ننوه القارئ بهذه المدخلية:

لعل أهمية فن القصة القصيرة جدا، يكمن في وضع القارئ في مراحل من الانتظار والتعالق في زمن الترقب لما سوف يؤول إليه مصير العناصر العاملية الفاعلة في النص، فالقصة القصيرة جدا، تعبر عن ذاتها كممارسة في رسم التوقع في اللامتوقع، وزرع اليقين في اللايقين، فهي حركية ملفوظية على مستوى من صيغة التوكيد في اللاتوكيد والتحديد في اللاتحديد، هي دون شك حرية في اختيار الموضوعة، ولكنها قيدا في الشكل وصنعة الأداء، لابد لنا وممن تستهوية كتابتها توفير المصادفات والاحوال التعالقية، لا ان نبلغ مرحلة ثقيلة في صعيد توظيف الجاهز من الصور والحالات المقتطعة من مفاوز اصولها المتنية.. تبدأ القصة بمرحلة تعد بمثابة التشاكل الاحوالي، ولكن لا تنتهي من حيث هي بذاتها كمعادلة وظيفة رؤية خطية في الزمن وتراتيبية المعنون الإنشائي. إذا تعاملنا مع القصة القصيرة جدا، على كونها ظاهرة مستقرة من ناحية  الأداء، فهذه بدورها علاقة مرسل ومرسل إليه، إذ لا ترقى بهذا الامر الى ان تشغل حيزا من جنبات القص إطلاقا، بل هي حدوتة فحسب. عند معاينة وظائف القصة القصيرة جدا، نجدها مجموعة جمل دلالية مزدوجة في ترسيخ الإيحاء والتلميح والشيفرة، وكأنها بنية على درجة عالية من شعرية الدال الانزياحي، ولا تبلغ القصة القصيرة جدا قيمتها الفنية،الإ بمرجحات الدلالات المضمونية الصادمة، اي الاكثر اختلافا مما قامت بتقديمه حركية الدوال في المتن النصي، هي قبلة في الظلام على قول احد النقاد في الغرب، تعلم بحرارة عاطفتها ولكن لا تدري بأي المقاصد فكرتها وبواعث مواطنها، هي صدى صرخة في جدار عتيق، فهذه الصرخة جعلت بنى اصداءها تتردد وتتوزع في كل ناحية من ذلك الجدار، رغم زمن قدمه . تبعا لهذا وذاك نطالع أقاصيص مجموعة (أريج أفكاري) لنجدها أكثر نضجا وتطورا في أدواتها وسحر صنعتها من ناحية علاقات النصوص  التماثلة في تشكلات شيقة تمتد عبر زمن الكتابة كديمومة فاعلة بالموسوم الحبكوي، لذا تواجهنا نصوص رائعة كـ (أريج- انطلاق- احتراق- أدوار- ارهاق- فرار- توسل - الرئيس- الهام- العراق)

- تعليق القراءة:

من على هذا النحو الذي وجدنا فيه مجمل تصديرات هذه النصوص القصصية القصيرة جدا، علمنا أن مستويات الكتابة لدى العزيز فلاح العيساوي للقصة القصيرة جدا، هي عبارة عن تمثيلات لأحوال منفردة ومتفردة لها حقيقة الملفوظ كواقعة محتملة، ولكنها لا تنتهي بغير تقديم المسافة المفارقة للمتن، وغالبا ما تكون الضربة المضمونية هي حجر الزاوية أو البؤرة المركزة التي منها تشع دلالات الدوافع واعمق خلجات الرؤية التحيينية في بواطن الإحساس بعدم شعورنا بالنهاية المنتظرة أو المتوقعة.

***

حيدر عبدالرضا – ناقد عراقي

بقلم: ريبيكا روث غولد

ترجمة: لبنى بجديكن

***

يُعد الفيلسوف الهندي عقيل بلجرامي من أهم وأقل النقاد المعروفين لليبرالية المعاصرة، خاصة فيما يتعلق بنقط الضعف لديها تجاه فلسطين. بعض من أفضل أعماله مكرسة لنحت مساحة للنشاط الفلسطيني ضمن تقليد حرية التعبير. من أجل خلق هذه المساحة، يرى بلجرامي أن الفهم الليبرالي السائد لحرية التعبير بحاجة إلى تحول جذري.

تطور تفكير بلجرامي حول حرية التعبير في جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك، وهي المؤسسة التعليمية التي شهدت نشاط الناقد الفلسطيني-الأمريكي إدوارد سعيد. وشهدت جامعة كولومبيا مؤخرًا اهتمامًا إعلاميًا بسبب الهجمات العنيفة على طلاب متظاهرين مؤيدين لفلسطين باستخدام مادة كيميائية للسيطرة على الحشود تعرف باسم "السكنك". وقبل فترة طويلة من احتجاجات عامي ٢٠٢٣ و٢٠٢٤، استُهدف طلاب جامعة كولومبيا بحملة قمعية على حرية المعارضة فيما يتعلق بفلسطين.

جامعة كولومبيا هي أيضًا الجامعة التي حصلت منها على درجة الدكتوراه في دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا وإفريقيا. لم ألتقِ بلجرامي قط، لكنني شعرت بالشرف عندما أيد كتابي "محو فلسطين" (٢٠٢٣) باعتباره "كتابًا راقيًا وشجاعًا يتعامل بجدية مع كل من 'محو' فلسطين الوحشي من خلال سياسات الدولة الصهيونية ومع ظاهرة معاداة السامية".

كما أشار بلجرامي في مراجعته، "يمكن التلاعب بالتعريفات وقد تم التلاعب بها لإعلان كل الانتقادات للدولة الإسرائيلية بأنها معادية للسامية بشكل افتراضي مسبق، ولكن المقاربة الجينالوجية الاجتماعية-الاقتصادية بالمقابل تسمح لنا بتأكيد أكثر القيم الإنسانية أهمية - حرية التعبيرـ التي هي ضرورية في النضال والكفاح ضد محو فلسطين."

بدأ بلجرامي بتطوير نقد لمفهوم جون ستيوارت ميل لحرية التعبير في عام ٢٠٠٧ في وقت كانت فيه حياة ومسيرة كل من العالم السياسي نورمان فينكلستين والأنثروبولوجية نادية أبوالحاج تتعرض لهجوم شديد من مجموعات الضغط الإسرائيلية. ومع استمراره في تطوير حجته، تعرض الناقد الثقافي ستيفن سلايطة "لإلغاء التوظيف" من جامعة إلينوي عام ٢٠١٤ في واقعة شهيرة. وفي كل حالة، ارتبط الجدل بكتابات هؤلاء العلماء حول إسرائيل.

في حين تم منح نادية أبوالحاج في نهاية المطاف حيازة المنصب، تم طرد فينكلستين من الأكاديمية إلى الأبد. وتم رفض منحه التفرغ الوظيفي من قبل جامعة ديبول في عام ٢٠٠٦، على الرغم من سجله البارز في النشر ودعم قسمه له.

وإلى جانب مساعيه الأكاديمية، كان بلجرامي صريحاً بشكل خاص في دفاعه عن العالم السياسي والناشط فينكلستين، كما يتضح في هذه الندوة المهمة بعنوان "دفاعاً عن الحرية الأكاديمية"، التي أُقيمت نتيجة الرفض الجائر لمنح فينكلستين التفرغ الوظيفي.3569 Rebecca Gould

نقد ميل

يبدأ دفاع بلجرامي عن "التفاوت المتعمد" بنقد جون ستيوارت ميل، مؤلف كتاب "عن الحرية" (١٨٥٩)، والذي يُعد من أكثر الكتب تأثيرًا في الدفاع عن حرية التعبير على الإطلاق. يقدم ميل عدة حجج حول سبب وجوب أن تتسامح الدول الديمقراطية مع الأفكار التي نكرهها، مع التركيز على أكثرها تأثيرًا. ويظل اقتراح ميل (باستخدام مصطلحات بلجرامي) "التسامح مع الآراء المخالفة فقط في حالة كون آرائنا الحالية خاطئة وهذه الآراء المخالفة صحيحة" من الركائز الأساسية للفهم الليبرالي للحرية الأكاديمية. ومع ذلك، فإن الأشخاص الذين يدافعون عن حرية التعبير على هذه الأسس يلحقون في الواقع المزيد من الضرر بدلا من النفع لقضية حرية التعبير والحرية الأكاديمية.

كما يلاحظ بلجرامي، فإن الحجة التي تدعم حرية التعبير المعتمدة على مفهوم التوازن كحماية ضد احتمالية الخطأ غير متماسكة حتى بشروطها الخاصة. فهي مبنية على الاعتقاد بوجود نقطة "أرخميدية" ثابتة يمكننا من خلالها تقييم النزاعات المستعصية بدقة، وعلى إنكار دور الذاتية في تكوين أبسط معتقداتنا.

ومع ذلك، فبغض النظر عن مدى عدم تماسكها، فإن هذا الخيال له تأثير في حاضرنا السياسي لأن "عدم التوازن" غالبًا ما يكون الأساس الذي يُستخدم لتشويه صورة المدرسين الجامعيين ونشطاء القضية الفلسطينية على أنهم معادون للسامية.

بشكل أعم، يُعد "التوازن" عنصرًا أساسيًا في العديد من قوانين حرية التعبير الإدارية للجامعات التي تظهر احترامًا شكليًا لحرية التعبير. لقد شجعني مسؤولون جامعيون بنفسي على إظهار التوازن كلما أتحدث عن فلسطين أو حتى عن حرية التعبير بشكل عام. كما أن الدعوة إلى التوازن هي أيضًا وسيلة لإسكات الأصوات المعارضة وتهميش الآراء غير السائدة.

إذا أخذنا في عين الاعتبار قضية ربا صالح، وهي عالمة أنثروبولوجيا افتُرض أنها تفتقر إلى 'التوازن' لأنها فلسطينية. في عام ٢٠١٧، تمت إزالة صالح من رئاسة حدث لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) في جامعة كامبريدج. كما يميل هذا الجدل إلى القول إن الحل لمثل هذا الاختلال هو فرض نموذج "التوازن" بشكل مصطنع، بحيث يتعرض الطلاب لكلا الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني. تكمن مشكلة مثل هذه الأساليب في افتراض قدرة دقيقة للغاية على تحديد الأرضية المتوسطة من قبل إداريي الجامعة، غالبًا دون ترك المسألة مفتوحة للنقاش.

حرية التعبير في الفصل الدراسي

يوضح بلجرامي بحق أن هناك عددًا قليلاً من المواضيع في العلوم الإنسانية التي تستفيد جيدا من أعمال الموازنة المصطنعة التي تقوم على الادعاء برفض الالتزام بوجهة نظر واحدة. وإليكم السبب: يجب على أي مدرس في الفصل أن يبذل جهداً ليس فقط ليكون على اطلاعٍ معقول على المواد التي يخطط لتدريسها، ولكن أيضًا لاتخاذ قرار بشأن أكثر الروايات إقناعًا وأكثر التفاصيل أهمية لتقديمها للطلاب، من بين كم هائل من المواد والأدلة والادعاءات.

قد تولد الانتقائية تحيزًا، ولكنها شرط معرفي وليست مشكلة في حد ذاتها. وبشرط أن يتم اختيار مواد الدورة الدراسية بحكمة، فإنه من السخف الإصرار على أن جميع جوانب قضية معينة يتم معاملتها بالتساوي. هل نطالب لمؤيدي فرضية أن الأرض مسطحة بأن يكون لهم مكان في سياق الفصل الدراسي؟ بالطبع لا. وكذلك الأمر بالنسبة لأولئك الذين يبرئون إسرائيل من جرائمها أو يقمعون حقائق رئيسية حول النكبة أو الهولوكوست، أو الفظائع ذات الصلة لأهداف سياسية.

ليست كل الأفكار والحجج صالحة بنفس القدر، ولا يوجد مدرس أو باحث مسؤول يتظاهر بأنها كذلك. وبالتالي فإن حرية التعبير ليست مسألة رفض دائم للالتزام، أو البحث عن شعور بعيد المنال بالتوازن، كما قد تقودنا تصريحات إداريي الجامعات إلى الاستنتاج.

حقيقة أننا يجب أن نلتزم بوجهة نظر معينة من أجل التدريس بشكل فعال لا تعني أننا نفشل في احترام حق الآخرين في الاختلاف معنا. ان التسامح مهم، ولكنه لا يوفر أقوى دفاع عن حرية التعبير.

التوازن ليس أهم معيار للانتقاء، خاصة في الحالات التي يكون فيها الوسط محل نزاع بحد ذاته. بدلاً من ذلك، يجب أن توجهنا معايير مثل الدقة والعمق. ستكون المعلمة الجيدة متواضعة، منفتحة الذهن، وصادقة في الاعتراف بمجالات الارتباك والشك. لكنها ستكون قد توصلت أيضًا إلى استنتاجات معينة بناءً على الأدلة المتاحة لها. تكمن مسؤوليتها كمدرسة في توصيل تلك الاستنتاجات ووجهة النظر التي تستند إليها بأكبر قدر ممكن من الفعالية، وليس السعي لتمثيل جميع الأطراف وجميع وجهات النظر. إن القدرة على ممارسة مبدأ الانتقائية جزء من التدريس والبحث والتفكير الجيد.

إذا لم نتمكن من التوصل على الأقل إلى استنتاج مبدئي بشأن المسألة المطروحة يتجاوز الشرط الميكانيكي للتوازن، فكما يسأل بلجرامي، ما جدوى العمل الذي ينبغي أن نقوم به في الفصل الدراسي في المقام الأول؟

يجب على المدرسين أن يكونوا مطلعين على المواضيع التي يدرسونها، ولكن سيكون من السخافة توقع ألا يكون لديهم أي رأي على الإطلاق. يعزو بلجرامي "المطالبة المستمرة بأن نقدم دائمًا كلا الجانبين من الخلاف" إلى " مفهوم التعليم على أنه نوع من التردد المزمن." بعيدًا عن كونه موضوعيًا أو محايدًا، فإن المدرس الذي يخضع لمفهوم ميكانيكي للتوازن بشأن أي قضية، بما في ذلك قضية فلسطين وإسرائيل، يقوض مصداقيته الخاصة في الفصل الدراسي. يتطلب التدريس الجيد القناعة، والقناعة تتطلب اتخاد مواقف.

حرية التعبير خارج حدود الفصل الدراسي

لا يقتصر النقاش هنا فقط على أساليب التدريس أو البيداغوجيا داخل الفصل الدراسي، بل يتعلق بالتفكير بشكل عام، والعملية التي نحدد من خلالها قناعاتنا، والحيز الذي نمنحه للقناعات التي نختلف معها.

يسعى بلجرامي إلى تأسيس حرية الأكاديمية على أرضية أوسع. وهو يعترف بالقيمة المطلقة لتعدد وجهات النظر والمنظورات والخلفيات في البيئة الجامعية. بالنسبة إلى بلجرامي، فإن التنوع - وليس التسامح - هو الحجة الأكثر إقناعًا للحرية الأكاديمية.

لكن التنوع الفكري بحد ذاته لا يكفي لتوضيح مسؤولية المثقف، والتي تتمثل في قول الحقيقة في وجه السلطة، حتى وإن كان ذلك أحيانًا محفوفًا بمخاطر شخصية جسيمة. يجب على المثقف الذي يقول الحقيقة في وجه السلطة أن يأخذ في عين الاعتبار ليس فقط محتوى ما يجب قوله، بل أيضًا السياق الذي سيتم سماعه فيه والذي قد يتم التصرف بناءً عليه.

لا تكتسب حرية التعبير معنى إلا في علاقتها بالجمهور، والذي بدوره يعني مجتمعًا سياسيًا وسياقًا محددًا. وبعيدًا عن تلبية ما قد يرغب الجمهور في سماعه، يجب على المثقفين الملتزمين والناشطين والباحثين الحياديين أن يركزوا انتقاداتهم على وجه التحديد على ما يقل احتمال أن يرغب أصحاب السلطة في سماعه. بهذا المعنى، فإن الحرية الأكاديمية لا تنفصل عن الحرية بشكل عام.

لنأخذ واحدًا من أكثر الأمثلة المؤثرة لشخص جمع بين احترام حرية التعبير والتحقيق النقدي مع القناعة، المثقف اليهودي البولندي إسحاق دويتشر (١٩٠٧-١٩٦٧) الذي أصر على أن هويته تلزمه بالتمسك بنوع معين من التحيز. وفقًا لكلمات دويتشر نفسه "أنا ... يهودي بحكم قوة تضامني غير المشروط مع الذين يتعرضون للاضطهاد و الابادة." وكان تحيز دويتشر ضد العنصرية، وفي النهاية ضد الصهيونية. ما يراه بلجرامي كمهمة للمثقف هو بحد ذاته ما يربطه دويتشر بهويته كيهودي.

من المستحيل تشريع ما يعنيه التضامن مع المضطهدين على المستوى الفردي. أولئك الذين يفرضون مفهومًا وهميًا للموضوعية على ما يسميه بلجرامي "عدم التوازن المتعمد" غالبًا ما يخفون دوافع سياسية تحت ستار الحياد. بدلاً من الاستسلام لمطالبهم، يجب أن نركز على كيف يمكننا استخدام عدم التوازن المتعمد - وهو ما يسميه دويتشر "التضامن غير المشروط مع المضطهدين" - لتعزيز حرية جميع الشعوب المضطهدة. نحن نفعل ذلك تحديدًا لأننا نؤمن بحرية التعبير، وليس بسبب تسامح مجرد لجميع الآراء الممكنة.

يعيدنا نقد بلجرامي لميل إلى نقطة البداية. إن انتقادات سلايطة لمفهوم الحرية الأكاديمية مبررة كنقد لليبرالية التاريخية والمعاصرة، بما في ذلك ميل والنهج الأنجلو-أمريكي لحرية التعبير الذي أحدثه، والذي لا يزال معياريًا ضمن الليبرالية المعاصرة.

حرية التعبير والحرية نفسها

نحن اليساريون نرى ما وراء التركيز الليبرالي على مسألة التوازن، ويمكننا التفكير في أسس مختلفة تكون أكثر ديمقراطية وأكثر جذرية لحرية التعبير، والتي تكون أكثر تعزيزًا في نهاية المطاف إلى تحرير فلسطين، وتحرير الجميع، لأنها تتطلب منا اتخاذ موقف. هذا المفهوم لحرية التعبير هو امتداد للحرية نفسها، يطبق على مجال اللغة، ولا يمكن لأي سياسة يسارية الاستغناء عنه. لقد طور كل من ماركس ولوكسمبورغ وترو تسكي مقاربات يسارية مختلفة ومبررات لحرية التعبير. بالنسبة لكل مفكر، يعتبر الحلم الماركسي بإلغاء الرقابة أساسيا للنضال من أجل المساواة.

بغض النظر عن وجهة النظر التي يتخذها المرء، من المهم أن ندرك أن الحاجة إلى حرية التعبير غريزية بقدر ما هي فكرية. إنها ضرورية ليس فقط للازدهار الديمقراطي، ولكن أيضًا بشكل أكثر جوهرية للحياة البشرية نفسها. تمنح حرية التعبير صوتًا للآراء التي ترغب السلطات السياسية في قمعها. بالنسبة لأولئك الذين يمارسونها ويشجعون عليها، فإنها تساعدنا على تقبل من نحن ومن نريد أن نكون.

عندما تم إسكات صوتي وتمت مصادرة آرائي، تعرضت قدرتي على الوجود كإنسان للتهديد. في المنظور العام، كانت الرقابة التي تعرضت لها طفيفة؛ وقد تم توثيق العديد من حالات القمع الأسوأ، وخاصة للفلسطينيين، على نطاق واسع. تقوم المبررات لحرية التعبير التي تعتمد على التركيز الليبرالي على التوازن بحجب ما يعنيه حقًا إسكات صوت شخص آخر. إن الإسكات هو إنكار، من خلال لغة الاعتدال والتوازن، لحقهم في الوجود نفسه. احترام حرية التعبير هو احترام الحياة نفسها.

***

(ترجمة: لبنى بجديكن)

علم الاجتماع التّربويّ.. استجابة ضروريّة لعالم متحوّل وشرط متأكّد للتّقدّم الحضاريّ.. قراءة في كتاب «سوسيولوجيا التّربية: إضاءات نقديّة معاصرة» للدّكتور علي أسعد وطفة35669 علي وطفة

هذا كتاب قرأناه فشدّنا وأجاب عمّا انتظرناه منه (..) ولا نُغالي في شيء إن ذهبنا إلى أنّ كتابا في مثل قيمة «سوسيولوجيا التّربية: إضاءات نقديّة معاصرة» يصحّ فيه قولان للأديب التّونسيّ الكبير محمود المسعدي: «وإنّ هذا الكتابَ كالصّوت أو كالصّيحة في وادٍ به حاجة إلى ما يردّد صداه ويُسري فيه خَلجة الحياة.» و «وإنّ كلّ كيان لَجَهدٌ وكسبٌ منحوت»...  د. خير الدين زرّوق(1).

***

 مقدّمة:

إنّ مسؤوليّة المثقّف الّذي يدعوه موقعُه والتزامُه إلى أن يطرح القضايا ويوقظ وعي النّاس ويسائل معهم الواقع ويبحث عن الحلول هي مسؤوليّة كبيرة جسيمة، إذ ينبغي عليه أن يرصد تحوّلاتِ المجتمع ويتفطّن إلى ما ينشأ من صيرورات وأطوار وما يستجدّ من أوضاع تنطوي على إشكالات وتحدّيات. وهو في نشاطه المعرفيّ ذاك يستند إلى روافد فكريّة نظريّة وإلى دراية واسعة بالميدان. يستحضر باستمرار السّياقَ الحاضرَ، ولا يُغفل الالتفات إلى الماضي، وتكون له القدرة - والجرأة - ليتطلّع إلى المستقبل.

ليس لزومُ الأبراج العاجيّة للتّأمّل المجرّد والجلوسُ على الرّبوة للتّفرّج ولترقّب الانهيار القادم موقفين يناسبين المفكّر الحقّ، وليس التّسليمُ بهذه الحتميّة العدميّة وبانتفاء القدرة على منعها حلاّ يَركن إليه ويرضى به، فالمنتظرُ منه أن يشارك في الخوض في مسائل عصره وأزماته، بل أن يكون في الطّليعة والمقدّمة، فيمثّل للنّاس مرجعيّة وسلطة اعتباريّة مأتاهما حملُه لرسالة ومهمّة تاريخيّتين في التّوعية والتّحفيز والإصلاح.

ويثقُل العبء وتعظُم المسؤوليّة في العصور الّتي يَعصف بها الشّكّ وتكثر فيها الاهتزازات. فعالمنا المليء بوعود التّقدّم والازدهار والمزهوّ بما أنتجته الحداثة من وسائل مادّيّة سهّلت العيش هو كذلك محفوف بالمخاطر وتنتشر فيه الآفات. وقيمة الإنسان وإنسانيّته في تراجع وانحدار يبعثان فينا الحيرة والفزع ويدفعاننا إلى إعمال العقل والتّدبّر.

ويواجه المجتمع العربيّ، ككلّ المجتمعات السّائرة في طريق النّموّ، عولمة لا يجد فيها مكانه ولا دوره وتقضي عليه بأن يرتدّ إلى الهامش وأن يكون تابعا. إنّه يتخبّط في الأزمات وينشدّ إلى القيود والجمود، وتدلّ كلّ مؤشّرات التّنمية - في شتّى مناحي الحياة - على أنّه في أدنى التّرتيب وأنّ مساهمته في المعرفة ضئيلة لا تكاد تُذكر. وهو في الغالب محكوم عليه بمجاراة الآخرين الّذين سبَقوه إلى التّقدّم، يتلقّى بانبهار ما ينتجونه ويعجز عن التّطوير والإضافة.

وإنّ ما عليه العالم من سمات التّعقّد والتّحوّل والتّموّج والاضطراب، وما يغلب على المجتمع العربيّ من سمات الرّكود والتّخلّف والتّبعيّة، يؤكّدان مكانة التّربية ويُبرزان الحاجة إلى تعميق التّفكير وتجديد المقاربات لإدراك هويّتها الاجتماعيّة والإمكانات المتاحة لتكون دعامة أساسيّة وعاملا إيجابيّا في تحقيق التّنمية والعدالة. ويكون ذلك بتطوير الدّراسات والبحوث واتّخاذ وجهة عقلانيّة موضوعيّة في تناول المواضيع التّربويّة وشرحها للنّاس وتوعيتهم بها.

وإن تكن الكتابات العربيّة قليلة في هذا المجال فلا يعني ذلك غيابَ جهود تُبذل لتقديم عطاء متميّز. وفي هذا الاتّجاه، صدر مؤخّرا للمفكّر الدّكتور علي أسعد وطفة(2) كتاب يستحقّ أن نَطّلع عليه ونتمعّن فيه ونخُصّه بالدّراسة، وهو: «سوسيولوجيا التّربية: إضاءات نقديّة معاصرة».(3) ويتّصل موضوعُه - كما يدلّ عليه عنوانُه - بفرع مهمّ من علم الاجتماع العامّ ومبحث من أبرز مباحثه، هو علم الاجتماع التّربويّ. ويشير العنوان كذلك إلى صبغة الدّراسة الّتي ستكون نقديّة معاصرة.

ونهتمّ في هذا المقال بالكتاب المذكور، فنصِفُ بناءه ونعرض محتوياته، ونقدّم حوله قراءة نأمل أن تتيح لنا الوقوفَ على أهمّ أطروحاته واستجلاءَ قيمتِه ومكامنِ الإضافة فيه، وتساعدنا على رصد الآفاق الّتي يفتحها ويحثّ على ارتيادها.(4)

وتُصاحبنا مجموعة أسئلة نسعى إلى الإجابة عنها: ما حقيقة علم الاجتماع التّربويّ؟ وما صلتُه بالحقول المعرفيّة الاجتماعيّة والإنسانيّة؟ وأيّة وظيفة له في عالم يزخر بالتّحوّلات وتحكمه علاقات قوّة وصراع وتشتدّ أخطاره؟ وكيف يُعتبر تأصيلُ هذا العلم وتجديده شرطين ضروريّين لتطوير المؤسّسة التّعليميّة عند العرب ولتقدّمهم الحضاري؟

I - تقديم الكتاب:

يتألّف الكتاب - إضافة إلى إهداء ومقدّمة وخاتمة - من ثلاثة وعشرين فصلا تتوزّع على سبعة أقسام. وتُمثّل هذه الأقسام السّبعة محاور مرتبطة بالموضوع المدروس وجوانب أساسيّة فيه ينبري الباحث لشرحها ويُخضعها للتّفكير والتّحليل وينظر إليها بعين النّقد. وهي التّالية:

- القسم الأوّل: نشأة علم الاجتماع وتطوّره تربويّا (يضمّ أربعة فصول)

- القسم الثّاني: الثّقافة والإعلام والتّنشئة الاجتماعيّة (فيه ثلاثة فصول)

- القسم الثّالث: الدّيموقراطيّة وتكافؤ الفرص التّعليميّة (يشتمل على أربعة فصول)

- القسم الرّابع: الأيديولوجيا والتّربية (يتضمّن ثلاثة فصول)

- القسم الخامس: الاغتراب التّربويّ (فصوله ثلاثة)

- القسم السّادس: قسم التّعليم العربيّ والجامعيّ (يتكوّن من ثلاثة فصول)

- القسم السّابع: نماذج رياديّة (ذو فصول ثلاثة)

ويُستهلّ كلّ فصل بتصدير(5) يتضمّن قولة لأحد المفكّرين أو الكُتّاب أو المشاهير (هؤلاء المشاهير هم: القدّيس أوغسطين، الرّئيس الأمريكيّ باراك أوباما، الممثّل جورج كارلين) أو للكاتب نفسه (وهذا شأن التّصدير في الفصل الثّالث، والفصل الحادي عشر، والفصل الثّالث عشر، والفصل الثّامن عشر، والفصل التّاسع عشر) (6)

إنّ الكتاب ثمرة وعي بأنّه يَلزم التّجديدُ في مقاربة الظّواهر الاجتماعيّة، فـ «نظرا إلى تعقّد الظّروف الحضاريّة والتّاريخيّة للمجتمعات الإنسانيّة في عالم اليوم، يواجه علم الاجتماع تحدّيات جديدة راهنة مختلفة نوعيّا عن تلك الّتي عرفها خلال القرن العشرين.»(7) ومن الضّروريّ كذلك إحلالُ البحث السّوسيولوجيّ في التّربية منزلتَه باعتباره يمثّل «أحد أهمّ العلوم الاجتماعيّة التّي تأخذ بأطراف العلاقة بين المجتمع والتّربية على نحو شامل وتعمل على تقصّي أبعاد هذه العلاقة وحدودها في ضوء المنهجيّات السوسيولوجيّة المتقدّمة ونظريّاتها المتجدّدة.»(8)

ويؤاخِذ الباحث على أهل هذا العلم من الدّارسين العرب تقصيرَهم في الابتكار واكتفاءَهم بتَرداد المقولات الغربيّة، وكذلك نظرتهم إلى الموضوع التّربويّ دون وصله بعلم الاجتماع العامّ، وهو ما يحول دون فهمه حقّ الفهم، فلا تُدرك أهميّته ولا يُكتشف ما ينطوي عليه من إمكانيّات لتطوير المنزلة الإنسانيّة. كما يوجّه سهامَ نقده إلى ما يغلب على الخطاب التّربويّ من شعارات ومقولات و«ينبغيّات»، إذ هي تصدر عن طروحات قاصرة عن تحقيق الإصلاح والتّغيير المنشودين.(9)

ومن مكامن النّقص، حسَب رأيه، أنّ «الحقيقة الاجتماعيّة للتّربية ما زالت، في إطار خصوصيّتها العربيّة، تشكو الغموض المعرفيّ.»(10) لذلك يلزم أن يُراعَى الانسجامُ بين النّظريّات الكبرى في علم الاجتماع وتجلّياتها التّربويّة في مجال علم الاجتماع التّربويّ، فليس من فهم ممكن لقضايا هذا العلم بمعزل عن معرفة حقيقيّة بخلفيّته الفكريّة في علم الاجتماع العامّ. (11)

إنّ إيقاع التّغيّر الاجتماعيّ سريع ومخيف والمشكلات آخذة في الازدياد والحدّة والخطورة، لذلك تبرز ضرورة مواكبة علم الاجتماع - والعربيّ منه على وجه الخصوص - لهذه الاتّجاهات الجديدة في حركة المجتمع والعالم.(12)

وإذا كان المُنجَز في هذا المجال هو دون ما يُنتَظر وما يُحتاج إليه، فإنّه من المتأكّدِ العملُ على تمتين الصّلة بين علم الاجتماع التّربويّ وعلم الاجتماع العامّ، ومن المشروعِ الطّموحُ، في مرحلة ثانية، إلى تأصيل علم اجتماع عربيّ تكون له القدرة على إثارة الأسئلة المرتبطة بالعصر، ومن ثَمَّ المساهمة في حلّها، وذلك عن طريق تشكيل الوعي العربيّ النّقديّ بالمسألة التّربويّة وبمختلف إشكالاتها ورهاناتها. لا بدّ، إذن، أن يسلك الباحث سبيلا تخالف المنحى الغالب على الدّراسات العربيّة، ويقتضيه ذلك أن يطيل الوقوف عند ماهيّة علم الاجتماع العامّ ونشأته، مع اهتمام كبير بمختلف مسائله ونظريّاته واتّجاهاته.

يتّجه الاهتمام في البدء إلى التّعريف بعلم الاجتماع وبيان تطوّره. ويُوطّأ لذلك بكشف أصوله التّاريخيّة، وبالإشارة إلى إسهام العرب المسلمين بأدب الرّحلة ووصف البلدان في التّمهيد لنشأته.(13) ثمّ يُقدّم مفهومُ هذا العلم بشمول وتبسيط في آن واحد.(14) وتُعرَض جهودُ المفكّرين الغربيّين الّذين كانوا سبّاقين إلى تأسيسه.(15) ويتّضح من هذه المقدّمات أنّ علم الاجتماع قد ارتبط بصعود النّظام الرّأسماليّ الحديث، وأنّ المفكّر الفرنسيّ «إميل دوركهايم» كان له الدّور الرّياديّ العظيم في إرساء مقوّماته وإيضاح هويّته.

والموضوع الّذي يُعنَى به علم الاجتماع هو الإنسان كما يعيش ويفكّر ويرتبط بعلاقات حياتيّة ويخضع لشروط الانتماء الاجتماعيّ. إنّه يدرس المجتمعَ في حركته وتطوّره والإنسانَ في تفاعله مع ظروفه والمؤثّرات المحيطة به، وفي إبداعه للنّظم الفكريّة والمؤسّسات التّي تعبّر عن تطلّعاته وتستجيب لحاجاته في مكان وزمان معيّنين.

وتتجاوز الدّراسة الاجتماعيّة العَرَضيّ وما ظهر على سطح الأشياء والوقائع لتنفذ إلى باطنها وجوهرها وتُميط اللّثام عن عللها وأسبابها وأبعادها وتستنبط قوانينها الجامعة، وبذلك تتوفّر المعرفة اللاّزمة لتوقّع التّطوّر اللاّحق وللتّحكّم في المسارات المستقبليّة، وتتهيّأ الشّروط الموضوعيّة لتحقيق التّقدّم.

يفضي هذا التّتبّع لأصول علم الاجتماع ومبادئه إلى مرحلة ثانية يمضي فيها الباحث في تَعداد ما ينضوي داخل هذا العلم من مسائل، فتوفّر فصول الكتاب(16) أطرَ تفكير في الحياة المعاصرة الّتي تتسارع فيها وتيرة التّغيّر والّتي تطرح على الإنسانيّة قضايا ومشاكل تتّسم بالتّنوّع وتفرض تأسيس خطاب معرفيّ وتربويّ يكون مناسبا لها ومسايرا.

وإنّه لمن الطّبيعيّ والضّروريّ البدءُ بتحديد علم الاجتماع العامّ - ماهيّة ومنهجا ومسائل - لإبراز الخلفيّة المعرفيّة الّتي يستند إليها علم الاجتماع التّربويّ، فهذا العلم الفرع مرتبط شديد الارتباط بالعلم الأصل، ومن دلائل ذلك أنّنا نظفر في أعمال «دوركهايم» و«جون ديوي» و«ماكس فيبر» و«كارل مانهايم» و«كارل ماركس» - وهم من مؤسّسي علم الاجتماع ومن ممثّلي أبرز تيّاراته - بالمقدّمات النّظريّة الأولى لنشأة النّزعة الاجتماعيّة في التّربية. وقد شهد الفكر السّوسيولوجيّ نموّا وازدهارا منذ النّصف الثّاني من القرن العشرين في محاولة للإحاطة بالأبعاد الاجتماعيّة للعمليّة التّربويّة وللكشف عن الرّوابط بين المدرسة والبيئة المحيطة بها في مظاهرها المختلفة. وكان دوركهايم، بالإضافة إلى شهرته عالما اجتماعيّا، من أوائل المفكّرين الكبار في التّربية. وإليه يعود الفضل في تأكيد طابعها الاجتماعيّ. وقدّم الباحث بتوسّع آراءه الّتي توضّح هذه الحقيقة،(17) كما أورد تعريفات وأقوالا تبرز العلاقة الوثيقة بين الظّاهرة التّربويّة والحقائق الاجتماعيّة.(18)

وإن يكن علم الاجتماع التّربويّ مرتبطا بعلمه الأصليّ كلّ هذا الارتباط، فإنّه استطاع - بعد ذلك - أن يصير معدودا ضمن العلوم المستقلّة. وهو ما يجيز لنا أن نقول إنّ «سوسيولوجيا التّربية»(19) تَخَصُّص منبثق من علم الاجتماع ينشغل أصحابه بالتّربية باعتبارها ظاهرة اجتماعيّة، فينظرون إلى مُجمل العوامل والمؤثّرات الاجتماعيّة المحيطة بالفعل التّربويّ وبالمسار الدّراسيّ، ويفكّرون في الوسائل الّتي تطوّر أداء المؤسّسة المدرسيّة لتكون قريبة من المنتسبين إليها تلبّي حاجاتهم وتُعدّهم للنّجاح في واقع وعالم قانونُهما التّغيّر المستمرّ.

ولهذا المبحث صلات وثيقة بالعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة (علم النّفس والفلسفة وعلم الاقتصاد والأنثروبولوجيا)، بما يجعلنا نرى فيه انفتاحا على حقول معرفيّة متعدّدة واستثمارا لمنطلقاتها ونتائجها.

نحن نعرف أنّ مفهوم التّربية يتعدّى الإطار التّعليميّ الضّيّق ليكون شأنا اجتماعيّا مركّبا، وهو معطى يتأكّد في عصرنا الرّاهن ويكتسب أبعادا جديدة. فقد أصبحت الظّاهرة التّربويّة اليوم مرتبطة بعلاقة جدليّة مع مسائل متنوّعة متولّدة في واقع ناشئ تحكمه عولمة زاحفة وتطغى عليه منتجات الثّورة الصّناعيّة الرّابعة. لذلك، فإنّ مقاربتها من منظور اجتماعيّ تعني ملامسة كلّ الأسئلة والإشكالات الّتي تتعلّق بمناحي وجودنا وبتصوّرنا الثّقافيّ وبموقعنا الحضاريّ. وفي الكتاب صدى واضحٌ لهذا الفهم. فهو يحلّل مفهوم التّربية بتفكيكه في مستوى أوّل إلى عناصره المكوّنة له، ويؤكّد في مستوى ثان ترابطَ هذه المكوّنات وتكاملَها، ثمّ يؤلّف بينها بما يُبرز هويّة التّربية في تعقّدها وثرائها وتعدّد وجوهها وبما يُثبت أنّها مسألة إنسانيّة حضاريّة. ويجعل هذا التّمشّي الرّؤية الّتي تقود الفصولَ رؤية يتقاطع فيها التّربويّ المحض مع الإنسانيّ بمعانيه الشّاملة، الاجتماعيّة والثّقافيّة والاقتصاديّة. فما من مسألة أثيرت في موضع من المواضع - على امتداد الكتاب كلّه - إلاّ وكانت مشدودة إلى هذا النّظام ومنسجمة معه. وعلى هذا النّحو تتشكّل دراسة طابعها تربويّ سوسيولوجيّ، لها منطلق هو الوعي بمقتضيات العصر، ولها هاجس وهو أن تكون التّربية في عالمنا الرّاهن - وفي المجتمع العربيّ خصوصا - متغيّرة لتضطلع بدورها في تنشئة إنسان قادر على تغيير حياته وحياة الآخرين.

وقد سخّر الباحث مجموعة أدوات متكاملة وناجعة في تحليلٍ يستحضر مختلف الأبعاد ويحرص على التّوسّع والاستيفاء ويتحرّى الدّقّة والوضوح.

قارئ هذا الكتاب موعود بجولة معرفيّة طويلة تُريه حصيلة ما توصّل إليه الفكر والعلم في الأزمنة الحديثة بخصوص جوهر الإنسان وخصائصه ومحرّكات وجوده والوسائل المادّيّة والرّمزيّة الّتي يتّخذها لتكون حياته منظّمة وجديرة بمنزلته المميّزة في الكون. فليس من المستغرب، إذن، أن تَفرِض معارفُ العصر حضورها، إذ نجد - إضافة إلى المعلومات الأساسيّة بخصوص علم الاجتماع العامّ وعلم النّفس والفلسفة - معطيات أخرى مفصّلة ومعمّقة عن التّاريخ والسّياسة والعلوم الصّحيحة، مع إغناء التّحليل ودعمه بالإشارات المتواترة إلى المُنجزات الحديثة في مجال التّكنولوجيّات والثّورة الرّقميّة والذّكاء الاصطناعي. ويدلّ ذلك، من ناحية، على حرصٍ على المقاربة الشّموليّة النّسقيّة، ومن ناحية أخرى على إلمامٍ وشغفٍ بالبحث هما من شروط البحث العلميّ.(20)

إنّ طابع الاستيفاء الّذي يتسّم به الكتاب يجعل منه مرجعا لا غنى عنه لكلّ من يعنيه أن يعرف علم الاجتماع - من أهل الاختصاص أو من المُطّلعين طلبا للتّثقّف وتوسيع الآفاق - ولكلّ من يسعى إلى أن يتعرّف على أعلامه الرّوّاد وعلى نظريّاته. وهو كالموسوعة في هذا الباب. كما أنّه يوفّر للطّلاّب والقرّاء على حدّ السّواء عناصر أساسيّة في المعارف الأخرى الّتي اقتضى الخوضُ في علم الاجتماع التّربويّ عرضَ نتائجها واستدعاءها للاستفادة منها. وقد توخّى الكاتب أسلوبا تعليميّا واضحا، من نتائجه كثرة التّعريفات وهي ذات وظيفة حجاجيّة إقناعيّة.(21) ومن موجبات الأسلوب التّعليميّ اللّجوء إلى الشّرح والتّفسير، والعناية الواضحة بترجمة المصطلحات. ونرى أنّه كان من الأفضل أن يضمّ الكتاب ملحقين: واحدا فيه ثبتٌ للمفاهيم والمصطلحات وآخرَ لأسماء الأعلام، مع التّنصيص على أرقام الصّفحات الواردة فيها تلك المفاهيم والمصطلحات والأسماء. فإنّ ذلك ممّا يعين على الإفادة ويوجّه في القراءة.

وكان المنهج الّذي توخّاه الباحث مزيجا مُحكَما من اتّكاءٍ على روافد نظريّة - تُشرح بتوسّع وتقرأ بتمعّن ونقد - وانغماسٍ في التّحليل الواقعيّ والدّراسات الميدانيّة. فعلى سبيل المثال، يتضمّن الفصل الحادي عشر (وهو عن تكافؤ الفرص التّعليميّة في جامعة الكويت: تأثير المستوى التّعليميّ للأبوين) نتائج دراسة ميدانيّة أجراها الباحث في جامعة الكويت سنة 2009 على عيّنة بلغت 3816 طالبا وطالبة. وهي تثبت حقيقة التّفاوت في فرص الانتساب إلى الجامعة، بمختلف كلّيّاتها وفروعها العلميّة، بما يجعل النّجاح فيها يتمّ وفق المتغيّرات الاجتماعيّة والثّقافيّة.(22)

وينقل الكاتب في موضع آخر ما رسخ في ذاكرته انطلاقا من تجربة شخصيّة في الدّراسة والتّدريس.(23) ويصّرح على وجه الخصوص بجانبٍ آخرَ هو ألصقُ بالذّات. فقد نعَت علاقته بعلم الاجتماع التّربويّ الّذي انقطع لدراسته باستخدام هذه العبارات المفعمة بالوجدان، فيقول إنّ ما يربطه به هو: «حبّ متطرّف لعلم نذرت نفسي وحياتي في سبيله.»(24)

ليس الهاجس الّذي يلحّ على الباحث، فيوعز له التّأليف، هو فقط سدّ النّقص الّذي يعاني منه التّفكير العربيّ في حقل علم الاجتماع التّربويّ، بل كذلك الوعي بأهميّة هذا العلم وبخطورة دوره في حياتنا المعاصرة. وعلى قدر ما يكشف الكتاب سعة اطّلاع على معارف العصر وعلى جذورها التّاريخيّة وامتداداتها وكذلك على مجالات توظيفها وتطبيقها، فإنّه ينطوي على رؤية استشرافيّة للأبعاد والرّهانات. فبإمكاننا أن نتحدّث عن ملامح مشروع تربويّ اجتماعيّ حضاريّ يدعو إليه الكاتب ويعمل على أن يُقنع به المتلقّين وعمومَ النّاس.

II - سوسيولوجيا التّربية: رؤية للمدرسة وللمجتمع:

اغتنى الكتابُ باستحضار هذه الرّوافد والتّجارب والتّأمّلات وبهذا التّضافر بين النّظريّ والتّطبيقيّ، فبُنيت الفصول بنسق تحليليّ نقديّ. وكان فيها أنموذج لتوجّه علميّ سمّاه بعضُهم «المعرفة التّفكيريّة»، وهي تلك الّتي تقدّم رؤية مناسبة عن العالم وتسمح بالاستحواذ على الحقيقة في أعمق جوانبها.(25) لقد ظلّ الباحث يتابع الفكرة ويتعهّدها، حتّى نمت وتطوّرت بالتّدريج واتّضحت أهميّتها واكتملت أبعادها. وبُثّت الخلاصات الّتي توصّل إليها بعد تفكيك الموضوع إلى أجزائه المتعدّدة في ثنايا الكتاب وفي الخواتيم، وكانت متماثلة. وحين ننظر إليها نظرة تأليفيّة، نجد أنّ أهمّ ما فيها إلحاح على ضرورة أن نتّخذ علم الاجتماع التّربويّ منهجا يضمن تعديلَ النّظرة إلى التّربية بقصد بناء نمط تربويّ قادر على مواجهة المشاكل والتّحدّيات المستجدّة، والتّخطيط لتنشئة الإنسان المزوّد بأدوات علميّة تجعله قادرا على فهم واقعه وتغييره. ونتبيّن في ضوء ما تقدّم الأطروحة الرّئيسيّة الّتي ينافح عنها الكاتب، وهي تتمثّل في أنّ المدرسة ابنة عصرها ومجتمعها وبيئتها. وهذه حقيقة برهن عليها السّابقون في العلم، وما تزيدها تطوّراتُ عالمنا إلاّ سطوعا ورسوخا. فإذا كانت هذه هي ماهيّة المدرسة - متأصّلة في مجتمعها، مشدودة إلى المؤثّرات والمتغيّرات - فكيف يمكنها أن تستوعب حقائق الواقع وتتفاعل مع ظروف المحيط وتُساير تحوّلات العالم، فتُخرج منتسبيها من دور الطّرف السّلبيّ والتّابع إلى دور الطّرف الواعي والفاعل؟ يؤدّي هذا السّؤال إلى سؤال ثانٍ متلازم معه، ويمكن صوغُه بهذا الشّكل: ما هي الإمكانات الرّحبة الّتي يوفّرها علم الاجتماع التّربويّ للقائمين على الشّأن التّعليميّ حتّى يساعدَهم على الارتقاء به فيكونَ كما ينبغي له أن يكون، أي معاصرا ناجعا يرافق الإنسان في مسيرة الوجود ويتيح له تجربة رائعة خصبة؟

يَظهر في المقدّمة، وكذلك في المتن، أنّ الباحث يتّجه بخطابه إلى صنفين من الجمهور. أوّلهما مباشر قريب، ينضوي إليه طلبتُه وتلاميذُه وكلُّ صاحبِ موقع ودور في السّاحة التّربويّة، في المستويين المدرسيّ والجامعيّ. أمّا البعيد - والواسع - فهو مجموع النّاس المعاصرين. إنّهم، بتحديد أكثر دقّة، العرب المسلمون في هذا الزّمان. وأولئك وهؤلاء، على حدّ السّواء، معنيّون بهذا العلم ذي الصّبغة الشّموليّة الّذي لا يَفصل البحثَ في شأن المدرسة عن التّفكير في شؤون المجتمع.

لم يَغِبْ عن كلّ العصور والحضارات الوعيُ بأهميّة التّعليم في ضمان الرّقيّ والازدهار. ويغدو هذا المبدأ أشدّ وضوحا وتأكّدا في عصرنا الّذي يحمل لنا متناقضات ويمكن أن تُلخّصَه هذه المفارقة: تكثر فيه وسائل التّقدّم وتغلب عليه بواعث القلق. والمسألة التّربويّة هي في صميم التّفكير الإنسانيّ الّذي يتوق إلى نحت منزلة يجد فيها الكائن ما يُسهّل عيشَه ويُشعره بقيمته ومعناه وكرامته. ويضيف هذا الكتاب لبنة إلى هذا الصّرح الفكريّ ويمضي في هذا المسعى، فيرسم صورتين للتّربية: واحدة قديمة موروثة وثانية جديدة بدأت تخطو أولى خطواتها. كان للأولى على امتداد الزّمن الماضي مُطلق السّلطة والمكانة، وحان الوقت لتُطيح بها الثّانية فتحلّ محلّها. ما بين تلك الموجودة وهذه المنشودة رحلة طويلة لا تخفَى مشقّتها ووعورتها، ولكنّها مليئة بالوعود وتُغري مَن تحدّثه نفسه بالمغامرة بما سيظفر به حين يتمّها.(26)

والكاتب يخوضها ويصحب قرّاءه فيها، فيخصّص جهدا كبيرا ليهتمّ بأنموذج التّربية الأوّل وصفا وتحليلا ونقدا. إنّه يتصدّى له بعُدّته المنهجيّة والمفهوميّة ليبيّن المنطق الّذي يحكمه ويكشف عن الأسس الّتي تُسنده. فلا يصعب علينا أن ندرك أنّ الواقع المدرسيّ السّائد مفتقرٌ للنّجاعة وخالٍ من شروط النّجاح. وذلك لأنّ المدرسة، بما لديها حاليّا من نظم وأجهزة اشتغال ومضامين، هي مؤسّسة مُخلّة بدورها في تحرير الإنسان ومعطّلة لقواه وطاقته ومانعة لانطلاقته.

والأمثلة على ذلك كثيرة لا تكاد تُحصى. يسوقها لنا الباحث من موقع المُلمّ بالخلفيّات والأصول والمطّلع على الدّراسات والمُصغي للميدان والمُمتلئ بالتّجارب، فيحدثّنا حديثَ الخبير العارف عن نظام مدرسيّ أفلس وأخفق وخيّب الآمال في الأنفس الّتي حلمت به وفي الأعين الّتي كانت مشرئبّة إليه ومتعلّقة به.

إنْ خَطَرَ على أذهاننا السّؤالُ عن حال المدرسة كما نراها ونعرفها أتتنا الأجوبة غير متأخّرة وانثالت علينا حقائقُ لا يُجدي في شيء أن نتجاهلها أو نتصامم عنها. فوَفق ما تُوفّره لنا نتائج علم الاجتماع، وبالاستناد إلى ما يؤكّده الواقع المعيش، تتحدّد للمدرسة هويّة ووظيفة لا تتعدّيان التّعبيرَ عن الصّراع الطّبقيّ وإعادة إنتاج القيم المهيمنة. ويمثّل الفضاء المدرسيّ تربة خصبة للاصطفاء والتّمييز، والتّعليمُ بمحتوياته ووسائله هو مجال للعنف بكلّ أشكاله، ما كان منها فيزيائيّا جسديّا وما كان منها معنويّا رمزيّا.(27) وهو يقوم على التّحكّم في المتعلّمين وتوجيههم باستخدام منهاج خفيّ ماكر يمارس عليهم القهر والقمع ويقوّي استلابهم ويجرّدهم من الإرادة والحريّة. ما أشبهَ سياسة هؤلاء الصّبيان والفتيان المقبلين على الحياة والموعودين بها بسياسة المخلوقات الحيوانيّة تُروَّض وتُقاد وتُقيَّد حركتُها. وفي هذا الاتّجاه، يُعتبر التّلقين من أبرز الآفات التّربويّة. ويتناوَلُ في الكتاب بمعناه الشّاملِ العميقِ. فهو في مستوى ظاهر صنوُ التّعليم البنكيّ، ذاك الّذي يتعامل مع العقول على أنّها عُلب وقوالب وأوانٍ ينبغي ملؤها بالمعلومات، ويعتمد على نقل المعارف المختزلة والمجتزئة بطريقة رتيبة ودون تساؤل ولا تمحيص.(28) وهو في جوهره عنوانُ تصوّر ثقافيّ ترويضيّ.(29) يحوّل التّلقينُ المدارس والجامعات إلى سجون تحيط بها أسوار وحواجز تعزلها وتنأى بها عن الحياة الطّبيعيّة. وليس المدرّسون الّذين يعملون داخل هذه المنظومة بقادرين على رفضها والثّورة عليها، لذلك يرضَوْن بأن يكونوا مجرّد أدوات لخدمتها بل يصيرون منتفعين منها. وهم بهذا المعنى - تماما مثل طلبتهم وتلاميذهم - من ضحاياها ومن الواقعين تحت سطوتها وجبروتها. فلا يُنتظر منهم إبداع ولا إنتاج ولا ريادة للإصلاح. وكيف يُتوقّع منهم ذلك وهم ممّن يستحقّون أن يقال فيهم: فاقدُ الشّيء لا يعطيه؟ فلا عجب، إذن، أن تكون الحرّيّات الأكاديميّة - الّتي أولاها الكاتب اهتماما فخصّها بالفصل الحادي والعشرين - في تلك الوضعيّة السّيّئة المزرية ولا عجب أن تتدهور مكانة الأستاذ الجامعيّ وتسقط إلى ذلك الحضيض.

وهذه الظّواهر التّربويّة هي من آثار التّنشئة الاجتماعيّة الّتي تُعلّم التّسلّط والتّرهيب والإخضاع، وتَضمُر فيها - إلى حدّ الغياب والاندثار- القيم الدّيموقراطيّة. وتتعاضد فصولُ الكتاب لتُفكّك بالتّدريج الآلة المُعقّدة لهذا «النّظام المدرسيّ البيروقراطيّ»، (30) وتكشف عن الأضرار الّتي يُحدثها كلّ عنصر من عناصره. ولم يتسنّ تحليلُ هذا الواقع المدرسيّ وبيانُ ما ينطوي عليه من خطورة إلاّ باستحضار منطلقات من علم الاجتماع ورصد تجلّياتها وتحقّقاتها العمليّة. وفي ذلك مزيدُ تأكيدٍ على الطّابع الاجتماعيّ للظّاهرة التّربويّة. وفيه، أيضا، دليل واضح على الحاجة في هذا العلم التّربويّ إلى المقدّمات والخلفيّات المعرفيّة يُستعان بها وتُوظّف أداة للفهم. وهكذا، فإنّ الواقعيّ والمُعايَن الملموس يثبت صحّة المقولة النّظريّة، فنرى بطريقة جليّة غربة المدرسة وعمق الهوّة الّتي تفصلها عن الحياة العصريّة المحيطة بها والّتي تحثّها على التّطوّر. ومزيّة هذه المقاربة السّوسيولوجيّة أنّها تُخلّص التّربية من الهالة المثاليّة التّي أضفاها عليها وجداننا ومخيالنا، وتُحدث تغييرا في إدراكنا لها.(31) فلا نستغرب حين نعرف أنّ لها أزمة عميقة غير خافية. وهي ممّا ينتشر ويعمّ في كلّ البلدان، وممّا يشغل التّفكير الإنسانيّ منذ زمان. وليس التّفطّنُ إلى العلل الّتي تشكو منها المدرسة جديدا، ولم تنقطع المناداة بإصلاحها لتكون فضاء جاذبا يرغّب النّاشئة في الدّراسة ويزيّن لهم المثابرة والعمل ويعدهم بالمعنى.(32)

صورة التّربية السّائدة قاتمة وأوضاعها مزرية تبعث على الخيبة والأسى. وهو ما نستقيه من بطون الكتب ونقف عليه من ملاحظة الشّواهد الميدانيّة. وتتّخذ هذه السّمة عند العرب المسلمين بُعدا أكثر حدّة. وقد عُني الكاتب بأمر التّربية العربيّة ناظرا إليها في ضوء علاقتها بالثّقافة المهيمنة وقيمها الّتي تُوطّدها وداعيا إلى تطويرها. إنّه لا يتردّد في إبداء هذه الأحكام الجريئة الّتي لا مواربة فيها ولا لَبس”

- «التّربية العربيّة اليوم تعاني خللا وجوديّا قوامه الفساد الّذي انتشر في مختلف مفاصل الحياة التّربويّة.»(33)

- «التّربية العربيّة اليوم تعيش أسوأ لحظاتها التّاريخيّة.»(34)

- «التّربية العربيّة ما تزال تقليديّة في محتوياها ومضامينها، عتيقة في مكوّناتها ومظاهرها، محافظة في أسسها ومبادئها، خجولة في نتائجها ومردوديّتها، جامدة في توجّهاتها وآفاقها، متصلّبة في تغيّراتها وتحوّلاتها، ورافضة لأيّ تحديث أو تجديد.»(35)

تُنبئ هذه الأقوال بوجهة ثابتة سار فيها الكتاب، وهي التّصريح بما يشقّ قولُه وما يكون له وقع قويّ لدى المتقبّلين. فأكثرُ الحقائق إيلاما تلك المتعلّقة بوصف المؤسّسة التّعليميّة العربيّة، سواء أكانت مدرسة أم جامعة.(36) إنّ أداءهما قاصر وفاشل لأنّهما عاجزتان عن التّلاؤم مع حركة التّطوّر، فـ «المؤسّسات التّربويّة العربيّة تشهد حالة سقوط حضاريّ وتراجعا مخجلا أمام التّحوّلات الهائلة في مجال الإعلام والمعلوماتيّة والمعرفة العلميّة.»(37)

وهذه المؤسّسة التّعليميّة موصولة بمحيط اجتماعيّ يؤثّر فيها على نحو سلبيّ ويعهد إليها بدور محدّد منمّط لا تخرج عنه. هل يمكن أن يكون الانتماء إلى ثقافة المنع والضّبط والتّجهيل وتغييب الوعي النّقديّ منتجا شيئا آخر غيرَ ممارسة التّسلّط والقهر على الأجيال الجديدة، وغيرَ السّعي لتعويد التّلاميذ والطّلبة على الخضوع والطّاعة؟ (38) ويُبنى على ذلك أنّه ينبغي ألاّ ينفصلَ التّفكيرُ في التّربية عن التّفكير في نقد الثّقافة العربيّة المعاصرة الّتي تنتمي إلى دائرة الثّقافات التّقليديّة المتّسمة بامتناعها عن التّغيير والانفتاح.(39)

تَربط بين التّربية والثّقافة في البيئة العربيّة علاقة وثيقة إنْ تأمّلناها وجدنا توازيا بين التّنشئة الاجتماعيّة والطّريقة المُتّبعة في التّعليم والغالبة عليه: كلتاهما تعتمد على الأساليب التّسلّطيّة المؤدّية إلى إلغاء الشّخصيّة الإنسانيّة وإفقادها الحريّة والتّوازن والثّقة بالنّفس، وكلتاهما تُشيع الخوف، وهو هادم ومعطّل ومعرقل. فهذا العمل الاغترابيّ يفعل فعله الدّؤوب الحثيث في قاعات الدّرس وفي كلّ منابر التّعلّم وفضاءاته، فيقوم بديلا عن العمل التّنويريّ. وهذه الحريّات الأكاديميّة، عوض أن تسمح بالإبداع وتفتح آفاق التّحرّر، تساهم في التّخلّف والتّأخّر من خلال نشر «المعرفة المدجّنة» «وهو شكل من المعرفة النّاعمة والمسالمة والمُغرقة في جماليّتها وشكلانيّتها والقائمة على الاجترار بلا كلل، والمُحلّقة في عوالم بعيدة جدّا عن معترك الحياة الحقيقيّة وأسئلة الواقع الحادّة والمزعجة.»(40) وهذا الأستاذ الجامعيّ في البلاد العربيّة ممنوع من أداء دوره الرّائد معلّما للفكر والنّقد الجريء ومفروض عليه أن يقنع بمنزلة متواضعة، فتغيب عنده الرّوح العلميّة ويصير موظّفا أجيرا في المنظومة وتابعا خاضعا لها.(41)

وتصبح المدرسة في حالة ارتباط لا فكاك لها منه بالحياة القائمة الموروثة الّتي يُعاد إنتاجها، فتنشأ أجيال من المغتربين مسلوبي الإرادة وغير القادرين على أن يتحرّروا أو أن يكونوا طليعة في حركة تحرير غيرهم من الجماهير. أمّا الحياة الحقيقيّة الّتي ينبعث منها نداء الإبداع والحرّيّة فلا جسور تُمدّ بينها وبين المدرسة. وهو ضرب من الإجرام لفَت مبكّرا انتباهَ المفكّرين والأدباء فأدانوه. فنحن نسمع هذا الصّوتَ الغاضبَ المُستنكرَ يردّده ميخائيل نعيمه: «إنّها لَجريمة أن يحيا الطّالب في مدرسته حياة بينها وبين الحياة خارج المدرسة هوّة سحيقة. فلا عجب إذ ذاك أن تراه يخرج من المدرسة فلا يتمكّن في الحال من مدّ جسر يصل الحياتين. فيمضي يعاني الأمرّين في التّفتيش عن رزقه وعن مكانه في الأرض. ويمضي يقرع الأبواب ويحبّر الطّلبات، فلا يُنجده امرؤ القيس ولا الشّنفرى ولا النّابغة الذّبياني. ولا يجديه نفعا ما درسه من «تهافت الفلاسفة» و«تهافت التّهافت». وما أكثر ما يجده في النّهاية إمّا في محطّة للبنزين أو في حانوت حلاّق أو بقّال (...) وما أسرع ما يتبخّر من ذاكرته جميعُ ما وعته في المدرسة من «ثقافة عامّة» كان منها أن قطعت صلتَه بالحياة العامّة.»(42)

تتعدّد مظاهر الاغتراب والاستلاب في الثّقافة والتّربية العربيّتين، وهي من الوجوه الّتي تتّخذها أحوالُ التّدهور والفساد والغشّ والخلل الغالبة على الواقع العربيّ، والعواملُ المولّدة واحدة. لكنّ الاكتفاءَ برصد هذه الآفات غيرُ مُجدٍ، بل لا بدّ من ردّها إلى أسبابها والكشف عمّا تُخفيه في البنى العميقة. وهو ما ينخرط فيه الباحث حين يجعل تفكيره يتوسّع وينحو إلى ما هو حضاريّ عامّ، فيفسّر الرّاهن والسّائد بأبعادهما المختلفة. ويتوصّل إلى أنّه ما من إمكانيّة لإحداث إصلاح تربويّ ذاتيّ، فالإصلاح التّربويّ الحقيقيّ هو الّذي يتمّ في سياق اجتماعيّ وثقافيّ وسياسي.(43)

ثمّ ينفذ إلى ما هو جوهريّ عميق، فيقول: «إنّ الأوضاع التّربويّة المتدهورة الّتي تشهدها المجتمعات العربيّة تعود إلى أمرين: يتمثّل أحدهما في الاختراقات الثّقافيّة الخارجيّة المنظّمة والمكثّفة التّي تستهدف ثقافتنا العربيّة. ويتمثّل الآخر في تتابع الإخفاقات الثّقافيّة والتّربويّة الّتي شهدتها السّاحة الدّاخليّة للمجتمعات العربيّة. كما يتمثّل في انهيار المؤسّسات التّربويّة والتّعليميّة (...) هي غير قادرة ببناها ووظائفها الحاليّة وآليّات اشتغالها على مواجهة التّحدّيات التّي تفرضها العولمة أو استيعاب التّغيّرات الطّارئة عن المراحل التّاريخيّة المتعاقبة.»(44)

يتيح هذا الضّرب من التّحليل الرّبطَ بين الظّواهر ويساعد على أن تتأكّد الهويّة الأصليّة لعلم الاجتماع التّربويّ وعلى أن يُنظر إليه في ضوء علاقته بمجاله الأوّل. فما انتماؤه إلاّ إلى علم الاجتماع العامّ الّذي يبحث في التّفكير والوجود الإنسانيّين بمكوّنيهما الاجتماعيّ والثّقافيّ – الحضاريّ. وهو بحث يقوم على الانطلاق من وصف ما هو كائن لتَصوّر ما هو ممكن، بطريقة علميّة موضوعيّة فيها ملاءمة لخصوصيّة الموضوع.

لقد كان رسمُ حقيقة التّربية بتلك الصّورة السّلبيّة ممّا اقتضاه من الباحث سعيُه إلى إيقاظ الوعي وحرصُه على أن يشاركَه قرّاؤه في استكشاف السّبل الموصلة إلى تشكيل الأنموذج النّقيض البديل.

وبمثل الجهد السّابق المبذول في النّعت على مَواطن العلّة والخلل والقصور، سُخّرت الطّاقة المنهجيّة والمعرفيّة لبناء كيان تربويّ منشود أساسُه حسنُ التّفاعل مع الحاضر وإحكامُ الاستعداد للمستقبل. إنّ المدرسة الجديدة الّتي تقوم على أنقاض القديمة لهي الّتي تُمتّن روابطها مع الحياة المتطوّرة وتُعدّ النّاشئة لتفهم عصرها وتكون فاعلة فيه. (45)

وما كان الاطّلاعُ على المعارف والأفكار والحديثُ عمّا يغزو حياتنا المعاصرة من منتجات تكنولوجيّة فائقة التّطوّر على سبيل التّرف الفكريّ، وما كانت الجولة الّتي دُعي إليها القارئ بقصد الإمتاع وإشباع الفضول، بل إنّ من وراء ذلك غاية بعيدة سامية. وهي تتمثّل في الحثّ على التّفكير والدّفع إلى الفعل. إنّ الإنسان – ذاك الّذي يُشيد الكاتبُ بإمكاناته - هو قادر، كما يثبت العلم، على استيعاب العالم المُعقّد وإدراك كلّ ظواهر العالميّة والعولمة والمعلوماتيّة ليكون له موقع الفاعل فيها لا مجرّد المتأثّر بها.(46) وإنّ التّربية هي ضمانة النّجاح لهذا المشروع. فأيّة مدرسة تلبّي حاجتنا الحضاريّة وتملأ وجودنا الإنسانيّ وتُعطينا فيه أسبابَ الأمل ؟

لم نَعْدُ الصّوابَ حين اعتبرنا الكتابَ في جانب منه وصفا للموجود وتَعدادا لإكراهاته ومُعطّلاته، لكنّ الجانب الآخر البارز فيه - وهو الأهمّ - يتمثّل في رفض الواقع الماثل والنّظر في الإمكانات المتاحة لتغييره. وشرط ذلك أن نُحِلّ التّربية المنزلة الّتي تستحقّها، ونبنيَ معها علاقة جديدة تكون بمقتضاها «التّربية الّتي تخاطب في الطّفل العقل لا الذّاكرة، والنّشاط لا الجمود، والحرّيّة لا الإكراه، والغاية لا الوسيلة. وهي في نهاية الأمر تخاطب الإنسان في الطّفل، وتعمل على إنماء حواسّه الإنسانيّة.»(47)

ويُرفِد علمُ الاجتماع التّربويّ الكاتبَ في وضع دعائم النّظام التّربويّ الّذي يتطلّبه العصرُ وتطوّرُ الحياة الإنسانيّة. إنّ قوامَه رؤية يَدين بها وينخرط فيها جميع الفاعلين في الحقل التّعليميّ فيعملون على غرس الرّوح النّقديّة والإبداعيّة في نفوس التّلاميذ والطّلبة، وهو ما يعني الإطاحةَ بكلّ التّصوّرات المبرّرة للتّلقين والطّاعة والتّسليم والجمود، واتّباعَ أساليب تعليميّة تُعزّز في أنفس التّلاميذ الإرادة والجرأة.. هذه هي التّربية الدّيموقراطيّة الّتي تُخرج المعلّمين والمتعلّمين - على حدّ السّواء - من أسْر النّظم الرّسميّة المفروضة، ومن موقع المستهلك السّلبيّ إلى موقع المبادر والمبدع والنّاقد والمنتج.(48) وتبعث في كلّ فرد مشاعرَ تُعلي فيه الجانبَ الاعتباريّ والتّقدير الذّاتيّ والثّقة بالنّفس.(49) كما يجدر بالفاعلين التّربويّين والممارسين في الميدان أن يلاءموا طرائقهم مع سياق الثّورة الرّقميّة. وإذا تأسّست التّربية على هذه الفلسفة وسارت في هذا التّوجّه أمكن تجنّبُ الفشل المدرسيّ والرّسوب والانقطاع عن الدّراسة والانحراف والتّطرّف. وحين تدخل المدرسةَ برامجُ حديثة ومناهجُ متطوّرة تنفتح على محيطها ويعود إليها دورها الرّياديّ قاطرة تُحرّك المجتمع. وبذلك تنفلت من ضغط وإلزام خارجيّين يُجبرانها على إعادة إنتاج القيم السّائدة وتكريس الاصطفاء والتّفاوت. ويستطيع القائمون عليها أن يتحرّروا من التّقليد والجمود، فلا يكتفُون بتدريس المعارف وإلقائها إلقاء تعسّفيا مُسقطا،(50) بل يساعدون على اكتساب طرائق التّفكير والمهارات الحياتيّة،(51) ويعوّدون الصّغار واليافعين على التّعلّق بالدّيموقراطيّة والدّفاع عنها مكوّنا أساسيّا في الحياة الاجتماعيّة وشرطا ضروريّا للتّقدّم.

 وتزخر صفحات الكتاب بتصوّرات محورُها التّفكير التّربويّ العلميّ الّذي من موجباته تأهيلُ المتعلّمين ليسايروا الإيقاع السّريع للحركة المعرفيّة ويطوّروا المهارات الّتي يحتاجون إليها في المسارات المهنيّة المختارة مستقبلا. وبذلك يستفيدون من المُنتجات التّكنولوجيّة ويوظّفون الـتّقانة في فهم القضايا وحلّ المشكلات.(52) ولا تُقصى من هذا التّوجّه العلومُ الإنسانيّة (التّاريخ والفلسفة، خاصّة)، إذ لها دور في إحاطة التّطوّر العلميّ بسياج أخلاقيّ يحمي من كلّ انحراف وزيغ.(53)

إنّ «الاغتراب التّربويّ»(54) - كما توسّع الكاتب في تحليله - هو رمز لفعل تربويّ لا يُمكّن التّلاميذ والطّلبة من اكتشاف طاقاتهم وقدراتهم، ويُسبّب معاناة الشّخصيّة من هامشيّة موقعها ومن وضعيّة يسودها القهر والقسر والإكراه وتحكمها علاقات التّسلّط. والمطلوبُ من التّربية العربيّة، في عصر العولمة والذّكاء الاصطناعيّ، أن تكون فعلَ تحرير وتنوير وتغيير. والسّبيلُ إلى تحقيق هذه المهمّة إرساءُ هذه المبادئ وجعلُها أسُسَ التّعليم في مرحلتيه المدرسيّة والجامعيّة: بناء العقل العلميّ / بناء العقل النّسبيّ / بناء العقل على مبدأ الاختلاف / بناء العقل على مبدأ التّغيّر / بناء العقل الكلّيّ / بناء العقل المعقّد / بناء العقل المستقبليّ الدّائم.(55) وقد أوردها الباحثُ مُفصّلة ومُرتّبة وفق التّدرّج وأفاض في الحديث عن كلّ مبدأ منها. ثمّ خلص إلى أنّه «يجب إعدادُ الطّلبة لعصر متغيّر بعقل متغيّر وإيمان بالتّغيّر.»(56) وتوصّل إلى هذا الاستنتاج: «إنّ المعرفة الحقّة هي تلك الّتي تُؤهّل البشر لمواجهة عالم شديد التّعقيد وسريع التّغيّر. إنّها معرفة الحياة، ومعرفة عن الحياة، وحياة قائمة على المعرفة.»(57) وإدراكُ هذه الحقيقة مدخل مهمّ لتغيير النّظرة إلى المدرسة وتأسيس علاقة جديدة مختلفة معها، وهو ما يؤدّي، من ثَمّ، إلى تحسين أدائها.

وممّا يطّرد في الكتاب عرضُ مقترحات عمليّة دقيقة حول التّمشّيات المنهجيّة، وتقديمُ ما يُشبه البرنامجَ التّعليميّ المرتكزَ على دعائم والقابلَ للتّنفيذ. ويُلاحظ ذلك في مواضع كثيرة.(58) وللجميع – من المنتسبين إلى المؤسّسة التّعليميّة، ومن المشرفين عليها وواضعي سياساتها ومساراتها – أدوارُهم في بناء الأنموذج التّربويّ المناسب لهذه المرحلة التّاريخيّة بما فيها من معطيات ثريّة ومتنوّعة، على المستويات الاجتماعيّة والمعرفيّة والفكريّة. إنّ الثّورة الصّناعيّة الرّابعة والطّفرات السّريعة في الإنتاج العلميّ والتّكنولوجيّ ذاتُ تأثير كبير في مجالات الحياة كلّها، ومنها مجال التّعليم. وهذه مقدّمة كبرى بدت لنا واضحة في قراءة الباحث للواقع التّربويّ موصولا بالخلفيّة الاجتماعيّة، واتّضح لنا أيضا ارتباطُ تلك المقدّمة بفكرتين تسيران بالتّوازي وتَحظيان بالقدر نفسه من الأهميّة. أولاهما الحفاظ على وجود المؤسّسة التّربويّة ووظيفتها في المجتمع، وثانيتهما الدّفاع عن ضرورة تجديدها.

لا نعدم في الكتاب حديثا عن إلغاء المدرسة. ونجد إشارات إلى آراء المفكّريْن «إيفان إليتش» (Ivan Illich 1926-2002) و«ألفين توفلر» (Alvin Toffler 1928-2016) واستشهادا ببعض أقوالهما في هذا الشّأن. إنّ بينهما اختلافا في المنطلقات، إذ لكلّ منهما رؤيته وسياق تفكيره، لكنّهما أثارا أسئلة على صلة ببقاء المدرسة وبتمسّكنا بها والحالُ أنّ دورها متراجع ونجاعتها مشكوك فيها. مثّل الأوّلُ تيّارا ينادي بإلغاء هذه المؤسّسة لأنّها تقوم بعمليّة التّرويض والتّطبيع ولضعف الصّلة بين الثّقافة الشّكليّة الّتي تُزوّد بها الأطفال والواقع الاجتماعيّ الّذي يعيشونه. وكانت للثّاني تصوّرات مندرجة ضمن بحثه في المستقبليّات ووظيفة التّربية في المجتمع ما بعد الصّناعيّ، مجتمع المعرفة والثّورة الرّقميّة والمعلوماتيّة.(59)

ومن الواضح، حسب رأينا، أنّ مقصد الباحث من إيراد هذه الفكرة عن انتفاء الحاجة إلى المدرسة هو التّنبيه إلى منزلتها الإشكاليّة في عصرنا. لقد باتت قاصرة لا تواكب التّطوّر، وهي تؤبّد التّلقين والقمع. ومن المشروع، إذن، التّساؤل عن استمرارها في هذه الأزمنة الحديثة المليئة بالمستجدّات والتّحدّيات.

ولا يُستغرب أن ينشأ تفكير حول هذا الموضوع، بل هو أمر مطلوب ومُلحّ. وقد شغلت أزمة التّعليم الرّاهنة وسبلُ معالجتها الدّارسين. فهذه مجلّة فرنسيّة مختصّة في مجال التّربية تورد ملفّا عن دور المدرسة في الحاضر وصورتها في المستقبل.(60) ويرى كاتب أحد المقالات أنّ بمقدور المدرسة - متى تجدّدت - أن تتجاوز أزمتها في القرن الحادي والعشرين فتحدّ من تأثير ما ينافسها على عقول أبنائها من وسائل تكنولوجيّة حديثة.(61)

ويذهب كاتبُ مقالٍ آخرَ إلى أنّه يَلزم القائمين عليها والمدافعين عنها أن يُحسنوا تشخيص أدوائها ليقدّموا لها ما يناسب من علاج.(62) إنّ المدرسة الّتي علينا تجاوزها وإلغاؤها هي تلك الّتي يكون التّعليم فيها معاديا للتّربية.(63) وذلك أنّ التّربية تتوجّه في الأصل إلى عقل الطّفل وروحه، ولكنّ التّعليم الّذي نشهد انتشاره وسيادته يسير في اتّجاه مناقض فيعلي من شأن الذّاكرة والحفظ والتّلقين. ويجسّم مثلُ هذا التّعليم التّقليديّ التّلقينيّ، بصفة عامّة، مخالفة للطّبيعة وغربة عن العصر ومعاداة للإنسان وتحطيما لإرادته. للمدرسة مستقبل بشرط أن تثبت قدرتها على تقديم أجوبة مناسبة وإبداع حلول مبتكرة لتأسيس علاقة جديدة بالمعرفة والاستجابة للتّغيّر في طبيعة العمل وفي الأنشطة المهنيّة. يُنتظر منها أن تُجيد التّحاور والتّفاعل مع عولمة طاغية غير متراجعة، تحمل آمالا وتنطوي على مخاطر. ويقدّم لنا علم الاجتماع التّربويّ موجّهات تساعدنا في هذه السّبيل. فالمقاربات المستندة إلى هذا الحقل المعرفيّ تتيح لنا أن نفهم الاهتزازَ في النّماذج التّربويّة القديمة ممّا يجعلها مهدّدة بالزّوال، وتنبّهنا إلى ضرورة أن نُعيد تصوّرَنا لكينونة التّربية وهويّتها وأن نفكّر فيها ضمن علاقتها بالمجتمع والثّقافة حتّى تستعيد صورتها المشرقة في نفوسنا وعيوننا وحتّى تضطلع بدورها في كلّ أبعاده العلميّة والقيميّة والثّقافيّة.

لا حظّ ولا أمل للمدرسة في المحافظة على مكانتها إلاّ إذا اندمجت في سياق المجتمع الجديد، وتحوّلت إلى فضاء تنشأ فيه الرّوح النّقديّة الإبداعيّة وتزدهر. والتّربية العربيّة المعاصرة - مثلُ الثّقافة العربيّة المعاصرة - في مواجهة تحدّيات كبرى بعضها ذاتيّ على صلة بالموروث وبعضها آتٍ من التّأثيرات والاختراقات الخارجيّة.

حين نستهدي بمدخل سوسيولجيا التّربية، فننظر إلى المدرسة موصولة ببيئتها الاجتماعيّة والثّقافيّة والسّياسيّة، تَظهر لنا ظواهرها انعكاسا لما حولها وارتباطا به. لكن، نرى من زاوية أخرى أنّه بالإمكان أن تُوجَّه هذه المؤسّسة لنحت أنموذج تعليميّ ينشأ فيه المتعلّم واعيا بواقعه وبمكانه من عالمه وعصره، ومؤثّرا بصفة فعّالة وإيجابيّة في حياته وحياة الآخرين.

ليس الغرض من التّعليم في ضوء التّطوّرات والتّحوّلات الّتي نشهدها جمعَ المعارف وحشدَ المضامين، وليس المطلوب من المعلّم أن يكون مالك المعرفة والمتصرّف فيها والمانح لها، بل الأهمّ المُقدّم على كلّ ما سواه هو أن يكتسب المتعلّمون منهجيّة نقديّة تعينهم على بناء معارفهم بأنفسهم وعلى مواجهة وضعيّات الحياة وحلّ المشكلات الّتي تعترضهم. ويستند الباحث إلى تقارير الهيئات المختصّة ليؤكّد أنّ المصير العربيّ رهين بالطّريقة الّتي ستسلكها تربية الأبناء في القرن الحادي والعشرين. ثمّ يعدّد المبادئ الّتي ينبغي أن تراعيها رؤيتنا للإصلاح الحقيقيّ في مجال التّربية.(64) إنّ شرط بقاء المدرسة والإبقاء عليها هو إدخال التّغييرات الجوهريّة العميقة على أدائها. ولا يتأتّى ذلك إلاّ إذا أقمنا تصوّرنا للتّربية على أساس فلسفيّ يضمن تحقيق الإنسانيّة في الإنسان ويسمح للطّفولة بأن تنمو في الطّفل.(65) ونضيف أنّه من المهمّ أن يقع الاعتماد على الخيال ومَلَكة التّخيّل في إنجاز الأنشطة التّعليميّة وتقوية الدّافعيّة والتّرغيب.(66) وممّا تتأكّد الحاجة إليه أيضا تدريسُ الأدب، ففي النّصوص الجميلة معنى يجده المتعلّم ونافذة يرى منها الحياة والعالم.(67)

كما يُطلب إلينا، بصفة عامّة، أن نُصحّح العلاقة بين التّعليم والتّربية. يَقضي المبدأ والمنطق بألاّ يتعارضا، وبأن يكون التّعليم خادما للتّربية بكلّ أبعادها ومحرّرا للفرد من حالة الاغتراب والقهر والخنوع، وأن يكون نقديّا وبنّاءً، فيعطي الثّقة والعزمَ لملاقاة المستقبل والتّفاعل الخصب مع إيقاعه السّريع وتحوّلاته وطفراته.

المجتمع العربيّ مدعوّ، إذن، إلى خوض معركة تحرّر والمدرسةُ ساحتُها. فالتّربية النّقديّة التّنويريّة ضرورة تاريخيّة في هذه المرحلة من الصّراع الحضاريّ وفي مواجهة ما يسِمُ الثّقافة من أميّة وتخلّف وتعصّب.(68) ويُعتبر تجديدُ المدرسة جزءا من الثّورة الثّقافيّة الّتي على المجتمع العربيّ بأسره أن ينخرط فيها ليراجع ويصلح ويطوّر، وليتمكّن من بلوغ الحداثة. وهي «خطاب ثقافيّ جديد يقترح على الوعي العربيّ رؤية مختلفة للعالم والمجتمع والثّقافة متمايزة عن الرّؤى والتّصوّرات السّائدة.»(69) و«إبداع واقتحام يجذّف ببطولة ضدّ التّيّار كي يؤسّس للنّفس مكانا.»(70)

إنّه مجتمع يعيش في خضمّ تحوّلات، وإنّهم أفراد يجدون أنفسَهم في عالم يغزونا بتطوّره وبما يأتي معه من وعود وتهديد، وإنّه دور متعاظم تضطلع به المدرسة لتُرافق وتُواكب وتُلائم. وما كان لنا أن ندرك هذه الحقائق إلاّ من منطلق فهم عميق للتّربية ووقوف على هويّتها الإنسانيّة نحن مَدينون في اكتسابهما للعلم المختصّ. فالظّاهرة المدرسيّة والمسألة التّربويّة هما من تجلّيات المنزلة الاجتماعيّة القلقة ومن تبعات الإشكاليّة الحضاريّة المُمضّة. وحين نقرأ علم الاجتماع التّربويّ بتمعّن وتدبّر نمتلك مفاتيح هذه الأبواب.

وليس التّصدّي للإصلاح – الّذي من أجله كان هذا الكتاب – مجرّد اختيار فكريّ، إنّه امتثال لضرورة حياتيّة ووجوديّة. وعلى هذا الأساس، يغدو الاهتمام بالتّربية وبدورها في الخلاص واجبا أخلاقيّا. إنّها المرآة التّي تنعكس عليها الظّواهر الاجتماعيّة، وما تحجب حقيقتُها هذه قدرتَها على أن تكون سببا ودافعا للتّغيير. للكتاب فكرته المحرّكة الّتي لا يحيد عنها، وهي أنّ المؤسّسة التّربويّة - بكلّ من يؤمّها ويشرف عليها، وبكلّ ما يجري فيها وينظّمها - هي نتيجة للأحوال الاجتماعيّة الّتي تقع خارجها. لكنّ الرّهان الطّموح الّذي يسكن الباحثَ هو، في رأينا، أن تكون هذه المؤسّسة موجّهة للمعطى الاجتماعيّ ومؤثّرة في الأوضاع الحياتيّة. لا مراء في أنّ المدرسة تابعة، ولا مانع من أن تكون قائدة.(71)

لقد أثبت التّحليل أنّ المدرسة تفتح أبوابها للجميع، لكنّ فرص النّجاح فيها محدودة وعللُ ذلك معلومة. فكانت الأسئلة الّتي يجدر بنا طرحُها في انسجام مع تلك المنطلقات: كيف نجعل المدرسة رمزا للارتقاء الاجتماعيّ بحقّ؟ وكيف يمكن للمشروع التّربويّ المستنير أن يكون مقدّمة للمشروع الحضاريّ التّحرّريّ؟ ما الّذي يكفل تجسيم إرادتنا في الخروج من أوضاع الاستلاب والاستعباد والقهر للظّفر بمأمولنا في المساواة والرّخاء والدّيموقراطيّة والحياة الكريمة الآمنة؟

إنّ الكتاب الّذي أطال في وصف الواقع ومعطيات الميدان، ودَعَم ما قدّمه من أطروحات وآراء بجهاز نظريّ متين هو في جانب مهمّ من جوانبه دعوة إلى التّنبّه واليقظة، بل فيه حثّ على الفعل الّذي يُحوّل التّربية من صورة تمثّل الأزمة والتّدهور إلى طريق للأمل والحريّة والإبداع.

وإن تكن حقيقة الإنسان اجتماعيّة وإن يكن يمثّل ذاتا تُحدّدها ظروفُها، فلا شيء يحول دون تطوير شخصيّته المتحرّرة من كلّ الحتميّات. وتُسعفه التّربية بأدوات هذا التّحرّر وتمدّه بوسائل الخلاص.

وهكذا يظهر علمُ الاجتماع التّربويّ في خدمة الإنسان حاضرِه ومستقبلِه. يتحرّى – من ناحية - متطلّبات الموضوعيّة والعقلانيّة في وصف السّائد والموجود، ويُشيد – من ناحية أخرى - بالتّوق والتّطلّع إلى التّغيير ويُحلم الكائنَ بهما. فتتحقّق في الأنموذج الإنسانيّ المنشود التّنمية الحقيقيّة بمستوييها: «تنمية الظّروف المادّيّة للحياة وتنمية الجوانب الرّوحيّة والثّقافيّة»(72)

خاتمة:

نجني من قراءة «سوسيولوجيا التّربية» للدّكتور علي أسعد وطفة فوائد جمّة. نعرف أوّلا أنّ علم الاجتماع التّربويّ هو في عصرنا، المختلف تماما عن العصور السّابقة، من أهمّ العلوم الاجتماعيّة وأكثرها حضورا وتأثيرا. فالحاجة إلى استلهام مناهجه ومفاهيمه ومقولاته متأكّدة. ويؤاخذ الباحث على العرب تقصيرَهم وعَوَزَهم الفكريّ في هذا المجال، كما يلاحظ في المناهج الجامعيّة والتّعليميّة غلبة التّحفيظ والتّلقين وقلّة الاعتناء بتطوير الحسّ النّقديّ لدى الطّلبة، لذلك يطمح إلى أن يكون كتابه مسدّدا للنّقص ومؤسّسا لعلم اجتماع عربيّ واعد بثورة ثقافيّة عارمة تبدأ بتجديد النّظام المدرسيّ. ويكمن العدولُ عن المألوف في الطّريقة الّتي تُنُوولت بها المواضيع الاجتماعيّة والتّربويّة – فهي مختلفة عن السّائد في التّأليف وفي التّدريس – وكذلك في طرح الأسئلة الّتي تشجّع على التّفكير والبحث. ومن مقاصد هذا التّأليف تأهيلُ القرّاء - من الطّلبة خاصّة – ليكونوا قادرين على التّحلّي برؤية موضوعيّة في طَرق المسائل وعلى الخوض في لجّة هذا العلم، وليواجهوا ما ينبثق عن العصر من ظواهر ومشكلات معقّدة، وليكونوا، من ثَمَّ، رسلا ينشرون الوعي النّقديّ ويبثّون روح التّحرير والتّنوير.

وممّا نغنمه من مطالعة الكتاب أنّنا نظفر فيه باتّجاه في التّفكير الإنسانيّ لا ينحصر في دائرة مبحثه الأصليّ المخصوص بل يتعدّاه إلى المباحث الّتي له بها صلة، فيَبرُز على نحو جليّ تقاطع المجالات وتعدّد الاختصاصات، وتحصل للقارئ ثقافة ودراية بمعارف شتّى، من الحقول الاجتماعيّة والفلسفيّة والعلميّة والتّقنيّة. وقد سُخّرت هذه الرّوافد لإخراج التّربية في صورتها الثّريّة المعقّدة الّتي تتداخل فيها عدّة أبعاد وجوانب، ولإيضاح ما يرتبط بالمؤسّسة التّعليميّة - مدرسة كانت أو جامعة – من رهانات وما تفتحه دراستها من آفاق واسعة. فهي دعامة للتّقدّم الحضاريّ وتطويرُها شرط أساسيّ لبناء المشروع المجتمعيّ المرغوب فيه.

وقد جسّم الباحثُ أبرز الخصال المطلوبة في مجال البحث العلميّ، فبسط موضوعه بعمق ووضوح، وواجه قرّاءه وجمهوره بشجاعة ونزاهة، وحرّكه في معالجة القضايا طموح وعزم هوّنا أمامه الصّعاب. فأثمر الجهد المبذول في الكتابة انبثاق صوت قويّ جريء ينادي بتطوير الدّراسات في مجال علم الاجتماع التّربويّ ومن أجل بناء وعي تربويّ عربيّ. لم تكن السّبيل الّتي سلكها الكاتب مذلّلة. لكنّه أثبت إصرارا وتصميما على المسير ومضى في رحلته وكأنّه يتمثّل بقول ابن المقفّع: «مَنْ لَمْ يَرْكَبِ الأهْوالَ لَمْ يَنَلِ الرّغائبَ». أجاد القراءة والإنصات وبرع في التّحاور وأتقن وضع الأسئلة. نقل إلينا كثيرا من حيرته وقليلا من يقين بلغه. كشف لنا حقائق صادمة ورسم لنا صورة قاتمة، وما كان ذلك لإحباطنا وإنّما ليزيّن لنا النّقيض والبديل ويرغّبنا في أن نسعى إليه ونعمل على تحقيقه.

لا يُطلب من مثل هذا المثقّف المستنير أن يقتصر على الكتابة والتّأليف بغاية التّسجيل والوصف، بل يتعدّى ذلك إلى المساءلة والمراجعة والنّقد، ثمّ الابتكار والإبداع والتّأسيس. قد لا يُواتي ما يقوله الرّأيَ العامَّ وقد لا يوافق هوى الجمهور،(73) لكنّه مدعوّ إلى الإصداع بما يراه حقّا - مهما كان ذلك مُرّا موجعا - وإلى اختطاط المسالك الصّعبة غير المُعبّدة واقتراح الرّؤى والمشاريع الجديدة الجريئة.

ولئن أقرّ الباحث في خاتمة مؤلّفه بأنّه كلّما تقدّم خطوة واقترح فكرة وضع نفسه في مواجهة أسئلة جديدة ومسارات متعدّدة وأبعاد عميقة، وبأنّ مشروعه غير مكتمل - لأنّ قضايا علم الاجتماع التّربويّ متجدّدة بتجدّد قضايا الوجود الاجتماعيّ والإنسانيّ -، ولئن كشف لنا جانبا من معاناته حين كان مُضطرّا لحذف بعض الفصول خوفا من التّطويل - ولأنّ مسائل التّربية أعظم من أن يُحاط بها في كتاب واحد -، فإنّ له مزيّة كبرى لا تُنكر، وهي توفّقه إلى غرس بذور لسوسيولوجيا تربويّة عربيّة مدعوّة إلى التّساؤل والتّجديد لتكون عونا على الإصلاح وباعثا للأمل. لا شكّ في أنّ العراقيل كثيرة، لكنّ عنصر القوّة المساعد هو ما ينطوي عليه علم الاجتماع التّربويّ من حيويّة فكريّة وما يمدّنا به من طاقة نقديّة ناجعة. تلك هي المنطلقات السّليمة لبناء نمط تعليميّ يستجيب لطبيعة المرحلة التّاريخيّة ولحالة المعرفة وإيقاعها في عصرنا وللبيئة العالميّة الملآى بالوعود والإكراهات. وهذا العلم المٌبشّر به يوقظ الوعي بالمشاكل ويٌخرج من أوضاع الجمود والقصور. والغاية الثّاوية هي أن تكون معرفة الحقائق الاجتماعيّة التّربويّة - معرفة علميّة نقديّة - هي المقدّمة الضّروريّة للإصلاح التّربويّ ولبلوغ التّنمية ولبناء المشروع الثّقافيّ الحداثيّ الدّيموقراطيّ.

أمّا وقد ظهر الكتاب على النّاس، فإنّه خرج من كاتبه إلى قارئيه. وبوجود الأطراف المتعدّدين تُتقاسم الأعباء والمهامّ وعليهم تتوزّع، فيصحّ العزم على إنجاز الفعل والمضيّ بالعمل إلى أقاصيه ومآلاته.

هذا كتاب قرأناه فشدّنا وأجاب عمّا انتظرناه منه وعمّا جال في خاطرنا، ثمّ كتبنا حوله هذا المقال آملين أن نعرّف به ونَفِيَه بعض دَينه علينا. ولا نُغالي في شيء إن ذهبنا إلى أنّ كتابا في مثل قيمة «سوسيولوجيا التّربية: إضاءات نقديّة معاصرة» وعطائه وإضافته لجدير بأن يصحّ فيه قولان للأديب التّونسيّ الكبير محمود المسعدي: «وإنّ هذا الكتابَ كالصّوت أو كالصّيحة في وادٍ به حاجة إلى ما يردّد صداه ويُسري فيه خَلجة الحياة.» و «وإنّ كلّ كيان لَجَهدٌ وكسبٌ منحوت».

 *** 

الدّكتور خير الدّين زرّوق

 ................. 

مراجع المقالة وهوامشها  

(1) - كاتب وباحث أكاديمي تونسي - متفقّد عامّ خبير في التّربية .

(2) - علي أسعد وطفة” باحث وأكاديميّ سوريّ مهتمّ بقضايا فلسفيّة وتربويّة، كتب مؤلّفات ودراسات ومقالات عديدة ومتنوّعة تتناول التّربية وعلم الاجتماع التّربويّ والتّنمية وتتّصل بمواضيع مجاورة. ويتولّى الدّكتور علي أسعد وطفة التّدريس في جامعة التّربية (كليّة التّربية) بالكويت، ويشرف على تأطير الطّلاّب والباحثين.        

(3) - «سوسيولوجيا التّربية” إضاءات نقديّة معاصرة»، مكتبة الكويت الوطنيّة ومركز نقد وتنوير للدّراسات الإنسانيّة غرناطة، الطّبعة الأولى، 2024، يقع الكتاب في 722 صفحة  

(4) - يعتبر النّاقد التّونسيّ محمود طرشونة” « أنّ أفضل تكريم لأيّ نصّ كان هو قراءته. ليست بالطّبع القراءة العاديّة الّتي لا تتجاوز الاطّلاع (...) بل نقصد القراءة المتأـنّية المتأمّلة.»

راجع” تقديم رواية «وقائع المدينة الغريبة» لعبد الجبّار العشّ، طبعة دار الجنوب للنّشر، تونس، مارس 2017، ص” 11       

(5) - يعتبر التّصدير (Épigraphe) من عتبات النّصّ(Les seuils)، وإضافة إلى وظيفته التّمهيديّة فهو مساعد على قراءة المتن ومُطلع على وجهته.

ولفظة «العتبة» نسبة إلى كتاب «جيرار جينات» ( Gérard Genette )، وعنوانه بالفرنسيّة” « Seuils »

راجع”

Seuils , Collection « Poétique » , Éditions du Seuil , Paris , Février 1987       

(6) - يحتوي الفصل السّادس عشر على تصديرين أوّلهما لأدونيس والثّاني للكاتب.  

* كلّ قولة  للكاتب واردة تصديرا هي مقتطفة من متن الفصل.       

(7) - «سوسيولوجيا التّربية” إضاءات نقديّة معاصرة»، ص” 13        

(8) - المصدر نفسه، الصّفحة نفسها         

(9) - ليس هذا النّقد محصورا في المقدّمة فقط بل هو منتشر في تضاعيف الكتاب، انظر على سبيل المثال” المصدر نفسه، ص” 536

(10) - المصدر نفسه، ص” 22        

(11) - راجع المصدر نفسه،  ص” 56         

(12) - راجع المصدر نفسه، ص ص” 14 - 15        

(13) - المصدر نفسه، ص ص” 33 - 36 

* نجد وقفة خاصّة عند تأسيس ابن خلدون لعلم العمران البشريّ. راجع” المصدر نفسه،  ص ص” 47 - 48        

(14) - راجع المصدر نفسه، ص” 45         

(15) - راجع المصدر نفسه، ص ص” 36 - 41  وص ص” 48 - 55        

(16) - نذكر منها خاصّة الفصول” السّادس والسّابع والثّامن والتّاسع والعاشر والثّاني عشر والثّالث عشر والرّابع عشر والخامس عشر والسّادس عشر والسّابع عشر ...          

(17) - يعود إليه الفضل في اعتبار علم التّربية علما اجتماعيّا، المصدر نفسه، ص” 616 وما بعدها

وقد تواتر الحديث عن عطائه الفكريّ (في الفصلين الأوّل والثّاني، خاصّة. كما أفرد له الفصلُ الحادي والعشرون، باعتباره يمثّل أحد أهمّ النّماذج الرّياديّة).         

(18) - المصدر نفسه، ص ص” 59 - 61         

(19) - يوضّح الباحث أنّه يستخدم مصطلحَيْ «سوسيولوجيا التّربية» و«علم الاجتماع التّربويّ» على وجه التّطابق والتّماثل، وهو شأنه مع مصطلحَيْ «سوسيولوجيا» و«علم الاجتماع»، المصدر نفسه، ص” 42          

(20) - نقد الباحثُ الأستاذَ الجامعيّ الحبيس في صورته التّقليديّة النّمطيّة.

وهو في كتابه يقدّم الأنموذج المضادّ المنشود. فالأكاديميّ المطلوب هو الباحث المُسائل الباني، والأستاذ هو المتنوّر المثقّف المبدع. راجع المصدر نفسه، ص” 475

وهذه الملامح المطلوبة هي ما يتوفّر لدى الباحث نفسه، فهو لا يكتفي بإطلاعنا على النّصوص المؤسّسة، بل هو يحاورها ويسائلها وينقدها ويضيف عليها ويؤكّد راهنيّتها. وكانت مواضعُ إعمال الرّأي عديدة. فمنها” نقد تناول السّابقين له.  المصدر نفسه،  ص” 390 وما بعدها 

ومنها تخصيص الفصل الثّالث لعرض نقديّ للاتّجاهات الرّئيسيّة في علم الاجتماع التّربويّ وذلك ببيان خلفيّاتها الإيديولوجيّة، وهو نقد لا يستثني علمَ الاجتماع نفسَه” «ومن المؤسف حقيقة أن نعلن أنّ علم الاجتماع قد وُلد في رحم الأيديولوجيا الرّأسماليّة.» المصدر نفسه، ص” 89         

(21) - التّعريف (la définition) من أساليب الحجاج، فعندما يُضبط حدّ لمفهوم يُراد تقديمه فذلك ممهّد للاتّفاق مع المتلقّي على منطلق مشترك، ممّا يساعد على الإقناع بمعناه.

راجع”

Jean-Jacques Robrieux, Rhétorique et argumentation, sous la direction de Daniel Bergez,  2è édition revue et augmentée , NATHAN / HER , Paris , 2000,  p” 143 et pages suivantes     

(22) - كما أحال على تجربة تربويّة مع طلاّب في كلّيّة التّربية بالكويت. راجع «سوسيولوجيا التّربية»، ص” 398      

(23) - يخصّ الأمر أسئلة عن مفهوم الإيديولوجيا. المصدر نفسه، ص ص” 323 - 324    

(24) - المصدر نفسه، ص” 628

وجدير بالذّكر أنّ للكاتب كتبا أخرى حول هذا الموضوع، وهو يحيل عليها كلّما دعت الحاجة إلى ذلك. راجع، مثلا” المصدر نفسه، ص” 163       

(25) - راجع” نور الدّين شيخ عبيد، مقال التّقانة .. مقاربة ثقافيّة واجتماعيّة، ضمن مجلّة عالم الفكر، العدد 1 - المجلّد 40، يوليو - سبتمبر 2011،  ص ص” 220 / 221         

(26) - تحضر في خاتمة الكتاب صورة الرّحلة مع معجمها. وتوضّح هذه الاستعارة السّبيلَ الّتي قطعها الباحث والمجهودَ الّذي بذله في تتبّعه لموضوعه وفي سعيه إلى تأصيله وتوجيه اهتمام القرّاء للتّفكير فيه. 

(27) - المصدر نفسه، ص ص” 360 - 366 و670 

(28) - المصدر نفسه، ص ص” 452 - 455         

(29) - المصدر نفسه، ص ص” 445 - 448          

(30) - العبارة هي لعبد الحقّ منصف، راجع” رهانات البيداغوجيا المعاصرة، دراسة في قضايا التّعلّم والثّقافة المدرسيّة، أفريقيا الشّرق، الدّار البيضاء - المغرب، 2007، ص ص” 175 – 176

* في مثل هذه النُّظم تُنسى حقيقة جوهريّة تتمثّل في أنّ الإنسان هو محور التّعليم. وفي هذا المعنى يقول ميخائيل نعيمه (1889 - 1988) الأديب اللّبنانيّ المعروف بالتّأمّلات العميقة وبعيدة الأغوار”

« فلا بدّ من يوم تنقلب فيه مناهج التّعليم رأسا على عقب. إذ لا بدّ من أن يشعر النّاسُ بحاجتهم إلى أكثرَ من مهندسين وأطبّاء وقضاة ومحامين وشعراء وفنّانين وحاملي شتّى الشّهادات من الابتدائيّة حتّى الدّكتوراه. فالإنسان كان وسيبقى إنسانا من قبل ومن بعد أن كان ذا حرفة أو مهنة أو وظيفة. ومهمّته الأولى والأخيرة هي أن يعرف الإنسانَ.»

ميخائيل نعيمه، صوت العالم، مؤسّسة نوفل، بيروت - لبنان، الطّبعة التّاسعة، 2007، ص ص” 112 - 113     

(31) - هذه هي العبارات المستخدمة في وصف خيبة الطّلاّب وهم يعلمون بحقيقة المدرسة” «لا أستطيع أن أنسى أبدا هذه الصّدمة الّتي ترتسم آثارها على وجوه الطّلبة في كلّ مرّة نشرح لهم فيها الوظائف الطّبقيّة والأيديولوجيّة للمدرسة. نعم إنّهم يصابون بحالة من الذّهول والاندهاش والتعجّب والاستغراب. ولا سيّما عندما يأخذون علما ولأوّل مرّة في حياتهم أنّ المدرسة ساحة للصّراع الطّبقيّ .» «سوسيولوجيا التّربية»، ص” 406          

(32) - نشرت صحيفة «لوفيغارو» (Le Figaro) الفرنسيّة نصّا لـ «فرديناند بويسون» (Ferdinand Buisson) يتحدّث فيه عن المدرسة الّتي تنفّر التّلاميذ وتبعث فيهم الضّجرَ. والنّصّ بعنوان” «الضّجر في المدرسة»

انظر”

L'ennui à l'école, In Le Figaro , du 14 janvier 2003

وانظر بشأن التّعريف بفرديناند بويسن وبعض آرائه”

Dictionnaire encyclopédique de l'éducation et la formation, Éditions NATHAN, Paris, 1994, p p ; 136 - 137         

(33) - «سوسيولوجيا التّربية»، ص” 18        

(34) - المصدر نفسه، الصّفحة نفسها         

(35) - المصدر نفسه، ص ص” 524 - 525        

(36) - يبرّر الباحث - بما يشبه الاعتذار - تصويرَهُ القاتمَ وإيغالَه في وصف ما هو سيّء. فذانك ضروريّان وهما غير باعثين، في رأيه، على الإحباط. يقول” «سرد التّحدّيات ووصف الوضعيّات الاغترابيّة لا يعني الاستسلام لقدر الهزيمة والعجز عن مواجهة التّحدّيات والخلود إلى الأحلام والأوهام. ومن المؤكّد أيضا أنّ هذه السّرديّات الحزينة لا تعني يأسا ولا قنوطا ولا تشاؤما مطلقا»، المصدر نفسه، ص ص” 20 - 21 

(37) - المصدر نفسه، ص” 536        

(38) - «أدّت التّربية العربيّة دورها التّاريخيّ في إنتاج وإعادة إنتاج الجوانب القاتمة في حياتنا الاجتماعيّة وغيّبت كلّ إمكانيّات التّقدّم وعرقلت كلّ عوامل الانطلاق إلى حياة أفضل» المصدر نفسه، ص” 523        

(39) - المصدر نفسه، ص” 171          

(40) - نادر كاظم، مقال المعرفة المُدجَّنة، سلطة الاستبداد والجامعة والجماليّة المفرطة، ضمن مجلّة فصول، العدد 81 - 82، ربيع / صيف 2012، ص” 138        

(41) - «سوسيولوجيا التّربية»، ص” 465

يقول في هذا الشّأن أحمد صادق عبد المجيد” «والحرّيّة الأكاديميّة ليست حرّيّة الكلام أو التّدريس كما يرغب أعضاء هيئة التّدريس بالجامعةـ بل هي ممارسة لمهنة العلماء داخل المؤسّسة التّعليميّة وخارجها (...) فالتّعليم في كلّ المستويات علليه مسؤوليّة تجاه المجتمع والمشكلات الّتي يواجهها. ومن ثَمَّ فإنّ الفكرة الرّئيسة للحرّيّة الأكاديميّة يجب ألاّ تعنيَ التّحرّر من المسؤوليّة تجاه الطّلاّب، ولكنّها مناخ ضروريّ للمعلّم والمتعلّم لتنمية التّفكير الإبداعيّ في القرن الحادي والعشرين.»  

انظر” مقال الحرّيّة الأكاديميّة لدى أعضاء هيئة التّدريس في الجامعات العربيّة وعلاقتها بالقيمة العلميّة المضافة واستشراف المستقبل التّكنولوجيّ، ضمن مجلّة عالم الفكر، العدد 171، يناير - مارس 2017، ص” 284   

(42) - ميخائيل نعيمه، سبعون، حكاية عمر 1889 - 1959، المرحلة الأولى 1889 - 1911، مؤسّسة نوفل، بيروت - لبنان، الطّبعة الحادية عشرة، 2008، ص” 221        

(43) - «سوسيولوجيا التّربية»، ص” 536 وما بعدها         

(44) - المصدر نفسه، ص” 524        

(45) - المصدر نفسه، ص” 637       

(46) - المصدر نفسه، ص” 535        

(47) - المصدر نفسه، ص” 432ا       

(48) - يُنتظر أن تُعلّم المدرسة الدّيموقراطيّة وتربّيَ النّاشئة على مبادئها وقيمها، فيعرف التّلاميذ والطّلبة فضائلها ويسعون إلى نشرها في المجتمع. راجع” المصدر نفسه. ص ص” 247 - 253            

(49) - وهي فكرة أكّدها «بنوا غالون» (Benoît Galand) عالم النّفس وأستاذ علوم التّربية البلجيكيّ. 

انظر”

Benoît Galand, Réussite scolaire et estime de soi, In Sciences Humaines , Hors-série Spécial № 5 , novembre-décembre 2006, p p” 65 - 68            

(50) - التّلقين أيديولوجيا تدميريّة” هذه العبارات واردة في العنوان الفرعيّ (Le Sous-titre) للفصل السّادس عشر.          

(51) - «فالمعرفة لم تعد غاية التّربية وهدفها، بل أصبحت الغاية هي تمكين الأطفال والنّاشئة من تحديد مصادرها والوصول إليها وتصنيفها وتظيفها في حلّ المشكلات ومواجهة التّحدّيات.» «سوسيولوجيا التّربية»، ص” 538           

(52) -  نور الدّين شيخ عبيد، مقال التّقانة .. مقاربة ثقافيّة واجتماعيّة، مرجع مذكور، ص ص” 215 - 218         

(53) - راجع «سوسيولوجيا التّربية»، ص ص” 597 - 600 وص ص” 618 - 622 وص ص” 627 - 629 وص ص” 636 - 637      

(54) - الاغتراب التّربويّ وارد في عنوان الفصل الخامس عشر. وفي متن الفصل.

«يتجاوز الاغتراب ذاك الإحساس بالاستغلال الّذي تصوّرته الماركسيّة في النّظام الرّأسماليّ، فليس هو ذا طابع اقتصاديّ سياسيّ فقط بل هو شامل للمنزلة الإنسانيّة لأنّه يقوم على الإحساس بالقهر والغربة» ويخلص الباحث إلى أنّ ما سمّاه «الاغتراب التّربويّ» يلغي البعد الإنسانيّ في الإنسان. راجع المصدر نفسه، ص” 426 وص ص” 430 – 432   

(55) - المصدر نفسه، ص ص” 539 و 541      

(56) - المصدر نفسه، ص” 540      

(57) - المصدر نفسه، ص” 542      

(58) - من أمثلة ذلك العناية الّتي وُجّهت للتّربية الإعلاميّة” «لا يمكن الفصل بين وسائل الإعلام الرّقميّ الجديد ومكوّنات العمليّة التّربويّة» المصدر نفسه، ص” 208

فهي - بمساهمتها في تقوية الحسّ النّقديّ - ذات فضل في التّحصين من خطر الآفات. المصدر نفسه،” ص ص” 209 - 2013 و ص ص” 216 - 217   

 وتوجد  إمكانات لتوظيف الثّورة الإعلاميّة في التّعلّم. المصدر نفسه، ص ص” 226 - 229  

* كما نذكر مبادئ التّربية الدّيموقراطيّة، المصدر نفسه، ص ص” 244 - 253

* ونذكر الدّعوة إلى مواجهة التّطوّر التّكنولوجيّ بتوجّه تعليميّ يؤصّل البعد الأخلاقيّ، مع الاعتناء بتطوير التّعليم المهنيّ والتّقنيّ وتأهيل الطّلبة لمواجهة المتطلّبات الجديدة لسوق العمل والتّوظيف، إضافة إلى تطويع الوسائل التّربويّة التّعلّميّة للاندماج في العالم الافتراضيّ... راجع المصدر نفسه،  ص ص” 597 - 604

* ونضيف إلى ما تقدّم أهميّة مراعاة معطيات التّجربة الحقيقيّة للحياة التّربويّة حتّى لا يبقى النّظريّ متعاليا غير قابل للتّطبيق. المصدر نفسه، ص ص” 391 - 393 

(59) - راجع المصدر نفسه، ص ص” 283 و641 - 644

والسّؤال المستوحى من تفكير «ألفين توفلر» هو هذا” «إذا كان التّعليم الجديد سيحاكي مجتمع الغد فهل ينبغي أن يتمّ في مدرسة أصلا ؟» المصدر نفسه، ص” 644    

(60) - هي مجلّة”

Le Monde de l'Éducation , № 349 , Juillet-Août 2006

وقد حملت هذا العنوان”

Penser les savoirs du XXIè siècle, crises de l'école et remèdes

(61) - Bernard Stiegler , La consommation impose sa loi , In Le Monde de l'Éducation, № 349 , Juillet-Août 2006, p p” 22 - 25

(62) - Régis Debray, Transmettre et partager, In Le Monde de l'Éducation, № 349 , Juillet-Août 2006, p p” 28 - 31

(63) - «تعمل المدارس والمؤسّسات التّعليميّة غالبا بطريقة تجعل التّعليم نفسه ضدّ التّربية وضدّ المجتمع»، «سوسيولوجيا التّربية»، ص” 440   

(64) - المصدر نفسه، ص ص” 537 - 539         

(65) - يستند الكاتب إلى ما أكّده بهذا الشّأن الفيلسوفُ الفرنسيّ «جان جاك روسّو» (Jean-Jacques Rousseau) في كتابه عن التّربية.  

راجع”

Jean-Jacques Rousseau, Émile ou de l’éducation (Livre second), Introduction, bibliographie, notes et index analytique par François et Pierre Richard, Éditions Garnier Frères, Paris, 1964, p” 78    

(66) - للتّوسّع حول هذا الموضوع”

شاكر عبد الحميد، الخيال من الكهف إلى الواقع الافتراضيّ، سلسلة عالم المعرفة، عدد 360، فبراير 2009، ص ص”

ص ص” 468 - 470

ويضيف هذا الباحث” «التّربية الخياليّة ضروريّة، التّربية عن طريق الخيال أمر ملحّ (...) نقّحوا كتبكم من الحشو وفصولكم من الازدحام ومدارسكم من العشوائيّة (...) كونوا أكثر مرونة وخياليّة، ابتعدوا قليلا عن التّقليديّة وعن النّمطيّة. اجعلوا الطّلاّب يُهرَعون إلى المدرسة لا يهربون منها. لا تجعلوا المدارس والجامعات أماكن للعقاب بل للثّواب، اجعلوها فضاءات للبهجة لا للحزن، لا تجعلوا عقول الطّلاّب مجرّد مخازن ومستودعات للمعلومات بل طاقات للتّجدّد والتّجديد والإضافة والإبداع.» المرجع نفسه، ص ص” 471 – 472 (ضمن فصل «الخيال والتّربية»)

(67) - اعتبر «تزيفتان تودوروف» (Tzvetan Todorov) أنّ الاطّلاع على الأدب مفيد للمرء في تجربة الحياة، فمن الضّروريّ أن تكون له منزلة مرموقة في برامج التّعليم.

انظر مقال”

S’ouvrir à l’immense domaine de l’être humain, In Le Monde de l’éducation, № 335 , Avril 2005 , p p” 20 - 22

(68) -«سوسيولوجيا التّربية»، ص ص” 517 و542

(69) - عبد الإله بلقزيز، العرب والحداثة، دراسة في مقالات الحداثيّين، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت - لبنان، الطّبعة الأولى، شبّاط / فبراير 2007، ص ص” 25 - 26   

(70) - المرجع السّابق، ص ص” 31 - 32   

(71) - من المؤكّد أنّ علاقة المدرسة بمجتمعها ومحيطها هي علاقة ارتباط وتأثّر وتفاعل. لكنّ في اشتغال المؤسّسة التّعليميّة هامشا من الاستقلال. ورأيُ الكاتب يأخذ هذه الجوانب بعين الاعتبار. وفي مواضع كثيرة من الكتاب ما يدلّ على ذلك. راجع «سوسيولوجيا التّربية» ص ص” 259 – 260 و270- 271

(72) - الصّديق الصّادقي العماري، التّربية والتّنمية وتحدّيات المستقبل، مقاربة سوسيولوجيّة، أفريقيا الشّرق، الدّار البيضاء - المغرب، الطّبعة الثّانية، 2015، ص” 152      

(73) - على كلّ مَنْ يشرع في الكتابة أن يستعدّ لما يمكن أن يتعرّض إليه من نقد وتحامل وعليه أن يتوقّع ردودَ الفعل المعارضة الممكنة. يقول الجاحظ في هذا الصّدد”

«وينبغي لمَنْ كتب كتابا ألاّ يكتُبَهُ إلاّ على أنّ النّاسَ كلَّهُمْ له أعداءٌ وكلّهم عالم بالأمور وكلّهم متفرّغ له.»

انظر” كتاب الحيوان، الجزء الأوّل، تحقيق وشرح عبد السّلام محمّد هارون،  دار الجيل – بيروت، 1996، ص” 88       

 

عمانوئيل كانط وويرنر هيزنبيرغ والكاتب الارجنتيني خورخي لويس بورخيس يسيرون الى احدى مقاهي المدينة . كانط الملتزم دائما بالمواعيد يصل اولاً. مشكلة كانط، هي ان النادل لا يستطيع ان يراه كما هو حقا. ما يراه النادل امامه هو رجل قصير القامة ذو رأس كبير الحجم وبعيون حادة. النادل يفرك عينيه: لا تزال صورة الرجل القصير الذي يقف عند الزاوية قائمة، لكنها بطريقة ما ليست موجودة بالفعل، هو كما لو انه احيط بحجاب غائم. عندما يطلب الرجل مشروبا، يواجه النادل صعوبة في فهم ما يطلبه منه هذا الظهور حتى لو كان يسمع الكلمات جيدا . كل ما يراه النادل ويسمعه من أشهر الفلاسفة هو بناء ذهني – نتاج الجهاز الادراكي للنادل. كانط الحقيقي "كانط في ذاته" يبقى الى الأبد محجوبا عن الفهم الحسي المباشر حتى من جانب كانط ذاته.

الى جانب مدخل المقهى هناك الرياضي الشاب هيزنبيرغ. النادل يقع في حيرة مرة اخرى، عندما لا يستطيع هيزنبيرغ عبور عتبة الباب. ما يتصوره النادل هو نوع من الوميض: هناك هيزنبيرغ فقط قبل العتبة، ساقه تمتد في منتصف الخطوة، وهنا شيء ما يمشي بغموض على العتبة، لكن النادل لايمكن ان يكون متأكدا انه هيزنبيرغ.

النادل يمكنه اختيار اما ان يرى هيزنيرغ ثابتا قبل العتبة، او شيء ما يعبر العتبة بسرعة ما. ما لا يستطيع ان يراه النادل هو هيزنبيرغ يعبر حقا العتبة. النادل يترك هيزنبيرغ لحالته غير المقررة، وينظر خلفه نحو بورخيس البطيء. الرجل الأعمى، لم يصل ابدا للمقهى، ينقر عصاه بحذر أمامه، هو اولا يمشي نصف المسافة من الرصيف الى مدخل المقهى، ثم نصف المسافة المتبقية، ثم مرة اخرى نصف المسافة ... خطواته المتزحلقة (دون رفع القدم) تصبح أصغر ثم أصغر في كل مرة. وحالا، تصبح خطوات بورخيس صغيرة جدا لدرجة يصعب رؤيته يتحرك.

يقص وليم ايجنتون في (قسوة الملائكة،2023) (1) كل ما حدث له من مغامرة فكرية تستلزم أبطالنا الروائيين الثلاثة – فيلسوف تنويري، فيزيائي كمومي، ومؤلف قصص الخيال الملتبسة – يصارع فيها مع نوع من المفارقات تبرز في اللحظة التي نبدأ، حسب عبارة ايجنتون في "صنع أصنام من ادواتنا". "الأدوات" حسبما يشير ايجنتون هي أفكار تمتد على اتساع المساعي الانسانية، تدمج مفاهيم فلسفية، فرضيات علمية، وأعمال فنية.

مثل هذه الأدوات جعلت الحياة ممكنة – في الحقيقة، سيكون من المستحيل فهم العالم بدون توسّطها. ومع ذلك وفي نفس اللحظة التي نعبد بها الادوات – اللحظة التي نعتقد ان العالم يتطابق مع هذه الوسائل المتصورة من جانب ذهن الانسان – انها تصيبنا بالعمى . يبرز "شق من اللامعقول" ويكبر دائما، نتيجة لما يبدو كـ "عدم انسجام راديكالي بين الكائن والمعرفة". كل واحد من أبطال الكتاب يتعامل مع اللاانسجامية هذه بطريقته الخاصة.

مشاكل فلسفية حقيقية

جادل كانط باننا لا نستطيع معرفة العالم كما هو "في ذاته": كل ما نستطيع معرفته هو ما نسجّله عن العالم من خلال حواسنا. المدخلات عبر آلياتنا الحسية تُفسّر عبر مختلف المبادئ الفطرية لتخلق تجاربنا.فمثلا، طبقا لكانط، الأفكار المبرمجة سلفا عن الزمن الكوني والفضاء اللامتناهي هما مبدآن أساسيان لممارسة العالم. (اينشتاين أثبت خطأ افكار كانط المتعلقة بمفاهيم العالمية واللانهائية ولكن ليس حول فكرة ان تجاربنا في العالم محددة بالضرورة من حيث الزمان والمكان). هيزنبيرغ بدوره أظهر انه بالنسبة للجسيمات الاولية – الآلتواء واللحمة في نسيج العالم المادي – لا نستطيع إمتلاك معرفة مطلقة حول سلوكها. هذا بسبب ان الواقع المادي لا يتألف من خيوط ثابتة موجودة بشكل مستقل عن تفاعلاتها مع المراقبين، بل ان الكيفية التي نقيس بها تؤثر على كيفية ظهورها. في كتابه العظيم (الفيزياء والفلسفة،1958)، حذّر هيزنبيرغ زملائه الفيزيائيين ان لا يغفلوا "عنصرا ذاتيا في وصف أحداث ذرية طالما ان وسيلة القياس بُنيت من جانب المراقب، ونحن علينا ان نتذكر ان ما نراقب هو ليس الطبيعة بذاتها وانما طبيعة منكشفة لطريقتنا في التحقيق". مساهمات هيزنبيرغ الأصلية والمستمرة لدراسة ميكانيكا الكوانتم هي مبدأ عدم التأكد. هذا المبدأ ينطوي على ان الفيزيائي يدرس مسار الكترون حول ذرة، يمكنه اما ان يقرر موقع الالكترون بالنسبة لوسيلة القياس او يحسب زخم الالكترون (نتاج كتلته وسرعته)، لكنه لا يستطيع معرفة كلا الشيئين في نفس الوقت بدرجة معينة من الدقة. كذلك، الالكترون لايمتلك هذه الصفات بشكل مستقل . هذا بسبب ان العالم دون الذرة اتضح انه ليس عالم اشياء مادية موجودة بثبات واستمرارية، وانما وعاء او مصفوفة من احتمالات الملاحظات. في عالم هيزنبيرغ الخاص: عالم الجسيمات الأولية هو "نوع قوي من الواقع الفيزيائي يقع تماما في الوسط بين الإحتمالية والواقعية" – وهو القول الذي لا يتفق مع المنطق السليم .

"فقط في الوسط بين الاحتمالية والواقعية" هو ما اراد بورخس ان يجسده في كتابته. طوال حياته، كان بورخس منهمكا بالمفارقات المتأصلة باللانهائية الرياضية، فكرة الأبدية، والمذهب الفلسفي للمثالية. هذه تتضمن مفارقات زينون في الحركة التي جرى توضيحها جيدا في قصة أخيل والسلحفاة. أخيل، حسب القصة، يتحدى السلحفاة في السباق، تاركا لها مسافة عند بدء الإنطلاق. المنطق يخبرنا ان أخيل يجب ان يربح السباق. لكن هنا السخرية: يقول زينون لأجل اللّحاق بالسلحفاة يجب على أخيل اولاً الذهاب الى المكان الذي كانت فيه السلحفاة أصلا، ولكن في تلك الاثناء، السلحفاة تكون قد تحركت، وبهذا يتوجب على اخيل الوصول الى ذلك المكان الجديد، لكن عندما يصل الى هذا المكان تكون السلحفاة تحركت مرة اخرى الى الأمام ... وهكذا تستمر اللعبة الى ما لانهاية، بما يعني انه رغم ان المسافة بين اخيل والسلحفاة تقل باستمرار، لكن اخيل سوف لن يلحق ابدا بزميلته المتباطئة. في سباق اخيل والسلحفاة، السلحفاة دائما هي الرابح.

ما تظهره هذه المفارقة ليس كما يعتقد زينون باستحالة الحركة، وانما فكرة الحركة تصبح متناقضة "عندما نخلط كما نفعل عادة، بين الاشياء الحقيقية والفكرة عن تلك الاشياء"، كما يصفها ايجنتون، فكرة المكان قابل للقسمة الى ما لانهاية، التي يعتمد عليها زينون، هي ممكن فهمها رياضيا لكننا الآن نعرف بان هذه الفكرة لا يمكن تطبيقها على الواقع. المكان لايمكن تقسيمه الى ما لانهاية – مثل هكذا قسمة مقيّدة بثابت بلانك plank’s constant. ولنوضح اكثر، مفارقات زينون توضح الآلتباس الحاصل عندما يُفترض ان تكون الحركة مساوية للمكان الثابت الذي تقطعه. كما يجادل هنري بيرجسون ، رغم اننا نستطيع تقسيم المسافة المقطوعة في السباق الى عدة مسافات كما نحب، لكننا لا نستطيع عمل نفس الشيء للحركة. عندما يركض اخيل، فان حركته لا تتألف من نقاط (س وص وج )، وانما حركته هي تدفق واحد مستمر. النقاط غير المتحركة "س وص وج " لايمكن ان تكون تمثيل دقيق لتقدّم أخيل المستمر خلال المكان. انها بدلا من ذلك فكرة مجردة عن المسافة المقطوعة.

شبح مفارقة زينون دخل في تصوّر بورخس. في الحقيقة، هو كتب عدة مقالات وقصص مسكونة بالصدى العميق لـ اللاّنهائية والأبدية. احدى هذه القصص والتي هي من أعظم الأعمال الادبية لبورخس هي (اقصوصة خورفي لويس بورفيس،1940). في هذه القصة، يروي بورخس بطريقة معقدة ومميزة،حياة سكان كوكب يسمى Tlon الذي هو حسب ما ورد في هامش القصة تم التفكير بوجوده بطريقة ما من خلال جهود مشتركة لأجيال من المفكرين، تبدأ بفيلسوف القرن السابع عشر جورج باركلي صاحب المثالية – "لتكن موجودا هو ان تُتصور". بالنسبة للسكان المثاليين في تلون، لا معنى للقول ان عالما يوجد خارجيا لتصوراتهم، بل، هم "يتصورون العالم كسلسلة من العمليات الذهنية التي تحدث ليس في المكان وانما على التوالي في الزمن". لا اسماء استُعملت في مختلف لهجات تلون لأن الأسماء ستكون غير منسجمة مع هذا المذهب، في استنتاج كما يفعلون عادة بوجود اشياء مستقلة عن الذات. بدلا من الاسماء، بعض المتحدثين في تلون يستعملون افعالا غير شخصية تشير لأفعال التصور، وصف القمر مرتفعا فوق النهر، على سبيل المثال، ربما يكون "صعودا خلف ما يعرضه من دفق". متحدثون آخرون عن تلون اختاروا الصفات: "قمر" يصبح "أثيري لامع فوق ظلام دائري"، او "سماوي ناعم". منطقيا، حالما لم يعد بالامكان تصور الاشياء والاماكن في تلون، هي سوف تمتنع عن الوجود: "احيانا"، الراوي يخبرنا ان "عدد قليل من الطيور، حصان، أنقذت بقايا المدرج" من النسيان. يستمر القاص ان "شعب تلون عُلّموا ان فعل الحساب، يعدّل المقدار المحسوب،محوّلا اللامحدد الى محدد". هذه الممارسة الغريبة تبدو تماما مثل عالم فيزياء الجسيمات، حيث فعل الملاحظة ايضا "يعدّل" الجسيم الملاحظ، لكي يصبح "اللامحدد"، كالموقع المحتمل للجسيم،"محدد" فقط في فعل الملاحظة.

عبور الهاوية

رغم ان ايجنتون لا يركز على المقطع أعلاه، لكن قسوة الملائكة مليئة بالمقارنات من هذا النوع. الهدف من المقارنات هو لبيان تحذير: كما يعبر عنه ايجنتون باسلوب كانطي، "الاشياء لا تُعرف طبقا لطبيعتها وانما طبقا لطبيعة الشخص الذي يفهمها". هذا هو بالضبط الدرس من قصة تلون، لكي نعطي صوتا لرغبتنا العميقة بعالم يمتثل لأنفسنا، لطبيعة تشبه لعبة الشطرنج، فيها نقرر ما هي الاحجار. وباعادة صياغة عبارة وليم بلاك، الذهن الانساني عادة يبحث ويرى عوالم في حبات من الرمل، سماوات في زهور برية، لا نهائيات تُمسك في يد احد، او أبديات عاشت في ساعة (كما في قصة المعجزة السرية). راوي بورخس يسأل، "كيف لا يسقط العالم تحت سيطرة تلون، كيف لا يستسلم للدليل الواسع والدقيق في التفاصيل عن كوكب منظم؟" في الحقيقة، السقوط تحت سيطرة مختلف أنظمة الفكر يبدو فعلا يشبه وصفا مناسبا للتاريخ الفكري لنوعنا البشري. متى ما سقطنا دون نقد تحت سيطرة أنظمة الفكر، سنجد أنفسنا في تلون ولم نعد في العالم الواقعي.

ايجنتون يشير الى عدة مواقف لذهنية تلون في الفكر العلمي والفلسفي الحديث ولاسيما في نقده لأولئك (مثل سام هاريز) الذي اقترح توضيحا حتميا لسلوك الانسان، بالاضافة الى رفضه لنظرية تعدد الاكوان. الداعون الى تعدد الاكوان، حسب رؤية ايجنتون، تم تضليلهم بالرياضيات: التعبير الرياضي لـ 2، او 3، او حتى عدد لا محدود من المحصلات المحتملة لتجربة كوانتمية معينة يؤخذ كاشارة الى الوجود الحقيقي لعدد مطابق من الاكوان، حيث كل من هذه المحصلات يتم تحقيقها. "نحن نسيطر على خيالنا"، حسب قول ايجنتون، "ونعمل اساطير من الرياضيات، نحن نعد شراب الأكوان المتعددة لكاندنسكي ونزرع حدائق من مسارات متفرعة لـ اللّامحدود. لكن الخلافات العميقة، وفواصل الالتباس والفوضى التي تسعى تلك النماذج لطمسها، لا تُمحى. هم يسكنوننا. هم يجعلوننا في ما نحن عليه".

بالاضافة الى إغراق القارئ في حياة بورخس وكانط وهيزنبيرغ،فان قسوة الملائكة هو احد اكثر المداخل وضوحا ومتعة الى العالم المذهل لفيزياء القرن العشرين وتقييم فلسفة كانط، خاصة دحضه للانكار الحتمي للحرية، وهو حاد بنفس القدر. لكن البطل الحقيقي في الكتاب هو هيزنبيرغ لأنه في عمله جرى التعبير بشكل ملموس عن "عدم الانسجام الراديكالي بين الكائن والمعرفة".

الفيزيائي كارلو روفيل Carlo Rovelli يعود الى العالم الكوانتمي. اعتمادا على "علائقيات" روفيل فان ايجنتون يرى بان تفسيرات ميكانيكا الكوانتم، مثل جسيمات الموجة الاولية التي "توجد" فقط في اللحظة التي توضع فيها في علاقة مع المراقب، كذلك نحن كائنات علائقية، متشابكة كما لو كنا في نسيج عالمي ينزلق دائما من خلال فهم حتى أدواتنا الأكثر دقة.

***

حاتم حميد محسن

......................

الهوامش

(1) كتاب قسوة الملائكة للكاتب وليم ايجنتون صدر في 29 اغسطس 2023 عن دار Random house Audio.

 

‏‏لعلي رميت نفسي في مأزق الكتابة، بعد أن اعتذرت عن إدارة حوارٍ ثقافي معه لإحدى الندوات الفكرية، تعللت هروبًا بعدم الجاهزية! فبرغم سعادتي الغامرة أثناء استلامي دعوة المحاوره، إلا أن ثقتي بنفسي تراجعت وقلقي من مواجهة باحث ومفكر وفيلسوف ديني بهذا الحجم اتسع جدًا، فاعتذرت. لكن ها أنا بعد سنوات أجدني واقفة قبالة وعد الكتابة عن كتابه الأخير "مسرّات القراءة ومخاض الكتابة" الصادر عن منشورات تكوين بالكويت 2023 بقلقٍ مختلف، ولكني سأهزم قلقي هذه المرة، وسأخوض التجربة لأن الكاتب غير المغامر ليس بكاتبٍ يعوّل عليه، وأزعمُ بأنني لست كذلك.

سيرة ذاتية توشحت بالفكر الحر والفلسفة الدينية والعمق الإنساني القيمي، كرّست منجزها منذ أربعين عامًا لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، تجذرت بغزارة الإنتاج بما يفوق خمسون كتابا حتى اليوم، سطّرت صولات وجولات الذات الباحثة والعقلية المفكرة، تقلدت مواقع ثقافية قيادية، وأنتجت إرثًا يبحث في أشد الموضوعات حساسية ووجودية، ارتبطت بالفلسفة الدينية بصفة وجودية. نجحت في التحرر من التقليدية الإطلاقية كما لم تهزمها النسبية السيّالة، فتفوقت وتميزت بالإمساك بمعايير الفكر الحر المتجدد والإنسانية الخلّاقة، وسارت بخطى تصاعدية في سلالم الدين والفكر والفلسفة. الدكتور عبد الجبار الرفاعي، مفكر عراقي، يشغل منصب مدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ورئيس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة منذ إصدارها عام 1997 وحتى اليوم، وهو عضو بالمجمع العلمي العراقي. آخر اصدارته: مقدمة في علم الكلام الجديد، الدين والكرامة الإنسانية، الدين والنزعة الإنسانية، الدين والظمأ الأنطولوجي، الدين والإغتراب الميتافيزيقي. وآخرها "مسرات القراءة ومخاض الكتابة " كفصل من سيرة كاتب.

‏ بدأت رحلته تحت ترنيمات الأم المؤمنة، وسارت بمشقة الولد الحافي الذي يمشي من قرية تتبع مدينة الرفاعي - جنوب العراق - ليصل مدرسة تأسست عام 1959بقرية مجاورة على بعد ستة كيلومترات. الرفاعي الذي لا ينفك يستجلب طفولته باعتراف شفيف بأن الطفل الساكن في أعماقه لم يهرم بل هو في تجدد مستمر، يُعبر بعفوية أنه يرى انعكاس تدين والدته ووالده في رحلته الروحية الوجودية.

‏الحديث عن سيرة الرفاعي، شيّق جدًا وثري بتنوع مسارات التجربة وعميق بغزارة النحت في الأصول والمفاهيم والبنى التحتية في قضايا الدين والفلسفة. لهذا يأتي هذا المقال، كإضاءة بسيطة على القليل، القليل جدًا مما استخلصه من مسيرته الكتابية فقط وليس الرحلة الكاملة، حيث استندُ الآن على ما ورد في كتابه الأخير، وتبقى أمنية الكتابة عن كامل رحلته طي الانتظار. فما هي الإضاءات؟

أولًا: تأويلية عنوان السيرة الذاتية:

تبدأ رحلة الكاتب بفعل القراءة أولًا، كبذرة أولى تُجذر التجربة المعرفية، وتؤسس بنية تحتية جديرة بترسيخ مشروع الكتابة القادم، وقد جاء العنوان مُتنبهًا لهذه التراتبية في الفعل الثقافي؛ "مسرّات القراءة ومخاض الكتابة" مُعبرًا عن مباهج القراءة وسرورها، في عبارة تشيء برضا يصل حد الفرح والابتهاج، ثم تعطف على فضول المعرفة أي "فعل القراءة" بولادة فكرية أي "فعل الكتابة" يأتي بعد مخاض شديد يُسفر عن كتابة جديدة. وقد عبر الرفاعي في أكثر من موضع عن صعوبة الكتابة لديه، وبهذا العنوان؛ يعطي الرفاعي صنعة الكتابة قيمة عالية باعتبارها فعل جهد واجتهاد، مُبيّنًا بأن الكاتب يجدر به المرور بهذه المراحل لصناعة تجربة جديرة بالثبات والاستمرار، كما ينبه كل الكتاب والراغبين في دخول عالم الكتابة لضرورة تأسيس مبانيهم المعرفية عبر القراءة أولًا. ونلاحظ أسفل العنوان، تعريفًا للكتاب: "فصل من سيرة كاتب" هكذا بلغة الواثق عرّف نفسه بـ "كاتب" وهو الباحث والمفكر والأكاديمي ومدير مركز دراسات فلسفة الدين، فهل كل كاتبٍ كاتب؟2004 مسرات القراءة

ثانيًا: ملامح الشخصية الباحثة:

لاتخلو كتابة "جادة" من كشف بعض ملامح كاتبها، وهنا أخص "التجربة الجادة" لأن هناك كتابة متنكرة لذاتها، بينما نلمس الانكشاف ظاهرًا في التجارب الوجودية برغم محاولات الإخفاء والتخفي! بيد أن القارئ الحصيف يمتلك حاسته السادسة التي تؤهله لتحسس شفافية الكلمة ومصداقيتها وتفريقها عن مشهدٍ احترافي لكنه مجرد فعل مؤدى لنص جميل. وكقارئ، فأنت أمام سيرة تفتح لك أبوابها المُشرعة عبر أقوالها الشاهدة على ملامحها الشخصية، نذكر منها:

* قلق البحث المعرفي والإيمانيات:

يقول الرفاعي في مقدمته: "لا يفزعني تساؤل العقل، ولا أخشاه على الإيمان، ولم أحرص يومًا على حماية إيماني بتعطيل التفكير العقلاني النقدي، لم تعبث قراءتي وأسئلتي المتواصلة بأخلاقي، ولا بسكينة الروح، ولا بطمأنينة القلب. إن النظرة المتأنية تكشف عن قدرة الطبيعة الإنسانية على استيعاب الأضداد". لقد وضع يده على بؤرة الخوف وأشار صراحة لقلق الإنسان المتدين، الذي يدفع المجتمعات الأبوية لحجب مصادر المعرفة المختلفة وربما إخفاؤها من مكتباتهم العامة، كي لا تصلها أيدي القراء. غير أن الرفاعي مشى بجسارة على ذلك القلق طيلة أعوامه الفكرية، فرسخ إيمانًا لا يسهل زعزته. لقد فعلت رحلة البحث أثرها البناء والإيجابي على إنسانيته وفهمه للدين أيضًا. ولعلنا في عصرنا الراهن بحاجة لقراءة هذه التجربة على أصعدتها المتعددة؛ وتأمل مآلات الفضول المعرفي المتوازن، فلا توريث جامد للأفكار والمعتقدات البشرية، ولا تأليه للشخوص والنصوص، كما لا انبهار بالسيولة الجارية على كل شيء، بلا قيم ولا محددات موضوعية.

*علاقة ضمير الكاتب بإنتاجه الإبداعي:

في هذا الأفق، يكتب: "الكتابة ضرب من امتحان الضمير الأخلاقي للكاتب، فكما تتطلب الكتابة عقلاً يقظًا تتطلب أيضًا ضميراً أخلاقيًا يقظًا، بعض الكتاب يحاولون خداع القراء عندما يكتبون مغالطات ومراوغات وتمويهات مفضوحة، فليس المهم أن تكون موهوبًا وحاذقًا ومتعلما تعليما جيدا فقط، المهم أيضا أن تمتلك وعيا بالعالم حولك وتكون حكيما، وتمتلك ضميرا أخلاقيا يقظا يحضر بفاعلية حين تكتب". بهذا السمو العالي يرسم الرفاعي جناحا الكتابة الخلاقة وهي تُحلق ببراعة في فضائها التجريبي، غير منحازة لمصالحها الشخصية ولا متدنية بجريها خلف أوهام ترميها على جمهورها المتلقي كزهور فاتنة الرائحة بينما موبوءة المياسيم وسامة اللقاح. إن الكتابة التي يعنيها المفكر أشبه بتواقيع يختمها الكاتب على نفسه، كمصداق لتجربته الفكرية والثقافية، فما تفصح عنه الكلمات يضمره القلب وتكتنزه الذات، إنها الكتابة بوصفها مرآة لحاملها.

* علاقة الكاتب الرفاعي بقرائه:

تحت عنوان "أنا مدين لكل من يقرأ كتاباتي" يذكر المؤلف بعضًا من مواقفه مع طلابه الجامعيين، ويقول: "من دون قارئ يفتقر النص لانبعاث الحياة فيه، القراءة بقدر ما تحيي النص تجدده عبر الحوار النقدي للقارئ مع النص" فحياة الكاتب كمُرسل تقابلها حياة القارئ كمُستقبل للأفكار، وفي هذا الجسر ضمان بقاء لمسيرة التداول الفكري بين الكاتب والقراء. هذا هو الكاتب الذي يبعث فيك روح التواصل الإنساني العالي، جاعلًا من الفكرة هي محور الدوران، متعاليًا على أوهام الفوقية لبعض المثقفين الذين يصرون على البقاء في أبراجهم العاجية، لغةً وأسلوبًا وتعاملًا، مما يفقدهم تواصل القراء برغم جودة إنتاجهم، غير أن البعد الإنساني والأخلاقي في التجارب الإبداعية له دور هام في تحريك ونشر العمل، وهذا ما يغفل عنه المثقف المتعجرف والمفكر المتكبر.

ثالثًا: مفاهيم حول القراءة والكتابة:

يتطرق الرفاعي لمفاهيم أساسية في رحلة القراءة، منها: "القراءة العشوائية" ويعني قراءة كل شيء وأي شيء، كذلك قراءة ما يزيد المرء في التخبط وتشويه الوعي، أو بهدف جمع المعلومات دون تطبيقها أو تغيير شيء من الواقع. كما يتحدث عن "الكتابة بوصفها تجربة وجود" وهي تعتمد بالدرجة الأولى على مصداقية التعبير وشفافية الكلمة ومكاشفة الأحداث، وهنا يكمن عمقها الوجودي، قائلا: "من يعجز عن اكتشاف طريقه بنفسه يعجز عن الإبداع، وعندما يقودك دليل يعرف الطريق دون أن تكتشفه بنفسك، ستضيع أثمن تجربة اكتشاف في حياتك وتصبح كأنك معاق يسير بغير قدميه".

رابعًا: استحضار الدروس وتحديث الممارسات:

كنتيجة منطقية لهذه التجربة، يستخلص الدكتور عبد الجبار دروسًا يثري بها قراءه، فيكتب عن: " الكتابة بوصفها مرانًا متواصلًا" فالكتابة تنمو وتتطور باستمرار التجريب والممارسة المستمرة، كما يشير لقيمة حاضرة في فضاءات الثقافة وساحاته الفكرية وهي الاختلاف قائلًا: "أن نكتب يعني أن نختلف" إشارة لحرية التعبير للكاتب، ونتيجة لتحرره الفكري والثقافي ونظرته الجادة لدوره العضوي. وبرغم حساسية فكرة الاختلاف ومايترتب عليها من خلافات وصراعات بين تيارات وأحزاب إلا أنها أصيلة في الطبيعة البشرية ولها تأصيل علمي، وهنا يأتي دور المثقف في معالجته لهذه الإشكالية ومحاولة العمل على المشتركات الثقافية لحماية الإنسان من العنف والاحتراب باستثمار التنوع والتعددية.

في ختام الحديث عن هذا الكتاب، تجدر الإشارة إلى أنه سلك مسلكًا واحدًا في حياة المؤلف، مُحددًا إياه " فصل من سيرة كاتب ". وهنا أغتنم الفرصة للتعبير عن رأيي بشكل عام في تصميم السيرة الذاتية؛ أرى إن الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية بسرد قصة حياته، وهو في ذلك حرٌ في انتقاء ما يريده أن يبقى وما يتمنى زواله من ذاكرته بالدرجة الأولى، لأنه يكتب برغبةٍ داخلية وتطوعٍ ذاتي عن نفسه، وبالتالي ليس ملزمًا لكشف كل ما لاقاه وعاشه في حياته، فأولًا وأخيرًا هو إنسان عادي، يتأرجح بين النجاح والإخفاق، والتقدم والتعثر، والصواب والخطأ، والعلم والجهل، والقوة والضعف. وبطبيعة الحال، الناس يتفاوتون في رغبتهم في الإفصاح كذلك قدرتهم على ذلك، ناهيك أنهم قد يتبرأوا من بعض فصول حياتهم بعد حين، وأراه أمرًا مشروعًا كنتيجة لنمو الإنسان وتغيّر أفكاره وقناعاته وأسلوب حياته. وعليه، سواء ضمنت السيرة كل القصة أو فصلًا منها، ستظل إضافة للمكتبة الإنسانية. أما تحديدًا عن الدكتور عبد الجبار الرفاعي فنحن بانتظار بقايا فصول سيرته الزاخرة.

***

رجاء البوعلي - أديبة وناقدة من السعودية.

صدر مؤخرا عن دار رنَّة للنشر والتوزيع والطباعة في جمهورية مصر العربيَّة كتاب نثري جديد ولافت للشاعرة والناقدة المغربية المرموقة نجاة الزباير بعنوان "بكَ.. اكتفيت" (2023) وهو عبارة عن رسائل عشق تقترب من مناخات العشق الصوفي وتشبه بتجلياتها بورتريهات نثريَّة مختزلة رشيقة تضيء على مقاطع شعرية مكثفة، مؤثرة وذات جمالية عالية لشعراء مغاربة وعرب بارزين منهم نزار قباني وفاروق جويدة وأحمد بلحاج آية وارهام، وأنور عمران، والدكتورة عائشة الخضر لونا عامر، وتميم البرغوتي، ومحمد بشكار، ومحمود درويش، وسميح القاسم، وبوعلام دخيسي، وكريم معتوق، وكريم العراقي، ونمر سعدي، ويوسف الديك، والشاعر ماجد عبد الله، ود.إبراهيم ناجي، بالإضافة إلى شاعر أجنبي واحد وهو أمريكي يدعى إدوار إستلِن كامنغز. يقع الكتاب في نحو 88 صفحة من القطع المتوسط ويشكِّل حسب رأيي علامة فارقة في التجربة النثرية للشاعرة المغربية التي واكبت تجارب شعرية كثيرة مغربية وعربية وسلَّطت عليها ضوء النقد والتحليل والمكاشفة بلغة رومانسية حالمة تقترب كثيرا من ينابيع الشعر الرقراق النقي.

أول ما يلفت النظر في هذا السفر النثري الجميل هو جمالية عناوين أبوابه الرئيسية المكتوبة بحذق ومهارة وذائقة جمالية رفيعة، كعناوين "صوت ينقر نافذة المطر.. إلى رجل ما" و"أقداح من ماء الرحيل" و"معزوفات على أوتار الهوى.. إلى سيدة ما" و"رسائل من رماد". ولا يقلُّ جمال العناوين الفرعية عن جمال عناوين الأبواب الرئيسية.وتبدو نصوص الشاعرة نجاة الزباير النثرية في كتابها الرشيق وصغير الحجم امتدادا لقصيدتها الحالمة الرقيقة الفواحة بعطر اللحظات والأمكنة وكأنها محاورة ذكية وعميقة للنصوص الشعرية التي أوردتها للشعراء المبدعين، أو إعادةُ كتابتها على مرأى الأسطورة وفي ظلِّ توهجِ النوستالجيا. كأنها تتقرى قصائدها المختارة بشغف من يتقرى عبق المكان، ومن يبحث عن فتات الضوء في جدار الزمن. عبر رسائل "بكَ.. اكتفيت" حيث نجد اللغة الشعرية الإيمائية الطافحة برماد الرغبة وقد اختمرت، ونلمس معانقة روحية عالية، حقيقية، حارة وحميمية مع جماليات النصوص المختارة وايحاءاتها ودلالاتها الفنيَّة والمجازية. ونجاة الزباير في كتاباتها النثرية شاعرة قبل كلِّ شيء.. شاعرة مدهشة، ممتازة ذات تفرد وأصالة تبحث عن المعاني المبتكرة بلغة عذراء مغسولة بضوء الدهشة والإشراق، وتراوغ بخطى واثقة ولمسات خفيفة شعريات عربية وأجنبية متجذرة وراسخة ولها حضور ثقافي وإبداعي وإنساني كبير. فهي ناقدة رائية وتمتلك حاسة تمكنها من استشراف البعد الخفي في النص، بالإضافة إلى كونها شاعرة مغربية استثنائية ذات تجربة إبداعية مغايرة ومختلفة تحفر في أعماق اللغة، وأقاصي الأبجدية. فهي غجرية الشعر المغربي بلا منازع وأميرة القصيدة الهامسة.

في نص الشاعرة نجاة الزباير نتنسم عبير الكلام المعجون بالغيم ونشمُّ روائح النباتات العطرية المغربية وروائح التوابل الحارقة وتزكم أنوفنا عطور المفردات الهاطلة من فضاءات ملونة وسماوات خفيضة منبثقة من جبال وسهول وصحراء البلاد الشاسعة، كأن نص الشاعرة خلطة جميلة فيها من كلِّ العناصر والأشياء. ومن نصوصها المتوهجة برائحة الشوق وبراعمِ ناره يطلُّ علينا هذا النص المكتوب بريشة عاشقة حقيقية مقادة بعصا الشوق والحنين واللهفة "شفتاي تبتسمان رغما عني، فلتتا من أسري وتحولتا لحمامة بيضاء تلامسان قلبي بأشعة هواك. فأراني أتساقط عشقا في وريد الوقت.. أنت.. يا من تركتُ له أزرار الروح يفتحها وقتما يشاء، كي تدخل بدون استئذان.. أأنت بقربي تحاورني وتطل علي من مخدع عينيك الساحرتين؟!!! ها أنا أضحيت قصيدة هوى تسكن قلبك وأرقص على إيقاعاتها فرحا.. لتتحول حياتي لنغم لا أحد يستمتع بمثل جماله. يا أنت.. يا وردة إلهية تنثر عطرها في دمي، ويا ضوءا تشع قناديله في روحي.. ألا تعلم بأني لك وحدك وأن العالم يجتمع كله بين راحتيك حيث أردد: أهواك يا لحني الأبدي؟ دعني أهمس في وريدك بأن قلبي ينغلق على عوالمي، وتعلوه مسحة حزن لا أدري كنهها حتى أسمع صوتك القادم من عالم الحب، فأراني فراشة نورية تطير في نبض العشق وتحط فوق أهداب هواك. سأهمس في وريدك: أني عاشقة لك.. تراك تبتسم لتقول: نعم أعرف هذا... لكنك لا تعرف كيف يطرز هذا العشق ثوب وجودي بألوانه الزاهية، ولا كيف أبعث في ردائه حورية تكتب عن صلاة الحب التي تقيم تراتيلها في وجداني. فهل صادفت يوما امرأة عاشقة مثلي؟!!"

وفي نص آخر نحلِّق مع الشاعرة على أجنحة الحب الصوفي أو غيوم زفرات العشق الحارقة إذ تقول "يغزل الليل من مشاعري ضفائره، ينثرها بين يدي وساوسَ تنهش قلبي الهش، فأراني أهرب منها نحو بابك أطرقه. هل تسمعني؟ ألا تريد أن تفتح لهواي كي يستريح من سفره الطويل الذي أُنهِك نبضُه وهو يمر بين ثنايا رمال العمر، ليس معه غير قربة من ماء عشقك يشرب منه كلما أحرقته شمس الحنين؟

يأتيني صوتك محملا بالعطر تقول حبيبتي...، فتطير الحروف حماما زاجلا نحوك، تطل عليَّ من نافذة الروح فأرى ابتسامتك تتغلغل فيَّ، تعزف على مسمعي صوت المطر الذي أعشق، أو لستُ عاشقة المطر الضاجة من الشمس التي تضيء في قلبك؟ أنا هنا.. كي أقص عليك هذيان مساء هارب مني يتفيأ أهدابك، يطل عليك وأنت تجمع أجزاء القلب المنثورة في غيابك، فهل رأيته حين تمدد في كلماتك ثملا؟ أم تركته وحيدا مثل ساعي البريد الذي يحمل كل أشواق العشاق في حقيبته، لكنه لا يتدفأ بها لأنها ليست له؟ فيعود إلى دياره وحيدا بعد أن كانت أصوات الأوراق حية في يده، فيها صور تسكب نبيذ حيرتها في كل جهات الهوى.وبعدها تنام في درج ما، بعد أن نصبت خيامها لفراشات الوجدِ. هل رأيتها حين طارت من قلبي كي تحلق في سمائك؟ أم صددتها عنك كي لا تحط طائرات الشوق أمامك؟ حتى وإن فعلت.. ستتسلل من نوافذ روحك كي تراك.."

ونجاة الزباير التي توقظ الريح من جهاتها العشر على حد تعبير الناقد الأردني رائف الريماوي هي شاعرة وناقدة صحفية من المغرب * عضو اتحاد كتاب المغرب * رئيسة تحرير كتاب أفروديت الدوري الإصدارات: الدواوين الشعرية * ديوان: *أقبض قدم الريح /2007*ديوان قصائد في ألياف الماء / 2009 *ديوان لجسده رائحة الموتى / 2010 * ديوان فاتن الليل / 2012 * ديوان ناي الغريبة / 2013 * خلاخيل الغجرية / 2014 عن منشورات أفرديت.* جدائل الليل / 2023 عن درا رنَّة للنشر والتوزيع بمصر / 2023 * يد تقود عماي/ 2024 عن بيت الشعر بالمغرب الكتب * "فواكه الصرخة نظرات في عالم التشكيلي المغربي محمد البندوري / 2009* بوابات منفتحة الأشداق" خاص بشعر عبد العاطي جميل  2001 * "فاكهة العوالم فوق مائدة الولائم / 2004 دراسة خاصة بديوان ولائم المعارج" للشاعر أحمد بلحاج آية وارهام "رسائل ضوء وماء / 2011 * قناص ببندقية من ورق..*إطلالة على طرائد الشاعر عبد الرحيم الخصار/ 2023 عن منشورات أفروديت*حكايات شهرزاد النقدية" الصادر عن دائرة الثقافة والإعلام الشارقة، ضمن كتاب الرافد /2016*"بكَ.. اكتفيت" منشورات رنَّة للتوزيع بمصر 2023.

***

نمر سعدي

شاعر فلسطيني يقيم في الجليل

 

سؤال التلقي والتأويل في كتاب: الأنساق الذهنية في الخطاب الشعري.. التشعب والانسجام.

(إن النص لا يكشف أسراره ما لم يتهيّأْ له متلقٍّ كالْغوّاص الماهر) الجرجاني1

تمهيد:

إن البحث في في تجربة الباحث والمبدع جمال بندحمان النقدية يقودنا توّاً إلى السؤال عن احتمال التراكم المنهجي القاضي منطقيا بالسيرورة نحو بناء نظرية ممكنة في مجال اشتغاله النقدي. وقولنا بالتراكم هو حكمٌ يخرجنا من التتبع الكمي لحجم المخرجات أو أعدادها التي راكمها الباحث جمال بندحمان عبر مساره النقدي الطويل، في توجّهٍ بحثيّ يستنكف الكمَّ ويقحمنا في نوع هذا المنجز وجودته، إن شئنا حكم القيمة، وفي عمقه العلمي إن شئنا حكم الموضوعية. ومن هنا فالحديث عن نظرية نقدية نستشرفها في برامج اشتغال هذا الرجل هو أمر وارد ووممكن جدا. وقبل هذا وذاك فهو أمر مُنصف. وأنا أعتبره أقل ما يمكن أن يُقَدَّم لهذا المبدع الموسوم بالحركية الاستثنائية في البحث العلمي المستمر دون هوادة في الساحة الثقافية المغربية والعربية على حدّ سواء .

وأما بيانه الشاهر في وجهنا سيف التواضع، فنرده عليه ردّاً ناعما برفضٍ من حرير. قال الباحث جمال بندحمان: (إننا لا ندّعي أننا بصدد إنشاء نظرية في التحليل، فذلك حلم بعيد المنال في ظل مجتمعاتٍ لا تلتفت إلى البحث العلمي، ولا تجعل الثقافة انشغالاً جماعيا. لذلك فإن ما نقدمه ليس سوى اجتهاد فردي، فإن أصاب فله أجران، وإن لم يصب فأجر اجتهاده يغني عن حمل وزره)2.

وهو هنا يصرح بعكس ما نذهب إليه. وتصريحه هذا لا يعدو أن يكون مزيداً من التركيم النبيل لحجم القيم الإيجابية في سجل عطاءاته الجادّة علما والمتواضعة خلُقا وقيمة، ولا يعدو أن يكون أيضا دفعاً لمشروع النظرية في سمت الباحث \ الإنسان الذي لا يقول: ها أنذا. وإن شئنا صوابا فالمنطق القيمي السليم يفرض عليه أن يقول (ها أنذا) في غير صلفٍ أو نرجسٍ أو ادّعاء .

و المصداقُ في قولنا هذا، أستدعيه من الذكر الحكيم على لسان النبي يوسف عليه السلام: (قَالَ ٱجْعَلْنِى عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلْأَرْضِ ۖ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ)3، وهو يقف في وجه الفساد ويحول بينه وبين أن يحتكر فاسدٌ \ نكرةٌ هذا المنصب الحساس في دولة كبيرة ليعيث فيه وفيها. ومن هنا أقول إن دولة النقد عندما يطالها الفساد والعيّ يصبح على كل ذي قوة علمية حافظة وأمينة أن يقول: ها أنذا، وأنا أهلٌ لها وجديرٌ بها. وإن لم يجد الجرأة على قولها نقولها نحن بدلاً عنه وقلوبنا مطمئنة .3556 جمال بندحمدان

سؤال التلقي والتأويل  في كتاب الأنساق الذهنية

البحثُ في قضايا التلقي والتأويل لناقد من النقاد، سواء أكان عربيا أم من الغرب، من القدامى أم من المجايلين، هو لعمري أمرٌ شاقّ للغاية، لأننا لا نتعامل مع الخطاب النقدي باعتباره متنا إبداعيا خاماً. بل نتعامل مع متن يشتغل على متون أخرى وبالتالي فلغتنا التي نتوسلها هنا أداةَ فهم واستيعاب وتفكيك وتحصيل وتخريج وغير ذلك، هي في صميم الموضوع آلة تشتغل على آلة أخرى، هي بدورها تشتغل على آلة أولى هي أصلٌ في العمل .

من هنا مشقة قراءة النقد وصعوبة تشريح العمل النقدي في توجهه العلمي القاضي باستبعاد مسألة العشق والانطباع في البناء والتركيب والتخريج والتأويل، وبالتالي فنحن في هذا المبحث نواجه عدّة أنساق ثقافية ومعرفية تفرض علينا كل الحذر والاحتراز في استنطاق المعطيات واستخلاص التأويلات خارج منطق العرض المسطّح الذي توجّهه هدفية الجرد التي لا ننكر قيمتها وحضورها، ولكننا سنسعى إلى قراءة المفاهيم المتعلقة بالتلقي والتأويل في خصوصية الناقد وفي ظلال مرجعيته الفكرية وكذلك في استشراف تطلعاته القرائية المسكوت عنها. وهي المشقّة ذاتها النابعة من انتصاب الناقد أمامنا بطرحه الخارج من أتون شخصه الخاص وتكوينه الأخص ورؤيته الأكثر خصوصية. بمعنى أننا، وعلى سبيل المثال، نقرأ متونَ الشاعر ابن خفاجة، موضوعَ بحثِ الكتاب لا في أنساقه الذهنية وحدها، بل نقرؤها في أنساق الناقد الذهنية أيضا، وبالتالي نكون في موقع القارئ الإشكالي الذي يضيف إلى تصورنا للمتن الأصلي تصورَ الظاهرة المدروسة وتصورَ الناقد الدارس. إذن هي ثلاثة أنساق يضعنا الباحث \ الناقد في أتونها:

- نسق النص الرئيس، في زمنيته وذاتيته

- نسق المفاهيم، في علميتها وخصوصية بنائها

- نسق القارئ، في تلقيه الجمالي الإشكالي

أمام هذا الزخم القرائي لا يسعنا إلا أن نقول: حسبنا من هذا أن نقول ما قاله أستاذنا جمال بأن بحثنا هو في آخر المطاف مقولاتُ اجتهادٍ لنا أجرُ صوابِه الذي يكفينا وِزرَ أخطائه.

ما أسهل ان نمارس جرداً كمّيّاً لقائمةً بالمفردات والمقولات والمفاهيم المرتبطة بالتلقي والتأويل الواردة في غضون كتاب الأنساق الذهينة في الخطاب الشعري. وما أيسر تبويبها وتصنيفها وفق سلّم مقامي معين نستنتجه من احصائية تواردها داخل المرجع أعلاه. والأجدر بنا أن نقرأ هذا الإركام داخل رؤية الباحث النقدية الخاصة وداخل مشروعه النقدي الذي يتجاوز فيه فكرة الكتابة من أجل الكتابة، ويتخطى فيه أيضا حدود التركيم الموضوعاتي في خزانات النقد. الأمر أبعد من هذا وذاك لأن سياق الأمانة العلمية يفرض علينا البحثَ عن مداخل مناسبة لقراءة السؤال حتى ننسجم مع تصورات الكاتب الفنية والنقدية وحتى الفلسفية التي ينطلق منها في تبئير مشروعه النقدي وفي بلورته وفي امتداداته .

يتعامل الباحث ج بندحمان مع مفاهيم التلقي والتأويل بانفتاحٍ واعٍ كل الوعي بلحظته التاريخية وبحتمية انقطاعها أو استمرارها الإبستمولوجي عبر الأزمنة. وينتهي المفهوم بين يديه إشكالاً مفاهيميا ينيخ رحلته طائعاً طيّعاً ومنسابا في عمليات الأجرأة والتظهير. وطريقة الباحث (ج بندحمان) لا تكتفي بالتنظير، بل تردف الدراسة بالتظهير دون الغلو في التجريد. فيكون همّه دائما هو توظيف المفاهيم والمصطلحات للإضاءة، وبالتالي فهو لا يركبها لجمال صهوتها ولكن يركبها لنجاعة وظيفتها باعتبارها مطيةً لا غاية، وأداةً لا منتهىً، ووسيلةً لا بؤرة معرفية يقف عندها الباحث ويوقف من معه من القراء ابتغاء ظهور أو شهرة أو التقاط صورة للتأريخ .

ومن جليل التواضع العلمي والعلمية المتواضعة، حرص الباحث على إضاءة المفاهيم والمصطلحات في ثقافة التنسيب، بحيث لا يعلن بدءاً بمطلقيتها أو بدلالتها القطعية، وإنما يسيّجها داخل عملية علمية تهب العمل النقدي بعده النظري الصرف وبعده التظهيري المطمئن على نتائجه .

1 – في سلطان التأويل:

أوّلَ القدماءُ الشاعرَ ابن خفاجة تأويلاً نمّطه في صورة الشاعر الجنّان الملتصق إبداعه بوصف الطبيعة. وهو تأويلٌ منقوص أدّى إلى بترِ إبداعه ردحاً من الزمن تغوّل فيه هذا التأويلُ وعُدَّ البديهةَ التي هيمنت على تمثّلات المتلقي العربي، ووجّهته في مساراته التأويلية حتّى بدا له الخروج عنهُ فريةً عجيبة وبدعة رهيبة . من هنا يفترض الباحث جمال بندحمان أن ابن خفاجة (لم يكن شاعر الطبيعة، بل كان شاعر وجود عام يعبر عن رؤيا فلسفية عميقة ويجادل أهل زمانه في شؤونهم العامة والخاصة، ويساهم في تقديم تصوراته ومعتقداته وتمثلاته السياسية والمذهبية ...)4.

2 – في المفهوم:

 القراءة والتلقي والتأويل نشاط مكثّف وفعل مشترك، وتوليد يحاول سبر أغوار النص واستكشافها في اتجاهيْن: من النص إلى القارئ ومن القارئ إلى النص. والعملية في هذا النشاط دائما مزدوجة تقوم أساسا على فعليْ التلقي والتأويل.

والتلقي هو نقل المعنى من داخل البنيات النصية الصغرى والكبرى إلى المتلقي الذي يبدأ العملية بالتعرف على معاني النص ثم أبعاده ثم علاقاته.

و التأويل هو تحديد المعاني اللغوية عبر آليات التحليل وإعادة صياغة المفردات لتوضيح مرامي العمل الفني بشكل عام، ومقاصده باستخدام آلة اللغة دائما... التأويل عملية بحث مستمرة عن أمثل شكل للفهم والاستيعاب، على اعتبار أن كل فهم يفتح طريقا إلى التساؤل وإلى تنشيط الفكر.

3 - رصد الظاهرة:

و نقصد بذلك تتبع الإركام الحاصل في كتاب الأنساق الذهنية والمتعلق بمقولتيْ التلقي والتأويل، إن بشكل مباشر أو بصورة ضمنية . ولقد حصدنا من هذه العملية أكثر من سبعين محطّة يتحدث فيها الباحث ج ب عن التلقي والتأويل في صيغ مختلفة ومتنوعة ودقيقة على مستوى التناول والطرح. وتقوم هذه المحطات أساسا على الاختراز والحذر من السقوط في التأويل المشطّ والسائب. فهو لا يني يقيّده بشروط لغوية ونفسية ومعرفية تجنبنا الوقوع في مطبّات التأويل المفرط وفي شساعاته العائمة المنفلتة من كل رقابة منهجية. ونجد لذلك مثالاً لا حصرا في قول الباحث في مقدمة الكتاب (والمتلقي يستند إلى خلفيته المعرفية من أجل إدراك وفهم هذا القصد المباشر، وفتحه على مقاصد أخرى يحتاج في التدليل على صحتها إلى التقيد بشروط تجنبه كل تأويل إسقاطي)5.

 ومنها قوله (وقصدت بالثاني ما هو مبني من قِبل المتلقي استنادا إلى معرفته الخلفية ودرجة تطبيع علاقته مع النص ضمانا لعدم تناقضه وتعبيره عن رؤى موحدة وثوابت متضامّة)6.

ومنها أيضا قوله (فالمحلل ينطلق من المعطى ليبني المراد على مسار تأويلي يمكنه من إعادة تقدير المعنى)7.

4 – معالم تأويلية الأنساق:

= المَعْلم الأول:

النظر إلى الخطاب في ذاته لا في خارجيته، ونقصد بذلك النظر إلى الخطاب خارج المؤثر الآخر القابع في وجهة نظر تكتسي بفعل العادة طابع الهيمنة. وهذا ما حدا بالباحث جمال بندحمان إلى القول في مقدمة كتابه (معظم الدراسات التي تناولت ابن خفاجة اقتصرت أحكامها على صفة "جنّان الأندلس" وشاعر الطبيعة مما قادها إلى بتر إبداعه وتكرار القراءات والأحكام نفسها...)8.

من هنا فجمالية التلقي والتأويل لا تسمح فقط بإدراك الخطاب وشكله بالكيفية التي تمّ فهمها على نحوٍ تطوريٍّ عبر التاريخ، بل تقتضي أيضا أن يُصنّف كل خطاب ضمن سلسلته الإبداعية التي ينتمي إليها، حتى يتم تحديد وضعه التاريخي ودوره وأهميته في السياق العام للتجارب الأدبية، وحتى يتم التصنيف الموضوعي في غير خطل وفي غير إجحاف.

إن تلقّينا للمنجز الخفاجي ينبغي أن يدخل في حكم السيرورة التي تنتقل فيها القراءة من التلقي السلبي الموجّه والخاضع لخارجية النص الصرفة، إلى التلقي الإيجابي المرتبط أساساً بإنتاج الجديد في تعالق جدلي مع دينامية التطور.

= المعلم الثاني:

يقدم الباحث ج ب تأويليته داخل داخل مفهوم النسق، إخلاصا للنسغ العام لكتاب الأنساق الذهنية، والمقروء داخل مقولة الانسجام أولاً بأوّل.

و معنى ذلك أن الانسجام قبل أن يكون شرط وجود في الخطاب هو شرط وجود في عمليات التأويل. قال الباحث:(وقصدتُ بالانسجام ما هو مبني من قِبل المتلقي استناداً إلى معرفته الخلفية، ودرجة تطبيع علاقته مع النص ضمانا لعدم تناقضه...)9.

والمسألة ترتبط بالتوافق المنهجي بين المقدمات والنتائج من جهة، وبين أحكام القارئ\ الناقد، مُنتج الخطاب النقدي وبين المتلقي\ القارئ، مؤوّل الخطاب، في اتجاهٍ لا يبحث عن انسجام كلي بين المخرجات هنا وهناك، فهذا ضربٌ من المستحيل وعطب في التصور النقدي، بقدر ما الأمر متعلق أساساً بإنتاج سقف معقول من التأويلات المطبوعة بخاصيتيْ الانسجام والتشعب في اتجاه الإخلاص لا لنسغ الباحث النقدي ولكن للنسغ العام للخطاب النقدي وهو يقرأ ابن خفاجة قراءة جديدة تروم الكشف عن التعسف الذي طاله زمناً طويلا...

= المعلم الثالث:

يعي الباحث في كتاب الأنساق الذهنية كل الوعي حجم المسؤولية القابعة خلف عمليات التأويل. ومن ثمة فالباحث لا يجترح التأويل خارج سند معرفي، لأن التأويل في عمق المطاف ليس مغامرة أو ضرباً من الرأي يُهتدى إليه بوساطة الخواطر والتأملات الذاتية التي تبنيها الأهواء والانطباعات خارج مقولات الاتساق.

إن المتلقي القادر على عمليات التأويل هو القارئ المتوفر على الشرط الإبستمولوجي الذي يمكنه من رصد مرجعية الخطاب وحركيته المنتجة والمؤوّلة. قال الباحث (وأما الشرط الابستمولوجي فيُبنى على خلفية تحديدية أو معرفة سابقة)10.

= المعلم الرابع:

في إطار المقصدية يؤمن جمال بندحمان بانفتاح التأويل على جهتين من الفهم والإدراك، ويتعلق الأمر بفهم القصد المباشر من الخطاب\الأم، كما يتعلق بفتح هذه القصدية على مقاصد أخرى. ذلك أن النصّ المؤوّل ليس نصاً مالكاً للحقيقة، بقدر ما هو رؤية خاصة ونسبية للحقيقة، وفي آخر المطاف فهو مجرد تأويل أولي للواقع. تأتي بعده تأويلات أخرى من شتى المتلقين على اختلاف مشاربهم المعرفية. والفرق هنا بين التأويليْن أن صاحب النص – ولنأخذ ابن خفاجة كمثال – لا يؤوّل ذاته بل يقدم لنا رؤيته للوجود وللحقيقة. فيما التأويلات اللاحقة بعده فهي تمارس قراءاتها على مقولٍ لا على واقع. من ثمّة نفهم لِمَ صرخ نيتشه صرخته القائلة(لا توجد حقائق، بل تأويلات فقط)

ويذهب الباحث ج ب في هذا الصدد مذهب الناقد الحريص على تحقق الانسجام بين مقاصد كل من المبدع والخطاب والمتلقي في وعيٍ نقدي لا يفصل بين هذا الأطراف. قال (والأمر مقترن في نهاية المطاف باختيارات وقرارات منهاجية يتحكم فيها المتلقي والخطاب ومقاصد المتكلم)11.

= المعلم الخامس:

التأويل المقيّد... يتكرر هذا الشرط المتهجي في غضون الكتاب أكثر من مرة، محدثاً تركيما واعيا بضرورة تبنّي التأويل المعتدل تجنباً لأي انزلاق خارج المنهج. قيّد ج ب التأويل داخل مواضعات سماها بالقوانين اللغوية والنفسية والمعرفية. وفي هذا السياق يدرك الباحث حق الإدراك مسؤولية التلقي والتأويل مستنداً في ذلك إلى العلم لا الحدس أو الانطباع والمغامرة. لهذا نجده يقيّد التأويل بقوانين لغوية ترتبط بالتركيب، ونفسية ترتبط بالمؤوّل، ومعرفية ترتبط بالمشتَرَك... وهذا من شأنه أن يحدّ من تسيّب التأويل المفرط ويوجّه مسار القراءة نحو مقومات معينة...

هكذا يضع الباحث التأويل المفرط تحت مجهر المساءلة تجنباً للسقوط في عشوائية التخريج والتي يختلط فيها المدلول بالمدلول والتشابه بالتشابه والترابط بالترابط حذرا من الانزلاق فيما سمّاه أمبرتو إيكو بـ"الورم الإيحائي"... وهو الورم الدلالي الذي يشطّ بالقارئ بعيداً عن مقصدية الخطاب. وخير مثالٍ لهذا الحذر المنهجي قول الباحث (يعتمد المدخل الأول معطيات اللغة وقوانينها الصوتية والصرفية والتركيبية... ويعتمد الثاني الأعرافَ والأحكام العامة المستندة إلى الثقافة المشتركة، ويعتمد المدخل الثالث على معطيات المحيط والسياق وشروط الإنتج)12.

المعلم السادس:

تحدث الباحث جمال بندحمان عن التشييد حديثا تركيمياً في سياقات مختلفة حتى ظننتُ أنه المفهوم المركزي في منظومة الأنساق الذهنية... إن الأخذ بالنسق المغلق (لن يقود إلا إلى فهم جزئي وتحديد فرعي للخطاب. وهو الأمر الذي تناولته دراسات متعددة جعلت الانسجام معطىً ثاوياً بين ثنايا الخطاب ومنحت المتلقي، بقدراته التأويلية ومعطياته التداولية، شرعيةَ بنائه وتشييده)13.

و غرضنا من هذا العرض هو مفردة التشييد الواردة في آخر الاستشهاد والتي تحتل في مقام الدراسة شأنا ذا بال. إن الباحث ج ب ربط فهم الخطاب في أنساقه المتعددة بقدرة المتلقي لا على التأويل فقط، وإنما بالقدرة على التشييد لمفاهيم جديدة تغني التخريجات والنتائج والخلاصات.

ولو تتبعنا تراكم هذا المفهوم في سياق الكتاب لما وسعنا المقام، وحسينا من ذلك الاستئناس بالتشييد لا بإركامه وتراكمه، بهدف الوقوف على منظورات الناقد المركزية.

و فيما يلي بعض محطات التشييد على لسان الباحث تصريحاً وتضميناً:

- إن رفض التناقض يُبنى انطلاقاً من المتلقي وليس من الأشياء... ص 19

- للمتلقي دور في إعادة بناء التناقضات المختلفة وإرجاعها إلى أصولها... ص 43

-  المتلقي قادر على إعادة تشييد العلاقات وبناء المقولات... ص 80

- يكون تشييد التشاكلات أعمّ من تلك المعطاة شريطة الاستعانة بمؤوّلة تبعدنا عن التأويل المفرط... ص 108

- كل حقيقة هي حقيقة تصورية مشيّدة، غير أن هذا التشييد ليس متطرفا لأنه لا يلغيالعوالم الأخرى بل يساوي بينها... ص 137

وفي هذا المقام يفسح الباحث ج ب باب النقد على مصراعيه وهو يوسع في مفاهيم البناء، عبر تركيزه على مفهوم التشييد لاعتبارات منهجية نلخصها فيما يلي:

- التشييد باب نقدي تأويلي يحسم في مسألة القطعية وثبات النتائج على اعتبار أن مخرجات العملية النقدية لا ينبغي أن تأخذ طابع الدوغمائية، بقدر ما هي دعوة مفتوحة على الاحتمال النقدي التأويلي الممكن.

- التشييد مفهوم نقدي مرن يتيح للمؤوّل شساعةً في التحليل والتفكيك والتأويل. ويهبُه نوعاً من الانسيابة النقدية القاضية بنسبية المنتج، وبالتالي سحب فكرة الهيمنة التي قد تتأتّى من إحساس المؤوّل بالعجب، وهي مسألة وجدانية أكثر منها علمية.

- التشييد فكرة تنسجم مع منطلق الباحث وفرضياته الأولى التي تذهب مذاهب الترابط المنهجي بين مكونات الخطاب، وتفاعل عناصر الخطاب.

هكذا فالتأويل فعلٌ قرائي يُشيّدُ ويروم بناء المعنى استناداً إلى أدوات ومرجعيات وقواعد... داخل رؤية نقدية مفتوحة ومنفتحة، يكون فيها التمثل هو الفهم، والتأويل هو المفتاح.

5 – تظهير:

نختار نموذجاً لتأويلية كتاب الأنساق الذهنية، ونقصد بذلك نسق الجهاد المرابطي:

وهو النسق الثاني بعد نسق الاستمتاع، وهو نسق يكذّب مقولة ابن خفاجة الجنّان.

يمارس الباحث جمال بندحمان داخل هذا النسق رؤيته التأويلية المحكمة والعلمية داخل مقوّم الانسجام وتشاكل مكوناته. والقصيدة مطلعها:

الآن سحّ غمام النصر فانهملا \\ وقام صغو عمود الدين فاعتدلا

داخل هذا التظهير يمارس الباحث تأويليته باقتدار علمي أخلص فيه لمخرجات بحثه في انسجام منهجي قويّ. فهو يقرّ في تحليله أن النصر بؤرة وما تبقى في القصيدة مجرد إطار. وهذا تأويل مقيّد ومشروط شرطه الباحث بقرائن تستند إلى المعنى المعطى والمفتوح على المعنى المبني والمشيّد. فإذا كانت الاستعارة\الأم هي (سحّ غمام النصر) فما تبقى تفريع لها عن طريق المشابهة أو الترادف أو المجاورة أو التضاد... واعتمد في تأويليته على إجراءات منهجية مصوغة من فكرة التشعب والانسجام:

- التفريع المقولي

- الانتقال الاستعاري (من الاستعارة القاعدية إلى الفرعية)

- مساءلة المقاصدية (يتم ذلك داخل المشترك الثقافي كالقرآن والحديث النبوي)

- اعتماد اللاحق لتأكيد السابق (وهو نوع من التشارح)

- تنويع التأويلات (استقبال قراءة القصيدة في دلالة الجهاد واستقبالها أيضا في الدلالة على الدنيا)

- المعطيات النصية (ويتعلق الأمر بالتأويل المبني داخل معطيات النص وخاصة التركيبة المفضية إلى أكثر من دلالة حسب سياقاتها المتعددة)

اكتفينا بهذا القدر من التظهير لأن هدفنا من المقالة هو بيان تأويلية الباحث المنتهية إلى إنصاف الشاعر ابن خفاجة من التأويل التاريخي المُنمِّط...

ختم:

التأويلية في كتاب الأنساق الذهنية تعقّبٌ حثيثٌ وسعيٌ دؤوب وراء الفهم، وتحيين لإرث السابقين في شخص المنجز الإبداعي شعرا ونثرا لشاعر قديم هو ابن خفاجة الذي نمّطه التأويل التاريخي داخل أحادية المعنى الواصف للطبيعة، فيما الرجل شبكة من المواقف الوجودية – لا بالمفهوم الفلسفي – تجاه شتى قضايا الوجود، ترجمها شعره ونثره وتقصّاها الناقد جمال بندحمان بمباضع نقدية عالمة تحفر في فسيفساء التراث بأدوات وآليات ذكية ممنهجة تمتح من قلب الحداثة في مصطلحاتها المُطوَّعة باقتدار، كما توظف الأصالة التراثية في بلاغتها وبيانها ورؤاها النقدية في تطويعٍ مسؤول... من هنا أقول في وعيٍ منّي إن كتاب الأنساق الذهنية كتاب حمّال حسنات وهي ثرّة وغنية وأجملها في هذا المقام أن ابن خفاجة ينبعث فينا حيّاً وكأنه ابن اللحظة كلما قلّبنا صفحات كتاب الأنساق.

***

بقلم أبوشامة نورالدين حنيف

.........................

إحالات:

1 – عبدالقاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ت محمود محمد شاكر، دار المدني ط 1، ص 141

2 - جمال بندحمان، سيمياء الحكي المركب، البرهان والعرفان، (رؤية) للنشر والتوزيع، ط 1، 2015، ص 12

3 - سورة يوسف، الآية 50

4 – جمال بندحمان، الأنساق الذهنية في الخطاب الشعري، التشعب والانسجام، منشورات TOP EDITION الدارالبيضاء، ط 1، ص 15

5 – كتاب الأنساق، ص 19

6 – كتاب الأنساق، ص 37

7 – كتاب الأنساق، ص 104

8 – كتاب الأنساق، ص 15

9 - كتاب الأنساق، ص 37

10 - كتاب الأنساق، ص 99

11 - كتاب الأنساق، ص 106

12 - كتاب الأنساق، ص 101

13 - كتاب الأنساق، ص 18

صدر قبل أسابيع قليلة كتاب جديد عن دار ميزر للنشر في مالمو السويد كتاب للباحث العلمي في علم الكوسمولوجيا، علم الأكوان، المقيم في باريس الدكتور جواد بشارة، تحت عنوان من الكون المرئي إلى الكون اللانهائي يصحبنا فيها الكاتب في رحلة علمية ممتعة نجوب فيها معه أركان الكون المرئي وننطلق منه إلى أبعاد الكون اللانهائي . عبر قرون عديدة انشغل الفلاسفة والمفكرون ورجال العلم بماهية الكون، نشأته، تركيبه ومصيره. فلقد فكّر بأصل الكون قدامى المصريين والسومريين والأكديين والآشوريين والبابليين، وكذلك القدامى في بلاد الفرس والهند والصين. كما قام الاغريق قبل حوالي خمسة وعشرين قرناً بمحاولات لمعرفة تركيب الكون وجوهر التفرع اللامتناهي لظواهر الطبيعة. ومازالت المسائل أعلاه بخصوص الكون وألغازه المثيرة تتمتع بأهمية استثنائية إلى يومنا هذا، وتحتل مكاناً بارزاً في الجبهة الأمامية لعلم الفيزياء والكونيات. ويبحث في هذا المجال أشهر العلماء، وتُجرى تجارب باهظة التكاليف في أشهر وأكبر المعجلات والمفاعلات النووية ومراكز الأبحاث التجريبية.

لقد تطورت المعرفة البشرية بصورة هائلة خلال هذه القرون العديدة، وتعمقت واغتنت بالكثير من المفاهيم والمبادئ الجديدة التي جاءت نتيجة لسبر أغوار المادة أعمق فأعمق، ودراسة ظواهر الطبيعة المتنوعة بصورة علمية، وخاصة بعد التطور التكنيكي العالي الذي حصل في صناعة الأجهزة الفيزيائية المستخدمة، سواء في دراسة العالم الميكروسكوبي (عالم الجسيمات الأولية والذرات والجزيئات)، أو العالم الماكروسكوبي (عالم الأجسام الكبيرة) أو العالم الميجاسكوبي (عالم الكواكب والنجوم والمجرات).

وفي رحلة ممتعة ومثيرة بصحبة الدكتور جواد بشارة في كتابه هذا، الموسوم (من الكون المرئي إلى الكون اللانهائي)، يطّلع القارئ على تفاصيل مسيرة طويلة لتطور علم الفيزياء والكونيات، بكل ما فيها من مصاعب وغموض وأيضاً من نجاحات وإثارة.

ليس من السهل أبداً تقديم أحدث النظريات والبحوث العلمية إلى القارئ العربي، لما تحتويه تلك النظريات والأبحاث على مصطلحات ومفاهيم، ليس لها ما يُقابلها في اللغة العربية، من جهة، ولغرابتها وغموضها في أغلب الأحيان، من جهة أخرى. بيد أن التجربة الغنية التي يمتلكها د. جواد بشارة في هذا المضمار، إضافة إلى أسلوبه المتميز في طرح آخر ما توصل اليه العلماء؛ أعطى جاذبية لفصول الكتاب الثمانية عشر، الأمر الذي يمنح القارئ رغبة أكيدة في مواصلة رحلته بهذا الكتاب الشائق، رغم ضخامته.

يوضح المؤلف الدور الذي لعبته نظريتا آينشتاين النسبية الخاصة والعامة في الفيزياء النظرية الحديثة، ويبين أهمية الثورة في الفيزياء التي أحدثها ميكانيكا الكم، حيث شكّل الميكانيك الكمومي النسبي الأداة الفعالة لتفسير العديد من المعضلات والظواهر التي لم تستطع النظريات والقوانين الكلاسيكية من إيجاد حلول لها.

كما يعطينا د. بشارة صورة مدهشة لعالم الجسيمات الأولية، وخاصة اللبنات الأساسية للمادة أو للكون، وينتقل بنا من الكواركات إلى الأوتار الفائقة، ومن النيوترينو إلى الغلوون والغرافيتون والفوتون وجسيمتا W وZ وكذلك بوزون هيغز الذي تم اكتشافه مؤخراً في مركز سيرن الأوربي للأبحاث. ويناقش الكاتب المسألة الجدلية وهي قدوم الطاقة من العدم وعلاقة ذلك بفرضية الارتياب أو الشك لهايزنبرغ، ويتحدث أيضاً عن الجسيمات والجسيمات المضادة لها، واندثارها عند اصطدامها ببعض متحولة إلى حالة جديدة من المادة، وعلاقة ذلك بالجسيمات الافتراضية والاهتزازات الكمومية التي تحدث في كل لحظة وبكل مكان.

ويشرح لنا عن قوى الطبيعة الأربع وعن النجاح المذهل الذي تحقق في توحيد بعضها، وعن محاولات أشهر العلماء في الوقت الحاضر لتوحيدها في نظرية واحدة هي (نظرية كل شيء)، التي ستستطيع، كما يأملون، الإجابة على كل الأسئلة وتوضيح كل الظواهر.

كما يتناول المؤلف بالتفصيل معظم الآراء بصدد الكون، أصله، تطوره، الآفاق المستقبلية، ويبحث في أسئلة عقدية، منها مثلاً، هل احتاج الكون إلى قوة خارجية لوجوده بما هو عليه اليوم؟ وهنا لا يفوته ما جاء في كتاب ستيفن هوكنغ الموسوم (التصميم العظيم – The grand design). ويتطرق إلى تعددية الأكوان، ومفهوم الكون اللانهائي، ويُناقش احتمالية وجود حضارة بشرية خارج كوكب الأرض. ويجد القارئ في هذا الكتاب أحدث ما توصل إليه العلماء بخصوص بعض المفاهيم والظواهر والألغاز، مثل الثقوب السوداء، الثقوب الدودية، المادة المظلمة، الطاقة المظلمة، الكومبيوتر الكمومي، التشابك الكمومي وغيرها الكثير.

وعلى مدى 670 صفحة من القطع الكبير يتعرف القارئ على أهم علماء الفيزياء والكونيات، ومساهماتهم في محاولات كشف أسرار الكون وحلّ ألغازه، ومن بينهم إسحاق نيوتن، نيكولاس كوبرنيكوس، غاليليو غاليليه، يوهانس كيبلر، تايكوبراهي، لودفيغ بولتزمان، ألبرت آينشتاين، ماكس بلانك، بول ديراك، فيرنر كارل هايزنبيرغ، نيلز بور، لويس دي بروجلي، ماكس بورن، ولفغانغ باولي، إروين شرودنغر، ستيفن هوكنغ، إدوين هابل، ماكس تيغمارك، ميتشيو كاكو، ريتشارد فاينمان، آلان غوث، ليونارد سسكايند، كارل ساغان، ريتشارد فينمان وغيرهم.

ويشرح لنا دكتور بشارة كيف أدى تطور أدوات البحث في سبر أغوار الكون إلى معرفة المزيد من أسراره وغموضه، فقد كشف تلسكوب هابل في 1923 عن مليارات المجرات الأخرى التي تتسارع في بعدها عن بعضها، وحصل تلسكوب جيمس ويب في 2022 على نتائج جيدة، ومن المؤمل أن يقوم التلسكوب الجديد نانسي جريس الروماني والذي سيُطلق في 2027 في دراسة واعدة عن المادة السوداء (أو المظلمة)، الطاقة السوداء (أو المظلمة) وكذلك عن مواضيع عديدة في فيزياء الفلك.

إن متعة هذا الكتاب تتجلى في طرح ومناقشة الأسئلة التالية، التي تُعتبر من أهم الأسئلة حول الحياة، العالَم وكل شيء:

- لماذا هنالك (شيء ما) بدلاً من من (لا شيء)؟

- لماذا نحن موجودون؟

- لماذا هذه المجموعة من القوانين وليس غيرها؟

***

د. إبراهيم الخميسي - دكتوراه في فيزياء الجسيمات

(الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، كما أنه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح، إنه أفيون الشعب).. كارل ماركس، مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل

في الثقافة الدينية.. إضاءات وتأملات تفسيرية جديدة، للمؤلف سماحة اية الله العظمى أحمد الحسني البغدادي.

الكتاب يتضمن 100صفحة، صادر عن دار أحياء تراث الإمام البغدادي، العراق - النجف.

السيد أحمد الحسني البغدادي احد رجال الدين المعروف في مدينة العلم (النجف)، وهو من رجال الدين المتنورين، وله مؤلفات عديدة في الدين. والكتاب موضوع قرأتي هو من المؤلفات المهمة التي أصدرها السيد البغدادي، لما يحتويه من أمور يدار نقاش حولها.

و لاشك أن السيد البغدادي أضافة كونه رجل دين ضليع في ماكتب عن الدين الإسلامي وهو خريج مدرسة جده محمد الحسني البغدادي، وللسيد البغدادي الحفيد مواقف سياسية وطنية اختلف بها مع الحوزة الدينية القائمة الان اختلف في فتاويها، التقليدية ومنها الدفاع عن الوطن أثناء الهجمة الامبريالية المتصهينة عام 2003 , معلن عن رأيه في خطاباته في مدينة الصدر وكذلك في المؤتمر القومي العربي بمشاركات عديدة في بيروت والمغرب والجزائر وصنعاء والتي كانت كما شبه الكثير من المشاركين أنه جيفارا الثائر بالعمامة السوداء، نظرا لثوريته في اللقاء وطرحه للامور من وجهة نظر عربية خالصة، ووطنية حقة. هذه المقدمة سقتها كمدخل لقرائتي لكتابه الجديد (كتاب في الثقافة الدينية) لكي اعرف القارئ عن شخصية اية الله البغدادي ومواقفه ذات الطابع الوطني والعروبي والذي رابطه أساسا بمواقف رجال الدين الوطنيين في عامي 1918 في انتفاضة النجف وفي ثورة 1920 التاريخية بالارتباط مع رجال العشائر العراقية. وهذا مااردت ذكره عن مواقف رجال الدين العراقيين ذو النزعة الوطنية، واليوم قلما نجد شخصا مثل البغدادي يتمتع بصفات وطنية مع تمسكه في الدين مقارنتا بالمرجعية الدينية القائمة حاليا في النجف ومواقفها ومنها الموقف من احتلال العراق وعدم الافتاء بفتوى الوقوف ضد الاحتلال وعدم الاعتراف بشرعيته والافتاء بمقاطعته وعدم التعاون معه وبمقاومته.

و في كتابه هذا كشف السيد عن أمور وأسرار حدثت وتحدث اليوم في العراق من جانب المحتل الأمريكي وايران.

و في كتابه يتحدث العلامة السيد البغدادي يكتب : (نحن أمام امتحان صعب، وعلينا أن نحذر اهلنا وشعبنا في العراق المنكوب من اي مظاهر الفرقة والتناحرالمذهبي والعرقي والحركي، وقد أن الأوان أن يبتعد عن كل ما يفرق، ويحرض على كل ما يجمع من خلال الإبتعاد عن الدعوات الطائفية والعنصرية، التي يراد منها بناء مشروع سياسي امريكي صهيوني ماسوني في سبيل تجزئة أرض، العراق وتمزيق وحدته.. وحينها سيغرق العراق في الوحل، ونحن بحاجة تاريخية ملحة لإسقاط هذه الدعوات المريبة القادمة من خارج سياج الدائرة الإسلامية الواسع) انتهى الاقتباس، من هنا نجد أن السيد ينظر بعين ثاقبة على أهمية الوحدة التاريخية لتعايش العراقيين في عراق رسم فيه خارطة الفسيفساء الأخوي لما يربط العراقيين في جذور بلدهم بلد الرافدين بلد الحضارات الأولى قبل سبعة الف سنة، من تاريخ سومر وأكد وبابل واشورين، دون النظر لهويته القومية او الدينية، أن كان عربيا او كرديا او تركمانيا او اشوريا، وكذلك لطائفته أن كان شيعيا او سنيا او صابئيا، او يزديا.

وفي أشارت في التميز التفريقي بين الفقيه والمثقف، يكتب السيد (أن فضاءات التدخلات العامة هي حصيلة الممارسات الحرة في إطار المدنية، والفقيه يسعى سعيا حثيثا لتوسعة فضاءات التدولات الخاصة، وهي فضاءات تداول منهجية نصوص الروايات المقدسة، التي تفتح في كثير من الأحيان باب التهميش والاقصاء والتجريم والموت الأحمر، ما لانراه في المثقف فتح باب الحوار على مصراعيه لذلك اقول بمنتهى الصراحة (و الحديث لا يتبنى صفته الاطلاقية) ما قتل مثقف او مفكر إلا بإصدار فتوى فقيه، وما انهزمت ثورة شعبية ضد احتلال كافر أو سلطان جائر إلا بإصدار فتوى فقية، وما احرق كتاب جدلي إلا بإصدار فتوى فقيه كذالك بيد أنه نرى لم يقتل فقيه برأي مثقف، ولا احرق كتاب برأي مثقف). انتهى الاقتباس

و في الكتاب يشير السيد إلى أمثلة كما ذكرها (وبالنتيجة الطبري قتل، والحلاج صلب والمعري البصير حبس، وسفك دم أبن حيان، وابن النمر، واحرقت كتب الغزالي وابن رشد، والاصفهاني، والفارابي،و الرازي، وابن سينا، والكندي، وربما لاتعلم أن السهروردي مات مقتولا، وقطعوا أوصال ابن المقفع، ثم شويت أمامه للأكل منها قبل أن يلفظ أنفاسه بأبشع انواع التعذيب الوحشي، وأن الجعدي بن درهم مات مذبوحا، وحلقوا رأس أحمد بن نصر وأدار أن به الازقة، وقطعوا (لسان ابن الخطيب) وأحرقوا جثته، وكفر (ابن العاص) وطارده في كل مكان). انتهى الاقتباس.

هكذا يبحث السيد البغدادي عن الحقائق متصفح التاريخ باحداثه، ليوصلها لنا من خلال كتابه.

وفي ماجاء في كتابه يكشف المؤلف مسألة مهمة في تاريخ العراق بعد الاحتلال عام 2003 وما جاء في دستور 2005 من نصوص كتبت وفق سياسة الاحتلال الأمريكي والذي وضع صياغتها الأمريكي اليهودي الصهيوني (نوح فيلدمن) وعرضت الصيغة على لجنة ما يسمى بالصياغة النهائية ضمت عدد من العراقيين الذين ليست لديهم خبرة في صياغة دستور، بل انهم من الأحزاب الدينية والمليشيات، وجاء هذا الدستور على ما يسمى بالمكونات وليس على اساس المواطنة كما كانت دستور العراق في العهد الملكي وكذلك ما تبعه من دساتير مؤقتة في عهود الجمهوريات الاحقة، وبهذا أكد هذا الدستور موضوعيا على المحاصصة الطائفية والقومية. واقتبس ما كتبه المؤلف : [ إن هوس السلطة المطلقة التي يملكها طواغيت سلطة السنة وسلطة الشيعة في عراقنا المحتل أمريكيا وبريطانيا وإقليميا حديث تخلف وخرافة، وذلك أن السلطة، وكما تفهم في هذا الزمن التعيس المرعب لا تقتصر على الدولة باجهزتها الاستخبارتية واللوجستة ومدوناتها القانونية والدستورية، وانما هي سلطات مستفيضة ومتعددة وموالية لدول اقليمية ودولية أو معارضة بطريقة غير مرئية..منبثقة في الأجواء الإجتماعية بكل أشكالها المافياتية والمليشاوية من خلال هيمنة الدولة العميقة الخفية أفقيا ورأسيا، طولا وعرضا في شتى الدوائر والمراكز والنوافذ الحدودية، وعلى كل الصعد والمستويات ] انتهى الاقتباس.

عندما قرأة الكتاب وجدته من الأهمية بمكان دراسة كل ما فيه من قضايا تخص الثقافة الدينية من منطلق تقدمي وعلمي، أجد أن أقدم مقترح للسيد البغدادي، أهمية زيادة المعلومات التي جاء بها هذا الكتاب، وهي الاطلاع على ماكتبه الفلاسفة القدماء من أمثال أفلاطون وارسطو وكانط وسان سيمون وشارل فورية وكارل ماركس وفريدريك انجلس، وكذلك الاطلاع على نظريات نيوتن في الفيزياء والجدول الدوري لمندليف في الكمياء، وكذلك النظريات لمندل التي اثبتها علميا في قوانين الوراثة، هذه الأمور العلمية سوف تزيد البحث أهمية، وكما هو معروف أن المؤلف هو رجل دين متنور يربط الأمور الدينية بالعلم، بالدخول إلى العلوم الطبيعية والإجتماعية وكذلك الاقتصادية.

واخيرا اترك للقارئ لمن يتوفر له هذا الكتاب أن يقرأه، لأهمية الأمور التي جاء فيها المؤلف وهي تعتبر نقلة نوعية يحدثها رجل الدين في عراق الحضارات الاولى.

***

محمد جواد فارس - طبيب وكاتب

لندن في آذار 2024

"الله، العلم والبراهين، غروب ثورة" لميشال إيف بولاري وأوليفييه بونازياس

"Dieu La science Les preuves , l'Aube d'une révolution" auteurs: Michel- Yves Bolloré et Olivier Bonnassies

عندما يعتقد العلم في الله، الكتاب الذي يهز ثوابتنا

***

صدر الكتاب في 13 أكتوبر 2021، الناشر Tredaniel La Masnie وجاء في 577 صفحة .لقد أثار الكتاب إبان صدوره ضجة كبيرة في أوساط المثقفين والعلماء الفرنسيين بما طرحه من قرائن علمية تثبت وجود الله. المؤلفان هما ميشال – إيف بولاريه وهو مهندس في مجال المعلوماتية وحاصل على شهادة الدكتوراه في مجال العلوم وإدارة شؤون الأعمال من جامعة "باريس – دوفين" وأوليفييه بوناسيس خريج مدرسة البوليتكنيك الشهيرة أي الكلية متعددة الإختصاصات والمجالات العلمية ويبدو أنه كان ملحدا حتى سن العشرين وبعدئذ آمن بوجود خالق وتخلى عن الفلسفة المادية الإلحادية. كتب مقدمة الكتاب البروفسور روبرت ويسلون أحد كبار مشاهير علم الفيزياء الأمريكيين من حملة جائزة نوبل عام 1978،صحيح أنه ليس متدينا على المستوى الشخصي إلا أنه تحمس للكتاب وقال ما معناه: " على الرغم من أن الأطروحة القائلة بوجود روح ذكية أو عقل أعلى يقف خلف الظواهر كمسبب خالق للعالم لا تبدو كافية إلا أنه يعترف بتماسكها ومنطقيتها. " ثم أضاف: " هذا الكتاب يقدم منظورا مهما جدا عن العلوم الفيزيائية الفلكية والإنعكاسات الفلسفية والدينية المترتبة عليها ." (هاشم صالح، العلم يبرهن على وجود الله للمرة الأولى، موقع alsafina.net بتاريخ 27 نوفمبر 2021 ). هذا الكتاب من أفضل الكتب مبيعا في فرنسا حاليا وقد تم تأليفه بالإشتراك مع عشرين شخصية من كبار العلماء والفلاسفة، وآعتبرت صحيفة " لوفيغارو " صدوره حدثا هائلا لذلك خصصت له مجلة الصحيفة le Figaro magazine غلاف المجلة وملفا في ثماني صفحات، في عددها الصادر يوم 8 و9 أكتوبر 2021 .إن الإكتشافات المتعلقة بنظرية النسبية وميكانيكا الكم وتعقيد الكائن الحي والموت الحراري للكون وخاصة نظرية الإنفجار الكبير Le Big Bang، هل تكفي اليوم لتحول غير المؤمنين إلى مؤمنين؟ المؤلفان على قناعة تامة بوجود إله، فيوم 18 ديسمبر القادم سيتم إطلاق تلسكوب جيمس واب le James webb télescope من مركز كوروkourou بغويان Guyane وسيوضع في مداره حول الشمس على بعد 1،5 مليون كم من الأرض وسيعوض تلسكوب هابل Hubble فهل سيكتشف في بصيص النور المنبعث من المجرات البعيدة " وجه الله " .المؤلفان ليسا في حاجة ليقتنعا بذلك، إنهما يريان الله بالفعل. فقد عمدا إلى إعادة رسم المسار والمراحل التي قطعتها الأوديسا العلمية للإنسانية الأكثر إثارة، ففي سنة 1992 صور عالم الفيزياء المتوج بجائزة نوبل جورج سموت George Smoot أولى الأضواء الفلكية المنبعثة من كون مازال بكرا، تعود إلى 380 ألف سنة بعد الإنفجار الكبير، أبانت صورته عن أضواء وشلالات نورانية ملونة بألوان زعفرانية، أرجوانية وبرتقالية تخطف الأبصار، عندئذ صرخ قائلا، أمام المجمع الأمريكي للفيزياء، وهو الملحد: " أقسم بالله شعرت في تلك اللحظة كما لو أني رأيت وجه الله ."

العلماء والعقيدة:

إن الملاحظين لهذا الماضي السحيق، حيث مرت أربعة عشر مليارا من السنوات والعلم يراكم كل مرة عددا من العناصر الجديدة، إلا أن العشريات القادمة ستكون مذهلة،: " إن السنوات الثلاثين القادمة ستشهد إكتشافات مثيرة حول أصول علم الكونيات la cosmologie des origines " هذا ما أكده عالم الفيزياء الفلكية Trinh yuan Thuan أحد المنتمين لهؤلاء الفيزيائيين المؤمنين – وهو بوذي – وقد أشاد به صاحبا الكتاب، فليس هو الوحيد الذي راهن على وجود مهندس أكبر يقف خلف هذا الكون. بعض الدراسات التي أجريت في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2009، حيث قام مركز بيو للبحث Pew Research centre بآستطلاع للرأي حول " العلماء والمعتقدات " في الولايات المتحدة ليكتشف أن غالبيتهم يعتقدون في شيء ما أي 51 في المائة في حين أن 41 في المائة ملحدون. يذكر المؤلفان أيضا دراسة أنجزت سنة 2003 من قبل عالم الجينات باروخ أبا شالاف Baruch Aba Shalev حول معتقدات الفائزين بجائزة نوبل منذ تأسيسها ليجد أن تسعين بالمائة من الحائزين على نوبل في مجال العلوم معتنقون لدين وأن ثلثيهم من المسيحيين وأن نسبة الملحدين من الحائزين على نوبل في مجال الآداب ترتفع إلى 35 في المائة في حين أنها في حدود 10 في المائة بين العلماء. إن الرائع جورج لوماتر Georges Lemaitre  الكاهن والفيزيائي والذي يتم التقليل من شأنه كان له منذ البداية الحدس بالإنفجار الكبير وكان يدعو منذ تلك السنوات إلى عدم الخلط بين الكسمولوجيا والتيولوجيا. يوجد إذن ما قبل الإنفجار الكبير le Big Bang وما بعد الإنفجار الكبير هذه النظرية التي لا جدال فيها حوربت من قبل أولئك الذين يرفضون الأقاويل الماورائية والخرافات التوراتية لأنها تفتح من جديد الأفق التيولوجي. علاوة على ذلك يذكرنا المشاركون في الكتاب بفترات تاريخية منسية حارب فيها النازيون والشيوعيون هذه الأفكار بالسجون والإعدامات، إلا أن العلماء على حق حين يلحون على وجود تطور لعلم أقل دوغمائية في تعامله مع المسائل الدينية، الملحدون لا يمكنهم البتة الإستناد إلى العلم لإنكار وجود الله ولكن هل بإمكان المؤمنين بدورهم إستحضار الإكتشافات العلمية لإثبات وجود الله، مؤلفو الكتاب يذهبون إلى ذلك ويؤكدون أن لا شيء يولد من لا شيء وإن حدث الإنفجار الكبير فذلك يعني أنه قبل حدوثه كان هناك شيئا أقوى إنه عقل أعلى une intelligence suprême . إنه أيضا من العبث أن نطلب أو أن نفترض وجود حدث قبل حدث أو زمن قبل زمن لنبقى إذن دون إجابة، كيف لشيء ما أن يوجد من لا شيء أوبشكل أكثر بساطة: من وضع الساعة لتشتغل ؟ الباحثون جميعهم سواء كانوا مؤمنين أو ملحدين يعترفون بضرورة التساؤل الميتافيزيقي وهذا في حد ذاته خطوة كبيرة إلى الأمام بالنسبة إلى المؤمنين مهما كانت عقيدتهم، فبعد كل شيء، إنتهى ألبار إينشتاين نفسه بقبول فكرة وجود إله – العلة الأولى- للأشياء. مهمة أخرى تنتظر المؤلفين للكتاب وهي مصالحة إله الأرقام والجسيمات مع إله الحب الموجود في العهد الجديد. (صيغت هذا الافكار إستنادا لبعض ما ورد في جملة لوفيغارو الفرنسية).

يقدم الكتاب إمكانية تفسير نشوء الكون باعتماد إكتشاف قوانين ومعقولية صلبة تبرهن على وجود خالق عظيم. إن العلماء في إختصاصاتهم المختلفة: علم الفلك الكوني، علم الميكانيك الكمي الموجي، الفيزياء، علم الأحياء البيولوجية، إكتشاف الجينوم الوراثي للإنسان تعبر جميعها عن وجود قوانين دقيقة صارمة لا يحيد عنها الكون قيد أنملة، كل ذلك يخلص إلى النتيجة التالية أن للكون بداية محددة أي أنه مخلوق في لحظة ما وهذا يعني وجود سبب أو مسبب لهذه البداية والخلاصة الأكثر منطقية دفعت هؤلاء العلماء المساهمين في الكتاب/ الحدث إلى الإعتقاد بوجود روح خفية وعقل مدبر أو مهندس أعظم وراء ذلك البناء العظيم المتناسق ويحرك كل شيء من خلف ستار. إن العلوم الحديثة وبالإعتماد على الإستخلاصات الواردة في الكتاب ستحول دراسة الكون من إعتباره ظاهرة في حد ذاته لفهم قوانينه وحركته الداخلية إلى إعتباره آية على وجود الله مما سيسمح بعودة الميتافيزيقا والماورائيات إلى الواجهة وهما اللتان رميتا طويلا في دائرة الخرافة والوعي الزائف، بعد هيمنة الفلسفة المادية الإلحادية وغطرسة العلم الذي تحول إلى دوغمائية.

***

تقديم رمضان بن رمضان

هل قرأنا القرآن أم على قلوب أقفالها؟، سؤال يبدو غريبا، يطرحه المفكر التونسي "يوسف الصديق"، والذي جاء في عنوان كتابه الأشهر في ترجمته العربية "، بينما جاء العنوان الًأصلي بالفرنسية تحت عنوان: Nous n’avons jamais lu le coran "، أي "لماذا لم نقرأ القرآن؟ وترجمه الباحث "منذر ساسي" عن دار نشر "دار محمد علي" ودار "التنوير"، يقع الكتاب في 248 صفحة ؛ حاملا جوابا جازما بأننا لم نقرأ الكتاب بعد.

ربما يحاول الصديق أن يخفف وقعه على الكاتب العربي، ولكن من أين جاء الصديق بهذه الجرأة، وربما التهور ليجزم بأن المسلمين لم يقروا كتابهم المقدس، والقرآن من أكثر الكتب قراءة على الإطلاق، وكان محل تمحيص وتفسير وتأويل على مدار أربعة عشرة قرنا.

يحاول الصديق أن يقدم قراءة مختلفة للنص القرآني بموجهته بالفلسفة على خطى مفكرين غربيين من أمثال اسبينوزا وبولتمان تجاه التوراة والإنجيل أيضا بالفلسفة، والسؤال : ما النتيجة التي توصل إليها الصديق في منهجه المحلق بعيدا عن الفضاء الفكري الإسلامي المعتاد والمألوف؟، وهل فعلا لم نقرأ القرآن ؟، وما المقصود فعلا بالقراءة ؟، وما الإعجاز الحقيقي للنص القرآني بنظر الصديق؟

يرى الصديق أن المسلمين لم يقرأوا كتابهم بعد، معتبرا أنه قدموا تلاوة النص على قراءته بكل ما تحمل كلمة قراءة في العربية من معاني التفقه والتأمل والتفكير. لم يقف الصديق عند هذا الحد، بل انتقد تدوين القرآن ومصحفته، مميزا بين القرآن والصحف، داعيا إلى قراءة عقلانية للقرآن وتفكيكه على هرم قمته الله، وجانباه المعرفة والأخلاق.

من هنا يرى الصديق أن إعجاز القرآن ليس في لغته، بل في استيعابه كافة معارك عصره ـ التي تضمنتها معاني كلمات أعجمية من لغات قديمة زحر بها القرآن ؛ كاليونانية، والآرامية، والعبرية، والسيريانية، والهيروغلوفية.

لاشك في أن القول يضيع بعض الفكرة، والتدوين يضيع بعضا آخر، لكن إن كان التدوين حسب الصديق قد ضيع بعض أفكار القرآن، فالسؤال هنا ماذا لو لم يدون القرآن.

إن أهمية كتاب الصديق تنبع قبل أي شيء آخر من أنه دعوة لإعمال العقل وقراءة القرآن قراءة معاصرة، وعدم الاعتماد على قراءات الأولين، الذين فهموا النص بحدود معارفهم المحدودة، وثقافتهم التي تختلف عن ثقافتنا المعاصرة.

كذلك يؤكد الصديق بأن النص القرآني بيس عربيا فقط، بل هو نص كوني، ويحمل ألفاظا من لغات عدة ، متهما المفسرين بإهمال معاجم اللغات الأخرى، مما أفقر التفاسير، وضيع كثيرا من الدلالات، حتى أن عملية التدوين نفسها لم تسلم من نقد الصديق، الذي رأى أنها سلمت المنطوق إلى المكتوب حسب قوله، وهو مما أفقد الأولى جزء من معانيه ودلالاته.

والسؤال : إلى أي حد هناك حضور للغات القديمة حسب قول الصديق في النص القرآني ؟، وهل نحن بحاجة إلى إعمال العلوم والمناهج العلمية الحديثة في دراسة النص القرآني ؟، وكيف نتحرر من قراءة التلاوة لنصل إلى قراءة الفهم ؟

يرى الصديق أن النص القرآني زاخرا بعدد كبير من الكلمات الأعجمية، وكثيرا منها لم يستقر المفسرون على معنى محدد لها، وبعضها ما زال محل بحث وعمل لسانس وأنثروبولوجي إلى يومنا هذا، فأخيرا ظهرت نظرية تقول إن الحروف المقطعة التي تبتدأ بها بعض آيات القرآن، هي كلمات لها معنى في اللغة السريانية.

وقد توسع الصديق في دراسة اللغات القديمة، محاولا فهم كنه معاني مفرداتها في القرآن، وانطلق في دراسته من اللغات لا تعبر عن دلالاتها المباشرة فقط، بل هي خزانا لثقافة ومشاعر وقيم وحضارة الشعوب، تتطور وتتغير عبر الزمن، وتتغير معانيها تيعا للتغيرات الديموغرافية، والاقتصادية، والحضارية، التي تتعرض لها تلك الشعوب .

لذا وجب العودة إلى ما كانت عليه تلك الكلمات لحظة النزول، ذلك للوقوف على المعنى الحقيقي التي حملته ارتباطا بسياق النص، واعتبر الصديق أن الإعجاز الحقيقي للقرآن يكمن في تنوعه اللغوية، حيث اشتمل في آياته على ثقافات ومعارف وحضارات إنسانية جمعاء، وعبر عنها بلسانا عربي.. قصدت هذه المقالة اليوم لأبين في المقالات المقبلة موقفي وتوجهي الفكري في الرد على رؤية الدكتور يوسف الصديق في هذا الكتاب، حيث أخوض معه نقاشا في فكره، وما خلف هذا الفكر حول النص القرآني، ومراجعته.. وللحديث بقية..

***

د. محمود محمد علي- كاتب مصري

...........................

المراجع

1- يوسف الصديق: هل قرأنا القرآن؟ | يتفكرون.. يوتيوب.

2- يوسف الصديق واللغات القديمة في القرآن | يتفكرون.. يوتيوب.

 

منذ ان دخلت عالم السوشيال ميديا، ووضعت اسمي على هذه الصفحة في موقع الفيسبوك لصاحبه مارك زوكربيرغ، ثم تطفلت ودخلت مملكة تويتر وبعدها التليغرام، وانا حريص ان اشارك المتابعين لصفحتي اهتمامي بالكتب وبما اقرأه، من دون ان ادعي انني ظليع في عالم المكتبات، او انني خبير في القراءة، فانا مجرد قارئ تمثل العلاقة مع الكتب إحدى أجمل ذكرياتي في الصغر، وكل شيء بدأ عندي أشبه برحلة . ذات يوم وأنا ابن العاشرة من عمري وفي احدى مناطق بغداد، اخذتني قدماي الى مكتبة يملكها أحد أقاربي يبيع فيها الكتب والمجلات والصحف، في ذلك النهار وأنا أتجول بين العناوين وصور الأغلفة الملونة، اكتشفت إن هذا المكان يمكن أن يصبح كل عالمي . عندما أسترجع كيف قضيت سنوات طويلة من عمري في رفقة الكتب، أتساءل أحيانا إن كانت هذه الكتب غيرت حياتي، أم انها سجنتني في عوالم مثالية وخيالية . هذا الشغف بالكتب حاولت ان انقله الى اصدقاء مواقع التواصل من خلال زوايا كنت احرص على ادامتها ومنها زاوية بعنوان " صباح الكتب " اختار فيها صباح كل يوم فقرة من كتاب انتهيت من قراءته او ما ازال اقرأ فيه ن واحيانا اتطفل فاكتب موضوعا عن الكتاب ومؤلفه لتعميم الفائدة ..، وما اقوم به كل يوم اعتقد انه واجب لكل من يهتم بالثقافة، ان يحاول اداء رسالته الحقيقية في عالم يجنح الى الابتذال والسطحية .. ولهذا اجد ان من واجب المثقف – اذا كان الاصدقاء يضعونني في حانة المثقفين – ان يحرص على ترك أثر ايجابي، حتى وان كان هذا الاثر بسيطا مثل زاوية " صباح الكاب " التي اطالعكم بها كل يوم .3519 شيشرون

 صباح هذا اليوم كالعادة اخترت فقرة من كتاب كنت اقرأ به الايام الماضية وهو كتاب بعنوان " عن الجمهورية " للكاتب الروماني شيشرون، اقتنيته من معرض القاهرة للكتاب . كتاب شيشرون كما تخبرنا مصادر الفكر الروماني يعد من اهم المحاورات في الفكر السياسي القديم بعد كتاب افلاطون " الجمهورية " . لكني استغربت للاسف من تعليق كتبت صاحبته تقول فيه:" انك لم تفهم شيئا على الاطلاق " وتضيف ان السيد" شيشرون عالم اخر،، لا اتصور انك تفقه ما يتكلم "، مثلما يقول البعض بالعامية " هذا مو اكلك " .. وفرحت جدا لان هناك من سيشرح لي افكار السيد شيشرون وينير بصيرتي، فانا قرأت بعض كتبه المترجمة الى العربية وفي مكتبتي احتفظ ببعض المؤلفات له وعنه، وربما هذه القراءات كانت خاطئة، وانتظرت ان تشير لنا صاحبة التعليق الى شيشرون الحقيقي الذي غاب عنا، فلم اجد منها سوى تعليقات تحمل روحا عدائية . اين هو شيشرون ياسيدتي ؟ .. كان الجواب في وادٍ آخر حيث اخبرتني مشكورة ان عليّ ان اترك الكتابة ومختارات الكتب واتفرغ للقراءة لكي اتعرف على سقراط جيدا .. ما علاقة سقراط بالامر .. المسألة محيرة حقا

نعود للفيلسوف الروماني "مرقس توليوس" الذي يعرف باسم شيشرون، ولد عام 106 ق.م في روما لأسرة ميسورة، كان جده رئيساً للحزب المحافظ في مسقط رأسه، أما أبوه فكان محباً للثقافة والفنون، وفارس في سلاح الفرسان الروماني، نشأ شيشرون عاشقاً للكتب التي كان يجدها في كل ركن من أركان البيت، قرأ أفلاطون وسقراط، واستهوته أفكار ديوجين، درس الأدب والقانون ليعمل محامياً، وقد تدرّج في المناصب فعمل قنصلاً لبلاده ثم عين والياً على مدينة قليقلة، وعند اندلاع المعارك بين يوليوس قيصر وبومبيوس، رأى فيها نذير شؤوم على النظام الديمقراطي الروماني، وقد وقف الى جانب بومبيوس الذي خسر الحرب مما اضطر شيشرون أن يعتزل العالم وينصرف الى القراءة والدرس، كان شيشرون يحب ابنته جداً، وحين ماتت حزن عليها حزناً شديداً، وعبر عن ذلك قائلاً: " إن القدر نجح في أن يسحقه سحقاً"، وقد وجد ضالته في الكتابة الفلسفية، وفي تلك الفترة كتب عدداً من أهم مؤلفاته، أبرزها كتاب الجمهورية والذي رأى فيه إن أنظمة الحكم الصالحة هي ثلاثة فقط، الملكية والارستقراطية والجمهورية، وهي نماذج كان يرى أن على روما أن تلتزم بها، لانها تحقق ثبات العدل الذي اعتبرة جزءاً من القانون الطبيعي للإنسان، وقد وجد شيشرون أن مهمته الأساسية أن يدخل الفلسفة الى روما فهي " الهبة الأكثر ثراء، والأكثر وفرة، والأكثر سمواً ورفعة، من الآلهة الخالدة لبني البشر " ..ولم تكن المهمة التي قام بها آنذاك سهلة إذ تنظر غالبية الناس الى الفلسفة بريبة وشك وكراهية . يدعي شيشرون إنه فيلسوف شكاك، أي إنه عضو من أعضاء تلك المدرسة الفلسفية التي تكمن أصولها في تعاليم سقراط، وقد اتخذت مؤلفات شيشرون من المحاورة شكلاً لها، فقد كان معجباً بأفلاطون: " الرجل الأكثر حكمة وتعليماً الذي انجبته اليونان " ..لقد رأى شيشرون مثلما رأى افلاطون من قبل أن المحاورة عملاً من أعمال الفن، وإنها سهلة بالنسبة للقارئ العادي، ونجد شيشرون يحاول من خلال محاوراته أن يؤكد ما هو مفيد ونافع من الناحية السياسية، وكان يشغله موضوع مهم: ما هو أفضل نظام سياسي ؟، لقد وجد شيشرون نفسه يحارب على جبهتين، ففي وجه أية محاولة لقيام نظام ديكتاتوري بكل ما يواكبه من مجازر ومآسي، فهو يرى أن النظام الجمهوري يحقق للجميع أن ياخذوا مكانتهم الحقيقية في المجتمع، ويضمن " حق كل مواطن شريف أن يساهم في الشؤون العامة "، وفي الوقت نفسه فإن شيشرون يقف بالضد من النظم الشعبوية التي تسلم مقاليدها الى " هيجان العامة أصحاب الصخب المرذول "، فهو يطالب بحزب " الناس الشرفاء "، الذين يتكون من " رجال صالحون، شجعان، مخلصون، وبفضل هذا المعيار الأخلاقي الصرف لايتم استبعاد أحد، " ولاتنفر نية طيبة، إن هذا هو الحلف المقدس "، ولهذا يدعو في كتابه الجمهورية الى إقامة نظام سياسي مقبول من الجميع اسماه " نظام الوسط العدل " المتسامح، وعدو كل صنوف الشطط والإفراط التي تخرج منها التقلبات، وهؤلاء يسميهم أعداء الجمهورية و " شيوخ الفرائس، وجباة المال المتعسفين "، ويعرض لنا شيشرون أيديولوجية تقوم على الحق والمنفعة في آن واحد، وقبل الفيلسوف جيرمي بينثام بألفي عام، سعى شيشرون الى أن يرفع بنيان السعادة على يد القانون والمنطق، أي أن يشرع السعادة في الكون، فمثلما آمن بينثام بأن من حق كل فرد أن يكون محمياً بالقانون، كان شيشرون يصر على أن التفكير بخير الآخرين هو الشيء الوحيد الذي يمكننا أخذه بعين الاعتبار للوصول الى السعادة، فهو يرى أن لاتعارض بين المنفعة العامة والمنافع الخاصة، وظل يعتقد أن يوليوس قيصر لم يكن إلا واهما وغير متبصر، حيث أعتقد بانه يستطيع أن يرضي مصلحته على حساب الجمهورية، وبالتالي فإن شيشرون يرى إن الحق والأخلاق والمصلحة الخاصة والمصلحة العامة هي أمور متطابقة أو مترابطة، فالانسانية متضامنة، ولهذا نجده يقر بالمساواة بين الشعوب، فالمجتمع الصحيح أو الدولة العادلة هي التي: " تجمع الناس الأخيار الذين لهم عادات أخلاقية متماثلة وتجمعهم المودة " وهو يضع الوطن في المكانة الاولى فهو " أكثر قدسية "، إلا انه لايرضى بالوطن من دون العدالة التي يجب أن تسوده .لقد حاول شيشرون مثلما فعل أفلاطون من قبله أن يقدم نموذجاً لنظام حكم عادل يعترف بالحقوق التي تربط مواطنيه بعضهم ببعض وبينهم وبين هذه الدولة، والدولة في مفهوم شيشرون هي جماعة معنوية من الأشخاص يملكون الدولة، غايتهم مصلحة الناس المشتركة، وإذا خرجت الدولة على قواعد الأخلاق، فتكون بذلك مستبدة وتحكم رعاياها بالقوة، فتفقد بذلك طابعها الحقيقي كدولة..

ويرى شيشرون ان الدولة جماعة معنوية، وانها تشبه المؤسسة العامة، حيث تكون العضوية فيها ملك عام لجميع مواطنيها ويترتب على ذلك نتائج ثلاث هي:

1- ان سلطة الدولة تنبثق من قوة الافراد اجمعين، ما دامت بقوانينها ملك للناس اجمعين .فالافراد يكونون بمثابة منظمة تحكم نفسها بنفسها، وتملك بالضرورة القوة اللازمة لحفظ كيانها واستمرارها في البقاء

2- ان استخدام القوة السياسية استخداما سليما وقانونيا، استخدام لقوة الناس مجتمعين ن والموظف الذي يستخدم هذه القوة، انما يعتمد على السلطة المخولة اليه من الناس والقانون .

3- ان الدولة بما فيها القانون، تخضع دائما للقانون السماوي وللقانون الاخلاقي او القانون الطبيعي العام، ذلك القانون العام الذي يسمو على القانون البشري الدنيوي

جلبت اراء شيشرون ومواقفه السياسية العداء له فتمت مطاردته ونفيه وفي النهاية تم القيض عليه وعندما تم حصاره قال:" لن أذهب لأبعد من ذلك: اقترب أيها الجندي المخضرم، وإذا كان بإمكانك على الأقل أن تفعل الكثير بشكل صحيح، فاقطع هذه العنق " وفي النهاية تم اعدامه .

يكتب شيشرون في احدى رسائله الى ابنه:" ولدي العزيز، على الرغم من ان مؤلفاتي الهمت الكثيرين حب القراءة والكتابة، إلا انني اخشى ألا تسترعي مؤلفاتي هذه انتباه اشخاص اخرين لانهم غير متعاطفين مع الفلسفة، ومن ثم إلا يقدروا الوقت والعمل الذين اخصصهما لها " –في الواجبات ترجمة باسل الزين اصدار دار الرافدين – ويبدو ان محنة شيشرون لا تزال متواصلة بدليل ما تعرض له المرحوم من هجوم صباح هذا اليوم .

اثارت كتابات واراء شيشرون جدلا كبيرا، حيث اعتبره البعض مثل الامريكي توماس جيفرسون " كواحد من عدد قليل من الشخصيات الرئيسية التي ساهمت في تقليد "الحق العام"، ويقال ان رجال الثورة الفرنسية "كان معظمهم من الشباب الذين تغذوا على قراءة شيشرون في المدرسة، وأصبحوا متحمسين متحمسين للحرية" . في المقابل جلبت لخ كراهية البعض حيث اعتبره انجلز من "الأوغاد الأكثر احتقاراً في التاريخ"، لانه دافع عن نوع معين من انواع الجمهوريا

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

بعد كل هذه التحولات الخطيرة، التي ضربت العالم بجناحيه الاشتراكي والرأسمالي، يحق للمفكر أن يناقش كل ما كان يعد من الثوابت الأيديولوجية، خصوصاً على مستوى نقد الماركسية، فهي تأسست أصلاً كنظرية مؤمنة بالنقد الذاتي حتى من قبل مؤسسها كارل ماركس.

وهنا نجد كتاب تحطيم المرايا في الماركسية والاختلاف للدكتور عبد الحسين شعبان يناقش قضية أزمة اليسار ومحنة الماركسية، حيث يتساءل شعبان فيقول: من أين جاءت كلمة اليسار؟، ويجيبنا فائلا " في الواقع كلمة اليسار كلمة فضفاضة وواسعة وقد جاءت من الثورة الفرنسية ربما، حيث كان يجلس اليعاقبة في شمال المجلس وكانت لديهم آراء راديكالية يدعون من خلالها إلى التغيير والتجديد ولذلك أُطلق على اليعاقبة اليساريون.

وبهذا المعني يكون اليسار ليس عقيدة بل هو اتجاه وميل إلى الجذرية، وهنا يطلق علي اليساريين، ثم إذا أردنا أن نتحدث عن أزمة اليسار فيتساءل شعبان: هل تعد أزمة عربية أم أزمة كونية – عالمية؟

ويجيبنا شعبان فيقول بأنها أزمة كونية – عالمية، وهنا لابد من الإقرار بأن اليسار الماركسي تحديدا خسر معركته مع الإمبريالية في نهاية القرن العشرين، وذلك بسبب سقوط الاتحاد السوفيتي، وليس هذا فحسب بل خسر اليسار الماركسي النموذج والتجربة الفكرية الذي كان يمكن أن يتشكل حوله نماذج أخرى، وللأسف هذه الخسارة كانت خسارة فادحة.

الآن اليسار الماركسي لم يعد فاعلا ومؤثر كما كان منذ خمسينيات وستينات القرن الماضي، وهذا قد انعكس على ضعف النزعة الأمية والانكفاء قطريا ومحليا، وربما تكون هناك أسبابا ذاتية وموضوعية لم يؤخذ من خلالها اليسار الماركسي بعين الاعتبار؛ حيث كن هناك نموذج وتجربة واحدة أُريد فرضها وهو النموذج السوفيتي، ولذلك حدثت تصدعات وانشقاقات في هذا المعسكر منذ البدايات وذلك بعد أن انسلخت التجربة اليوغسلافية والصينية والألبانية والرومانية، ثم أيضا على المستوى النظري بفكرة " الأور- شيوعية" في أوروبا من خلال الحزب الشيوعي الإسباني والفرنسي والإيطالي وهي أحزاب كبيرة ولها دور وتأثير، حيث أجرت مراجعات استبقت بها التجربة الاشتراكية القائمة بأطروحات ووجهات نظر مختلفة عن النموذج السوفيتي .

وهذا انعكس علي صعيد عدد من البلدان حسب تصور شعبان في العالم الثالث وبالذات في أفريقيا وآسيا ولذلك حدث نوع من الانشطار على مستوى العالم بين النموذج الصيني أو التجربة الماوية وبين التجربة الاستالينية والخروشوفية والبريجينيفية لاحقا .

كذلك غيات المركز الأممي بغض النظر عن نواقصه وثغراته وعيوبه أضعف المواجهة بين الاشتراكية من جهة وبين الإمبريالية والرأسمالية من أخرى ؛ حيث لم يعد يوجد الآن منافس قوي للولايات المتحدة يمثل نموذج من نوع آخر يكون نقيض للرأسمالية باسم الاشتراكية وللأسف هذا الأمر لم يعد موجود الآن كما يري الكاتب مثلما كان موجودا في السابق .

وإذا أردنا أن نتحدث أكثر عن منطقتنا العربية فنجد أنه بعد الاستقلالات التي حدثت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي حدث نوع من التراجع، فالتيارات الوطنية التحررية لم تكتمل مقوماها وأيضا كانت بداية لهزيمة للتيار اليساري العريض والواسع، ويعني به الكاتب التيار القومي والعربي من جهة واليساري- الماركسي من جهة أخرى، وهذه كانت واحدة من مظاهرة هزيمة حريزان في عام 1967 وهي هزيمة كبرى أمام الامبريالية الصهيونية، وانعكس ذلك أيضا على ذبول النزوع الأممي لدى أحزاب وتيارات فكرية وسياسية يسارية سواء كانت قومية عربية أو يسارية ماركسية .

أما بعد الانهيار الذي حدث للنموذج السوفيتي، فبعد الطبيعة العمياء وتلقي التعليمات التي كانت سائدة، حدث نوع من العدائية للتاريخ السياسي الاشتراكي بشكل عام في أوساط غير قليلة من الأحزاب اليسارية والماركسية .

يضاف إلى ذلك حالة التشظى والتمزق والتفتت التي شهدها التيار اليساري في منطقتنا وبتقدير الكاتب هناك غياب للاستراتيجيات إزاء التعامل مع قوى صاعدة، حيث لم يكن لدينا موقف واضح من صعود التيار الإسلامي سواء كان بشعبويته أو لبعض التيارات العنصرية والدينية الأخرى، الأمر الذي يحتاج إلى وقفة جديدة للمراجعة، بدلا من الحيرة والتخبط إزاء هذا المنافس القوي الذي يكن موجودا في الساحة، فتراوحت المواقف بين الصدام مع هذا التيار كما حدث فيبلدان عديدة، وبين التحالف مع هذا التيار .

فلو نظرنا للتجربة المصرية كيف كانت صدامية في البداية، وأما التجربة التونسية فقد كان التحالف والصدام، في حين نجد في التجربة العراقية حيث كان تحالف ثم ابتعاد ولكن ليس في إطار الصدام ن ويبدو أن هناك شكل من أشكال الدادية والتي انتقلت من دادية التيار  القومي إلى دادية التيار الإسلامي وهذا الأمر بحسب شعبان حمل اليسار أعباء جديدة .

وهنا يريد شعبان أن يقول أن التيار الماركسي واليساري عموما لم يقدم قراءات جديدة للواقع، فإما اتجه إلى المبالغة في حجم الامكانات الذاتية (أي تضخيم الذات)، وتقزيم الآخر . كذلك من مشكلات التيار الماركسي في بلداننا حسب الكاتب أنه امتاز بتحويلية شديدة على الآخر سواء في التنظير أو التفكير لاسيما على المعسكر الاشتراكي وعلى المحور السوفيتي تحديدا، واتسم أيضا بكسل فكري وبتبعية فكرية للمركز الأممي وبديدية التحالفات.

كذلك يريد شعبان أن يقول لنا أيضا بأنه حتى التحالفات التي من المفترض أن تتم في عدد من البلدان فقد تراوحت بين اتجاهين، إما لصالح بعض الحكومات تحت عنوان مواجهة التيار الإسلامي الصاعد، أو كانت انضواء تحت هذا التيار والانتقال من ديدية إلى ديدية كما أشار الكاتب إلى ذلك ؛ أي أن التحالف دائما كان بالنسبة للتيار الماركسي من موقع أدنى، وهذا أدى إلى الرجوع التراجع والنكوص والتخبط، حيث ليس من المنطقي أن يتحالف تبار بحجة الإسلام السياسي أو نكاية به مع حكومات مستبدة أو يتحالف مع الإسلام السياسي أو بشكل من أشكال التحالف القومية وغيرها بحجة مواجهة الامبريالية ويقبل من موثع أدني حتى لو أخذنا بنظر الاعتبار توازن القوي .

وهذا أدى فيما أدى إليه بعد التحذيرات التي حدثت في المعسكر الاشتراكي للانقلاب على الماضي والانتقال من ماركسية متشددة أحيانا إلى ليبرالية فاضحة ومنحلة. إن الكفر بالاشتراكية الفاشلة في نظر شعبان دون إجراء مراجعات كافية، بل إن البعض اتجه لكى يبرر الليبرالية ليس بمعناها الكلاسيكي التي تعنى حرية الفرد وحرية السوق بالدرجة الرئيسية وإنما بمفهومها الجديد وهو الـ" نيوليبرلية "، وهذا قاده  قبول الاحتلال والتدخل الخارجي وقبول الحصار الدولي أحيانا ؛ بل وقبول معاهدات مذلة واسترقاقية وألحق الضرر بالاستقلال الوطني والوحدات الوطنية لعدد من البلدان، أو تحالف مع معارضات مشبوهة بهذا المعنى أو ذاك .

بل إن بعضهم ذهب على رحم الطوائف والمذاهب والاثنينيات وهذا الأمر كما يقول يحتاج إلى قراءة جديدة عندما نتحدث عن ماركس والماركسيين ؛ فعن أي ماركسية أو ماركسين يتم الحديث علما بأن شعبان ينسب نفسه إلى المادية الجدلية القائمة على فكرة المنهج .

وهنا يعيب شعبان على وجود ماركسيين سلفيين يؤمنون بحرفة النص الماركسي، وهي في نظرة ماركسية تقليدية لا تريد ولا ترغب بالتطور، وبالمقابل هناك في نظر الكاتب توجد أيضا ماركسية متحولة، حيث انتقل بعض المتحولين انتقلوا من الماركسية السلفية المتزمتة والصارمة إلى الماركسية اللبرالية أو النيو ليبرالية المعولمة بحجة مواكبة التطورات .

كذلك بعض الماركسيين استمر كما هو وهم الذين يطلق عليهم: ماركسيون طقوسيين وماركسيون إداريين لا يعني الفكر الماركسي بقدر انتسابهم إلى عقيدة إيمانية جامدة غير قابلة للتطور مثلما يومن المتدين في أي عقيدة دينية، وهناك اتجاه آخر وهو أن بعض الماركسيين يؤمنون بطهرانية الماركسية حيث يريدون المحافظة على نقاوة النظرية، وتحت هذا العنوان لا يقبلون التطور أو لا يسعون للاجتهاد لكي تتطور الماركسية في إطار المنهج الجدلي، وهؤلاء ربما يكونوا أنقياء ولكن لا يتعاطون مع الحياة ومتغيراتها ومستجداتها .

وفي تقدير شعبان أن هناك قلة قليلة استطاعت أن تستوعب التطورات وأن تتكيف مع هذه التطورات بالاتجاه الذي يخدم المنهج الماركسي ويخدم الفكر الاشتراكي من جهة أخري، حيث لم يعد التيار السلفي ممكنا، وهذا كما يقول يذكرنا في الإسلام عن الفرقة الناجية باعتبار أن كل ما حدث في التاريخ خطأ وإنما صدر الإسلام هو الصحيح فقط، وتاريخ 1450 سنة تقريبا كله كان خطأ باستثناء فترة الحكم الراشدي وهي فترة قصيرة لا تتجاوز أربعة عقود على سبيل المثال .  وكذا الحال أن هناك من يقول أن النظرية ما تزال صحيحة  وكل الخطأ حدث في التطبيق الخاطئ وأنه يعود بنا إلى الفترة اللينينة الأولى التي يعتبرها مقدسة وطهرانية، في حين أن تلك الفترة حدثت بها أخطاء جمة حيث بُني على أساسها الأخطاء اللاحقة .

وهذا كما يقول شعبان يعيدنا إلى إشكالية تٌطرح اليوم وهو أنه نجد من جانب أن كل الإسلاميين يقولون أنه الإسلام هو الحل، بينما القوميون يقولون أن الوحدة هى الحل،  وبعض الماركسيين يقول أن الماركسية هى الحل، وأما الليبراليون فيقولون أن الديمقراطية هى الحل وكأنها من باب المسلمات حلول جاهزة وأنها قدر محتم ؛ في حين أن التجربة سواء الإسلامية أو القومية العربية؛ مثلا النظام العراقي الصدامي، قد حكم 35 عاما باسم القومية باسم القومية وباسم العروبة، ولكن كانت تجربة ليست فقط فاشلة ولكن كان فيها أخطاء كبيرة، ولم يحري حتى الآن لبعض القوميين القيام بمراجعة كافية، وهذه المراجعة تحتاج من جانب الماركسيين والليبراليين والقوميين.

ثم يتساءل شعبان: هل يمكن الحديث عن يسار صحيح ويسار خاطئ؟

ويجيبنا أن الكثيرين يريدون العودة بنا إلى اليسار الصحيح من خلال فجر التجربة إلى الاشتراكية الأولى مثلما يريد الإسلاميون إلى العودة للعهد الراشدي وصدر الإسلام ويعتقد شعبان أن هناك عدد من القضايا تواجه اليسار لابد من التوقف عندها بجرأة وبشجاعة وبتجرد وإعادة قراءة وبنقد جرئ .

والقضية الأولى في نظر شعبان هو كيف ننظر إلى الواقع فحتى الآن ما زال اليسار يعيش في الماضي في القراءات السلفية للفلسفة المتعلقة بالحاضر ولواقع الرأسمالية، وحتى ماركس عندما أراد أن يبحث في قوانين اشتراكية، قدم خطوط عريضة، حيث لم تكن الاشتراكية قائمة آنذاك، وإذا أردنا أن نعرف الماركسية تعريفا مبسطا حسب قول شعبان، نستطيع أن نقول أنها علم الرأسمالية، حيث شخص ماركس قوانين الرأسمالية بدقة وبعمق وهذه القوانين بشكل عام ما تزال وفق المنهج صحيحة، لكن حدثت تطورات لابد أن تُؤخذ بنظر الاعتبار، وهذه التطورات لم توجد في عهد ماركس، وإنما توجد الآن في ظل العولمة والتطور التكنولوجي والعلمي الذي حدث في العقود الخمسة الماضية والذي تجاوز على خمسة قرونا من الزمان .

وكذلك فإننا الآن حسب شعبان في الطور الرابع من الثورة الصناعية بعد ثورة الاتصالات والمواصلات تكنولوجيا الإعلام واطفرة الإعلامية المتمثلة في الديجيتال، وهنا نحن هنا بحاجة كما يرى شعبان إلى إعادة قراءة لهذا الواقع .

وحتى الأن اليسار العالمي والعربي فلا يوجد مشروع لليسار بعد الاشتراكية، فكلها ردود أفعال وبعض المعالجات البسيطة والسطحية، وهنا يقول شعبان:" نحن الآن بحاجة إلى معالجة الماركسية ووضع حلول ومعالجات كيف السبيل للتعاطي مع العولمة لمعالجة الجوانب السلبية والخطير في العولمة، والاستفادة من الجوانب الإيجابية في عولمة القافة والتكنولوجيا والحقوق ... إلخ.؛ ولابد من رؤية التبدلات التي حدثت بالنسبة للطبقة العاملة وهو ما أفقدها دورها في العديد من البلدان، فهل يمكن الرهان كما يقول شعبان على الطبقة العاملة لكي تنجز التغيير؟... هذا ما نجيب عليه في الأيام القابلة... وللحديث بقية .

***

د. محمود محمد علي  - كاتب مصري

..........................

المراجع:

1- الدكتور عبد الحسين شعبان: تحطيم المرايا في الماركسية والاختلاف.

2- قناة أحمد زايد:  أزمة الماركسية و مستقبل اليسار مع الدكتور والمفكر الكبير عبد الحسين شعبان.. يوتيوب.

 

كتب جورج أورويل أحد الكتّاب الأكثر شهرة وتأثيراً في القرن العشرين: «الحب الجنسي أو غير الجنسي عمل شاق». وكانت آراؤه العميقة الثرية في الكتابة والسياسة والسفر والقراءة ومجالات عديدة أخرى، بمثابة دليل حول كيفية العيش. ترجمت كتبه إلى 65 لغة، وتم على أساسها إنتاج أفلام سينمائية وعروض مسرحية عديدة. وتجاوز إجمالي تداول روايته «1984» في إنجلترا وحدها 40 مليون نسخة. وبعد مرور أكثر من سبعين سنة على وفاته، تحاول الكاتبة والناشطة النسائية الأسترالية آنا فوندر تسليط الضوء على سوء معاملته للنساء، وتسعى لتغيير صورته، والطريقة التي نقرأ بها أعماله.

ربما وجد أورويل الحب أمراً صعباً، لكن كما توضح فوندر، فإن النساء اللواتي أحببنه أو أحبّهنّ، وخاصة زوجته الأولى، إيلين أوشونيسي، واجهن صعوبات جمة في التعامل معه. فقد تجاهل أورويل تماماً دور زوجته في مساعدته والوقوف إلى جانبه في الأوقات العصيبة. وهو لم يتجاهل، حضورها وشجاعتها فحسب، بل بذل قصارى جهده لإخفاء ما قامت به من أجله.

كتاب فوندر الجذاب والعاطفي المعنون «الزوجة: حياة السيدة أورويل غير المرئية» الصادر عام 2023، مزيج جريء من المذكرات والخيال والحقيقة، وهي محاولة لإعادة هذه المرأة المنسية إلى الصورة، ومنحها صوتا. وليس هناك شك في أن هذا الأمر يمكن أن يشوه إلى حد كبير سمعة أورويل الذهبية.

درست إيلين أوشونيسي الأدب في جامعة أكسفورد. ونشرت قصيدتها الديستوبية «نهاية القرن 1984» عام 1935، التي تنبأت فيها بمستقبل قاتم، يتم فيه السيطرة على العقل، ويتم القضاء على الحرية الشخصية، وذلك قبل 14 عامًا من نشر رواية أورويل، التي تحمل الاسم نفسه.

كانت إيلين فتاة نحيلة لها أكتاف عريضة وعالية، و»وجه مثلث» أو كما قال أحدهم، وجه «على شكل قلب» لها عيون زرقاء وشعر بني غامق كثيف، منسدل على شكل أمواج طبيعية.

تزوجت إيلين أوشونيسي في 9 يونيو/حزيران 1936 من إريك آرثر بلير، الذي كتب قبيل زواجه: «بشكل عام، عليك أن تتزوج يوما ما. الزواج سيّء، لكن البقاء وحيدًا إلى الأبد أسوأ. حتى إنني أردت أن أضع الأغلال للحظة، لأجد نفسي في هذا الفخ الرهيب. يجب أن يكون الزواج حقيقيا وغير قابل للتدمير، سواء في أوقات الفرح أو الشدة، أو في الفقر أو الثروة، حتى يفرقكما الموت.»

بعد زواجهما تخلت إيلين عن شخصيتها الفردية، من أجل دعم إنجازات زوجها، الذي سيصبح يومًا ما معروفًا باسم جورج أورويل. وقد رافقت زواجها المازوشية العاطفية والتضحية المهنية، على الرغم من الجهود الواضحة التي بذلها إريك بلير لمحو آثار تأثيرها الكبير على عمله الإبداعي، وإسهامها في نجاحه ككاتب. وتتساءل فوندر: لماذا وكيف، تم حذفها من سيرة أورويل؟

تعتمد الكاتبة على مصدرين رئيسيين: الأول: ست رسائل من إيلين تم اكتشافها في عام 2005، كتبتها بين عامي 1936 و1945 إلى صديقتها المفضلة نورا مايلز، التي كانت طالبة وزميلتها في جامعة أكسفورد. وهي رسائل تسمح لصوت إيلين بالوصول إلينا مباشرة، وتلقي نظرة خاطفة خلف ستار حياة أورويل الخاصة. والثاني هو العديد من السير الرئيسية لأورويل من تأليف أمثال بيتر ستانسكي، ووليم أبراهامز (1972) وبرنارد كريك (1980) ومايكل شيلدن (1991) وجيفري مايرز (2001) ودي جي تايلور وجوردون بوكر (2003).

كتّاب سيرة أورويل هم سبعة رجال تناولوا حياته وأعماله من وجهات نظر مختلفة. كل واحد منهم تميز بطريقته الخاصة، لكنهم جميعًا يقللون من أهمية المرأة في حياة أورويل. وفي النهاية، بدت سيرة أورويل بعيدة عن الواقع..

تكشف فوندر بنظرة ثاقبة الثغرات والغموض والافتراءات التي تحتويها هذه السير، والتي تلقي بظلال من الشك على مضامينها. وفي الوقت نفسه، تستخدم الكاتبة ما تكتشفه لتسليط الضوء على حياتها الزوجية الخاصة، إذ وجدت نفسها تقوم بـمعظم الواجبات المنزلية، وتعتني بالأطفال، رغم اتفاقها مسبقاً مع زوجها المهندس المعماري على تقاسم تلك الواجبات بالتساوي.

لست على يقين من أن مثل هذه الأفكار تضيف شيئاً ذا قيمة إلى محتوى كتابها. ويمكن القول إن سيرة إيلين الواقعية ربما خدمت صورتها بشكل أفضل، من خلال التركيز عليها، دون الحاجة إلى الربط بين عصرها وعصرنا، وفرض وجهة نظر نسوية حديثة على زواج تم قبل 87 عامًا. فوندر لها أسلوبها المتفرد، إلا أنها تفقد أحيانًا السيطرة على ما تكتبه.

يأخذنا كتاب «الزوجة» إلى عوالم إيلين أوشونيسي وإريك بلير الخاصة. من خلال إحياء صوت إيلين وإخراجه من أعماق المحو. تدرس الكاتبة الأدوار العديدة للزواج، التي ما تزال غير مقدّرة وغير معترف بها، لكنها ضرورية لنجاح أغلب الرجال. غالبًا ما يتم مسح الزوجات من السجل التاريخي، ولا يتم الاعتراف بمساهماتهن في ظل النظام الأبوي. تلجأ الكاتبة أحياناً إلى المبالغة في هذا الأمر، للإشارة إلى أن تجربة إيلين هي مرآة لعلاقة جميع النساء بجميع الرجال، ويمكنهن أن يجدن فيها صورتهن الخاصة: «قد يكون الرجل مثالياً في تعامله مع شريكة حياته، ومع ذلك فإن النظام الأبوي سيظل في صالحه، دون الحاجة إلى رفع إصبع أو سوط أو تغيير الملاءات».

دور إيلين في صنع أورويل

ليس من المستغرب أن الظروف التي سمحت لأورويل بالعمل لم يتم خلقها بطريقة سحرية عن طريق المصادفة، بل بفضل عمل زوجته المستمر، فهي التي كانت تطبع مخطوطاته، وتتعامل مع المحررين، وترعاه خلال نوبات المرض، وما إلى ذلك. شاركت إيلين بنصيب لا يستهان به في مساعدة إيريك بلير على أن يصبح الكاتب الشهير جورج أورويل.

عندما نشرت رواية «مزرعة الحيوان» دفع التغيير الجذري في أسلوب السرد، صديق الزوجين توسكو فيفيل إلى الكتابة: «القصة مثالية جدًا في لمستها الخفيفة وضبط النفس (غير أورويلية تقريباً) لدرجة أنني أعتقد أن ذلك يرجع جزئيًا إلى تأثير المحادثة الشفاهية لإيلين، واللمسة الخفيفة لعقلها المشرق والمَرِح». حتى إن ليديا جاكسون، صديقة إيلين المقربة، وافقت على ذلك قائلة: «شخصيًّا، ليس لدي أدنى شكٍّ في أن إيلين تعاونت بطريقةٍ خفيَّةٍ وغير مباشرةٍ في إنشاء «مزرعة الحيوان»… «إذا كان أورويل شاعراً فاشلاً، فإن إيلين من جانبها كانت شعراً خالصاً».

تناولت الباحثة الكندية سيلفيا توب مسألة التفاعل الإبداعي بين أورويل وزوجته إيلين بلير في كتاب صدر عام 2020 تحت عنوان «إيلين: صانعة جورج أورويل». وتوصلت إلى استنتاج مفاده أن بعض أعمال مؤلف «1984» و»مزرعة الحيوان» في الأقل، يجب أن يكون لها اسمان، لأن هذه الأعمال تمت كتابتها بالتعاون بينهما. وتعتقد الباحثة أن إيلين هي النموذج الأولي الوحيد لشخصية جوليا في رواية «1984» وليس سونيا براونيل زوجته الثانية، التي تزوجها في 13 أكتوبر 1949،، قبل ثلاثة أشهر فقط من وفاته بمرض السل.

نظرة أورويل إلى المرأة

تسلط الكاتبة الضوء على وضع الزوجات باعتبارهن عبيداً، مهمتهن توفير العمل الجنسي والمنزلي، غير المرئي وغير مدفوع الأجر، الذي يسمح للرجال بإنشاء حياتهم الخاصة، وتحقيق الأعمال العظيمة.

تقتبس فوندر، على وجه التحديد، مقطعًا من دفتر ملاحظات أورويل جاء فيه: «هناك حقيقتان عظيمتان عن النساء.. إحداهما هي قذارتهن وعدم انتظامهن، التي لا يمكن إصلاحها. والأخرى هي حياتهن الجنسية الرهيبة والمفترسة». لكن فوندر تقدم العديد من الأفكار حول دور النساء في مساعدة أزواجهن على تحقيق مصيرهم، وترسم صورة حية لإيلين، المرأة الرائعة المنسية، بسبب النظام الأبوي، الذي يسمح بسرقة حياة المرأة وإبداعها ووقتها.

لم يكن زواجً إيريك وإيلين مفتوحاً (أي الزواج الذي يسمح لكل منهما أن يقيم علاقات جنسية خارج إطار الزواج) كما يزعم بعض كتّاب سيرته. وقد خانها مرارًا وتكرارًا (مرة مع أقرب صديقاتها). وكان هذا مصدر تعاستها. أثناء إقامتهما لفترة وجيزة في المغرب، لم يتمكن من إخفاء افتتانه بالنساء البربر. في النهاية أخبر إيلين أنه يريد الحصول على واحدة منهن، وقد تحقق له ذلك فعلاً.

في يناير 2020 حصل ابن المؤلف بالتبني، ريتشارد بلير، على رسائل والده، الموجهة إلى صديقتين هما بريندا سالكيلد وإلينور جاك. كتب معظمها أثناء زواجه من إيلين. وقال ريتشارد بلير: «لقد كانت رسائل شخصية للغاية.. أعتقد أنه في الحالتين كان هناك اتصال جسدي في بعض الأحيان». في إحدى الرسائل الموجهة إلى بريندا سالكيلد، يزعم أورويل أن إيلين كانت متعاطفة مع رغباته: «إنها على استعداد للسماح لي بالنوم معك حوالي مرتين في السنة، فقط لتجعلني أشعر بالسعادة».

دافع أورويل عن سوء معاملة تشارلز ديكنز لزوجته، من خلال فصل عمل المبدع عن سلوكه السيّء. لكن فوندر تتعمق في مفاهيم الماضي والحاضر لثقافة الإلغاء، ويمضي السؤال أبعد من ذلك ليشمل مسألة ما إذا كان من الممكن تحرير ضحايا الظلم من معاناتهم، على أيدي الأشخاص، الذين نحتفي بأعمالهم. لكن المقاطع الكارهة للنساء المقتبسة من أعمال أورويل تجبر فوندر على التساؤل عما إذا كان من الممكن التوفيق بين تصورها المتغير عن هذا الكاتب وحبها الدائم لمؤلفاته.

في نهاية المطاف، فإن نفاق الخصوصية الأبوية يبقي النساء صامتات بشأن إساءة معاملتهن، ويمنع المجتمع من مساءلة الرجال عن أفعالهم. إنه يحجب الضرر، الذي يلحق بالنساء اللاتي، يجب عليهن اللجوء إلى نوع من التكيّف النفسي، للتوفيق بين وجهات النظر المتعارضة حول واقعهن. وتستكشف فوندر بمهارة أخلاقيات تبرير كراهية النساء، من خلال الصوت المتجدد لهذه المرأة النابضة بالحياة..

تسلط فوندر الضوء على الفترة، التي قضاها أورويل في إسبانيا، من خلال الكشف عن أهمية عمل إيلين سكرتيرة في مقر حزب العمال المستقل في برشلونة، والمخاطر، التي واجهتها بمفردها، ليس أقلها من الجواسيس السوفييت والعصابات المسلحة. زارت زوجها، وأحضرت له الشاي الإنجليزي والشوكولاتة والسيجار، كما أمضت ثلاثة أيام في الجبهة إلى جانبه، وساعدت في تمريضه بعد إصابته برصاصة في حنجرته، لكن كل ذلك لم يصل إلى كتابه عن الحرب الأهلية الإسبانية «تحية إلى كاتالونيا». إذ سلك أورويل في هذا الكتاب طريقة ملتوية في السرد محاولا تجنب الحديث عن إيلين.

حياة الرعب في لندن

عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، بدأت إيلين العمل في قسم الرقابة التابع لوزارة الإعلام، إذ كانت تقيم مع عائلتها في غرينتش. قُتل شقيقها الطبيب اللامع لورانس في انفجار قنبلة، في أثناء عملية الإخلاء دونكيرك، وبعد ذلك، وفقًا لصديقتها ليديا جاكسون «ضعفت قبضتها على الحياة، التي لم تكن قط قوية جدًا».

بعين الروائي، تعيد فوندر خلق الكآبة والرعب في لندن، في زمن الحرب؛ ولا يعني ذلك أن عائلة أورويل بدت مصدومة. فقد كانت تشاهد من على السطح القنابل، وهي تتساقط، بدلاً من الاحتماء منها. لكن القصف الألماني العنيف عام 1944 دمر الشقة، التي كانا يقيمان فيها، ونَجَا الزوجان من الموت بأعجوبة. واضطرا إلى الانتقال إلى الريف المتجمد والعيش في كوخ تملكه عمة أورويل في هيرتفوردشاير. وهنا توضح الكاتبة كيف تحملت إيلين كل الأعباء المنزلية، في كوخ بلا تدفئة أو كهرباء.

كان أورويل منهمكاً في الكتابة، ويأكل كل حصص الزبدة، أثناء الحرب، لأنه لم يكن لديه أي فكرة عن مقدار الحصة التموينية، التي ستتركها مع الخبز الجاف. وكان عقيماً، وأراد أن يتبنى طفلا صغيرا، لكنه سافر إلى باريس وتركها لاستكمال إجراءات التبني، وهي في المراحل الأخيرة من سرطان الرحم، الذي كان يقتلها، وهذه قصة عن أنانية خاصة مدعومة بمعايير الذكورة الأبوية.

على الرغم من أن حديث أورويل عن زوجته في كتاب «تحية إلى كاتالونيا» لم يكن صادقاً، وخياناته المستمرة ألحقت بها أضرارًا نفسية بالغة، إلا أن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو معرفة مدى ضآلة ما فعله لمساعدتها، في أثناء مرضها الخطير. فبحلول الوقت الذي تبنى فيه الزوجان الطفل الصغير ريتشارد، البالغ من العمر ثلاثة أسابيع، كانت إيلين تعاني من فقر الدم، بسبب النزيف شبه المستمر. وكانت في حاجة إلى الرعاية والاهتمام، ولم يقدم أورويل أيا منهما. كانت إيلين تستعد لعملية جراحية كبرى. والرسالة التي كتبتها إلى زوجها توضح فيها قرارها، ومحاولة تبرير تكلفة العملية، تشير إلى محو الذات، ومدى قلة تفكيرها في نفسها، طوال هذا الزواج الصعب.

توفيت إيلين تحت التخدير في أثناء العملية الجراحية في 29 مارس 1945 في نيوكاسل أبون تاين، وكانت في التاسعة والثلاثين من عمرها. وجاء في التحقيق: «ماتت بسبب قصور القلب تحت التخدير بالأثير والكلوروفورم، الذي تم وصفه بمهارة ودقة لعملية استئصال الرحم». ولا أدري عن أي دقة ومهارة يتحدث تقرير الوفاة، إذا كان الجراح والمخدر لم يأخذا في الاعتبار إصابة المريضة بفقر الدم الشديد.

بعد مرور ما يقرب من 80 عامًا على وفاتها، أعطت فوندر لإيلين أخيراً الشهرة والاحترام، الذين تستحقهما. والسؤال هو، كم عدد النساء المؤثرات الأخريات اللائي ما زلن مثل الكنز المدفون، ينتظرن النور؟

***

جودت هوشيار

في عملها البارز، "الظهور الجندري في المجتمع الملاوي الساحلي الشرقي"، تسبر الأنثروبولوجيا إنغريد رودي أغوار التحولات الجندرية في ماليزيا، مع التركيز على تأثيرها على الحياة الاجتماعية والاقتصادية للنساء في الساحل الشرقي. تعود رودي إلى ماليزيا بعد مرور عشرين عاماً على دراستها الأولية لتلقي الضوء على الثبات والتغير في الأدوار الجندرية، مما يسلط الضوء على كيفية تأثير العمليات التاريخية الكبرى والأحداث الشخصية في تكوين الهويات الجندرية.

وتعتبر إنغريد رودي أول امرأة عالمة أنثروبولوجيا في النرويج، تمثل شخصية رائدة وملهمة في مجال علم الأنثروبولوجيا. لا تقتصر أهميتها على كونها امرأة في ميدان غالبًا ما كان يهيمن عليه الرجال، بل تتعدى ذلك إلى إسهاماتها العلمية والأكاديمية التي أثرت بشكل كبير في فهم الثقافات والمجتمعات المختلفة. تميزت رودي بأبحاثها المعمقة وميدانية العمل، حيث غالبًا ما كانت تغوص في الثقافات التي تدرسها لفهمها من الداخل. هذا النهج لا يوفر فقط فهمًا أعمق للثقافات المختلفة، ولكنه يبرز أيضًا أهمية النظرة الأنثروبولوجية التي تقدر الاختلافات الثقافية وتحتفي بها. تغطي الدراسة طيفاً واسعاً من الجوانب الحياتية كالأسرة، التعليم، الاقتصاد والطقوس، مستخدمة مناهج أنثروبولوجية لرسم صورة مفصلة للحياة اليومية للنساء، وتكشف عن قدرة النساء على التأثير في أدوارهن الجندرية رغم القيود المفروضة عليهن. في فترة الستينيات والثمانينيات، شهد الساحل الشرقي الماليزي تغيرات كبيرة في مكانة المرأة، حيث تمتعن بأدوار متنوعة كزوجات، أمهات، ورائدات أعمال، مسيطرات على الأسواق ومؤثرات في الاقتصاد الأسري والسياسات العائلية. تلك الحقبة كانت محورية في تاريخ ماليزيا، حيث بدأت مكانة المرأة تعكس التحولات الاجتماعية والاقتصادية الرئيسية في المجتمع. من الستينيات إلى الثمانينيات، دفع النمو الاقتصادي والتحديث في البنية التحتية والخدمات العامة نحو توسيع الفرص الاقتصادية للنساء، مما ساهم في تمكينهن من تولي أدوار متنوعة في المجتمع. تغيرات أدوار النساء داخل الأسرة ومشاركتهن الاقتصادية المتزايدة كان لها تأثير بارز في الاقتصاد المحلي والأسري. على الرغم من التقدم، تظل هناك تحديات مثل الفجوات الجندرية في الأجور والتمثيل القيادي، لكن التغيرات خلال الستينيات والثمانينيات تبين الإمكانية لتحقيق مزيد من المساواة الجندرية. تناولت رودي تأثير الإسلام والتقاليد الثقافية على الأدوار الجندرية، مشيرةً إلى استمرارية قوانين وتقاليد تدعم مكانة المرأة حتى في ظل الانتعاش الإسلامي في الثمانينيات، مما يدل على قدرة النساء على التفاوض والمحافظة على أدوارهن الاجتماعية والاقتصادية. تسلط الدراسة الضوء على أهمية الأنثروبولوجيا في استكشاف الجندر كمفهوم معقد يتشكل من التاريخ، الثقافة، والسياق الاجتماعي، مؤكدةً على أن فهم الجندر يتطلب نظرة شاملة تتجاوز الثنائيات البسيطة. تشجع الدراسة الباحثين المستقبليين على استكشاف تأثير التكنولوجيا، العولمة، والتحولات الاقتصادية على الجندر، مقدمةً إطارًا لفهم التحديات الجندرية المعاصرة واستكشاف فرص التغيير الاجتماعي والجندري. يوفر كتاب "النساء المرئيات في مجتمع الملاوي بالساحل الشرقي" رؤية غنية ومتعددة الأبعاد حول تأثير الجندر في المجتمعات، مؤكدًا على أهمية البحث في علم الجندر والأنثروبولوجيا لفهم أعمق للتحولات الجندرية وسبل تحقيق المساواة.

***

زكية خيرهم

على الرغم من العنوان الذي اعتمده الكاتب والسياسي جورج منصوراسم (إيفين) لكتابه والذي يقع بنحو 384صفحة من القطع المتوسط. و(إيفين) سجن يقع في جمهورية إيران الإسلامية شمال غرب طهران، ويشتهر باحتجازه للسياسيين والمثقفين الإيرانيين من أصحاب الرأي، إلا أن كتاب (إيفين) لايعدّ من أدب السجون، وإنما يحسب ضمن أدب السيرالذاتية للشخص الذي يسرد فيه جزء من حياته، والتي تسمى االبايوغرافيا الذاتية لكتب السيرة الذي لايعتمد فيه كاتبناعلى يوميات مدونة، وإنما يعتمدعلى الذاكرة الحقيقية والاضافة الأدبية التي تمتعنا بها طوال سرده الجميل .

ماكتبه جورج منصورعن سجن (إيفين) لايتراوح سوى 100 صفحة من الكتاب، أما الباقي فجاءَ منفصلاً بمرحلتين مختلفتين لحياة الكاتب، أنا أقسمها إلى مرحلة الإعداد الفكري السياسي والدراسي، ومرحلة العطاء والصعودالعملي والوظيفي .

كتب جورج منصورعن حياة والده ا لذي ينتسب إلى عائلة موصلية معروفة (معمارباشي) التي حالها حال بقية العائلات العراقية محورحياتها الدين، فوصف لنا قباب كنيسة ماركوركيس العريقة بالقدم، ومحاولة الوالد التبتل والرهبنة وعلى الرغم من علمانية الكاتب انتمائه الشيوعي، إلا أنه يذكر لنا في الصفحة 22 آية من الكتاب المقدس العالقة في ذاكرته ليبررحال قرارالوالد المنذورللكنيسة بأسلوب الكاتب المتمرس، عبر توظيف جميع مايمتلك من مَلكة أدبية وسياسية ودينية ليخدم نصه، بلغة سلسة بليغة ومعانيها ذات أبعاد فلسفية، يفتقر لها الكثيرمن الكتاب، وليعطينا نبذة عن خلفيته الكاثوليكية الكلدانية العراقية، ولِمَ لا؟وهوالحاصل على دبلوم عالٍ في الفلسفة من جامعة موسكو العام 1981الصفحة 62 أشعياء 5:6

(ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين وأنا مقيم بين شعب نجس لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود)

 في مرحلة الإعداد الفكري والدراسة في موسكو، يصف لنا الحياة الموسكوفية بدقة من تاريخها العريق وجمالها وساحتها الحمراء وكتدرائية باسيل بقبابها الملونة إلى فقر فنادقها وأسواقها ومطاعمها الراقية بذلك الوقت صفحة 50، ولقائه مع الكاتب غائب طعمة فرمان، من ثم يعرجع لىمسرحية النخلة والجيران.

جورج منصورلا ينسى بلده فهو يحشر ذكرياته في كل سطر، وفي كل لحظة حياتية بالغربة، لكنه يحاول إظهاراطلاعه على أدب البلد المضيف، فيذكرلنا حين وداع صديقته (ايرينا) بموسكوقصيدة الشاعرالروسي قسطنطين سيمونوف التي نسج عوالمهاعلى لسان جندي روسي، خاطب حبيبته من جبهة الحرب، وحينها كان جورج منصورفي طريقه إلى شمال العراق للمشاركة بحرب الأنصار يقول :

أكتب إليكِ بخلاف ماقاله الشاعرلاتنتظريني .

"انتظريني وسأعود

 انتظريني عندما تصيرالأمطارالصفراءحزناً

انتظري عندما تهطل الثلوج . . . إلخ". ص 81

يعرج الكاتب لوصف سجن (إيفين) هذا السجن الذي أصبح عنواناً للكتاب، يكتب عن الألم والعذاب والجوع والذكريات، يكتب عن السورالعالي المسيج بأسلاك كهربائية شائكة، وعن أصوات نقيع الأوراق وثنيها، وهومعصوب العينين، محاولاً الرؤيا بما تسمع أذنيه، وحفلة السباب والشتائم التي كانت تتطايرمن فم السجان، ولكن كعادته بفلسفة الأشياء، وفي الصفحة 118 يذكرنا بالكاتب الفلسطيني أدهم شرقاوي:

"الناس في نشرات الأخبار أرقام للنعي، وفي المطاعم أفواه للأكل، وفي البنوك جيوب للنهب، وفي السجون ظهورللجلد".

أية ذاكرة، وأية قراءة مفعمة بالألم، يستحضرها جورج منصورفتنسل من قلمه لتجعلنا نعي مايتعرض له من تعنيف وضرب من أجل كلمة، أواعتراف يريدها السجان من الألف إلى الياء مهدداً إياه بالإعدام.

 مرحلة الإعدادالفكري والسجن أجمل ماكتبه جورج منصور، فهولاينسى ماتعرض له من محاولة لإدخاله الإسلام بظروف يعدّ فيها مسلوباً للإرادة، لكن جوابه كان قاطعاً:

"لا أنا لن أصبح مسلماً حتى لوكلفني حياتي"هذاالرفض لم يكن من أجل الدين، وهوعلى إطلاع واسع بالإسلام، ومترجماً لكثيرمن الكتب الإسلامية التي ترجمها هناك، ولكن هذا الرفض من أجل الذات وعدم انهيارها، رفض لأي تحول يكون فيه مرغماً، ليبقى صامداً يتحسس إنسانيته ومبادئه، فمرحلة النضج والعطاء توزعت ما بين العمل في إذاعة العراق الحر، وتأسيس إعلام عراقي مستقل، ومختلف عماعرفناه بالنظام الدكتاتوري السابق، وتأسيس قناة عشتارالسريانية في عينكاوة لما يحمله من خبرة، واختصاص بهندسة تكنولوجيا الطباعة ومزاولة الصحافة بجريدة طريق الشعب، إضافة إلى العمل الإذاعي بصوت العراق الحر ولقائه مع شخصيات نافذة، ساعدته بعمله المهني، قادته لأن يصبح وزيراً في إقليم كردستان العراق

الكتاب تضمن عدد من الصورالعائلية، وصور توثق حياته السياسية والعملية، كما تعدّ وثيقة تاريخية لمرحلة مابعد التغيير في العام 2003.

 الكتاب جاء بلغة سلسة تشدّنا لجمالية أسلوبه، وحنينه إلى الوطن الأم، لكن تبقى لدينا ملاحظات لانستطيع التدخل بطبيعة خيارات الكاتب، منها قبوله العمل بإذاعة صوت العراق الحرالتي كانت تدارمن قبل جهات أميركية معروفة في براغ أيام المعارضة، وهو الشيوعي المخضرم الذي خاضِ النضال السياسي أيام الجبهة الوطنية، والنضال المسلح  إبان حرب الأنصارأيام المعارضة .

***

نيران العبيدي – كندا

صدر عن دار الرافدين في بيروت هذا العام 2024 كتاب الدكتور والمفكر عبد الحسين شعبان الموسوم (بَشتاشَان "خلف الطواحين"... وثمة ذاكرة، شهادة وليست رواية)، الكتاب بحجم الوسط ويتضمن (247) صفحة مع المقدمة والاهداء إلى: أرواح نزار ناجي يوسف (ابو ليلى- النجف) وحامد الخطيب (ابو ماجد- عانة) ومحمد فؤاد هادي (ابو طارق- البصرة) ومحمد البشيشي (ابو ظفر- السماوة)، وكُسِرَ الكتاب إلى ستة اقسام مع ملاحق بأسماء شهداء بشتاشان الأولى والثانية، ونداء ورجاء، وبعض الالتباسات لتدقيق اسماء بعض شهداء بشتاشان، وملحق بالصور للمؤلف.

في هذا الكتاب وضع الدكتور شعبان النقاط على الحروف في نقل القارئ الكريم وممن كان بعيداً عن الأحداث آنذاك إلى حقيقة مجزرة بشتاشان الثانية يوم 1 آيار 1983م، التي قام بها جماعة الحزب الوطني الكردستاني بزعامة نوشيروان مصطفى أمين نائب الأمين العام لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني؛ وما حدث، والأسباب الحقيقية لتلك الهجمة من قبل (أوك) على قوات انصار الحزب الشيوعي العراقي، فضلاً عن نقل القارئ الكريم بسياحة إلى اعماق الحدث وسلبيات قيادة الحزب الشيوعي في اختيار الموقع والاصرار على البقاء، حتى كان ما كان من استشهاد 70 رفيقاً من الحزب الشيوعي العراقي.

وللتعريف بـ{بشتاشان}، فهي قرية كردية جبلية تقع في الشريط الحدودي العراقي المحاذي لإيران، وقد هُجَّر سكانَ هذه القرية وثلاثة قرى أخرى في بداية الثمانينيات من القرن الماضي. والقرية كانت ذات موقع حصين عند سفح جبل قنديل، اتخذتها قيادة الحزب الشيوعي العراقي موقعاً يضم مقارّ للإعلام المركزي للحزب، ومستشفى ميدانياً، ومجموعة من الإدارات الخدمية، إضافة إلى مقر للمكتب السياسي للحزب. كانت هذه المواقع محمية بقوة مسلحة من أنصار الحزب القادمين من شتى أنحاء العراق، الذي كان يحمل السلاح ضد النظام الحاكم آنذاك. وكان الحزب الشيوعي متحالفاً سياسياً وعسكرياً مع عدد من الأحزاب العراقية والكردية. ويرى د. شعبان في ص97 أن موقع بشتاشان وقع الاختيار عليه في عام 1982م (بعد مناقشات بين المكتب السياسي والمكتب العسكري، وبين آراء معارضة أو مخالفة وآراء متحمسّة أو تحت ضغط الواقع، بسبب عدم الرغبة في التداخل مع القوات الإيرانية التي أصبحت على مقربة من قرية {داوداوا}، أي عند حدود {ناوزنك- نوكان}، حيث مقراتنا الأمامية القيادية. وكان رفاق من المكتب العسكري زاروا بشتاشان، وقرروا مع عدد آخر من الرفاق اختيار الموقع الذي يقول عنه "ابو شوان" غير صالح).

ويعود د. شعبان ليؤكد خطأ اختيار موقع بشتاشان لأسباب لوجستية وسياسية وعملية في ص107، (وكان توما توماس، وهو من الأنصار المعتقِّين، قد تساءل باستنكار واستهجان شديدين عن العقل الذي يقف خلف اختيار بشتاشان كموقع لإدارة الحزب والإذاعة والإعلام والمكتب العسكري، خصوصاً أنه يعتبر ساقطاً عسكرياً بسبب عزلته وانقطاعه عن التجمعات السكانية، الأمر الذي يمكن من استهدافه، فضلاً عن كونه نائياً وبعيداً عن حلفاء الحزب الشيوعي وقواطعه الأخرى، مثل السليمانية وأربيل وبهدنان، وبقية المقرات العسكرية).

ويرى الدكتور شعبان في كتابه ص199 أن (لا بدّ من الأخذ بنظر الاعتبار، أولاً وقبل كل شيء، حقوق الضحايا واحتياجاتهم مع أسرهم في حال مفارقتهم الحياة، وهو ما ذهبت إليه اتفاقية شيكاغو لعدالة ما بعد النزاعات. والمسألة تتعلق بالرغبة في كشف الحقيقة، وعدم طمس الماضي لكي لا ننسى، بقدر الميل إلى التسامح، ولكن في الوقت نفسه لتوثيق الذاكرة... لقد طُويت تلك الأيام، ولم يعد استذكار ما حصل في بشتاشان يثير الحساسية السياسية القديمة ذاتها. ومهما كانت التبريرات، فليس هناك ما يعادل قيمة الإنسان، لكن الجيل الحالي، والأجيال المقبلة، تظل تستفسر وتبحث عن الحقيقة). هذا كان هدف الكتاب الذي وثيق فيه د. شعبان مجزرة بشتاشات التي عايشها وكان أحد الناجين منها. وكي لا يبقى ما حدث في كهف النسيان، وتوثيق ما حصل وتحديد المسؤوليات، فلم تكن مجزرة بشتاشان قضاءً وقدراً، بل كانت بفعل فاعل دبر بليل، وكانت شهادة الملا بختيار (حكمت محمد كريم) القيادي في أوك كما ذكرها في ص188 د. شعبان واحدة من الشهادات الجريئة الذي قال له نشيروان مصطفى أمين حرفياً: (لقد سحقت رؤوس الشيوعيين، وعليك تقطيع أوصالهم).

ويسرد الدكتور شعبان في كتابه مواضيع تخص المقاتلين الأنصار في كردستان العراق ومنها (سرديات سيد هاشم الزمكانية) ص35-43، وهي عبارة عن رحلة وصول قيادات الحزب الشيوعي العراقي من جمهورية اليمن الديمقراطي آنذاك عبر جمهورية إيران الإسلامية حتى وصولهم مواقع فصائل الأنصار  ومنهم: معن جواد (ابو حاتم)، محمد جاسم اللبان (ابو فلاح) وسيد هاشم مالك علي، حتى يدخلنا المؤلف في محور احداث بشتاشان في الفصل الرابع واحداث الأول من آيار 1983م، ففي ص90 ينقلنا إلى تحالف أوك والحكومة العراقية، ذاكراً: (في تلك الأجواء الملتبسة، والمنافسة غير المشروعة، ألتقت مصالح الاتحاد الوطني الكردستاني {أوك} مع مصالح الحكومة العراقية، التي يهمها التخلص من خصومها: الحزب الشيوعي وأنصار (جود) - الجبهة الوطنية الديمقراطية بين الحزب الشيوعي العراقي والحزب الديمقراطي الكردستان والحزب الاشتراكي الكردستاني-، وخصوصاً الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك). وتم اللقاء بين أوك والحكومة العراقية عبر مسؤولين رفيعي المستوى، وصلوا إلى المنطقة عن طريق الدكتور عبد الرحمن قاسملو (الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني- حدكا)، الذي كانت علاقته وطيدة مع بغداد، فضلاً عن علاقته الجيدة مع أوك، ومع مام جلال الطالباني بشكلٍ خاص، في حين كانت علاقته سيئة مع حدك). ويضيف د. شعبان في ص91 حسب ما ذكره قادر رشيد (ابو شوان)؛ أن (مقاتلي أوك كانوا يستعدون منذ أواسط نيسان/ أبريل 1983، أو حتى قبله، للهجوم على مقراتنا الرئيسية في بشتاشان، بقيادة ناوشيروان مصطفى أمين، حيث تم تحشيد أعداد كبيرة من القوات للقيام بهجوم مباغت... وكشفت بعض الوثائق أن مثل هذا الأمر تقرر بفترة أبكر من ذلك لا سيما بعد حوادث 11 شباط/ فبراير 1983، حيث تعرضت مفرزة تابعة للحزب الشيوعي للبريد الحزبي إلى عدوان مبيّت من قبل مسلحي أوك، استشهد فيه ثلاثة من الرفاق، وتم أسر 4 آخرين).

فاتخاذ موقع بشتاشان قد يكون بدون دراسة معمقة، فضلاً عن تكدس عدد كبير من الأنصار غير المقاتلين في الموقع، (بعضهم من كبار السن والمرضى، أو من العوائل، وبعضهم لا يعرفون استخدام السلاح) ص109. يذكر د. شعبان في ص111 (بدأ زحف قوات أوك على مقراتنا منذ يوم 29 نيسان /أبريل 1983، ابتداءً من رزكة ثم قرناقو وحتى أشقولكا، حيث يوجد مقر للحزب الاشتراكي الكردستاني أيضاً وصولاً إلى كاسكان، ومن بعدها محاصرة بشتاشان والنزول إليها من الأعلى عصر يوم 1 آيار/ مايو، وكان الهجوم قد بلغ أوجه فجراً. كانت إدارة الحزب قد قررت، في اجتماع ضمّ أعضاء من المكتب السياسي واللجنة المركزية (الموجودون في بشتاشان)، عدم المواجهة والانسحاب، وذلك في 30 نيسان/ أبريل 1983. حيث انسحبت مفرزة واحدة مساء ذلك اليوم، وبقي كريم أحمد وأحمد بانيخيلاني، اللذان انسحبا ظهر يوم 1 آيار/ مايو باتجاه روست مع مفرزة كبيرة). ويعقب في ص110 قائلاً: (ففي حين كانت المعركة دائرة وما بعدها من تداعيات، وقعَّ خبر توقيع بيان مشترك بين كريم أحمد (ابو سليم) وجلال الطالباني (ابو شلاّل)، والذي أذيع عبر إذاعة أوك، وقع الصاعقة على الأنصار الشيوعيين، علماً أنه كان أسيراً هو وأحمد بانيخيلاني وقادر رشيد وعدد كبير من الأنصار، قُتل منهم في الحال 25 رفيقاً بعد أسرهم، وغالبيتهم الساحقة من العرب. كما وقّع بهاء الدين نوري اتفاقية مع أوك عُرفت باسم (اتفاقية ديوانة)، وذلك بعد فترة قصيرة من مجزرة بشتاشان). لذلك نجد تصرفات كريم أحمد وبهاء الدين نوري آنذاك تصرفات متخبطة في مواقفهم وسياساتهم الخاطئة في توقيع البيانين، مما شعر انصار الحزب بالمرارة والهزيمة، وتسرع في اتخاذ القرارات، فأصبح النقد مهيمن على سلوك بعض المقاتلين من الحزب. ثم يسرد د. شعبان ما وقع من مجزرة بشتاشان ويربطها بالهجوم البعثي على الحزب عام 1978 ومطلع عام 1979 متذكراً العبارة المشهورة (دبّر نفسك يا رفيقي) ص114.

العمل العسكري وفي واقع أرض جبلية وقتال مع قوات حكومية مدججة بالسلاح الخفيف والثقيل يحتاج إلى دراسة وحسابات، لكن أجد من خلال اطلاعي على احداث بشتاشان منذ عام 2001م من خلال رواية الأديب عامر حسين (خلف الطواحين) التي تم استعارتها من الرفيقة (نصيرة عواد كراد) المقيمة في الدنمارك وقتذاك، واستطيع القول أن معركة بشتاشان كانت معركة ثأرية دون حساب تواز القوى والظروف الموضوعية والإمكانات الذاتية، ولم نتعلم من تجاربنا السابقة في التحالفات والمعارك وحمل السلاح، وكانت الحكومة العراقية هي المستفيدة من تلك المعارك، فكانت النتائج سقوط عدد آخر من الشهداء والهزائم المتكررة والبلبلة الفكرية والتراجع السياسي، وزادت من الهوة بين القيادة والقاعدة بسبب ضعف الثقة الحالة النفسية للقوات الأنصارية، فضلاً عن الضعف الفكري والسياسي، لذلك كان دخول الحزب الشيوعي العراقي في جبهتين (جود، وجوقد) غير صحيح في ظل قوى متخاصمة راح ضحيتها أكثر من 70 شهيداً بدلاً من أن يكون موقف الحزب موقف سلمي كحمامة سلام، فالتحالف مع الحزب الديمقراطي الكردستاني أزعج حزب الاتحاد الكردستاني المتحالف مع الحكومة فوقعت الكارثة.

ثم يذكر د. شعبان في ص126-134 تحالفات الحزب مع البعث عام 1973م، منتقداً سياسة الحزب قائلاً: (وهكذا تم الانتقال سريعاً من سياسة التحالفات مع حزب البعث إلى سياسة نقيضه، فتحول البعث من حزب قاد التغيير الثوري، وفيما بعد أصبحت ثورة 17 تموز/ يوليو متقدمة في العالم الثالث {1976- المؤتمر الوطني الثالث للحزب الشيوعي}، إلى حزب فاشي، أو ديكتاتورية فاشية، أو ديكتاتورية بأساليب فاشية 1979م). وأنا أرى أن الدكتور عبد الحسين شعبان قبل مجزرة بشتاشان كان قريباً من قيادة الحزب الشيوعي والمكتب السياسي، فهو الذي عمل في الجانب الإعلامي في بشتاشان، فلماذا لم يوجه لهم النقد أو الحوار دون التجني عليهم في كتابه هذا؟ أم أن هذه الانتقادات في هذا الوقت هي نتيجة الصراعات السياسية والحركة الانشقاقية التي قادها بعض قيادات الحزب ممن لم ينتخبوا في المؤتمر الرابع، حتى وصل الصراع الداخلي إلى طريق مسدود وضاقت بهم السبل للاختيار بالتعبير عن الرأي في حركة المنبر، خارقين قواعد الحزب التنظيمية، واصدار صحيفة الحركة الانشقاقية (المنبر)، وقد كان د. شعبان رئيس تحريرها في بيروت، لذلك اتخذت قيادة الحزب الاجراءات الانضباطية بالتنحيات والفصل والعقوبات المختلفة.

ويذكر د. شعبان في ص152 من الكتاب أنه (كان نوري عبد الرزاق، المؤسس في حركة المنبر والمنسّق العام لها، قد أحاب على استفسار وجهه له عزيز محمد، أمين عام الحزب: {ماذا تمثّلون؟}، حيث قال له: {اخترنا طريق قول الرأي العلني. لسنا منشقّين}، ولا نزعم أننا نمثل الشرعية، ولكن ذلك اسلوب جديد في الصراع الداخلي، بعد أن سُدت المنافذ في وجوهنا. وهناك قضايا عُقدية سبق وأن وقعت خلافات بشأنها، مثل الحرب العراقية- الإيرانية، بالإضافة إلى قضايا نظرية وتاريخية).

ويعاود د. شعبان في ص181 ذاكراً حال المنشقين عن الحزب، (وتأكدتُ لاحقاً، من خلال تجربتي العملية، من أنه ليس بالإمكان إحداث تغيير أيضاً عبر الانشطار أو الانقسام، تحت عناوين {الشرعية} أو {التصحيح} أو {صواب النهج السياسي}، وهي العناوين التي يستخدمها الفرقاء، فضلاً عن {اليمين واليسار} و{الإصلاحي والمغامرة}. فقد فشلت انشقاقات مماثلة سبقتنا، سواء كانت على صواب أم على خطأ، ومثل هذا الاستنتاج لا يخصّ الحزب الشيوعي وحده، بل ينسحب على مجمل الأحزاب والتيّارات ذات الأيديولوجيات الشمولية، التي تنسى كل شيء وتظلّ تحارب أصحاب الرأي باسم {نقاوة النظرية} في الأحزاب الشيوعية والماركسية أو {الوحدة العربية المقدسة} و{تحرير فلسطين} في الأحزاب القومية العربية والبعثية....الخ). ولا اعرف من خلال كلمات الدكتور شعبان هذه هل هو نادماً على حركة المنبر والانشقاق عن جسد الحزب الشيوعي العراقي، مع احترامي له ولفكره، فهو قامة عراقية وعلم من اعلام العراق لا يمكن ليّ أن أصل مقامه الكريم، وارجو أن لا يفهم كلماتي هذه بالخطأ، فأحدهم عدما كتبت قراءة بحق كتابه (نصف قرن في رحاب الحركة الشيوعية) الصادر عن دار الرافدين في بيروت عام 2023م، ارسل لي رسالة على الماسنجر {احتفظ بها في ملفاتي اليوم} بكلمات نابية وشتائم لا تنسجم مع مهنته كطبيب ومناضل وكاتب كما هو معروف، ولكن (الاختلاف لا يفسد في الود قضية) كما يقال، إلا أن يحاول أن ينال منيّ كوني اختلفت معه في الآراء والأفكار أو في الموقف، فالكلمات النابية لا تحل أمراً، فهذا لا يليق بحضرته، أما أن يستخدم ضغوطات ووساطات لسحب مقالي فهذا مُعيب، فلا اعرف هل استخدام الكلمات النابية قوَّة أم ضعف موقف، كيف يكون موقف الإنسان الشريف والنبيل مشرّفاً ومشرقاً وهو يستخدم الكلمات النابية، وينزل إلى مستوى متدني في الألفاظ النابية والكلمات والمصطلحات غير المتوفرة في قاموس ابناء الشوارع. مع الأسف الوسط الثقافي والأدبي والحزبي اليوم مأزوم ويعيش حالة من التدني والانحدار الأخلاقي والسياسي.

مع كل الخلافات التي تحصل بين اعضاء الحزب وسياسة القيادة لا بد أن لا ننسى بأنه من الاستحالة الانفصام عن كيان الحزب وجسده، مهما اختلفنا أو تقاطعنا بالأفكار والآراء وسياسة الحزب، فنحن كبرنا وتربينا في حضن وكنف الحزب رغم العذابات والمرارة اللاذعة.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

مسيرة فكريّة مضيئة

يواصل الدكتور منير توما مسيرته الفكريّة، منذ أن شرع فيها بسخاء وعمق، لتمتّدّ مضيئة تنير العقول والنّفوس، وتؤثّر في المشهد الثّقافيّ.

تتميّز هذه المسيرة بحيويتها وتجدّدِها وانفتاحها على المزيد من الأسئلة والإنتاجات الخصبة، فإلى جانب انشغالاته الفكريّة، يمارس شغفه بالكتابة والتّأمّل وطرح الأسئلة، سواء عبر ما ينشره من الكتب أو من خلال مقالاته المتنوّعة، في الفكر والفلسفة والشّعر والنّقد الأدبيّ.

في الوقت ذاته يهتمّ بتحليل ما أنتجه الكثير من المبدعين والمفكّرين والفلاسفة والحكماء من الرّعيل الفكريّ الأول، ومن الأجيال المتعاقبة، مخلّدا ذكراهم ومحتفيا بهم، راصدا بدراية وتمكّن مسارهم في الفكر والكتابة، متناولا مصنّفاتهم واجتهاداتهم، مركّبا لأسئلتها ونتائجها.

هو عاشق للّغة العربيّة، يحيك خيوطها ببراعة ويجيد تطويعها باقتدار، وبكتابات تطغى عليها التّعابير اللّيّنة الرّقيقة، يتألّق في استخدامها كأداة فنيّة، يبني بها جسرا من الجمال اللّفظي، ليربط بين أفكاره وقلوب القرّاء.

هذا القلم الفكريّ النّقديّ، التّنويريّ الإنسانيّ، يكتب ما يؤمن به دون حرج، يصنّف الغثّ من السّمين، ويميّز بين الكتابة المثقّفة الواعيّة والكتابة المنتفخة. يمزج بين حبّ المعرفة وحبّ الكلمة؛ لينتصر للإبداع والجمالِ والمحبّة، وإِنسانيَّةِ الإِنسان.

نعم، فهو الأديب والنّاقد والشّاعر، يمتاز بتعدّد مواهبه وغزارة إنتاجه، هو صاحب الكلمة والفكرة النّاصعة الجليّة. وحين وصلني كتاب "رؤى فكريّة وأدبيّة"، فرحت به واستمتعت بقراءته، فما من عمل مبهج للنّفس والعقل أكثر من القراءة، أسكن إليها فأجد فيها نفسي، ولا أخرج من وهجها أو عوالمها البيضاء.

هذا الكتاب "رؤى فكريّة وأدبيّة"

صدر هذا الكتاب عن دار سهيل عيساوي للطّباعة والنّشر، وهو يقع في (113) صفحة، يضمّ مجموعة من الدّراسات والمقالات الوازنة، التي تبحر في ثيّمات وانشغالات مختلفة، فنّيّة وثقافيّة. يتوجّه به الكاتب إلى القارئ بموضوعات قريبة من القلب، وبلغة سلسة واضحة، وأسلوب رشيق أنيق.

أمّا عن مقالات الكتاب فهي مقالات ذات اتجاهات مستقلّة، وأبعاد متعدّدة بالمعنى الفكريّ والفلسفيّ، بعضها قد نشرت في الصحف والمواقع الإلكترونية، ونالت إعجاب القرّاء.

هذه المقالات تبحث في أمور مختلفة، تتفاعل بين الصفحات، تتحاور وتتجاور، وتستند إلى مبادئ الانسجام والائتلاف والاتصال، وهي ليست جزءا من بنيّة واحدة، ولا ترتبط ببعضها البعض بِعَلاقة تكامليّة.

تُحفِّزُ على التّفكير والنّقاش البنّاء، وتُظهِر بوضوح أنّ القلم الفصيح يتألّق دائما بحبّ الثّقافة والعلم والأدب، ويعكس ذوق الكاتب في التّعبير والتّفكير والبحث، وما يتمتّع به من ثقافة وذوق فنّيّ وأدبيّ، وحرص على تقديم الأفضل. وبفضل هذا التنوّع والتعدّديّة في المقالات، يستمتع القارئ برحلة فكريّة مثيرة وممّتعة، تنقله بين مفاهيم التّحليل والتّأمّل، وتجعل من قراءته تجربة غنيّة ومثمرة.

كما تُعَدّ هذه المقالات مساحة للحوار، فقد شيّد الكاتب من خلالِها تواصله بين أدباء وفلاسفة وحكماء، ليسوا بالضّرورة معاصرين لبعضهم البعض، ولا بحاضرين جميعهم في المكان والزّمان ذاته، أعاد قراءة أعمالهم الأدبيّة والفنّيّة والفكريّة، برؤى جديدة، وفي سياق يسترفد ممكنات القراءة، حاور إبداعاتهم؛ وعمل على سبر أغوارها ومكنوناتها؛ للتّوصل إلى ما يشكّل تميّزها عن سواها من الإبداعات؛ وسرّ خلودها وتفرّدها الماثل في أعطافها. وعليه، فالعمليّة النّقديّة عنده ليست مجرّد تفسير أو نقل للفكرة والمعنى، بل هي عمليّة تفاعليّة إيجابيّة فعّالة، يتدخّل فيها بمعارفه وذخيرته المكتسبة وثقافته الخاصّة.

يتميز هذا الكتاب بالثّراء المعرفيّ، يعمل على تنمّية القدرات التّحليليّة للقارئ، يمنحه فرصة للاطّلاع على أفكار جديدة من زوايا مختلفة، ويدفعه إلى التّفكير في أمور لم يكن يفكّر فيها من قبل، كما يساعده على توسيع مداركه وتطوير رؤيته للأدب والفنّ العالميّين، ويشجّعه على الاستزادة المعرفيّة. من هنا تبرز أهميّة هذا الكتاب، الذي يجمع بين القيمة العلميّة والأدبيّة، يقدّم رؤى جديدة للقضايا الفكريّة والثّقافيّة من خلال تحليلات الكاتب التي امتازت بالأناقة والإيجاز، والابتعاد عن التّعقيد والمواربة.

في ميدان الإبداع

يفتتح د. توما كتابه بإهدائه إلى كلّ المستنيرين من عشّاق الأدب والفكر النيّر والفنّ الجميل. يتناول مواضيع الفنّ والفنّانين، الأدب والأدباء، الحكمة والحكماء.

يبدأ بالمقالة المعنونة: "أثر الشّاعر الإنجليزي وليام بليك في قصة جبران خليل جبران الأجنحة المتكسّرة" (ص6)، يخوض دراسة ومقارنة بين قصيدة بليك ورواية جبران، فيكتب: "إنّ المهجرين في أمريكا الشماليّة وعلى رأسهم جبران، قد عالجوا حقيقة الحياة وعالم الرّوح، أثّرت فيهم رومنطيقيّة الشاعر الإنجليزي وليام بليك. تأثّر جبران به تأثّرا لافتا، فأطلق استياءً عاطفيّا وصرخة هادئة في ثورة انفعاليّة في روايته الأجنحة المتكسّرة، وهو يحاول إيقاظ المجتمع من غفلته".

في هذا السّياق تناول الكاتب أثر بليك من خلال قصيدته "رؤى بنات ألبيون" على ما كتبه جبران في روايته. بليك في قصيدته يقدّم شخصية "بوتون" وهي الشخصيّة المجازيّة للنّساء البريطانيات المستعبدات في المجتمع آنذاك، ورواية جبران هي نسخة معدّلة لمفهوم الشّاعر عن البراءة والتّجرِبة. جبران وسلمى يُجبران على مجابِهة الواقع المرير، وبسبب المعايير والقواعد الاجتماعيّة الظّالمة، يحرمان من تحقيق حبّهما، تموت سلمى ويَترُك جبران بلاده دون رجعة.

يقول د. توما: في العملين هجوم على المعايير التقليديّة وإنكار لشرعيتها، ودعوة لتحرير الأنثى المستعبدة، وتدمير للمبرّرات الدّينيّة الزّائفة، وجبران يعبّر عن موقفه تجاه السّلطة الدّينيّة. داعيا إلى نظام اجتماعيّ يتأسّس على الأخلاقيّة والفضيلة المتحرّرة من قيود العقيدة، ويستنتج أنّ كلّ الأديان تؤدّي إلى الطّريق نفسه، الذي ينتهي إلى الله، إذن فجميع الأديان واحدة، ولا فرق بين دين وآخر. وخلاصة القول إنّ جبران قد قرأ الشّاعر الإنجليزي بليك، واكتشف الميل والرّؤى المتبادلة بينهما.

في المقالة الثانيّة (ص12) يتحدّث الكاتب بإسهاب عن أغنية "يا من يحنّ إليكِ فؤادي"، يستعرض ما فيها من المعاني السّاميّة والجماليات الفلكلوريّة، ومظاهر الحبّ والوفاء، ورقة الشّعور ونبل العاطفة.

في المقالة الثّالثة: "ألبير كامو ومعتقده بعدم وجود معنى للحياة" (ص17) يفتتح الحديث بمّا كتبه "ألبير كامو" في كتابه "أسطورة سيزيف" عن الشّعور بالعبثيّة، فيكتب توما سؤالا فلسفيا: هل تستحق الحياة أن تُعاش؟ إنّ قبول العبثيّة هو بداية الطريق إلى فلسفة أعلى، إذ يعتقد البعض أنّ الحياة لا معنى لها، وأنّ كلّ شيء يحدث فقط بالمصادفة. ولكن يمكنّنا إيجاد معنى الحياة إذا تقبّلنا الحقيقة، وإذا استطعنا التّغلّب على خيبة الأمل واليأس، وتجنّب الأوهام والأحلام الزّائفة واليقين المفرط، حينها فقط سنجد الوضوح والقوة.

في المقالة الرّابعة (ص21) يحلّل ويعلّق على سونيت شكسبير رقم (115) فيقول: إنها تحمل تشابها لقصيدتين من تأليف الشّاعر الإنجليزي "جون دَن"، وهما نمو الحبّ، ولا نهائية المحبّ.

يعرّج على الحبّ والجمال في قصيدتين من القصائد المغنّاة: "يا ليل الصَّبُّ متى غده" لأبي الحسن القيروانيّ و"مضناك جفاه مرقده" لأحمد شوقي (ص25) فيقول: تشترك القصيدتان في الانتماء إلى مدرسة الرّقة العاطفيّة، فكلا الشّاعرين هنا، رغم البعد الزّمنيّ بينهما، يعبّران عن شعر رومانسيّ غنائيّ حالم، يُفصح عن محبّ عاشق، متفتّح لروحانيّة الحياة وجمالياتها في بحار من الرّؤى والأطياف، تتمرّكز في عبادة وتقديس الجمال، من خلال صور جديدة مبتكرة في قاموس العاطفة والوجدان، وقد تميّزت القصيدتان بقوّة العاطفة وحرارتها، مّا منحهما الصّدق الفنّيّ.

ولا ينسى أديبنا أن يتحدّث عن الفنّان والالتزام بالذّات الفنّيّة (ص32) فيقول: إنّ على الفنّان واجبا أصيلا، ألا وهو التزامه بما يوحي به ضميره. إنّ كلّ الفنون بأنواعها تنطلق من حاجة باطنيّة ذاتيّة. ينزع الفنّان إلى التّعبير عن رغبات يصبو إلى تحقيقها، فيقترب إلى وحدة تفاعليّة مع الكون؛ كإنسان يتفرّد بكينونته النّفسيّة، يسعى إلى تحقيق ذاته بطرق منوّعة، وخطوط متداخلة، ومساحات محدودة أو واسعة. ومن خلال عمله الفنّيّ يعلن موقفه الخاص من الحياة والمجتمع، يرسم مجازا للحقيقة، لذا يتوجب عليه أن يكون مؤمنا بنفسه وأعماله مهما تنوّعت. أمّا الحرية فهي ضرورية للفنّان لإبراز الحقيقة من خلال عمله، وهذا ما يتطلّب الفهم الواعي والحقيقيّ لها، فالحريّة نسبيّة ومشروطة بالالتزام.

ينتقل الكاتب ببراعة للحديث عن اللّيبراليّة ونظرتها التّفاؤليّة للطّبيعة البشريّة، فيستطرد قائلا (ص37): إنّ اللّيبراليّة في تجسّداتها الكلاسيكيّة والحديثة، هي مذهب فكريّ، يتمركز على فكرة الحريّة الفكريّة ووجوب احترام الفرد. أمّا وظيفة الدّولة الأساسيّة فهي حماية حريّة المواطن الشخصيّة وحقوقه الإنسانيّة، وضمان حرية التّعبير والتّفكير والملكيّة الخاصّة، لهذا فإنّ الليبراليّة تسعى إلى تقليل دور السّلطة وتوسيع نطاق الحرّيّة المدنيّة.

يتحوّل د. توما في حديثه عن "بليز باسكال" بين العلم والدّين والإيمان (ص43)، يقتبس منه بعض الأقوال ويكتب: "إنّ القلب هو الذي يختبر الله، وليس العقل، وهذا هو الإيمان، إذ يتمّ الشعور بالله بواسطة القلب، وليس بواسطة العقل". ثمّ يطرح السؤال: هل للعقل دور في الإيمان؟ ناقش "باسكال" مجادلا أنّ العقل وحدة ليس كافيّا لأيّ جانب في الحياة، لأنّ أشياء كثيرة ممكنة منطقيّا، وهي ليست في الواقع حقيقيّة. فكيف إذن نقرّر بينها؟ "نحن نعرف الحقيقة، ليس فقط بواسطة العقل، وإنّما بواسطة القلب أيضا"(ص44). لنتعرّف على الحقيقة، يجب الشّعور بها أولا، وقد قال "باسكال": "إنّ القلب لديه أسبابه، وإنّ العقل لا يعرف شيئا".

ثمّ يكتب عن المفكِّر المصري القبطي سلامة موسى، رائد الدّعوة إلى الاشتراكيّة العربيّة (ص47)، يتطرّق إلى حياته ومسيرته وأفكاره، يقول (ص50): إنّ موسى قد قال في أحد كتبه: لقد وجدت نفسي إشتراكيا لقوّة الجذب التي كانت عند الإشتراكيين في العلم والأدب، وقد أدركتني الإشتراكيّة عن طريق الأدب أكثر مما أدركتني عن طريق السّياسة.

ويعود إلى الفنّ والشّعر مرّة أخرى فيتحدّث عن قصيدة "ياجارة الوادي" واستعادة أمير الشّعراء لذكرياته في مدينة زحلة. يعاود الحديث الفكريّ والفلسفيّ مجدّدا فيتطرق إلى تقديس فولتير لحريّة العقل، وحريّة العقيدة والضمير (ص58)، ثمّ ينتقل إلى قصيدة رثاء، كتبها في رحيل الفنّان صباح فخري (ص62)، ويتناول بعد ذلك مقالة لطيفة عن "أصل وجذور كلمات ومقولات شائعة" (ص67)، يناقش فيها أصول بعض الكلمات والعبارات المستخدمة في مجالات حياتية مختلفة. ثمّ يعرّج على أمثال قيلت في الحفاظ على صحّة الجسم (ص74). وفي مقارنة فكريّة يدرس القواسم المشتركة بين "تولستوي" و"المهاتما" غاندي (ص80) فيقول: إنّ "تولستوي" كان طيلة حياته ضمير أوروبا في فترة النّصف الثّاني للقرن التّاسع عشر، كما كان "المهاتما غاندي" ضمير الهند والعالم، إنَّ تولستوي قد أوحى لغاندي بثورة اللاعنف التي قادها وتزعّمها غاندي في الهند ضد المستعمرين الانجليز، وذلك بمقاطعتهم بثورة اكتسبت لون الوداعة التي تمتّع بها غاندي، الذي كان يسعى إلى الأخلاق والإصلاح مثل تولستوي نفسه. كلاهما كان يطلب إصلاح الفرد، وذلك من منظورهما يؤدّي إلى إصلاح المجتمع.

تنتهي صفحات الكتاب وموضوعاته، بمختارات من حكمة الرّوائي الرّوسي "ليو تولستوي" (ص86)، ومختارات أخرى من حكمة "المهاتما غاندي" (ص98)، وقد ترجمهما د. توما عن الإنجليزيّة.

وبعد.. لقد وضع المؤلّف بين أيدينا كتابا مفتوحا ومقالات فكريّة متعدّدة، وظّف الأسلوب التّحليلي في طرحه، عرض أفكاره بموثوقيّة وموضوعيّة؛ الأمر الذي يعزّز من قيمة هذا العمل، ويثري تجربة القراءة. فهو يجمع بين الأفكار والرّؤى العميقة في مجالات مختلفة، ما يعكس وعي الكاتب النّقديّ بالقضايا الثّقافيّة، وسعة اطّلاعه الأدبيّ والفنّيّ، الفلسفيّ والفكريّ. وخلاصة القول هو كتاب كلّما وصلنا إلى نهايته كلّما استأنفنا قراءته من جديد؛ فلنواصل القراءة إذن.

***

صباح بشير

للكون مفهوم واسع ومعقد، وما نعرفه هو المكان والزمان الموجودين في الفضاء الخارجي والقابلين للمراقبة والرصد والمشاهدة والخاضعين للقياس ولقوانين طبيعية وفيزيائية جوهرية، دون أن يكون فيه عناصر مطلقة، وهو ذلك الجزء المرئي والملموس والمكون من مجموعة من الأكداس والحشود من المجرات الصغيرة والكبيرة، القريبة والبعيدة جداً، والتي تعد بالمليارات، وفي كل مجرة هناك مليارات النجوم والكواكب وغيرها من الأجرام والغازات والأغبرة الكونية. وجاءت نظريات الفيزياء الحديثة لتقدم أجوبة تقريبية ونسبية ونظرية للبت في أصل الكون وعمره ومصيره منذ بدايات القرن العشرين؛ أشهرها نظرية النسبية لآينشتين وما تلاها. وحدثت انعطافه تاريخية سنة 1929م عندما اكتشف العالم إدوين هيوبل Edwin Hubble ظاهرة توسع وتمدد الكون مما يعني أن محتويات الكون كانت قريبة لبعضها البعض في الماضي السحيق الذي يعود إلى 10 أو 20 مليار سنة وكانت كثافة الكون لامحدودة الأمر الذي أعاد موضوع عمر الكون وولادته إلى طاولة البحث العلمي البحت. ومن هنا برز مفهوم أو مصطلح الانفجار العظيم"Big Bang"، عندما كان الكون لامتناهي في صغره ولامتناهي في كثافته.

في كتاب الدكتور جواد بشارة (الكون اصله ومصيره.. نظرات بين العلم والاعتقاد والخرافة) الصادر عن المتحدة للطباعة والنشر في ابو ظبي، الطبعة الأولى 2023، يسلط الضوء على أكثر من (35) سؤال حول الكون، والكتاب تضمن الكتاب (336) صفحة من الحجم الوزيري مع توطئة ومقدمة معتمداً على أكثر من (100) مصدر اجنبي. لكن من المؤاخذات على الكتاب أن المؤلف لم يذكر في هامش الصفحات المصادر العلمية التي استند عليها وفق كل معلومة ليتسنى للقارئ مراجعتها، ولكن جمع المصادر كلها في نهاية الكتاب.

يسلط الدكتور بشارة الضوء في مقدمة الكتاب على الأسباب التي دعته للاهتمام بدراسة الكون؛ اصله ومصيره وفق النظريات العلمية، ووفق النظريات الفيزيائية الحديثة، ليقدم لنا أجوبة تقريبية ونسبية ونظرية للبت في أصل الكون وعمره ومصيره. ذاكراً في ص5 الأسباب التي دعته للاهتمام والولع بمواضيع الكون وعلم الفلك والفيزياء الفلكية والفيزياء النظرية من خلال اطلاعه على كتابين هما (الكون الأحدب، ونقد الفكر الديني للدكتور السوري صادق جلال العظم)، الكتابان قلبا المفاهيم في رأس بشارة آنذاك. ويعقب في ص6 قائلاً: (وبعد أن تبلورت في ذهني بدايات لأجوبة أكثر اقناعاً وعلمية من الاجابات الميثولوجية والثيولوجية الجاهزة والمسلم بها والتي لا يحق لأحد مناقشتها أو الشك بحقيقتها، وأدركت أن للأرض والبشر الذين يعيشون فوقها إله لا يعرفون كنهه وماهيته هو السبب في وجودهم وهو الذي خلقهم أو بالأحرى صنعهم على صورته لأنه يشبه البشر، والذي يسميه اليهود يهوه والمسيحيون رب الكون الأعلى أو ذو الأقانيم الثلاثة ويسميه المسلمون الله، وتارة تسميه التوراة الإيلوهيم؛ هم فريق من العلماء من خارج مجموعتنا الشمسية ولكن من داخل مجرتنا درب التبانة بلغو مستوى هائلاً من التقدم العلمي يسبقنا بستين مليون سنة ويسيطرون تماماً على علم البيولوجيا والاستنساخ والهندسة الوراثية والتلاعب بالحامض النووي DNA. هبطوا على الأرض بمركباتهم الفضائية وأقاموا تجاربهم في مختبر بحجم الكوكب والتي جعلت كوكب الأرض قابل للحياة التي زرعوها فيه وهم الذين أسميناهم الملائكة ومعهم آخرون من أبناء جنسهم عارضوا تجاربهم وعرفوا عندنا باسم الشياطين، وهؤلاء بدورهم مخلوقين على أيدي أقوام ذكية ومتطورة أكثر منهم ما زالوا يبحثون عنهم ويرغبون بلقائهم). من خلال هذا السرد ينقلنا الدكتور بشارة إلى اسئلة واستفسارات كثيرة كانت جميعها خفية علينا، وقد سلط الضوء عليها من خلال كتابه هذا، فهو كتاب غزير بالمعلومات العلمية بسطها الكاتب للقراء كي ينقل الصورة العلمية لهم دون استخدام المعادلات العلمية والرياضية التي تعقد الموضوع، ومن غير الممكن أن انقل للقارئ الكريم خلال صفحات معدودة ما يتضمنه الكتاب، ولكن بكل الأحوال سأستعرض بعض المعلومات العلمية والمهمة.

في ص11 يطرح الكاتب تساؤل (هل يمكن مصالحة العلم مع الدين؟ وهل يمكن التوفيق بين الإيمان بالغيب والعقلانية المادية؟). وكانت الإجابة تقول (من حيث المبدأ والمنهج والفهم والاستدلال والتجربة الحسية والمادية الملموسة والمختبرية، يرفض العلم أي تفسير للعالم والوجود باللجوء إلى قوة غيبية ماورائية وميتافيزيقية لا يمكنه إثبات وجودها علماً). في حين كانت منذ قرون الغلبة للأديان السماوية على العلم، مقدمة للإنسان حقيقة لا تقبل المناقشة أو الدحض أو النقد، أما اليوم أصبح العلم قوياً، فتقهقرت اساطير الأديان وطغى التفكير العلمي والانجازات العلمية منذ غزو الفضاء وتقديم المنجزات العلمية حول اصل الكون والأكوان، وكان لدور اسحق نيوتن الذي رسخ فكرة كروية الأرض تدريجياً في اوساط البروتستانت ثم تبناها بعض الكاثوليك مثل ديكارت وباسكال ومن ثم العلماء الموهوبين ايدوا كروية الأرض.

ويرى الدكتور بشارة أن العقل (ملكة التفكير الموجود في الدماغ البشري، وهي القادرة على الإدراك والاستدراك، والفهم والاجابة، التحليل واتخاذ القرار) ص21. فضلاً عن أن العقل البشري كان يبحث عن حلول لألغاز الموت والظواهر الطبيعية فنسج القصص والأساطير أبان الانسان النايتردال، وقد استندت إليها جميع الأديان السماوية والأرضية ومنحتها القوة والتأثير على عقول البشر منذ آدم وليومنا هذا. كما يرى بشارة أن (الحياة بكل اشكالها وألوانها وتنوعها هي من صنع كائنات بشرية لكنها لا أرضية، أو تشبه البشر وأقدم منا بـ 60 مليون سنة، ومتقدمة علينا بملايين السنين، تعيش في كوكب بعيد جداً، الحياة فيه تشبه إلى حدٍ بعيد الحياة في الجنَّة التي وصفتها الكتب السماوية المقدسة. جاءوا إلى الأرض في بعثات استكشافية عدة مرات، ويمتلكون تكنلوجيا مذهلة تجعلهم بمثابة الآلهة في نظر البشر، ولديهم قدرات لا محدودة، متمكنين إلى حد الكمال من تقنية الاستنساخ البشري الفوري وتقنية الحامض النووي الـ DNA أي الجينات الوراثية والهندسة الوراثية، ويجوبون ارجاء الكون بسفن فضائية متطورة جداً لا يتصورها البشر، تطوي المسافات التي تحتاج لملايين السنين الضوئية، وبرمشة عين... وتسمى تلك الكائنات الإيلوهيم.. بيد أن هناك حضارات وكائنات كونية أخرى زارت الأرض واجرت اتصالات مع بني البشر، كالأوميين  Les Ummites وساعدتهم على تطوير انفسهم وتعليمهم تدريجياً أسرار التكنولوجيا الحديثة) ص24-25.

لذلك ومن خلال هذه الكائنات الفضائية أجد بعض العلماء مدينون لهم بما انجزوا من تطور تقني وعلمي منذ أربعينيات القرن الماضي، وبفضلهم نجحوا في التكنولوجيا الحديثة وكشق شيفرة الـ DNA . لذلك نجد الدكتور بشارة يطرح تساؤلاً (هل سيتحكم العلم بمستقبل البشرية في القرن الحالي وما بعده؟) ص26. لأن العلم في حالة تقدم وتحقيق انجازات ولا وجود لحدود تقدمه وانجازاته العلمية، ويعمل العلماء اليوم على صياغة النظرية الكونية الشاملة بعد التوصل إلى سر المادة والفراغ الكوني والمادة السوداء والطاقة المعتمة التي تملأ الكون ومعرفة سر الحياة والتمكن من خلقها في المختبر، وكشف سر النفس أو الروح. وبالفعل تم فك بعض العلماء أسرار شيفرة الجينوم البشري في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، مما سيعبد الطريق أمام الطب ونسخ الحياة واطالتها بوسائل العلم والتكنولوجيا.

ومن الأسئلة المحيرة للإنسان التي يطرحها بشاره في كتابه وهي (هل نحن وحيدون في هذا الكون؟)، علماً أني سمعت له قبل ستة اعوام من خلال محاضرة في دار الود للثقافة والفنون في بابل حول الكائنات الفضائية، وبدأت البحث والقراءة والاستقصاء، ومن خلال لقاء مع الدكتور بشارة مطلع هذا الشهر حول التخاطر أو التواصل مع كائنات فضائية في كوكب مما أكد لي ذلك، كما تطرق في حديثه بأن بعض العلماء حصلوا على معلومات تقنية متطورة من خلال التخاطر مع الكائنات الفضائية، ففي ص32-33 من كتابه يذكر بشارة قائلاً: (في شهر ديسمبر 1973م ادعى صحافي فرنسي مغمور آنذاك اسمه كلود فوريلون الذي كان حينها في السادسة والعشرين من عمره، أنه شاهد مركبة فضائية "طبق طائر" تهبط قرب بركان في وسط فرنسا وهبط منها اشخاص قدموا من كوكب آخر أخبروه أنهم الإيلوهيم، أي القادمين من السماء، الذين ورد اسمهم في التوراة. وقال الشاب الذي أطلق على نفسه اسم "رائيل" أنه كلف من قبلهم بمهمة تأسيس "سفارة" على الأرض لاستقبالهم بصورة رسمية عندما تحين الفرصة التي سيقررونها هم في وقت لاحق لكي يلتقي البشر بكائنات من كوكب آخر. وأدعى فوريلون أنهُ نبي جديد قام بمرافقة الإيلوهيم برحلات إلى كوكبهم في مركبتهم الفضائية وشاهد بنفسه هناك طبيعة الحياة وتنظيم المجتمع ألتقى بالأنبياء الذين عرفتهم البشرية عبر تاريخها كموسى والمسيح ومحمد الذين تم استنساخهم انطلاقاً من الحامض النووي لكل منهم). والسؤال الذي اطرحه على الدكتور بشارة؛ إذا كانت هناك حضارة كونية متقدمة تكنلوجياً وعلمياً فأين هي؟ ولماذا لم تظهر؟ ولم نحصل على دليل علمي أو شخصي لوجودها؟ مع العلم أنا متيقن من وجودها، لكن لماذا لم تظهر لحد الآن بشلٍ واضح؟

في ص35 يطرح الدكتور بشارة سؤال ضروري ومهم، وهو؛ متى يستيقظ الإنسان من خرافة الكون الواحد المحدود؟ هل نحن وحدنا في هذا الكون الشاسع؟ ويجيب بنفس الصفحة قائلاً: (هناك اطروحة تبناها عدد كبير من العلماء المرموقين في العالم تتحدث عن اتصالات مع كائنات لا أرضية جاءت إلى الأرض من عمق الكون من مسافات بعيدة جداً وهي أقدم منا عمراً وأكثر تطوراً وتقدماً بكثير من الناحية التكنولوجية والعلمية، ومن بين هؤلاء أقوام يسمون أنفسهم بالأوميين Les Ummites؛ يقولون إنهم وصلوا كوكب الأرض لأول مرة في آذار 1950م في منطقة دين DIGNE في أعقاب تلقيهم بالصدفة لرسالة قادمة من الأرض أرسلتها سفينة نرويجية قبل ستة عشر عاماً من ذلك التاريخ. وقد جلبت ثلاث سفن فضائية أومية فريقاً استكشافياً من علماء كوكب أومو UMMO الذي يبعد عن الأرض مسافة 14,6 سنة ضوئية، أي ما يقطعه الضوء بسرعة 3,000,000 كلم في الثانية الواحدة لمدة 14,6 سنة). ثم يتطرق في ص36-40 إلى من تسلم رسائل من الأوميين قائلاً: (أول من تسلم مجموعة رسائل من الأوميين هو الإسباني فريناندوا سيسما وهو ناشط في جمعية روحانية كان سبق أن نشر كتاباً ادعى فيه أنه على اتصال بكائنات سماوية أو كونية أخرى "غير الأوميين". ومن ثم تلقى آخرون رسائل أخرى منهم 34 اسبانياً وعدد من الفرنسيين المعروفين، وكذلك ألمان وأمريكيين وبريطانيين وروس وغيرهم. واستمر تدفق الرسائل والاتصالات عبر هذه الطريقة مع أهل الأرض المختارين بعناية ودقة شديدة لغاية سنة 1994م، وانقطعت لعقد من الزمن ثم عادت من جديد في السنوات القليلة الماضية... لغة الأوميين المنطوقة أو المتكلمة والمكتوبة ذات طبيعيتين تخاطرية وصوتية، مستقلتين ومتميزتين عن بعضهما البعض... وقد تدخلوا "يقصد الأوميين" بوسائلهم الخفية والناجعة عدة مرات لمنع حدوث هذه النهاية النووية الكارثية "يقصد في الأرض"... ومعتقداتهم الدينية والروحانية تستند إلى معطيات ودلائل علمية ولا تحتوي على طقوس وشعار قروسطية أو بدائية أو خرافية... واعطى الأوميون اسم "نظرية الحقل الموحد" لتصورهم لمجموعة الأكوان التي يعرفونها بوسائلهم العلمية المتقدمة جداً... والكون الذي يتحدث عنه الأوميون يوجد في فضاء متعدد الأبعاد ويحتوي على عدد من التحدبات والانحناءات والكتل التي لا علاقة لها بفضاء ثلاثي الأبعاد أو بالمكان الإقليدي.. وكون الأوميين.. كون متعدد الأبعاد حسب النظرية النسبية ونظرية الكم أو الكوانتا... وتجدر الإشارة إلى أن العالم الروسي أندرية زاخاروف كان قد قدم نظرية عن الكون المتوازي وحصل على جائزة نوبل بفضلها ونسبها لنفسه ولم يتجرأ في الكشف عن مصدر معلوماته العلمية، والتي هي في الحقيقة كانت موجودة في رسائل تسلمها زاخاروف من الأوميين وفيها تفاصيل مستفيضة عن مفهوم الأكوان المتوازية، أو الأكوان المتوائمة أو تعدد الأكوان... يعتقد الأوميون بعدد لا متناهي من الأكوان المتنوعة، المختلفة والمتشابهة أو المتوائمة). وقد نقلنا الدكتور بشارة عبر صفحاته هذه حول الأوميين بسياحة علمية ممتعة مما ساهمت في التعمق في الاطلاع والتوسع في هذا المجال، فضلاً عن تفسير الأوميين للروح في ص42 وموقع الروح أو الوعي ونظرتهم للكون والله في ص43، وتفسيرهم للتطور الوراثي في ص44.

وقد سطَّر الدكتور في كتابه الكثير من الأسئلة والأجوبة التي لا نعرفها وغير مطلعين عليها، وبعضها تدور في عقولنا، منها: قصة الوجود الافتراضية كما يرويها العلم، الكون بين الخرافة العلمية والخرافية الدينية، المادة المفقودة في الكون، الكون الغامض، مؤشرات المستقبل نحو حضارة كونية، هل سيكتشف العلم الحديث سر الكون؟، عناق المجرات، هل سيعثر العلماء يوماً على المادة المضادة؟، شهود اللحظات الأولى للوجود، هل سنتصل يوماً بالعوالم الأخرى في الكون، كيف ولماذا، وماذا يعني ذلك؟، الكون وابعاده اللامتناهية، الإنسان بين إله العلم إله الدين والخوف من المجهول. والكثير من الأسئلة سيجد لها القارئ الكريم الإجابة في كتاب الدكتور بشارة (الكون أصله ومصيره.. نظرات بين العلم والاعتقاد والخرافة).

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

المجتمع والدولة والديمقراطية في البلدان العربية، كتاب من تأليف الباحث السعودي متروك الفالح، صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت في العام 2002، يقع في 212 صفحة موزعة على خمسة فصول أساسية. بالنسبة للإطار العام للدراسة، تناقش الأخيرة ظاهرة "تريف المدن" في المنطقة العربية من حيث واقعها وأسبابها وآفاقها متوسلة بالمنهج المقارن، بحيث أضاء المؤلف في مستهل بحثه على الإرهاصات الأولية لظهور المجتمع المدني الحديث في أوروبا بالتزامن مع نشوء الطبقة البرجوازية، مرورا بتأثير الثورة الصناعية التي أفضت إلى "تمدين الريف" بفعل انتقال الحياة الصناعية إلى الأرياف، وما أحدثه ذلك من تحول ثقافي (ثقافة الفردانية بدل الروابط التقليدية كالأسرة... إلخ) وسياسي (الديمقراطية الليبرالية، توسيع قاعدة المشاركة السياسية... إلخ). فكيف يمكن مقاربة إشكالية المجتمع المدني في السياق العربي – الإسلامي؟

أولا: ظاهرة تريف المدن في المنطقة العربية

إن ارتفاع وتيرة التمدن في المنطقة العربية خلال العقود الأخيرة من جراء هجرة سكان الأرياف إلى المدن لا يعني حكما استيعاب مفهوم المجتمع المدني الحديث (بأبعاده الثقافية والقيمية لا المادية - العمرانية فحسب) بالمنطقة العربية، وبدلا من ذلك فإننا نرزح تحت وطأة  ظاهرة "تريف المدينة" (خلافا لتمدين الريف بأوروبا) وما يعنيه ذلك من استمرار ثقافة البداوة وعصبياتها بدل روابط المواطنة والتعددية والليبرالية التي تسم المجتمع المدني الحديث. وعليه فإن تأثير العولمة والحداثة يطال فقط الجانب المادي الاستهلاكي لا النسق القيمي للمجتمع.

ورغم وجود عدد وافر من الهيئات والمؤسسات التي تبدو حديثة في سطحها (أحزاب، نقابات... إلخ) إلا أنها في صلبها لا تجسم جوهر المجتمع المدني بسبب انتفاء شرط الاستقلالية عن الدولة، كما أن وفرة الأحزاب والنقابات والجمعيات لا يعني بالضرورة وجود تعددية حقيقية من حيث الأفكار والتصورات المطروحة، فضلا عن غياب الثقافة المدنية والديمقراطية الداخلية لدى تلك التنظيمات بفعل استمرار تأثير عادات وثقافة الريف وإنْ على نحو لاشعوري.

ثانيا: معيقات قيام المجتمع المدني الحديث

ثمة عامل موضوعي يعيق تكون المجتمع المدني الحديث يتمثل في الطابع السلطوي للنظم السياسية العربية، وسياساتها التنموية العقيمة المتجهة إلى تركيز الخدمات والتصنيع في المدن الكبرى، في مقابل إهمالها للأرياف والأحياء المهمشة ذات الامتدادات الريفية في المدن. لكن هناك أيضا عوامل بنيوية بالغة الأهمية تتعلق بطبيعة التجمعات السكانية المتواجدة بالمدن الحاملة لمنظومة ثقافية وقيمية ما زالت مشدودة إلى حياة البداوة والريف. وهكذا فإن تمسك معظم مكونات المجتمع العربي بمفهوم صلب وضيق بخصوص قضايا العقيدة والهوية يجعل من الصعب والمتعذر الانتقال من المجتمع الأهلي التقليدي إلى المجتمع المدني الحديث بمتطلباته القيمية (التعددية، الليبرالية، المساواة بين الجنسين... إلخ).

وعطفا على ما سبق، يشدد الباحث على أن ارتباط الطبقة الوسطى بالبرجوازية في الغرب وإسهامها الكبير في سيرورة التحديث لا يتسق مع واقع الطبقة الوسطى في مجتمعاتنا العربية من حيث هي طبقة محافظة بالأساس تعتمد على منظومة من الريع والامتيازات والتبعية للسلطة، وبالتالي فهي عاجزة عن المشاركة في إحداث التغيير المنشود. وإلى جانب هذه الشريحة من البرجوازية الصغيرة، تعرضت شرائح أخرى من الطبقة الوسطى (الموظفين، المثقفين... إلخ) للتآكل في حجمها نتيجة السياسات النيوليبرالية المتوحشة، مما انعكس سلبا على تأثيرها وفعاليتها.

ثالثا: المجتمع الأهلي كبديل للمجتمع المدني

يتبنى الباحث طرحا لافتا مفاده أن قوى الاجتماع الأهلي التقليدي (القبيلة، الطائفة، العشيرة، العائلة الممتدة... إلخ) لا تشكل عائقا بالضرورة أمام الديمقراطية، بل قد تشكل حافزا لها في ظل التنافس القائم بينها على امتلاك النفوذ والحفاظ على كينونتها، ورفضها الخضوع للسلطة المركزية الاستبدادية، وبالتالي فإن قيام مجتمع مدني خالص من مفاعيل القوى التقليدية ليس شرطا ضروريا لإرساء الديمقراطية بالمنطقة العربية في ظل استحالة تفكيك البنى الصلبة للمجتمع الأهلي التقليدي لارتباطها الوثيق بهوية وشخصية المجتمعات العربية.

وتأسيسا على ذلك، يدعو المؤلف إلى تبني مفهوم المجتمع الأهلي بدل مفهوم المجتمع المدني، الشيء الذي يستتبع المطالبة بإرساء الديمقراطية في بعدها السياسي الشكلاني (توسيع قاعدة المشاركة وصنع القرار السياسي عبر انتخابات حرة ونزيهة)، ومن ثم عدم اعتبار الأبعاد القيمية والفلسفية التي ترتكز عليها الديمقراطيات الليبرالية في الغرب، وهو ما يُعد في تقديري الشخصي اجتهادا غير موفق من لدن الكاتب لكونه يُفرغ مفهوم الديمقراطية من محتواه ويفضي إلى تبني حداثة معطوبة ذات ملامح مشوهة.

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

للدكتور قادة جليد من جامعة وهران الجزائر

قال الدكتور قادة جليد استاذ الفلسفة بجامعة وهران (غرب الجزائر) وباحث ونائب سابق أن مبادرة الميثاق الوطني من أجل النهضة والكتلة التاريخية الجديدة هو مشروع وطني حضاري أصيل تؤطره رؤية استراتيجية للمستقبل وحِسٌّ تاريخيٌّ نابع من تطلعات الشعب الجزائري لتبوأ مكانة مهمة في التاريخ العالمي فظواهر الدولة والمجتمع لا تخضع في تفسيرها لقوانين يقينية لأنها تقترن بالإنسان فردا أو جماعة يستعصى على التكييم quantification لأنه مزيج من المادة والعقل والروح، ولاشك أن المحطة السياسية التاريخية التي تربط بين 2024 و2030 ستكون بلا شك محطة ملهمة وحاسمة في تحقيق الأهداف الاستراتيجية.

المبادرة السياسية من أجل النهضة والكتلة التاريخية الجزائرية الجديدة، التي حملت عنوان: " الميثاق الوطني من أجل النهضة والكتلة التاريخية الجزائرية الجديدة" هي خارطة طريق أو استراتيجية وضعها الدكتور قادة جليد أستاذ وباحث أكاديمي بجامعة وهران ونائب سابق، هي عصارة جهد فكريٍّ لرجل جنّد نفسه وفكره فكان له تصوّرٌ خاص لجزائر الغد، جزائر تبدأ أولا بتحرير العقل الجزائري الجديد وكل الطاقات والمبادرات التي كانت كامنة ومقموعة كما يقول هو، هي منعطف تاريخي نهضوي يُعَبِّرُ عن حركية إيجابية فاعلة في المجتمع تمس حياته الروحية والعقلية والمادية وتعكس طموحاته وتطلعاته في الحياة، هي تحوُّلٌ اجتماعي وحضاري من خلال بناء إنسان جزائري جديد، المبادرة تطمح إلى فتح نقاشٍ حُرٍّ ديمقراطيٍّ لتحريك العمل الفكري والثقافي والسياسي داخل المجتمع الجزائري أي بين النخبة والجماهير، الملاحظ أن هذه المبادرة تندرج ضمن مبادرة رئيس الجمهورية في التأسيس لخطاب سنَوّيٍّ رئاسيٍّ أمام ممثلي الشعب والأمّة وفي إطار هذا المسعى.

 وقد حملها الدكتور قادة جليد على عاتقه وتحمّل مسؤولية تبعاتها، فهي تعتبر قوة اقتراح بعيدا عن المصالح الفئوية والطبقية والتجاذبات السياسية والإصطفافات الحزبية والإيديولوجية، وتعتبر هذه المبادرة مخرجات الحراك الشعبي الذي كان هبّة شعبية والروح التاريخي الجزائري، بل بوصلة فكرية حضارية تمثلت في يقظة الوعي الشعبي، بل الوعي الجماهيري لمجابهة كل أشكال الانحرافات التي حدثت والتي قد تتكرر وتتفاقم وتتجدد في المستقبل، هي الانحرافات التي أخرجت الشعب الجزائري إلى الشارع ليطالب بالتغيير والعدالة الإجتماعية والمساواة والإعتراف بحقوق الإنسان وإنهاء العصبيات من التأثير في التاريخ، هذا الحراك الذي كان عبارة عن تدافع، أي إبطال فكرة الصراع من الأساس، طالما التاريخ ليس صداما ولا صراعا حضاريا، خاصة وأن العالم اليوم متعدد الأقطاب والثقافات وهذا التعدد والتنوع أخذ في الانبثاق، لا شك أن هذه هي الأسباب التي دفعت بالدكتور قادة جليد إلى طرح هذه المبادرة في محاولة منه تحويل أفكار الصدام إلى فكرة التفاهم بين أبناء البلد الواحد ونبذ الكراهية العميقة بينهم، في زمن عمقت فيه التناقضات وغُيِّبَتْ المرجعيات والطلائع، فهبّ البعض الى الهجرة وبقي إلا الصّامدون، لكنهم أحيلوا على التقاعد القسري.

و تشمل هذه المبادرة كما قال هو على مسافة واحدة من الجميع، بين السلطة والمعارضة من جهة وبين السلطة والأغلبية الرئاسية من جهة أخرى، وهي تطمح إلى فتح نقاش حر ديمقراطي وتحريك العمل الفكري ة الثقافي والسياسي داخل المجتمع الجزائري أي على مستوى النخبة والجماهير، كما تأتي هذه المبادرة بعد فشل المبادرات السياسية السابقة، انخرطت فيها أحزاب ومنظمات وجمعيات لكنها انتهت بالفشل لأسباب، أهمها أن السلطة لم تكن طرفا في هذا المبادرة ثم ان أصحاب المبادرة لا يملكون وسائل وأدوات التغيير الإجتماعي وغيرها من الأسباب خاصة مسألة القيادة والتأطير، كذلك الاجتهاد في صياغة الحلول الملائمة لمشاكل العصر، وإن كانت تصلح لزمن سابق فهي ( أي المشكلات) قد لا تكون صالحة في زمننا هذا وفي زمن لاحق في مواجهة متغيرات قد لا يكون البعض قد تصور إمكانية حدوثها، ولذا جاءت مبادرة الدكتور قادة جليد، التي تأسست على نظرة استشرافية للمستقبل القريب والبعيد.

ميثاق وطني وكتلة تاريخية جزائرية من أجل النهضة

أراد صاحب المبادرة أن يرفع ثقافة اليأس في الجماهير وبخاصة الشباب والتيئيس التي أضحت أكثر الثقافات رواجا في الوطن والسلبيات الأخرى كظواهر التبعية وقصور الأنظمة التربوية وحتى الثقافية ومحدودية الفكر، وأن يدخل المواطن في دائرة النقاش، بعد أن سعت أطراف إلى إجهاض أيّ مشروعٍ فكريٍّ من شأنه أن يغير الواقع المرير نحو الأفضل ووضع حدٍّ لكلِّ ما يكرس الترف الفكري والثقافة الاستهلاكية، فمن خلال قراءتنا لهذه المبادرة يلاحظ أن الدكتور قادة جليد، أراد أن يرسم الأبعاد الاستراتيجية لمشروعه الإصلاحي والحضاري المرتبط بقضايا النهضة والتقدم، يقول الدكتور قادة جليد: " إن هذه النهضة ترتكز على مفهومين أساسيين هما: الميثاق الوطني والكتلة التاريخية الجديدة، وكلا المفهومين لهما مرجعية فكرية وسياسية في تاريخ الجزائر الحديث، فالميثاق الوطني هو بمثابة عقد اجتماعي، يشمل السلطة والمجتمع بكل مكوناتها وطاقاته، فهو يؤسس لمرحلة تاريخية جديدة، أي أنه قابل للتجديد وإدخال عليه أهدافا أخرى تتلاءم مع المرحلة والظروف.

 وقدم الدكتور قادة جليد عيّنة من الأهداف والمبادئ التي يرتكز عليها الميثاق الوطني من أجل النهضة خاصة في الجانب الإقتصادي، من أجل خلق اقتصاد إنتاجي خارج المحروقات وتبوأ الجزائر مكانة معتبرة في الاقتصاد العالمي، على أن تكون ضمن العشر دول على مستوى العالم في مجال الاقتصاد، ويذكر صاحب المبادرة أن الأهداف والمبادئ التي يكون حولها إجماع (ميثاق وطني) هي ذات طابع نهضوي من حق الجميع الانخراط فيها لتحقيقها وتقييمها من خلال كتلة تاريخية جديدة، تضم كل فعاليات المجتمع، تتحول فيها المعضلة إلى وسيلة وحافز، كما أن المتأمل في هذين المفهومين قد يتراءى له أن تحقيقهما يعتمد على الذكاء السياسي خاصة في إطار العولمة، فمن الصعب تحديد الذكاء السياسي مثلا ونحن نعيش ثقافة اللاثقافة، وبالتالي يصعب الوصول بها إلى العالمية، والثقافة السياسية لا تستند إلى العلم، بل يمارس هذا الأخير عن طريق السياسة لبلوغ "الرشد السياسي" وتحقيق الحكم الراشد في إطاره النهضوي الحداثي، لاسيما والجزائر تتوفر على خزّان لا ينفذ من التراث الحضاري والثقافي الذي ساهمت فيه كل جهات الوطن وحان الوقت لإحيائه وإثرائه، كونه تراث يزيده التنوع، ثم أن هناك في كثير من المواقع نخبٌ على درجة عالية من الكفاءة والوفاء للثورة ومكاسب النصر الذي حققه جيل نوفمبر وفي مقدمتها الاعتزاز بالمرجعية الوطنية وأبعادها الحضارية.

 وقد شرح الدكتور قادة جليد في مبادرته وجهة نظره، بحكم أنه أستاذ الفلسفة بجامعة وهران وله رؤية استشرافية للمستقبل، فهو يعتقد أن ذلك يعتمد على الإيمان أكثر، أي إيمان الفرد بمن يحيط به سواء داخل الأسرة أو خارجها (المجتمع والمؤسسة)، والإيمان أيضا بقيمة الأهداف التي يسعى الإنسان الى تحقيقها مع الوعي المشترك والجماعي بوحدة المصير، مضيفا أن هذه القوة الداخلية هي التي تعطينا القدرة والذكاء اللازم لمواجهة تحديات العولمة في تجلياتها المختلفة، الإقتصادية والسياسية والثقافية والإجتماعية...الخ، أمّا عن الكتلة التاريخية وإن كانت مفهوما شائعا في الأدبيات السياسية الحديثة والمعاصرة، فهي في المخيال الجليدي (نسبة إلى قادة جليد) هي ائتلاف فكري وتوافق وطني وإجماع داخلي محكوم برؤية استراتيجية ووفق أهداف محددة، تتشكل من السلطة والمعارضة معًا، وهي كما يقول ليست بديلا عن الأحزاب السياسية أو المنظمات الأخرى ولا يعني أن تتخلى الأحزاب عن برنامجها وتجمد نشاطها، وبالتالي يمكن تشكيل هذه الكتلة من جديد خاصة إذا كان الأمر يتعلق بقضايا النهضة والتقدم، بعيدا عن الأدلجة، إنها دعوة للدفاع عن مقومات الشخصية الوطنية وتثمين الموارد البشرية باعتبارها الثروة الوحيدة المتجددة، كل ذلك لا يتوقف على جيل ولا ينتهي بجيل.

***

قراءة علجية عيش بتصرف

لعلَّ كثرة المقالات، التي تجاوزت 200 مقالة حتى اليوم، ودار كتّابها ولهى حول كتاب: «الدين والظمأ الأنطولوجي»، بوصفه من الكتب التي أمتعتْ وأفادت قارئيها، في قراءة المسألة الدينية قراءة معاصرة، لم تدع المزيد من القول لمن يريد الكتابة عن هذا الكتاب، فما يُراد أن يُقال، قد قيل فيها، ولعلَّ هذا التصوُّر صحيح، في ما لو تمّت مراجعتها بدقّة، ففيها الكثير من التوصّلات التي اتّفق أصحابها عليها بشأن هذا الكتاب ومؤلفه عبد الجبار الرفاعي. وقد لا أجد ثمّة موجبا لي يسوِّغ الكتابةَ عن هذا الكتاب، إلا إذا أردتُ الانطلاق من مُمهِّدات تُتيح لي مخرجا من هذا المأزق، من حيث التلقّي، بوصفهِ يتغايرُ من شخصٍ لآخر، حسب المرجعيات المعرفية التي تُحدِّد جنس النص المقروء، وترسيم حدوده الأجناسية بما يُميِّزُه عن سواه.3476 الدين والظمأ الأتطلوجي

ومن هنا أجد في هذا الكتاب، منطلقات تسمح لي أنْ أصِف متنَ هذا الكتاب، بأنه يمثِّل نصّا في الرحلة، بمعنى أنَّه يدخل ضمن «أدب الرحلة»، ذلك الأدب الذي يدور حول مشاهداتٍ ينقلها لنا الرحّالة عبر مدوّناتهم، والرفاعي في كتابه «الدين والظمأ الأنطولوجي» كان رحّالة لا على النحو المعتاد عند الرحّالة، إذ يدوّنون لنا مشاهداتهم في الأماكن التي حلّوا فيها، أو التي ارتحلوا إليها، ينقلون لنا عادات وتقاليد وقيم الجماعات التي اختلطوا بها، بل كان رحّالة يجوب في فضاء الذات، وأقاليم المعرفة التي حطَّ فيها ركابه، مستخلصا لقارئه في كلِّ تلك الرحلات الذاتية والمعرفية، دروسا يضعها بين يدي قارئه، عسى أنْ يستفيد منها، ولا يعيد الكرّة التي هدرت من عمر المؤلِّف الرفاعي الكثير، فكان له أنْ يجوب في طيات الذاكرة، في مواقف كانت له في مراحل مختلفة من حياته، منذ نعومة أظفاره، وصولا إلى ما انتهى إليه، وقد لا يُخفي ضيق ذرعه مما كان عليه في السابق من تجارب ومواقف لمن مرّ بهم من أشخاص أو مؤسسات، كان لها الأثر في تحجيم الذات وتقييد إرادتها، ما جعله يُمهِّد لهذا الموقف النقدي من تلكم التجارب في حديثه في بداية كتابه عن (نسيان الذات) محترزا ومتحرِّزا في بداية هذا الفصل من سوء الفهم الذي يطال تحديد دلالة الذات، بما يريد الحديث عنه، وهي الذات الفردية «التي هي قوام الحياة الباطنية للكائن البشري، فمن دونها يفتقد كل إنسان ذاته، ويصير نسخة مكرَّرة متطابقة مع نموذجٍ مُحدَّدٍ مُصاغٍ سلفا، وتجري (نمذجة) الكل في سياق صفات ذلك النموذج وسماته وخصائصه، وكأنَّ الجميع يُسكَبون في قوالب مُتماثلة، تُلغى فيها اختلافاتهم وتمايزاتهم، وتُمحى البصمةُ الشخصية لكلٍّ منهم. هنا يتنازل الفرد عن ذاته، ولا يكون سوى بوقٍ يتردَّدُ فيه صدى أصواتِ الآخرين، فيما يختفي صوتُهُ الخاص». في هذا التوضيح أراد الرفاعي من ورائه إيصال رسالةٍ معرفيةٍ توجز كل ما قطعه من أسفار معرفية خاضها في حياته، وهي الحرّية التي ينبغي لها أنْ تتحقّقَ فيها الذات، الذات لا يرى لها وجودا ولا صيرورة إلا عبر ما تُحقِّقهُ من حرِّيةٍ وتتحقّقَ فيه، وهي في منظوره ليست أمرا ناجزا يمكن أنْ يأخذ أثره بمجرّد التعرّف عليه نظريّا؛ لأنَّ «وجود الحرية يعني ممارستها. الحرية لا تتحقّق بعيدا عن مسؤولية الفرد تجاه ذاته. لحظة تنتفي الحرية تنتفي الذات، إذ لا تغتني الذات وتتّسع وتتكامل إلا بالحرّية». وهو إذ يؤكِّد ما للحرية من أثرٍ في تحقيق الذات، فإنه يُدرك في الوقت نفسه ما للعبوديةِ من هيمنةٍ على مسيرة الإنسان بصورةٍ عامة، في جعله مُكبّلا في مواقفه وآرائه لآخرين، معبّرا عن تلك العلاقة الضِدِّية بالجدل الذي لا ينتهي بين المقولتين، إلا أنَ الطريف في نظرته لتلك الجدلية العقيمة، أنّه ذهب إلى ما ورائها، باستنتاجه «أنَّ هذا الجدل هو مصدر الحركة، ومولِّد الطاقة لاستمرار الحياة. وكأنَّ هذا الكائن مجبورٌ في حرّيته، بقدر ما هو مجبورٌ في عبوديّته، ذلك أنَّ الكائن البشري في توقٍ أبديٍّ للحرية، فهو لا يكون إلا بالحرية. لو لم تطارده عبوديته على الدوام فلن يتطلع للحرية، الحريةُ بطبيعتها في صراعٍ أبديٍّ مع العبوديّة»، هذه النظرةُ الإيجابية للعبودية بوصفها واقعا تاريخيّا مر على البشرية وما زال، لا يعني الارتهان إليه، بمقدار الانطلاق منه إلى ما يُحقِّق للذات وجودا وهويّة، وأعني به الحرّية. وهي تُذكِّرنا بالنظرة الإنسانية التي أشار لها الكثير من المدوّنات في الأديان السماوية أو الوضعية، ولعل واحدة من مقولات شمس الدين التبريزي وهي: (لولا المرض ما عرفنا الصحة، ولولا الظلام ما عرفنا النور، ولولا المعاناة ما عرفنا السعادة، ولولا الفراق ما عرفنا الحب)، تُذكِّرنا بفحوى ما أشار إليه الرفاعي في نظرته الإيجابية لتلك العلاقة الجدلية بين مقولتي الحرية والعبودية، إلا أنه لا يكتفي في بيان هذه النظرة الإيجابية، فيضع لنا اشتراطات الحرّية وما ينبغي تمهيده لتحقيقها، وما تؤدِّي إليه من مآلات، وكأنه ينفي مسبقا سوء الفهم لمن يتصوَّر عبر هذه الجدلّية أنَّ كلا المقولتين متوازنتان قوّة وتمثّلا وتأثيرا، وذلك في قوله: «الحريةُ أشَقُّ من العبوديّة؛ ذلك أنّها: إرادةٌ، وحضورٌ، واستقلالٌ، وشجاعةٌ، ومسؤوليةٌ، وخيارٌ إيمانيٌّ، وموقفٌ حيال الوجود. أنْ تكون حُرّا فهو يعني أنَّكَ تُواجهُ العالمَ كلَّهُ، وتتحمَّلُ كلَّ شيءٍ وحدَكَ، العبوديّةُ: هشاشةٌ، وغيابٌ، واستقالةٌ، وخضوعٌ، وانقيادٌ، وتفرُّجٌ، وتبعيَّةٌ، ولا موقف، ولا أباليّةٌ، ولا مسؤوليةٌ. أنْ تكونَ عبدا يعني أنَّكَ لستَ مسؤولا عن أيِّ شيءٍ، حتّى عن نفسِكَ». هذه اللغة البيانية الشفيفة التي تذكِّرنا بخطاب الفرنسي إيتيان دو لابوسي في كتابه الشهير: «مقالة العبودية الطوعية» وهو يفرِّق بين الحرِّية والعبودية، من حيث أثر كلِّ واحدٍ منهما على من يتمثّلهما سلوكا وموقفا في حياته، بقوله: «إنَّ الشجعان لا يهابون الخطر أبدا في سبيل نيل الخير الذي يبتغون، ولا يرفض ذوو الفطنة مكابدة المشقَّة مطلقا، أما الجُبناء والخاملون، فلا يعرفون مكابدة الألم ولا السعي إلى الخير، فيقفون من المكارم عند التمنِّي، أما فضيلة الإرادة فمنتَزَعةٌ منهم بسبب تخاذلهم. وأَمَّا الرغبةُ في الخيرِ فتظلُّ لديهم بفعل الطبيعة، تلك الرغبة، بل تلك الإرادة المشتركةٌ بين الحكماء والأغبياء، وبين الشجعان والجبناء، للتوق إلى كلِّ الأشياء التي تجعلهم، باكتسابها، سعداء ومغتبطين: يبقى شيءٌ واحدٌ لا يقوى الناس على تمنِّيه، ولا أدري لماذا؟ إنه الحرِّية، وهي نعمةٌ كبيرةٌ ومُمتِعةٌ جدّا، فإذا فُقِدَت تتوالى الويلات، وتفقد النِعَمُ بعدها كلَّ طعمها ومذاقها، لأنَّ العبوديّةَ أفسَدَتها».

  وعودة إلى ما انتهى إليه الرفاعي أعلاه، نجده يُلخِّص بإيجاز، سبب اختيار العبودية، على ما فيها من مآلات وخيمة على الذات، تعصف بوجودها الواعي المُدرَك، بأنَّ «الناس بطبيعتهم ينفرون من التفكير، ومن كلِّ ما يُوقظ العقلَ من سُباته، لذلك يُفتِّشونَ على الدوام عمَّن يُفكِّرُ عنهم بالنيابة، فيعودونَ في كلِّ شيءٍ يسيرٍ أو خطيرٍ في حياتهم إلى منْ ينوبُ عن عقلهم. من لا يُدرِّبُ عقلَهُ على التفكير لن يتعلَّمَ الاستقلالَ في التفكير. لا نتعلمُ التفكيرَ إلا بالإدمانِ على التفكير»، وهي الحقيقة التي أراد الرفاعي استظهارها في كلِّ ما خاضَ فيه من مواقف وتجاربَ عبر محطّات حياته التي يعرفُها من خبرَ سيرته عن قرب، ما جعله وفقا لتلك النتيجة أنْ يخرجَ من طوق الجماعات التي آمنَ بطروحاتها في المرحلة العمرية المبكرة من حياته، محافظا على ما تبقّى من ذاته، بل مُعيدا صياغتها وفقا لتراكمٍ من التجارب الثريّة بالدروس، مرتحلا إلى خطابٍ إنسانيٍّ داخل المنظومة القيمية الإسلامية، أرحبَ من خطاب تلكم الجماعات، وهو خطابٌ يرحِّلُ فكرة الجماعة/ المذهب/ الفرقة الناجية، إلى غير رجعة من منطلقات أفكاره التي يسعى لترويجها الآن، في ما صدر عنه من مؤلفات، لأنَّه لا يرى في أدبيات الجماعات والأحزاب مهما اختلفت توجّهاتها سوى نسخةٍ واحدةٍ تتكرّر من حيث المضمون الذي يُكرِّس ذوبان الذات في الجماعة: «أما قيمة الفرد، ومكانتُهُ، وحاجاتُه الذاتية، الروحيّة، والعاطفية، والوجدانيّة، والعقليّةُ، فلا أهميّةَ لها، إلا في سياق تموضعها في إطار هذا المركَّب، الذي هو الجماعة ومتطلّباتُها»، وهذا ما يسعى الرفاعيِّ إلى مناهضته بكلِّ ما أوتِيَ من ثراءٍ معرفيٍّ أتاح له الخوضُ بعُمقٍ ودراية في مثابات متنوِّعة في مجالاتها المعرفية لكشفِ الباطن النفسي، والتمظهر الاجتماعي عند ممثِّلي تلك الجماعات في القديم والحديث، فضلا عن استعراض مواقف من سيرته تكشف لنا ما كان لتلك السيرة من أثرٍ عميق في تشكيل الذات وصياغتها، بما جعل كتابه رحلة تجمع بين المعرفيِّ والجغرافي منها، ويُقدِّمُ لنا من خلالها ضروبا من الخلاصات الضرورية لقراءة الدين ونصوصه في سياق يحفظ كرامة الإنسان وحريته، ولا يسحق الذات في التخندق الهويّاتي بعيدا عن روح الدين. لعل هذه الفكرةَ هي الأساس في هذا الكتاب.

***

د. وسام حسين العبيدي

أكاديمي عراقي، أستاذ اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة بابل في العراق.

تربطني بالدكتور محمد جواد فراس علاقة وطيدة منذ العام 1975 وقت دراستنا في الاتحاد السوفيتي (كان يدرس الطب في معهد كوبان الطبي المسمى بالجيش الأحمر في مدينة  كراسنودار بروسيا الاتحادية) وحينما زار مدينة أوديسا في جنوب أوكرانيا كنت وقتذاك أدرس في معهد الاقتصاد الوطني للدراسات العليا.  تعرفت عليه اثناء زيارته للمرحوم طلال الصفار والذي كان يدرس معي في نفس المعهد. ألتقينا بعد ذلك في المؤتمرات الطلابية التي كانت تعقد في مدينة موسكو.  ومن باب الصدف الجميلة أن ألتقي بمحمد في شهر تموز العام 1979 في مصح ليفاديا الشهير في شبه جزيرة القرم في مدينة يالطا وهو المكان الذي انعقد فيه مؤتمر يالطا 4-11 شباط 1945 القرم بين ستالين وتشرشل وروزفلت.

في أحد أيام شهر تموز 1979 عرفنا من مسؤولة القسم الثقافي في منتجع ليفاديا بأن سواح عراقيين سوف يزورون المنتجع. كان الوضع السياسي في العراق متوترا وخصوصا بعد استلام صدام حسين رئاسة جمهورية العراق بعد تنحية أحمد حسن البكر عن سدة الحكم ومرور أكثر من سنة على اعدام 30 رفيقا من الحزب الشيوعي العراقي بسبب إقامة تنظيم للحزب الشيوعي العراقي داخل القوات المسلحة، قررنا كتابة شعارات على جدار سياج الطريق المؤدي الى المنتجع باللغة العربية  حتى نجلب انتباههم تندد بما يجري في العراق من اعدامات واعتقالات وخنق الحريات في ظل نظام قمعي ديكتاتوري.  تمكننا بعد ذلك من التعرف على أحد السواح العراقيين حتى نعرف رد فعل الشعارات التي كتبناها على المجموعة السياحية. اتضح أن هذا الشخص هو أستاذ في جامعة بغداد في قسم الاجتماع بكلية الآداب وهو أخ زميلنا ورفيقنا نصري فارس الهيتي الذي كان يدرس في جامعة كييف في قسم العلاقات الدولية (دراسات عليا). لم يتمكن السواح العراقيون من ابداء وجهات نظرهم بالشعارات بسبب خوفهم من وجود رجل أمن مع المجموعة السياحية يرافقهم من العراق.3450 محمد جواد فارس

كان زميلنا محمد جواد فارس بالإضافة الى دراسته للطب في معهد كوبان الطبي في مدينة كرسنودار، يدرس في معهد الماركسية-اللينينية فرع مدينة كراسنودار التابع الى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي في الفترة الزمنية 1977-1978 لإعداد الكوادر الحزبية وحصل على دبلوم اختصاص بالشيوعية العلمية في نهاية الدراسة وتقديم الامتحانات اللازمة.

يتمتع الدكتور محمد جواد فارس بسمات الطبيب الذي يطبق بحق قسم ابقراط الطبي. هناك مقولة روسية عن وجه الطبيب الذي يمارس مهنة الطب بكل اخلاص وتفان من حيث صفاء الوجه والقلب ومساعدة الناس وخصوصا المرضى منهم والذين يحتاجون اليها حيث تنعكس على تصرفاته وتفانيه في خدمتهم وتقديم المشورة الطبية (الطبيب لا يزعل من مرضاه - مثل روسي)

عمل دكتور محمد في أنغولا (1981-1982) ضمن الفريق الاممي لمساعدة الشعب الأنغولي في بناء دولته التي تحتاج العون من الأحزاب اليسارية والتقدمية العربية والأجنبية. وبعد انتهاء مدة عمله هناك توجه الى سوريا ومن سوريا الى لبنان حيث عمل في مشفى ميداني في منطقة المصيطبة وسط العاصمة بيروت. عمل الطبيب محمد جواد في أكثر مناطق لبنان الساخنة والخطرة وقدم خدماته الطبية لمختلف الناس بغض النظر عن انتمائهم السياسي والفكري والعرقي والمذهبي والطائفي ...الخ وهذه هي خصلة إنسانية من المفروض أن يتمتع بها كل طبيب أدى القسم الطبي يوم تخرجه من كلية الطب في جميع أنحاء العالم.  

أما في دمشق فكان يفحص المرضى ويقدم لهم العلاج اللازم ويزورهم في بيوتهم ليطمئن عليهم ويتابع التزامهم بالنصائح الطبية التي يقدمها لهم.

لا أريد في هذه المقالة سرد ما جاء في الكتاب بتفصيل واسهاب وإنما توضيح النقاط المهمة فيه. أما مواقف الكاتب السياسية انطلاقا من الظروف التي مر بها العراق فهذه وجهة نظره الخاصة به ومدى فهمه وادراكه للظروف السياسية التي مر ولا زال يمر بها العراق بالدرجة الأولى. كلنا نحب العراق وكل فرد منا ينظر الى حل مشاكله السياسية والاقتصادية والاجتماعية انطلاقا من خبرته السياسية والاقتصادية والفكر الذي يستند عليه وهو حر في رأيه وتصرفاته. لقد بلغنا من العمر عتيا وها نحن نتجاوز السبعين وكل منا مر بتجارب غنية وعمل في أكثر المناطق سخونة وخطورة وكل منا يحمل تصورا خاصا لما يجري حوله.

ولهذا فأنا أحترم وجهات نظر الدكتور محمد جواد فارس فيما يتعلق بمواقفه اتجاه العراق ومستقبله. يمتلك الدكتور محمد علاقات واسعة وكبيرة مع الكثير من القيادات السياسية في الدول العربية والأجنبية: سوريا ولبنان وفلسطين والعراق وليبيا واليمن وليبيا والجزائر والسودان وأنغولا...الخ ولهذا فهو يتمتع برأي يختلف عن بقية الناس والقادة السياسيين ويتمكن من طرح وجهات نظره بكل عقلانية وفصاحة وتروي.

أن كتابه الموسوم: نصف قرن في رحاب الحركة الشيوعية يستحق القراءة والتقدير العالي وجدير بالاهتمام وسوف يشغل مكانة مهمة في المكتبة العربية.

المؤلف: د. محمد جواد فارس

عدد الصفحات: 186 صفحة

الناشر: دارالرافدين، بغداد. العراق. الطبعة الأولى . حزيران/ يونيو، 2023  

الرقم الدولي: ISBN : 978-9922-691-25-1

***

أ‌. د. سناء عبد القادر مصطفى

النرويج، أواسط شهر شباط العام 2024.

تفتنني دائما الكتب التي تؤلّف عن القراءة أو عن الكتابة وكأني في بحث دائم عن تفسير هذا الشغف اللامتناهي الذي يصيبنا نحن الكائنات الورقة لأكتشف أسراره، فكنت أجد متعة لا توصف مصحوبة بفوائد كثيرة حين أطالع ثلاثية ألبرتو منغويل «تاريخ القراءة» و«المكتبة في الليل» و«يوميات القراءة» أو أقرأ كتاب برنار بيفو «مهنة القراءة» لذلك سارعت إلى اقتناء كتاب «مسرات القراءة ومخاض الكتابة .. فصل من سيرة كاتب» للدكتور عبد الجبار الرفاعي والصادر قبل أشهر عن منشورات تكوين ودار الرافدين. ولم أكن قرأت للرفاعي سوى مقالات متفرقة كانت تصادفني أو مقالا مطولا عن زيارته لقونية مدينة جلال الدين الرومي حمل عنوان «في حضرة مولانا: سياحة في عالم المعنى».

أما كتابه هذا فهو سياحة فكرية يستحسنها كل مدمن لرائحة الورق من أمثالي، والتي لخصها منغويل مرة قائلا: «عندما قرأت في أحد الأيام أنّ سرفانتس كان يطالع – من فرط حبّه للقراءة- حتى قصاصات الورق المرمية على قارعة الطريق، أحسست بشعور جميل لأنني كنتُ أعرف ماذا يعني هذا».

يقع الكتاب في مئة وثمانين صفحة موزعة على مقدمة وثلاثة وعشرين فصلا، منها سبعة فصول عن القراءة، والبقية عن الكتابة. وقد تداخلت الأفكار بينهما أحيانا لارتباطهما العضوي. وإن كان المؤلف يرى القراءة ممتعة أكثر من الكتابة، لذلك وصفها في عنوانه ب«المسرات» المتعددة المختلفة، في حين أن الكتابة أشبه بالولادة، فهي مخاض عسير موجع، وبخاصة لمن يعتبر الكلمة مسؤولية.2004 مسرات القراءة

وأول جمل الكتاب تعطينا مفتاح شخصية المؤلف وتلخص لنا فحوى كتابته حين يقول «أنا قارئ قبل كل شيء وبعد كل شيء، لم تمنحني القراءة إجازة ليوم واحد في حياتي. لم أجد نفسي خارج أسر القراءة، وأظن أني لن أتوقف ما دمتُ حيًا». فهذا القارئ المدمن المزمن الذي بدأت علاقته بالكتاب متأخرة نسبيا ما عدا الكتاب المدرسي لأنه ولد في بيئة فقيرة في الأهوار جنوبي العراق تعيش الكفاف في عائلة فلاحين، و«الفلاحون في ذلك الوقت لا يقرأون ولا يكتبون». حينما التقى وهو طالب في الثانوية بالجزء الأول من كتاب «لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث» للدكتور علي الوردي وبهرته لغة الكتاب الواضحة المباشرة والجرأة والشجاعة العقلية لمؤلفه بدأ رحلة مع القراءة لا تنتهي. واللافت للنظر أن ثاني كتاب فرض حضوره عليه كان «معالم في الطريق» لسيد قطب. وحين تخلص من فتنته أفرد فصلا كاملا لنقده بعنوان «الكتابة الإيديولوجية» إذ رآه نفقا مظلما ومتاهة خطيرة أضاعت أجيالا، وبعضهم لم يستطع الخروج منها طيلة حياته. أما ثالث ما جرّه إلى جنة القراءة فكانت مجلة العربي، التي لا ينكر فضلها عليه وعلى جيله، لكنه يأخذ عليها فيما بعد ثبات أبوابها واحتكار الكتابة فيها من قبل أقلام مكرسة لا تتبدل.

يعتبر الدكتور الرفاعي إدمانه للقراءة وقوعا في أسر الكتب، كما سمى احد فصوله. ويحلو لي أن أسميه التورط العاطفي مع الكتاب، فهو أشبه بعلاقة حب فيها شوق وعذاب.. ألا يصلح هذا الوصف لحبيب أو حبيبة إذا حذفنا لفظة كتاب.. «وجود الكتاب يشعرني بالأمن النفسي ويؤنسني حين أشعر بوحشة الوجود» بل فيه ما في الحب من وجع وأذى يعطي الرفاعي مثلا على ذلك بقوله «ما يخدعني من العناوين يؤذيني». هي عملية أنسنة الكتب، وصحبة فعلية مع كاتبيها بحضورهم الجسدي عبر الورق وحضورهم المعنوي بأفكارهم، فهم «كأنهم يتحدّثون إليه ويتحدث إليهم يضحكون فيضحك معهم، ويبكون فيبكي، يتألمون فيتألم يكتئبون فيكتئب».

ومن أحب شيئا استكثر من حضوره، لذلك أولع الدكتور عبد الجبار الرفاعي بتأسيس المكتبات أينما كان. لكن مصير مكتباته كان عاثرا، فالأولى التي كوّنها في النجف صودرت ونهبت، والثانية التي جمّع كتبها في الكويت كان نصيبها الحرق، بعد أن خشي مالك البيت من أن تؤدي إلى هلاكه، أما الثالثة فبيعت. ويصف حاله بعد البيع بهذه الجمل الموجعة «اكتأبتِ العائلة واكتأبت أنا، وكأنّ قدرنا الأبدي رثاء مكتباتنا.. عندما يتكرر فقدان المكتبة يغرق الإنسان بكابوس خسرانه كنوزه النادرة». ومآل مكتبات الأدباء والعلماء موضوع جدير بالتأمل بقدر ما فيه من الألم. فكم من مكتبة فيها نوادر صرف صاحبها في جمعها الوقت والمال رماها الورثة في المزبلة لأنها تشغل حيّزا من البيت هم بحاجته.

ورغم أن الرفاعي يرى أن «لا شيء أقسى مرارة على القارئ من ضياع كتب عاش معها وعاشت معه، وأنفق وقته في دراستها ومطالعتها» إلا أنه يلتمس العذر للورثة أو للأبناء. فعالمهم غير عالم آبائهم، وهم يقرؤون إلكترونيا ويفتقرون لحنين الآباء للورق. وهذا يستطرد بنا إلى فكرة أن الدكتور عبد الجبار الرفاعي الذي نشأ في بيئة تقليدية محافظة، وقضى سنوات طويلة من عمره دارسا ومدرسا للعلوم الدينية، وهو حاصل على ماجستير في علم الكلام ودكتوراه في الفلسفة الإسلامية، يملك مرونة فكرية متسامحة مع الجيل الجديد وآليات اكتسابه للمعرفة، فهو لا يرى الكتابَ الورقي الوسيلة الوحيدة للحصول على المعرفة، بل يرى أن الجيل الحالي قارئ من خلال التطبيقات على هاتفه الذكي ف«مفهوم القراءة يواكب تلك التطبيقات ويتكيف وفقا لها». ويدخل ضمن فعل القراءة مشاهدة الصور وسماع التسجيلات الصوتية ومتابعة الفيديو . وكلما اتسع مجال القراءة اتسعت بموازاته الكتابة بأنماطها وأوعيتها المتجددة.

يحفل كتاب «مسرات القراءة ومخاض الكتابة» بالكثير من التأملات حول فعل القراءة وأفكار الكاتب فهو ضد القراءة العشوائية، إذ ليس المهم كمية ما يقرأ الإنسان بل نوعيته، ويرى هذه القراءة غير الممنهجة تبذيرا للعمر بقراءة كتابات تفقر العقل كما عنون أحد فصوله ف«ما يفقر العقل ويشيع الجهل من الكتب أكثر بكثير مما يوقظ العقل ويبعث الوعي». وهو يرى أن كثيرا من الكتب الدينية تدخل ضمن الصّنف الأول لأنّ مؤلفيها بدعوى التعلّم الديني يرون أنهم يمتلكون الحق المقدس في التحدث بكثير من الثقة عن كل شيء يعرفونه ولا يعرفونه، ويكلفون طلابهم الفقراء لينتجوا لهم كتبا كثيرة «من ركام كلماتهم». ويضع ضمن تلك الكتب التي تفقر العقل وتشيع الجهل ما يندرج تحت مسميات «التنمية البشرية» و«تطوير الذات» و«علم الطاقة النفسية» بل يراها، حتى وإن كانت الأكثر مبيعا وانتشارا، مبنية على أوهام وأساطير وشعارات غير علمية تتلاعب بمشاعر الناس، ويعتبر كاتبيها منتحلي صفة فهم يمارسون الطب النفسي دون أن يتعلموه.

في القسم الأكبر من الكتاب فصول متعددة عن الكتابة فيقول عن نفسه بأنه يتهيب الكتابة كثيرا بل يخاف منها واللغة ترهقه فيها أكثر من الفكرة، كما أنه لا يمتلك طقوسا خاصة به للكتابة فلا قواعد ملزمة ولا عادات مستحكمة ولا أوقات صارمة دقيقة، بل طقسه الوحيد هو المراجعة المستمرة لما يكتب، فحتى عندما ينتهي من الكتاب ويصدر مطبوعا يبدي ويعيد فيه ليصبح كما وصفه «تتحول الطبعة إلى مسودة لطبعة لاحقة». ولأنه لم يتدرب على يدي أحد في تعلم الكتابة ولا يتقن تدريب أحد، فهو لا يؤمن أن يتدرب شخص ليصبح كاتبا حيث كتب «لا أعرف كاتبا عظيما ولد في مدارس تدريب ورش الكتابة» وإن كنت لا أتوافق معه تماما في هذه الفكرة فالكتابة صنعة، للموهبة دور فيها لكنْ للتعلم والتدريب والمران المتواصل دور آخر أكيد.

أسلوب الدكتور الرفاعي واضح مباشر مركّز فالكتابة عنده فن الحذف والاختزال وكثير من جمله تصلح للاقتباس مصبوبة في قالب حكمي مثل قوله: «الذكاء الفائق يمحو البراءة» و«رب قارئ ليس له من قراءته إلا النصب والتعب» و«عندما يُكتب الجرح يُشفى الإنسان» و «كلما احترقت مكتبة انطفأ شيء من نور العالم ». وفي الكتاب أيضا فصول عن الترجمة والكتابة والإيديولوجيا والكتابة في عصر الأنترنت والكتابة والقارئ ف«مسرات القراءة ومخاض الكتاب» يفتح آفاقا للتفكير أكثر مما يعطي إجابات يقينية، كُتبت فصوله بقلم قارئ كتب لخص حياته في هذه الكلمات «لو فرضت علي الأقدار أن أختار العيش مع الكتب أو البشر لاخترت العيش مع الكتب».

***

د. بروين حبيب

شاعرة وإعلامية من البحرين

....................

* بالتزامن مع صحيفة القدس العربية لهذا اليوم

 

في  بغداد او القاهرة ما أن ادخل جناح العربي للنشر والتوزيع في معرض الكتاب حتى اجد نفسي وسط غابة ملونة من العناوين المثيرة والمتميزة، عندها يبدأ الصديق العزيز محمد بدران يشير بمحبة الى للكتب التي صدرت مؤخرا ا. هذه رواية مترجمة عن الرومانية وهذا كتاب عن تاريخ الغطرسة، وتلك مذكرات سجينة سياسية، وكاتب صربي يروي حكايته مع حي الزمالك في القاهرة، وكتاب عن تاريخ الخبز، وهذه رواية عن جامع الكتب، وفي زاوية كتاب جديد عن ماركيز .. عناوين لعشرات الروايات والكتب المترجمة من معظم اللغات، وانا القي نظرة على هذه الغابة العجيبة من الكتب وقع بصري على كتاب بعنوان " اسطورة إيلينا فيراتي "، تصفحت الكتاب فوجدت الصديق سيد محمود قد كتب مقدمة قصيرة عن الكتاب الذي تحاول فيه مؤلفته " آنا ماريا جواداجني " تتبع لغز الكاتبة الايطالية  الشهيرة " إيلينا فيراتي " صاحبة رباعية نابولي " صديقتي المذهلة .. حكاية الاسم الجديد ..الهاربون والباقون ..حكاية الطفلة الضائعة " ترجمها الى العربية معاوية عبد المجيد .. في كتاب " اسطورة إيلينا فيرانتي  الذي ترجمته ندى سعيد تروي لنا الكاتبة والصحفية آنا ماريا رحلتها الى نابولي لملاحقة ابطال رباعية نابولي، ومثل بطلتلا الرواية " لينو " و" ليلا " تعود الكانبة الى الحي الذي جرت فيه احداث الرباعية لتحاول الاجابة على سؤال: ما وراء "إيلينا فيرانتي" التي اختارت أن تبقى في الظل وتقدم نفسها إلى العالم من خلال أعمالها واسم غير حقيقي؟! وقد  استطاعت ان تبيع من رواياتها ملايين النسخ وتتترجم الى اكثر من 40 لغة .

من يقرأ روايات إيلينا فيرانتي المولودة في نابولي عام 1943، يدرك كيف استعارة هذه الروائية  اللغز  حياة الآخرين والتظاهر بانها لم تكتبها فـ:" الكتب، بمجرد كتابتها، لا تحتاج إلى مؤلفيها"، هكذا تكتب في ردها على أسئلة القراء المتلهفين لمعرفة من هي هذه السيدة التي شغلت الايطاليين منذ ربع قرن .

قبل ان تجرب كتابة الرواية، كانت تملأ دفاترها المدرسية بيومياتها:" وانا فتاة صغيرة. كنت مراهقة خجولة.و كل ما كنت أجيد قوله هو كلمة نعم، ومعظم الأحيان كنت أبقى صامتة.اما في مذكراتي، فقد كان الامر مختلفا، كنت اترك لنفسي العنان وأسرد بالتفصيل ما يحدث لي يوميا، حتى الأشياء الخاصة جدا والغاية في السرية وكل ما كان يخطر ببالي من أفكار جريئة كنت ادونه على الورق" . ولانها خجولة كانت تخاف ان تقع هذه الاوراق في ايدي الاخرين:" كنت خائفة جدا مما كنت افعله: فقد كنت أخشى أن تكتشف تلك المذكرات وتقرأ " .

في العشرين من عمرها قررت التوقف عن كتابة المذكرات، وتحولت رغبة الكتابة عندها إلى: " كتابة قصة من بنات خيالي "، ورغم انها لم تجد الوقت الكافي للكتابة كل يوم، الا ان اصرارها على الكتابة جعلها تنهي اول رواياتها، تبدأ رحلة البحث عن ناشر، وستعثر عليه بعد اكثر من 25 عاما حيث قرر احد اصحاب دور النشر ان يجازف وينشر روائية لكاتبة مجهولة، رفضت ان تضع اسمها الحقيقي على غلاف الكتاب واختارت اسم " إيلينا فيرانتي " .

عام 1992 تصدر الرواية بعنوان " حبّ مزعج "، لم تكن تتوقع لها النجاح، فأصيبت بما يشبه الذعر عندما اخبرها الناشر ان الطبعة الاولى نفذت خلال اسبوع، كانت وهي تكتب الرواية تحاول ان تختفي وراء اسم مستعار، لان الاحداث التي ترويها يتعلق جانب منها بسيرتها الذاتية، وحكاية امها التي وجدت ميتة، وكان الشرط الثاني انها لن تعطي احاديث صحفية عن الرواية ولن تساهم بالترويج لها:" الكُتب لا تحتاج لاحاديث، انها بحاجة الى قراء فقط " ما أن ينتهي من كتابتها .

بعدها تتوقف عن الكتابة عشر سنوات، لتعود عام 2002 مع رواية "أيام الهجران" – ترجمها الى العربية الجزائري عمارة لخوص - وفيها يتداخل اليومي بالحدث العام الذي يجري في ايطاليا لترصد لنا فيراتي تقلبات النفس البشرية وامراضها الاجتماعية، ورغم نجاح الرواية الا ان الكاتبة ظلت متمسكة بان تختفي وراء اسم مجهول، فهي لاتزال خائفة:" من الخروج من قوقعتي "، وحين راسلها احد الصحفيين ليعرف سر الأختفاء وراء اسم مستعار، قالت له ألم تقرا ما كتبه يوما رولان بارت عن موت المؤلف، فالكتب ما ان تؤلف حتّى تكون في غير حاجة إلى مؤلّفيها.

في العام 2003 تصدر روايتها الثالثة " الابنة الغامضة " - صدرت بالعربية بترجمة شيرين حيدر – حيث يجد القارئ نفسه أمام استاذة جامعية في منتصف الأربعينيات من عمرها تلتقي بالصدفة بشابة وطفلتها. حيث يتحول هذا اللقاء كشف لعلاقات إنسانية متعددة أوّلها علاقة الأمومة التي تربط الصبية بطفلتها، والتي تربط السيدة الأربعينية بابنتيها. ونجد الروائية تناقش بجراة ما طرأ على المؤسسة العائلية من تغيرات، وجد النقاد في شخصية الاستاذة الجامعية ظلال من رواية غوستاف فلوبير الشهيرة " مدام بوفاري "، وحين يرسل لها احد الصحفيين عبر بريدها الالكتروني سؤال عن روايات فلوبير تجيب فيرانتي:" اكتشفت فلوبير عندما كنت صغيرة جداً في نابولي. فوقعت في حبه من اللحظة الاولى، وعندما قرات مدام بوفاري للمرة الاولى، قمت بسحب الرواية وشخصية إيما إلى العالم الذي اعيش فيه، ولكن قبل "مدام بوفاري" بفترة طويلة، كنت أحب (نساء صغيرات) التي ابدعت فيها الاميركية لويزا ماي ألكوت، هذه الرواية هي وراء حبي للكتابة."

العام 2011 يصبح حاسماً في حياة فيرانتي حيث تصدر روايتها " صديقتي المذهلة "، والتي ستصبح فيما بعد الجزء الاول من رباعية نابولي الشهيرة حيث باعت اكثر من عشرة ملايين نسخة – ترجمها الى العربية معاوية عبد المجيد - .كانت في البداية تريد ان تروي جانبا من حياة مدينتها نابولي من خلال تتبع حادثة اختفاء لينا او ليلا كما تسميها صديقتها المقربة إيلينا، ففي صباح احد ايام عام 2010 تتلقى إيلينا اتصالاً هاتفيا من ابن صديقتها ليلا يخبرها ان والدته البالغة من العمر 60 عاما اختفت منذ اسبوعين، ولا احد يعرف اين ذهبت، وتدرك إيلينا ان اختفاء صديقتها عمل لم يات من فراغ، وان هناك اسباب لايعرفها سوى ليلا المختفية . في تلك الليلة تبدأ إيلينا في وضع كل ما يمكن أن تتذكره حول ليلا على الورق، ابتداء من عام 1950 في نابولي عندما بدأت صداقتهما في اللحظة التي قررتا فيها صعود السلالم المؤدية الى شقة الدون آخيل . بعدها تكبر الرواية لنجد انفسنا في حي فقير من احياء مدينة نابولي نتتبع حكاية الطفلة العبقرية ليلا من خلال صديقتها إيلينا التي تنجح في ان تصبح روائية ..لنتعرف على سيرة مدينة خلال فترة زمنية تجاوزت النصف قرن، ونشعر ونحن نتابع بلهفة مصائر الأبطال خلال الاجزاء التتالية من الرواية (الاسم الآخر – الهاربون والباقون – حكاية الطفلة الضائعة) كأن الاحداث في المدينة أبدية لاتنتهي، حيث تقع ليلا وألينا في الحب والزواج والخيانة والبحث عن دور في العالم، والتمييز، والولادة، وتربية الأطفال، وأحيانًا تكون الحياة سعيدة، وأحيانًا غير سعيدة، وتتعرضان لتجربة الخسارة والموت..ووسط حي عمالي بائس تاخذنا فيرانتي في رحلة مشوقة، يمتزج فيها الحب والطموح بظلال ما بعد الفاشية، ومعارك اليمين الإيطالي ضد اليسار واغتيال ألدو مورو والألوية الحمراء في السبعينات من القرن الماضي، لكن الشيء المدهش هو وصف حياة النسوة داخل هذا الحي، مشاعر الغيرة والعلاقات الجنسية والصداقة التي تختلط احيانا بالغيرة، والشجاعة المتعلقة بالامل، حتى تبدو لنا فيرانتي مهمومة بالعالم النسوي اساسا حيث تبدو الرباعية وكانها دفاع عن عالم المراة في مواجهة عالم ذكوري عنيف وعبثي وخلال مقابلة اجريت مع فيرانتي قبل اشهر من خلال بريدها الالكتروني قالت:" أن النساء - أمهات أو عازبات - يعانين الأمرين في الموازنة بين إدارة متطلبات الحياة اليومية وبناء مساحات الإبداع الذاتي، وهن غالبًا ما ينتهين إلى التضحية بطموحاتهن من أجل مشاعرهن نحو الشركاء والأبناء" .

على مدى اربع سنوات تواصل فيرانتي اصدار الأجزاء الاخرى من الرباعية لتختمها بالجزء الاخير " حكاية الطفلة الضائعة "، وعند سؤالها عن جزء خامس قالت:" كان من الصعب أن أستيقظ ذات يوم أفكر، لقد انتهت قصة ليلا وأيلينا".صحيح انني انتهيت من ذلك. لكن الامر مثل الولادة فقد ة تملكني شعور فظيع بالفراغ وكانني وسط طريق طويل، لكنني أعرف قصصًا أخرى وأتمنى أن أتمكن من كتابتها" .

لكن هل انتهت حكاية فيرانتي؟ بالتاكيد لا، فقبل اعوام قليلة  قرر صحفي يدع كلوديو غاتي أن يبحث عن سر الكاتبة صاحبة الاسم المستعار، والتي ترجمت كتبها لاكثر من اربعين لغة وباعت ملايين النسخ، وزعم غاتي الذي قام بإجراء تحقيق في شخصية فيرانتي الحقيقية انه توصل إلى نتيجة تتعلق بالشخصية الحقيقية للكاتبة مؤكدا أن فيرانتي هي في الواقع مترجمة مقيمة في روما اسمها آنيتا راجا.تعمل في نفس الدار التي تنشر كتب فيرانتي ورواياتها، ما الطريقة التي توصل بها الصحفي كلوديو غاتي إلى أن شخصية فيرانتي الحقيقية هي آنيتا راجا، وقد اعتمدالصحفي في تحقيقه على مراجعة حسابات دار النشر الإيطالية. ولاحظ أن واردات الدار ارتفعت في عام 2014 بنسبة 65% مقارنة بالسنة التي سبقتها وذلك بفضل نجاح كتب فيرانتي في أميركا بشكل خاص. وفي عام 2015، بلغت نسبة الارتفاع 150% أي ما يعادل 7.6 مليون يورو. ويلاحظ غاتي أن مدخولات آنيتا راجا ارتفعت هي الأخرى بالنسب ذاتها وعلى مدى الفترة نفسها.ويقول الصحفي في تقريره بأنه لا يوجد أي مترجم آخر أو أي كاتب يعملان مع الدار ارتفعت دخله بهذه النسبة وذكر أن هذا الدخل المرتفع سمح لآنيتا راجا بعقد صفقات عقارية ضخمة على مدى السنوات الأخيرة.

لم ترد آنيتا راجا على هذا التحقيق، وأثار الأمر غضب الكثيرين من قراء فيرانتي الذين وجدوا ان ما فعله الصحفي هو تدخل في حياة مبدعة حاولت أن تحتفظ ببعض الخصوصية لنفسها،، فيما اصدرت دار النشر بيانا ادانت فيه انتهاك حياة خاصة بهذه الطريقة الفجة، واضافت ان فيرانتي ربما تتوقف عن الكتابة بسبب هذا التدخل السيء في حياتها، لكن في العام 2017 ابتهج قراء فيرانتي من جديد فقد قررت أن تعود إلى العمل، وقالت دار النشر: " نعرف أنها لا زالت تكتب، ولكن في الوقت الحالي لا أستطيع أن أقول أي شيء أكثر من ذلك".، بعدها اكدت فيرانتي من خلال

مقابلة اجريت معها عبر البريد الإلكتروني:" إنني أرغب في التحرر من جميع أشكال الضغط الاجتماعي أو الالتزام. وأن لا أشعر بذلك النوع من الالتزام حينما أصبح شخصية عامة وهذا ما سيمنحني الحرية الكاملة في التركيز حصرا على عملية الكتابة" .

وعندما سألت أين تكتب ؟ اجابت:" أنا أكتب في أي مكان. ليس لدي غرفة خاصة بي. أعلم أنني أحب المساحات الخالية، مع جدران بيضاء فارغة. لكن هناك حقيقة مهمة وهي عندما أكتب، سرعان ما أنسى أين أكون .

تخبرنا الكاتبة آنا ماريا ان النجاج الدولي الذي حققته رباعية نابولي قد ادى الى تعقيد الامور ومضتاعفة الحاجة الى الاجابة على اسئلة الصحفيين، وطلبات الجمهور والمشاركة في الجوائز الادبية وهكذا حاكت مؤلفة الرباعية شخصية خاصة بها كما في الروايات مع الاحتفاظ على مسافة مدروسة بين الشخصية المزيفة والحقيقية .. وعلى مدار السنوات لم يتغير شيء حيث عادت نهاية عام 2019 لتقديم روايتها  " الحياة الكاذبة للبالغين   " – ترجمة معاوية عبد المجيد -  وبعدما قدمت نيتفلكس  مسلسل ماخوذ عن رباعية نابولي  تحول الحي الذي جرت فيه احداث الرواية الى منطقة سياحية حيث كرمت الطفلتان اللتان ادتا ادوار " ليلا " و " لينو " ورسمت لهما جدارية كبيرة وسط الحي،تكتب انا ماريا في كتابها " اسطورة إيلينا فيرانتي " ان سكان الحي يعيشون وكانهم يسترجعون تصرفات الزمن القديم . السكان يتكلمون ويتحركون مثل ابطال الرواية والبعض منهم يتصرف كممثل في مسلسل " الطفلة الضائعة "، يقول احد سكان الحي: لقد وصفت المدينة بدقة وعبرت عن وجداننا ببراعة " .

تكتب فيرانتي:" أن المرء عندما يقرر ان يكتب فليس من المنطقي أن يخفي او يكتم شيئأ، او يفرض رقابة على نفسه، ونتيجة لذلك فان اغلب الاشياء التي كتبت عنها - وربما كانت تلك هي الاشياء الوحيدة التي رغبت في الكتابة عنها – هي تلك الاشياء التي كنت أفضل أن ألتزم الصمت عندما يدور الحديث عنها والجأ من بين أمور أخرى إلى تلك المفردات التي لم اكن اجرؤ على استخدامها في حديثي مع الاخرين " .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

صدر عن دار قوس قزح في كوبنهاكن مطلع عام 2024 للناقد والأديب هاشم مطر كتابه الموسوم (قطوف التجربة.. نقد النقد في أدب سهيل سامي نادر) بواقع (190) صفحة من الحجم الوسط، كان بتقدم الكتاب من قبل الدكتور خالد السلطاني بمقدمة مؤازرة وحميمية. يتناول الكاتب في هذا الكتاب جهد الاستاذ الكاتب والناقد سهيل سامي نادر النقدي والكتابي والمعرفي. ويعد الكتاب مساهمة في مجال (نقد النقد) وحركية النص. وجاء الكتاب بواقع ـ(37) عنواناً، تناول فيها أغلب اصدارات سهيل معتمداً على أكثر من (55) مصدراً مهماً.

لغة الكتاب سلسة للقارئ الكريم البعيد عن القراءة النقدية، حيث اتبع الكاتب المقارنة والمقاربة بالنصوص النقدية الصارمة، وهو عمل أثير يستحق المتابعة والقراءة. في البدء لا بد من التعريف بالناقد والأديب والصحفي سهيل سامي نادر؛ ولد سهيل في البصرة عام 1943؛ كان أبوه أحد مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي في البصرة، حصل على اللجوء في مملكة الدنمارك في الفترة التي اقدمت فيها على اللجوء في المملكة مع الأستاذ احسان أدهم. أصدر عدة مؤلفات منها: التل (رواية)، عن دار المدى، بغداد - 2007. التل: رواية. دار المدى. سوء حظ: ذكريات صحفي في زمن الانقلابات، عن دار المدى للنشر والتوزيع، بغداد - 2020. ونزولا من عتبات البيت، عن دار المدى للإعلام والثقافة والفنون، بغداد - 2020. وشاكر حسن آل سعيد: سيرة فنية وفكرية، عن دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد - 2016. والخشن والناعم، عن دار الأديب، عمان - 2013. ومؤلفات أخرى، ومقالات كثيرة.

استعرض الكاتب في المقدمة ص13-14 قائلاً: "محتويات الكتاب ليست مبنية على فصول.. فالكتاب لم يأتِ على نحو دراسة منهجية حسب آلية البحوث الدراسية التي تبتغي التأهيل.. خصوصاً وإنني إزاء أعمال كاتب كبير ومعروف هو سهيل سامي نادر... وجسد البلاد الذي أوشك جسد سهيل أن يحاكيه بحديته واضمرار هيأته.. إنما توزعت تجربته على الصحافة وانقد الفني والأدبي، كذلك النقد السياسي ثم جهده الروائي"، فقد ابتلى المثقف والأديب في هذه البلاد بكل شيء محزن بسبب ألوان الأنظمة والاستهتار السياسي، فكان للمثقف المنتصر لمبادئه النبيلة قد تكلفه حياته أو الهجرة أو الاعتقال أو خارج البلد وهذا ما حدث مع الأديب سهيل سامي نادر.

وفي ص17-18 يسلط هاشم مطر الضوء على كتاب سهيل نادر (نزولاً من عتبات البيت) الصادر عن دار المدى 2021، اشار إلى لغة الكاتب كونها "لغة مركبة بالرغم من جهد الكاتب لجعلها مبسطة وواقعية تساير موضوعاته المختارة في كتبه... فالجملة لديه ليست شاعرية أو فضفاضة المعنى... بل هي اشتقاق للمعاني على وفق سيميائي... وهي مهنية نادرة قوامها التلاقح المعرفي". وهو يبين بموجبها سيطرة الكاتب سهيل على خزينه المعرفي المترامي الأطراف وقدرته الاستنطاقية للأشياء مما يضعنا على مستوى من المساواة.

ويرى الاستاذ مطر أن كتاب سهيل (نزولاً من عتبات البيت) يلتمس من مقاله الأول في ص19-20عن "بغداديات جواد سليم وقدرته التعشيقية المذهلة لماضِ وحاضر... واستوفى شروطه المؤسسة آنذاك من حيث بؤر المعرفة والحياة... أفرد له الكاتب مساحة معتبرة من كتابه وأعماله". لكن نجد في كتابات سهيل الظاهرة والحلول الجمالية فتكون سلطة النقد أكثر مضاءة ودون مجاملة، كما أثث الكاتب من جانب آخر جمالية اشتقت طريقها كبذور نابتة في الأرض.

ويرى هاشم مطر أن ما كتبه سهيل بهذا المعنى هو "رحلة مشاركة رصد أثرها حداثياً بمنجز فني صادم، فيما كان هو ذاته يتحرك سردياً كما تتحرك المدينة باتجاهات عدة" ص22. إلا أن سهيل نجده في سياحة أمام عالم الصور وكثافتها وابعادها، ويؤشر على دائرة الصراع الأخلاقي والاجتماعي، بما فيه من اضطراب سياسي في جدارية جواد سليم، وقد رحل الأخير دون أن يكن له حضور عند افتتاح منجزه الفني. لذلك يرى هاشم أن سهيل يلتقط في مبحثه كناقد "لمعنى الرسم في البغداديات فكرة تفكيك العزلة، وهي الفكرة التي أسست إلى ثقافة أوربية ناهضة بعد الحرب العالمية الثانية... ومع أخذه المواجهة الصريحة التي سخّر لها الكاتب عصارة ذهنه المتقد ليبدو مغرداً خارج السرب الذي بدأ برحلة نقدية اتسعت فيما بعد" ص24. لذلك أجد من خلال النص الذي كتبه هاشم يحتاج سهيل إلى رحلة نقدية تفكيكية لما يحصل في التاريخ.

ويرى الناقد هاشم مطر في مادة سهيل المعنونة (الصورة المؤجلة لشارع الجمهورية)، في ص25 المطلوب "بعث الماضي بازدهار عمراني في الحاضر، وعليه سينحو سهيل في نصه إلى رؤية تفكيكية يكتنفها الحنين (كتذكارات بصرية) تشكل في الأغلب ذكريات منقبضة ترسم صورة حديثة جداً، خربة، لانعدام الجدوى في التخطيط العمراني الجديد". لذلك نجد التخطيط العمراني لأي مدينة لا يمكن أن يتم من دون مختص آركيولوجي، فما بالك بمدينة عتيقة ذات شرايين متقطعة ورئة مدمرة مثل بغداد، مع غياب ذهنية متّقدة جعلت كثيراً من مدن العالم معالم سياحية أثيرة إلا بغداد، فالبعض يرغب بتغيير أسماء شوارعها كونها لا تنسجم مع توجهه الطائفي مثل شارع الرشيد. لكن سهيل نجد له حنين وتساءل عن الفوضى التي حصلت في بغداد وشارع الجمهورية وأزقة أسواق الشورجة والغزل.

وفي مقال لسهيل (عتبات دائرية تصعد إلى البصرة)، يستطلع الناقد هاشم المقال ويجد أن البصرة تظهر في مقاله ص28-3- "كترميز مكاني لغياب دائم الحضور كحفر لأثر هيروغليفي يبدو طلسماً من دون شفرة. بل آثر سهيل بنفسه على إضاعة الخارطة التشفيرية حتى في طواعيتها. المطرقة لا تهدأ والحديد لا يلين، فيما يتحمل قلب الكاتب الضرب الشديد!... في وقت لن تبقى النخلة نخلة من دون مكان هو (البصرة) كما لن تبقى البصرة جغرافياً من دون ذاكرة متحولة تستدعي (حزن مشترك)". فضلاً عن أن هذا يقع في خانة الاشتغال الذي ألزمنا به أنفسنا لتوضيح آلية باختصار. وكقاعدة عامة إن كنت تقرأ مادة لن تلهب مخيلتك ولن تستدعيك لمشاركتها فأترك القراءة واستمتع بشيء آخر. فالمتابع لكتابات سهيل يرى بوضوح مغامراته في تناول أي عقدية لا تفتح رتجها إلا بمفتاح يمتلكه بنفسه لوحده. ولذلك نجد سهيل كناقد يقوم بعملية جراحية واجتراحية في نصه تقابله ميسرة بين النص والمرجع وقراءته النقدية.

فالناقد هاشم مطر نجده يأخذ بتفكيك اغلب مقالات سهيل سامي نادر ومادته من النصوص للحد الذي يكون فيه أعلى دراية باللغة واستخداماتها، ففي مقال سهيل (أحيا وأموت ع البصرة)، وهي مادة استكشافية لما يحدث وحدث عام 2008 في مدينة البصرة من اغراق أهلها بالحرب والاطلاقات النارية والصراع والفوضى والفقر والنذالة ووأد النساء من قبل المتريّفين أصحاب اللاوطن والهوية بعد حصولهم على مكافأة الديمقراطية، يتساءل سهيل "والسؤال للكاتب: فما الذي امتلكته مدينة يسرقها متدينون؟ سوى أن البصرة مليئة بالفقراء والوحوش"، لكن نجد الناقد هاشم يرى في ص37 أن "أهل البصرة الحقيقيين الذين ملاذهم (العمق اللامرئي) غير العابئين لقلة حيلة ومقام أرفع". لذلك نجد سهيل قد حشر نفسه بين سواد الأفكار، فهو الباحث عن صورة الإنسان بصفة التفوق والإتقان.

وهكذا يأخذنا الناقد هاشم مطر بسياحة في المادة الجميلة للكاتب والروائي والصحفي سهيل سامي نادر، فقام بتفكيك مادته بشكل جميل يرضي القارئ وأنصاف الأستاذ سهيل، ذلك الصحفي والناقد والأديب العاطفي والباحث عن الذخيرة المعرفية لكشف الحقول المعرفية كمنقب آثاري. فقد تناول الأستاذ هاشم الكثير من مقالات سهيل ومنها: (تأملات الآثار، الموت، السلطة)، ومقاله عن (جبرا)، و(الأطروحة الفنتازية لعلي الشوك: حكة جرح منسي)، و(الذي زارني في احلامي) وهي مقالة عن المخرج سامي محمد، و(ليث متي)، و(الجدلية)، و(غير المترابط)، وغيرها من المواد التي كتبها الأستاذ سهيل سامي نادر.

والموجز لمقالات سهيل سامي نادر نجدهُ مغامراً من خلال عرض أفكاره، ودائماً ما تبدأ مقالاته بخبر يجتهد أن يضع فيها ما سيكون خادماً لسرديته.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

عن دار الفرات للثقافة والإعلام في بابل، صدر للأديب والناقد علاء حمد كتابه الموسوم (الثقافة النصيّة في مدونة الشاعر العراقي حميد العقابي)؛ بواقع (194) صفحة من الحجم الوسط، وغلاف الكتاب يحمل صورة الشاعر الراحل حميد العقابي.

كُسِرَ الكتاب على مقدمة وأربعة فصول، معتمداً الكاتب على (36) مصدراً أدبياً نقدياً، والناقد علاء حمد المقيم في الدنمارك صدر لهً أكثر (21) مؤلفاً بين النقد الأدبي والشعر، وهو الرافض للتمييز بين شعراء الوطن العربي من حيث المذهب أو الطائفة أو الدين، متجاوزاً الرؤية الشوفينية والعنصرية، فكان يشده النص النوعي للكتابة، معتمداً التفاؤل الكتابي بعيداً عن السلبيات، وفنية النص الشعري الحديث.

أما موضوع الكتاب في مدونة الراحل حميد العقابي؛ فالعقابي من مواليد الكوت، 12 حزيران 1956، اكمل دراسته فيها، ثم سنحت له الفرصة أن يستقر في مملكة الدنمارك عام 1985م، نتيجة الظروف السياسية في العراق آنذاك وموقفه الرافض للعنف والدمار وافتقاد العدالة، بعد رحلة عذاب بين الأسر في إيران منذ عام 1982 والرحيل نحو سوريا، ثم الدنمارك كانت محطته الأخيرة ومنفاه الذي دفن فيه، ورحل عن عالمنا إثر أزمة قلبية مفاجئة يوم 3 نيسان من عام 2017م، وقد صدر للعقابي (11) ديواناً شعرياً، و(10) مؤلفات بين الرواية والقصة.

يسترجع الناقد والشاعر علاء حمد في كتابه العلاقات النصية والوظائف الدلالية في النص والبنية النصية في قصائد الراحل حميد العقابي معتمداً على النصوص الشعرية للعقابي على المستوى العرفاني والمقاربات التداولية من خلال الضوابط والارتباطات والمعاينة الرمزية واللغوية والعلاقات الدلالية الحركية الانتقالية والعلاقات المقطعية في قصائد العقابي.

يرى علاء حمد في مدونة الشاعر العقابي أن الأخير استطاع أن ينتج نصوصاً بمجاميع شعرية مختلفة، وقد اختلف إنتاج النصّ لديه من ناحية التقليلية الزمنية، ومن ناحية التقشف اللغوي، فهو يعتبر بأن المفردة، مفردة شعرية تنزل بمفاهيم تركيبية لتكوين المستوى النصيّ، ومثال ذلك قصيدة العقابي (أمطار الدرويش) من ديوانه (حديقة جورج) ص8:

أيّ فألٍ أقرأ في كفّ القتيلْ

حرّية حرباء

أم صمتاً ثقيلْ؟

أيّ فألٍ أقرأ الليلةَ في كفّي

جمراً

أم ترى أقرأ كفيّ نجمَ المستحيلْ؟

أيّ فأل أقرأ الليلة في كفّ العراق

حرّية،

نخلاً،

رحيل؟

يجد الناقد علاء حمد في ص24 أن "النص يتكون من وحدات لغوية منسجمة مع بعضها، فإن الجملة الشعرية في بعدها الفوقي وبعدها الدوني من حيث مستوى الاندماج، أي أن تكون منفصلة من ناحية المعنى وتنتهي بنقطة دالة". وهذه نتيجة حتمية تقود الشاعر العقابي إلى الدال الذي سخره من خلال حركة الفعل (أقرأ)، فيرى العقابي من خلال قراءة المشهد العراقي بين القتيل والحرية وبين الصمت والرحيل، فالدرويش له أمطاره الخاصة، وأنفراداته في القراءة.

أما قصيدة (الوهم) ص14 من ديوان (حديقة جورج):

يبتدئ الوهمُ

لكنّ سرعان ما ينتهي بالمحالْ

كيف يبتدئ الوهمُ

أو ينتهي بالمحالْ؟

ها أنا

أتوهم أنّ السؤال بابُ أغنيةٍ

ثمّ أوغل في الوهم

أحفر

أحفر في الأغنيات

أنقّب عن غجرٍ ضائعين

أو قبائل قانعةٍ بالزوالْ

قصيدة الوهم تبين الوضعية الاستدلالية في استدعاء المفاهيم التي قصدها الشاعر من مفاهيم دلالية، إذ يرى الناقد حمد في ص29 "نحن أمام ثلاثة مقاطع ضمن نصّ متواصل، لا يفصل بينهم سوى البياضات، ومن الممكن جداً أن يتحوّل الشاعر من حالة إلى أخرى، أو من بحر إلى بحر آخر، ويحافظ على المبنى النصيّ؛ هي العلاقة المتواجدة، علاقة المعاني التي تمتدّ من مقطع إلى آخر". لذلك نجد الشاعر يميل إلى اللغة الإدراكية الفعالية على خلفية تأويلية ويثقلها بالكينونات اللغوية التي تتماشى مع التفكر الشعري.

أما قصيدة (سباخ) من نفس الديوان اعلاه ص29، فيقول الشاعر

أيدوزنُ أوتاره؟

أم

يدوزنُ أوزاره؟

أم يمنّي؟

*

ماصخاً كان صوت المغني

وناي الضرير

البحور الخفيفةُ ماصخة

ماصخٌ ثدي أمّي

وخبز الرحيلْ

مفردات القصيدة مقاربات ايحائية في الاختلاف اللغوي وارتداد المعاني. ويرى الناقد علاء في ص30 أن الشاعر اعتمد "على تأطير النصّ لبناء حركته وتحقيق فعل المتخيّل التي كانت من نتائجه المعاني، وقد اعتمد على دلالة مركزية في تحريك الجمل الشعرية؛ فمفردة (ماصخ) أي عديم الطعم من المفردات المتداولة لدى العراقيين". فالشاعر اعتمد الاختزال المركزي في اختيار المفردات الدارجة الشائعة في الوسط العراقي.

وهناك قصيدة للراحل العقابي من ديوان (حدائق جورج) ص30 بعنوان (هاوية)، يذكر قائلاً:

ها

وية تحتفي بمكائدها

تتفرّس بالفأس

تقرأ ما يختفي في الرخامْ

ظمأ يتضوّع

والشمس غيمة

نثرت فوق أحلامنا – الشمع

قطراتها

جمرة الماء ترغي

ولامّ

غير غدٍ غارقٍ في الرغامْ

ها    وية تحتمي بمكائدها

وظلامْ

نلاحظ أن الشاعر "يحاول أن يقسّم الوحدة اللغوية الصغرى إلى أجزاء، فمفردة (ها   وية)، وهي تمثل كلمة مفردة، أي أنّها تمثّل أصغر وحدة لغوية بدأ بها الشاعر" ص32.

لكن الشاعر وبشكلٍ هادئ يخرج ذاكرته في احداث الثاني من آب 1990 بقصيدة تحت عنوان (كثبان) من نفس الديوان ص32 قائلاً:

في الثاني من آب

خرجت ذاكرتي، تحملُ معطفها الوبريّ

تدفئ شمساً تحتضر الليلةَ

كنتُ المجبرَ أن أنصت للذئب العاوي

كي أوهم أغنيتي

أنّ هنالك قمراً للغيّابْ

في الثاني من آبْ

يطرق دجلةُ بابي

يدخل مكتئباً

يتكوّر مرتجفاً في الركنِ

ويطلب عودَ ثقاب

ثمّ يغادر كالطيفْ

في الشارع

ألمحُ نهرً يركض

يركضُ

يركض محترق الأثوابْ

"فقد تطرق الشاعر إلى نهر دجلة، وبما أن النهر يشق بغداد إلى شقين (الرصافة والكرخ) فقد انتمى الشاعر إلى الشقين متابعاً وملاحقاً النهر الذي اتخذ منه دلالة مركزية" ص36، يستنتج الناقد علاء حمد إلى الانتباه المركزي والتلقائي والحدث الشعري والتفكر المعرفي حيث يكون الشاعر في هذه الحالة على معرفة بالهدف التفكري الذي سيخترقه من خلال النص الشعري. فكل ما يدور في النص يعد من الأدوار التداولية؛ وذلك من خلال قصدية المعنى والتأويل وتسيّد الجمل.

من خلال القصيدة اعلاه تولى الشاعر المعنى كموضوع، وذلك من خلال تجريد الذات من المعاني المباشرة. و"هنا جعل الذاكرة، ذلك الكائن الحركي، إسوة مع الأفعال الحركية التي استوطنت في النصّ" ص35.

وقصيد العقابي (مشهد/ حلم) من نفس الديوان ص47؛ يستذكر الشاعر طوابير الشحاذون كصفوف العسكر ينتظرون الله، قائلاً:

بابُ وحيدُ في صحراء

والشحاذون طوابيرَ

طوابير

ينتظرون الله

*

فجأةً

تفتح البابَ امرأةً عارية

فتندفعُ أمواجُ دلافين.

يرى الناقد علاء حمد في ص38 أن الشاعر قد "وظف مفردة (طوابير) والتي لها علاقة بالصف (وغالباً تستعمل المفردة في المعسكرات)، فهنا، الجملة تنقلنا إلى حالة التشبيه ضمن الاستعارة (الشحاذون طوابير) أي أنهم مثل صفوف العسكر؛ وكما الطابور العسكري ينتظر الضابط، فطابو الشحاذين ينتظرون الله".

وهكذا يستمر الناقد والأديب علاء حمد في تفكيك قصائد الراحل العقابي من دواونه؛ منها: ديوانه (حديقة جورج) الصادر عن دار قوس في كوبنهاكن عام 1996، و(الفادن) الصادر عن دار ألف في مدريد عام 2015، و(صيد العنقاء) الصادر عن دار ميزوبوتاميا في بغداد عام 2017، و(التيه) الصادر عن دار ميزوبوتاميا في بغداد عام 2015، و(واقف بين يدي) الصادر عن اتحاد الكتاب العرب في سوريا عام 1987.

من خلال ما ذكرنا اعلاه نجد الناقد قد فكك القصائد الشعرية وفق العتبات والبنى النصيّة والدلالة والاستدلال، وفاعلية المفاهيم واللغة النصيّة والتأويل، واجاد في ذلك واعطى كل مفردة من القصائد حقها في دراسته النقدية هذه.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

الصفحة 1 من 6

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم