صحيفة المثقف

آراء

يستغرب كثيرون كيف تمكن دونالد ترامب، وهو من خارج النخبة السياسية المهيمنة من الوصول إلى السلطة (2016)، وحتى بعد خسارته في انتخابات العام 2020، فإنه بقيَ في المشهد السياسي، وكما يقول عن أنصاره أن ثلاث أرباعهم يعتقدون أنه فاز في الانتخابات، وهو ما يدعوه اليوم إلى رفع صوته عاليًا للثأر من خصمه اللدود في الانتخابات المقبلة، التي ستجري في شهر تشرين الثاني / نوفمبر 2024.

كان فوز ترامب مفاجئة كبرى، حيث كانت جميع الاستطلاعات ترجّح فوز منافسته هيلاري كلينتون، لكنه بحكم نجوميته وعلاقاته بعالم المال والأعمال والإعلام، تمكن من إحراز النصر عليها، واستطاع قلب المشهد السياسي، وظلّ متشبثًا بأحقيته حتى حين خسر أمام بايدن.

لم يهمل ترامب وسيلة لمقارعة بايدن، سواء كانت شخصية أم مالية أم قانونية أم إعلامية أم شعبوية، إلّا واستخدمها لتحقيق مآربه والوصول إلى مبتغاه، مستندًا إلى كارزميته وقوّة شخصيته وتمكّنه من الحصول على دعم الحزب الجمهوري، وهكذا أخذت تتشكّل "الترامبية" ويتجمّع حولها الأنصار، لا باعتبارها ظاهرة عابرة، بل بوصفها وليدة تشابك العديد من المصالح والتوجهات والروافد، التي التقت في تيارها.

وكانت فترة رئاسة أوباما واحدة من أسباب ظهورها، وبالتالي حصولها على قاعدة شعبية أوسع من القاعدة التي يهيمن عليها الحزب الجمهوري تاريخيًا، فإضافة إلى أصحاب المصالح والمهن المرتفعة الدخل، فإن الاتجاهات العنصرية التي رفعت لواء الحمائية ومناهضة الهجرة غير الشرعية وتجاوز البيروقراطية الحكومية، كانت خلفية فكرية لها، وهكذا حاول ترامب اللعب على عدد من الشعارات الشعبوية التي شكّلت إطارًا عامًا للتيار الترامبي في السياسة الأمريكية، على المستويين الداخلي والخارجي، بما فيه العلاقة مع روسيا، وما يزال هناك من يعتقد أن فوز ترامب في الانتخابات المقبلة سيوقف الحرب في أوكرانيا، وخصوصًا بالامتناع عن تقديم المساعدات لها.

وإذا كان ترامب يسعى لتجديد الحزب الجمهوري وتوسيع قاعدته الاجتماعية، فإنه اشتغل حتى قبل تولّيه دست الحكم على ما عُرف ﺑ "فن الصفقة"، وهو عنوان كتابه الصادر في العام 1987، وكان المال، وما يزال، عنصرًا أساسيًا في توجهه، فقد استعان به على شحّ خبرته السياسية والحكومية والعسكرية، ويمكن الاستدلال على ذلك، بتصريحاته المثيرة للجدل وسلوكه الغريب أحيانًا، سواء خلال حملته الانتخابية أو بعدها، بما فيه خلال فترة رئاسته، ناهيك عن بعض تصرفاته التي تنمّ عن مسحة استعلائية ضدّ المرأة، فضلًا عن محاولات التفافه على القانون للتخلّص من عبء الضرائب، وركّز على الإعلام لمواجهة خصومه وعشرات الدعاوى القانونية، إضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، وقد تمكّن من إزاحة منافسيه من الحزب الجمهوري، حتى بدا هو الأول في مواجهة بايدن الديمقراطي.

ثمة أسباب عديدة لظهور "الترامبية"، لاسيّما في ظلّ تعمّق التوجهات المحافظة، وهي موجودة في المجتمع أساسًا، وانعكست على السياسة بالطبع، وهكذا أخذت تنشأ بالتدرّج ما يمكن أن نطلق عليه "الترامبية"، وهذه الأخيرة يمكن تلمّسها عبر عدد من المجسّات الأساسية التي شكّلت سداها ولحمتها؛

أولها – سلوك طريق الشهرة، من خلال علاقته بالمشاهير، سواء كانوا نجومًا سينمائيين أو كتابًا أو صحفيين، وقسم منهم اضطّلعوا بأدوار في السياسة الأمريكية، ومن أبرزهم الرئيس الأسبق رونالد ريغان، وهكذا تمكّن من تقديم نفسه باعتباره صاحب قرار ويمتلك إرادة قوية ويستطيع أن ينفّذ ما يضعه كبرنامج دون تردّد أو خشية، بالرغم من الأخطاء الفادحة التي وقع فيها، سواء خلال فترة حكمه أو في حملاته الانتخابية.

ثانيها – إثبات فشل السياسيين التقليديين، الذين لم يحسنوا إدارة الحكم، حسب رأيه، لذلك سار على خطى ريغان، الذي كان يردد أنه مواطن عادي وغير سياسي، وأن لديه اعتقادًا راسخًا بأن السياسيين هم الأكثر إزعاجًا للمواطن، وما مكنّه من التبجّح بذلك أكثر، هو كونه "مليارديرًا" وليس بحاجة كبيرة إلى جماعات الضغط كما يحتاجها غيره.

ثالثها – إعلاء النزعة القومية المعادية للمهاجرين، وموقفه الاستعلائي من الأجانب بشكل عام، ووفقًا لشعار "أمريكا أولًا"، و"إعادة عظمة أمريكا"، عمل على بناء جدار على طول الحدود المكسيكية، وسعى إلى ترحيل المهاجرين غير الشرعيين، بل أنه قرّر منع مواطني عدد من البلدان الإسلامية من دخول الولايات المتحدة، واضعًا عقبات جديّة أمام حصولهم على الفيزا، فضلًا عن انسحابه من العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية.

رابعها – الشعبويه، التي جذبت إليه أتباعًا حتى من خارج الحزب الجمهوري، وقسم من هؤلاء كانوا ساخطين على النخب السياسية التقليدية، فاستغلّ استياء العديد منهم ليحقق حضورًا كبيرًا على الساحة السياسية من خارجها، لدرجة أصبح ظاهرة جديدة في السياسة الأمريكية.

ولعلّ المعركة الانتخابية المقبلة بين الترامبية والبايدنية ستكون هي الأكثر سخونة في تاريخ الولايات المتحدة، وأنها أول انتخابات رئاسية، منذ فوز دوايت أيزنهاور في 1956، تشهد إعادة منافسة، خصوصًا أن ثمة اختلافات وخلافات جوهرية بين الاتجاهين فيما يتعلّق بالاقتصاد والسياسة الخارجية والقضايا الدولية، وفي جزء منها اختبار جديد للديمقراطية الأمريكية، التي يعتقد البعض أنها تحتاج إلى المزيد من إعادة النظر بجوانبها المختلفة ومعالجة نواقصها وثغراتها وعيوبها، بل وحتى أُسسها، ويتوقف على حسمها جزء مهم من مستقبل العلاقات الدولية من جهة، ومستقبل الولايات المتحدة من جهة أخرى.

***

عبد الحسين شعبان

اليوم، ونحن نعيش ذكرى الجلاء في سورية؛ علينا أن نعود بالذاكرة إلى أزيد من مئة عام، لنتذكَّر ونُذكِّر بأول استقلال لسورية في العصر الحديث في 8 آذار 1920، وربما يكون هو الأول بتاريخ سورية منذ أن عُرفت بهذا الاسم! والذي يستحق التوقف عنده. والتعرف على تلك المرحلة الفاصلة؛ بين تاريخ من الجور والظلم والجهل والامتهان، في نفق الدولة العثمانية المظلم! ومرحلة جديدة تَعِد بعهدٍ جديد عُقدت عليه الآمال، بعد طول انتظار. ونريد أن نُذكِّر بقائد ذلك الاستقلال، الأمير فيصل ابن الحسين، والذي خرج من مكة على رأس جيش كبير، متعقباً فلول العثمانيين الذين أُخرجوا من بلادنا بعد أربعة قرون! فيصل الذي اختار سورية لإقامة أول "حكومة عربية في دمشق" تكون أساساً لبناء عقد اجتماعي لسورية الكبرى، يكون صالحاً لتعميمه على مختلف أقطار العرب وشعوبها.

ويُظهر الأمير فيصل أبن الحسين شريف مكة، في كل مناسبة، تأكيده على المبدأ القومي ففي خطابه أمام مؤتمر السلم في فبراير (شباط) 1919 حين قال: "ان هناك فرقاً كبيراً بين حكومة تركية وأخرى عربية تقام في هذه المنطقة". يقول جورج أنطونيوس في كتابه: يقظة العرب.. "ومن العدل أن نذكِّر نقاد الفكرة العربية الذين يأخذون على الأكثرية العربية أنها لا تستطيع أن تفرق بينها وبين الفكرة الإسلامية، أنه كما لا يحق لنا ان ننتظر من الأقلية العربية ان تتخلى عن نصرانيتها حتى تصبح قومية، كذلك لا يحق لنا ان ننتظر من الأكثرية ان تتخلى عن اسلامها حتى تصبح اهلاً لحمل لواء الفكرة القومية. وللمغفور له فيصل الأول الكبير القول الفصل في ذلك عندما قال: "الدين لله والوطن للجميع". هذا الشعار المُوحد لأبناء الشعب، الذي أطلقه فيصل، وعمل على تحويله إلى برنامج عمل ملموس على أرض الواقع؛ منذ أن وطأت قدميه أرض سورية، على مبدأ الوطنية، والمواطنة الحقة، الذي يتساوى الجميع من خلاله، لا فضل لأبناء منطقة ما، أو طائفة، أو مذهب؛ على غيرهم إلا بما يقدمونه من خدمات لرفعة شأن أمتهم، وازدهار دولتهم ورفاه شعبهم، من خلال ما يمتلكونه من خبرة، وعلم ومعرفة.

واستغل فيصل كل مناسبة سواء في لقاءاته الداخلية مع الفعاليات الوطنية بمختلف مكوناتها، أو بالمحافل الدولية؛ للتأكيد على مساواة العرب في الحقوق والالتزامات، بقوله: العرب هم عرب قبل موسى وعيسى ومحمد. وهذا ما يُظهر تأكيده على فصل الدين عن السياسة، في مذكرته الى داوننج ستريت في سبتمبر (أيلول) 1919 التي ذكر فيها "رغم أني من أعرق الأسر الإسلامية فقد حملت السلاح ضد الخلافة إلى جانب الحلفاء لتحقيق أمل الوحدة".

وعرف الزعماء السياسيون ان الفروق الدينية يجب ازالتها قبل اتخاذ أي خطوة نحو الوحدة. ولو كان الوضع في سورية قد ترك لتطور طبيعي لاختفى الانقسام الديني والإقليمي تماماً على مسرح السياسة السورية.

دخلت جيوش الثورة العربية وقوات الحلفاء دمشق في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 1918، بعد خروج الجيش التركي منها في السابع والعشرين من أيلول/سبتمبر. وفي اليوم التالي لدخوله دمشق، أصدر الأمير فيصل بلاغاً إلى الشعب باسم والده الشريف حسين، يعلن فيه تأسيس حكومة عربية في دمشق، وبدأ من فوره العمل مع فريقه، بالاتصال بالعلماء ورؤساء الدين والوجهاء العاملين في الحقل الوطني، وكان أول اجتماع من هذا القبيل عُقد في منزل الوجيه الدمشقي الكبير محمود بك البارودي، الذي تجلت فيه وحدة الفكرة العربية بين الأمير وتلك النخبة التي تعتبر ممثلة الشعب في الإفصاح عن رغبته في الوحدة والاستقلال.

وتابع فيصل تواصله مع الهيئات الفاعلة من أبناء الوطن بزيارة قام بها إلى مدن الشمال حمص وحماة وحلب، واستقبل بها بمنتهى الحفاوة والترحيب، التقى فيها بمختلف فعاليات المدن الثلاث، وفي حلب محطته الأخيرة، ألقى على الأهلين خطاباً أَبَان فيه جهود والده الحسين وحلفائه توصلاً لإنقاذ العرب من النير التركي وجمع كلمتهم وضمان حريتهم واستقلالهم. وحث الأمير في ختام خطابه الأهلين على اختلاف مذاهبهم على السعي بكل عزم وهدوء لتحقيق أمنيتهم الغالية بواسطة حكومة وطنية حائزة على ثقتهم، في سبيل خدمة الشعب وترقيته واستقلاله ورفع شأنه في نظر الحلفاء والعالم أجمع.

لم يكن الأمير فيصل والحاكم العسكري الركابي واخوانه العاملون في الحقل الوطني ولا زعماء الفكرة العربية والجمعيات السياسية، راضين عن تقسيم البلاد العربية إلى مناطق نفوذ للاستعمار الأوربي الفرنسي والبريطاني. فعمدوا على مقاومته باتباع سياسة الأمر الواقع بجميع الطرق السلمية. لذلك ضمت حكومة الفريق الركابي، المعيَّن من قبل القائد العام للقوات الحليفة الجنرال "اللنبي"، رجالاً من سورية ولبنان وفلسطين والعراق والأردن والحجاز دون أي التفات إلى المناطق التي ينتسب إليها كل منهم، ولا تبعاً لمذهبه وأسرته وعشيرته. فكان الأمير عادل أرسلان (جبل لبنان) معاوناً للحاكم العسكري، ونوري باشا السعيد وجعفر باشا العسكري وياسين باشا الهاشمي، من القادة العراقيين، في أهم المناصب، أولهم مستشاراً سياسياً للأمير فيصل والثاني مستشاراً عسكرياً والثالث رئيساً لميرة الجيش، وسعيد باشا شقير (بيروت) مديراً للمالية، واسكندر بك عمون (جبل لبنان) مديراً للعدلية، ورشيد بك طليع (جبل لبنان) مديراً للداخلية، وسليم باشا موصلي (دمشق) الجنرال السابق في الجيش البريطاني مديراً للشؤون الصحية، وساطع بك الحصري (حلب) مديراً للمعارف (التربية والتعليم).

 واتبعت نفس الخطة في مجلس الشورى ومحكمة التمييز (النقض) وفي ديوان الأمير، وباقي الإدارات التي لا يتسع المكان لذكر تفاصيلها.  

حسب يوسف الحكيم، صاحب كتاب: سورية والعهد الفيصلي، بقوله: „يدعونا الانصاف إلى التصريح بأن المسيحيين ناولوا من الوظائف الهامة في الجامعة كما في سائر دوائر الحكومة أكثر مما تفرضه النسبة العددية بينهم وبين إخوانهم المسلمين، مما دل على أن هدف الجميع الأسمى هو الوطن العربي وأن الاخاء العربي يسود جميع أبنائه ويحول دون كل تفرقة يتمناها ويسعى اليها الطامعون في استعمار البلاد".

في جلسة للمؤتمر السوري عُقدت في الثالث من حزيران سنة 1919 وانتخب هاشم الأتاسي نائب حمص رئيساً له، ومرعي باشا الملاح نائب حلب، ويوسف الحكيم نائب طرابلس نائبي للرئيس.

وفي ختام الجلسة، وجه الرئيس كلمة شكر إلى النواب على ثقتهم.. وطلب بأن يرفع المؤتمر واجب الشكر لسمو الأمير فيصل على ما قام به في سبيل سورية.. وانتخب المؤتمر لجنة من بين أعضائه لتنظيم عريضة الشكر والتأييد.

وفي الجلسة التالية، حين تليت عريضة الشكر على المجلس من أجل إقرارها، اعترض السادة المشايخ من النواب على خلوها من البسملة التي يجب أن يُبدأ بها. فقابلهم النواب التقدميون، وكلهم من الأدباء، خريجي المعاهد الحقوقية والعلمية العالية، بأن الأمة تتطلع إلى فجر جديد تتجلى فيه فكرة تأسيس حكومة تتفق وروح العصر، لا دخل فيها للدين، فتبقى الأديان السماوية في حرمتها وقداستها وتسير السياسة في انطلاقها حسبما تقتضيه مصلحة الوطن، أسوة بالأمم الراقية في أوربا وأميركا. فعاد المشايخ إلى المعارضة واحتدم الجدال بين الفريقين ووصل حداً ينذر باحتمال انقسام الأمة وراء نوابها شطرين، تقدمي ومحافظ مما يهلل له الاستعمار ويضر باستقلال البلاد.

يقول يوسف الحكيم: لذلك نهضت معلناً رأيي، بأن التقدمية التي يرغب فيها الشعب ولا سيما الطبقة الواعية لا تتناقض مع الاعتقاد بالله العلي العظيم، وأمامنا الأمة البريطانية العريقة في الحكم النيابي تُظهر في كل مناسبة تمسكها بالدين دون أن تدخله في السياسة وإدارة شؤون المملكة ودون أن يكون سبباً للتفرقة بين أبنائها في الحقوق والواجبات الوطنية. واقترحتُ في ختام كلامي، للتوفيق بين فريقي النواب، أن تتوج العريضة بكلمتين فقط هما "باسم الله" فصفق النواب جميعاً ووافقوا على العريضة.

هنا يمكننا القول؛ ونحن نقلب صفحات مضيئة من تاريخنا، أن سورية كانت قاب قوسين أو أدنى من فصل الدين عن السياسة قبل أزيد من مئة عام؛ لو تسنى لتلك الفرصة النجاح! كانت تجربة علمانية، من دون أن توضع العلمانية كعنوان لها.. تجربة، كانت العلمانية تُقرأ في كل سطرٍ من وثائقها، وخاصةً في قانونها الأساسي الذي لم تُتَح الفرصة لتطبيقه.. كانت تجربة ثمينة.. وفرصة ضائعة! فهل نستطيع التعلم منها؟

***

سمير البكفاني - كاتب سوري 

 

جرت محاولة اغتيال للرّاهب العِراقيّ- الأستراليّ مار ماري عمانوئيل، خلال موعظته في كنيسته «المسيح الرّاعيّ الصالح»(15 /4/ 2024)، الكائنة بمدينة وايكلي، غرب العاصمة الأستراليّة. فاجأه مراهق عمره من 15-16عاماً، بطعنات، نُقل على أثرها إلى المستشفى. صرحت الشّرطة، بأنه «عمل متطرف مدفوع بدوافع دينيَّة».

كان الرّاهب منفرداً، في مواعظه، على خلاف طبيعة خِطاب الرّهبان الوعظي. تجده يتناول السّياسة، ويرد على ما يُثار في شبكة الإنترنت، مِن المقارنة بين الأديان، وبين الأنبياء، فيدخل في خلاف دينيّ، مصرحاً لماذا يعتقد بالإنجيل دون غيره، بمعنى كان إشكالياً في خطبه. لذا، أنشأ كنيسته الخاصة. هاجر مِن العراق قبل دخوله الخدمة الكنسية، وترسيمه أسقفاً، ضمن أبرشية أستراليا ونيوزيلندا، التابعة للكنيسة الشَّرقيَّة.

كان حاضراً بقوة في المواقع الإلكترونيَّة، هَدَده صاحب موقع تحريضي، بعبارة: «انتظر ما يسوءك»(مارس 2023)، مُذكره بمصير راهب قبله، مع مناقشة جارحة لأفكاره، وبالتالي وضعه أمام النّاس مستحقاً التّصفية الجسدية.

حسب تاريخ موقع هذا المحرض، أنه كان ضمن إعلام جماعة «الإخوان المسلمين»، في غمرة التظاهرات ضدهم، وبعد زوالهم مِن الحُكم (2013). اتخذ هذا المحرض، مِن موقعه منصة ضد المسيحيين، بالمقابل توجد منصات مسيحية تقوم بالرّد، فتشتد المواجهات، كثفتها حادثة طعن الرّاهب، فظهرت التحريضات السابقة ضده، خلال البحث عن مقدمات محاولة الاغتيال.

هذا، والإنترنت ومواقعه، جمعت العالم، وحولته إلى قرية، يطفح حولها الشّرُ والخيرُ. تابعتُ ما قدمته تلك المواقع، عن القضية، وهي تدق طبول حرب عقائديّة دينيَّة، خارج ما يعبرون عنه بـ «الرّأي والرّأي الآخر»، فتلك برامج زعيق، واعتداء، وتسقيط، فلا نتصور حواراتها كالتي كانت بين الخليفة المهدي بن المنصور العباسيّ (158-169هجرية) وجاثليق الكنيسة الشَّرقية طيمثاوس الكبير ببغداد، ولا هي بحدود ما عُرف بالمباهلة (المواجهة الحواريّة)، أو ما يُعبر عنه بالمناظرة، إنما جدل، يحضره المتجادلون، للرّد والمواجهة النّاريّة، التي تُمهد لحروب ومقاتل، داخل البلد الواحد، وبين البلدان.

أكثر هذه المواقع، على المستوى الديني أو المذهبي، تبث مِن بلدان الحرية الاعلامية والفكريّة، مع أنها لا تنتمي لعمل إعلامي، ولا خلاف فكريّ، بل بيانات معارك. ومعلوم أنَّ «الْعَدَاوَةُ عَلَى الدِّينِ، الْعَدَاوَةُ الَّتِي لَا زَوَالَ لَهَا، إِلَّا بِانْتِقَالِ أَحَدِ الْمُتَعادِيَيْنِ، إِلَى مِلَّةٍ الْآخَرِ مِنْهُمَا»(الطَبريّ، جامع البيان)، أخطر العداوات، إمَّا القتل وإمّا دخول دِين عدوك. فكم تكون إشاعة الإخوة الإنسانيَّة مهمة، بها وحدها يتحقق منطوق الآية: «لكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ»، الآية التي لم تسلم مِن النّسخ، نسخها فقهاء «النّاسخ والمنسوخ» بآية السّيف(البغداديّ، النَّاسخ والمنسوخ).

أرى أنّ طعن الرّاهب، واحدة مِن موجبات دعم الأخوة الإنسانية، ولا مناصَ مِن تبنيها عالميّاً، وكانت البادرة بأبوظبي «وثيقة الأخوة الإنسانيّة» (4 فبراير2019)، لخلق ثقافة تبعد شبح القتل بسبب دينيّ، أو الإكراه، وفق تأكيد الآية: «لَا إِكراهَ فِي الدّين».

أقول: مهما كانت حدة الجدل، بين أهل الأديان، لا تكون حياة الإنسان ثمناً، فهذا المراهق الذي حاول قتل الرّاهب مأخوذاً بخطاب العنف، التي تبثه الفضائيات والمواقع، وطعن الرّاهب اليوم سبقه قتل العشرات في مساجد نيوزيلندا (15 مارس 2019).

بروح السَّيد المسيح، قال الرّاهب لطاعنه بتسجيل بثه بالإنجليزية: «أنت ابني وأنا أحبك، وسوف أُصلي مِن أجلك، وأسامح مَن أرسلك لهذا الفعل».

أقول: ما كانت «وثيقة الأخوة الإنسانيّة» يوقعها حَبر المسيحيين وشيخ المسلمين، على أرض الإمارات، لولا أنّ «بلغ السَّيل الزّبى»، بالعنف الدِّيني.

لعلَّ محمد مهدي الجواهري(ت: 1997) حسب، قبل أكثر من مئة عام، حساب هذه الوثيقة الإنسانيّة، وحساب العنف بين الأديان، أهل الشّرق خصوصاً، عندما قال: «وقد خبروني أنّ في الشرقِ وحدةً/كنائسه تدعو فتبكي الجوامعُ»(النَّجف 1921).

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

قبل أكثر من عشر سنوات تداولت الأوساط السياسية الشيعية موضوع الأغلبية في العراق وطرحت مجموعة أفكار أو رسائل مفادها يتطابق مع فكرة الأخ الأكبر والراعي الأبوي لبقية المكونات، بل ذهب بعض المتشددين إلى أن المكون الأكبر يحق له الرئاسات الثلاث، وما منح لهم ويقصد المكونين السني والكردي فهو (كرمٌ) سياسي لتجميل مشهد الحكم، ورغم أن تلك الأفكار لم تجد بيئة صالحة لتطبيقها ولا صدى بين الناس حتى في أوساط المجتمع الشيعي إلا أنها بقيت تراود كثيراً من الساسة والنواب المتشددين والمدعومين من فصائلَ مسلحة تتحدث دائماً نيابة عن كل العراق في بياناتها، خاصة بعد انسحاب التيار الصدري (الفائز الأول) من العملية السياسية وتركه 72 كرسياً في مجلس النواب ليستحوذ عليها الإطار التنسيقي (الخاسر الكبير) الذي هُزم في انتخابات 2021، حيث عادت مرة أخرى نغمة الأغلبية وبتكتيكات جديدة استخدمت فيها كثيرٌ من ممارسات النظام السابق في شقّ وتضعيف الأحزاب القوية لدى المكونين الكردي والسني، وصنع شخصيات وأحزاب كارتونية كخطوة أولى في إضعافهما للوصول الى تطبيق فرضية الأغلبية الشيعية بتحالفات تجميلية على غرار الجبهة الوطنية ابنة حقبة النظام السابق.

إن طبيعة تكوين العراق التي أشار اليها الملك فيصل الأول حينما توج ملكا على العراق في وصفه لمكونات مملكته قائلا: (لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة..) وقد فشلت كل الأنظمة السياسية المتعاقبة طيلة قرن من الزمن في بلورة مفهوم جامع للمواطنة وعابر للأديان والاعراق، لا تسمح بقيام نظام أغلبية على شاكلة ما تطرحه بعض القوى المتطرفة، حيث دفع العراقيون ثمنا باهضا بسبب تسلط ما يسمى بالأغلبية القومية تارة او الدينية المذهبية تارة أخرى، حتى وإن كانت من الناحية العددية تتفوق أو تتجاوز على المكونات الأخرى، فالعراق يتكون وواقع حاله منذ تأسيسه من الناحية الدينية بأكثرية عددية مسلمة شيعية سنية، يعقبها المسيحيون والإيزيديون والصابئة واليهود، ينتمون في أصولهم وقومياتهم إلى العرب والكرد وبقية المكونات الأخرى من الكلدان والتركمان والسريان والأشوريين والأرمن، حيث أظهرت السنوات الماضية ونتائج الانتخابات العامة اصطفافات واضحة جدا تكثفت فيها ثلاث تكتلات مذهبية وقومية رئيسية هي: القوى الشيعية والسنية والكردستانية، وهذه هي حقيقة المكونات الرئيسية للبلاد سياسيا وجغرافيا؛ الشيعية التي تتوزع جغرافياً جزء في العاصمة بغداد وغالبية في الجنوب والفرات الأوسط، والسنية جزء في العاصمة واغلبية في الغرب، وبعض من الشمال والشرق، والكرد جزء في بغداد واغلبية في كوردستان مع بعض من الغرب والشرق، لتكون اقاليماً جغرافية وتاريخية متناسقة ومتجانسة، تتوحد جميعها حول عاصمة تاريخية لا تقبل ثقافتها إلا أن تكون ملكاً لكل المكونات والأديان والمذاهب، تلك هي بغداد التي تتقاسم فيها اليوم المكونات الرئيسية مواقعها الاتحادية في السلطات الثلاث بطواقم مترهلة ومتداخلة بغياب إعلان الفيدراليتين الأخريين في كل من الجنوب والفرات الأوسط والغرب مع التلكؤ في حل مسألة المناطق المتداخلة بين إقليم كوردستان ومحافظات نينوى وديالى وصلاح الدين.

وللأسف كما ذكرنا فشلت كل الأنظمة التي حكمت العراق منذ تأسيسه كمملكة في بلورة مفهوم المواطنة، كما فشلت في إيجاد حلول ادارية وسياسية لإشكالية المكونات في مجتمع هذه الدولة وتركها مهملة ومهمشة، مما أدى الى نشوء صراعات واحتراب، حيث لم يك حكامها عقلاء الى الدرجة التي يدركوا فيها بلد متنوع المكونات، لكي يؤسسوا بموجبه دولتهم العتيدة، التي تآكلت بسبب الحروب البينية او الخارجية حتى انهارت وتم احتلالها وتغيير نظامها بالقوة، مما أتاح  فرصة لإعادة بناء دولة عصرية حديثة بدستور دائم يضمن حقوق كل المكونات في دولة اتحادية فيدرالية ديمقراطية تعددية، لكن للأسف تم اهمال الدستور بعد سنوات قليلة بتغول قوى مذهبية انتابها شعور العظمة والغرور على خلفية افتراض المكون الأكبر، فأغرتهم السلطة والمال والنزعة المذهبية المدعومة خارجياً حيث بدأوا بمركزة الدولة ومنع قيام فيدراليات بادعاء انها ستقسم البلاد وتنهي وجودها، متهمين أي دعوة للفيدرالية بالانفصالية مستخدمين القمع والإرهاب في قمعها.

واليوم تطرح وسائل دعاياتهم مفهوم الأغلبية الطائفية التي تحاول استنساخ سلوكيات ونهج الأنظمة السابقة في إذابة المكونات الأخرى في بوتقة الأغلبية، وبدلاً من الركون الى ارقى النظم الإدارية والسياسية في العالم ألا وهو النظام الفيدرالي وتحويل العراق الى ثلاث فيدراليات جغرافية كما أراد له الله وطبيعة تكوينات مجتمعاته في غرب البلاد وفي الفرات الأوسط والجنوب وفي إقليم كوردستان، كثفوا جهودهم وما في أيديهم من سلطة ومال على إفشال النظام الديمقراطي والفيدرالي بإنشائهم دولة عميقة وأذرع مسلحة وفتاوى دينية وشعارات مخدرة تسوق البلاد إلى دوامة الحروب والاحتراب، حيث غدت البلاد خلال عقدين من الزمان واحدة من افشل النظم السياسية وأكثرها فسادا وارهابا وتخلفا قياسا مع امكانياتها وثرواتها وتنوع مكوناتها.

***

كفاح محمود

 

كيف شن مسلمو الهُوي الحرب المقدسة لصالح الصين في الحرب العالمية الثانية؟

بقلم: ستيفن تشو

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

كان ولاؤهم الوطني يعتمد على قرون من التقاليد، وهو التاريخ الذي أصبح الآن منسياً إلى حد كبير.

***

في منتصف الثلاثينيات، كانت هناك عاصفة تختمر فوق الصين. لسنوات عديدة، اتبعت الإمبراطورية اليابانية سياسة التدخل الاستعماري في الشؤون الصينية. وفي عام 1934، سعت إلى السيطرة الكاملة وأعلنت أن جارتها الأكبر حجماً "محمية" غير قادرة على الحكم الذاتي. غزت القوات اليابانية واحتلت جزءًا كبيرًا من البلاد، وتغلبت على القوى الإقليمية المتعاقبة في مشهد ما بعد الإمبراطورية الممزق.

أدى هذا إلى وحدة جديدة بين الصينيين. فقد وضع الحزب القومي الصيني، أو الكومينتانج، بقيادة الجنرال شيانج كاي شيك، والحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماو تسي تونج ــ الأعداء في حرب أهلية صينية مريرة ــ خلافاتهما جانباً لتشكيل تحالف موحد مناهض لليابان. بدأت المواجهة الشاملة مع اليابان، والتي تُعرف الآن باسم الحرب الصينية اليابانية الثانية، في عام 1937 واحتلت مركز الصدارة في مسرح الحرب العالمية الثانية الدموي في المحيط الهادئ.

في عام 1939، شنت الجبهة المتحدة أول هجوم مضاد كبير لها، أطلق عليه اسم هجوم الشتاء، وهو عبارة عن سلسلة من الإجراءات التي أبطأت التقدم الياباني حتى وصلت إلى طريق مسدود. وكانت إحدى نقاط التحول هي انتصار الصين في معركة غرب سوييوان، في منطقة يسكنها العديد من مجموعات الأقليات في الصين والتي أصبحت الآن جزءًا من منطقة منغوليا الداخلية ذاتية الحكم.

وفي غرب سويان، خسر اليابانيون أمام الجنرالات الصينيين الذين عرّفوا أنفسهم بأنهم مسلمو الهوي، وهم أقلية عرقية دينية كبيرة في الصين يبلغ عددهم الآن أكثر من 8 ملايين شخص. وساعد جنرالات الهوي في كتابة فصل منسي من تاريخ الصين ـ حيث سلط الضوء على الدور الذي تلعبه الأقلية المسلمة في الصين في تحديد مستقبل البلاد في بوتقة الحرب.

خلال هذه المقاومة المناهضة لليابان، حشد القادة المسلمون الصينيون الدعم للنضال   باعتباره حربًا مقدسة محرمة دينيًا ضد غازٍ أجنبي لا يرحم. لكن الهوي رأوا أيضًا نضالهم من أجل الصين جزءًا من نضال وطني أوسع. لقد رأوا أن تعزيز مجتمعهم جانب من جوانب بناء صين أقوى في العصر الحديث.

وهذا بمثابة تذكير بأن المسلمين الصينيين لعبوا منذ فترة طويلة دورًا مهمًا في تاريخ البلاد. يعود وجودهم في الصين إلى مئات السنين، إلى العصور الوسطى. لقد كانت الصين موطناً لقبيلة الهوي لأجيال لا حصر لها، وكان إخلاصهم واضحاً في الوقت الذى كانت البلاد فيه تحت تهديد غير مسبوق.

كان الاستراتيجيون اليابانيون في ذلك الوقت على دراية أيضًا بشعب الهوي. لقد أمضوا سنوات في مغازلة الزعماء المسلمين في الصين بوعودهم بالحكم المستقل تحت رعاية اليابان. ومع ذلك، رفض جنرالات وزعماء الهوي هذه التطورات، واختاروا البقاء مخلصين لوطنهم. إن إلقاء نظرة فاحصة على تاريخ وفكر الهوي يكشف أن هذا الولاء يتجاوز بكثير القومية البسيطة أو الراحة اللحظية في أوقات الحرب.

وربما كانت المقاومة المناهضة لليابان هي الحدث الأكثر تكويناً في الذاكرة الوطنية الصينية. ارتكزت مشاركة الهوي فيها على فلسفات التعايش والبقاء والوئام الاجتماعي التي تعود إلى قرون مضت وساعدت في ترسيخ وجود الهوي الدائم في الصين. تشكلت هذه الفلسفات من خلال مجموعة واسعة من التأثيرات، بدءًا من الأفكار الروحية للفيلسوف المسلم الأندلسي والصوفي ابن عربي، وحتى الاتجاهات التحديثية للنهضة الإسلامية التي اجتاحت أواخر الإمبراطورية العثمانية.

وظّف زعماء الهوي هذه الأفكار للمساعدة في تحديد التقدم الديني والمجتمعي من خلال حب   الوطن، في هذه الحالة الصين، وخاصة خلال الحرب مع اليابان. وقد نجح هؤلاء القادة، أو "آه هونغ" (من الكلمة الفارسية "أخوند"، وهو تكريم إسلامي علمي)، في حشد الدعم للمقاومة المناهضة لليابان من خلال تأطيرها بمصطلحات تتجاوز مجرد الحفاظ على الذات بشكل عملي. لقد أشاروا صراحة إلى المجهود الحربي ضد اليابان باعتباره "جهادًا" نبيلًا لحماية وطنهم وإرساء الأساس لوجود الهوي المستقبلي في الصين الحديثة. وتستمر هذه الهوية الصينية الإسلامية، المتجذرة بعمق في التاريخ والتقاليد الصينية، حتى يومنا هذا في مواجهة العداء المستمر من النظام الاستبدادي في بكين.

يغطي سكان الهوي المسلمون جميع مقاطعات ومناطق الصين. يمكن العثور على تركيزات عالية في مقاطعات قانسو ونينغشيا وتشينغهاي الشمالية الغربية. إن أصول وجود الهوي في الصين محل خلاف، لكن الرواية الأكثر شيوعًا، المدعومة بإجماع علمي كبير، هي أنهم ينحدرون من نسل مسلمين من آسيا الوسطى وبلاد فارس وما وراءهما الذين هاجروا شرقًا خلال عهد أسرة تانغ (618-907) ويوان (1279-1368). أُنشئت الأخيرة عندما تولى الإمبراطور المغولي كوبلاي خان (حفيد جنكيز) منصب أول حاكم أجنبي للصين. بحلول ذلك الوقت، كانت أعداد كبيرة من السكان المسلمين قد اندمجت بالفعل في مناطقهم الصينية من خلال الزواج المختلط. وسرعان ما أصبحوا يشاركون في جميع جوانب الحياة، بما في ذلك في أوقات الحرب.

ووفقاً لمؤرخ الإسلام الصيني ماتسوموتو ماسومي، كان على المفكرين المسلمين الذين وضعوا إطاراً لوجودهم في الصين أن يتعاملوا مع كيفية التوفيق بين الإخلاص الإسلامي لله والولاء تجاه إمبراطور غير مسلم. كانت الإمبراطورية الصينية تُحكم منذ عهد أسرة تشو القديمة (1046-256 قبل الميلاد) بموجب الإطار الكونفوشيوسي لـ "ولاية السماء". في هذا النظام، منحت السماء نفسها الحق في الحكم للإمبراطور، "ابن السماء". وهكذا كان الإمبراطور امتدادًا للألوهية. كان على المسلمين في الصين أن يوفقوا بين الإخلاص لله، الإله الحقيقي الواحد، والولاء للإمبراطور الذي كان يعتبر نفسه نصف إله حي.

واليوم، لا يواجه المسلمون الذين يعيشون كأقليات داخل الدول القومية العلمانية، بما في ذلك الديمقراطيات، تناقضات كبيرة بين كونهم مواطنين وممارسة الإسلام. إن اتباع قوانين بلد ما لا يشكل عادة أي تهديد خطير (مع بعض الاستثناءات التي يمكن مناقشتها في مجتمع مفتوح) للحفاظ على الولاء لله. لكن في الصين القديمة، ادعى الإمبراطور وجود بُعد خارق للطبيعة عزز موقعه الملكي فوق عامة الناس. لقد كان الممثل الوحيد للسماء، يحكم حسب تفويضها ونظامها. ويختلف هذا الإطار عن الإطار الإسلامي الذي يؤكد على إله واحد دون أنداد من أي نوع، ناهيك عن أنصاف الآلهة. وكان على علماء الدين المسلمين الصينيين أن يجدوا طريقة للتوفيق بين هاتين الرؤيتين.

وكما يشير ماسومي، فإن الإلهام لهذه المهمة جاء من مصدر بعيد جدًا عن الصين. منذ قرون مضت، تأثر المسلمون المهاجرون إلى الصين من آسيا الوسطى وخارجها بأفكار الفيلسوف المسلم في العصور الوسطى ابن عربي، الذي يشار إليه عادة باسم "محيي الإيمان". إن أفكار هذا المتصوف الأندلسي، بمفهومه الميتافيزيقي الشهير عن "وحدة الوجود"، من شأنها أن تساعد المسلمين في الصين على الحفاظ على علاقات جيدة مع جيرانهم غير المسلمين والولاء للحكام غير المسلمين، كل ذلك مع بقائهم مخلصين للإله الواحد.

ترى فلسفة"وحدة الوجود" عند ابن عربي أن كل الوجود والظواهر هي انبثاقات للوجود الأسمى والوحيد: الله. هو فقط يمتلك "الوجود في ذاته" والكائن الذي هو أيضًا جوهره. البشر وجميع الكائنات الحية الأخرى، من الملك إلى الفقير إلى الحيوانات، لا يمتلكون كائنًا مستقلاً. يعتمدون على الله في وجودهم. جميع الأفعال والظواهر تنبع من الله. فكل شيء في الكون، بحسب أحد الأوصاف، هو إذن "تجلي ووحي" وإعلان" لجوهر الله الإلهي.

وعند فهم هذه الدعوة إلى الوحدة وممارستها بشكل حقيقي، فلابد أن تعمل على تعزيز العلاقات الودية والتفاهم بين المسلمين وغير المسلمين ــ وهو نفس الشعور "بالانسجام" الذي يتجلى بشكل مركزي في قسم كبير من الفكر السياسي الصيني. بحلول القرن السابع عشر، استخدم علماء مسلمون مثل وانغ دايو، وليو تشي، وما تشو المصطلحات الكونفوشيوسية ليقولوا إنه وفقًا لوحدة الوجود، كان الإمبراطور الصيني، وكذلك النظام الذي يحكم من خلاله، مثل أي شيء آخر. ، مجرد انبثاق دنيوي آخر لله.

ووفقًا لماسومي، فإن هؤلاء العلماء المسلمين "اعترفوا بالسادة غير المسلمين، بما في ذلك ولاية السماء، على أنهم تدفقات من الله، واعتبروهم مؤتمنين على أنهم السلطة الحاكمة من الله". ومن خلال طاعة قواعد النظام الاجتماعي والانسجام ضمن ولاية السماء، كان المرء يحقق أيضًا إرادة الله في المجال الاجتماعي للصين الإمبراطورية. ومن ثم، فإن القول بأن تفويض الإمبراطور بالحكم جاء من السماء كان مجرد طريقة أخرى للقول أنه جزء من الله نفسه.

أصبح هذا معروفًا باسم "نظرية الإيمان المزدوج". فإذا عاش المسلم حياة طيبة تحت أمر السماء، فإنه كان أيضًا يحقق مطالب الله ويساهم في الوقت نفسه في التعايش والوئام في المجتمع الصيني. وقد وضعت فكرة الاستقرار هذه الأساس لما سيصبح شكلاً أكثر كثافة من قومية الهوي خلال الحرب العالمية الثانية، عندما شهدت ضغوط الحرب اختلاط الدعوات للدفاع عن الوطن بالدعوات إلى الحرب المقدسة.

انتهت ولاية السماء في عام 1911،عندما انهارت الإمبراطورية الصينية أخيرًا وظهرت القومية الحديثة مكانها. لقد أدى خليط من الاضطرابات السياسية والتدخل الأجنبي والاضطرابات الأيديولوجية الحديثة إلى هز النظام القديم الذي عاش في ظله المسلمون الصينيون لعدة قرون.

لقد ذهب الامبراطور. وتم تفكيك البيروقراطية التي كانت تدير الإمبراطورية. وسعت الإمبريالية الغربية والقومية الجمهورية والشيوعية وأمراء الحرب وغيرها من القوى إلى التفوق على بعضها البعض في الصراع من أجل الهيمنةكان على علماء وقادة الهوي، آه هونغ، أن يجدوا إطارًا جديدًا يمكن من خلاله متابعة مصالح مجتمعهم في خضم هذا التغيير الفوضوي.

وفي خطوة جعلت مستقبل مسلمي الهوي يعتمد على الولاء الدائم للصين، استبدل آل آه هونغ / قادة الهوي ببساطة الولاء لتفويض السماء بالولاء للدولة القومية المزدهرة في الصين. وفي هذا الإطار، فإن تعزيز المجتمعات الإسلامية لن يؤدي إلا إلى تغذية النهضة الوطنية للصين في عالم تهيمن عليه القوى الغربية. وقد عُرفت هذه الفترة بفترة "النهضة الإسلامية" في تاريخ الصين الحديث.

وسعيًا إلى استجابات مستنيرة إسلاميًا للتحديات الجديدة، سافر العديد من الأئمة إلى مصر والمملكة العربية السعودية خلال عشرينيات القرن العشرين، بما في ذلك جامعة الأزهر الشهيرة في القاهرة. وقد ساعدت هذه التجربة في تشكيل قوميتهم ووطنيتهم المتزايدة، لا سيما عندما استعاروا فكرة "حب الوطن من الإيمان" من القوميين المسلمين في مصر.

كانت القومية المصرية تنمو في أوائل القرن العشرين عندما بدأت الإمبراطورية العثمانية، التي كانت مصر ولاية تابعة لها لعدة قرون، في الانهيار. وكان المصلحون المسلمون في الجامعات المصرية الشهيرة مثل الأزهر وأماكن أخرى يصوغون أفكارهم الخاصة حول كيفية إعادة تشكيل العقيدة الإسلامية في مواجهة عالم سريع التغير. على وجه التحديد، في أعقاب الزحف الأوروبي، وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى (التي اتخذ فيها العثمانيون الجانب الخاسر)، ركز المثقفون المسلمون على كيفية جعل أوطانهم أقوى في عالم الدول القومية الجديد، ولكن من خلال عدسة الدولة القومية. "الصحوة الإسلامية" الخاصة بهم. لقد تم تأطير حب المرء لوطنه والدفاع عن استقلاله تدريجيًا باعتباره شيئًا قريبًا من جوهر الإيمان. هذا الخلط بين القومية والإسلام ذى الدوافع السياسية شق طريقه أيضًا إلى الصين من خلال كلمات هوي آه هونغ.

وفقًا لماسومي، كان العالم المسلم الصيني وانغ جينغزاي أول من قام بنشر مفهوم "حب الوطن من الإيمان" باللغة الصينية. وقد تمت ترجمته بشكل فضفاض إلى شعار "ai guo ai jiao" أو "حب الأمة، حب الإيمان"، وأصبحت دعوة منتشرة في كل مكان لحشد الوطنية الصينية من قبيلة الهوي. العبارة العربية، بحسب ماسومي، تم تصويرها بشكل خاطئ في هذه السنوات على أنها حديث صحيح - قول أو اقتداء بلنبي محمد - مما يمنحها مصداقية كتابية. وقد تكرر هذا الشعار في كثير من الأحيان خلال صلاة الجمعة، مما يدل على أن القادة المسلمين ينظرون إلى إحياءهم الديني باعتباره ركيزة ضرورية لنجاح الصين.

أصبح هذا الدافع القومي أقوى خلال حرب المقاومة ضد اليابان.. كان غزو الصين واحتلالها يعني أنه كان على قادة الهوي أن يضعوا أخلاق “ai guo ai jiao” موضع التنفيذ. وإذا أرادوا المساهمة، كان عليهم حشد شعوبهم. لذا، بمرور الوقت، تولد عنها: "ai guo ai jiao" "jiu guo jiu jiao" أو "أنقذ الأمة، أنقذ الإيمان". ومن وجهة نظر المسلمين الصينيين، لم تكن هذه مجرد حرب خلاص وطنية. كانت الصين موطن شعب هوي؛ وكانت مسؤولية الدفاع عنها ترقى إلى مستوى الحرب المقدسة أو "الجهاد".

وقام الأدباء المسلمون في الصين بنشر هذه الدعوة على نطاق واسع في مجتمعاتهم. ويشير ماسومي إلى أن هؤلاء القادة رأوا أن التحديات التي يواجهونها تنعكس في التحديات التي تواجهها المجتمعات الإسلامية في جميع أنحاء العالم الإسلامي، بما في ذلك مصر وغيرها من الأراضي العثمانية سابقًا. كانت هذه تحديات مثل السيطرة الأجنبية، وعدم الاستقرار السياسي، والإصلاح التعليمي، والبداية العامة للحداثة الصناعية. كما رأوا كيف أن الدوريات الإسلامية ــ مجلات مثل المنار، التي أسسها العالم محمد رشيد رضا، أو مجلة الأزهر التي تنشرها الجامعة المصرية الشهيرة ــ كانت بمثابة منصات لحجج وأفكار جديدة تتمحور حول الإصلاح.

وسرعان ما بدأ المسلمون الصينيون في إنشاء منشوراتهم الخاصة. بدأ انتشار عدد كبير من الدوريات، أحيانًا بالآلاف، خلال المجهود الحربي. ومن عام 1910 حتى عام 1949، تم طباعة وتوزيع أكثر من 60 دورية جديدة للمسلمين في الصين. لقد تطرقوا إلى موضوعات دينية مثل تفسير القرآن الكريم، لكنهم ركزوا أيضًا على دور المجتمعات المسلمة الصينية عندما يتعلق الأمر بموضوعات مجتمعية أكثر إلحاحًا مثل الحرب والتعليم وبناء الأمة.

وكانت المجلة الأبرز هي مجلة يو هوا، التي بدأت في عام 1929 كنشرة منتظمة لمدرسة تشنغدا العادية لشباب هوي. وتُظهر الدراسات المكثفة التي أجراها ماسومي حول المجلة أنه بعد عام 1931، اتخذت الدورية هيكلًا أكثر رسمية وأصبحت أقرب إلى منفذ فكري لوضع أجندة لمسلمي الصين. وكان هدفها الترويج للإسلام في الصين من خلال تعزيز هوية الهوي القوية القائمة على القومية والإصلاح، وبالتالي المساعدة في تحسين وضع الصين كأمة.

ومن غير المستغرب أن يصبح يوي هوا سريعًا منفذًا رئيسيًا للزعماء المسلمين في الصين لحشد الدعم للجهود المناهضة لليابان مثل الحرب المقدسة النبيلة “ai guo ai jiao” and “jiu guo jiu jiao” التي كان لا بد من تفعيلهما لحماية موطن الهوي. كتب شيويه وينبو، أحد قادة آه هونغ في مدرسة تشنغدا، كتب نصا شعريًا في عام 1938 بعنوان "Zhongguo Huizu Kangzhange" أو "أغنية مقاومة الهوي"،والذي يضع الجهاد الحربي في مصطلحات شعرية باعتباره التزامًا مقدسًا:

جياد العدو تشرب النهر الأصفر، والجهاد المقدس يرتفع في موجات غاضبة؛

شعب الهوي مليئون بالشجاعة، والحياة العبثية مخزية - من النبل القتال؛

أصبح هيكل العبادة الآن أرضًا محروقة، والنساء والأطفال الأبرياء ملطخون بالدماء.

لقد نجحت هذه الدفعة العاطفية من قبل أدباء الهوي لشعبهم لدعم المجهود الحربي. لقد جاء ليقابله مساهمات محورية في ساحة المعركة. كانت فرق كاملة من الجيش الصيني مكونة بشكل شبه حصري من المسلمين، بينما قاد جنرالات الهوي بعضًا من أهم المعارك في الحرب ضد اليابان.

بالنسبة للصين، بدأت الحرب العالمية الثانية قبل وقت طويل من سبتمبر 1939. وبحلول ذلك الوقت، كانت المقاومة الموحدة للغزو الياباني قد دخلت عامها الثالث بالفعل. وكانت الإمبراطورية اليابانية نفسها تنتهج استراتيجية فرق تسد في الأراضي الصينية الشاسعة منذ عام 1931. وكانت الفكرة تتلخص في تقسيم الصين المتعثرة في مرحلة ما بعد الإمبراطورية إلى مناطق وجيوب خاضعة، جميعها تابعة لطوكيو في نهاية المطاف.

وكان الجانب الرئيسي لهذه الرؤية هو تأجيج المشاعر المعادية للصين بين الأقليات في البلاد، بما في ذلك المسلمين. وفقًا للباحث الشهير في تاريخ هوي، وان لي، فإن معاملة الغزو الياباني للمسلمين الصينيين تنوعت طوال ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، بدءًا من العنف الصريح مثل مذبحة نانجينغ سيئة السمعة، حيث امتلأت المساجد بالجثث، إلى الحرمان الاقتصادي المنهجي والإذلال الناجم عن الإسلاموفوبيا، مثل فرك دهن الخنزير على جدران المساجد.

ولكن كانت هناك أيضًا استراتيجيات علنية لاستمالة مجتمعات الهوي وقادتها. وربما كانت المحاولة الأكثر طموحا لتقويض ولاء الهوي للصين هي الاقتراح المنسي الآن بإنشاء "دولة الهوي" المنفصلة في شمال غرب الصين ــ نظام سياسي مستقل لمسلمي الهوي، يدار في نهاية المطاف تحت رعاية وسيطرة اليابان.

ويضع وان هذه الإستراتيجية جنبًا إلى جنب مع نجاح اليابان في تنفيذ دولة مانشوكو العميلة في شمال شرق الصين، وهو النموذج الذي حاولوا تكراره في الغرب. وفي عام 1937، أنشأت اليابان أيضًا (في منطقة منغوليا الداخلية الحالية) "حكومة مينغجيانغ الفيدرالية المغولية"، وهي دولة عميلة بقيادة الأمير المغولي ديمشوجدونجروب.وكانت هناك أيضاً "الحكومة الوطنية" سيئة السمعة في نانجينج، وحكومة فيشي الصينية التي يرأسها رئيس وزراء جمهورية الصين الأسبق وانج جينجوي، أو مارشال بيتان في تاريخ الصين.

حاول الاستراتيجيون اليابانيون إقناع زعماء الهوي بالتخلي عن مقاطعة نينغشيا لتشكيل جزء كبير من الدولة الإسلامية المستقبلية، ووعدوهم بمستقبل غير مرتبط بأغلبية الهان. وضع اليابانيون أنظارهم أولاً على ما هونغ كوي، وهو جنرال من قبيلة الهوي شغل منصب حاكم نينغشيا في عهد حزب الكومينتانغ. كان ما هونغ كوي جزءًا من "جماعة ما" الشهيرة، وهي مجموعة كبيرة مكونة من ثلاث عائلات من مسلمي الهوي (جميعهم يستخدمون اللقب ما) والتي تشكل واحدة من أقوى عشائر أمراء الحرب في الصين في مرحلة ما بعد الإمبراطورية. كان والد ما هونغ كوي المؤثر، ما فوكسيانج، هو الذي قام بتمويل مجلة يو هوا في مدرسة تشنغدا هوي.

كانت جماعة ما مجرد مجموعة واحدة من أمراء الحرب من بين العديد من الإقطاعيات التي حكمت إقطاعيات مستقلة في سنوات الفوضى التي أعقبت الانهيار النهائي للصين الإمبراطورية. وتفككت الإمبراطورية الشاسعة بعد ذلك، حيث قام هؤلاء الحكام الإقليميون الأقوياء بإدارة جيوشهم المستقلة. وكان أمراء الحرب هؤلاء منظمين بشكل فضفاض في "مجموعات"، تتنافس كل منها على المنصب والسلطة بينما واجهت الصين الفشل ككيان متماسك. حكم أمراء الحرب من قبيلة (ما كليك ) المقاطعات الشمالية الغربية لنينغشيا وقانسو وتشينغهاي. "ما" هو الحرف الصيني الذي يستخدمه العديد من المسلمين في الصين كرمز لاسم محمد.

شكلت زمرة ما شريحة مهمة من المقاومة المناهضة لليابان، وكانت تابعة لقيادة الكومينتانغ. كان ما هونغ كوي أحد أهم جنرالاته. وفقًا لوان، دعاه المسؤولون اليابانيون في أكتوبر 1937 ليصبح رئيسًا لمجموعة تسيطر عليها اليابان تسمى جمعية شمال غرب هويجياو (جمعية دين شمال غرب هوي). رفض (ما هونغ كوي) وفي العام التالي، حاول المسؤولون اليابانيون إرسال أحد عملائهم الصينيين إلى نينغشيا لبيع ما على فكرة دولة الهوي. ولم يسمح الجنرال حتى للرسول بالدخول إلى نينغشيا. حاول اليابانيون أيضًا إقناع أحد أقارب ما، ما هونغ بين، وهو زميل من أمراء الحرب والجنرال، من خلال عرض عليه منصبًا في الدولة العميلة المستقبلية. وقد رفض عرضهم .

وهكذا توقف اليابانيون عن الجزرة الممدودة وتوجهوا إلى مزيد من الغزو. هاجموا مقاطعة سويوان في عام 1940، أسفل نينغشيا مباشرة. معركة غرب Suiyuan قادها كل من ما هونغ بن و ما هونغ كوي ، اللذين هزما اليابانيين في غضون أسابيع قليلة. وبعد شهر، تلقت الرؤية اليابانية لدولة الهوي ضربة قاضية عندما خسرت قواتهم معركة ويوان، الواقعة أيضًا في منطقة سوييوان. شكلت هذه الدفاعات الناجحة عن سويوان ونينغشيا حصنًا ضد أي خطط لبناء دولة إسلامية عميلة في الصين.

بسبب براعتهم في ساحة المعركة ضد الغزاة اليابانيين، أُطلق على ما هونغ بين وما هونغ كوي وجنرال آخر يُدعى ما فوبانج لقب "شي باي سان ما" أو "ماس الشمال الغربي الثلاثة".

وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية، استأنف حزب الكومينتانغ والحزب الشيوعي الصيني حربهما الأهلية، وانتصر الشيوعيون في عام 1949 لتأسيس جمهورية الصين الشعبية اليوم. وما تلا ذلك كان عقوداً من الفوضى، بما في ذلك المجاعة الجماعية، والإصلاحات الزراعية، والتعصب السياسي خلال الثورة الثقافية (1966-1976). ولقد نجت قبيلة الهوي من كل ذلك لتظل جزءًا مهمًا من النسيج الاجتماعي في الصين.

ومع ذلك، إلى جانب قمع الأويغور في غرب الصين، تواجه مجتمعات الهوي اليوم تحدياتها الخاصة في مواجهة بكين المتزايدة العداء. وعلى الرغم من أنهم لم يكونوا الهدف الرئيسي لحملة القمع التي شنتها الحكومة على الإسلام، إلا أنهم مع ذلك موضع شك كبير. ويتجلى هذا الشك الآن بشكل واضح وبأدلة مادية. وقد خلص تحليل أجرته صحيفة "فاينانشيال تايمز" لأكثر من 2300 مسجد في جميع أنحاء الصين إلى أن حوالي ثلاثة أرباعها إما جُردت من سماتها "غير الصينية" أو دمرت بالكامل.

وقد عدّ النظام الحالي الرمزية الإسلامية تهديدا للصين. ومع ذلك، فإن تاريخ تكامل الهوي كان تاريخ السعي إلى التعايش من خلال تبرير الولاء للقيادة الإمبراطورية والوطنية. لقد كان الوجود الإسلامي الصيني موجودًا منذ ألف عام تقريبًا، وهي فترة أطول بما لا مجال للمقارنة  بتاريخ وجود  الحزب الشيوعي الصيني. يتضمن هذا التاريخ التضحية بحياة الهوي خلال المقاومة ضد اليابان، حيث تم نشر الحجج الدينية بقوة من قبل القادة المسلمين الصينيين لتعزيز مشاركة الهوي ضد اليابانيين.

ويبدو أن كل هذا أصبح منسياً في الصين اليوم، حيث تحكم الأغلبية القومية العرقية. لم يمض وقت طويل حتى كان يُنظر إلى المجتمع الإسلامي القوي على أنه جزء مهم من بناء الأمة في الصين. والآن هناك موجة متزايدة من القمع تضع أغلبية الهان في الصين في مواجهة "الضواحي" المسلمة في البلاد، والتي يعد ولاؤها موضع شك. ويبدو أن مستقبل الأقليات المسلمة في الصين، بما في ذلك الهوي، غامضا على نحو متزايد. ولكن دروس الماضي القريب، المليئة بحلقات من ولائهم وتضحياتهم من أجل الصين، تظل واضحة لكل من يرغب في رؤيتها.

***

.........................

الكاتب: ستيفن تشو / Steven Zhou صحفي وكاتب مقيم في كندا.

رابط المقال على  New Lines  Magazine بتاريخ 29 مارس 2024:

https://newlinesmag.com/essays/how-hui-muslims-waged-holy-war-for-china-in-world-war-ii/

لعبت الثورات الملونة على مر التاريخ، دورا هاما في إحداث التغيير الاجتماعي والسياسي في جميع أنحاء العالم. وأحد أنواع الثورات التي اكتسبت الاهتمام في العقود الأخيرة هي الظاهرة المعروفة باسم الثورات الملونة. وقد لعبت هذه الانتفاضات اللاعنفية، والتي تتميز عادة باستخدامها للاحتجاجات السلمية والعصيان المدني، دورا فعالا في إسقاط الأنظمة القائمة وتعزيز الإصلاحات الديمقراطية في بعض البلدان.

تشمل أمثلة الثورات الملونة الثورة الوردية في جورجيا عام ، والثورة البرتقالية في أوكرانيا عام التي حدثت عامي ٢٠٠٣ و٢٠٠٤. وقد أثار نجاح الثورات الملونة مناقشات بين العلماء وصناع السياسات حول مدى فعاليتها وشرعيتها. والتأثير المحتمل على السياسة العالمية. ويرى البعض أن هذه الثورات أحدثت تغييرات إيجابية من خلال تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد في الدول الاستبدادية. ومع ذلك، أعرب آخرون عن مخاوفهم بشأن دور الجهات الخارجية، مثل الحكومات الأجنبية والمنظمات غير الحكومية، في التأثير على هذه الحركات ودعمها. ومن خلال دراسة الحالة الخاصة بالثورات الملونة والأدبيات العلمية حول هذا الموضوع، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل ديناميكيات هذه الانتفاضات وآثارها على مستقبل السياسة العالمية.

يشير مصطلح "الثورات الملونة" إلى سلسلة من الانتفاضات الشعبية التي شهدتها بلدان مختلفة حول العالم خلال العقود القليلة الماضية. وتتميز هذه الثورات بطبيعتها اللاعنفية واستخدام الاحتجاجات السلمية والعصيان المدني وغيرها من أشكال التعبئة الجماهيرية لتحقيق التغيير السياسي. وقد شاع مصطلح "الثورات الملونة" بين وسائل الإعلام والمحللين السياسيين لوصف هذه الحركات، التي غالبا ما تستخدم لونا محددا كرمز لأهدافها وغاياتها. وعادة ما تشتعل شرارة هذه الثورات نتيجة لعدم الرضا على نطاق واسع عن الفساد الحكومي، أو الحكم الاستبدادي، أو تزوير الانتخابات، أو انتهاكات حقوق الإنسان. غالبا ما تبدأ كاحتجاجات صغيرة النطاق، ولكنها سرعان ما تتصاعد إلى حركات أكبر وأكثر تنظيما تجتذب شريحة واسعة من المجتمع، بما في ذلك الطلاب والمثقفين والعمال والمهنيين من الطبقة المتوسطة. وقد لعب استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من أشكال التكنولوجيا دورا حاسما في نجاح هذه الحركات، مما سمح بالتواصل السريع والتنسيق وتعبئة المؤيدين.

ومن أشهر الأمثلة على الثورات الملونة "الثورة الوردية" في جورجيا عام ٢٠٠٣، و"الثورة البرتقالية" في أوكرانيا عام ٢٠٠٤، و"الثورة الخضراء" في إيران عام ٢٠٠٩. وأدت هذه الثورات إلى تغييرات سياسية كبيرة. في كل بلد، بدءاً من الإطاحة بالقادة السياسيين إلى إجراء انتخابات حرة ونزيهة. وفي حين لم تكن كل الثورات الملونة ناجحة في تحقيق أهدافها المعلنة، إلا أنها كانت بمثابة تذكير قوي بإمكانية الحركات الشعبية السلمية لإحداث التغيير حتى في البيئات السياسية الأكثر قمعية.

- ماهية الثورات الملونة وأهميتها في التاريخ السياسي الحديث.

الثورات الملونة هي سلسلة من الانتفاضات اللاعنفية التي حدثت في بلدان مختلفة حول العالم، وتتميز باستخدام لون معين كرمز للحركة. وقد لعبت هذه الثورات دورا هاما في تشكيل التاريخ السياسي الحديث من خلال إظهار قوة الاحتجاج السلمي والعصيان المدني في إحداث التغيير الديمقراطي.

اكتسب مفهوم الثورات الملونة مكانة بارزة لأول مرة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكانت الثورة البرتقالية في أوكرانيا عام ٢٠٠٤ واحدة من أبرز الأمثلة. وكان المقصود من استخدام اللون البرتقالي كرمز للحركة إيصال رسالة الوحدة والأمل، حيث خرج آلاف الأوكرانيين إلى الشوارع للمطالبة بإجراء انتخابات نزيهة وشفافة. وكان نجاح الثورة البرتقالية في إلغاء نتائج الانتخابات والبدء بعصر جديد من الديمقراطية سببا في إلهام حركات مماثلة في دول مثل جورجيا، وقيرغيزستان، وأرمينيا. وقد أظهرت الثورات الملونة أهميتها في التاريخ السياسي الحديث لأنها أظهرت أن التغيير يمكن تحقيقه من خلال الوسائل السلمية، دون اللجوء إلى العنف أو الصراع المسلح. ومن خلال حشد الاحتجاجات الجماهيرية والعصيان المدني، تمكنت هذه الحركات من تحدي الأنظمة القائمة، والمطالبة بإصلاحات سياسية، ومحاسبة الحكومات على أفعالها. ومن خلال قيامها بذلك، أظهرت قوة النشاط الشعبي في تشكيل مسار المستقبل السياسي للأمة. في عالم تشيع فيه الاضطرابات السياسية والاضطرابات، تعد الثورات الملونة مثالا لكيفية اجتماع المواطنين العاديين لإحداث تغيير إيجابي في مجتمعاتهم. ومن خلال تسخير قوة العمل الجماعي والمقاومة اللاعنفية، حققت هذه الحركات إصلاحات دائمة ومهدت الطريق لمزيد من الحريات السياسية وحقوق الإنسان. وعلى هذا النحو، تقف الثورات الملونة بمثابة شهادة على روح الديمقراطية الدائمة وقدرة الروح الإنسانية على الصمود في مواجهة الشدائد.

أمثلة على الثورات الملونة:

كانت هناك أمثلة عديدة للثورات الملونة عبر التاريخ والتي شكلت المشهد السياسي للبلدان في جميع أنحاء العالم. ومن بين الأمثلة الأكثر شهرة الثورة البرتقالية التي اندلعت في أوكرانيا في عام ٢٠٠٤. ففي أعقاب الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها، نزل الآلاف من الأوكرانيين إلى الشوارع للاحتجاج على النتائج والمطالبة بإعادة التصويت. وأدت الاحتجاجات السلمية في نهاية المطاف إلى إلغاء نتائج الانتخابات وانتخاب رئيس جديد.

ومن الأمثلة البارزة الأخرى الثورة الوردية في جورجيا في عام ٢٠٠٣. فبعد انتشار الاتهامات بتزوير الناخبين في الانتخابات البرلمانية، احتشد الجورجيون في احتجاجات سلمية أدت في النهاية إلى استقالة الرئيس وانتخاب حكومة جديدة ملتزمة بالإصلاح الديمقراطي. تعتبر الثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا عام ١٩٨٩ مثالاً آخر على الثورة الملونة الناجحة. أدت الاحتجاجات والإضرابات الجماهيرية إلى انهيار الحكومة الشيوعية والانتقال إلى نظام حكم ديمقراطي. تسلط هذه الأمثلة الضوء على قوة الاحتجاج اللاعنفي والحركات الشعبية في إحداث التغيير السياسي. ومن خلال تعبئة المواطنين والمطالبة بالمساءلة من حكوماتهم، أظهرت الثورات الملونة أن التغيير ممكن حتى في مواجهة الأنظمة الاستبدادية الراسخة.

- الثورة البرتقالية في أوكرانيا (٢٠٠٤)

كانت الثورة البرتقالية في أوكرانيا عام ٢٠٠٤ لحظة محورية في تاريخ البلاد، فضلاً عن كونها حدثاً مهماً في السياق الأوسع للثورات الملونة في جميع أنحاء العالم. بعد مزاعم بتزوير الانتخابات الرئاسية، نزل ملايين الأوكرانيين إلى الشوارع في عرض غير مسبوق للاحتجاج السلمي. ودعت الحركة، التي سميت على اسم لون حملة المرشح فيكتور يوشينكو، إلى إجراء انتخابات نزيهة وشفافة ووضع حد للفساد داخل الحكومة. استخدم المتظاهرون مجموعة متنوعة من الأساليب لإسماع أصواتهم، بما في ذلك المظاهرات الحاشدة والإضرابات والعصيان المدني. وقد بعث تصميمهم وصمودهم في مواجهة القمع والترهيب الحكومي برسالة قوية على الصعيدين المحلي والدولي. وفي نهاية المطاف، أسفرت جهودهم عن إعادة الانتخابات المتنازع عليها، والتي فاز بها يوشتشنكو، الأمر الذي عزز نجاح الثورة وأشعل الأمل في مستقبل أكثر ديمقراطية في أوكرانيا. تعد الثورة البرتقالية بمثابة مثال رئيسي على قدرة الحركات الشعبية على إحداث تغيير إيجابي في مواجهة الاستبداد والظلم. وانتشر تأثيرها في جميع أنحاء المنطقة، وألهم حركات مماثلة في دول مثل جورجيا، وقيرغيزستان، وبيلاروسيا. ومن خلال دراسة التكتيكات والاستراتيجيات التي يستخدمها المتظاهرون الأوكرانيون، يمكننا اكتساب رؤى قيمة حول قوة العمل الجماعي وأهمية دعم المبادئ الديمقراطية.

- الثورة الوردة في جورجيا (٢٠٠٣)

انت الثورة الوردية في جورجيا عام ٢٠٠٣ مثالا قويا للثورة الملونة التي أحدثت تغييرا سياسيا كبيرا في البلاد. وكانت الثورة، التي غذتها مزاعم الفساد، وتزوير الانتخابات، والانتهاكات الحكومية المنهجية، بقيادة جبهة موحدة من جماعات المجتمع المدني، والأحزاب السياسية المعارضة، والمواطنين المحبطين. وكان العامل المحفز للثورة هو الانتخابات البرلمانية المثيرة للجدل التي جرت في كانون الثاني ٢٠٠٣، والتي اعتبرت على نطاق واسع مزورة لصالح الحزب الحاكم. وعندما أُعلنت النتائج، اندلعت احتجاجات واسعة النطاق في جميع أنحاء البلاد، حيث نزل الآلاف من الجورجيين إلى الشوارع للمطالبة بإجراء انتخابات نزيهة وشفافة. وفي نهاية المطاف، أجبرت الاحتجاجات السلمية الرئيس إدوارد شيفرنادزه، الذي ظل في السلطة منذ عام ١٩٩٢، على الاستقالة. وخلفه، ظهر زعيم المعارضة الكاريزمية ميخائيل ساكاشفيلي رئيسا جديدا لجورجيا. وتحت قيادته، خضعت البلاد لإصلاحات ديمقراطية وتحديثية كبيرة، مما مهد الطريق لتوثيق العلاقات مع الغرب والانضمام في نهاية المطاف إلى عضوية حلف شمال الأطلسي. إن نجاح الثورة الوردية في جورجيا يشكل مثالا ساطعا لقوة الاحتجاج السلمي ونشاط المجتمع المدني في إحداث التغيير السياسي. كما يسلط الضوء على أهمية الوحدة بين قوى المعارضة، فضلا عن دور الدعم الدولي في تشكيل نتائج الثورات الملونة. إن الثورة الوردية في جورجيا، وفقا للمؤرخين الغربيين، تقف شاهدا على صمود وتصميم الشعب الجورجي في سعيه من أجل الديمقراطية والحرية. إنه بمثابة مصدر إلهام للبلدان الأخرى التي تواجه تحديات مماثلة وتذكيرا بالإمكانات التحويلية للحركات الشعبية في تشكيل مسار التاريخ.

يقال في الغرب أن الثورات الملونة أثبتت أداة قوية لتعزيز التغيير الديمقراطي في بلدان العالم. ومن خلال تسخير قوة التعبئة الجماهيرية، والاحتجاج السلمي، ووسائل الإعلام الاجتماعية، تمكن المواطنون العاديون من تحدي الأنظمة القمعية والمطالبة بمزيد من الحريات السياسية. إن أمثلة الثورة البرتقالية في أوكرانيا، والثورة الوردية في جورجيا، والثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا تثبت الإمكانات التحويلية لهذه الحركات. وبينما نواصل نشهد النضال المستمر من أجل الديمقراطية في الدول في جميع أنحاء العالم، فمن الضروري أن نعترف وندعم جهود أولئك الذين يناضلون من أجل الحرية والمساواة والعدالة. ومن خلال التعلم من نجاحات الثورات الملونة وتحدياتها، يمكننا العمل من أجل عالم أكثر عدلا وشمولا للجميع.

حقائق لا يمكن انكارها:

لقد اتى اسم الثورات الملونة وألوانها في الغرب.

تم تسويق الثورات الملونة اعلاميا في الغرب.

تم دعمها لوجستيا وماليا ومعلوماتيا من الغرب.

التقت رغبات الغرب في زعزعة استقرار بعد بلدان الكتلة الشرقية واختطافها ودمجها مع حلف الأطلسي مع رغبة المعارضة السياسية في هذه الدول بالسيطرة على الحكم والتشكيك في كل ما فعلته الأنظمة ونعت جميع خطوات الاصلاح بأنها لا تكفي.

كانت رغبة الغرب من اقامة الثورات الملون وادخالها إلى حلف الأطلسي هو منعها من العودة تحت أي ظرف نحو ما كانت عليه .

***

محمد عبد الكريم يوسف

..........................

المراجع

- Bunce, V., & McFaul, M. (2007). Democracy and autocracy in Eurasia: A framework for analysis. Cambridge University Press.

- Levitsky, S., & Way, L. A. (2010). Competitive Authoritarianism: Hybrid Regimes after the Cold War. Cambridge University Press.

- McFaul, Michael. (2006). "The Color Revolutions." Foreign Affairs.

- Bunce, Valerie. (2010). "Protest Waves in Authoritarian Settings: Colored Revolutions in Comparative Perspective." Perspectives on Politics.

- Chenoweth, Erica and Maria J. Stephan. (2011). "Why Civil Resistance Works: The Strategic Logic of Nonviolent Conflict." International Security.

- "The Role of Civil Society in Ukraine's Orange Revolution" by Taras Kuzio

- "The Orange Revolution: How Peaceful Protest Can Bring About Change" by Alexander Motyl

- "From Dictatorship to Democracy: A Conceptual Framework for Liberation" by Gene Sharp.

حفل نهاية الأسبوع الماضي بقرارات مهمة لمجلس النواب الأميركي، فبعد فوضى ونقاش مطول، ومشادات كلامية بين الجمهوريين والديمقراطيين أثناء التصويت على حزمة المساعدات لأوكرانيا، بسبب الأعلام الأوكرانية التي بدأ ممثلو الحزب الديمقراطي بالتلويح بها، وافق المجلس على مساعدات عسكرية جديدة لأوكرانيا، بقيمة 60.8 مليار دولار، وفي تصويت بين الحزبين، صوت 210 ديمقراطيين و101 جمهوري بنعم، بينما صوت 112 جمهوريًا ضده كما سمح بمصادرة الأصول الروسية، والتي يجب موافقة مجلس الشيوخ عليها، وبعد ذلك سيتم إرسالها إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن للتوقيع عليها، والسؤال هو ما الذي أقنع مجلس النواب باتخاذ قرار لصالح أوكرانيا؟ كيف يمكن أن ترد روسيا على مصادرة الأصول؟

وقالت شبكة "فوكس نيوز" إنه قرب نهاية التصويت، بدأ الديمقراطيون بالتلويح بالأعلام الأوكرانية، ولهذا السبب اتهمهم الجمهوري مارك مولينارو، الذي ترأس التصويت، بانتهاك البروتوكول،وأطلق اليساريون الهتافات عندما وصل توقيت التصويت إلى الصفر، وهو ما وبخهم مولينارو عليه، وقال إن التلويح بالأعلام مخالف للقواعد ووصفه بأنه "غير ملائم"، ورد عليه الديمقراطيون بالسخرية "، وأشارت إلى أن النائبة الجمهورية عن ولاية فلوريدا آنا بولينا لونا تقدمت إلى الميكروفون قائلة: "أنزلوا تلك الأعلام اللعينة"، مما أثار المزيد من ردود الفعل اللفظية من جانب الديمقراطيين.

وفي المجمل، ومنذ بداية العملية الروسية الخاصة، أرسلت الولايات المتحدة إلى أوكرانيا أسلحة ومعدات ومساعدات إنسانية وأنواع أخرى تبلغ قيمتها حوالي 111 مليار دولار، ومن إجمالي الحزمة الجديدة، سيتم استخدام حوالي 23 مليار دولار لتجديد الاحتياطيات العسكرية، و14 مليار دولار أخرى ستذهب إلى مبادرة المساعدة الأمنية لأوكرانيا، والتي بموجبها يشتري البنتاغون أنظمة أسلحة متقدمة للقوات المسلحة الأوكرانية مباشرة من مقاولي الدفاع الأميركيين .

كما سيتم تخصيص أكثر من 11 مليار دولار لتمويل العمليات العسكرية الأمريكية الحالية في المنطقة، وزيادة إمكانات القوات المسلحة الأوكرانية وتطوير التعاون بين المخابرات الأمريكية والأوكرانية، ويتم توفير حوالي 8 مليارات دولار أخرى للدعم غير العسكري، على سبيل المثال، مساعدة السلطات الأوكرانية في "الروتين"، بما في ذلك دفع الرواتب والمعاشات التقاعدية، ومن الجدير بالذكر أن 10 مليارات دولار من إجمالي الحزمة، تم تعريفها على أنها قرض قابل للسداد، تم ذلك لإقناع بعض الجمهوريين بقبول الوثيقة، وسينظر مجلس الشيوخ في مشروع القانون يوم الثلاثاء وسيجري عدة تصويتات أولية بعد الظهر، ومن المقرر أن تظهر النسخة النهائية للقانون بحلول نهاية الأسبوع المقبل، وسيتم إرسالها إلى رئيس البيت الأبيض للتوقيع عليها.

وقد حذر الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي مؤخرا، من أن بلاده "ستخسر الحرب" دون مساعدة الولايات المتحدة، وأعرب الآن عن امتنانه لجميع مؤيدي المساعدات لكييف "وشخصيا لرئيس مجلس النواب مايك جونسون على القرار الذي يبقي التاريخ على المسار الصحيح"، في حين قال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ إن الحزمة الجديدة تظهر "استمرار الدعم الحزبي" لكييف، وقال وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون إنه "بمثل هذا الدعم، تستطيع أوكرانيا أن تفوز، وسوف تفوز"، ومع ذلك، انتقد العديد من السياسيين الغربيين هذا القرار بشدة .

وفي المقابل هاجمت مارغوري تايلور غرين، المتشددة الجمهورية ضد كييف، جونسون على شبكات التواصل الاجتماعي، ووصفته بأنه "خائن" للولايات المتحدة، وأشارت إلى “أننا بحاجة إلى رئيس جديد لمجلس النواب”، بدورها قالت الجمهورية الأوكرانية فيكتوريا سبارتز، وهي من مواطني أوكرانيا، التي تعارض المساعدة أيضًا، "لا يوجد وعد بأمن الحدود الأمريكية في التصويت "، كما انتقدت حقيقة أن 13.8 مليار دولار فقط من إجمالي "الصندوق القذر" للمساعدات لأوكرانيا هي "نوع من المساعدة العسكرية المباشرة"، في حين أكد الملياردير الأمريكي المؤثر ديفيد ساكس، إن انهيار أوكرانيا لا يزال أمرا لا مفر منه، ويؤكد أن «61 مليار دولار هي الحد الأدنى للتخصيص السنوي للأموال في حرب جديدة لا نهاية لها»، واتفق معه إيلون ماسك، وقال: "إن خوفي الأكبر هو عدم وجود استراتيجية لإنهاء الصراع، فهي مجرد حرب لا نهاية لها".

وعلق الملياردير الأمريكي ديفيد ساكس على موافقة مجلس النواب الأمريكي على مشروع قانون حول تخصيص مساعدات إضافية لأوكرانيا، قائلا: "إن أوكرانيا ستنهار على كل حال"، وكتب على منصة "إكس": "مشاهد الاحتفال هذه ستبدو غبية بشكل خاص عندما تنهار أوكرانيا على أي حال، ويمكن للحكومة الفيدرالية طباعة المزيد من النقود، و(لكن) لا يمكنها ببساطة طباعة المزيد من قذائف المدفعية وصواريخ الدفاع الجوي"، وأضاف أن كييف ستحتاج إلى "ضخ نقدي سنوي ضخم" لمنع الهزيمة الكاملة، ولذلك فإن مبلغ 61 مليار دولار هو نقطة البداية للتخصيص السنوي للأموال "في حرب جديدة إلى الأبد"، وقال "انتبهوا إلى أن الحروب في العراق وأفغانستان بدأت أيضا بتمويل سنوي قدره 60 مليار دولار، وانتهت هذه الحروب بإنفاق تريليونات الدولارات".

أما في روسيا فقد أدانت السلطات الروسية بشدة المساعدات العسكرية الجديدة لكييف، وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، إن تخصيص المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا، يعد رعاية مباشرة للأنشطة الإرهابية، ووصف النائب الأول للممثل الدائم للاتحاد الروسي لدى الأمم المتحدة ديمتري بوليانسكي أوكرانيا بأنها "شركة عسكرية خاصة" مناهضة لروسيا، وقال إن الوضع لن يؤدي إلا إلى زيادة عدد الضحايا .

ووصف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف في قناته على تلغرام، القرار بأنه معادٍ للروس وتمنى للولايات المتحدة أن تغرق بسرعة في حرب أهلية جديدة، ستؤدي إلى انهيار البلاد، وأكد رئيس مجلس الدوما فياتشيسلاف فولودين من جانبه، إن الولايات المتحدة تجبر أوكرانيا على القتال حتى آخر أوكراني، وفي غضون ذلك كتب المدون الأوكراني المستقل أناتولي شاري، على قناته تلغرام، أن زيلينسكي قدم هذا باعتباره "نصرًا عظيمًا"، وأضاف: "الآن لن يتمكن زيلينسكي من القول: لقد خسرنا لأنكم لم تصوتوا"، فقد تم التصويت للحزمة الأخيرة قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية. ربما يكون الأخير.

ومع ذلك، أفادت رويترز، نقلاً عن مسؤول في البيت الأبيض لم يذكر اسمه، أن إدارة بايدن تضع اللمسات الأخيرة على حزمة المساعدات التالية لأوكرانيا حتى تتمكن من الإعلان عن شريحة جديدة من المساعدات بعد فترة وجيزة من أن يصبح مشروع القانون الحالي قانونًا، ومن الجدير بالذكر أن شرط إمدادات الأسلحة الجديدة إلى كييف من قبل دول الناتو كان اعتماد أوكرانيا لقانون صارم بشأن التعبئة لتعويض خسائر قواتها المسلحة، حسبما ذكرت تاس نقلاً عن مصدر دبلوماسي في بروكسل.

ووفقا للمراقبين فان الحزمة الجديدة لن تغير بشكل جذري مسار المنطقة العسكرية الشمالية أو عرقلة روسيا من تحقيق أهدافها النهائية لجميع الأهداف، فقد تم تخصيص المزيد من الأراضي لأوكرانيا منذ بداية المنطقة العسكرية الشمالية، لكن روسيا لا تزال تتقدم بثبات وتحرر المزيد والمزيد من الأراضي، وقال كونستانتين دولغوف، نائب رئيس لجنة مجلس الاتحاد للسياسة الاقتصادية، والنائب السابق للممثل الدائم للاتحاد الأوروبي، "لن يؤدي هذا إلا إلى إطالة أمد الصراع بشكل طفيف، والذي ستخسره أوكرانيا نفسها في المقام الأول، وسيظل مواطنوها في ساحة المعركة"، والجانب الثاني: لا شك أن جزءًا كبيرًا من هذه المساعدة سيبقى داخل الولايات المتحدة.

ولهذا السبب، دعم العديد من الجمهوريين هذه الحزمة في واقع الأمر، وهذه أوامر إضافية للمجمع الصناعي العسكري الأمريكي، للشركات الكبرى وموظفيها، الذين يحتاج الديمقراطيون إلى "تزويدهم" قبل الانتخابات الرئاسية من أجل محاولة إبقاء بايدن في منصبه، وسيتم "قطع" جزء من هذه المساعدة في واشنطن، والجزء الآخر في كييف، ولذلك من الناحية العملية، سيصل جزء صغير نسبيا إلى خط المواجهة، لكن في الواقع، لا يوجد شيء جيد في تخصيص المساعدة أيضًا، وهذا يظهر مرة أخرى أن الولايات المتحدة، تدعو إلى مزيد من المواجهة مع روسيا، ولهذا السبب على روسيا وكما يوضح دولغوف ان المساعدة مخصصة للعام ونصف العام المقبل، وقال وهذا يعني أنه خلال هذا الوقت تحتاج روسيا الى الإسراع في حل المهام العسكرية العملياتية في منطقة المنطقة العسكرية الشمالية، بطريقة تحييد تمامًا، تأثير توريد الأسلحة إلى القوات المسلحة لأوكرانيا.

أما بالنسبة للمصادرة المحتملة للأصول، فقد صوت مجلس النواب على مشروع قانون آخر، وهو سيسمح بمصادرة الأصول الروسية المجمدة في الولايات المتحدة لصالح أوكرانيا، والحديث هنا عن خمسة مليارات دولار، وصوت لصالح هذه المبادرة 360 عضوا في الكونجرس، فيما صوت 58 ضدها، وستكون الولايات المتحدة مسؤولة عن قرار مصادرة الممتلكات الروسية، وستتخذ موسكو إجراءات تلبي مصالحها دون حد زمني، كما وعد السكرتير الصحفي الرئاسي ديمتري بيسكوف، وقد اعتبرت موسكو هذه الخطوة بأنها لصوصية اقتصادية من جانب الولايات المتحدة، وقد تم بالفعل اتخاذ إجراءات انتقامية فيما يتعلق بأصول الشركات الأمريكية والغربية الأخرى في روسيا، وسترد موسكو بالتأكيد بشكل كاف وهادف، في حين أكد السيناتور "أحذركم: الأعمال الغربية بالتأكيد لن تستفيد من هذا الوضع".

والمتتبع للوضع الحالي، فإنه في كلا الحزبين الأمريكيين، الأغلبية في أيدي أشخاص يخشون أن التهديد بحدوث كارثة جيوسياسية يخيم بالفعل على أوكرانيا ونظام زيلينسكي، ولا يمكن الاحتفاظ بها إلا بدفعات جديدة، وبالإضافة إلى ذلك، فإن التهديد بحدوث كارثة جيوسياسية واسعة النطاق يلوح في الأفق فوق الولايات المتحدة على ثلاث جبهات، أوكرانيا، و"إسرائيل"، وتايوان، وأوضح فلاديمير فاسيلييف، كبير الباحثين في معهد الولايات المتحدة الأمريكية وكندا التابع لأكاديمية العلوم الروسية، أن هذا هو السبب وراء الجمع بين هذه الحالات لمنع مشاريع السياسة الخارجية لواشنطن من الانهيار، وفي هذه الحالة، أصبح الوضع السياسي الداخلي رهينة للسياسة الخارجية .

وإذا تمكنت الولايات المتحدة على الأقل من الحفاظ على موقفها أو تحسينه على الجبهات الثلاث، فإن ذلك سيمنح إدارة بايدن ورقة رابحة قوية للغاية في الانتخابات، وأن الديمقراطيين يعتزمون الانتقال مرة أخرى إلى البيت الأبيض هذا الخريف، ولهذا السبب لن يتخلى الغرب عن أوكرانيا، على الأقل ليس الآن، ولسنا متأكدين من وجود خطط لتقديم دعم هائل، أو محاولات لدفع القوات الروسية إلى العودة إلى داخل حدود أوكرانيا عام 1991، ولكن من الواضح أن ضخ الأموال النقدية سوف يستمر، بالإضافة إلى ذلك، يتعين على روسيا ان تكون مستعدة لتوسيع المشاركة الغربية في المواجهة مع روسيا، وأنه ليس من قبيل الصدفة أنهم يزيدون عدد المدربين العسكريين في أوكرانيا.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

تصريحات وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف لوسائل الاعلام الروسية، حملت الجديد من تطورات الازمة الأوكرانية، فقوله استعداد بلاده للمفاوضات حول أوكرانيا، كانت مشروطة بكلمة " لكن "، لتؤكد ان روسيا لن " تلدغ من ذات الجحر مرتين"، وهي تعني عدم وقف العمليات العسكرية خلال فترة المفاوضات، وانه وبحلول عام 2024، أصبحت الحقائق على الأرض "مختلفة بشكل كبير"، ومن المستحيل عدم أخذها بعين الاعتبار.

هذه التصريحات للوزير الروسي اعادتنا الى تلك المفاوضات التي جرت في إسطنبول عام 2022، واقدمت روسيا في حينها الى اتخاذ مبادرات منها الانسحاب من عدة مناطق كانت قد دخلتها القوات الروسية، " كمبادرة حسن النية " من روسيا تجاه هذه المفاوضات، لإنجاحها وتجنب إراقة الدماء على جبهات القتال، وتبين أن روسيا، وعلى عكس الولايات المتحدة، كانت وكما أوضح الوزير الروسي مستعدة لتزويد كييف بضمانات أمنية واسعة النطاق على غرار المادة الخامسة من معاهدة الناتو، وفي مثل هذه النتيجة، ستخسر أوكرانيا شبه جزيرة القرم و دونباس، وتصبح دولة محايدة عسكريا، لكنها ستحتفظ باقتصادها وسكانها.

ولوحظ أن الأطراف لم "تكرر حرفيا" نص وثيقة حلف شمال الأطلسي، لكن الدبلوماسيين تمكنوا من الاتفاق على "عدة صيغ مماثلة"، واتفق المفاوضون أيضًا على أن الضمانات الأمنية لن تؤثر على شبه جزيرة القرم و دونباس، ولا يمكن "المساس" بهذه الأراضي، وتضمنت المعاهدة التي نوقشت في إسطنبول أيضًا حظرًا على إنشاء قواعد عسكرية في أوكرانيا، بالإضافة إلى ذلك، تم فرض قيود على إجراء الدراسات مع دول ثالثة دون الحصول على موافقة مسبقة من جميع الدول الضامنة، ومع ذلك، وفي وقت لاحق، اقترح ممثلو مكتب زيلينسكي تعديلات على الوثيقة، وعلى وجه الخصوص، اقترحوا استبدال العبارة المتعلقة بموافقة جميع الضامنين بالأغلبية، وأضاف لافروف "لقد كانت مكالمة من هذا القبيل، إما أنهم كانوا قد حظروا بالفعل في الليلة السابقة، أو قال أحدهم: دعونا ننسف رؤوس هؤلاء الروس"، بالإضافة إلى ذلك، انتهكت القيادة الأوكرانية الحالية للبلاد مرارا وتكرارا الاتفاقات التي تم التوصل إليها، ولهذا السبب اليوم "ليس لديهم أمان".

وبالعودة الى اتفاقات إسطنبول، فمن الواضح أن هذه الاتفاقيات ستوفر لأوكرانيا شبكة واسعة من الدول الضامنة، وستتصرف روسيا والدول الرائدة في حلف شمال الأطلسي على هذا النحو، وقال فاديم كوزيولين، الخبير العسكري الذي يرأس مركز IAMP التابع للأكاديمية الدبلوماسية لوزارة خارجية الاتحاد الروسي: "بطبيعة الحال، فإن شروط ضمان حماية البلاد ستكون تجريد أوكرانيا من السلاح ووضعها المحايد"، وبعد الموافقة على النسخة الأولية، كان مكتب زيلينسكي سيضمن مستقبلًا سلميًا مع اقتصاد مستقر، ومن المحتمل أن تستمر مرافق الإنتاج الخاصة بها في عملها، ومع ذلك، بسبب تعنت أوكرانيا ورغبتها في إرضاء الغرب، رفضت الشروط المقترحة - واستمر الصراع.

ان مجرد مناقشة الضمانات المستندة إلى المادة الخامسة من معاهدة واشنطن، يدمر أسطورة خطط روسيا للاستيلاء على أوكرانيا أو تصفية دولتها، وكان هذا ملحوظًا أيضًا خلال المرحلة الأولى من العملية العسكرية الخاصة SVO ، واستخدمت موسكو وحدة صغيرة للغاية، وتجنبت توجيه ضربات إلى الأهداف المدنية، وكان أمام روسيا مهمة ثانية وهي إجبار المعارضين على التعايش السلمي، كما وافقت موسكو بالفعل على تقديم أوسع الضمانات الأمنية لأوكرانيا، كما يوضح عالم السياسة فلاديمير كورنيلوف، ومن نواحٍ عديدة، تجاوز هذا الخيار المادة الخامسة من ميثاق الناتو، وأضاف "بالطبع في المقابل طالبنا بنزع السلاح، وأوضح أنه كان من الممكن ضمان تحقيق المصالح المتبادلة حصرا بطريقة مماثلة وفقا له، وهذا يدحض مرة أخرى الأسطورة القائلة بأن "المعتدين الروس أرادوا الاستيلاء على أوكرانيا بأكملها".

"  أما اليوم ووفق المعطيات التي حدثت على الأرض، فهناك برزت متطلبات روسية أكثر صرامة، لذلك، حكم زيلينسكي نفسه على نفسه بموقف أسوأ بشكل واضح، بالإضافة إلى ذلك، لدى موسكو احتياجات جديدة، على سبيل المثال، توفير منطقة صحية بالقرب من مدينة بيلغورود الروسية، وإذا وافق مكتب زيلينسكي على شروط موسكو، فإن مئات الآلاف من الأوكرانيين المجندين في القوات المسلحة اليوم سيكونون على قيد الحياة، وسيبقى الملايين في منازلهم، كما وستبقى مناطق نوفوروسيا، باستثناء شبه جزيرة القرم وLPR وDNR، تحت سيطرة أوكرانيا، وبالإضافة إلى ذلك، ستحصل البلاد على ضمانات أمنية أكثر جدية من المادة الخامسة من ميثاق الناتو.

ومع ذلك، حتى في ذلك الوقت، والآن، هناك سؤال يطرح نفسه، حول مدى أهمية أوكرانيا كمفاوض، وكما هو معروف، لعب رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون دورًا نشطًا في فشل اتفاقيات اسطنبول، والذي بدلاً من دعم المفاوضات قال لزيلينسكي "دعونا نقاتل"، ولكن، كما تبين مؤخرا، لعبت الولايات المتحدة دورا لا يقل أهمية في هذه القضية، وفي الأسبوع الماضي، نشرت النسخة الرسمية لمجلة فورين أفيرز، مقالا بعنوان "المفاوضات التي يمكن أن تنهي الحرب في أوكرانيا"، ففيه يعترف المؤلفون فعلياً، بصواب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي تحدث عن الوثيقة التي وقع عليها الطرفان بالأحرف الأولى (وحتى أنه عرضها على السفراء الأجانب)، وتشير المجلة، الى انه وفي مرحلة ما "كاد الروس والأوكرانيون أن يضعوا اللمسات النهائية على اتفاق من شأنه أن يضع حداً للحرب ويزود أوكرانيا بضمانات أمنية متعددة الأطراف، ومن شأنه أن يمهد الطريق للبلاد إلى حيادها الدائم، وفي مستقبل العضوية في الاتحاد الأوروبي. ، ويعترف الأميركيون بحكم الأمر الواقع بأن روسيا أرادت بصدق حل المسألة من خلال الدبلوماسية.

إن مناقشة اتفاقيات اسطنبول، كانت بالفعل الخطوة الأخيرة لموسكو، من أجل منع المأساة الحالية مع آلاف الضحايا والدمار الهائل، وربما كان هذا طريقًا خاطئًا، بحسب نيكيتا ميندكوفيتش، رئيس النادي التحليلي الأوراسي، الذي قال " من الصعب إلقاء اللوم على حكومتنا لأنها حاولت حتى النهاية تجنب الأعمال العدائية الكبرى"، لأنه كان هناك مزاجاً آخر ساد في لندن وواشنطن ، ونقلت المجلة عن مسؤولًا أمريكيًا سابقًا، كان مشاركًا في أوكرانيا في ذلك الوقت، قوله إن الأوكرانيين لم يتشاوروا مع واشنطن قبل نشر بيان المفاوضات، وجاء في البيان أن الولايات المتحدة ستصبح إحدى الدول التي تضمن حياد أوكرانيا وسيادتها، وطبعا للوهلة الأولى، من الصعب تصور شيئا من هذا القبيل، نظرا لدرجة اعتماد أوكرانيا على الولايات المتحدة، ومع ذلك، يجب الافتراض أن زيلينسكي الخائف في بداية عام 2022 كان مستعدا لتسوية الأمر سلميا، وقد أراد التوصل إلى اتفاق في تلك اللحظة، وكان هناك سؤال حول بقاء النظام على هذا النحو وأوكرانيا كدولة بالشكل الذي تم تشكيله بعد عام 2014.

وبما ان المعاهدة لم تكن مربحة لواشنطن، ولم تكن الولايات المتحدة مستعدة لتزويد أوكرانيا بأي ضمانات صارمة سواء في ذلك الوقت أو الآن ولهذا السبب، وإن واشنطن تستبعد لنفسها مخاطر الصدام العسكري المباشر مع موسكو، وليس من قبيل الصدفة أن الولايات المتحدة هي واحدة من الدول الغربية القليلة التي لم توقع أي اتفاقية مع كييف بشأن التعاون طويل الأمد في مجال الأمن ، لذلك عطل الأميركيون مسار السلام ، وبدلاً من قبول بيان اسطنبول ودعم العملية الدبلوماسية اللاحقة، زاد الغرب المساعدات العسكرية لكييف وزاد الضغط على روسيا، بما في ذلك من خلال نظام العقوبات المتزايد باستمرار، وانتقلوا إلى محاولة سحق روسيا، من خلال إلحاق هزيمة استراتيجية بها، بما في ذلك في ساحة المعركة، ولم تفكر واشنطن في مصالح أوكرانيا، وكانت البلاد مهمة لأمريكا فقط وبشكل حصري كأداة للضغط على روسيا،

وبالنظر إلى هذه الحقائق، فإن الاتحاد الروسي لا يرى أي منطق في إجراء المفاوضات مع زيلينسكي، فهي، كما قال لافروف، لا معنى لها، فضلاً عن ذلك، فإن الإدارة الأوكرانية، المدللة بالاهتمام الغربي، والتي لا تخجل من إحساسها بأهميتها الذاتية، ما زالت عازمة على القتال حتى آخر أوكراني، والشيء الثاني هو المفاوضات المحتملة مع الولايات المتحدة، لكن واشنطن لم تظهر بعد استعدادها لبناء علاقات نظامية ومتساوية مع موسكو، لذلك، عندما يقول كاتبا المقال في مجلة فورين أفيرز إن أحد أسباب فشل عملية اسطنبول هو رغبة الأطراف في "وضع عربة نظام ما بعد الحرب أمام حصان إنهاء الحرب"، فهم مخطئون.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

الإرهاب لاحدود له، ومَن يظن أن أستراليا القارة البعيدة في مأمن من الإرهاب فهو خاطيء، وما يٌبرهن ذلك أن تنظيم داعش أستقطب عام 2012 أكثر من 230 شخص اكثرهم من الشباب واليوم الإرهاب يضرب أستراليا، مدينة سيدني من جديد، وهذا ما يثير الكثير من التساؤلات حول الأسباب والتداعيات.

شهدت مدينة سيدني عملية إرهابية داخل مجمع "ويستفيلد بوندي جانكشن" المزدحم يوم السبت 13 أبريل 2024، عملية طعن نفذها شخص بمفرده راح ضحيتها ثمانية أشخاص بينهم طفل رضيع إضافة الى عدد من الجرحى . وقالت السلطات إن الهجوم كان على الأرجح "مرتبطا بالصحة العقلية".

وبعد أيام من هذه العملية جاءت عملية إرهابية أخرى يوم 16 أبريل 2024، أي بعد ثلاثة أيام فقط، عندما هاجم شاب يبلغ من العمر خمسة عشر عاماً الأسقف في كنيسة المسيح الراعي الصالح في غرب سيدني في إحدى كنائس نيو ساوث ويلز. ومهما كانت الأسباب والدوافع، فإن مثل هذه الأعمال من شأنها أن تثير الكثير من المخاوف وتؤثر على أمن واستقرار المجتمع الأسترالي.

العمليات التي شهدتها أستراليا جاءت بالتزامن مع حالة التأهب الأمني حول العالم، حيث شهدت بعض عواصم أوروبا خلالها عدد من عمليات الطعن وبالتوازي مع العملية الإرهابية التي شهدتها موسكو يوم 24 مارس 2024 عندما نفذ أربع من مقاتلي تنظيم داعش ولاية خراسان أو المرتبطين به بتنفيذ عملية إرهابية واسعة في احد مجمعات التسوق الروسية راح ضحيتها أكثر من 140 شخص

وهنا يتوجب الإشارة إلى حقيقة وهي تأثير وترابط الحروب والنزاعات الدولية على واقع التطرف والإرهاب والأمن المجتمعي للشعوب. هنا نتحدث عن حرب أوكرانيا وحرب غزة، الصور المروعة  من غزة على سبيل المثال وحتى من أوكرانيا من شأنها أن تدفع الكثير من الشباب وحتى البالغين نحو التطرف والإرهاب لتنفيذ عمليات إرهابية.

الأمن المجتمعي في استراليا ليس بعيداً عن ما يحدث حول العالم من حروب ونزاعات، في زمن التواصل الاجتماعي والأنترنيت والعولمة، وهذا يعني أن الإرهاب والتطرف لايعرف الحدود ولا المسافات. الخطاب المتطرف عبر الأنترنيت وعبر المنصات وحتى عبر المنابر من شأنه أن يدفع الشباب نحو التطرف.

الأمن المجتمعي هو الأساس في أستراليا وكذلك لبقية الشعوب والمجتمعات، وهذا لايعني عسكرة الأمن ونشر الشرطة في الشوارع، بقدر ما تكون هناك سياسات تعمل على الدمج الاجتماعي والتكامل الاجتماعي وبالتوازي مع برامج  خاصة تعتمدها الحكومة والمنظمات المعنية لمنع التطرف ومعالجته، ناهيك عن ضرورة تبني برامج وتطبيقات نزع التطرف العنيف خاصة الى العناصر الخطرة أو الى العائدين من القتال بصفوف الجماعات المتطرفة.

استراليا معروفة بأنها بلد يضم العديد من الأصول والأعراق، وسياسات الحكومة الأسترالية في الغالب اعتمدت أساسا في برامجها وهو التكامل الاجتماعي وعمل البرامج وعقد المنتديات والمناسبات من قبل البلديات التي من شأنها تعمل على تعزيز المواطنة والأنتماء إلى هذا البلد.

***

علا بياض – رئيسة تحرير مجلة عرب استراليا

أدرج أدناه فقرات من مقالة قديمة نسبيا  العالم الاثاري الاسرائيلي زئيف هرتسوغ، ترجمها عن الانكليزية وارسلها لي الصديق ماجد علاوي وقبلها أسجل أن مضامين هذه النصوص خضعت لقراءات متعسفة وغير أمنية علميا من قبل بعض الباحثين العرب حيث وجد فيها القائلون بيمنية أو عسيرية التوراة حجة  ودليلا على فرضياتهم الفنطازية هذه  والتي تحتكم لنسخة عبثية من القراءة التأثيلية بعد ان تم تحويل علم التأثيل (الايتمولوجيا) والفيلولوجيا (علم النصوص القديمة وفقه اللغة) الى لعبة تشبه حل الكلمات المتقاطعة تتحول بموجبها قرية (آل شريم) السعودية في إقليم عسير وهواسم لفخذ من عشيرة معاصرة، الى أورشليم الفلسطينية الكنعانية كما فعل الراحل كمال الصليبي في كتابه "التوراة جاءت من جزيرة العرب". إن ما يرفضه هرتسزوغ هنا وقبله فنكاشتاين هو القصص التوراتي في نماذج محددة رئيسة ولا يرفض أبدا قصة بني إسرائيل ووجودهم في فترة محددة بفلسطين الكنعانية  القديمة وتحديدا في منطقة التلال الوسطى من فلسطين الكنعانية والتي كان يتجاذبها طرفا الهيمنة الجيوسياسية الدولية آنذاك وهما مصر والعراق القديم (بلاد ما بين نهرين). لنقرأ هذه الفقرات من مقالة هرتسزوغ " تدمير أسوار أريحا" مع التعليق عليها عند الضرورة:

* بعد 70 عاما من الحفريات المكثفة في أرض إسرائيل، اكتشف علماء الآثار: أن أعمال الآباء الأوائل أسطورية، لم يقيم الإسرائيليون في مصر أو يهاجروا، ولم يغزوا الأرض. لا يوجد أي ذكر لإمبراطورية داود وسليمان، ولا لمصدر الإيمان بإله إسرائيل. هذه الحقائق معروفة منذ سنوات، لكن إسرائيل شعب عنيد ولا أحد يريد أن يسمع عنها.

* لم يكن الإسرائيليون أبدا في مصر، ولم يتجولوا في الصحراء، ولم يغزوا الأرض في حملة عسكرية ولم ينقلوها إلى أسباط إسرائيل الإثني عشر. ربما يكون من الصعب تقبل حقيقة أن الملكية الموحدة لداود وسليمان، والتي يصفها الكتاب المقدس بأنها قوة إقليمية، كانت على الأكثر مملكة قبلية صغيرة.

(ملاحظة: ان الباحث لا ينبفي هنا وجود بني إسرائيل في فلسطين بل يقول انهم كانوا مجرد مملكة قبلية صغيرة (مشيخة) وليس قوة اقليمية كبيرة كما يبالغ الكتاب المقدس في وصفها. ع ل).

* وستكون صدمة غير سارة للكثيرين أن إله إسرائيل، يهوه، كان له قرينة (زوجة) أنثى وأن الديانة الإسرائيلية المبكرة تبنت التوحيد فقط في الفترة الأخيرة من نظام الملوك وليس في جبل سيناء.

(هنا أيضا نجد تأكيدا لكون الديانة اليهودية تطورت من الوثنية الكنعانية إلى التوحيد بالتدريج وظلت بعض آثار الوثنية فيها، ولم تكتمل توحيديتها إلا في بابل خلال الأسر المعروف.ع.ل).

* ومعظم أولئك الذين يشاركون في العمل العلمي في المجالات المتشابكة للكتاب المقدس وعلم الآثار وتاريخ الشعب اليهودي - والذين ذهبوا ذات مرة إلى الميدان بحثا عن دليل لتأكيد قصة الكتاب المقدس - يتفقون الآن على أن الأحداث التاريخية المتعلقة بمراحل ظهور الشعب اليهودي تختلف اختلافا جذريا عما ترويه تلك القصة.

* اختراع قصص الكتاب المقدس: تطور علم الآثار في فلسطين كعلم في وقت متأخر نسبيا، في أواخر القرن 19 وأوائل القرن 20. وكان المنقبون الأوائل في أريحا وشكيم (نابلس) باحثين متخصصين في الكتاب المقدس، وكانوا يبحثون عن بقايا المدن المذكورة في الكتاب المقدس.

الأزمة: وببطء، بدأت الشقوق تظهر في الصورة. ومن المفارقات أنه نشأ موقف بدأت فيه وفرة النتائج تقوض المصداقية التاريخية للأوصاف التوراتية بدلا من تعزيزها. ويتم الوصول إلى مرحلة الأزمة عندما تكون النظريات في إطار الأطروحة العامة غير قادرة على حل عدد متزايد من الحالات الشاذة. وتصبح التفسيرات ثقيلة وغير أنيقة، ولا تقفل القطع معا بسلاسة. وفيما يلي بعض الأمثلة على كيفية انهيار الصورة المتناغمة.

عصر الآباء: وجد الباحثون صعوبة في التوصل إلى اتفاق بشأن الفترة الأثرية التي تتطابق مع عصر الآباء. متى عاش إبراهيم وإسحاق ويعقوب؟ متى تم شراء مغارة مكبيلا (الحرم الإبراهيمي في الخليل) لتكون بمثابة مكان دفن للآباء والأمهات؟

* مع ذلك، لم يتم اكتشاف أي دليل يمكن أن يدعم هذا التسلسل الزمني. جادل أولبرايت في أوائل ستينيات القرن العشرين لصالح تعيين تجول إبراهيم إلى العصر البرونزي الأوسط (القرنين 22 و 20 قبل الميلاد). رفض آخرون تاريخية القصص واعتبروها أساطير الأجداد التي رويت في فترة مملكة يهودا. وعلى أي حال، بدأ توافق الآراء في الانهيار.

الخروج من مصر والتجوال في الصحراء وجبل سيناء: الوثائق المصرية العديدة التي لدينا لا تذكر وجود بني إسرائيل في مصر وتلتزم الصمت أيضا بشأن أحداث الخروج.

* الغزو: أحد الأحداث التشكيلية لشعب إسرائيل في التأريخ التوراتي هو قصة كيفية غزو الأرض من الكنعانيين. ومع ذلك، ظهرت صعوبات خطيرة للغاية على وجه التحديد في محاولات تحديد الأدلة الأثرية لهذه القصة.

* أثبتت الحفريات المتكررة التي قامت بها بعثات مختلفة في أريحا وعاي، المدينتان اللتان تم وصف غزوهما بأكبر قدر من التفصيل في سفر يشوع، أنها مخيبة للآمال للغاية. على الرغم من جهود المنقبين، ظهر أنه في أواخر القرن 13 قبل الميلاد، في نهاية العصر البرونزي المتأخر، لم تكن هناك مدن في أي من التلال، وبالطبع لم يكن من الممكن إسقاط الأسوار (التي لا وجود لها اصلا).

 وتبين أن الأماكن المعنية (التي ورد ذكرها في التوراة) ماتت أو تم التخلي عنها ببساطة في أوقات مختلفة، تم تعزيز الاستنتاج بأنه لا يوجد أساس واقعي للقصة التوراتية حول غزو القبائل الإسرائيلية في حملة عسكرية بقيادة يشوع.

المدن الكنعانية: يعظم الكتاب المقدس قوة وتحصينات المدن الكنعانية التي غزاها شعب إسرائيل، فإن الوصف التوراتي لا يتفق مع الواقع الجيوسياسي في فلسطين. كانت فلسطين تحت الحكم المصري حتى منتصف القرن 12 قبل الميلاد. وكانت المراكز الإدارية المصرية تقع في غزة ويافا وبيت شاان. كما تم اكتشاف اكتشافات مصرية في العديد من المواقع على جانبي نهر الأردن. لم يتم ذكر هذا الحضور اللافت للنظر في الرواية التوراتية، ومن الواضح أنه لم يكن معروفا للمؤلف ومحرريه.

* تتناقض الاكتشافات الأثرية بشكل صارخ مع الصورة التوراتية: لم تكن المدن الكنعانية "عظيمة"، ولم تكن محصنة ولم يكن بها "جدران عالية إلى السماء".

*هوية بني إسرائيل. إذا لم يكن هناك دليل على الخروج من مصر ورحلة الصحراء، وإذا كانت قصة الغزو العسكري للمدن الكنعانية المحصنة قد دحضها علم الآثار، فمن هم هؤلاء الإسرائيليون إذن؟ أكدت الاكتشافات الأثرية حقيقة مهمة: في أوائل العصر الحديدي وهي المرحلة التي تم تحديدها مع "فترة الاستيطان"، تم إنشاء مئات المستوطنات الصغيرة في منطقة التلال الوسطى، يسكنها مزارعون عملوا في الأرض أو قاموا بتربية الأغنام. إذا لم يأتوا من مصر، فما هو أصل هؤلاء المستوطنين؟ اقترح إسرائيل فينكلشتاين أن هؤلاء المستوطنين كانوا الرعاة الذين تجولوا في منطقة التلال هذه طوال العصر البرونزي المتأخر (تم العثور على قبور هؤلاء الأشخاص، بدون مستوطنات).

* ووفقا لإعادة بناء أواخر العصر البرونزي حافظ الرعاة على اقتصاد مقايضة اللحوم مقابل الحبوب مع سكان الوديان. ومع تفكك النظام الحضري والزراعي في الأراضي المنخفضة، اضطر البدو إلى إنتاج الحبوب الخاصة بهم، وبالتالي نشأ الحافز للمستوطنات الثابتة.

*تم ذكر اسم "إسرائيل" في وثيقة مصرية واحدة من فترة مرنبتاح، ملك مصر، يعود تاريخها إلى عام 1208 قبل الميلاد. يشير مرنبتاح إلى البلاد باسمها الكنعاني وتذكر العديد من مدن المملكة، إلى جانب مجموعة عرقية غير حضرية. وفقا لهذا الدليل، تم إعطاء مصطلح "إسرائيل" لإحدى المجموعات السكانية التي أقامت في كنعان في نهاية العصر البرونزي المتأخر، على ما يبدو في منطقة التلال الوسطى، في المنطقة التي ستنشأ فيها مملكة إسرائيل لاحقا.(كنت  تطرقت الى هذا الموضوع في مقالتي عن المقابلة بين فاضل الربيعي واشرف عزت قبل بضعة ايام ووثقت ان كلمة ازرايل في اللغة المصرية القديمة الميدونتروا كانت تعني مجموعة من الناس بلا وطن أي ربما كانوا من البدو الرحل).

مملكة لا اسم لها..الملكية الموحدة: كان علم الآثار أيضا المصدر الذي أحدث التحول فيما يتعلق بإعادة بناء الواقع في الفترة المعروفة باسم "الملكية الموحدة" لداود وسليمان. يصف الكتاب المقدس هذه الفترة بأنها ذروة القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية لشعب إسرائيل في العصور القديمة. وفي أعقاب فتوحات داود، امتدت إمبراطورية داود وسليمان من نهر الفرات إلى غزة. تظهر الاكتشافات الأثرية في العديد من المواقع أن مشاريع البناء المنسوبة إلى هذه الفترة كانت ضئيلة في نطاقها وقوتها.

تم حفر المدن الثلاث حاصور ومجدو وجازر، المذكورة بين مشاريع بناء سليمان، على نطاق واسع في الطبقات المناسبة. في جازر لم يكن هناك على ما يبدو سوى قلعة محاطة بجدار يغطي مساحة صغيرة.

ولم يتم العثور على بقايا المباني من فترة الملكية الموحدة، فقط عدد قليل من شظايا الفخار.

* من الواضح أن القدس في زمن داود وسليمان كانت مدينة صغيرة، ربما مع قلعة صغيرة للملك، ولكن على أي حال لم تكن عاصمة إمبراطورية كما هو موضح في الكتاب المقدس. وهذه المشيخة الصغيرة هي مصدر لقب "بيت داود" المذكور في النقوش الآرامية والمؤابية اللاحقة.

* كانت إسرائيل ويهودا منذ البداية مملكتين منفصلتين ومستقلتين، وفي بعض الأحيان كانتا في علاقة عدائية (الباحث هنا يرفض نظرية الملكة اليهودية الموحدة والتي انقسمت لاحقا الى مملكتين). وهكذا، فإن الملكية الموحدة العظيمة هي خلق تاريخي خيالي، تم تأليفها خلال فترة مملكة يهودا على ابعد تقدير. ولعل الدليل الأكثر حسما على ذلك هو حقيقة أننا لا نعرف اسم هذه المملكة!

يهوه وقرينته: كم عدد الآلهة، بالضبط، كان لدى إسرائيل؟ إلى الشكوك جانب في الجوانب التاريخية والسياسية، هناك أيضا شكوك حول مصداقية المعلومات حول الإيمان والعبادة. نشأ السؤال حول التاريخ الذي تم فيه تبني التوحيد من قبل مملكتي إسرائيل ويهودا مع اكتشاف نقوش باللغة العبرية القديمة تذكر زوجا من الآلهة: يهوه وعشيرة. وكان المؤلفون على دراية بزوج من الآلهة، يهوه وقرينته عشيرة.

ولكن في الوقت نفسه، نشهد ظاهرة مدهشة يتم فيها تجاهل كل هذا ببساطة من قبل الجمهور الإسرائيلي.

 * قبل حوالي عام، نشر زميلي، المؤرخ البروفيسور نداف نئمان، مقالا في قسم الثقافة والأدب في صحيفة هآرتس بعنوان "إزالة الكتاب المقدس من رف الكتب اليهودية"، ولكن لم يكن هناك احتجاج عام. أي محاولة للتشكيك في موثوقية الأوصاف التوراتية ينظر إليها على أنها محاولة لتقويض "حقنا التاريخي في الأرض" وتحطيم أسطورة الأمة التي تجدد مملكة إسرائيل القديمة. وتشكل هذه العناصر الرمزية عنصرا حاسما في بناء الهوية الإسرائيلية بحيث تواجه أي محاولة للتشكيك في صحتها العداء أو الصمت. ومن المثير للاهتمام أن مثل هذه الميول داخل المجتمع العلماني الإسرائيلي تسير جنبا إلى جنب مع النظرة المستقبلية بين الجماعات المسيحية المتعلمة.

* اتضح أن جزءا من المجتمع الإسرائيلي مستعد للاعتراف بالظلم الذي لحق بالسكان العرب في البلاد ومستعد لقبول مبدأ المساواة في الحقوق للمرأة - لكنه لا يصل إلى تبني الحقائق الأثرية التي تحطم الأسطورة التوراتية. يبدو أن الضربة التي تلقتها الأسس الأسطورية للهوية الإسرائيلية تشكل تهديدا كبيرا، ومن الأنسب التعامي عنها. (من الملفت للانتباه الجرأة والتي يكتب بها الباحثون في الكيان الى درجة الاستفزاز للمتدينين كالدعوة "لازالة  التوراة من رف الكتب اليهودية" بعد ان وجه علم الآثار ضربات مدمرة لتأريخيته وحولته الى كتاب أسطوري ليس إلا، والغريب أننا نجد من يقول هذا الكلام وينسف الرواية التوراتية يبقى متمسكا بتعبيرها السياسي متمثلا في الحركة الصهيونية ودولتها العنصرية القائمة على الاربارتهايد. وهذا بحد ذاته يؤكد ان الحركة الصهيونية ودولتها خرافة سياسي رجعية مستمرة بفعل القوة العسكرية والاحتيال  والتمويل الغربي لا غير. ع.ل).3753 خريطة

علاء اللامي

........................

الصورة: خريطة قديمة فلسطين باسم أرض كنعان في عهد الأباء ابراهيم واسحق ويعقوب... كما تسميهم التوراة.

* نشرت هذه المقالة ويبدو انها قديمة نسبيا في جريدة هارتس و أعيد نشرها سنة 2020/ النسخة الانكليزية وقد ترجمها الصديق ماجد علاوي ... فله الشكر الجزيل.

بعد أن ساعدت حركة حماس إسرائيل، بوعي أو بدون وعي، على تحقيق بعض أهدافها وأهمها الانقسام وفصل غزة عن الضفة وإبعاد الأنظار عما يجري في الضفة والقدس وإثارة الفتنة الداخلية وإضعاف منظمة التحرير، وبعد ستة أشهر من حرب الإبادة على كل القضية الوطنية وانكشاف عجز العالم عن كبح جماح الكيان الإرهابي وإجباره على وقف الحرب، وبعد انكشاف وهم محور المقاومة والأنظمة التي كانت تراهن عليها حماس كحلفاء استراتيجيين: تركيا وقطر وإيران، وانحيازهم لمصالحهم القومية ولو على حساب القضية الفلسطينية... فإن حركة حماس،ومعها الجهاد السلامي، تُصر على منح العدو مزيداً من الوقت لاستكمال حرب الإبادة باستمرارها بإطلاق الصواريخ من غزة وحديث قادتها في الخارج بأن المقاومة بخير ومستعدة للقتال لسنوات حتى تحقيق الانتصار!.

في بداية الحرب ومع نشوة (انتصار طوفان الأقصى) حددت حماس النصر الذي تسعى له بتحرير القدس والمسجد الأقصى، تبييض السجون، انسحاب العدو من كل القطاع ورفع الحصار وفتح المعابر وعن ميناء بحري. وإعادة الإعمار تحت اشرافها. مع اشتداد حرب الإبادة ومحدودية ردة فعل محور المقاومة الذي كانت تراهن عليه لتحقيق الانتصار العظيم والنهائي على دولة الكيان اليهودي، باتت قيادتها في الخارج تسعى لصفقة تبادل أسرى ودخول مساعدات إنسانية ووقف إطلاق النار. مع رفض الاحتلال لكل شروط ومطالب حماس لإنجاز صفقة هدنة ولو إنسانية بل وتعطيله المقصود للمفاوضات بهذا الشأن قلصت حماس شروطها لتقتصر على ما ذكر إسماعيل هنية، مع بدء جولة جديدة من المفاوضات في القاهرة 7/4، على انسحاب الجيش ووقف إطلاق النار وعودة سكان الشمال إلى بيوتهم، أي باتت مطالبها عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل مصيبة طوفان الأقصى مع ضمان استمرارها في حكم قطاع غزة، وكل ذلك مصحوباً باستمرار الحديث عن الإنجازات والانتصارات التي تحققها المقاومة وخصوصاً حركة حماس في الميدان.

والسؤال الذي يفرض نفسه ما معنى النصر أو الانتصار الذي كانت حركة حماس تتحدث عنه بعد كل حرب على غزة وتتحدث عنه الآن بعد كل هذا الخراب والدمار لغزة وأكثر من مائة ألف بين شهيد ومفقود ومثلهم من الجرحى؟ وعلى مَن ستنتصر؟ وهل استجابة العدو لشروط حماس الأخيرة يُعد انتصاراً؟

لا أحد يريد استمرار العدوان على غزة والجميع يريد وضع حد لحرب الإبادة، وبعد ذلك لكل حادث حديث، ولكن وبعد كل ما جرى أن تعتبر حركة حماس أن مجرد وقف حرب غزة وإعادة تمركز جيش الاحتلال إلى الأماكن التي كان فيها قبل 7 أكتوبر مع اجترائه لمناطق حدودية تحت مسمى مناطق عازلة، وحتى مع سماح العدو بعودة أعداد من المهجرين في الجنوب الى الشمال، أن تعتبر ذلك انتصاراً للمقاومة وإفشالاً لمخططات العدو فهذا ما لا يمكن السكوت عنه.

إن أخطر ما في المشهد أن حركة حماس باتت تتحدث عن وقف الحرب مع العدو في حالة وقف الحرب على غزة متناسية أن غزة ليست فلسطين وأن الصراع والحرب ليس ضد غزة فقط ولم يبدأ مع طوفان الأقصى بل ضد القضية الفلسطينية ومحاولة تصفيتها وما يجري في الضفة والقدس لا يقل خطورة عما يجري في غزة، ومجرد وقف حرب الإبادة على غزة لا يعني نهاية الحرب والصراع إلا إذا كانت حماس ترى في استقرار الأمر لها في القطاع نصراً ولا تريد أكثر من ذلك، أما القدس وبقية فلسطين فليس من اختصاصها و(للبيت رب يحميه). والأمر هنا لا يقتصر على حركة حماس بل نسمع من إيران وحزب الله والحوثي نفس الرأي فكلهم يقولون إن حربهم مع إسرائيل ستتوقف في حالة وقف الحرب على غزة! أما القدس والضفة وكل القضية الوطنية فخارج حساباتهم، وبعد مسرحية قصف إيران لإسرائيل قال المسؤولون الإيرانيون أنهم لا يريدون التصعيد وستتوقف المواجهة عند هذا الحد إن لم ترد إسرائيل!

لأن حركة حماس مصرة أنها حركة ربانية والربانيون لا يخطؤون لأن خطأهم من وجهة نظرهم تشكيك بالذات الإلهية، ومصرة أنها وحدها المقاومة وهزيمتها يعني هزيمة المقاومة وبالتالي ضياع فلسطين، فإن اعترافها بالخطأ غير وارد وستستمر بالمكابرة والمعاندة والحديث عن (إنما النصر صبر ساعة).

وفي حقيقة الأمر فإن معالم الانتصار الذي تسعى له بات واضحاً ومكشوفاً ولا علاقة له بتحرير فلسطين أو القدس ولا بإطلاق سراح الأسرى، النصر الذي تسعى لتحقيق حركة حماس ولو على أنقاض غزة وجثث آلاف الشهداء هو:

1- الانتصار على منظمة التحرير وتنصيب نفسها ممثلاً على ما تبقى من أرض وشعب. وهذا الهدف الرئيسي لقيامها منذ تأسيس المجمع الإسلامي في سبعينيات القرن الماضي.

2- الاحتفاظ بسلطتها في قطاع غزة حتى في ظل الاحتلال كما كان الأمر طوال السبعة عشر عاما الماضية.

ونعتقد أن العدو مستعد للقبول بهذا النصر لحماس بعد تطويعها حتى يحافظ على الانقسام وتعزيز الفتنة الداخلية، وهذان الهدفان ليسا جديدين بل كانا حاضرين منذ أن تأسس المجمع الإسلامي في السبعينيات ثم قيام حركة حماس في الثمانينيات من خارج منظمة التحرير الفلسطينية، آنذاك كثُرت التساؤلات حول سبب قيامها ومناهضتها لمنظمة التحرير وممارستها العمل السياسي والمقاوم بعيداً عن الإجماع الوطني، في الوقت الذي كانت فيه المنظمة محل تقدير واحترام وطني ودولي وتحقق إنجازات سياسية في المنظمات الدولية وعند الرأي العام العالمي وعدد الدول التي تعترف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً يفوق المائة دولة، وكانت إسرائيل وواشنطن يناصبان المنظمة العداء و يسعيان لتدميرها؟

لقد سبق وكتبنا مقالا تحت عنوان (حروب غزة خارج السياق الوطني) وبالفعل كانت، حيث كان للأجندة الخارجية وخصوصاً إيران دور فيها كما أنها حولت القضية من وطنية فلسطينية لقضية غزاوية، وقد أنجرت حركة حماس إلى لعبة الأمم في فلسطين والشرق الأوسط، وهي لعبة أو جملة مخططات تهدف لتصفية القضية الفلسطينية ومواجهة قوى التحرر العربي التقدمية وتدمير المشروع القومي العربي.

لقد زعمت حركة حماس أنها حررت قطاع غزة من الاحتلال الإسرائيلي بينما في حقيقة الأمر (حررت) القطاع من سيطرة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وليس من الاحتلال حيث استمر الاحتلال قائماً يضاف له الحصار، فهل إن (وحدة الساحات) وتشكيل (محور المقاومة) في مواجهة الاحتلال يتطلب نجاحه أولاً كسب المعركة في مواجهة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وحركة فتح؟ وهل تُغني هذه المحاور عن الوحدة الوطنية؟

والآن وبعد اتضاح محدودية ما يمكن أن يعمله محور المقاومة، وبعد أن قامت فصائل المقاومة في غزة بما تستطيع، وبعد كل هذا الخراب والدمار والموت الذي حرك العالم لنصرة الشعب الفلسطينية واستعادة حضور القضية دولياً، ما زالت الفرصة سانحة لتعيد حركة حماس حساباتها في المراهنة على الأجندة الخارجية، وتُعيد القيادة الفلسطينية أيضاً حساباتها في المراهنة على تسوية سياسية تقودها واشنطن، ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من غزة والقضية كلها.

***

د. إبراهيم ابراش

 

ظهرت  مؤخراً جماعة مِن قبيلة بني أسدٍ، تُطالب بإدارة العتبتين، الحُسينية والعباسيّة بكربلاء. تلا أحدهم رسالةً موجهةً إلى المرجعية، المشرفة عليهما، وهما كيان اقتصادي، وإداري مستقل عن الدَّولة، إذا لم يكن أكبر منها، إدارة ضريح الإمام الحُسين وأخيه العباس. ادعت الجماعة بوجود عقد شراء(العام 60-61هجرية) بين الحُسين وأجدادهم، سكان كربلاء، شُرعت لهم وفقه، القوامة على قبره، وبموجبه مِن حقّهم التّصرف بالأموال، التي تدر عليه نذوراً وهدايا. في ما سبق، الدّولة تشرف على تلك الأموال(قبل 2003)، وتُصرف على تعمير العتبات نفسها، وما يخص كربلاء. كانت ثياب العاملين، في عدّ الأموال، خالية مِن الجيوب، درءاً للسرقة، كواحدة مِن أساليب مكافحة الفساد، ليتها تشاع، وليكن بدل الجيوب الحسابات البنكية مثلاً.

يذكر بنو أسد أنّ لهم شرفَ دفن الحُسين، وفي كل عام بعد ثلاثة أيام مِن (10 محرم/عاشوراء)، تمثل مراسم الدّفن، ويحضر مَن يمثل بني أسد موشحاً بحمائل سيفه، ليشرف على الدّفن، بوجود الإمام علي بن الحُسين(ت: 94هجرية)، الذي ظل حياً مِن بين أعمامه وأخوته، وقصة المقتل تقول حال انتهاء المعركة حصل السّبي، وتم الترحيل إلى الكوفة، ومنها إلى الشّام، مع رؤوس القتلى، وفي زحمة هذه الروايات لا يُسأل: وكيف حضر زين العابدين، وتولى الدّفن بعد ثلاثة أيام؟!

مثلما لا أحداً يسأل كيف فكر الحُسين في اللَّحظة الحرجة شراء أرض، وتوقيع عقدٍ، وكيف يسمح له، ويسمح لسكان كربلاء بيع الأرض لعدو السُّلطة آنذاك، وهو، حسب قصة المقتل المقرؤة سنوياً، طلب العودة، مِن حيث أتى، والقوم حالوا دونه؟ صار المثيرون لهذه الأسئلة يرمون بالجهل، ففي الأجواء القاتمة القائمة، ينقلب الوهم حقيقةً، والحقيقة وهماً، «إذا قُلتُ المُحالَ رَفَعتُ صَوتي/وَإِن قُلتُ اليَقينَ أَطَلتُ هَمسي»(المعريّ، لزوم ما لا يلزم).

فعلى المشككين بالرّوايات، وسط كثافة الوهم، إطالة الهمس، فالسؤال يعني عدم اليقين، وعدم اليقين كارثة على صاحبه. فهل لك اليوم الاعتراض على ما ورد في كتاب «قصص العلماء»، وهو يروي لقاءات عشرات رجال الدِّين بالمهدي المنتظر، بعد غيابه بألف عام، وهل لك الاعتراض، في المجلس الذي يتحدث به قارئ المنبر عن عجائب المعجزات، مثل الأئمة خلقوا قبل آدم، أو هذا المستشفى وهذه المدينة يُديرهما صاحب الزّمان، ورئيس مؤسسة علمية كبرى، مِمَن اعتقدناهم محصنين، خرج متحدثاً عن كرامات أسرته! ما تقدم به الأسديون، لم يكن غريباً ولا عجيباً، فإذا مسوا الكنز المقدس، الذي يسمن كلما سمن الوهم، لم يبدعوا وهماً، وربّما كان عقد الحُسين معهم أرحم الأوهام، وأقل الرُّوايات عجائبيّة. غير أنَّ ما يمكن تسجيله لبني أسد، أنهم الأقل طائفيّة، والأقل طائفيّة هم الأكثر عراقيّة، والمقال لا يسع للتبسط بتاريخ عدم اكتراث زعمائهم بالطّائفيّة.

أُتهم أسديون بفاجعة شاعرين عظيمين، قتل علياء الأسدي الملك حجر والد امرئ القيس(جواد علي، المفصل)، وأنَّ فاتكاً الأسديّ قتل المتنبي(354هجرية)، بعد قدومه مِن فارس إلى بغداد(ابن الجوزيّ، المنتظم). مع أنَّ أبا الطّيب أثنى على بني أسد: «سِنانٌ في قناةِ بني مَعدٍ/ بني أسدٍ إذا دَعوا النّزالا»(العرف الطّيب). فإذا كان لهم ثأر فمع أبي نواس(ت: 195هجرية): لقوله: «قالوا ذَكَرتَ دِيارَ الحَيِّ مِن أَسَدٍ/ لا دَرَّ دَرُّكَ قُل لي مَن بَنو أَسَدِ»(ابن يدمر، الدُّر الفريد). إذا صح ارتكاب أسديين فاجعتي الضَّليل والمتنبي، فمَن لم يبتل باغتيال وقتل؟ وإن توهموا العقد مع الحُسين، فمَن لم يتاجر بالوهم؟! والإجابة مِن ابن بُرد(قتل:166هجرية) «إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى/ ظمئتَ وأي النَّاسِ تصفو مشاربه»(الحمويّ، معجم الأُدباء). في كل الأحوال، الأسديون ليسوا أول الواهمين!

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

 

يتعرض شعب إقليم كوردستان وقيادته الى هجمة إعلامية مبرمجة وموجهة من الخارج عبر محطات تلفزة وصحف ووكالات خبرية ممولة من أجهزة مخابرات أجنبية تستهدف الإقليم المزدهر، الذي كشف الغطاء عن الكم الهائل من فساد الأحزاب المهيمنة على مدن البؤس الجنوبية والوسطى من البلاد، حيث تنتشر الصراعات القبلية والفساد المريع وفقدان الأمن وسيطرة الأذرع الإيرانية من الميليشيات على مقدرات البلاد، حيث أسست دولة عميقة واستحوذت من خلالها على كل مصادر المال والجباية من المعابر الحدودية والموانئ وفرض الاتاوات والضرائب على الداخل والخارج، ناهيك عن شبكات المخدرات التي تنشر سرطانها بين الشبيبة وعمليات تهريب العملة من خلال واجهات مصرفية انهكت الاقتصاد العراقي ودمرت العملة الوطنية في بلد يصدر اكثر من خمسة ملايين برميل يوميا.

هذه الهجمة التي يتعرض لها شعب كوردستان المسالم أشاعت موجات من الأحقاد والكراهية، وشكلت خطرا كبيرا على النسيج الوطني والاجتماعي، بل وتسببت في فرض حصار اقتصادي ظالم على الإقليم بقطع حصته من الموازنة لخمس سنوات متتالية (2014- 2018) كما تم تخفيض نسبتها خارج الاتفاق المبرم من 17% الى اقل من 13%، وحرمان موظفي الإقليم من معاشاتهم لسنوات طويلة، ناهيك عن منع منتوجات الإقليم الزراعية والصناعية من الوصول الى الأسواق العراقية تارة بفرض الضرائب وتارة أخرى بالإتاوات او المنع المطلق، كما منعت حصته من الادوية والقروض الدولية ومن تعويضات ضحايا الانفال مقارنة بما خُصص لضحايا النظام السابق في الجنوب والوسط.

ورغم أن الإقليم يتصرف بحكمة وعقلانية باعتبار هذه التصرفات والحملات الدعائية العدوانية لا تمثل رأي عامة الشعب، بل هي في غالبيتها تقتصر على مجموعات من العنصريين والطائفيين وتجار الأزمات وبدعم من خارج الحدود الذي طالما يصدر أزماته الى العراق ومكوناته، هذه الهجمة المنظمة شجعت بل وفتحت طريقا لارتكاب حماقات مبررة بالقصص المفبركة والاتهامات الباطلة والتشويهات التي تنشرها وتبثها أجهزة دعاية هذه الأحزاب او الميليشيات، حيث شهدنا جميعا هجماتهم الصاروخية وطائراتهم المسيرة، والتي يزعمون فيها انها تستهدف مقرات إسرائيلية أو قواعد أمريكية في الإقليم حسب ادعاءاتهم التي دحضتها لجان تقصي الحقائق التي أرسلها البرلمان العراقي ومستشارية الأمن الوطني.

لقد أهمل الإقليم وحكومته كل هذه الادعاءات والهجمات بصبر وتأني، حفاظا على اللحمة الوطنية والاجتماعية والسلم الأهلي، لإدراكه بأنها لا تمثل الا أصحابها القلة الممولين من دولة اجنبية لأغراض تتعلق بمجالها الحيوي، ولا علاقة لها بالعراق وقضيته الوطنية، خاصة وان الخلافات مهما كانت معقدة مع الحكومة الاتحادية او مع الأحزاب الوطنية العراقية لا ترتقي إلى مستوى العدوانية التي تمثلها هذه الميليشيات او الأحزاب او بعض البرلمانيين لأهداف لا تخدم بالمطلق مصالح العراق العليا.

واليوم يمرُ العراق بواحدة من أدق مراحل حياته في منطقة ملتهبة عند حافات حرب عبثية تشعل اوارها مجموعات دينية وطائفية متطرفة تحت عباءة شعارات عاطفية انفعالية نتائجها بانت في بحر من الدمار والخراب الذي تعرضت له غزة، ودفع مئات الالاف من سكانها ثمناً باهضاً لتلك العنتريات الفارغة، والأنكى من كل ذلك أن ايران ومن خلال دعمها وتمويلها لتلك المجموعات بالأسلحة والعتاد والأموال دونما توريط عسكرها في أي عملية مواجهة حقيقية مع من تدعي مقاومته، نشرت بواكير حرب في كل من اليمن وسوريا والعراق ولبنان من خلال اذرعها الميليشاوية والتي تسببت في تدمير هذه البلدان وإشاعة الفتن والخراب فيها.

إن إقليم كوردستان المزدهر اثبت خلال أكثر من ثلاثة عقود بأنه كيان سياسي دستوري إيجابي اعتمد في علاقاته مع جيرانه على عدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام خيارات جيرانه  وتبادل المصالح بكل أنواعها الاقتصادية والاستثمارية والسياسية، بما يفيد الطرفين رغم ما تتركه التدخلات العسكرية التركية والإيرانية من آثار سلبية على تلك المصالح، الا أن الإقليم يصر دائما على الحوار والحل السلمي بديلا عن العنف بين الدولتين ومعارضيهما، كما انه نجح في أن يكون واحة لكل العراقيين على مختلف مشاربهم ومكوناتهم في تعايش سلمي قل نظيره اليوم في المنطقة عموماً، ناهيك عن استقباله لأكثر من مليون نازح عراقي ولاجئ من ايران وسوريا وتركيا، حيث يشعر الجميع بالأمن والسلام تحت سيادة القانون.

انهم يريدون اشعال المنطقة في حروب عبثية لتحقيق مجال حيوي لمشروعهم السلطوي، بينما ينشد شعب العراق عامة وكوردستان خاصة السلام والبناء لتعويض ما فاتهما من فرص ذهبية ذهبت ادراج عواصف حروب الدكتاتوريات والأنظمة الشمولية طيلة أكثر من ستين عاما، وقد اثبتت الاحداث وصفحات التاريخ انه ليست هناك عداوة بين الشعوب، بل هناك أفراد وأحزاب وأنظمة تعادي بعضها!

***

كفاح محمود

 

تعتبر أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 على نطاق واسع واحدة من أكثر المواجهات حدة في عصر الحرب الباردة، مما دفع العالم إلى شفا حرب نووية. تكشفت هذه الأزمة على مدى فترة متوترة دامت ثلاثة عشر يوما في تشرين الأول عام 1962، عندما اكتشفت الولايات المتحدة أن الاتحاد السوفييتي كان يزرع صواريخ نووية في كوبا، على بعد 90 ميلا فقط من ساحل فلوريدا. سيقدم هذا المقال لمحة شاملة عن القصة الكاملة لأزمة الصواريخ الكوبية، مع دراسة السياق التاريخي والشخصيات الرئيسية وتأثير هذا الحدث الحاسم.

حدثت أزمة الصواريخ الكوبية على خلفية العداء طويل الأمد بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، المعروف باسم الحرب الباردة. انخرطت القوتان العظميان في منافسة مريرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث تسعى كل منهما إلى توسيع مجال نفوذها وتعزيز أيديولوجياتها السياسية. أقام الاتحاد السوفييتي علاقة وثيقة مع كوبا في أعقاب الثورة الكوبية عام 1959، بقيادة فيدل كاسترو، الذي تحالف مع الكتلة الشيوعية.

لعبت العديد من الشخصيات الرئيسية أدوارا حاسمة خلال أزمة الصواريخ الكوبية. كان الرئيس جون ف. كينيدي رئيس الولايات المتحدة ورئيس وزراء الاتحاد السوفييتي نيكيتا خروتشوف صانعي القرار الأساسيين على كل جانب. غالبًا ما يُنسب الفضل إلى قيادة كينيدي الهادئة والثابتة خلال الأزمة، إلى جانب استعداده للانخراط في مفاوضات دبلوماسية، في منع نشوب حرب نووية. من ناحية أخرى، كان خروتشوف عدوانيًا في البداية في نشر الصواريخ في كوبا، لكنه تراجع في النهاية في مواجهة الضغوط المتزايدة من الولايات المتحدة.

كان لأزمة الصواريخ الكوبية تأثير دائم على السياسة والأمن العالميين. أدت تجربة الاقتراب من الحرب إلى فترة من الانفراج بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، حيث أدرك الجانبان مخاطر حافة الهاوية النووية. كما سلط الضوء على الحاجة إلى تحسين آليات الاتصال وإدارة الأزمات لمنع صراعات مماثلة في المستقبل. بالإضافة إلى ذلك، كان للأزمة آثار كبيرة على كوبا، حيث شعر كاسترو بالخيانة بسبب قرار السوفييت بسحب الصواريخ دون استشارته، مما أدى إلى توتر العلاقات بين الحليفين الشيوعيين.

ساهم العديد من الأفراد المؤثرين في فهمنا لأزمة الصواريخ الكوبية. لقد قدم المؤرخون مثل روبرت ف. كينيدي، الذي عمل كأقرب مستشار لأخيه خلال الأزمة، رؤى لا تقدر بثمن حول عملية صنع القرار والمفاوضات التي تجري وراء الكواليس. كما قام باحثون مثل جراهام أليسون بتحليل الأزمة من خلال عدسة نظرية اللعبة، موضحين كيف يمكن للجهات الفاعلة العقلانية أن تقود إلى حافة الكارثة في المواقف عالية المخاطر.

وبالنظر إلى المستقبل، فإن الدروس المستفادة من أزمة الصواريخ الكوبية تظل ذات أهمية في عالم اليوم، حيث لا يزال الانتشار النووي والصراعات الإقليمية يشكل تهديداً للأمن العالمي. إن الحاجة إلى التواصل المفتوح والمشاركة الدبلوماسية والالتزام بتجنب التصعيد في المواقف المتوترة لا تقل أهمية الآن عن ما كانت عليه في عام 1962. ومن خلال دراسة القصة الكاملة لأزمة الصواريخ الكوبية، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل تعقيدات العلاقات الدولية والعمل. نحو مستقبل أكثر سلاما واستقرارا.

في الختام، كانت أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962 بمثابة لحظة فاصلة في تاريخ الحرب الباردة، وكانت لها آثار بعيدة المدى على الأمن العالمي والدبلوماسية. من خلال دراسة السياق التاريخي والشخصيات الرئيسية والتأثير والأفراد المؤثرين المرتبطين بهذه الأزمة، نكتسب رؤى قيمة حول تعقيدات السياسة الدولية وأهمية إدارة الأزمات. وبينما نفكر في هذا الحدث الحاسم، يجب علينا أن نظل يقظين في جهودنا لمنع نشوب صراعات مماثلة وتعزيز الحلول السلمية لمواجهة تحديات المستقبل. وليست الأزمة الأوكرانية إلى ترجمة أخرى  لما حدث في أزمة الصواريخ الكوبية بفارق معكوس في الأدوار وهو اقتراب حلف الناتو غير المسموح به من العاصمة الروسية موسكو . هناك تغير في أدوار اللاعبين فقط.

***

محمد عبد الكريم يوسف

"شيء من تجارب الشعوب"

ان المعركة ضد الفساد تحتاج إلى "النضال الطويل والمكلف والمؤلم من أجل النجاح"، هكذا يرى برتراند دو سبيفيل صاحب كتاب "OVERCOMING CORRUPTION" الذي يعد مرجعا أساسيا في مجال محاربة الفساد؛ بمعنى آنه لا يمكن الحصول على نتائج ذات أهمية ناجعة ومثمرة دون " تحمّل وصبر" من مختلف المتدخلين خاصة المواطنين الذين يشكلون الضحية الأولى للفساد.

ويشبّه (دو سبيفيل) الفساد بالداء المزمن والمستفحل الذي يحتاج علاجه إلى تضحيات جسام ليس أقلها الصبر للعلاج الكيميائي، ويضيف بأن مكافحة الفساد تحتاج إلى ستراتيجية وطنية ذات أهداف واضحة وقابلة للتحقيق تتأسس على ثلاثة مرتكزات تسند بعضها بعضا هي " التحقيق والملاحقة، والوقاية " بشكل جاد جدا عبر تطوير المساطر والأنظمة، ثم تليها التربية والتوعية باعتبارهما ضروريتين لمحاربة الفساد لدى الأجيال الناشئة، وتغيير النظرة المجتمعية المتسامحة معه أو التي تجعل منه شرّا لا بد منه أو واقع حال يستحيل او يصعب زواله . 

ولدينا مثال عملي نقدمه للمعالجة هو دولة سنغافورة التي تعد انموذج الدولة الخالية من الفساد باعتمادها اجراءات بدأتها باستهداف قيادة الدولة حدد اهمها السيد "سوه كيى هيين" مدير مكتب التحقيق السنغافوري أيام حكم " لي كوان " لحالات الفساد، نورد اهمها في الاتي:

1- عدم السماح للمفسدين بالتمتع بما حصلوا عليه من مكاسب غير مشروعة أو تبييض أموالهم بأي شكل من الاشكال، وفضْحهم إعلامياً وشعبياً ونشر غسيلهم القذر من خلال جعل الناس تنظر لهم بوصفهم وصمة عارٍ على المجتمع .

2 - يفضي التعامل بجدية مع التقارير الخاصة بحالات الفساد الى جعل الناس يرصدونه بأنفسهم ويكشفون عنه إعلاميا وشعبيا وليس السلطة وحدها، ويفتح الطريق الى نجاحات متتالية في القضاء على الفساد والمفسدين .

3- لا توجد ممارسات الفساد معزولة عن غيرها، انما تتداخل مع نشاطات وممارسات مشبوهة اخرى .

4- ان الهدف من الاجراءات والوسائل الخاصة بمنع الفساد هو النظر اليه بانه ممارسة قذرة مدمرة للمجتمع تحفّ بها مخاطر كبيرة دون أي مكسب حتى ولو كان ضئيلا .

5- تهدف محاربة الفساد في الحكومة الى المحافظة على ان تكون الجهات المحاربة للفساد والمفسدين نظيفة تماما منه .

 6- تعدّ محاربة الفساد في القطاع الخاص ضرورة كبرى كما في القطاعات العامة لتأمين نظافة النشاطات الاقتصادية المتنوعة في الدولة.

7- الاسراع بتشكيل محكمة من قضاة مستقلين نزيهين تماما وتبدأ بمحاسبة الحيتان الكبيرة دون خوف او حرج، ويأخذ فيها كل فاسد ومفسد جزاءه بالعدل، وتسترد أمــوال الناس والوطن بكاملها دون تجزئتها أو تأجيل ردّها .

إضافة الى ما ذكرناه أعلاه فالمسؤولون السنغافوريون قد وضعوا خطةً محكمة لجلب المستثمرين وحمايتهم من خلال تسوية كافة الاجراءات التي يحتاجها المستثمر في مكان واحد فقط أي بمعنى ان تكون صيغ واجراءات الاستثمار تكتمل في بناية واحدة بدءا من تسجيل وإعداد خطط المشروع المزمع تنفيذه وتسجيله واحتساب ضرائبه وكل ما يتعلق به بدءا من تنفيذه وحتى اكتماله في مكان واحد وبناية معيّنة واحدة حتى تنجز الاجراءات تماما ويوجد به ممثل الشركات وممثلو كافة الوزارات والبنوك ومختلف المؤسسات ذات العلاقة باستثمار وانجاز المعاملات الكترونيا بحيث لا يضطر المستثمر بالانتقال من مكان الى اخر في اماكن متباعدة فيتعرض للابتزاز والاحتيال والمساومة ؛ بل تتم كافة معاملاته في نفس الموقع او البناية وتنجز كافة الخدمات في سقف زمني قصير وهذه تجربة رائدة حقا منذ تسعينات القرن الماضي... عسى ان يستفيد منها الساسة المعنيون ان خلصت نواياهم في بناء موطنهم .

ان اعتماد ما ورد في التجربة السنغافورية وما تقدمنا بها من معالجات سابقة يمكن صياغتها في برنامج عمل تتفق عليه القوى السياسية وممثلو المتظاهرين ومنظمات المجتمع المدني ..وبدونها تبقى التظاهرات لا تجدي نفعا،لأن الحكومة والبرلمان لن يستجيبا لمطالب المتظاهرين لسببين وهما : لشعورهم بالأمان في منطقة محصنة ومحمية بأكبر قوة من الدرك والقوات المسلحة التي قد تكون حامية للمفسدين .

 وثانيا لأن الغاء الرواتب التقاعدية غير السليمة واللامنصفة لا يتم الا بتشريع قضائي صارم مثل قانون رفحاء ومباذله عندنا في العراق وضخامة رواتب الساسة المسؤولين ممن كانوا في رأس السلطة وتقاعدوا الان حيث يجازون حاليا برواتب تقاعدية ذات أرقام فلكية.

وللتذكير أقول ؛ هناك حالةً سيكولوجية سائدة عندنا قد يغفل عنها البعض وهي: أن الفقير في غالب الاحيان اذا استغنى واستمكن واستوزر ونال جاهاً وحظوة ومركزا مرموقا انعدم ضميره وسال لعابه طمعا وجشعا وهذه سمة الكثير من ساستنا الان .

***

جواد غلوم

 

نغتنم فرصة زيارة رئيس مجلس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة المهندس محمد شياع السوداني لواشنطن والتقائه والوفد المرافق له بالقيادة الأمريكية، والتفاوض معها بشأن ملفات مهمة وساخنة، من بينها تفعيل اتفاقية الإطار الستراتيجي ودعم إصلاحات الحكومة الاقتصادية، لنطالبه بما طالبنا به، وغيرنا، الحكومات  العراقية المتعاقبة، وهو مطالبة الإدارة الأمريكية وربيبتها إسرائيل بتعويضات مالية لما سببتاه للعراق من تدمير وخراب وتلوث إشعاعي مميت، إنتهاكاً للقانون البيئي الدولي ولسيادة العراق.علماً بان تلك الجرائم لا تسقط بالتقادم..

وأدناه ما يفيد الوفد  في مطالبته بحق العراق هذا:

أولآ- قصف المقاتلات الإسرائيلية لموقع التويثة:

في 7 حزيران 1981 قام الطيران  العسكري الإسرائيلي بالهجوم على مركز هيئة الطاقة النووية العراقية في التويثة،مدمراً مفاعل تموز النووي ومختبرات علمية سلمية عن بكرة أبيها، قاتلآ مدنيين أبرياء، وملوثاً المنطقة وما حولها بإشعاعات خطيرة، هددت حياة المواطنين الذين كانوا يعيشون هناك، ولم تقتصر أضرار القصف على منطقة التويثة، بل وتعدتها الى مناطق المدائن وجسر ديالى ومعسكر الرشيد، وغيرها، والتي ومات المئات من سكانها بالسرطان.

علماً بان مجلس الأمن الدولي كان قد أصدر القرار رقم 487 الذي اعتمده بالإجماع في 19/6/ 1981، الخاص بالهجوم الإسرائيلي على مفاعل تموز النووي، والذي نص على أنه "من حق العراق الحصول على تعويضات عن الهجوم".وأدان المجلس بشدة الغارة العسكرية الإسرائيلية، وطالب إسرائيل بالامتناع في المستقبل عن القيام بأعمال من هذا النوع أو التهديد بها"..فلابد ان تحتفظ وزارة الخارجية العراقية بكافة الحيثيات.

ثانياً- تلويث البيئة العراقية بالسموم القاتلة:

إستخدمت القوات الأمريكية وحليفاتها في حربين مدمرتين على العراق، في عامي 1991 و 2003، أحدث أسلحة الدمار والفتك المصنعة من نفايات نووية خطيرة، سميت "اليورانيوم المنضب"،وهي تسمية خبيثة ليقولوا، وفعلآ قالوا، بأنها "ليست خطيرة" على البيئة والصحة.,وقصفت بها حتى المناطق السكنية المكتضة بالسكان، ونشرت الإشعاع الناجم عن إستخدامها في كافة أرجاء العراق، والذي سبب كوارث بيئية وصحية لا مثيل لها.

لقد قدر خبراء ومؤسسات مختصة كمية ما إستخدمته القوات الأمريكية وحليفاتها من ذخائر اليورانيوم على العراق بنحو 3000 طنا مترياً ، وهو ما يعادل 250 قنبلة ذرية من القنابل التي أُلقتها أمريكا على هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في الحرب العالمية الثانية.

وعدا أسلحة اليورانيوم إستخدمت القوات الأمريكية أسلحة الفسفور الأبيض المحرمة دولياً.

وخلفت قوات التحالف ضد العراق في الأراضي العراقية اكم هائل من المعدات الحربية المضروبة بقذائف اليورانيوم، وكذلك اَلاف القنابل والصواريخ غير المنفجرة،بالأضافة الى ملايين الألغام الأرضية.

وعدا هذا، خلفت وحدات الجيش الأمريكي في البيئة العراقية شتى الملوثات الخطرة، حيث جاء في تقرير دولي خاص بالبيئة العراقية، اصدره  فريق من الباحثين الاميركيين في "مركز دراسات الحرب" في نيوبورت بالولايات المتحدة، ونشرت صحيفة "USA Today"  مقتطفات منه في عام 2011، ان الغبار في العراق يحتوي على (37) نوعا من المعادن ذات الثأثير الخطير على الصحة العامة، فضلا عن  (147) نوعا مختلفا من البكتيريا والفطريات التي تساعد على نشر الأمراض[1]. وأكد خبراء بيئيون إن الجيش الاميركي لم ينقل معه عند رحيله من العراق مخلفاته الخطرة، وإنما طمرها في الأراضي العراقية [2].

وهكذا، تحولت البيئة العراقية الى إحدى اكثر بيئات المنطقة تلوثا من جراء الحروب ومخلفاتها،وأكد علماء البيئة ان تأثير استخدام ذخائر اليورانيوم والطائرات الحربية والدبابات والقذائف المضادة للدروع والقنابل الخاصة باختراق الملاجيء تسببت في آثار خطيرة على البيئة وعلى صحة وحياة العراقيين.

ثالثاً- -دراسات أثبتت إنتشار التلوث الإشعاعي الخطير

أثبتت دراسات علمية عراقية ودولية إنتشار التلوث الإشعاعي في أرجاء العراق، ومنها، على سبيل المثال:

1- في عام 1996 أُجريت دراسة تقييم المخاطر الصحية لمنطقة مكتظة بالسكان تبلغ مساحتها نحو 1200 كم2، وتشمل مدن صفوان والزبير وغرب البصرة، والتي تعرضت لجرعات إشعاعية عالية بسبب تلوث اليورانيوم المنضب. وأوضحت نتائجها أن أهم مصدر للتعرض الإشعاعي في منطقة الدراسة هو استنشاق هباء اليورانيوم المنضّب وأكاسيده خلال الأشهر الأولى من العمليات العسكرية لعام 1991. ووُجد أن قيمة الجرعات السنوية الفعالة الناتجة من هذا المسار بلغت 435 ملّي سيفَرت تعرّضت لها القوات المسلحة العراقية في هذه المنطقة، وقرابة 167 ملّي سيفَرت تعرّض لها السكان في مدينة صفوان. كما بلغ إجمالي الجرعة الفعالة السنوية التي تعرض لها السكان في مدينتي الزبير وغرب البصرة بحدود 268.6 ملّي سيفَرت[3].

2- في اَيار 2003 فحص الأمريكي سكوت بترسون بأجهزة حديثة وحساسة جداً دبابات عراقية مضروبة بذخيرة اليورانيوم المنضب في بغداد، ووجد تلوثها بالإشعاع بمستوى 1000 الى 10 اَلاف مرة عن الحد المسموح به دولياً [4].

3- في أيلول- تشرين الأول 2003 ،أي 5 أشهر عقب توقف العمليات العسكرية لغزو العراق، أجرى فريق علمي متخصص بالإشعاع والطب الذري، تابع لـ"مركز أبحاث طب اليورانيوم" (UMRC)[5]، دراسة إشعاعية ميدانية واسعة شملت بغداد وضواحيها وكافة مدن وسط وجنوب العراق الى أطراف البصرة.

وقد وجد الفريق العلمي برئاسة العالم الكندي تيد ويمان وعضوية العالم الألماني سيغفرت- هورست غونتر والعالم العراقي محمد الشيخلي والعالم الألماني شوط ، إنتشار الإشعاع في أرجاء العراق وبسمتويات تعدت المستوى المسموح به دوليا بـ 10- 30 ألف مرة. ووجد الإشعاع في الهواء والتربة وفي جثث الجنود المطمورة تحت الأنقاض وفي معمل ثلج وفي الأشجار،إضافة الى الدبابات والمدرعات والمركبات والمدافع والدشم التي قصفت بأسلحة اليورانيوم.وقد أصيب أثنان من العلماء بأعؤاض التلوث الإشعاعي الحاد رغم أنهما لم يمكثا بالمنطقة أكثر من إسبوعين[6][7][8].

4- في عام 2005، وجد المهندس خاجاك وارتانيان في مدينة البصرة أكثر من 100 موقعاً ملوثاً بإشعاع اليورانيوم المنضب، ضمت حديد سكراب لمعدات عسكرية مضروبة وذخائر حربية مستخدمة، وغيرها. وحذر بشدة من إحتمال إنتقال الأشعاعات الى المواطنين في مناطق أخرى عبر نقل وإستخدام السكراب[9].

5- أكدت صحيفة "بيبليت" الفرنسية بالأستناد الى خبراء ان كمية الذخيرة المشعة الملقاة من قبل القوات الاميركية على العراق تفوق تلك المرمية على هيروشيما في الحرب العالمية الثانية..ولفتت الصحيفة الى ان احتواء الاسلحة المستخدمة في العراق على اليورانيوم المنضب  سيؤدي الى  سقوط ضحايا حتى بعد 20 عاما من الهجمات[10].

6- خلفت الحرب أطلال من أكداس الحديد السكراب (الخردة)، التي هي عبارة عن بقايا آليات ومدرعات ومدافع ودبابات ومعدات عسكرية أخرى، مختلفة الأحجام، وقد تم قصفها بأسلحة اليورانيوم في حربي عامي 1991 و 2003، وكانت تنتشر في أرجاء العراق لسنوات عديدة،وتم جمعها في أماكن بعيدة عن المناطق السكنية، لكنها مكشوفة، فنقلت الرياح إشعاعاتها الى المناطق المجاورة وسكانها وتنفسوا جزيئاتها. وأكد العلماء ان تأثيراتها ليست محدودة في المناطق المنشرة فيها، وإنما تطال المناطق البعيدة عنها.

خلاصة القول: أحدث إستخدام أسلحة اليورانيوم تهديداً كبيراً للبيئة العراقية والسكان.ومرد التهديد هو التلوث الناتج عن استخدام تلك الاسلحة ذات السمية العالية وبكميات هائلة، وهي ذخائر مصنعة من نفايات نووية خطيرة، من أنواع اليورانيوم ومواد أخرى شديدة الإشعاع، يولد انفجارها في الهدف(الدبابة مثلآ) سحابة  في الهواء مكونة من ترليونات دقائق أوكاسيد اليورانيوم الصغيرة جداً، التي تنتقل للبشر عبر التنفس وتناول الأغذية الملوثة بها، فتدمر الجسم بكامله، وهي التي تصهر الحديد والصلب وتجعل جسم الإنسان متفحماً عند التأثير المباشر.

وثمة حقيقة معروفة وهي أثناء المعارك , وفي خضم ما يتعرض له المجتمع من معانات وخسائر , غالباً ما تنسى التأثيرات البيئية الناتجة من هذه المعارك , ولكن هذه التأثيرات ستبقى مستمرة لسنين بعد انتهاء المعارك [12].

رابعاً- أبرز تداعيات الحرب:

سبب إستخدام القوات الأمريكية وحليفاتها لأسلحة اليورانيوم المنضب والفوسفور الأبيض والسموم الأخرى إنتشار الملوثات والسموم الإشعاعية والكيميائية الخطيرة في أرجاء العراق، والتي سببت بدورها أضرار بيولوجية رهيبة، حيث أُصيب  أكثر من مليون و 200 ألف عراقي وعراقية بالسرطانات، وتوفي منهم أكثر من 300 ألفاً.عدا  ما سببه من مئات اَلاف الولادات الميتة والتشوهات الخلقية الرهيبة والإسقاطات المتكررة والعقم (حتى وسط الأسر التي أنجبت قبل الحر)، وغيرها من العلل المرضية العضال غير القابلة للعلاج.

ونشير الى بضعة أمثلة، يعرفها الأطباء جيداً:

* إرتفعت الأصابات السرطانية في البصرة 8 – 10 أضعاف، والتشوهات الخلقية- 23 ضعفاً.

* وفي الفلوجة يولد حتى يومنا هذا نحو 147 من بين كل ألف مولود جديد بعيوب ولادية شديدة.

* وفي بغداد أصيب نحو 800 ألف نسمة بالسرطان.وأوضح مصدر في وزارة الصحة بإن أغلب حالات السرطان التي يتم اكتشافها في مستشفيات بغداد تصيب أشخاصاً يسكنون أطراف العاصمة، ولا سيما الشرقية منها.وقد تم تسجيل مئات حالات الإصابة بالسرطان في الأشهر الأخيرة في بلدات جسر ديالى، والمدائن، ومعسكر الرشيد.وأن منطقة جسر ديالى القريبة من موقع التويثة تعاني من تدهور صحي خطير، وتسجل أعلى حالات الإصابة بالسرطان.وأكد عضو نقابة الأطباء العراقيين الدكتور محمود صالح إن الكوادر الصحية العراقية رصدت أكثر من 40 نوعاً من السرطان في بلدة جسر ديالى وحدها، مبيناً أن بقية مناطق شرق بغداد تشهد انتشارا لأنواع أخرى من السرطانات[13].

ولسوء الأوضاع البيئية حذرت وزارة البيئة من مخاطر التلوث البيئي على انخفاض متوسط عمر الإنسان العراقي. وقال وكيل الوزارة كمال حسين لوكالة " شفق نيوز" إن "متوسط عمر الإنسان في العراق وصل إلى 60 عاما وفق دراسات وبحوث أجرتها الوزارة منذ عام 2006، وهو بانخفاض مستمر.

على صعيد اَخر، أشار تقرير حديث للبنك الدولي بعنوان:" المناطق الملوثة جراء الحروب في العراق: معالجات تلوث الارض لاسترجاع الحياة فيها"، صدر  في كانون الثاني 2024، الى ان الخسائر والأضرار التي لحقت بالقطاع النفطي والزراعي والصناعي جراء الحروب المتعاقبة التي شهدها العراق، قُدِرت بنحو 3.5 تريليون دينار عراقي، مع تدمير 47% من مساحات الغابات الطبيعية في البلد وتلوث 2.4 مليون هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة بالألغام مما يحول دون سهولة استغلالها.

وشمل التقرير مناطق معينة تعرضت لأضرار الحرب في كل من محافظة بغداد والانبار وبابل وديالى وكركوك ونينوى وصلاح الدين. وأشار الى ان الحروب المتعاقبة كانت متميزة باستهدافها إلحاق اضرار بممتلكات البلد النفطية والصناعية. وقد سبب ذلك ليس فقط خسائر اقتصادية، بل وتلوث الهواء والأرض والتربة والمياه على نطاق واسع جدا لم يشهد له مثيل.

وحذر البنك الدولي انه من دون إجراء أي تدخل لمعالجة هذه المشاكل فانه من المتوقع ان يكون لتلوث الأرض عواقب و آثار طويلة الأمد على سلامة وصحة و معيشة مجاميع سكانية، مع عواقب شديدة على الفئات المتضررة من أبناء المجتمع الذين يستمرون بالتواجد في هذه المواقع الملوثة لأغراض زراعية وتربية الحيوانات وانشطة محلية أخرى. ويُقدرُ تعداد هذه المجاميع السكانية المعرضة لتبعات التلوث بنحو 3 ملايين نسمة من نازحين داخليين بضمنهم نساء وعوائل تعيلها نساء وأطفال وشباب.

وبالإضافة الى المناطق الملوثة في المحافظات التي شملها التقرير في وسط وشمالي العراق فان هناك بعض المناطق الملوثة الأخرى في جنوبي البلاد. ويتعلق الأمر أيضا بالأراضي الملوثة بالألغام والمخلفات الحربية المتفجرة[14].

خامساً- الأستناد الى مبادئ القانون البيئي الدولي:

يُعرفُ "القانون البيئي الدولي" بأنه:  مجموعة القواعد و مبادئ القانون الدولي العام التي تنظم نشاط الدول في مجال منع و تقليل الأضرار المختلفة، التي تنتج من مصادر مختلفة من المحيط البيئي أو خارج حدود السيادة الإقليمية.

أحد مبادئ القانون البيئي الدولي هو مبدأ "الملوث الدافع"، والمقصود به ان الموث ملزم بتنظيف ما لوثه. ويوضح أن كل شخص تسبب نشاطه بضرر بالبيئة أو يمكن أن يسبب في إلحاق الضرر البيئة، يتحمل بمقتضاه نفقات كل تدابير تنظيف العامل المسبب للضرر والوقاية من التلوث و التقليل منه و إعادة الأماكن و بيئتها إلى حالتها الأصلية.

وضمن القانون الدولي مبدأ التعويضات كالتزام ناتج عن ارتكاب دولة عملاَ ما غير مشروع إزاء دولة اخرى من اجل أصلاح ذلك الضرر من خلال التعويض المالي لذلك العمل اير المشروع[15].

وهكذا، وفقاً للقانون الدولي فان إسرائيل والقوات الأمريكية وحليفاتها ملزمة بدفع تعويضات عن الأضرار التي ألحقتها ببيئة العراق وشعبه.وكان لزاماً عليها ان تسلم العراق خرائط إستخدام الأسلحة، وكذلك الألغام الأرضية والسموم التي دفنتها في الأراضي العراقية.

سادساً- مطالبات لم تنفذ.. للعلم

لم يطالب النظام البعثي بحقوق العراق بالتعويضات بشأن قصف مفاعله النووي للأغراض السلمية رغم قرار مجلس الأمن السالف والذي إعتمده بالإجماع،والذي نص على أنه "من حق العراق الحصول على تعويضات عن الهجوم على مفاعله النووي".

ولم تكن ذرائع النظام المقبور مقبولة، بل وظل النظام البعثي يتستر على تداعيات العدوان بذريعة أنه " لا يريد إثارة الذعر" بين المواطنين، وكأنه كان " حريصاً" على حياة وصحة ونفسية العراقيين، وهو الذي خاض الحروب الداخلية والخارجية العبثية ضمن منطلق نهج التسلط والهيمنة. والكل يعلم أنه سكت عن المطالبة بحق العراق ليغطي على عاره وجبنه وعنجهياته الفارغة.

وإتخذت الحكومات المتعاقبة التي جاءت بعد سقوطه ذات الموقف،مع الفارق كثرة الكلام الخالي من الأفعال. فلم تتجرأ ولا واحدة منها على مطالبة إسرائيل بالتعويضات لقصفها مفاعل تموز، ولا من الإدارة الأمريكية وبريطانيا وغيرها لإستخداما الأسلحة المشعة في أعوام 1991 و 1998 و 2003 و 2004،فلوثت العراق بإشعاعات تعادل أشعاعات 250 قنبلة ذرية من قنابل هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين..

لكنه جرى كلام كثير من قبل العديد من المسؤولين، وأطلقت وعود عديدة في هذا المضمار، ولم تنفذ.

ففي عام 2005 أعلنت  د.مشكاة المؤمن وزيرة البيئة ان وزارتها  تسعى وبكل الوسائل الى رفع دعوى قضائية وجرمية على من تسبب في تلوث البيئة العراقية على مدى السنوات السابقة[16]. لكنها ليس فقط لم تف بذلك، وإنما تراجعت عن تصريحاتها بدرجة 180، معلنة أمام الجمعية الوطنية: "عدم وجود تلوث باليورانيوم المنضب في العراق"!!!.

من جهتها، وعدت وزيرة البيئة السيدة نرمين عثمان حسن بمقاضاة من لوث العراق باليورانيوم المنضب،ودعت في المنتدى الوزاري البيئي العالمي في دبي عام 2006 الى ضرورة محاسبة المتسببين للتلوث.وطالبت بإنشاء محكمة دولية لتحديد مسؤولية التلوث في العراق، من شركات وأفراد ومسؤولين محليين، الى حكومات أجنبية. ودعت الى وجوب تطبيق مبدأ" الملوث يجب ان يدفع الثمن" [17]..

وفي العام 2009أعلن عن بدء الإجراءات من جانب العراق بمطالبة اسرائيل بتعويضات عن تدمير مفاعل تموز النووي.وان الأمانة العامة لمجلس الوزراء بعثت بكتابها المرقم 1/2/100 في 25 / 11/ 2009 الى وزارة الخارجية، يتضمن موافقة رئيس الوزراء على قيام الخارجية بتحريك دعوى التعويض ضد اسرائيل.ً.

وفي عام 2010،أعلنت وزيرة حقوق الانسان المهندسة وجدان سالم بان وزارتها تستعد لرفع دعاوى قضائية الى المحكمة الجنائية لتعويض المتضررين من اليورانيوم المنضب، وقالت في ندوة نظمها "المركز العراقي للتنمية الاعلامية" أنه بعد استكمال التقارير ستقوم وزارتها برفع دعاوى في المحكمة الجنائية على الدول التي قامت بهذا الفعل وتعويض المتضررين منه [18]..

وفي عام 2014،دعا نواب من كتل مختلفة مجلس النواب والحكومة الى رفع دعوى قضائية ضد اسرائيل للحصول على تعويضات جراء قصفها مفاعل تموز النووي، وقتلها علماء وطيارين عراقيين[19].

وفي عام 2016،أعلن مجلس النواب نيته مقاضاة إسرائيل وإلزامها بدفع تعويضات مالية من جراء قصفها لمفاعل "تموز"، خاصة وأن المفاعل كان يخص عملية التنمية والتطوير في البلد[20].

وأكدت لجنة العلاقات الخارجية البرلمانية أن ملف قصف اسرائيل مفاعل تموز ما زال مفتوحاً حتى الآن، وأن "وزارة الخارجية تمتلك جميع حيثيات الملف [21].

وفي عام 2021،دعا القيادي في تحالف الفتح علي حسين الفتلاوي وزارة الخارجية العراقية بالتحرك وفتح تحقيق موسع بشأن تورط الجيش الأميركي باستخدام نحو 300 طن من صواريخ اليورانيوم المنضب ضد العراق.  وان الأدلة واضحة جدا حيث انتشار الأمراض السرطانية بشكل ملفت للنظر في مناطق الوسط والجنوب إضافة إلى انتشار الأمراض والأوبئة التي لم يكن العراق يعرفها من قبل".ودعى الحكومة إلى "التوجه للمجتمع الدولي والمنظمات الدولية الإنسانية والمحاكم الدولية لعرض جميع الحقائق والمعلومات واعترافات المسؤولين من كافة دول العالم".[22].

للأسف، كل ما مر ذكره لم يتحقق منه شيئاً.. فهل ستفعلها حكومة السوداني ؟

***

د. كاظم المقدادي

.......................

أكاديمي عراقي متقاعد، متخصص بالأضرار البيولوجية لأستخدام أسلحة اليورانيوم

 

أدانت الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان)، يوم 28 آذار / مارس 2024، المذبحة التي ارتكبتها شرطة باريس بحق تظاهرة سلمية جزائرية، يعود تاريخها الى يوم 17 تشرين الأول / أكتوبر 1961. وأصيب فيها نحو 200 شخص بين قتيل وجريح، ورُميت جثث بعضهم في نهر السين.

وندّد القرار بالقمع الدامي والقاتل بحق الجزائريين، ووضع المسؤولية على موريس بابون مدير الشرطة، الذي اتخذ قرار إطلاق النار على المتظاهرين. وخصّص القرار يومًا لإحياء ذكرى المذبحة ضمن جدول الأيام الوطنية والمراسم الرسمية.

تقدّم "حزب الخضر" بالمقترح، حسب وكالة الصحافة الفرنسية، وعارضه مجموعة من اليمينيين المتطرّفين. واعتبرت النائبة صابرينا صبايحي هذا التصويت تاريخيًا، ويشكل محطة أولية لإدانة هذه الجريمة الاستعمارية، التي قامت بها الدولة، ولعل بقاء الأمر دون حل يؤثر على العلاقات الجزائرية -  الفرنسية، حيث ظلت الجزائر تطالب بإدانة الجريمة والاعتذار الرسمي وتعويض الضحايا، وفقًا لمعايير العدالة الانتقالية، التي تقتضي كشف الحقيقة والمساءلة وتعويض الضحايا وجبر الضرر المادي والمعنوي وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية، وصولًا إلى المصالحة.

وجاء قرار الجمعية الوطنية بعد أسابيع قليلة من إعلان قصر الإليزيه، عن زياره الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى باريس ( أواخر أيلول / سبتمبر وبداية تشرين الأول / أكتوبر 2024).

الجدير بالذكر، أن الرئيس فرانسوا هولاند كرّم ضحايا القمع الدامي في العام 2012، الذين تظاهروا من أجل استقلال الجزائر، واعتبر الرئيس ايمانويل ماكرون، أن تلك الجرائم لا تغتفر، وأوعز إلى اتخاذ خطوات رمزية تهدف إلى تعزيز المصالحة، لكن ذلك لم يرضِ الجزائر، التي تطالب باعتذار صريح وواضح، وتحمّل مسؤولية ما حدث.

والعدالة الانتقالية، سواء على المستوى الوطني أو على المستوى الدولي، تعني كيفية استجابة الأطراف المعنية في المجتمع أو الدول على نطاق العلاقات الدولية، كما هي الحالة التي نحن بصددها، المتعلّقة بإرث الانتهاكات الجسيمة الصارخة لحقوق الإنسان، علمًا بأنها تطرح أسئلة في غاية الصعوبة عن مدى تشرّب الأطراف المعنيّة بالثقافة القانونية، وقناعتها بمدى تحقّق مبادئ العدالة والإنصاف، واستعدادها للوصول إلى كشف الحقيقة، وتحمّل مسؤوليتها، وخصوصًا ما ترتبه من تعويضات مادية ومعنوية، وبالتالي وضع حدّ لعدم تكرارها بإجراء إصلاحات دستورية وقانونية لضمان ذلك .

ولعل الاحتلال الفرنسي للجزائر، الذي دام 132 عامًا، ما يزال لا يريد مغادرة الذاكرة الجمعية، والأمر لا يتعلق فقط بمجزرة باريس، بل بمئات الآلاف من الضحايا، الذين ذهبوا ثمنًا للاستقلال، خصوصًا في ظلّ مماطلة وتسويف وعبارات عمومية لإبداء الأسى، لا تشفي الغليل، ولا تعلن اعتذارًا، وهو أضعف الإيمان كما يُقال.

وكانت أزمة فرنسية – جزائرية قد اندلعت عام 2021، إثر تصريحات أدلى بها الرئيس ماكرون خلال لقائه بمجموعة من الطلبة الجزائريين ومزدوجي الجنسية، وفرنسيين من المعمرين السابقين من بقايا الإرث الاستعماري. وأشار فيها إلى أن الجزائر تستغل ذكريات الحرب الدموية بسبب هيمنة العسكر على السلطة لنظام متحجر، وهو ما أثار ردود فعل شديدة من جانب الجزائر، التي أكدت شرعية الكفاح الوطني، والذي واجهته السلطات الفرنسية المحتلة بجرائم إبادة جماعية وجرائم ضدّ الإنسانية، وهي جرائم لا تسقط بالتقادم.

إن عزوف الدول الاستعمارية عن الاعتذار بخصوص ماضيها الاستعماري، يُبقي ملف العلاقات الدولية بينها وبين الدول التي كانت مستعمَرة (بالفتح)، شائكًا ومعقدًا وملتبسًا، لاسيّما بخصوص مسار العدالة المنشودة، والأمر أحيانًا يتعلق برأي عام مضلَّل، عاش على أمجاد بلاده الاستعمارية، وهو ما يمكن ملاحظته من وجهات نظر وآراء لليمين المتطرّف، والاتجاهات الشعبوية الجديدة.

وكانت الهيئة العامة المصرية للكتاب، قد نشرت ترجمة لكتاب بعنوان "زمن الاعتذار -  مواجهة الماضي الاستعماري بشجاعة" في العام 2019، لمجموعة مؤلفين غربيين، جاء فيه على لسانهم: إن الدول الاستعمارية الغربية تستنكف الاعتذار عن ماضيها، ويلتجئ بعضها تحت ضغط الرأي العام، والمنظمات الدولية لحقوق الإنسان، إلى الاكتفاء بكلمات غامضة وعمومية، مثل إبداء الأسف إزاء الدول الضحية، دون الإقرار رسميًا بحدوث ارتكابات جسيمة، وتقديم اعتذار واضح وصريح، الذي يقتضي تحمّل المسؤولية، في إطار مبادئ العدالة الانتقالية، تلك التي تستتبع التعويض المادي والمعنوي عن الأذى الجسدي والنفسي لما أصاب الضحايا وذويهم من الأبناء والأحفاد، ناهيك عن الأجيال اللاحقة، فضلًا عن جبر الضرر الجماعي، بما فيه إبقاء الذاكرة حيّة.

لقد كابدت الدول المستعمَرة (بالفتح) من الإذلال لكرامتها الوطنية، إضافة إلى نهب ثرواتها على نحو ممنهج، الأمر الذي ترك ندوبًا كبيرةً وجروحًا فاغرةً على تطور مجتمعاتها، فضلًا عن إعاقة تنميتها، وإذا كان مؤتمر ديربن (جنوب افريقيا 2001) قد طالب الولايات المتحدة الاعتذار عن حرب الإباده للسكان الأصليين، فإنه وجّه رسالةً إلى المجتمع الدولي دعاه فيها إلى ضرورة إدانة الجرائم العنصرية، التي ارتُكبت تحت عناوين تفوّق "الرجل الأبيض" و"المدنية" و"التحضّر"، وغيرها من المسوغّات الآيديولوجية، التي تعكزت عليها الدول الاستعمارية، سواء بريطانيا أم  فرنسا أم بلجيكا أم هولندا أم البرتغال أم إيطاليا أم المانيا أم إسبانيا أم غيرها.

ولعل مثل هذا الأمر يصبح أكثر إلحاحًا وراهنيةً، لما يجري اليوم في غزة وعموم فلسطين، تلك التي تقوم بها سلطة الاحتلال من مجازر وحرب إبادة جماعية، وهو ما أكدّته محكمة العدل الدولية كموقف قانوني وأخلاقي وإنساني.

***

د. عبد الحسين شعبان

 

الخارج من بئر الظلام: من مشاهد شيطنة حسن الصباح الصريحة مشهد سقوطه في بئر حين كان طفلاً، وظهور شبح المرأة الغامضة وهي تخيّرهُ بين إنقاذه مقابل أن يخضع لمشيئتها، مشيئة "الشيطان الأنثوي المسلح بالإغواء" في الأدب الذكوري الرجعي غالباً، أو أن تتركه بظلمة البئر. وحين تسأله المرأة الشبح أن يختار بين النور والظلام يختار الظلام فتنقذه، وتوصيه: "لو خيروك تقتل حسن على شان تعيش اقتلْ حسن"!

 أي أن حسن الصباح كان شيطاناً ظلامياً منذ طفولته وما تبقى تفاصيل! أليست هذه هي الفكرة التي أراد المسلسل إيصالها للمشاهد، وربطها بـ "الشياطين المعاصرين" في حركات المعارضة الذين تم مسخهم وغسل أدمغتهم كما يقول الإعلام الحكومي الذي يحتكر لنفسه "الأدمغة النظيفة والمعقمة جيدا"؟.

أما الروايات التي تتحدث عن زهد وورع وتدين هذه الشخصية التاريخية إلى درجة اعتبره بعضهم متدينا متشددا وعالما مرموقا في الحساب والفلك وكونه لم يخرج من قلعته طوال 35 عاما إلا مرة او مرتين وبعض المصادر تنكر حتى هذه المرة أو المرتين، وكونه أبعد أسرته زوجته وأطفاله إلى ليعيشوا من عمل أيديهم في الحياكة في قلعة أخرى، كل هذه الروايات والتي رود بعضها في مصادر مخالفين له مذهبيا فقد أهملت أو حرفت أو قلبت رأسا على عقب من قبل كتبة السلاطين المعادين له ولحركته وأخيرا من قبل مؤلف مسلسل الحشاشين الذي فاق الجميع في الخلط والتحريف والتبشيع بطريقة لا أخلاقية مفعمة بالإسقاط الأيديولوجي المعاصر خدمة لخطاب حكومي استبدادي أولا، ولتبرئة الوهابية كما قال البعض من مسؤولية جرائم منظمات إجرامية تكفيرية معاصرة مثل داعش والقاعدة ثانيا، والقول أن جذور هذه الحركات وغيرها كالإخوان المسلمين إنما تقع في الحركة الإسماعيلية النزارية التي أطلقوا عليها اسما تشنيعيا هو "الحشاشين"!

وبعد أن اكتملت عملية شيطنة الصباح يقترب المؤلف من تكفيره حين ينفي عنه حتى إيمانه بعقيدته الإسماعيلية ويتهمه بتأسيس شريعة جديدة لا حلال وحرام فيها (الحلقة 12)، ويربط سلوكه وأفعاله الدموية بمصلحته الشخصية ومجده الفردي وحبه للسلطة ويضع كلاماً بهذا المعنى على لسانه "ما فيش، إيمان، هو إيمان واحد بس.. إيمان بأيه؟ بحسن الصباح".

إنَّ فكرة إلصاق الكفر والعدمية بحسن الصباح والاسماعيلية عموما ليست جديدة بل هي مكررة كثيرا في الإعلام الحكومي المعاصر، وربما وجد عبد الرحيم كمال توثيقها التأريخي في رواية اليوغسلافي بارتول الذي نقل عن شخصية غامضة ولا وجود ترجمة لها في كتب الأعلام العربية الإسلامية وبلا توثيق هو "الداعية الإسماعيلي أبو نجم السراج" قوله: "إن قصة الإمام علي والمهدي المنتظر ما هي إلا سراب نستهدف به المؤمنين الذين يبجلون صهر النبي ويكرهون الخلافة ببغداد... العقيدة ناقصة بالضرورة وليس بوسع أحد معرفة الحقيقة، ونحن لا نؤمن بشيء ونستطيع أن نفعل أي شيء.. ص 186"، وربما كان يقصد الداعية أبو نصر السراج وهو أول داعية إسماعيلي بسيط تعرف إليه الشاب حسن الصباح – كما يذكر دفتري في دراسة له ومرَّ في حياته مروراً خاطفاً.

في هذا السياق، يضع كمال كلاماً مماثلاً على لسان الوزير نظام المُلك حين يقول لسيده ملكشاه إن "ولاء حسن الصباح لحسن الصباح يا مولاي"! وهو معنى يكرره الإعلام الحكومي في عصرنا ضد المعارضين بصيغة "إنَّ هدفهم هو الوصول إلى الحكم وليس الإسلام أو الوطنية أو فلسطين"!

إسقاطات هوليودية وأخرى حكومية

ثمة إسقاط لمقولات معاصرة مما نراه في الأفلام الهوليودية كمقولة "يجب أن نغير العالم" وهتاف "عاش مولانا السلطان عاش"، و"عاش حامل مفتاح الجنة". ولو كان المؤلف موضوعياً ومنصفاً لساوى بين نظام المُلك الذي خاطب جيشه بقوله "أنتم سيف الإسلام وجنود الله ضد الفرقة الباطلة/ الحلقة 9" وبين خطاب الصباح لمقاتليه بأنهم حملة الإيمان القويم والحق والعدل، فكلا الخطابين يمثل رأياً أيديولوجياً تبريرياً، لا أن ينحاز - المؤلف - لخطاب الحكم ويشيطن خطاب معارضيه!

إن الاستشراق الاستعماري يعتبر "العنف الدموي الشرقي" لعنة ميتافيزيقية موجودة بطبيعة الإنسان الشرقي، وأن الشرق أصيب بها لأنه حيز جغرافي ديني ورث هذا العنف من كتابه المقدس، وهذه ترهات عنصرية ولا علمية تنضح بالإسلاموفوبيا وقد فندها مستشرقون غربيون منصفون كالمستشرقة البريطانية كارين آرمسترونغ في كتابها "حقول الدم: الدين وتاريخ العنف". أما الدراما العربية الخارجة من عباءة الإعلام والحكومي فتعلل هذا العنف المعارض بطموحات شخصية فردية لزعماء عدميين لا يؤمنون إلا بأنفسهم كـ "زعيم الحشاشين مخترع الاغتيال السياسي"، مكررةً اتهامات الحكومات الاستبدادية واستخباراتها لكل من يتمرد على ظلمها وفسادها؛ فمَن هم في السلطة اليوم يريدون احتكارها إلى الأبد، ويعتبرون كلَّ مَن يهدد سلطانهم مارقاً، متآمراً، حشاشاً، قاتلاً، عبثياً، كافراً خرج من بئر الظلام ولا يؤمن بحلال أو حرام بل بنفسه وبأطماعه في الحكم!

وأخيرا دعونا نتساءل بكل حيادية: ترى ماذا يتبقى من مسلسل الحشاشين الذي أراد له صُناعه ومؤلفه وممولوه أن يكون ضربة قاضية وعلامة فارقة في تأريخ الدراما المصرية؛ ماذا يبقى منه إذا:

* إذا تأكد للمشاهد أن ربط الفرقة الإسماعيلية النزارية بالاغتيالات السياسية وكأنها هي التي اخترعتها كذبة سمجة وأن الاغتيال السياسي وجد وبشكل متواصل منذ صدر الإسلام وحتى قيام هذه الفرقة ومارسه جميع المتصارعين فرقاً ودولاً وإمارات كما وثقنا بالأسماء والتواريخ؟

* وإذا ما ظهر أن قصة الربط بين الثلاثي الخيام والصباح ونظام الملك مجرد حكاية لا صحة وقيمة لها وقد ابتكرها مترجم رباعيات الخيام إلى الإنكليزية الشاعر والمترجم البريطاني إدوارد فيتزجيرالد (Edward FitzGerald)‏: (1809 - 1883)، وأنها خرافة غير قابلة للتصديق لأن نظام الملك أكبر من الصباح بعقدين من السنوات ومن الخيام بثلاثة عقود، والصباح أكبر من الخيام بعقد، فهل يعقل أن يكونوا أصدقاء طفولة وزملاء دراسة؟

* وإذا ما ظهر أن حكاية تعاطي الحشيشة والأجواء الإباحية مع الجواري في الجنات الاصطناعية هي مجرد فنتازيا من خيالات الرحالة الإيطالي الملفق ماركو بولو ورجال دين وسياسة أفرنجيين "صليبيين" كانوا في حالة حرب مع النزاريين وعموم المسلمين في المشرق؟

* وإن التشنيعات التي ألصقها صناع المسلسل بالنزاريين في قلعة آلموت وزعيمهم حسن الصباح هي تشنيعات بائسة ولا تأريخية لم ترد في مصادر محايدة أو حتى شبه محايدة أو حتى مصادر عربية إسلامية ناقمة على الباطنية ومنهم هذه الفرقة؟

* ألا يظهر مسلسل الحشاشين في نهاية المطاف مجرد فقاعة ملونة تختزن روائح فاسدة ولا أخلاقية من الشيطنة والتشنيع والتضليل وقد ألحقت العار بصناعها وأوقعتهم في مشكلة كبيرة جديدة مفادها أن قطاعات واسعة من الجمهور المشاهد صار يتعاطف مع حسن الصباح وتجربته، فيصابون بالذعر والارتباك ويرجعون هذا التعاطف إلى سبب مضحك هو الجاذبية "الكارزما" التي يتمتع بها الممثل كريم عبد العزيز الذي قام بدور الصباح!

* لقد شهدنا في هذا المسلسل وبأسف شديد كيف يتحول كاتب ومؤلف مرموق، صوفي المنهج والتفكير والاهتمامات بدليل بعض أعماله الجميلة هو السيد عبد الرحيم كمال من أديب عرفاني صوفي إلى كاتب يشتغل في خدمة خطاب السائدين في الحكم الاستبدادي وكيف صار جزءا من البروباغندا الحكومية ضد معارضيها. أو إن شئنا الدقة كيف تكرس تحوله الذي بدأ - كما يلاحظ رشيد وحتي بصواب - في مسلسل "جزيرة غمام -2022" والذي حاول فيه وضع الرؤية الصوفية الدراويشية (تمييزا لها عن الصوفية القطبانية الثورية) في خدمة مشروع أنور السادات الانفتاحي الاستسلامي.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

مرت أمس الذِّكرى الحادية والعشرون (9/4/2003)، لما عُبر عنه بـ «تحرير العراق»، وكان قراراً اتخذه الأميركان (1998)، وما أنّ سقط التّمثال، بساحة الفردوس وسط بغداد، بعد تغطية رأسه بالعلم الأميركي، تردد على ألسن الغانمين، تعبير «سقوط الصَّنم»، على أنَّ عهد الدّيمقراطيَّة قد بدأ، و«كلُّ النَّاسِ حسَّن واستجادَا».

كان في كلّ التحولات الكبرى للشعراء اعتبارٌ وحضورٌ، وقصائدُ يصغى لها، جمعها الأديب والأكاديمي يوسف عزّ الدِّين السّامرائيّ (ت: 2013) في أطروحته «الشّعر العِراقي الحديث والتَّيارات السّياسيّة والاجتماعيّة»، والسّامرائي لم يقصد بالحديث، الشّعر المعروف بـ «الحر»، فهو لا يقرّ به، إنما قصد القصائد التي واكبت حوادث العراق الكبرى، في مطلع القرن الماضي، من احتلال ونزاعات اجتماعيَّة، بين القديم والجديد، خلت مِن النّزعة المذهبيَّة أو الطَّائفيّة، مثل التي بين نشبت السُّفوريين والحِجابيين، إنما كان حراكاً ثقافيَّاً ناهضاً.

بيد أنَّ مِن الغرابة، لم يظهر للشعراء صوتٌ في الحدث الأكبر مِن نوعه (2003)، منذ الاحتلال البريطاني للبصرة (1914) ثم بغداد (1917). ليس لهم صوتٌ، لا بالسلب ولا الإيجاب، فهل صح عليهم مطلع صاحب المعلقة: «هل غادر الشُّعراءُ مِن مُتَرَدَّمٍ/ وهل عَرفت الدَّار بعد توهمِ». نعم صح ذلك، إذا علمنا أن معنى «مُتَرَدَّم» المكان الذي اعتراه الوهن والوهي، ويراد استصلاحه (الزّوزونيّ، شرح المعلقات السَّبع)، وهذا تماماً كان، وما آل إليه حال بلادهم، يوحشها الأمل.

هذا ما كان يعيشه العراقيون، بعد الحصار والحملة الإيمانيّة الكبرى، وما كانوا ينتظرونه مِن «تحرير العراق»، بإسقاط «الصّنم»، مع أنّ تكسير الأصنام لم يحصل بيد غير المسلم، فكيف رددتها القوى الدّينيَّة؟ ربّما أرادت بالعبارة إلغاء الذَّاكرة، واعتبار سقوط الصّنم بمعولها، وهو لم يكن كذلك، إنما دخلت بعد سقوطه، وصورة الصَّنم والجندي الذي تسلقه والعلم شواهد.

هل خلا العِراق مِن الشّعراء؟ ولا تحسبوا الأحَاجي والألغاز شعراً! لا أقول انقرض الشُّعراء المطبوعون مِن على هذه الأرض، بل ظهرت لهم قصائد لم ترحم العبث الجاري، لكننا نقصد تلك اللحظة، ولشهور، لم تظهر قصيدة منهم، لا حقّاً ولا باطلاً، فهل أسكتتهم دهشةُ الحدث، وتلاشي الأمل الذي راودهم لعقودٍ، بما قُدم لهم بعبارة «تحرير العراق»؟

نعم، علا صوت الشّعر الشّعبيّ، وكان منذ ظهوره باسم «الكان وكان»، في العصر العباسيّ، مرفوضاً مِن الفصحاء، إلا أنه شد الجمهور، بعد تخلي السُّلطة (1976) عنه، فمنعت نشره وتداوله، ثم استدعته في أمهات المعارك والحواسم، لأنه يعبر عن مستوى مرحلة التّهييج الثّوريّ. مع ذلك كان مِن الشَّعبيين ضحايا قصائدهم، قبل «التّحرير» وبعده، منهم مَن تمت تصفيته بعد مغادرته القاعة، ومن شعرائه، وهم كُثرُ، ما زالوا يُقدمون الشّعر الملوث بالطَّائفيّة والكراهيّة، دون استنكار، مِن حماة الدستور ومراجع الدّين، حتَّى إنَّ بعض الشّعراء صاروا أصواتاً للتَّصفيات.

مما اختاره عزّ الدّين، قصيدةً للشيخ عليّ الشَّرقيّ (ت: 1964)، أراه سد بها الفراغ الذي تركه الشّعراء، بعد مائة عام. قالها خلال الاحتلال البريطانيَ، الرَّحيم نسبةً لاحتلال (2003)، الذي تولد منه الاحتلال الأغرب في التاريخ، احتلال بالولاية، الجنود والأموال مِن البلد نفسه، يحارب بهما حيث يشاء، وأراه الأشد وطأةً، إنْ جازت المفاضلة بين احتلال وآخر.

إذا أنتج الاحتلال البريطاني دولةً ونظاماً، وهامشاً للديمقراطيّة، فالأخير (احتلال 2003) هدّ الدّولة وسلمها بصفقةٍ لاحتلال آخر، وسفه الدّيمقراطيَّة بفرض الميليشيات، وينوي العودة بالعراقيين إلى ما سمي بالعصر الحجري، تكثير المقدسات في مشاهد لم تطرأ على بال.

قال الشَّرقيّ: «نطقتْ بحاجتها الشّعوبُ وأفصحتْ/وأرى عراقي واجماً لا ينطقُ/ وكأن هذا الشّرق سِفر غرائبَ/ أضفى عليه الدَّارجون وعلقوا/ ختمت صحائفُه وجئنا بعدها/ حتّى كأنا فيه فصلٌ ملحقُ». هذا، ولكم تفسير وتأويل «الفصل الملحق».

***

د. رشيد الخيون

 

الاغتيالات السياسية قديماً

لا يمكن إنكار العنف الدموي الذي مارسته الحركات والفرق المعارضة في التاريخ الإسلامي ومنها الحركة الإسماعيلية بشتى فرقها، وقبلها الخوارج بكل فرقهم فبلغ هذا العنف مستويات مذهلة حيث أباحت إحدى فرق الخوارج وهي فرقة "الأزارقة" قتل أطفال أعدائها. ولكنه عنفٌ ظل محكوماً بسقف القتال بالأسلحة البيضاء، ولم يكن يفوق عنف جيوش الدول والإمارات. ويبقى عدم إنكار الظاهرة وتحليلها داخل سياقها مشروعاً، أما استعمالها بشكل انتقائي للتبشيع والشيطنة ثم اسقاطها على حالات وأطراف معاصرة وخارج السياق فأمر غير مشروع بحثياً وأخلاقيا، ولا علاقة له بعلوم التأريخ والآداب والفنون.

إن تركيز مسلسل "الحشاشين" على أسلوب الاغتيال السياسي الذي مارسه مقاتلو هذه الفرقة، يوحي بأنهم اخترعوه ولم يسبقهم إليه أحد، وليس ممارسة شائعة تحفل بها أمهات الكتب التراثية ومن ذلك مثلا؛ في صدر الإسلام نسجل اغتيال كعب بن الأشرف وسلام بن أبي حُقيق وابن سنينة وعصماء بنت مروان، وفشلت خطة لاغتيال معاوية بن أبي سفيان. وفي العهد الراشدي اغتيل سعد بن عُبادة والخلفاء عمر وعثمان وعلي. وفي العهد الأموي اغتيل الحسن بن علي وعامل مصر مالك بن الأشتر بأمر من معاوية.  وهناك شبهة قوية في اغتيال الخليفة عمر بن عبد العزيز وكان أربعينياً بأتم صحته وذروة نشاطه المناوئ لأسرته الأموية.

في العصر العباسي سجلنا انفراد المأمون بالخلافة بمقتل أخيه الأمين، واغتال المأمون وزيره الفضل بن سهل بالسم. ويرجح مؤرخون مقتل الخليفة المتوكل بتدبير من ابنه المنتصر وحاشيته التركية. واغتيل المقتدر من قبل جنود بربر مغاربة يقودهم المملوك اليوناني مؤنس الخادم.

أما الاغتيالات التي نُسبت إلى فرق المعارضة المسلحة فكثيرة واستهدفت خلفاء ووزراء وقادة عسكريين ورجال دين وحتى قادة معارضين منهم أبو سعيد الجنابي زعيم القرامطة (المعتبر إسماعيليا) بالبحرين. واغتالت النزارية الخليفة الفاطمي العاشر الآمر بأحكام الله سنة 1130م وهو أول من أطلق عليهم اسم "الحشيشية" لأنهم انشقوا على والده المستعلي بالله. حيث ذكر المقريزي أن قتلته من "النزارية نقموا عليه لما كان من شقاق ما بين أبيه المستعلي بالله وعمه نزار على عرش الفاطميين بمصر". نلاحظ أن المؤرخ المصري السني الشافعي تقي الدين المقريزي (1364 -  1442م) يسميهم النزارية كغالبية المؤرخين العرب المسلمين وليس "الحشاشين"!

وكان للنساء حصتهن في ذلك، فزمرد خاتون السلجوقية زوجة السلطان أرسلان، فحين تولى ابنها الأكبر تتش الحكم بعد والده ولم يعجبها قتلته ونصبت ابنها الآخر بوري، فلم يعجبها هو الآخر فاغتالته ونصبت مكانه ابنه شهاب الدين!

والخلاصة هي أن فرقة حسن الصباح لم تخترع العجلة حين مارست الاغتيال، وهذا ليس تبريراً لاغتيالاتها الدموية ولكننا لسنا في محكمة لنصدر أحكاماً قضائية مبرمة على أحداث وقعت قبل أكثر من ألف عام بل نحاول فهمها وتفسيرها داخل سياقها الاجتماسي التأريخي الحقيقي وليس الأيديولوجي المتخيَّل والإسقاطي.

اغتيالات واتهامات وشكوك

وممن وصل إليهم فدائيو حسن الصباح، أو اتهموا باغتيالهم إلى جانب مُتَهَمين آخرين ذكرت المصادر التأريخية:

- اغتيال الوزير السلجوقي نظام المُلك، وابنه فخر المُلك بعده. ولكن ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان" يشكك في قتلهم نظام الملك ويقول "وقد قيل إنَّ السلطان ملكشاه قد دسَّ عليه مَنْ قتله حسداً له واستكثاراً لما بيده من الإقطاعات ج2/ص 130". وهذه الرواية - إنْ صحَّت-  تبرئ النزارية من قتله، وتفتح باب الشكوك على العديد من الاغتيالات التي نُسبت إليهم ممن استغلوا اشتهارهم بالاغتيالات.

- واغتيال مفتي أصفهان ووالي بيهق ورئيس الكرمية وهي جماعة دينية متشددة تحرض ضد الإسماعيلية بنشاط.

- واتُهمت النزارية باغتيال السلطان السلجوقي ملكشاه بالسم في حملته على بغداد لطرد الخليفة العباسي المقتدي منها. وهذه هي الرواية التي تلقفها مسلسل "الحشاشين"، ولكن ابن خلكان حين روى موت السلطان وأورد ما قيل عن سم وضع له أورد معه خبر خلافه مع الخليفة فقال: "وكان الخليفة قد بايع لولده المستظهر بالله بولاية العهد من بعده، فألزم السلطانُ ملكشاه الخليفةَ أن يخلعه، فشقَّ ذلك على الخليفة، وجعل يصوم ويطوي، وإذا أفطر جلس على الرماد للإفطار، وهو يدعو الله سبحانه وتعالى على السلطان ملكشاه، فمرض السلطان في تلك الأيام ومات، وكُفي الخليفة أمره - ج 5 ص 289". والأكيد أن ملكشاه لم يمت من دعاء المقتدي عليه فقط، بل الأرجح أنه مات في مؤامرة نفذها قصر الخلافة.

- كما اغتالت النزارية السلطان السلجوقي داود بتبريز عام 1143م.

- واغتالوا حاكم الري الأمير عباس سنة 1146م، وكان متعصباً ضدهم "قتل منهم خلقاً كثيراً، وبنى من جماجمهم منارة بالري، وحصر قلعة آلموت، ودخل إلى قرية من قراهم فأحرق كل من فيها من رجل وامرأة وصبي وغير ذلك/ الكامل لابن الأثير"، وقد قتلوه ببغداد أثناء زيارته للخليفة العباسي القائم ثأراً لجماعتهم، ولكن ابن الأثير ذكر أن السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه وكان ببغداد آنذاك هو من أمر بقتله هو وعبد الرحمن طغايرك.

وتزايدت هجمات النزارية بعد وصول الداعية العراقي رشاد الدين سنان إلى قيادتهم بقلاع الشام، فاغتالوا حاكم الموصل السلجوقي مودود بن ألتونكتين سنة 1113م بدمشق.

-  واغتالوا الكونت الإفرنجي الصليبي ريموند الثاني عام 1152م بطرابلس.

- وقاموا بمحاولتين لاغتيال صلاح الدين الأيوبي؛ كانت الأولى تحذيرية، وأصيب في الثانية بجروح طفيفة فشن حملة تأديبية ضد قلاعهم الشامية.

اغتيال ملك بيت المقدس الصليبي

في 1192م تمكن النزاريون من اغتيال ملك بيت المقدس كونراد مونفيرات. وذهب بعض المؤرخين إلى أن صلاح الدين تعاون معهم في هذا الاغتيال، بل أن ابن الأثير قال إن الأيوبي هو الذي طلب من سنان قائد النزاريين اغتيال مونفيرات ورتشارد معا/ الكامل مج 2 ص51. وما يُصعِّب تصديق هذه المعلومة اختلاف المؤرخين حول نتيجة حملة الأيوبي ضد قلاعهم بجبال الساحل الشامي. أما أوروبيا فإن اغتيال مونفيرات لم يسلم هو الآخر من التشكيكات والاتهامات الفرعية والأوروبية خصوصا حيث اتهمت أوساط فرنسية الملك ريتشارد قلب الأسد ملك إنكلترا بأنه كان وراء اغتياله لأنه حاقد عليه وفي خصام معه آنذاك كما ينقل فرهاد دفتري في كتابه "خرافات الحشاشين وأساطير النزاريين ص118"، عن جوزيف ميشو في كتابه "تاريخ الصليبيين/ مج 3 ص434".

شيطنة الشخصيات التأريخية لأغراض سياسية

إن القول بشيطنة شخصية تأريخية "حقيقية" كحسن الصباح لا يعني بالضرورة أنه ملاك مسالم، مثلما لا تعني إنه وحش فريد بين سرب من الملائكة في هيئة سلاطين ووزراء وقادة جيوش وحركات معارضة مسلحة في ذلك العصر المائج بالعنف والحروب والثورات والغزوات والمذابح المتبادلة. ففي معركة واحدة دامت بضع ساعات قُتل من النزاريين أكثر من 300 مقاتل إثر خديعة اندساس وكمين خطط له حاكم رامهرمز سنة 1100م؛ وكثيرة هي المجازر التي تعرضوا لها في بلاد فارس والشام وسنوثق بعضها لاحقا، بل يعني أن شخصية الصباح قد أُخرِجَت عنوة ولأغراض أيديولوجية وسياسوية معاصرة من سياقها الحقيقي، سياق قائد فرقة مسلحة عقائدية معارضة إلى جانب غيرها لتكون نموذجاً فريداً وملعوناً بباحة الرجم والتكفير والتشهير. ومعها نقلت الحالة النزارية إلى سياق آخر لتتماهى مع حالات معاصرة كالإخوان المسلمين والقاعدة وداعش، ومن النقاد مَن اتهم صناع المسلسل صراحةً بمحاولة تبرئة الوهابية من تبعات جرائم داعش والقاعدة وإغراءاتهم لمقاتليهم بالعديد من حور العين "الحلقة 17" والقول بأن جذر هذه التنظيمات التكفيرية المعاصرة موجود في الإسماعيلية النزارية الباطنية وليس في الوهابية! وهذه فكرة لا يمكن استبعادها في ضوء الترحيب السعودي بهذا المسلسل بلسان مستشار ولي العهد ورئيس الهيئة العامة للترفيه تركي آل الشيخ الذي اعتبره عملا مهما وخطوة على طريق العالمية.

وفي سياق المجازر التي ارتكبت بحق الإسماعيليين النزاريين في بلاد الشام يمكن التذكير بمجزرة حلب سنة 1113م حيث قُتل منهم المئات إعداما وفي مجازر دموية على يد حاكمها السلجوقي إبراهيم بن رضوان تتش بتحريض من حاكم فارس السلجوقي بعد أن كان والده قد سالمَ النزارية وعاشوا في عهده بسلام في حصونهم، ثم حرض - حاكم حلب -  الجمهور السني والشيعي الإمامي ضدهم في المدينة التي كانت مختلطة آنذاك، فقتل المئات منهم وبينهم زعيم النزارية أبو طاهر إعداما أو تقتيلا في الشوارع والبيوت. وكان النزارية آنذاك منهكين يقاتلون الصليبيين ممثلين بحاكم أنطاكية تانكر وقد خسروا أمامه لتوهم حصنهم المهم أفاميا وحصون أخرى أقل أهمية. فرهاد دفتري ص 105 وما بعدها، أي أن النزارية كانوا يقاتلون ويقتلون على أكثر من جبهة وقد توحد ضدهم السنة والشيعة والفرنجة وهذه هي المرة الأولى التي تحوز فرقة مسلحة معارضة هذا العداء متناقض المكونات.

وعلى ذكر الباطنية، فالمؤلف عبد الرحيم كمال يقدم على لسان الوزير نظام الملك تعريفا عجيبا للباطنية بما يعني أن أتباعها منافقون يظهرون خلاف ما يبطنون أي يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وهذا تعريف خاطئ علميا وتشنيعي هو الآخر أستغرب كيف  يصدر عن شخص عارف بالإسلاميات وينسب نفسه إلى التصوف الإسلامي والتصوف غالبا باطني لا ظاهريا، فالباطنية في تعريفها الأكاديمي في السردية الإسلامية (هو وصف يطلق على فئات او طوائف من المسلمين تقول: "إن النصوص الدينية لها معنيان: أحدهما ظاهر يفهمه الناس بواسطة اللغة، وبمعرفة أساليب الكلام، والثاني باطن لا يدركه إلا الذين اختصهم الله بهذه المعرفة، وهم يَصلُون إلى إدراك هذه المعاني المحجوبة عن عامة الناس بتعليم الله لهم مباشرة/ الموسوعة الإسلامية الميسرة  ج3 ص483 / محمود عكام"!

وربما عبَّر الكاتب الأردني خالد عياصرة عن فكرة الإسقاط الأيديولوجي القريب من هذا المعنى ولكن بشيء من المبالغة التي لا تخلو من قبس من الحقيقة حين كتب "لكنَّ المخرجَين الاثنين اجتمعا في اسقاط المسلسلين على الواقع مع العبث بالفكرة، إياد الخزوز (مخرج سمرقند) الذي جاء مع بدايات الربيع العربي وجعل من المَدَّين التركي والفارسي الإيراني المهدد الحقيقي للمنطقة من جهة وداعش ومثيلاتها من جهة ثانية، فيما اعتبر بيتر ميمي (مخرج الحشاشين) الإخوان المسلمين المهدد لاستقرار المنطقة باعتبارهم "الحشاشين الجدد/ مدونة الكاتب".

يتبع في الجزء الثالث والأخير.

***

علاء اللامي

تفيض البركة في رمضان، ويحلو فيه السهر والسمر. وهو شهر الفن والأدب والثقافة وتبادل الكلام والحكايات، على مستوي النخبة والعامة كلاهما.. وفيما يحلو للشباب وكبار السن الجلوس على المقاهي بين التراويح والفجر، كذلك يحلو للمثقفين الجلوس للكلام والسهر..

 في الماضي كانت هناك صالونات ثقافية تستوعب نخبة المفكرين من الصحفيين والأدباء والفنانين، أو مقاهي شهيرة كالفيشاوي ومقهى ريش وغيرهما. ثم اللقاءات الإذاعية والتليفزيونية مع مشاهير الأدب والصحافة والفكر. كل هذا موجود الآن لكنه مختلف، بحيث تشعر أنه معدوم أو بلا تأثير! فما السبب؟

إشكاليات الثقافة والمثقفين

 مصطلح "الحركة الثقافية" في جوهره يعني وجود ديناميكية وأجواء مشحونة بالنشاط. والحركة هنا لا تعني كمية الإنتاج الثقافي، وإنما التفاعل صعوداً وهبوطاً أو شداً وجذباً.

 مثلاً خلال الفترة التي تعددت فيها المذاهب الأدبية، وثارت ثائرة المعارك الفكرية بين كبار الأدباء على صفحات الجرائد والمجلات. كانت هناك حركة بل قل موجات هادرة دفعت بالأدب والفن إلى أعلي قمة يمكن الوصول إليها.

 والصالونات الأدبية كصالون العقاد وصالون توفيق الحكيم وصالون مي زيادة، هي مجرد نتائج لتلك الحركة وذلك التفاعل. بينما صالونات اليوم مجرد صورة ممسوخة ليس لها ذات الهدف ولا تصل إلى نفس النتيجة، لأنها صالونات تحدث في أجواء راكدة لا تتفاعل فيما بينها، بل قد تتلاطم وتتصارع. لأن الثقافة اليوم تحولت في ثوبها الرسمي إلى روتين. وفي ثوبها الشعبي أو النخبوي إلى جزر منعزلة وجماعات مصالح. هكذا لا يمكن لمثل هذه الحركة العشوائية أو المتصارعة أن تدفعنا للأمام أو إلى أعلى. بل سنظل كمثقفين نقف محلك سرّ. لأننا لا نتحرك حركة جماعية هادفة، وإنما يدفع بعضنا بعضاً ويهاجم أحدنا الآخر بلا سبب!

 ربما يكون السبب هو غياب الهدف القومي المشترك الذي يجمع النخبة نحو طموح تقدمي راغب في استعادة الريادة الثقافية التي بدأ بساطها في الانسحاب من تحت أقدامنا..

طغيان المادة

 الآن كل شيء له ثمن. ولم يعد من الممكن أن تجد شخصاً أو مؤسسة تعطي وتبذل دون مقابل.

  أتساءل: هل يمكن أن يولد في مصر شخص مثل طلعت حرب يضع نصب عينيه الارتقاء بالحالة الثقافية، ويربط الاقتصاد بالثقافة؟! لا يمكن أن يظل هذا الدور هو دور المؤسسات الحكومية أو المؤسسات الربحية. لابد من وجود رأسماليين يؤمنون بدور الثقافة في رقي الأمم..

  دعك من الرأسماليين ورجال الأعمال، فلا أظن أن بينهم واحداً يهتم الآن بالقيام بمثل هذا الدور. لكن حتى على المستوي الشعبي الإبداعي: هل يمكن أن نجد شخصاً مثل "زكريا الحجاوي" مثلاً يدور ويسافر بين النجوع والكفور والقري في صعيد مصر ودلتاها لاكتشاف المواهب المدفونة بين بسطاء الناس، لإحياء فنون الفلكلور بعمليات الاستكشاف التي قام بها بمفرده مدفوعاً برغبة حقيقية في تحقيق طفرة في مجال من مجالات الفنون.

 قد يقول قائل: إن الفضائيات عامرة بمسابقات غنائية تكتشف المواهب. والحقيقة غير ذلك. أولاً لأن برامج المسابقات تلك تهدف في الأساس لتحقيق أرباح من خلال الدعاية والإعلانات التي تتخللها، ثم أين هي تلك المواهب؟! إن برامج المسابقات لا تضمن لهم مستقبلاً حقيقياً يستوعب مواهبهم. ثم إن تلك المسابقات لا تستهدف إلا فئة اجتماعية وطبقة معينة من المقتدرين، وتهمل الطبقة البسيطة أو المتوسطة.

 وبنظرة عابرة للخلف سوف تكتشف أن أهم مبدعينا وأدباءنا نشأوا في الأصل في بيوت بسيطة أو فقيرة أو متوسطة. إن نخبتنا القديمة في كتلتها الصلبة كانت من ملح الأرض لا من القشدة أو الكريمة الطافية على سطح المجتمع..

تشوهات الحداثة

 كثير من مفكرينا، وعلى رأسهم جمال حمدان، تحدثوا عن الشخصية المصرية أو الهوية القومية. واهتمامهم بمثل هذا الأمر ليس من باب الترف الفكري، بل هو أمر محوري ومصيري.

  هل بيننا اليوم عالم أو مفكر يستطيع أن يرصد ما حدث للشخصية المصرية من تغير، أو يخبرنا أثر هذا التغيير على مستقبل البلد؟ قطعاً هناك تغيير أصاب هويتنا وشخصيتنا، في ظل العولمة والإعلام البديل والثورة وكورونا وحروب الشرق والغرب. إن العِقدين الأخيرين شهدا أحداثاً هائلة، وأجيالاً جديدة نشأت بأفكار مختلفة ورؤى غامضة لا ندري في أي مجري تصب!

 نحن اليوم أحوج ما يكون لحوارات ثقافية جادة تتطرق لقضايا مصيرية تنبع وتصب في الفكر الجمعي، أي الثقافة القومية. المسألة ليست ترفاً أو زائدة دودية يمكن الاستغناء عنها واستئصالها، بل ضرورة مرحلة بها أخطار محدقة تثير القلق..

 الجيل القادم لو لم يشعر باحتواء وإشباع في ثقافته المحلية، سوف يتأثر بالتأكيد بثقافات أخري غريبة عنا. والفضاء السيبرانى بات منفتحاً على كل شيء: على دعاة الإلحاد والتغريب والانحراف. ثم هناك قوي عالمية تتصارع فيما بينها، وتعبث بأذرعها وقواها الناعمة لاستقطاب الشعوب وتكوين أحلاف ومراكز نفوذ. كتلة شرقية مكونة من روسيا والصين وإيران والهند، وكتلة غربية تقودها أمريكا وفى ظهرها أوروبا. والشرق الأوسط بينهما هو محور هذا الصراع، وفيه تشتعل الأوضاع وتشتبك المصالح وتختلط الأحداث. والنتيجة أن شعوب المنطقة تنصهر في بوتقة تدفعها تيارات فكرية متضادة يميناً ويساراً، دون أن يكون لهذه الشعوب ركيزة أو شخصية قومية قوية تواجه تلك التيارات وتقاومها..

  ستظل تشوهات الحداثة تصيب أجيال قادمة، لا ندري إلى أي مدي سيصل تأثيرها المهلك، حتى ينتهي بنا هذا المسار إلى مصير غامض مجهول..

خارطة الثقافة

 لهذا السبب أري أن الثقافة في حاجة لنوع من التخطيط وإعادة التقييم..

وإذا كان حديثي في بدايته عن الحوار الثقافي بمناسبة رمضان، فإن هذا الحوار لابد له أن يحيا ويستمر ويثار. بحثاً عن شخصية مصرية قد تتشوه بفعل تيارات مغرضة قادمة من الشرق أو الغرب. وحفاظاً على تراث لم نعد نهتم بإحيائه، ظناً منا أن الاتجاه للمستقبل يستلزم طمس الماضي وإهمال الجذور والأصول!

 الخريطة الثقافية قد تتغير لو أن المهتمين بها من قادة الرأي قرروا أن يوحدوا جهودهم للرقي بالثقافة وإحداث حالة من الحركة والديناميكية الفكرية ولو بمجرد إلقاء حجر صغير في بركتها الراكدة. لابد من وجود حالة ثقافية تفاعلية قوامها العودة للجذور، والاستخدام الواعي لتقنيات الذكاء الاصطناعي ووسائل السوشيال الميديا التفاعلية لإحداث حركة ثقافية محلية تستوعب الشباب وتحتويهم وتستقطب إبداعاتهم وتستغلها لصالح تقدم الحالة الثقافية ورقيها في اتجاه استعادة الريادة، واستغلال قوتنا الناعمة الاستغلال الأمثل.

 ثم هناك الاستثمار الثقافي الهادف. قد يقوم به رجل أعمال واحد أو لفيف منهم. كما قد يكون في صورة مشروع يجمع ثلة من المثقفين الأثرياء الهادفين لتحريك الراكد من الحياة الثقافية في مصر، مشروع ثقافي قومي لا يتقيد بالروتين الحكومي ولا ينتمي لمؤسسات هادفة للربح. إنه مشروع هدفه الأوحد الارتقاء بالثقافة المصرية، والبدء في مسار ينتهي باستعادة الريادة الثقافية في المنطقة كما كان حالنا دائماً؛ حينما كنا منبع الإبداع ومنهل الثقافة في الشرق الأوسط في كافة مجالات العلم والفن والأدب والفكر.

 إننا في بحثنا عن مشروع ثقافي قومي إنما نبحث عن شخصية ثقافية جديدة تتشبث بالجذور والأصول وتنتفع بأحدث أدوات التكنولوجيا وآخر صيحات الذكاء الاصطناعي. والجمع بين الاثنين يستلزم تضافر الجهود وتعاون المهتمين بالشأن الثقافي وقادة الفكر، كما يستلزم رأسمال يستثمر في الثقافة مهما كانت عائداتها المادية أقل من غيرها. فالاستثمار في مثل هذا المجال هو استثمار في العقول والمواهب والطاقات البشرية، استثمار في الإنسان المصري وهويته.

***

عبد السلام فاروق

تمر الان الذكرى الحادية والعشرين للغزو الامريكي واحتلالهم للعراق ولاينبغي لنا ان ننسى ابدا هذه الذكرى بل المهم ايضا تثقيف الجيل الناشئ بما قام به الغزو الامريكي من جرائم في العراق وكذلك الدوافع الحقيقية للامريكان والتي لم تكن القضاء على الدكتاتور الفاشي صدام حسين فقط بل تدمير العراق كبلد قوي موحد وتمزيقه وتدمير مؤسساته وخاصة جيشه خدمة لاسرائيل والصهونية بمزاعم كاذبة وحجج واهية عن امتلاك العراق لاسلحة الدمار الشامل تلك الكذبة التي سرعان ما انفضحت خلال ايام بعد دخول القوات الامريكية رغم انهم كانوا يعرفون ذلك مسبقا كما تاكد من تصريحات مفتشي الامم المتحدة لاحقا.

ان اوضاع العراق الحالية بعد احدى وعشرين عاما تدل على نجاح الاحتلال وبالتواطؤا والاتفاق مع دول الجوار في تفتيت العراق على اسس المحاصصة الطائفية والقومية وتحويله الى دولة تعيش على تبديد ثرواته النفطية دون اية خطط او برامج تنموية حقيقية تهدف الى اعادة بناء مشاريع صناعية او تطوير القطاع الزراعي او تخفيف معاناة العراقيين في مجالات التعليم والصحة والخدمات ونجد استمرار تشكيل الحكومات من نفس الوجوه الكالحة الفاشلة التي جرى تسليم الحكم لهم من قبل الامريكان وهي في الحقيقة عناصر فاشلة فاسدة لايوجد اي امل في توقع اي اصلاح حقيقي منها لانها تاصلت في مجالات سرقة ثروات العراق والاثراء الشخصي على حسابه وبدات مع الاسف "تفرخ" جيلا جديدا من ابنائهم واقاربهم ليستمر النهب وتستمر السرقات .

ان القوى الحاكمة مسئولة مسئولية مباشرة عما حل بالعراق طيلة العقدين الماضيين وكذلك ما حصل من احتلال بضعة مئات من قتلة داعش الارهابيين لثلث العراق عام 2014 والذين لم يتم التخلص منهم الا عبر تضحيات جسام وتقديم الاف الشهداء وتدمير مدن ومناطق كاملة في مقدمتها مدينة الموصل التي لا يزال القسم القديم منها مدمرا بالكامل رغم مرور سنوات على تحريرها .

يواجه العالم اوضاع جديدة اكثر تعقيدا منذ السابع من اكتوبر الماضي حيث شاهدنا تنمر اسرئيل بدعم امريكي تنتهك كافة القوانين الدولية بحربها الاجرامية في غزة والتي استشهد فيها اكثر من 33 الف معظمهم من النساء والاطفال وجرى تدمير وحشي كامل لغزة واستمر العالم الغربي في تجاهل الرائ العام الدولي الذي انعكس في مظاهرات ومسيرات متواصلة شملت اوربا وامريكا تستنكر جرائم الابادة الجماعية التي تقوم بها اسرائيل واعتبار ما تقوم به جرائم حرب عنصرية كشفتها دولة جنوب افريقيا امام المحكمة الدولية ولم يكن العراق بعيدا عن انعكاسات كل ذلك .

لقد لجات الطغمة الحاكمة الى الغاء الكثير من الاصلاحات لقانون الانتخابات الذي سبق وتم تعديله بتاثير انتفاضة اكتوبر 2019 ورجعوا من جديد في ارجاع سانت ليغو سيء الصيت الى قانون الانتخابات وتم اعتماد ذلك في الانتخابات المحلية التي جرت مؤخرا لتعود تلك المجالس التي لم يفتقدها احد طيلة غيابها لعشرة سنوات لانها مجرد وسيلة للسرقة والنهب على مستوى المحافظات ولاحظنا المحاصصة على نطاق تعيين المحافظين بعيدا عن الكفاءة وكانها مجرد تقسيم الكعكة بين مجموعة من الفاشلين والسراق وكيف يمكن الثقة بمجاميع لم يتم التصويت لها الا باقل من 20% من الناخبين؟

ان شبح انتفاضة تشرين 2019 يهز مضاجعهم خاصة وهم يدركون ان الجولة القادة والاتية لامحالة ستؤدي ولابد الى الخلاص من هذا الحكم القذر وهذه العملية السياسية الكريهة التي فقدت كل مصداقية منذ يومها الاول وكذلك فقدت ثقة الجماهير العراقية لانها زمرة مارقة لا تعمل الا لمصالحها الانانية الخاصة ويحاولون في نفس الوقت اصدار قوانين لكم الافواه واسكات الاصوات المعترضة رغم ما يدعونه من ان العراق ديمقراطي!! ولايمر اسبوع الا و تنكشف عمليات فساد وسرقات جديدة في حين تقف الحكومة عاجزة عن المحاسبة ولاننسى سرقة القرن التي تم اطلاق سراح المتهمين فيها دون اية محاكمة وان غياب الشفافية وانتهاك حقوق الانسان وكذلك اغتيال الصحفيين الاستقصائيين اصبحت ظواهر بارزة للر تواصل الانحدار في كافة تلك حكم الطائفي القومي الفاسد .

نتسائل هل ان من مهمات رئيس الوزراء ان يهتم بالمشاريع التي من المفروض ان تقوم بها البلديات مثل فتح المجسرات او تبليط الشوارع في حين ان من مهماته كرئيس وزراء وقائد عام للقوات المسلحة ان يرسم خطوط سياسة ستراتيجية ورسم الخطوط العامة للعلاقة مع دول الجوار ومعالجة قضايا المياه ومشاكل توفير الكهرباء وسيطرة دول الجوار الاخرى كالسعودية والكويت التي اتفق معها العديد من الوزراء السابقين مقابل ملايين الدولارات من الرشاوى على افشال ميناء الفاو

ان الحكومة الحالية شأنها شأن الحكومات التي سبقتها طرحت برنامجها للبرلمان في تشرين الثاني 2022 قبل حوالي السنة والنصف وهو مليء بوعود الاصلاحات في مجالات التعليم والصحة والكهرباء وفي مجالات الصناعة والزراعة والمشاريع والخ ولكن واقع الحال اظهرفشلها على كافة تلك الاصعدة واستمر الفساد وغياب الشفافية اي انه كان برنامجا مماثلا لبرامج الحكومات السابقة وتتبع الحكومة توجيهات وتعليمات الاطار التنسيقي الذي شكلها وتخلت قبل كل شئ عن وعدها باجراء انتخابات مبكرة خلال عام واستمر التنصل من كافة الوعود الوردية الذي تضمنها البرنامج الحكومي .

نتسائل كيف تمت سرقة 10 مليارات من الامن الغذائي ونتسائل كيف يتم صرف ميزانية 2023 البالغة 190 مليار دولار واين يتم صرف كل هذه المبالغ الهائلة وكيف قبل رئيس الوزراء بوزراء دون شهادات جامعية او شهادات مزورة ؟ لمذا العجب وقد اكتشفنا مؤخرا بان هناك 30 سياسيا مليارديرا في العراق كما صرح ورير المالية السابق مقابل ملايين العراقيين الذين يعيشون في فقر مدقع .

ان انفاضة اكتوبر 2019 والتي جاءت تتويجا للكثير من الاحتجاجات السابقة منذ 2011 قدمت الكثير من التضحيات حيث بلغ عدد الشهداء اكثر من الف وعدد الجرحى والمعاقين حوالي العشرين الف ولم المتورطين في جرائم القتل تلك .

ان الانتفاضة القادمة سوف تخلص العراق من هذا الحكم الكريه والبعيد كل البعد عن امال وتطلعات العراقيين لمستقبل زاهر لايمكن البدء به الا بعد الخلاص من هذه الوجوه الكريهة منتهية الصلاحية حتى قبل  استلامها الحكم لانها زمرفاشلة فاسدة مشبوهة انانية لاتخدم سوى مصالح الاجنبي وكل يوم من استمرارها في الحكم هو يوم لزيادة معاناة العراقيين وليس يوم الخلاص منها ببعيد.

***

محمد الموسوي

رؤية استشراقية باللهجة المصرية وإسقاط للحالتين الإخوانية والداعشية على الإسماعلية

خوارق التأليف والإخراج

منذ المشاهد الأولى من الحلقة 1 من مسلسل "الحشاشين" - تأليف وسيناريو عبد الرحيم كمال وإخراج بيتر ميمي وبطولة كريم عبد العزيز- يُصدم المشاهد بالأخطاء الفادحة والتي لا سبيل إلى حجبها بمقولة "تصيد العثرات"، خصوصاً إذا كانت بهذا الحجم المذهل؛ نشاهد كوكبة من 5 فرسان إفرنج "صليبيين" براياتهم وتروسهم الكبيرة المزينة بصلبان ضخمة وهم يقتربون من قلعة آلموت "عش العقاب"، معقل الفرقة الإسماعيلية النزارية، التي سماها المؤلف بالاسم الذي أشاعه الفرنجة لاحقا "الحشاشين".

تقع قلعة آلموت على ارتفاع 6000 قدم فوق قمة أحد جبال الديلم جنوب بحر قزوين وعلى مسافة 100 كم شمال طهران، في منطقة جبلية قاسية تغطيها الثلوج طيلة 7 أشهر في العام! فكيف تمكن هؤلاء الفرسان الفرنجة من اختراق قلب العالم الإسلامي المعادي لهم والوصول إلى تخومه الشرقية الجبلية، ليعرضوا على زعيم متمرد مسلح في قلعته الحصينة أن يكون ولاؤه لملكهم مقابل دعمه عسكريا، وكيف عادوا بسلام إلى باريس؟

ثمة أيضا أخطاء إخراجية فادحة منها؛ إنَّ الطريق الترابي بين الجبال الذي سارت عليه كوكبة الفرسان لم يعالج فنياً بشكل جيد فبقيت آثار عجلات السيارات من عصرنا واضحة للعيان. وينقلنا مشهد آخر إلى الفرسان عائدين إلى بلادهم، بعد أن استقبلهم حسن الصباح لدقائق ورفض عرض ملكهم، وأراهم قوته بأن أمر أحد مقاتليه برمي نفسه من أعلى القلعة ليتهشم جسده أمامهم! أما عودة الفرسان فلن تكون إلى إحدى الإمارات الصليبية على الساحل الشامي كما يرجح المنطق السليم بل إلى باريس عاصمة المملكة الفرنسية نفسها. ونفهم لاحقا في الحلقة 12 أن هذا المشهد متأخر وجاء بعد انتصار النزارية على الجيش السلجوقي التركي ومزقه شر تمزيق!

وباريس هذه التي ظهرت في المسلسل كقلعة في قمة جبال وعرة، لا علاقة لها بباريس القرن الحادي عشر - عرفها العرب بعد عدة قرون من زوال النزارية باسم بَرْيش كما وردت في كتاب "رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب" للمغربي شهاب الدين الحجري ت 1640م-  ولا بباريس المعاصرة التي تقع في منطقة مستنقعات (وكان اسمها الأقدم باللاتينية لوتيس من لوتيم "الطين" أي مدينة الطين) على ضفاف نهر السين لا ترتفع عن سطح البحر أكثر من 35 مترا. فهل هذه هفوات صغيرة يمكن التسامح معها؟ 

الدراما في خدمة البروباغندا السياسية

إنَّ الإشكالية التي يثيرها المسلسل باتت واضحة فهو يستلهم الحدث التأريخي الحقيقي الخاص بالحركة الإسماعيلية النزارية، وبتركيز أكثر على قائدها حسن الصباح، ولكنه لا يطابق الحيثيات التأريخية بدقة بل ينتقي منها ما يشاء ويرويه بالطريقة التي يشاء خدمة لاستراتيجيته التأليفية الإسقاطية. ليس لأن هذه المصادر نادرة أو متضاربة غالباً، بل لأن كاتب السيناريو أعطى لنفسه مساحة واسعة من التخيل والتلاعب بالحدث التأريخي لتقديم رؤيته الخاصة، وليس لتقديم رؤية نقدية تعالج الحدث التأريخي بأدوات التحليل المنهجي التأريخي العلمي المعروفة لمقاربة الحقيقة.

وإذا كان هذا التدخل أو التلاعب لأهداف فنية وجمالية مشروعا فإنَّ ثمنه يجب أن لا يكون الانتقال التلقائي من ميدان التأريخ إلى ميدان الأيديولوجيا والتوظيف السياسي دفاعا عن أنظمة استبدادية قائمة.

من هنا يدخل العمل الدرامي في باب البروباغندا إعلامية الحكومية الهاجية للمعارضين عموما والإسلاميين "الإخوان المسلمين" منهم خصوصا كما نجد مثالها في أعمال فنية نمطية من قبيل "الإرهاب والكباب" و"الإرهابي" وفي مسلسلات استخباراتية من قبيل "القاهرة كابول" و "هجمة مرتدة" ومسلسلي الاختيار بأجزائه الثلاث حول الأحداث التي تلت الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب محمد مرسي واستعرض بطولات القوات الأمنية الحكومية ضد المعارضين من الإخوان المسلمين ومسلسل "كلبش" بأجزائه الثلاث وهما من إخراج مخرج "الحشاشين" بيتر ميمي والأول بطولة كريم عبد العزيز نفسه.

حسن الصباح بين مسلسلين:

إنها المناسبة الثانية خلال سنين قليلة التي يتناول فيها عمل درامي الفرقة النزارية. فقد عُرض مسلسل أردني بعنوان "سمرقند" سنة 2016 وهو مستوحى - كما يقول عنوانه - من رواية بهذا الاسم للكاتب الفرنسي اللبناني أمين معلوف، وهي رواية مغرقة في النزعة الأورومركزية الاستشراقية تعج بالإشارات الطائفية الساذجة من قبيل "فَهِمَ عمر الخيام معنى التلميح، فاسمه هو اسم الخليفة الثاني بعد النبي "عمر" المكروه من الشيعة لأنه كان منافساً عنيداً لعلي مؤسس طائفتهم/ص 82"! ومن الواضح أن رواية معلوف، وقبله رواية جرجي زيدان "صلاح الدين ومكايد الحشاشين" والمسلسلين الأردني والمصري يستلهمان مادتهما التأريخية في الغالب مما رواه ماركو بولو ومجايلوه الفرنجة بدليل تكرار بعض التفاصيل حرفياً مما لم يرد غالباً في السردية التراثية العربية بل ويتصادم معها أحيانا كما سنوثق لاحقا بالرجوع لابن خلكان وابن الأثير وابن كثير والمقريزي...إلخ. 

وإذا كان المسلسل الأردني اختار من رواية معلوف ما يناسب اهتماماته الاستعراضية الترفيهية (جوارٍ حِسان ورقص وغناء) بلغة فصيحة خشبية وأداء مسرحي مبالغ فيه -  فإن الثاني اعتمد اللهجة المصرية للمرة الأولى في المسلسلات والأفلام التأريخية - إذا استثنينا فيلم "الناصر صلاح الدين" سنة 1963 - والذي كتب بمزيج من اللغة العربية الفصيحة البسيطة واللهجة المصرية أحيانا!

الرواية الثانية هي رواية اليوغوسلافي بارتول "قلعة آلموت" الصادرة في ثلاثينات القرن الماضي، وتأثرت كما يبدو بأقاصيص ماركو أبولو، ولكن ليس كما فعل معلوف وآخرون. فبارتول مثلا لم ينشغل كثيرا بقصة علاقة الطفولة والشباب بين حسن الصباح والوزير السلجوقي نظام المُلك والشاعر عمر الخيام، فمرَّ عليها بشكل عابر بأقل من نصف الصفحة 122. ولكنه ذهب فيها الى استنتاج يتسم بالمبالغة مفاده أن الأصدقاء الثلاثة انتهوا بأن كرسوا أنفسهم للدعوة الإسماعيلية. ويكرر بارتول اللازمة العدمية التي ألصقت بالنزارية من قبل أعدائها ونصها "لا شيء صحيح وكل شيء مباح/ص442"، وقد كررها كاتب مسلسل "الحشاشين" بصيغ مختلفة.

أما الحشيشة فقد جعل بارتولُ حسنَ الصباح يقدم أقراصها بنفسه لمقاتليه ثم يأمرهم وهم "مسطولون" بالانتحار ليلتقوا حبيباتهم بعد الموت فينفذون أمره بلا تردد، ص 461! وجمع عبد الرحيم كمال بين "الحشيشة" وبركة إمام النزارية في مشهد قد لا يخلو من الإسفاف (في الحلقة 8)، حين عثر أحد المقاتلين على نبتتها فهرع لحشِّها وتعريف الصباح ومن معه عليها وامتدح تأثيراتها النفسية والبدنية على متعاطيها. وحين يُسأل المقاتل عن حكم تعاطيها الشرعي يجيب بنكتة: "بعد ما يكون دخانها في صدري أكون برة أي حكم شرعي يا سيدي"!

ثم نشهد واحدة من معجزات حسن الصباح حيث يُشفي طفلاً قروياً من مرضه "ببركة الإمام" وبعد أن سقاه ماءً وضع فيه مسحوقاً ما وتمتم عليه بصوت غير مسموع فيشفى الطفل ويلتحق أبوه وأخوه بالنزارية. وبمرور الوقت يتحول الصباح إلى مُصَنِّع ماهرٍ للحشيشة يتعاطها فتظهر له معلمته، الأنثى الغامضة والشريرة/الحلقة 9!

إن هاتين المعلومتين حول تعاطي الإسماعيلية النزارية للحشيشة أو القائلة بوجود علاقة طفولة وفتوة بين الشخصيات "التأريخية" المذكورة غير موثقة تراثيا كما قلنا، فليس ثمة ما يؤكد العلاقة بين الثلاثة من تراث المعنيين ولم يرد ذكرها في أمهات التراث العربي الأشهر. ورغم ذلك، فقد جعل المؤلف من قصة أصدقاء الطفولة الثلاثة ثيمة مركزية ومحوراً حَدَثيّاً رئيساً رغم أن الفرق بين أعمارهم كبير ويصعِّب تصديقها؛ فالصباح ولِدَ سنة 1037م، وولد الخيام بعده بعشرة أعوام أي في سنة 1048، أما نظام الملك فولد قبل الخيام بثلاثين عاما في 1018، فكيف يكونون زملاء على مقاعد الدراسة في طفولتهم أو فتوتهم وشبابهم؟

ماركو بولو كمصدر أورومركزي

يبدو أن الشاب الإيطالي المغامر ماركو بولو صار أهم مصدر تأريخي غربي وبقوة الأورومركزية لا بقوة علمه فلا علم لديه. أما المستشرق والباحث الروسي المتخصص بالإسماعيليات فلاديمير إيفانوف (1886 - 1970)، الذي لم يذكر هذه الخزعبلات في كتبه، أو الباحث البريطاني برنار لويس (1916 -  2018) والذي وصف النزارية بـ "فرقة ثورية"، فلا أحد من صناع الدراما العربية اهتم بهما، أو في الأقل وازن بين ما كتباه وما ورد في روايات ماركو بولو ومعاصريه. 

إن مزاعم ماركو بولو بزيارة القلعة ووصفه لها في نص بعنوان "أسطورة الفردوس"، وكيف كان حسن الصباح يخدر أتباعه بالحشيشة وينقلهم إلى جنات خضر فردوسية تعج بالجواري الحِسان - وهو ما استنسخه مؤلف الحشاشين حرفيا وخدَّر الفدائي سعد الذي سيقتل نظام المُلك ولكن في مشهد تخيلات التحشيش- الحلقة 12- (أما المؤرخ العربي المسلم السُّني ابن خلكان فيتهم السلطان ملكشاه بقتل وزيره نظام الملك "حسداً له واستكثاراً لما بيده من الإقطاعات- كما سنوثق لاحقا)، هي مزاعم أسطورية فعلا أو حكايات مختلقة. فقد كان عمر ماركو سنتين (ولد سنة 1254م) حين أحرق المغول قلعة آلموت وقضوا على النزارية سنة 1256، (ولدينا روايتان: الأولى تقول إن المغول دمروها والثانية تقول إن النزاريين أنفسهم دمروها قبل وصول المغول وخاضوا معركتهم الأخيرة). وهو يزعم أنه زارها سنة 1273 أي بعد ربع قرن على سقوطها وتدميرها، فهل زارها حقا، أم أنه نسج هذه الأسطورة بالسماع من آخرين سبقوه ومنهم القس الفلمنكي وليم ريبروك الذي زار المنطقة بين سنتي 1253 و1255؟ ثم، وبعد سنتين على زيارة ماركو بولو المزعومة قدَّم رسول الملك الإيطالي بارباروسا تقريره عن الفرقة النزارية "الحشاشين" سنة 1175م، وفيه خزعبلات وأفعال لم يمارسها الشرقيون حتى في أشد أطوارهم بدائية ووثنية كحفلات زنا المحارم وشرب الخمور والمخدرات وأكل الخنزير! أم أنه استمد معلوماته مما كتبه رئيس أساقفة صور وليم تيري كما يخبرنا برنار لويس في كتابه عن الاغتيال عند الإسماعيلية النزارية/ ص 161.

وأخيرا، فالواقع الجغرافي والمناخي يدحض كل هذه الترهات والمبالغات فالقلعة تقع في منطقة جبلية قاسية تغطيها الثلوج طيلة 7 أشهر في العام كما أسلفنا، وهذا ما يجعلها جرداء غير صالحة لزراعة تلك الجنان الفردوسية المزعومة.

لماذا باللهجة العامية المصرية

ربما كان الهاجس الإنتاجي وتقريب الإسقاطات السياسية للحالة المصرية المعاصرة هو ما دفع المؤلف إلى اعتماد اللهجة المصرية في الحوار، بدلا من الخيار الأصعب تقنياً والمتمثل في اعتماد اللغة العربية الفصيحة.

ولكن المخرج بيتر ميمي يعلل الأمر بلهجته الخاصة كالتالي: "الأحداث بين أتراك وفرس... فلما يعملوه الأتراك بيتكلموا تركي، ولما يعملوه الأمريكان بيتكلموا إنجليزى.. نحن عاملينه في مصر، والترجمة موجودة في كل بلد. هل الڤايكنجز كانوا بيتكلموا انجليزى؟ ولا ويليام والاس كان بيتكلم اللكنة الامريكية/ مواقع تواصل"!

السيد ميمي يضع اللهجة المصرية كمقابل للغة التركية في تركيا، والإنكليزية في بريطانيا، وهذا أمر مثير للجدل، فاللهجات العربية المحلية شيء واللغة العربية الفصحى شيء آخر لأنها لغة جامعة ومشتركة بين الشعوب العربية، والمسلسل موجه لها كلها وليس للمصريين فقط. وإذا كان المخرج يحتج بأن "الڤايكنجز" كانوا يتكلمون بالإنكليزية في الأفلام التجارية وهي ليست لغتهم، فهو يتناسى أعمالاً سينمائية مهمة أخرى احترمت موضوعها إلى درجة العودة إلى إحياء لغة العصر الذي حدثت فيه كما فعل ميل غيبسون في فيلمه الشهير "آلام المسيح" فاعتمد الآرامية شبه المنقرضة لأنها كانت لغة يسوع وعصره. يتبع.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

أمام جمع كبير من سفراء العالم المعتمدين في روسيا، وصل عددهم الى 70 سفيرا، وضع وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف، خلال مائدة مستديرة عقدت في الأكاديمية الدبلوماسية التابعة للخارجية الروسية، وضع لا فروف النقاط على الحروف الغامضة في العلاقات الدولية بين روسيا وعالم الغرب الجماعي، وحقيقة الملف الأوكراني ، وآخر التطورات السياسية والدبلوماسية والعسكرية فيه .

فأكثر السفراء الحاضرون، سواء بقصد او بغيره، لايعرفون الأسباب التي أدت الى بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، او الطبيعة التاريخية له، او حتى يتجاهلونها، لذلك حرص الوزير الروسي، على التذكير بما تم توضيحه سابقا، سواء من قبل المسئولين والدبلوماسيين الروس او وسائل الاعلام بقنواتها المختلفة المرئية والمسموعة والمقروءة، والندوات والمؤتمرات الدولية والمحلية، واثبات الحقيقة التاريخية لبداية الصراع مع النظام في أوكرانيا، الذي انتهج التعاون مع النازيين والذي بات عادة ومقياسا طبيعيا لدى الغرب، حيث ينوون الآن إلزام كافة أعضاء "الناتو" بمساعدة أوكرانيا، وفقا لنظام مشدد لتسليح نظام كييف كي يستمر القتال ضد روسيا.

ولعل من المعالم المهمة في أسباب الصراع مع النازيين في أوكرانيا، هي تلك النوايا التي عبر عنها النظام في كييف منذ البداية، والتي تمثلت في استبدال اللغة الروسية، وإهمال حقوق سكان القرم والدونباس، ممن اعتبروا الانقلاب في كييف 2014 غير شرعي، ووصف النظام النازي في كييف المدافعين عن الشرعية، ومن اعتبروا ما حدث في 2014 انقلابا، في القرم ودونباس بالإرهابيين وقاموا بشن الحرب ضدهم.

وللتاريخ فإن روسيا استطاعت في 2015 وقف الحرب التي بدئها الرئيس الاوكراني بيتور بوروشينكو في 2015، الذي أعلن ما يسمى "العملية ضد الإرهاب"، وهي عملية عسكرية للقوات المسلحة الأوكرانية ضد الدونباس وضد شعبها، وان اتفاقيات مينسك، اقترحت تقديم وضع خاص للدونباس، وأن يكون لديهم أجهزة حفظ النظام الخاصة بهم، لكن وعود فرنسا في الاتفاقية كانت كاذبة وكذلك ألمانيا، وفي عدد من دول أوروبا، ترغب الأقليات في نفس ما احتاجه أهالي الدونباس، أن يكون لهم لغتهم وثقافتهم وديانتهم وتاريخهم.

لقد مارست أوكرانيا من قبل الإرهاب بمقتل الصحفي العسكري تتارسكي، ومقتل داريا دوغينا وغيرها، وقد تقدمت روسيا إلى كييف بشأن الأنشطة الإرهابية، وكل من هو مرتبط بذلك، وذلك يتطابق مع المعاهدة الدولية لمكافحة الإرهاب وبها التزامات، ووفقا لطلب الخارجية الروسية إلى الجهات الأوكرانية، تطالب موسكو بتنفيذ كييف لهذه الالتزامات، وتنتظر أن تأخذ جميع الدول ذلك بعين الاعتبار، إضافة إلى التوجه عبر الخارجية الروسية، أرسلت النيابة العامة رسائل إلى الولايات المتحدة، وعدداً من الدول طلباً لتوفير معلومات بشأن الهجمات الإرهابية، وتصرفات النظام في كييف ورعاته.

والغريب في الامر، ان النظام الاوكراني أصر على محاربة الجانب الثقافي في إقليم الدونباس، ففي الوقت الذي اعترفت أوكرانيا باللغة التترية في القرم فقط، حرمت التدريس وسحبت الكتب باللغة الروسية من المكتبات، ولا يحرقونها كما فعل هتلر، لكنهم يحولونها إلى إعادة تدوير في المواد القرطاسية، ومنع أي فعاليات باللغة الروسية، حتى بات الحديث باللغة الروسية في الأماكن العامة محرما، ويعرض المواطنين للعقاب وتحرير المخالفات، ويحدث ذلك في ظل أغلبية تتحدث الروسية في أوكرانيا، حتى العسكريين يتحدثون أسهل باللغة الروسية، فتخيلوا أن يتم منع اللغة الفرنسية أو الإيطالية أو الألمانية في سويسرا، أو إلغاء الإنجليزية في أيرلندا على سبيل المثال.

كما تم التمييز ضد اللغة والثقافة الروسية، ونذكر بأن القوانين الخاصة باللغة الأوكرانية، وقد ذكرت كافة اللغات الأخرى ذات الوضع الخاص، لكن الوضع كان يتقلص، وبات الاتحاد الأوروبي متفقا مع أوكرانيا ، للإبقاء على اللغات التي تعتبر لغات الاتحاد خارج قوانين التقييد، وتوصلوا إلى استثناء بالنسبة لهم، وان كل لغات الاتحاد الأوروبي لديها استثناء، ووضع ليس سيئا في القوانين الأوكرانية، أما اللغة الروسية، فهناك انتهاك لحقوق الإنسان وحقوق الأقليات، والمعاهدات الدولية بهذا الشأن، وغيرها من القوانين التي لا تسمح بالتمييز، لكن الاتحاد الأوروبي يغمض عيناه عن ذلك.

وبعد انضمام القرم إلى روسيا، وبعد أن اعترفت روسيا باللغات الأساسية للقرم، التترية والروسية والأوكرانية، فلأول مرة، بدأ العمل ببناء مسجد القرم، وكل ذلك لم يكن موجوداً خلال إدارة شبه الجزيرة من قبل أوكرانيا، وانه تحت حكم أوكرانيا، كانت كل الفعاليات الثقافية والتعليم باللغة الروسية ممنوعا بشبه جزيرة القرم، وفي السنتين الأخيرتين تصوت أوكرانيا ضد مشروع لـ "تمجيد النازية"، ورغم ان روسيا قدمت هذا المشروع منذ عام 2005، ولكن أوكرانيا لم تصوت ولمرة واحدة لصالح هذا المشروع، على الرغم من تصويت الأغلبية لصالحه.

كما ان كييف قامت بالإساءة لسمعة مؤسسات الأمم المتحدة، حيث سُمح لكييف بعدم تقديم تقريرها لحقوق الإنسان، إلى المؤسسات الأممية، ويرفضون الاعتراف بالمشكلات التي يواجهونها من جانب النازيين الجدد، ويتم اعتقال المواطنين الأوكرانيين الذين يعارضون النظام في كييف، وملاحقة هؤلاء المواطنين استنادا لموقفهم السياسي، ما يمثل انتهاكا للحقوق السياسية للمواطنين، في الوقت نفسه تطالب كييف بمعاقبة روسيا، وفي العام الماضي أعلن مندوب أستراليا أن جهود السلطات في كييف كانت "مدهشة"، على الرغم من انتشار لقطات الوحشية العسكرية للعسكريين الأوكرانيين حتى في أرض المعركة، ولكن وكما أوضح الوزير لافروف، لا أحد يريد أن يطالب أوكرانيا بالتحقيق في الجرائم ضد حقوق الإنسان.

المعروف لنا جميعا، انه في كل الحروب والنزاعات والخلافات، عادة ما يكون الوسطاء من الأطراف الغير متحيزة لاحد اطراف النزاع، لضمان الحيادية في الوساطة، الا في الوساطة في الملف الأوكراني ، ففي الوقت الذي تحضر فيه سويسرا لعقد مؤتمر بشأن "صيغة زيلينسكي للسلام"، فأنها قد نزعت مسبقا ومع بداية العملية العسكرية الخاصة، لباس الحيادية ، التي كانت تتمتع به منذ عشرات السنين، فقد أنضمت سويسرا ليس فقط إلى العقوبات ضد روسيا فحسب، بل وأصبحت من المحفزين لهذه العقوبات، ويقول الوزير لافروف " قد التقيت وزير الخارجية السويسري وقلت له: لا يمكن أن ننظر إلى سويسرا كطرف محايد بشأن القضايا المختلفة كما كان يجري دائما " .

وفي مؤتمر سويسرا وكما أوضح وزير الخارجية الروسي، مطلوب جمع أكبر عدد من الدول، وبدأوا في إقناع الدول بأنه ليس من الضروري التوقيع على كل البنود، فبإمكان التوقيع على بند أو اثنين، وحتى عدم التوقيع، ويريدون الحصول على أكبر عدد من الدول بأي شكل، ويضعون هدفهم لا الوثيقة الختامية، وإنما جمع أكبر عدد من الدول، وأخذ صورة جماعية بأكبر عدد من ممثلي الدول، كي تلعب هذه الصورة دورا في دعم زيلينسكي.

والخلاصة في القول، ان تطورات السنوات الماضية اثبتت روسيا انها دائما مستعدة للحوار النزيه، وليس لديها ما تخفيه، وإن أسباب العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا واضحة، والمواجهة مع الغرب ستستمر طالما كان الغرب يشجع قضاء النظام الأوكراني على كل ما هو روسي، والعدوانية تجاه روسيا، والدفع بأوكرانيا نحو الكارثة، ويشدد الوزير لافروف على ان روسيا لا ترى أي وثيقة يثبت فيها الغرب أحقيته أو منطقه، في بداية العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا وقبلها، وكان الأيديولوجيون الغربيون يقولون، " دعونا نسرّع بانضمام أوكرانيا إلى "الناتو"، والآن تسمع تصريحات مختلفة بشأن انهيار أوكرانيا، ويجب ألا يسمح بانهيار أوكرانيا لأن روسيا "سوف تهجم فورا على (الناتو)"، ويقولون أيضا " إننا لن نسمح بانتصار روسيا على أوكرانيا تحت أي ظرف من الظروف"، في الوقت الذي نفى فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفى كل المزاعم بشأن "هجوم روسيا على الغرب".

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

ما بين العصور الوسطى والعصور الحديثة، هناك العديد من الدول تحكم بواسطة الملوك والأمراء والحكام الذين يتربعون على السلطة لعقود. يمارسون الاستبداد وانتهاك حقوق المواطنين واستغلالهم. القرن العشرون، شهد في العديد من الدول أنظمة دكتاتورية وشمولية. الزعماء، في هذه الأنظمة يمتلكون سلطة مطلقة ويتجاوزون على الدستور والقانون ويسيطرون على جميع مؤسسات الدولة لخدمة أهدافهم السياسية والشخصية. وهناك الكثير من البلدان ومن بينها العراق، ما زالت في هذا العصر تمارس أشكالا مختلفة من الانتهاكات الجسيمة ويتم استخدام العنف لقمع المعارضة وحرية الرأي والتجاوز على حقوق المواطنين المدنية والسياسية والفكرية. وتشمل هذه الانتهاكات استخدام القوة المفرطة من قبل الشرطة أو التجاوز على الحقوق الفردية باسم مكافحة الإرهاب أو حفظ الأمن.

في النهاية، عندما لا تكون هناك آليات فعالة للمساءلة والرقابة تتكشف مظاهر التجاوزات ومدى انتهاك أصحاب السلطة لمقومات الدولة ومبادئ القانون بشكل واضح. ولا يمكن أن تبرز أهمية توازن السلطات أو أن يسود القانون لتعزيز المؤسسات ومنع التجاوزات اللاديمقراطية بحق الدولة ومصالحها الوطنية.

وإذا كانت العديد من الدول، قد شهدت انقلابات عسكرية، حيث يعطل الجيش القوانين ويقوم بالسيطرة على الحكم والمؤسسات الحكومية. ومن ثم استخدام القوة العسكرية وتحطيم المعارضة لتحقيق مصالح القادة العسكريين. إلا أن عراقا ما بعد احتلاله عام 2003، لم يأت بسلطة نتيجة انقلاب إنما "سلطة" بإرادة ما يسمى بـ "ديمقراطيات الدول المتقدمة"، يفترض أن تكون لديها نظرة تاريخية شمولية أوسع لفهم أهمية احترام مبدأ الدولة ومؤسساتها الإدارية والقانونية. لكن على ما يبدو، أن تحالف "دول الديمقراطيات" لم ترشد القوى السياسية أو الحكومات العراقية التي جاءت بها للسلطة على كيفية إدارة الدولة، مع شرط ، عدم سوء استخدام السلطة والقوانين لتحقيق أجندات سياسية أو اقتصادية معينة. مما أفقد الحكم الديمقراطي الذي يدعون، مصداقيته. والسياسيون العراقيون عدم قدرتهم على تعزيز سيادة الدولة المستقرة وإصلاح مؤسساتها وترسيخ حكم القانون كضمانات ضد التجاوزات ولحماية حقوق المواطنين.    

السؤال المهم: من يضمن حقوق المواطنين في بلد كالعراق متعدد الثقافات والمذاهب، الدولة أم السلطة؟

السلطة والدولة لهما مفاهيم أساسية في علوم فلسفة السياسة، دور كل منهما وعلاقتهما ببعضهما البعض: يستند إلى مطالعات فكرية وقانونية وسياسية عميقة. فالسلطة في أشكالها المختلفة، السلطة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية إلخ، لديها، القدرة للسيطرة على الموارد واتخاذ القرارات، سواء بشكل شرعي أو غير شرعي، ويمكن أن تكون مرتبطة بالحكومات أو المؤسسات الحزبية أو الأفراد والجماعات. أما الدولة، فهي هيئة سياسية مستقلة تتمتع بالسيادة حصرا، وتمتلك سلطة الحكم على أراضيها وسكانها. وتتكون الدولة من عدة عناصر، بما في ذلك الحكومة، السكان، الأراضي، والقوة العامة. وتشمل وظائف الدولة توفير الأمن والعدالة وتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين...

ومن أهم مظاهر العلاقة بين السلطة والدولة: توزيع المسؤوليات بشكل مناسب داخل الدولة لضمان توازن القوى ومنع انتهاك الحقوق الأساسية العامة فإذا ما نشأ تجميع السلطة في يد مجموعة صغيرة، قد يؤدي ذلك إلى الاستبداد والقمع. وكي تتمتع السلطة بالشرعية، أي أن تكون مقبولة من قبل الشعب، وتكون مسؤولة أمامه من خلال الآليات القانونية والسياسية، يفترض، أن يكون للمواطنين حق مراقبة السلطة ومساءلتها عن أفعالها. لكن إذ كانت الدولة تفتقر إلى هياكل دولة فعالة، وتسمح لأن تكون السلطة متمركزة في أيدي الأفراد أو الجماعات دون مساءلة قانونية فعالة. سيؤدي ذلك إلى الفوضى، وانعدام الأمن والعدالة الاجتماعية. وسيتعذر على الدولة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. أو المقدرة على تحقيق مصالح المجتمع بشكل عادل ومتوازن... بشكل عام، كي يتحقق التوازن والعدالة ويضمن استقرار المجتمع، يتعين على أن يكون هناك تفاعل بين السلطة والدولة. من خلال تعميق العلاقة بينهما، يمكن تحديد السياسات والإصلاحات اللازمة لتعزيز دور الدولة كمؤسسة فاعلة في خدمة المجتمع وضمان حقوق وحريات المواطنين وأمن الدولة ذاتها.

السلطة والدولة في سياق المفهوم الدولي، لهما دوران حيويان لضمان وحماية الحقوق المدنية والسياسية للمجتمع والأفراد. الدور الخاص بالدولة: تكون الدولة المسؤولة عن وضع القوانين والتشريعات التي تحمي حقوق الأفراد والمجتمع في مختلف الجوانب، بما في ذلك الحقوق المدنية والسياسية وتوفير بنية قانونية ومؤسساتية تضمن تطبيق هذه القوانين وتنفيذها بشكل عادل ومتساو. تضمن الدولة وجود نظام قضائي مستقل ومنصف يحمي حقوق المواطنين ويوفر لهم فرصة للمحاكمة العادلة والاستجابة لشكاوى الانتهاكات. بالإضافة إلى ذلك، توفر الدولة البنية التحتية اللازمة لضمان ممارسة الحقوق المدنية والسياسية، مثل الحرية في التعبير والتجمع والديمقراطية السليمة... الدور الخاص بالسلطة: تتعلق مسؤولية السلطة في تأمين وحماية حقوق الأفراد والمجتمع عن طريق تنفيذ القوانين وتطبيقها بشكل فعال. ويجب على السلطة أن تمتلك وتمارس دورها بشكل شرعي ودستوري، مع احترام الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين. أيضا أن تكون مسؤولة أمام المجتمع والمواطنين، وأن تكون قابلة للمساءلة في حال انتهاكها للقوانين أو قامت بانتهاك الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين. بشكل عام، يجب أن تتعاون الدولة والسلطة معا لضمان وحماية هذه القيم، وتحقيق هدف التوازن بين سلطات الدولة وضمان أن تكون تلك السلطات محدودة ومقيدة بالمؤسسة القانونية...

***

عصام الياسري

هوية العراق دستوريا منذ 1925 وحتى إقرار دستور 2005 المكوناتي

في أول دستور للعراق سُنَّ سنة 1925 لم ترد مادة تسمي أو تصف هوية العراق القومية على اعتبار أن هذه الهوية تحصيل حاصل، فلم يلق هذا الدستور أية اعتراضات أو تحفظات حينها من النخب السياسية والاجتماعية العراقية آنذاك؛ فسكانياً شكل العرب غالبية تفوق 85 بالمائة والمسلمون غالبية تفوق الـ 95 بالمئة، والعراق هو موطن الأقوام الجزيرية "السامية" ودولهم وإمبراطورياتهم منذ فجر التاريخ وهو موطن الإمبراطورية العربية المسلمة "العباسية" وعاصمتها بغداد، وفيه ولدت المدارس اللغوية العربية الثلاث الكوفية والبصرية والبغدادية.

في الدستور الأخير لمرحلة ما قبل الاحتلال الأميركي والذي سنه نظام البعث جاء في المادة 5 أولا ما نصه "العراق جزء من الأمة العربية" وفي المادة نفسها ثانيا ورد "يتكون العراق من قوميتين رئيستين هما القومية العربية والقومية الكردية ويقر هذا الدستور حقوق الشعب الكردي القومية والحقوق القومية المشروعة للأقليات كافة ضمن الوحدة العراقية". ومعلوم أن هذا الدستور قد فرض بقوة السلطة الاستبدادية وشرع من قبلها وليس من قبل سلطات تشريعية منتخبة.

* وينطوي وصف الهوية القومية في الدستور البعثي على خلل واضح حين يضع "العراق" الدولة أي الكيانية السياسية الجغرافية في مستوى نوعي لتكون جزءاً من "الأمة العربية" والتي هي كيانية اجتماعية سكانية مفترضة ومؤلفة من ملايين البشر، وهنا ثمة خلل نظري وعلمي واضح كما نرى. وهذا التحديد للهوية العربية لا لزوم له أصلا على اعتبار أنها بديهية ومعروفة ولا سبيل الى التشكيك فيها. أما الدخول في تفاصيلها وحصر التكوين القومي الرئيس بالقومتين العربية الكردية وعدم ذكر الأقليات القومية والدينية واللغوية الأخرى أي التركمانية والسريانية فهو خلل آخر لا يمكن تبريره إلا بمحاولة ترسيخ الثنائية القومية في العراق وما يلحقه ذلك من إجحاف بالأقليات الأخرى كالتركمان والسريان وغيرهم.

في دستور 2005 الذي شرع تحت ظلال الاحتلال الأميركي فقد ورد في المادة (3) من مسودة الدستور العراقي: "العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وهو جزء من العالم الإسلامي، وعضو مؤسس وفعال في جامعة الدول العربية وملتزم بميثاقها"، وقد تم الاتفاق على هذا النص كحل وسط لتلبية الاعتراضات الشديدة التي ووجه بها النص الرسمي الذي وافقت عليه الجمعية الوطنية قبل ذلك وكان يشير إلى أن "العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وهو جزء من العالم الإسلامي، والشعب العربي في العراق جزء من الأمة العربية". ويقال إن المعترضين على الصيغة الأخيرة كانوا هم الأعضاء العرب السنة في اللجنة الدستورية وكذلك الجامعة العربية وبعض الدول العربية على اعتبار أن هذا النص يسيء لهوية العراق ناهيك عن أنه يتعامل مع العرب وكأنهم أقلية عرقية في البلاد في حين أنهم يشكلون أكثر من 85 % من مجموع سكانها.

والواقع فإن تعويم هوية العراق واعتباره بلدا بلا هوية أو "بلدا متعدد القوميات والمذاهب"، هو اعتداء صريح على هوية العراق البديهية العربية الإسلامية المعروفة والتي لا حاجة إلى دسترتها، أما حين يصر بعض الساسة - من الكرد في حالتنا - على ذكر هذه التفاصيل ويطالبون بالاعتراف بحقوقهم القومية ويشطبون على هوية أكثر من 85 بالمئة من السكان العرب العراقيين فإن الأمر كما قلنا يتحول إلى عدوان وتمييز صريح ضد الغالبية السكانية يستلزم الرد والاحتجاج.

إن الصفقة السياسية التي تمت بين الساسة الشيعة بوجود ممثل مرجعية السيستاني في لجنة كتابة الدستور – هو الشيخ أحمد الصافي والذي كان اللولب المحرك لهذه اللجنة كما اعترف بذلك عضو اللجنة ضياء الشكرجي واتهم الصافي بالتزوير والضغط عليه/ رابط1 - وبين الساسة القوميين الكرد بضغط من المحتل الأميركي هي التي أوجدت هذه الصيغة الدستورية لضرب هوية العراق. فقد وجد هؤلاء الساسة في الشطب أو التشويش على هوية العراق فرصة سانحة لإعلاء هويتهم ورايتهم الطائفية وهكذا سيتم تقسيم المجتمع العراقي بعد الاحتلال إلى قومية كردية وطائفة شيعية وأخرى سنية وأقليات صغيرة أخرى "يتصدقون" عليها بمقعد كوتا واحد!

* نجد أول صورة لهذا الإجحاف وعدم التوازن المقصود في توزيع النسب السكانية في اول جمعية وطنية شكلت سنة 2004 وهي "الجمعية الوطنية الانتقالية التي تكونت من مائة عضو: 64 عربيا (أقل من نسبتهم السكانية بعشرين بالمئة تقريبا)، و24 كرديا (ضعف نسبتهم السكانية تقريبا) وستة من التركمان وممثلين عن كل الأقليات الأخرى، وربع أعضائه من النساء. وبواقع تقسيم طائفي ديني لأول مرة في تاريخ العراق بحيث يكون (للمسلمين الشيعة 45 مقعدا مقابل 44 للسنة).

* لقد وضع السيستاني الحجر الأساس لهوية العراق الجديدة وشطب على عروبته في مواد دستور 2005 بفتواها المؤرخة في 20 حزيران 2003 والتي نصت على أن (هوية العراق الوطنية من ركائزها الأساس الدين الإسلامي الحنيف والقيم الاجتماعية النبيلة) رابط 2.

* إضافة إلى ذلك، فقد قابل تعويم هوية العراق العربية الإسلامية إعلاء لشأن القومية الكردية وشهد العراق موجة عاصفة من الصعود القومي الكردي بلغ ذروته في المحاولة العلنية الانفصالية عن الدولة في الاستفتاء الذي أجرته بعد سنوات سلطات الإقليم في أيلول 2017 والذي تم إفشاله بصعوبة وبعد مساومات معقدة بين ساسة النظام ومواجهة عسكرية واسعة.

* أعتقد أن من أولى من مهمات النظام الوطني القادم بعد إنهاء نظام حكم المحاصصة الطائفية والعصابات اللصوصية الحاكمة اليوم إعادة كتابة الدستور العراقي جذريا بردم جميع المنافذ التدميرية ومنها المادة الخاصة بهوية الدولة العراقية والاكتفاء بتعريفها تعريفا عاما كتعريف دستور 1925 والنص على أن العراق دولة ديموقراطية اتحادية مستقلة. أما إذا أصر الساسة الكرد أو غيرهم على ذكر هوياتهم وحقوقهم القومية فينبغي ذكر أن هوية العراق الحضارية هي العربية الإسلامية، والأخذ بالصيغة السويسرية فتذكر جميع المكونات القومية واللغوية في البلاد والقول إن الشعب العراقي مؤلف من غالبية عربية بنسبة يحددها الإحصاء السكاني النزيه والشفاف وأقليات كردية وتركمانية وسريانية ومندائية وأيزيدية.

إن الشطب على هوية 85 بالمئة من العرب العراقيين وإعلاء شأن مكون قومي آخر والمكونات الطائفية الدينية أمر غير عادل ويؤدي إلى عواقب وخيمة مستقبلا.

***

علاء اللامي – كاتب عراقي

.......................

1- رابط / ضياء الشكرجي عضو لجنة كتابة الدستور سابقا: ممثل المرجعية كان هو العضو الفاعل والمسيطر في لجنة كتابة لدستور:

https://www.youtube.com/watch?v=0T16PH8KvbA&ab_channel=%D9%85%D9%8F%D9%87%D9%8E%D8%B1%D8%B7%D9%90%D9%82-Heretic

2- رابط فتوى السيستاني:

https://www.sistani.org/arabic/archive/273/

 

كثيرا ما نسمع عن مصطلح الدولة العميقة، ويخيل لنا انها دولة داخل دولة، او هي الجماعة المسيطرة بالباطن على قرار الدولة، وتمثل حالة غير صحية تمر بها بعض الدول تجعلها اسيرة بيد بعض الشخوص او الجماعات، والتاريخ ممتلئ بالحكايات عن هكذا نمط من الجماعات، وبحسب التعريف السائد لمصطلح الدولة العميقة: "هو مصطلح يُستخدم لوصف هيئات أو جماعات أو مؤسسات تعمل في الخفاء خارج الهياكل الرسمية للدولة وتمارس نفوذاً وتأثيراً كبيرين على صنع القرار في البلاد"، وقد احتار الكتاب عبر التاريخ في تفسير هذه الحالة، وتعتبر الدولة العميقة ظاهرة معقدة ومثيرة للجدل، حيث يمكن لها أن تكون مكونة من مجموعة من الشخصيات النافذة في السياسة والاقتصاد والعسكر والإعلام وغيرها، تعمل سراً على تحقيق أهدافها بشكل غير شفاف.

وامثلتها كثيرة في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية بل حتى في بعض الدول العظمى، التي يكون محركها الحقيقي مجموعة أشخاص غير ظاهرين، يمكن أن تكون مكونة من عناصر متنوعة مثل موظفين حكوميين مؤثرين، او أعضاء كبار في القوات المسلحة، او رجال أعمال ذوي نفوذ، او وسائل إعلام موجهة مؤثرة، وغيرها، وتهدف الدولة العميقة عادة إلى الحفاظ على مصالحها ونفوذها، من خلال التأثير على صنع القرار وتوجيه السياسات والقرارات في البلاد، وتصبح الدولة العميقة مشكلة كبيرة، عندما تتدخل في العمل الحكومي بشكل غير قانوني أو غير دستوري، مما يؤثر سلباً على الديمقراطية وحكم القانون في البلاد.

أسباب نشوء الدولة العميقة؟

لو بحثنا عن اسباب نشوء الدولة العميقة لوجدنا مجموعة اسباب اصيلة خب الباعث الحقيقي لتشكل هذا الكيان الخطير.. وهي:

اولا: الفساد: من الممكن أن يكون الفساد في الهيئات الحكومية والمؤسسات الرسمية سبباً رئيسياً في نشوء الدولة العميقة، حيث يمكن للأفراد والجماعات المستفيدة من الفساد أن يستغلوا نفوذهم لتحقيق مصالحهم.

ثانيا: التنظيمات السرية.. وجود تنظيمات سرية تعمل خارج الأطر الرسمية للدولة وتسعى لتحقيق أهدافها بطرق غير قانونية وغير شفافة، قد يؤدي إلى نشوء الدولة العميقة.

ثالثا: المصالح الاقتصادية: قد تكون هناك مصالح اقتصادية كبيرة تتداخل مع السياسة، وتؤثر على صنع القرار في البلاد، مما يمكن أن يدفع ببعض الأطراف إلى تشكيل هيئات سرية لحماية هذه المصالح.

رابعا: التنافس السياسي: في بعض الحالات، يمكن أن يكون التنافس السياسي الشديد بين الأحزاب والجماعات السياسية سبباً في نشوء الدولة العميقة، حيث يستخدم الأطراف المتنافسة وسائل غير شرعية لتحقيق أهدافها.

خامسا: التحالفات العسكرية: تاريخياً، قد تكون هناك تحالفات عسكرية أو أمنية تعمل خارج الهياكل الرسمية للدولة، وتمارس نفوذاً كبيراً على السياسة والقرارات.

لذلك من المهم جدا ان يكون هنالك فهم لهذه الأسباب ومراقبتها بعناية، لمنع نشوء الدولة العميقة، وضمان شفافية العمل الحكومي، واحترام مبادئ الديمقراطية وحكم القانون.

خصائص الدولة العميقة

تتميز الدولة العميقة بعدة خصائص تجعلها تمثل تحدياً كبيراً للديمقراطية وسيادة القانون، ومن أبرز تلك الخصائص:

1- السرية والتجمع السري: تتميز الدولة العميقة بالعمل بشكل سري وتجمعات غير رسمية تتخذ القرارات بعيداً عن الأضواء العامة.

2- التأثير على القرارات السياسية: تمتلك الدولة العميقة قدرة كبيرة على التأثير في صنع القرارات السياسية والاقتصادية دون أن تكون مسؤولة أمام الجمهور.

3- التعامل بمصلحة ذاتية: تعمل الدولة العميقة وفقاً لمصالحها الخاصة، وليس بمصلحة المجتمع بشكل عام، مما يؤدي إلى تشويه العملية الديمقراطية.

4- التأثير على الاقتصاد: تمتلك الدولة العميقة قدرة كبيرة على التأثير في الاقتصاد من خلال تحكمها في الموارد والقرارات الاقتصادية.

5- التحكم في المؤسسات الحيوية: تتمكن الدولة العميقة من التحكم في المؤسسات الحيوية مثل الجيش والأجهزة الأمنية، مما يجعلها تمثل تهديداً للديمقراطية والحكم الشرعي.

باختصار، الدولة العميقة تمثل تحدياً كبيراً للأنظمة الديمقراطية ومبادئ الحكم الشرعي، حيث تعمل بشكل غير شفاف وتمتلك سلطة كبيرة على صعيد صنع القرارات والتأثير في السياسات والاقتصاد، لذلك من الضروري تعزيز الشفافية، ومحاربة الفساد، للحد من تأثير الدولة العميقة وضمان سيادة القانون والديمقراطية في المجتمعات.

مراحل تطور الدولة العميقة

الدولة العميقة تتطور عادةً عبر عدة مراحل تتميز كل منها بخصائصها وسماتها. يمكن تلخيص تطور الدولة العميقة في الخطوات التالية:

المرحلة الأولى: التكوين والتأسيس: تبدأ الدولة العميقة عادةً كتجمع صغير من الأفراد أو الجماعات الذين يمتلكون مصالح مشتركة ويسعون لتحقيقها خلف الكواليس، يتم في هذه المرحلة توحيد الأهداف وبناء العلاقات والتحالفات اللازمة.

المرحلة الثانية: التوسع والتنويع: مع تحقق النجاح في تطبيق أهدافها، تبدأ الدولة العميقة في التوسع والتنويع في نشاطها وتأثيرها، حيث يتم في هذه المرحلة استقطاب المزيد من الأعضاء وتكوين شبكات تمتد على نطاق أوسع.

المرحلة الثالثة: التأثير والتحكم: تكون الدولة العميقة في هذه المرحلة قد امتلكت قدرة كبيرة على التأثير في صنع القرارات والسياسات، والتحكم في المؤسسات الحيوية مثل الجيش والاقتصاد، وتصبح لها صلات وتأثيرات واسعة تمتد إلى مختلف القطاعات.

المرحلة الرابعة: التحالفات والتواطؤ: في هذه المرحلة، قد تبدأ الدولة العميقة بتكوين تحالفات مع أطراف أخرى، تهدف لتعزيز موقعها وتأثيرها، ويمكن أن تتشعب العلاقات و التواطؤات في هذه المرحلة لتشمل مختلف القطاعات والجهات.

المرحلة الخامسة: التحديات والمواجهة: في هذه المرحلة، قد تتعرض الدولة العميقة لتحديات ومواجهات من جهات مختلفة، تهدف إلى كشف أنشطتها والحد من تأثيرها، ويمكن أن تتعرض لضغوط سياسية وقانونية تهدف إلى كشف حقيقتها وتقييد نشاطها.

 كيف يمكن القضاء على الدولة العميقة؟

لا يمكن التخلص من الدولة العميقة بسهولة، لكن يمكن لبعض الخطوات لو تفعل ان تقلل من تأثيرها ثم تهدها مع الزمن.

1- تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد: من المهم تعزيز الشفافية في العمل الحكومي ومكافحة الفساد، حيث يمكن للدولة العميقة أن تستغل الفجوات في النظام لتحقيق أهدافها، فبناء نظام قانوني قوي وفعال، ويحاسب الجميع، يمكن أن يسهم في تقليل تأثير الدولة العميقة.

2- تعزيز الديمقراطية وحكم القانون: يجب تعزيز مؤسسات الديمقراطية وحكم القانون، لضمان سيادة القانون والحفاظ على استقلالية القضاء، ويجب أن تكون هناك آليات فعالة لمراقبة السلطات وضمان توزيع السلطات بين السلطات المختلفة.

3- تعزيز الوعي العام والمشاركة المدنية: يمكن لتعزيز الوعي العام وتشجيع المشاركة المدنية أن يسهم في كشف أنشطة الدولة العميقة وتقليل تأثيرها، ويجب تشجيع النقاش العام، والمشاركة في صنع القرارات، لزيادة الشفافية والمساءلة.

4- تعزيز الاستقلالية الإعلامية وحرية التعبير: يجب تعزيز استقلالية وحرية وسائل الإعلام لضمان تقديم معلومات دقيقة وموثوقة للجمهور، ويمكن للإعلام أن يلعب دوراً هاماً في كشف أنشطة الدولة العميقة، وتوجيه الضوء عليها.

5- التعاون الدولي والضغط الدولي: يمكن للتعاون الدولي والضغط الدولي أن يساهم في التصدي للدولة العميقة، خاصة إذا كانت لها صلات دولية، ويمكن للضغط الدولي من خلال العقوبات والعزل الدولي، أن يكون له تأثير في تقليل نفوذ الدولة العميقة.

***

الكاتب: اسعد عبد الله عبد علي

حتى ان كان الكيان اليهودي الصهيوني لا يفصح عن كامل أهدافه من وراء حرب الابادة على غزة إلا أن هناك شبه إجماع وتأييد من جميع اليهود على سياسة اليمين اليهودي الصهيوني بقيادة نتنياهو على ما يجري في الضفة وعلى تدمير القطاع وتغيير جغرافيته وتركبينه البشرية بمزيد من القتل والتهجير، كما لم يسبق أن حدث إجماعا يهوديا منذ المؤتمر الصهيوني الأول في بال عام 1897 على كيفية التعامل مع الفلسطينيين كما هو حاصل منذ اليوم الأول للحرب، جيت حشد واستنفر العدو كل إمكانياته البشرية والمادية والعسكرية والإعلامية وتحالفاته الدولية.

خلال أشهر الحرب كان الكيان الصهيوني على كافة مستوياته يعيش ويتفاعل مع حالة الحرب وكأنه يتعرض لخطر وجودي حقيقي، والجبهة الداخلية وضعت نفسها في خدمة المؤسسة العسكرية،  لم تتوقف المشاورات الداخلية واجتماعات قادة العدو على المستوى الوزاري وعلى مستوى الكابينت المصغر ومجلس الحرب، كما تجاوزت الأحزاب خلافاتها السياسية وأعلنت تأييدها لحكومة نتنياهو في حرب غزة ومواجهة التحديات الخارجية وتم تشكيل حكومة طوارئ في 12 أكتوبر أي بعد أيام فقط من الحرب ودخل زعيم المعارضة بني غانتس في مجلس الحرب المنبثق عن حكومة الطوارئ.

في مقابل ذلك كيف كانت تداعيات حرب الإبادة على النظام السياسي والطبقة السياسية الفلسطينية؟

لم يسبق أن كان النظام السياسي والطبقة السياسية الرسمية بهذه الدرجة من الضعف والتفكك في مواجهة تحدي غير مسبوق من حيث انكشاف أهداف العدو ومن حيث حجم الخراب والدمار وعدد الشهداء والجرحى والمفقودين وخصوصا من المدنيين خلال فترة زمنية لا تزيد عن ستة أشهر. نعلم قلة الإمكانيات والاختلال الكبير في موازين القوى العسكرية، ولكن لو كانت هناك وحدة وطنية ولم يكن هناك انقسام وصراع على سلطة تحت الاحتلال، لكان هناك ما يمكن عمله، إن لم يكن للانتصار في حرب غزة فعلى الأقل لتقليل الخسائر والحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية والبناء على حالة التأييد العالمي الشعبي المتصاعد لعدالة القضية ونصرة الشعب في مواجهة جرائم الاحتلال الذي أصبحت شعبيته وسمعته في العالم في الحضيض.

خلال ستة أشهر من حرب الابادة والعدو يتصرف وكأنه لا توجد دولة وسلطة فلسطينية ولا توجد قيادة جامعة تمثل الكل الفلسطيني ولا توجد قيادة وطنية مشتركة للمقاومة، حيث لم تجتمع قيادة الفصائل لمناقشة ما الذي يجب عمله، كما لم يصدر حتى بيانا مشتركا صادرا عن الأمناء العامين، اللقاء المشترك الوحيد كان في موسكو في نهاية فبراير الماضي وكان فاشلا حتى على مستوى الاتفاق على حكومة تكنوقراط وصدر عنه بيانا هزيلا في العموميات، وعلى مستوى قيادة المنظمة جرت اجتماعات محدودة متباعدة كان يترأسها رئيس دولة فلسطين محمود عباس، وكانت غالبا في سياق إثبات الحضور وتوضيح مواقف أو لتشكيل لجان لبحث تداعيات الحرب ووضع خطط لمواجهة الحرب على الضفة وغزة ، ولم نسمع شيئا بعد ذلك عن هذه اللجان والمخططات ، فيما استمرت حركة حماس تقود المعركة في غزة وتتفاوض وكأنه لا تجد سلطة ولا قيادة.

واستمر الانقسام والتراشق الإعلامي والاتهامات بالخيانة والتفريط، أيضا غابت دبلوماسية توافقية تمثل الموقف الوطني حيث استمرت حماس على خطابها المعادي للسلطة واستمرت في التعامل مع حلفائها التقليديين كإيران وبقية محور المقاومة وتتصرف وكأنها القوة الوحيدة الفاعلة في القطاع وعلى العالم أن يتعامل ويتفاوض معها، كما استمرت السلطة على نفس خطابها وشبكة علاقاتها، وأحيانا كانت أنشطة وفعاليات بعض البعثات الدبلوماسية الصديقة أكثر تأثيرا وحضورا من البعثات الفلسطينية.

ليس هذا فحسب، فحتى على مستوى قطاع غزة وبالرغم من المآسي التي يتعرض لها سكان القطاع لا يوجد أي تنسيق بين القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة، حماس والسلطة وجماعة دحلان والعائلات الكبيرة، ولو على مستوى التسبيق في مجال الإغاثة والمساعدات الإنسانية، التنسيق الوحيد القائم هو بين حماس ودحلان في مواجهة السلطة والمنظمة، بل تتسابق وتتنافس كل الأطراف على استلام المساعدات الإنسانية وأحيانا يتم توزيعها حسب الولاءات الحزبية والشخصية ،الأمر الذي ساعد العدو والأطراف الخارجية على التدخل بشكل فج تحت عنوان غياب مرجعية فلسطينية متفق عليها، وبذريعة دخول المساعدات الإنسانية وضمان وصولها لمستحقيها.

ستة أشهر من حرب الإبادة على غزة والتحركات الدولية، سلبا أو إيجابا لصالحنا أو ضدنا، والمشاريع والاقتراحات والمخططات تتوالى لوقف الحرب وبحث وضع غزة ما بعد الحرب، ولم تتفق الفضائل وحتى الشعب على رؤية أو استراتيجية للمواجهة ولمستقبل غزة، بحيث بات القطاع مرتعا لبقايا أحزاب وفصائل تشتغل حسب أجندة خارجية وعائلات تغولت على الشعب وباتت تملك سلاحا يفوق سلاح بعض الفصائل. وبات المواطن مسحوقا في مثلث الرعب والموت: قصف العدو وجرائمه، والجوع والفقر وفقدان الأمان، وبلطجة بعض الفصائل والجماعات المسلحة.

فعن أي نصر و صمود وبطولات يتحدث البعض؟ وعن أي شرعية تمثيلية لمنظمة تحرير يُفترض أنها تمثل كل الشعب بينما هي عاجزة ليس فقط عن وقف العدوان بل حتى عن تقديم غذاء ودواء ومياه تنقذه من الموت وتبعد عنه شبح التهجير القسري؟ وكيف نطلب من العالم أن يتوحد من حولنا ونحن غير موحدين ولا متفقين على موقف أو رؤية مشتركة حول عملية طوفان الأقصى وسبب الحرب وما الذي تريده بعد وقف الحرب، ولا تغرننا حالة التعاطف والتأييد العالمي لقضيتنا، فبعد وقف الحرب وعدم وجود عنوان وطني واحد متفق عليه سيذهب كل هذا التأييد هباء منثورا. 

وأخيرا نحذر من مخططات العدو في تشويه صورة المقاومة الوطنية المسلحة من خلال إلصاق تهمة الإرهاب بها واختزالها بما جرى في غلاف غزة، وفي الوقت إضعاف منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية كعنوان للشعب والقضية والدولة المستقبلية مع السماح لقوى أخرى بالعمل حتى وإن كانت تبدو معادية لإسرائيل، مع التحكم في قدراتها العسكرية وتمويلها المالي، كل ذلك في سياق ما سبق وأن حذرنا منه منذ سنوات وهو صناعة دويلة غزة.

***

د. إبراهيم ابراش

النسخة الروسية من 11 سبتمبر، التي ظهّرها تنظيم "داعش خراسان" بمهاجمة قاعة كروكوس، خلال حفل موسيقي في منطقة كراسناغورسك شمالي غربي موسكو، أثارت العديد من التساؤلات الخاصة والعامة عن دوافع تلك العملية، وقد نشرت وكالة "رويترز"  تفاصيل قالت فيها: أن المشتبه فيهم وصلوا إلى موسكو عبر تركيا.

وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي فاز مؤخرًا بالانتخابات بنسبة 87% من الأصوات، أن العالم الإسلامي نفسه يعاني من أيديولوجية هؤلاء، لكنه استدرك بأن هذا الهجوم يتّسق مع حملة أوسع من تهديدات أوكرانيا لبلاده.

فهل مثل هذه العملية الكبرى إعلان جديد عن بدء نشاط موسّع ﻟ "داعش" وأخواتها؟ علمًا بأن "تنظيم القاعدة" أعاد نشاطه هذه الأيام في اليمن، وتمّ اختيار رئيس جديد له بعد مقتل خالد باطرفي زعيمه في العالم، والمدعو سيف العدل في مأرب.

والسؤال الأكبر، هل "داعش" غبّ الطلب؟ فهو يغيب ويظهر، ثم يعود ويختفي، وهل هدف "داعش" إذكاء نار الصراع بين روسيا والغرب؟ ثم كيف يتحرّك أنصاره؟ وثمة سؤال جوهري؟ لماذا لا يقدم "داعش" على أي عملية ضدّ "إسرائيل"؟ وهي تستبيح دماء أهل غزّة وتدنّس القدس وترتكب أبشع المجازر في فلسطين؟

وكانت السفيرة الأمريكية في العراق ألينا رومانوسكي قد صرحت: أن "داعش" ما يزال يمثّل تهديدًا خطرًا في العراق، فهو يقوم بأعمال التجنيد والدعاية، وأعتقد أن ذلك بحكم وجود بيئة حاضنة وأخرى منتجة وثالثة مساعدة، خصوصًا باستخدامه منصات العمل الرقمية، ناهيك عن متعاونين معه يمهدون السبيل للقيام بمهماته، لاسيّما في ظل استمرار الحروب والنزاعات الأهلية في كل من اليمن وسوريا وليبيا والسودان، وهشاشة الدولة في لبنان والعراق بفعل أنظمة المحاصصة، ووجود ثغرات أمنية عديدة بما فيها الفساد المالي والإداري وتجارة المخدرات والإتجار بالبشر وتجارة السلاح، وهذه كلها عوامل مترابطة ومتشابكة مع أعمال الإرهاب.

فهل استفاق "داعش" حقيقةً في العراق وسوريا؟ وثمة مخاوف أن يستيقظ في لبنان في ظلّ أزمته الاقتصادية الخانقة، والاستهدافات "الإسرائيلية" المستمرة، وغياب الوحدة الوطنية، وعدم التوصّل إلى اتفاق لانتخاب رئيس للجمهورية.

الأساس في تفقيس بيض الإرهاب، هو بيئة التعصّب، سواءً كانت دينية أم طائفية أ إثنية أم لغوية أم سلالية أم فكرية أم اجتماعية، لاسيّما في ظل الفقر والتفاوت الطبقي، وتفشي ظواهر الأمية والتخلف، وانتشار السلاح وضعف الدولة، ووجود مرجعيات موازية لها أو فوقها، ناهيك عن تسهيلات دولية تستقطب بعض الجماعات الإرهابية لمصالحها الخاصة.

التطرّف ابن التعصب ونتاجهما العنف، وهذا الأخير يستهدف الضحية بذاتها ولذاتها، وإذا ما ضرب عشوائيًا وأصبح عابرًا للحدود، بقصد إضعاف ثقة الدولة بنفسها وثقة المجتمع والفرد بالدولة، صار إرهابًا دوليًا، والإرهاب الدولي يخضع للقوانين الدولية، إضافة إلى القوانين الوطنية، لاسيّما بارتكاب جرائم ضد الانسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، إضافة الى جرائم العدوان وتهديد السلم والأمن الدوليين.

إن جريمة موسكو الإرهابية هي امتداد لعدد من جرائم العصر الإرهابية الكبرى، ولعل أبرزها اليوم جريمة الإبادة الجماعية، التي تمارسها السلطات "الإسرائيلية"، التي تمثّل إرهاب الدولة ضد سكان غزة الأبرياء العزل، حيث تتحدّى "إسرائيل" قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وقراراتها، وآخرها قرار وقف إطلاق النار، وتضع نفسها كدولة خارجة عن القانون ومارقه وإرهابية بامتياز.

وبغض النظر عن الروايات المتعددة، فالمؤكد أن تنظيم "داعش" وأخواته، ما زال يعمل في العديد من البلدان، مستغلًا ثغرات أمنية لتنفيذ مخططاته الجهنمية، وغالبّا ما تنقلب هذه المنظمات الإرهابية على صانعيها، فقد انقلب تنظيم المجاهدين الأفغان، الذي أصبح تنظيم القاعدة على عدد من الدول الغربية والإسلامية، التي ساهمت في إنشائه ليقوم بمهمة مواجهة الاحتلال السوفيتي لأفغانستان بعد غزوها العام 1979، لكن التنظيم، برئاسة أسامة بن لادن، استدار بمواجهاته وخططه الاستراتيجية، فاختار برجي التجارة العالمية في نيويورك، في عملية غير مسبوقة، وكان ذلك بداية مرحلة جديدة للإرهاب الدولي منذ العام 2001، وبدأت مرحلة لاحقة بعد احتلال الولايات المتحدة أفغانستان في العام نفسه، ومن ثم احتلال العراق في العام 2003، ليتم تفريخ التنظيم إلى تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، الذي احتل في العام 2014 الموصل وثلث الأراضي العراقية، كما احتل ثلث الأراضي السورية واختار الرقة عاصمة له.

الجدير بالذكر أن تنظيم "داعش خرسان"، كان قد نفذ هجومًا في مطلع شهر كانون الثاني / يناير 2024 في كرمان بإيران، في ذكرى مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني، وأسفر الهجوم عن مقتل 103 أشخاص.

وبعيدًا عن الاتهامات المتبادلة بمن يقف وراء "داعش" ويسهّل مهماته، فإن "الثقب الاسود" ما يزال موجودًا، والعالم بحاجة إلى الكشف عنه، وبالتالي علينا فهم طبيعة هذه الحركات، وماذا تريد؟ وكيف تعمل؟ وما هي سبل مواجهتها؟ فليس بالسلاح والأمن حسب، لأنها حركات تعتمد على الإرهاب والعنف كنظرية عمل، وبالتالي لابدّ من تفكيك وفضح منطلقاتها الفكرية، وسدّ الثغرات التي تعاني منها مجتمعاتنا، بغض النظر عن أنظمتها، ولاسيّما باعتماد معايير المواطنة المتساوية والمتكافئة، واتباع خطط مناسبة لمواجهتها، والحيلولة دون تمكينها من تجنيد الشباب، فضلًا عن الاهتمام بوسائل القوة الناعمة لرفع درجة وعي المجتمع وتعزيز مناعتها.

***

د. عبد الحسين شعبان

جذور الانعزالية في إنكار هوية العراق وسوريا العربية

قبل أن أبدأ القسم الأخير من ردي على ما أثاره السيد وجدي المصري في مقالته -الأخبار عدد 3 تشرين الأول 2023 - أود الإشارة إلى المقالة التعقيبية التوضيحية للسيدة صفية أنطون سعادة في الأخبار عدد 21 آذار 2024، فأشكرها على تعقيبها، وأسجل؛ إنَّ هذا التعقيب يقدم وجهة نظر أكثر إيجابية وتصالحية مع الهوية الحضارية العربية لشعوبنا وتحديداً مع عروبة ثقافية حضارية لا تقوم على العنصر والرسِّ. كما أنها تقدم صورة مختلفة نسبياً لفكر أنطون سعادة، عن الصورة التي قدمها السيد وجدي المصري وآخرون، وأعتقد أنه معني أكثر مني بهذا التعقيب. ويبقى ما طرحته السيدة سعادة بحاجة إلى المزيد من التأصيل النظري العلمي في مواجهة الصياغات الأيديولوجية المعهودة والمكررة وخصوصا من النوع الذي عبَّر عنه السيد المصري وآخرون في كتاباتهم، فشكرا للسيدة سعادة على اهتمامها بما نشرتُ وعلى تعقيبها المفيد والريادي.

وأعود الآن إلى استكمال تعقيبي على مقالة السيد المصري ولأناقش قوله "وحسناً فعل الكاتب (علاء اللامي) عندما خصّص قسماً من بحثه للحديث عن الأدب العربي قبل الإسلام وتطرُّق الشعراء إلى مملكة الحضر، إذ يكاد يكون الشعر هو المظهر الحضاري الوحيد لهذه الممالك «العربية» التي نشأت فوق أرض سورية وتفاعلت مع سكانها".

الحضر مملكة الرافدانية

الواقع، فإنَّ مملكة الحضر لا تقع في سوريا السلوقية، ولا في سوريا المعاصرة بل في قلب بلاد الرافدين، جنوبي مدينة الموصل العراقية. أما اعتبارها نشأت على أرض سورية فينم عن جهل مدقع بعلوم التأريخ والجغرافيا والإناسة. ثم إنني لم أكتب شيئاً عن الأدب العربي قبل الإسلام في الحضر، بل في دولة المناذرة العربية جنوبي العراق قبل الإسلام، وقد ذُكر فيه شعراً اسم مملكة الحضر ومعلومات عنها. وثالثاً، فلم يكن مرادي التباهي بمنجزات العرب الشعرية بل الإتيان بشواهد تأريخية قديمة لتأكيد هوية مملكة الحضر العربية، أما اعتماد الحضريين للقلم الآرامي في الكتابة فهو لا يختلف عن اعتماد العيلاميين للكتابة المسمارية أو اعتماد الفرس والأموريين والعبرانيين للآرامية. والحضريون أقرب إلى الآرامية من غيرهم لأنهم جزيريون "ساميون" وأبناء عمومة الآراميين.

لقد حاولتُ التركيز على اللغة بصفتها المظهر الأهم لمفهوم الهويّة الحضاريّة/الثقافيّة، لتكون في تعارض جوهري مع مفهوم "الهويّة القوميّة" بمحتواه العرقي. وعلى هذا المفهوم الحضاري الثقافي الاجتماعي و"قلبه اللغة" ينبني تعريفنا لهويّات مجتمعات ودول قامت وسادت ثم بادت قديما أو أنها ماتزال قائمة في عصرنا.

الحضر تُجاري روما القديمة

أما إذا كان المعقب يجهل الإنجازات الحضارية لمملكة الحضر "عربايا"، فالجهل ليس حجة في البحث العلمي، ويمكنه أن يفتح أقرب موسوعة حرة على شبكة النت ويقرأ الآتي عن إنجازات تلك المملكة على قصر عمرها الذي لم يُكمل قرناً واحداً. لنقرأ مثلا هذه النبذة: "عُرفت مملكة الحضر (عربايا) بهندستها المعمارية وفنونها وأسلحتها وصناعاتها، كانت هذه المدينة تجاري روما من حيث التقدم، حيث وجدت فيها حمامات ذات نظام تسخين متطور، وأبراج مراقبة ومحكمة ونقوش منحوتة وفسيفساء وعملات معدنية وتماثيل كما ضربوا النقود على الطريقة اليونانية والرومانية وجمعوا ثروات عظيمة نتيجة لازدهارهم الاقتصادي...كانت الحضر مدينة ذات مخطط دائري تقريباً، وفقاً لنموذج تخطيط المدن الذي يبدو أنه كان شائعاً في بلاد ما بين النهرين... فقد رصدت فرق من علماء الآثار العراقيين عدة مبانٍ في هذه المنطقة، بما في ذلك أربعة عشر معبداً. يتكون فن الحضر بشكل أساسي من المنحوتات: نقوش بارزة على جدران الآثار والنماذج والتماثيل. إنها مجموعة من الوثائق الأساسية لمعرفة فن بلاد ما بين النهرين. وقد زينت آثار الحضر بزخارف غنية /مقتبسات عن "تجارب الأمم" لمسكويه و"مملكة الحضر" لدون بوست.

وقد صمدت مملكة الحضر الصغيرة طويلاً هي والإمارتان المتحالفتان معها؛ الرُّها شمال الجزيرة الفراتية وحيداب قرب أربيل الحالية شمالي العراق، قبل أن يدمرها الغزاة الفُرس. فهل يحق لنا أن نتباهى بإنجازات عرب مملكة الحضر، أم نتباهى بإمبراطور روماني مثل كراكالا لا يختلف عن غيره من طغاة روما سوى أن أمه ولدت في حمص فاعتبره البعض "سوريا"، أو عن إمبراطور روماني آخر ولد في مدينة لبدة الليبية مثل سيفيروس فاعتُبر أمازيغيا؟  

 البحث المنهجي والبيان الحزبي

كتب السيد وجدي المصري: "يقول أنطون سعادة في كتابه العلمي القيّم «نشوء الأمم»: «الأمّة تجد أساسها، قبل كلّ شيء آخر، في وحدة أرضيّة معيّنة تتفاعل معها جماعة من الناس وتشتبك وتتّحد ضمنها». ثمّ يضيف قائلاً: «الأمّة جماعة من البشر تحيا حياة موحّدة المصالح، موحّدة المصير، موحّدة العوامل النفسيّة-الماديّة في قطر معيّن يُكسبها تفاعلها معه، في مجرى التطوّر، خصائص ومزايا تميّزها عن غيرها من الجماعات». أعتقد أن هذا الكلام عن مجموعات من البشر "تتفاعل" مع أرضٍ ما، لتنشأ من ذلك "التفاعل" أمة وحضارة، ليس واضحاً تماماً ويخلو من أي بصيص للمنهج العلمي حتى بأبسط أشكاله.

ويحق لنا أن نتساءل هنا؛ ألا تكفي أكثر من ألف وأربعمئة سنة من وجود العرب في بلاد الشام - قارن مع عمر الدولة السلوقية وبضمنها ولاية سوريا الذي لا يتجاوز القرنين ونصف (من سنة 312 قبل الميلاد حتى سنة 63 قبل الميلاد) ليكونوا مواطنين عرب سوريين أو عرب لبنانيين ويكفوا عن كونهم غزاة غرباء وطارئين فرضوا لغتهم ودينهم بحد السيف؟ هل يعني الاعتراف بأن غالبية سكان سوريا والعراق من العرب أي عدوان أو اضطهاد للهويات المحلية العراقية أو السورية أو اللبنانية، أو للأقليات غير العربية أو تدميرا أو تزويرا للتاريخ القديم لهذين البلدين؟ أليس الأفضل والأكثر تساوقا مع التأريخ والعلم والواقع الاجتماسي أن نتصالح مع ماضينا سواء كان مجيداً أو مأساوياً، ومع حاضرنا المتأزم ونعطي لمواطنينا من أبناء الأقليات حقوقهم الثقافية المشروعة ونكرس هويتنا الحضارية العربية الجامعة والمستهدفة إلى جانب احترام خصوصياتنا المحلية بلا نوازع أو ميول قومية عنصرية بل بأفق إنساني تقدمي يحتكم إلى الثقافة لا إلى إثنولوجيا العرق والدم؟

الانعزالية في رفض عروبة العراق وسوريا

كثيرة هي الفقرات التي كنتُ أود التوقف عندها في المقالة التعقيبية ولكنني سأختصر وأختم بالتوقف عند قول المعقب، "إنّ بلوانا هي بالتزوير الّذي لحق بتاريخنا وحضارتنا الّتي وُسمت بالعروبة دون وجه حق. فالممالك العربيّة القديمة، أي الرُّها والحضر وتدمر والبتراء وبعد هذه بقرون ممالك الغساسنة والمناذرة، لا يمكن اعتبارها عربيّة إلّا من ناحية انتمائها الأوّل إلى جزيرة العرب، أمّا بعد إقامتها فوق تراب البيئة السوريّة فقد أصبحت سورية الانتماء قومياً وحضارياً وحتّى لغويّا". أعتقد أن المضمون اللاعلمي والانعزالي بل والكاريكاتوري إنما يكمن في هذه الفقرة بالضبط. فالفكرة هنا هي أن العرب وبمجرد دخولهم إلى الأرض السورية وعيشهم فيها يتخلون عن هويتهم العربية بفعل مغناطيس التفاعل مع التراب السوري ويتحولون إلى سوريين على سن ورمح! 

إنَّ هذه الانعزالية في الخطاب الحزبي السطحي تقفز على حقيقة القرابة الإناسية "الانثروبولوجية" والثقافية المشتركة والعميقة بين الجماعات البشرية الجزيرية "السامية" المندمجة، وعلى التشابه والتداخل الشديدين بين لغاتها وعاداتها وطباعها قبل وبعد الإسلام.

كما أن ما سميناه القرابة الإناسية لا تعني مصادرة جميع الشعوب القديمة وجعلهم شعبا عربيا واحدا مندمجا كما يفعل أحمد داود مثلا الذي كتب تحت عنوان عجيب يقول "السومريون عرب سوريون"، فكتب "بلاد سومر أو بالأصح "شومر" هو الاسم القديم الذي أطلق على جنوب العراق واسم شومرو كلمة عربية قديمة وهي في القاموس السرياني تعني المخلص، المنقذ، الشجاع وكتبت بالخط المسماري (جي أنجي) أي أرض المخلص، المنجي". أي أن السيد داود ولكي يثبت عروبة السومريين - وهم الذين ثمة إجماع بين الباحثين على إنهم ليسوا ساميين - يستعين بكلمة في قاموس غير عربي لتأكيد عروبتهم! والأنكى من ذلك أن داود يجهل معنى كلمة "سومر" فهي ليست اسما لشعب أو عرق بل هي علامات مسمارية تعني في اللغة الأكدية "سكان أرض - سيد - القصب"، وهذه المنطقة التي شهدت ولادة الكتاب المسمارية واللغة السومرية في جنوب العراق ماتزال حتى يومنا هذا موطناً لمساحات واسعة وكثيفة من نباتات القصب والبردي. ثم جاء صموئيل كريمر فعقَّد الأمور أكثر بعدم دقته وارتجالاته حيث ترجم العبارة السومرية "ملك البلاد/ لوگال كلام" (LUGAL KALAM)، إلى "ملك سومر".

يأخذ المعقب وجدي المصري عليَّ تفريقي بين شعوب جزيرية "سامية" تتكلم لغات أو لهجات من منحدر لساني واحد فتندمج ببعضها، أو تسود على غيرها في مناطقها الأصلية (كما ساد الأموريون من الغرب في الألف الثالث ق.م، وحكموا بلاد الرافدين وبنوا بابل واندمجوا بالأكديين) وبين أمم وشعوب آرية منعزلة تهبط من الجبال والهضاب الوعرة فتدمر حضارات السهول المجاورة ثم تستولي على البلدان والشعوب المغزوَّة كما حدث مع الفرس والحيثيين والميتانيين الأراراتيين وبين سكان الرافدين، دون أن يندمجوا ببعضهم. ولهذا لم تنجح اللغة الفارسية في فرض نفسها على سكان الرافدين رغم مئات السنوات من الاحتلال الفارسي، ولم تحل العربية محل الفارسية ببلاد فارس رغم خضوعها للدولة العربية الإسلامية لعدة قرون، في حين اندمج سكان المنطقة الممتدة بين المحيط الأطلسي والخليج العربي وصارت لهم لغة واحدة بلهجات شقيقة متقاربة.

وأخيرا، ورغم أنني أحاول دائما في كتاباتي البحثية النأي عن الشأن السياسي المباشر، ولكنني الآن أجد نفسي مضطرا للتذكير بالواقعة التالية: لقد نجحت الانعزالية السياسية الطائفية عندنا في العراق في الشطب دستورياً على هوية بلادنا الحضارية العربية بعد الاحتلال الأميركي سنة 2003، ورفعت من شأن الهويات الطائفية والعرقية، فتحول موطن الجزيريين "الساميين" الأوائل، بلاد الرافدين، إلى ثلاث دويلات طائفية شبه مستقلة عمليا في دولة بلا هوية، يتكالب قادتها اليوم على نهب عائدات الريع النفطي، بدلا من الاعتراف بهوية العراق العربية وبحقوق هذه الأقليات المشروعة!

***

*كاتب عراقي

لا يختلف «الاستشراق» عن أي وسط ثقافي وعلميّ آخر، يتباين تقييمه بالصّالح أو الطَّالح، حسب اختلاف الآراء بل والعقائد. لكنَّ الأهم فيه فضله في دراسات تُراث الإسلام، فقد اُنتفع به، هذا المجال، إيما انتفاعاً. أقولها بلا مراء، لولا المستشرقون ما عرفنا طريق التّحقيق العلمي لهذا الخزين العلميّ والأدبي والدّينيّ، ولولاهم ما عرفت مؤلفاتنا «التَّرقيم»، ولا عرفت الأرقام في الصَّفحات، ولا جمع وأرشفة مخطوطات هذا التّراث الهائل، بعد بعثرة مكتبات العباسيين والأمويين بالأندلس.

أقول: مّن يطلع على «تاريخ الأدب العربيّ» لكارل بروكلمان (ت: 1956)، مثالاً لا حصراً، لنزل مِن غروره في التّنظير، وتجنب آفة التَّعميم والتَّسطير. فمَن اعتبر الاستشراق مؤامرة، لا أجده منصفاً البتة، وقد نال التّعليم مِن أفواههم ودفاترهم. أمَّا بينهم مَن خدم مشاريع بلاده، وأخطأ بالتَّفسير والتَّقييم والعداوة، نعم حصل هذا، لكنه ليس القاعدة.

تلك مقدمة لما صدر عن مجلة «المجتمع» الكويتيّة، صوت «الإخوان» الثقافيّ، نشرت موضوعاً بحلقتين: «المستشرقون وتأثيرهم على انبعاث الدِّيانة الزَّرادشتية في التاريخ المعاصر»(العددين: 5-19/ 2020). ركز المكتوب على إقليم كردستان العراق، على أنّ وجود «الزّرادشتيّة» اليوم يحصل بسبب المستشرقين، بمحاولة تأهيلها مِن جديد.

حسب المجلة، أنَّ الحزبين الحاكمين بإقليم كردستان «الاتحاد» و«الدِّيمقراطيّ»، يفسحان الحرية للزرادشتية، ويحاربان الإسلاميين. هل يعلم أصحاب المجلة أنَّ الإسلاميين الأكراد مشاركون في السُّلطة والبرلمان، ومقراتهم مفتوحة بكردستان العراق، ولهم صولة وجولة صحوية، إلا أنَّ المجلة تقصد «القاعدة» و«داعش»، وليتها نعت ضحاياهما مِن العراقيين، خصوصاً بعد كارثة الموصل(2014).

أولاً: إنَّ الزرادشتية، كانت ديانة الأكراد قبل الفرس، بوجود آثارها، وظلت تُمارس قبل حُكم الحزبين للإقليم بكثير. ورد في الدَّليل العراقيّ الرّسميّ الملكي(1936): «في العراق مسلمون، ومسيحيون، ويهود، ويزيديون، وصابئة، وعدد قليل مِن البهائية، والمجوس (يقصد زرادشتيين)، والحرية الدِّينية مكفولة بالدّستور العراقيّ».

كما جاء في الدَّليل العراقي الرَّسميّ الجمهوريّ(1960): «في العراق مسلمون، وهم ذوو الأكثرية الغالبة، الذين تدين حكومة الجمهورية رسمياً بدينهم، ونصارى (مسيحيون/ التوضيح في الأصل)، ويهود، ويزيديون، وصابئون، وأعداد قليلة مِن البابيين (البهائية/ التوضيح في الأصل) ومجوس زرادشتيون، وشبكيون، وصارليون، وكاكائيون، ونصيريون، والحرية الدِّينية مضمونة بدستور الجمهورية». فالتعامل مع الزّرادشتيين الأكراد ليس مستغرباً، وهم موجودون طوال تاريخ الإسلام، بدلالة تبيين معاملتهم، وفق الحديث: «إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ: مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ؟» فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ»(الإمام مالك، المُوطأ).

ثانياً: هل إنَّ المستشرقين قصدوا إعادة الزَّرادشتية، أم أنهم علماء تاريخ؟ عندهم العلم هو القصد، وإلا فعلى ما أوردته «المجتمع»، يصبح هشام الكلبيّ(ت: 204هجرية)، في كتابه «الأصنام»، قصد إعادة عبادتها، وكانت نوايا المؤرخين المسلمين، في تأرخة قبل الإسلام، إعادة تأهيل ديانات سابقة، ودراسة الآثار القديمة، بما فيها من معابد وكنائس، القصد منه تأهيلها مِن جديد! فمِن هذا المنطلق لتغلق المتاحف، وتدمر الآثارّ، لأنها تأهيل لديانات سابقة! وفق ما نشرته «المجتمع»!

ثالثاً: أغفلت «المجتمع» عاملاً قاطعاً، إذا كان ما عُبر عنه إساءةً للإسلام، فسببه ممارسات الأحزاب الدّينية نفسها، وفي مقدمتهم «الإخوان»، فأي جماعة بطشت بالناس باسم الدين، لم تُثمرها شجرتهم؟

تذكرنا مجلة «الإخوان» برفيقهم المصري الذي أتهم «زرياب» بسقوط الأندلس، وربط أسباب الانهيار كافة به، لا بشيء آخر. فلولا الفنون التي أدخلها مِن الشّرق إلى الأندلس، ماسقطت الأخيرة! بهذه العقول يُساس الأتباع ويُحشدون. كنت نشرت مقالاً على صفحات «الاتحاد» في تهمة الجماعات الإسلامية لزرياب، عنوانه: «زِرْياب.. عَمَرَ الأندلس ولم يُسقطها» (12/6/2019).

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

لم يكتفي تلامذة الترابي ومحبيه بنشر تالده وإذاعته، بل أولوا اهتماماً بمشروعه الأخير الذي كان يذخره وينميه، وقد أحالت يد المنون بينه وبين إكمال هذه المنظومة التي كانت ستكون مصدراً خصباً للنفع والفائدة، ففيها تتصل كل الجزئيات الوثيقة التي لم يلتفت إليها الساسة الذين أعماهم التنافس الشديد، والخصومة والتماس المنافع الخاصة الحقيرة عن نهضة الوطن وإعلاء شأنه، والساسة الذين تختلط بهم ما يختلط بالناس من أثرة وضعف وتهالك على المغنم، لم يلتفتوا لهذه الأحاديث التي جهر بها أحياناً الدكتور الترابي، وأخفاها في أحايين أخرى، فقد حملت "منظومة النظام الخالف" تلك الورقة التي اقترحها الترابي "مُراجعات وتقييماً كاملاً لتجربة الإسلاميين في حُكم السودان، فضلاً عن تجربة المؤتمرين الشعبي الذي يقوده هو والوطني الحاكم- فيما مضى- بقيادة الرئيس عمر البشير، لا سيمَّا أن الورقة حدَّدت أهدافها بخلق تحالف عريض في شكل حزب واسع في إطار شراكة سياسية جديدة تضم الإسلاميين بطوائفهم المُختلفة، بمن فيهم ذوو الخلفيات الإسلامية كالسلفيين والتيارات الصوفية والأحزاب الطائفية، وشدَّدت الورقة على أهمية الاستفادة من تجربة الإسلاميين، فيما يتصل بقضايا الحُريات والتنوع عبر التركيز على الإيجابيات وتطويرها، وتلافي السلبيات بما يتناسب والتطور الطبيعي للحياة".

ولعل المشروع الذي لم يكن يلم بكافة تفاصيله سوى الدكتور الترابي والذي اختتم به حياته يشابه نوعاً ما مشروعه الذي ابتدر به حياته السياسية، وهو مشروع الدستور الإسلامي الذي أقرته كل ألوان الطيف الإسلامي، وشرعت في التبشير به، والتعصب له، والرضي عما فيه، وبعد عدة عقود نرى أن المؤتمر الوطني قد خان والده بصورة بشعة، وأن دكتاتورية الترابي وتسلطه التي أدعوها لا تعفيهم من إثم تلك الخيانة، فقد كانت هناك طرقاً كثيرة يستطيعون بها أن يرتجوا نفع الدكتور الترابي ويتقون بها شره، ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، فهم بعد أن ساموا الشيخ العذاب، وضاموه بأليم العقاب، تعلقت آمالهم به، وعولوا عليه، في استدامة حكمهم، لأجل ذلك رأينا البشير طاغية المؤتمر الوطني الذي خضع واستكان، يلتقي بالدكتور الترابي كثيراً إن أتيح لهما اللقاء، وإن حيل بينهما عمد إلى الاتصال بمنقذه وهاديه، كان الرئيس المخلوع أوشك أن ينال من الدكتور الترابي ما يريد، فقد بلغ الاحتقان السياسي حظاً عظيماً في ذلك العهد، وكانت الحياة في السودان أقل ما توصف به أنها لا تلائم كرامة السود وعزتهم المؤثلة في حناياهم، وكان الجهاز القمعي للبشير يستذلهم ويعنف بهم أكثر ما تعنف الهوام، والبشير الذي يخشى من عواقب هذه الحياة المنكرة التي يعيشها السود ظل يتردى في ضروب من هوان النفس، ودناءة السيرة، وهو يجاهد أن يرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ويجاهد في سبيل ذلك الرفع بالتعاون المخزي مع الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول الكبرى التي اعتادت على سحق الدول الفقيرة والاستخفاف بأمنها وسلامتها، كان البشير ونظامه تتقاذفهم الخطوب وتلح عليهم، وكان الدكتور الترابي ملماً بكل هذه المدلهمات، ويدرك أن البشير يكبر الساسة ويخشى بأسهم، ودائرة "الحوار الوطني" التي احتمل الساسة في سبيلها البؤس والجهد والكدر، كانت ضيقة ضئيلة ذليلة، لولا الدكتور الترابي الذي تولى أمر توسعتها وتشعيبها، ويقر المؤتمر الوطني في ضراعة بعجزه هذه المرة عن النهوض وحده بهذا الثقل الفادح، وها نحن نشهد بعدها في تلك الأيام الزيارات التي باتت تتري بغير حساب، بين جموع الإسلاميين على غير إيذان بها، وانتظار لها، وعادت الأشواق والأصوات التي تنادي بلم الشمل ووحدة الصف، كانت الوحدة بين المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي الأمنية التي تحمل الكثير من الهم، والكثير من العناء، تبتهج لها النفوس، وتطمئن إليها الأفئدة في تلك الفترة، وهو الموضوع الذي يستفيض فيه أهل الحركة الإسلامية بغير حساب، ويطيلون فيه من غير رفق، ولكنهم شقوا به، ولم يرفق بهم صناديد الحركة الإسلامية، أو يرقوا لهم، أو يعطفوا عليهم، وبان لهم بعد برهة أن كل هذه التطلعات والآمال هباء لا جدوى منه و قتام لا غناء فيه.

كان المؤتمر الوطني يخلع على الحركة الإسلامية بشقيها هذه الآمال من جهة، ثم يقف عقبة كؤود دون تحقيقها من جهة أخرى، ولم يسعى أقطاب المؤتمر الشعبي أيضاً أن يعطوا لهذه الوحدة معنى، أو يرسموا لها أطراً وأبعاد، ولكن هؤلاء الأقطاب نسوا أن الشيخ الترابي كان دائم الحديث عن رغبته في أن يرى السودان قد اتصل بالحياة الهانئة المطمئنة، وقد ذهبت عنه هذه الكوارث الخطيرة، كان الشيخ رحمه الله في آخر أيامه لا يسأم تكرار هذه الأماني واجترارها، ولعل مراده النبيل هذا هو الذي دفعه لحبك المنظومة الخالفة ونسج دقائقها وتذويب كل التيارات الإسلامية ذات الصبغة الإسلامية بين أفوافها.

ولعل الجهات التي عناها الدكتور الترابي بهذه المنظومة خلاف المؤتمر الوطني الحاكم في تلك الفترة والمؤتمر الشعبي، والتيارات الإسلامية من حزب أمة واتحادي ديمقراطي وحركات صوفية، كل الأحزاب التي تنتصر للديمقراطية وتتعصب لها، وترفض حكم الفرد وتسلطه، الأحزاب التي لا تسعى لتأييد الأنظمة الفاشية، والتي تتوخى نصرة الحق، وتنشد العدل، ولا تجحد الأديان فضلها، وحتماً كان الترابي يرمي أن يضع الحلول الناجعة في منظومته تلك لكل المآسي التي يعاني منها السودان، فهو يشفق أن يغادر تلك الفانية دون أن يضع الحلول المستدامة لمشاكل يشعر هو بأنه قد لعب دوراً كبيراً في تصعيدهاحينما أخفق في اختيار الكوكبة التي لا يغريها بهرج الحكم، أو يفسدها نزق السلطة وعنفوانها، سعى الترابي في هذه المنظومة لتغيير ما شاب الأنظمة السابقة من خطل وعبث، "فضلا عن النظام القائم وتداول السلطة عبر الانتخابات الديمقراطية، كما تسعى هذه المنظومة لتحقيق التوافق عبر الكثير من المعالجات والتي منها الفيدرالية الحقيقية، والدستور التوافقي، والتمثيل النسبي، والديمقراطية التوافقية، والمشاركة في أجهزة الدولة (التنفيذية والتشريعية) والخدمة المدنية، والقوات النظامية، فليس الهدف توحيد الحركة الإسلامية بشقيها (المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي)، بل يشمل التوحيد المرتجى أطيافا أخرى من التنظيمات والكيانات السياسية، فلا تفريق بين من انتمى إلى الإسلام أو حتى إلى غيره من الأديان، فيجتمع كل هؤلاء ويؤسسون تنظيماً يقوم بإنزال الأفكار التي اتفقوا عليها، في الحياة العامة."

وبعد أن أفلت شمس الترابي وظعنت عنا، يجاهد أعضاء حزبه ويحسنوا الجهاد، لإبراز قيمة "المنظومة الخالفة" التي لم يرد منها الترابي غير نهضة السودان ومجده، كان الترابي يريد هذا كله، وحرص على تحقيقه كل الحرص، ولعل الكل يعلم أنه أفنى عمره من أجل تحقيق هذه الغايات، وأنه قد ذاق من أجلها ذل الأسر، وهوان السجون، حتى يعيش السودان كريماً مستقلاً، "وفي هذا الصدد يقول القيادي البارز بالمؤتمر الشعبي أبوبكر عبد الرازق المحامي ل"عاين"، إن النظام الخالف هو امتداد لرؤى فكرية ظلت تعتمدها الحركة الإسلامية في تاريخها الطويل، وعدَّها عبد الرازق رؤية تنبؤية استباقية لوحدة السودانيين، وتعمل على لملمة التمزق إلى أحزاب محدودة تمثل عقداً اجتماعياً جديداً، أو حزب جديد يتمحور حوله السودانيين لوحدة الوطن".

بينما يرى القيادي في المؤتمر الشعبي المحبوب عبد السلام أن النظام الخالف يرمي لتوسعة المشاركة السياسية التي لا ينبغي أن تكون حكراً لأحزاب بعينها، وأشار لأنها تهدف لإصلاح العلل التي صاحبت مسيرة الحكم في السودان. وأوضح المحبوب أن المنظومة لا تستطيع أن تفضي لحل كل مشاكل السودان، لكنها في مجملها مجهودات ألمت بجميع العوائق والمعضلات إلماماً سريعاً، تلك العراقيل والمصاعب التي نحتاج أن نفطن إليها، ونطيل التفكير فيها، حتى نجد لها الحلول التي ينتفع بها الوطن أشد الانتفاع، موضحاً أن هناك تتفاوتاً بين أجيال الإسلاميين تفكر بطرق مغايرة جديدة وتستعمل وسائل جديدة، تختلف عن الوسائل التي كانت سائدة أيام الجبهة الإسلامية القومية أو جبهة الميثاق، ويقول القيادي الإسلامي المحبوب: الآن "هناك دعوة لمراجعات جذرية وحتى للفكر الإسلامي من أجيال واسعة جدا، وإذا جاءت حريات كافية سنكتشف حجم التحول الذي حدث في هذه الأجيال، ومقترح المنظومة الخالفة تواجه تحديات كثيرة لأن الحركة الإسلامية لم يعد لها وجود مثل ما كان في السابق، وهناك من يرى أنها على وشك أن تتلاشى، ويقول عبد السلام "هي لم تتلاشَ لأنها قوة اجتماعية يعني لا تتلاشى ولا تخلق من العدم مثل المادة، بمعنى أنه حتى لا يمكن إقصاؤها أو عزلها، وأضاف عبد السلام أن على قادة الحركة تصحيح العديد من المفاهيم السلبية التي صاحبت فترة الحكم مخلفة ورائها إحباطات عديدة".

***

د. الطيب النقر

بقلم: أندرو آي بورت

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

يؤكد دعم ألمانيا غير المشروط لإسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023- بالنسبة للكثيرين- أن ثقافة الذاكرة لديها "قد انحرفت". لكن بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالتحفظات الألمانية بشأن استخدام المصطلحات المرتبطة بالمحرقة، فإن انتقادات ما بعد الاستعمار غالبًا ما تكون أحادية الجانب بشكل ملحوظ.

منذ الربيع الماضي، قمت بجولة موسعة للترويج لكتابي الجديد، "لن يحدث مرة أخرى أبدًا: الألمان والإبادة الجماعية بعد الهولوكوست"، والذي ينظر في ردود الفعل الألمانية على "جريمة الجرائم" في بلدان أخرى منذ عام 1945. وبشكل ثابت، واحد على الأقل سألني أحد الحضور عن ردود الفعل الألمانية على الإبادة الجماعية المزعومة التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين. وكان هذا صحيحاً قبل الرد العسكري الإسرائيلي على الهجوم الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ولكن السؤال يطرح الآن بشكل أكثر تكراراً، وبقدر أعظم من الإلحاح والانفعال ـ أقرب إلى الاتهام منه إلى السؤال. وعلى الرغم من كل حديثهم عن "لن يحدث ذلك مرة أخرى أبدًا"، فإن محاوري يرغبون في معرفة السبب وراء عدم خروج الألمان بقوة أكبر بشأن هذه القضية من خلال إدانة العمل الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية باعتباره إبادة جماعية.

ويتوافق هذا مع الانتقادات المتزايدة لسياسة (التصالح مع الماضى) / Vergangenheitsbewältigung المتبجحة في ألمانيا. إذا كان هناك شيء واحد يمكن للمؤرخين وغيرهم من مراقبي ألمانيا ما بعد الحرب أن يتفقوا عليه - حتى وقت قريب - فهو أن الجهود التي بذلتها البلاد "للتصالح مع الماضي" كانت قصة نجاح تستحق المحاكاة. قبل خمس سنوات فقط، أبلغتنا سوزان نيمان، مديرة منتدى أينشتاين في بوتسدام، المولودة في الولايات المتحدة، في كتاب حظي بشهرة كبيرة بعنوان "التعلم من الألمان"، أن مواطنيها (والنساء) يمكنهم، بل وينبغي عليهم، أن يأخذوا صفحة من التجربة الألمانية عندما يتعلق الأمر بـ "عمل الذاكرة"، خاصة عند مواجهة إرث بلادهم المشحون بالعنصرية والعبودية وجيم كرو. لقد تراجعت منذ ذلك الحين، وادعت مؤخرًا على صفحات مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس أن حركة (التصالح مع الماضى)  الألمانية قد "فقدت صوابها". ماذا حدث؟

باختصار، إن التقارير التي صدرت بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول عن "حملة القمع" الألمانية على المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في الداخل هي "ما حدث". لكن هذا ليس دقيقًا تمامًا. كانت نيمان، مثل عدد من الأكاديميين والمثقفين الآخرين، قد نأت بنفسها عن حججها السابقة قبل الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط، إلى حد كبير في أعقاب الجدل الذي بدأه أ. ديرك موزس في عام 2021. في مقال جدلي، افترض المؤرخ الأسترالي المولد، والذي يدرس الآن في جامعة مدينة نيويورك، جانبًا مظلمًا لثقافة الذاكرة الألمانية: "قراءة" متميزة للمحرقة لا تحجب "النخب" الألمانية عن معاناة المجموعات الأخرى (اقرأ: الفلسطينيون) فحسب، بل حتى مما يجعلهم عدائيين تجاه تلك المجموعات.

هناك سابقة لكل هذا، وهي سابقة كانت تختمر طوال العقد الماضي تقريبًا: التشكيك في السرد القديم لأعمال الذاكرة الألمانية الناجحة التي - ومن المفارقات - ظهرت على الساحة العامة في نفس الوقت تقريبًا الذي ظهر فيه كتاب نيمان "التعلم من الألمان" في عام 2019. في مقالته الشهيرة الآن، والتي تحمل عنوان "التعليم المسيحي الألماني"، حدد موسى ثلاثة محفزات رئيسية لهذا الاحتفاء: "النقاش الألماني المحتدم حول معاداة السامية المزعومة لأشيل مبيمبي، وكتاب مايكل روثبيرج، الذاكرة متعددة الاتجاهات، وكتاب يورجن زيمرر Von Windhuk nach Auschwitz" "، الذي يفترض خطوط الاستمرارية بين الممارسات الاستعمارية الألمانية والمحرقة.

ما الذي يجب أن نفهمه من الادعاءات الأخيرة بأننا تسرعنا في مدح الألمان بسبب "ثقافة التذكر" الخاصة بهم؟ تتألف قضية الرافضين - والتي يمكن للمرء أن يطلق عليها اسم "التعليم المسيحي ما بعد الاستعماري" (مع الاحترام الواجب للرؤى المهمة التي يقدمها مجال دراسات ما بعد الاستعمار ككل) - من ست حجج رئيسية:

لقد فرضت السلطات الألمانية من فوق "سياسة الدولة الرسمية" التي تملي الطرق "المناسبة" لتذكر ماضي ألمانيا، مما أدى إلى افتراض الجهود التي بذلتها البلاد في يوم من الأيام في (التصالح مع الماضى)  صفة "ثابتة" تقتصر فقط على الإبادة الجماعية لليهود، مع تجاهل التجارب السابقة. والفظائع الاستعمارية الألمانية الحالية في جميع أنحاء العالم.

وفي الوقت نفسه، أنتج إحساس ألمانيا بالمسؤولية عن الماضي النازي نزعة محبة للسامية تجد أوضح تعبير لها في "التضامن غير المشروط" مع إسرائيل. وقد أدى ذلك إلى انتهاكات خطيرة للحريات المدنية وحرية التعبير: إلغاء الثقافة وتويلها إلى فوضى عارمة ، واختبارات حقيقية لتمويل الدولة والمواطنة، وحظر الرموز والشعارات التي تعتبر معادية للسامية، كل ذلك في محاولة لإسكات منتقدي إسرائيل، بما في ذلك اليهود.

ومن خلال منع الألمان من التفكير بوضوح في الوضع السياسي الحالي، يتم أيضاً استخدام ذكريات "عار الماضي" كأداة "لقمع المناقشة" حول التطورات المزعجة في الخارج، وخاصة في الشرق الأوسط. ولكن هذا ليس كل شيء: من خلال استبعاد المعقول والمبرر بشكل تلقائي. وبانتقاداتها للسياسات الإسرائيلية باعتبارها معادية للسامية، تعمل هيئات الرقابة الألمانية على تأجيج مشاعر كراهية الأجانب واستخدامها كسلاح ضد المهاجرين "غير المرغوب فيهم" الذين، كما يزعمون، لديهم مثل هذه الآراء البغيضة.

ونتيجة لذلك، فإن الجهود التي تتبجح بها ألمانيا للتعامل مع ماضيها الدنيء أتت بنتائج عكسية، وخرجت عن مسارها، وأنتجت شكلاً من أشكال «الهستيريا»، مما أدى إلى اضطهاد وشيطنة الأقليات الأخرى المضطهدة تقليديًا.

ولا يمكن، ولا ينبغي، رفض هذه الحجج والانتقادات. ولكنها أيضاً مشوهة، ومبالغ فيها، ومثيرة للجدل على نحو غير مبرر ــ وتتجاهل السياق المهم! وفيما يتعلق بالنقطة الأخيرة، فإن أولئك الذين افترضوا تحولًا مؤخرًا نحو الأسوأ في "ثقافة التذكر" في ألمانيا لم يبذلوا أي محاولة حقيقية لتفسير جذور هذا التحول المفاجئ، باستثناء التلميحات الغامضة إلى المخاوف المتزايدة بشأن الهجرة واللجوء. طلبات من "النوع الخاطئ" من الأجانب من أماكن مثل سوريا، عدو إسرائيل القديم.

ما تركوه هو الفيل في الغرفة، أي الزيادة التي يمكن التحقق منها إحصائيًا في الحوادث المعادية للسامية في ألمانيا في السنوات الأخيرة، بدءًا من هجوم يوم الغفران العنيف على كنيس يهودي في هاله في عام 2019 إلى ادعاءات المؤامرة بأن كوفيد-19 كان مؤامرة يهودية ("الأنفلونزا اليهودية" ، "المحرقة").صحيح أن الغالبية العظمى من مثل هذه الحوادث يرتكبها ألمان بيض ينتمون إلى أقصى يمين الطيف السياسي ــ ولكن من الواضح أن مجموعات معينة من الألمان "غير العرقيين" ممثلة بشكل غير متناسب. هذا سياق مهم لفهم "الهستيريا" الأخيرة - لفهم، على سبيل المثال، القرار المثير للجدل الذي اعتمده البوندستاغ في عام 2019، والذي أدان (في رأيي، خطأً) حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) ضد إسرائيل باعتبارها معادية للسامية. ودعا إلى قطع التمويل عن أي منظمات "تدعم بنشاط" حركة المقاطعة.

لكن "التعليم المسيحي ما بعد الاستعماري" يضلل بطريقة مختلفة أيضًا. إن ردود الفعل الألمانية على الإبادة الجماعية في أراض أخرى، وهو موضوع كتابي الأخير، تقدم مثالاً واضحاً لكيفية استخدام الألمان لذكريات الفترة النازية لدعم مجموعات أخرى مضطهدة تقليدياً، بما في ذلك المسلمين، وليس لحرمانهم من المساعدة أو التعاطف. مثال واضح على "الذاكرة متعددة الاتجاهات" لروثبرج في الممارسة العملية. ربما لم تكن الجهود الألمانية في (التصالح مع الماضى)  مثالية دائمًا، ولكن دعونا لا نلقي الطفل مع ماء الاستحمام. ويظل هذا المجال حيث يمكن للجمهورية الفيدرالية أن تدعي بحق أنها قصة نجاح، خاصة وأنها بدأت تتصارع بجدية مع ماضيها الاستعماري، على النقيض من أغلب حلفائها في بقية أوروبا ــ وعبر المحيط الأطلسي.

والمغزى من ذلك هو عدم إنكار أن بعض الألمان وجهوا اتهامات بمعاداة السامية بطريقة فعالة: لتأجيج كراهية الأجانب وتعزيز أجندة مناهضة للمهاجرين. كما أنني لا أحاول التبرير أو الاعتذار عن  التجاوزات الرسمية رداً على التحريض المعادي للسامية والدعوات إلى العنف. ولكن بسبب ماضيهم، يجد الألمان أنفسهم مرة أخرى في موقف صعب حيث يصبحون "ملعونين إذا فعلوا، وملعونين إذا لم يفعلوا". ولا يملك المرء إلا أن يتخيل ردة الفعل من الخارج (وفي الداخل). إذا نظرت السلطات الألمانية بسلبية إلى منتقدي إسرائيل وهم يوزعون المخبوزات الاحتفالية في وسط برلين ردًا على الهيجان القاتل الذي وقع في 7 أكتوبر، أو يدعون (ضمنًا أو صراحة) إلى تدمير إسرائيل. وفي النهاية، لاحظ غونتر جيكيلي أن "اتهام معاداة السامية يصبح هو المشكلة، وليس التصريحات التي عجلت بها".

الآن، لا ينبغي للمرء أن يساوي تلقائياً بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، ولكن لا ينبغي للمرء أيضاً أن ينكر وجود رابط في كثير من الأحيان ــ وهو التوتر الذي انعكس في البيانات المتنافسة حول هذا الموضوع من قبل التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة والموقعين على إعلان القدس. لتوضيح ما هو واضح (غالبًا ما يتم التغاضي عنه): الحكم على كل حادثة على أساس كل حالة على حدة، وعدم إطلاق تعميمات واسعة ومضللة، على سبيل المثال، تقديم السلطات الألمانية دعمًا غير مشروط لإسرائيل أو قمع الحريات المدنية من خلال "إلغاء" جميع منتقدي إسرائيل. إسرائيل وقمع كافة أشكال الاحتجاج المؤيدة للفلسطينيين.

وماذا عن الردود الألمانية على الادعاء بأن السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين تشكل إبادة جماعية؟ ومن المفهوم أن يشعر العديد من الألمان بالقلق من استخدام هذا المصطلح المشحون عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط بسبب تاريخهم ــ وهو نفس السبب الذي دفع المسؤولين الألمان إلى فرض رقابة مشددة على المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في الداخل، حتى تلك التي تضم منتقدين يهود لإسرائيل. وقد تساءل الأخيرون على وجه الخصوص بسخط عن حق الألمان في إلقاء المحاضرات على اليهود حول مدى ملاءمة مثل هذه الادعاءات والتعليقات.

علاوة على ذلك، أليس من واجب الألمان أن يطلقوا على البطة اسم "بطة"، إذا جاز التعبير - بل وأكثر من ذلك بسبب ماضيهم؟ ووفقاً لأولئك الذين جادلوا لصالح مشاركة ألمانيا في الجهود العسكرية ضد الصرب خلال المذبحة في البوسنة في أوائل التسعينيات، كان على بلادهم - على حد تعبير وزير الخارجية آنذاك كلاوس كينكل - "واجب سياسي وأخلاقي لتقديم المساعدة على وجه التحديد". في ضوء تاريخنا". ومثل هذه الاعتبارات تضع الألمان في موقف صعب.

يمكن للمرء، من الناحية النظرية - ومع مراعاة القانون الدولي وأحكام اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948 - إجراء مناقشة مفتوحة ورصينة وعقلانية حول ما إذا كانت الإجراءات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين تشكل إبادة جماعية، وهو ما يعتبره المجتمع الدولي بمثابة إبادة جماعية. تُعرّف الاتفاقية الإبادة الجماعية بأنها سلسلة من "الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية بصفتها هذه". ولكن هناك اختلاف بين التعريفات القانونية، من ناحية. والفهم الشعبي والعاطفي للمصطلح من جهة أخرى. كان هناك ميل منذ فترة طويلة ــ وليس فقط في ألمانيا ــ إلى مساواة الإبادة الجماعية بمعسكر أوشفيتز. ونتيجة لذلك، فإن أولئك الذين يستخدمون هذا المصطلح لوصف الجرائم التي تقع تحت عتبة القتل الجماعي الصناعي غالبًا ما يُشتبه في قيامهم بـ "تبييض" الجرائم الألمانية الماضية من خلال "إضفاء طابع نسبي" على الهولوكوست.

وما يوحي به هذا هو أن قسماً كبيراً من المناقشة يتعلق بنصوص فرعية، ودوافع (سياسية) منسوبة، ومخاوف غير معلنة ولكنها مفهومة بشأن العواقب التي قد تترتب على الاستخدام الأوسع نطاقاً والأقل عشوائية على ما يبدو لمصطلح الإبادة الجماعية ــ بغض النظر عن إمكانية تطبيقه قانونياً. ولأسباب مماثلة، يتفاعل العديد من الألمان بشكل عدائي مع مصطلحات مشحونة أخرى مثل الفصل العنصري والغيتو عندما يتعلق الأمر بتوصيف السياسات الإسرائيلية ــ أو كلمات مثل المقاطعة في الدعوة إلى فرض عقوبات دولية ضد إسرائيل.

مرة أخرى، يمكن للمرء إجراء مناقشة عقلانية حول مزايا وعدالة هذه المصطلحات. ولكن بوسع المرء أن يفهم أيضاً لماذا، في سياق قرون من الاضطهاد المعادي للسامية والذي بلغ ذروته في المحرقة، ينظر أنصار إسرائيل والصهيونية إلى مصطلحات مشحونة مثل هذه باعتبارها "اعتداءات صغيرة". في الوقت نفسه، يتساءلون لماذا يبدو أن أولئك الذين يدينون هذا الاستخدام لمرتكبي الاعتداءات الصغيرة ضد المجموعات الأخرى المضطهدة تقليديًا لديهم هواجس أقل تجاههم عندما يتعلق الأمر باليهود، أو فهم أقل لليهود الذين ينظرون إليهم ويدينونهم على هذا النحو.

ومع ذلك، فإن الفهم الشعبي الضيق لما يشكل إبادة جماعية - القتل الجماعي الصناعي - هو أحد الأسباب التي تجعل الأمر الزجري "لن يحدث مرة أخرى أبدًا" يظل طموحًا لم يتحقق. ويعني هذا الفهم المحدود أنه يتم التغاضي عن أعمال الاضطهاد الجماعي الأخرى. على سبيل المثال، من الواضح أن الترحيل المزعوم و"ترويس" الأطفال الأوكرانيين يعد شكلاً من أشكال الإبادة الجماعية، وفقًا لشروط اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948. فهل ينطبق الأمر نفسه على الإخلاء القسري للفلسطينيين من غزة والضفة الغربية، وهو ما يدينه منتقدو إسرائيل باعتباره "تطهيراً عرقياً"، أو أزمة إنسانية وصفها البعض بأنها "مجاعة متعمدة"؟

وهذه مسألة تستحق مناقشة جدية، وسيتم تسليط الضوء عليها في نهاية المطاف من خلال   حكم المحكمة الجنائية الدولية في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا مؤخرا ضد إسرائيل. وحتى ذلك الحين، يتعين على منتقدي السياسات الإسرائيلية والمدافعين عنها أن يتجنبوا اللغة التحريضية ــ أو على الأقل أن يكونوا أكثر حذراً بشأن استخدام مصطلحات مشحونة استفزازية بلا داع،وبالتالي تؤدي إلى عرقلة أكثر من مجرد التحريض على المناقشة والتصرفات التي قد تساعد الأبرياء في غزة وأماكن أخرى.

***

...........................

المؤلف: أندرو آي بورت/ Andrew I. Port أستاذ التاريخ في جامعة واين ستيت. تركز أبحاثه على ألمانيا الحديثة، والشيوعية واشتراكية الدولة، والاحتجاج الاجتماعي، والمقاومة الشعبية في ظل الأنظمة الاستبدادية، والإبادة الجماعية المقارنة. وآخر كتاب له "لن يحدث مرة أخرى أبدًا: الألمان والإبادة الجماعية بعد الهولوكوست" (جامعة هارفارد، 2023). يلقي كتاب "لن يحدث مرة أخرى" نظرة على ردود الفعل الألمانية تجاه الإبادة الجماعية في أجزاء أخرى من العالم بعد عام 1945، مع التركيز على كمبوديا والبوسنة ورواندا.

 

عدد غير قليل من الناس يجهل تفصيلات الدساتير ولا يعرف ما هي قيمتها؟ نعم بعض الناس يجهل هذه الدساتير جهلاً تاماً، أو جهلاً يوشك أن يكون تاماً، فالدساتير مقيدة تماماً بالمحافظة على القيم الدينية والسياسية والاجتماعية، وأن مهمتها أن تفصل في هذه المسائل الكثيرة التي نشأت بسبب فئات تبيح لنفسها من اللذات ما أباح لها الدين وما لم يبح، كما أن الدساتير تكبح جماح النخب السياسية التي تريد أن تبسط سلطانها على البلدان، وأن تمارس سياستها القاسية الخشنة التي تخالف أسس العدل والحرية كل المخالفة، وقد أقرت الدساتير سواء التي تمت صياغتها في الشرق المسلم أو في الغرب المسيحي حق الشعب في مقاومة هذه الشرذمة التي أثرت في حياتهم تأثيراً ظاهراً، والتي قطعت الصلة بينهم وبين الحرية والأمن أو كادت تنقطع، والتي أفقرت الدول على كثرة غناها وثرواتها، و” أقرّ الإسلام حق الشعب في مقاومة الحاكم المستبد والثورة عليه، فالخليفة كان مقيداً باتباع أحكام القرآن والسنة وإجماع الصحابة، فإذا خرج عنها وجبت معصيته”. ولم يكن من الممكن أن ينصرف الحاكم للهو، ويعكف على اللذة ويسرف فيها، وينكل بشعبه، ويبالغ في تعذيبه، ويجابه كل من اعترض على ضيمه وجنفه بضروب من القسوة، أن نطالب شعبه بالصبر والجلد، وأن يظل هادئاً صامتاً، ينتحل الطاعة ويتمسك بها، ونحن لا نغير من أصول الدين وقواعده إذا زعمنا أن الشعب بصمته سيتورط في طوام ونكبات لا حصر لها، وهو غافل مسرف في الغفلة إذا ظنّ أن الإسلام قد نهى عن الخروج عن الحاكم إذا بغى وتجبر، هذا أمر يدعو إلى الإشفاق، فالإسلام يريد أن تكون أمته حية نامية، فكيف يتحقق لها هذا، وجلادها يميتها بعسفه وظلمه، ويمنعها من أن يجتمع حولها الناس فتتيح لهم طريقاً يوصلهم إلى الله.

ومن الأحاديث النبوية المتفق عليها التي تقصر الطاعة على الحاكم العادل قوله عليه الصلاة والسلام:” السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة”.، وقوله كذلك:” أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر”. وقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:” من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”. وأنه عليه -أفضل الصلاة وأزكى التسليم- قال أيضاً:” من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد”

ولا شك عند الباحث أن موقف من لا يؤذيهم بطش الحكام، ولا يمضهم تجبر اللئام، غير مستقيم، هو خليق بأن يتغير، وأنه بدأ يتغير بدون شك، والدليل على ذلك ثورات الربيع العربي فهي نتيجة من نتائج التمرد على فرية عبثت بطائفة من الناس، زمرة أسرفت في الإساءة إلى نفسها حينما أذعنت لحاكم تجاوز كل حدود الدين والقيم والأعراف، حاكم يظلم شعبه ويسرف في الظلم، ويقضي بين رعيته فيشتط في القضاء، ولا يعرف عنه الناس سوى الغض منهم والإعراض عنهم، يتصرف في شؤونهم كما يشاء، ويتدبرها كما يحب، وهو في كل هذا لا يصور الحاكم المعتدل، ولا يقدم للناس أنموذجاً صالحاً يمكن احتذاؤه والتمثل به، “ولم يكن الخليفة حاكماً مطلقاً يجمع بين يديه سلطان التشريع والإرادة والقضاء، فالتشريع كان مصدره القرآن والسنة والإجماع، أما القضاء فكان بمنأى عن تدخل الخليفة، رغم أنه هو الذي كان يعين القضاة، وكان يمكنه مساءلة الخليفة أمام القضاء، شأنه في ذلك شأن الأفراد العاديين تماماً، ولم يسجل التاريخ حالة واحدة تدخل فيها أحد الخلفاء أو عماله في أعمال القضاء”. ويطول القول إذا أردنا أن نذكر أن الحاكم ليس من الميسور له، أو من السهل عليه، أن يمهد للسطوة أسبابها ووسائلها، وأن يقر نظماً اجتماعية وسياسية تجعل يده طاغية كل الطغيان، فالنظم التي تتنافى مع الإسلام الذي كفل حرية الفرد، وكفل حرية الجماعة، يخضع لها من لا يشقى الحاكم بشقائهم، ولا يسعد بسعادتهم، فهو يعيش معتزلاً في برجه العاجي، وقصره المنيف كما نعلم، ويمسي ويصبح في حياة مترفة رغدة ولا ينتظر أو يرجأ من أحد شيئاً، حفياً بنفر يدفعه إلى شيء آخر غير ظلم الرعية وهو تقريب طغمة فاسدة تعينه على الباطل، رهط يتودد إلى السلطان ويتقرب له، عساه أن يظفر منه بشيء يجعله يعيش في لين إن وجد إلى ذلك سبيلا،، فنراه بعد أن حظي من الباغي بمنزلة، يجحف كما يجحف السلطان، ويستبد كما يستبد السلطان، ويسرق ويرتشي، ويقتل وينتشي، ويأتي كل الموبقات التي يأتيها السلطان، ويستأثر دون الحفاة العراة بالمال، ويعين الغاشم على إعجابه بنفسه واختياله، ويقنعه بأنه من أهل التفرد الذي لا يحتمل شكاً، والنبوغ الذي لا يحوم حوله خلاف.

ولا شك أن الحاكم البائس المغتر بنفسه في حاجة إلى طائفة من الأخلاق لم يكن للنفر المحيط به فيها حظ، وليته تقّصْىَ مكانته عند الرعية، فإنها تنم من غير شك بما تضمره دواخلهم من حب له أو بغض، ولا شك أيضا أن طائفة غير قليلة ستعرض عن موكبه إذا لم تقهرها جلاوزته وزبانيته على الحضور والمشاركة، لأجل ذلك ابتدعت النظم الحديثة ثلة تحمل هذه الأعباء، وتنهض بتلك الأثقال، حشد يتضامون في وحدة متماسكة تحمل بعضها ثقل بعض، قوم يحرصون أشد الحرص على إرضاء هذه الجموع التي ابتليت بمثل هذا الصنف من الحُكام، وإخماد هذه الزفرات، وتسكين تلك العبرات التي تنطلق من دواخلهم المتعبة.

 ومن حق تلك الجموع أن تراعي تلك الطائفة عهدها، ولا تميل به إلى الإخلال، والتقصير القبيح، وأكبر الظن أن هذه الجموع كانت مخدوعة عن نفسها حينما توهمت أن الأحزاب التي تملأ الساحة السياسية سوف تقتحم كل مشقة، وتتكلف كل عناء من أجل أن تقبل على رئيسها إذا عدل، وتعرض عنه إذا طغى وظلم، وغاب عنها أن الأحزاب معظم الأحزاب لا تأبه لإعراضها ولا ازورارها، وأن هاجسها الذي يحرك لسانها، ويطلق صوتها، أن تدنو من الحاكم ويستريح هو إليها، وجهلت تلك الأحزاب التي تؤثر إرضاء الحاكم عن إرضاء قاعدتها” إن تكوين تلك الأحزاب منطلق من أمر رباني مباشر” ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون” آل عمران: 104. وأن أمة من هذا القبيل لا يمكن أن يعلق مصيرها بشخص الحاكم، بل هي التي ينبغي أن تكون صاحبة السلطان عليه”. لقد أصغت الشعوب كل الشعوب للأحزاب فكلفتها بعض تلك الأحزاب من الأعاجيب مثنى وفرادى، فهي لا تحفل برضاء شعوبها ولا تقف عنده، ومن المآسي التي تواجهها تلك الشعوب إذا أصبحت، وتواجهها إذا أمست، أن يكون ليس هناك توقيت يمكن أن تنجاب عنها هذه المحنة، فقد ألفها أجدادهم وتعايشوا معها، وقنع بها أباءهم ورضخوا لها، وها هم الآن يعيشون بسببها شراً متصلاً وألما أليماً، والمحنة باقية لم تنقضي، والأحزاب السياسية التي كل همها القهر والسلطان لابد من وجودها، ولا مناص من مضاء سيرتها بين الناس، رغم أنها لا تمثل عواطف الناس تمثيلاً صحيحاً، ولكنها “تلعب دوراً فعالاً في خلق الرأي العام، وفي تنشيطه وتنظيمه، فتقوم بتنظيم الاتجاهات السياسية وتوضح مصالح المواطنين بما يتصل بالشؤون العامة وتمدهم بالمعرفة والمعلومات، وتقوم بتجميع مصالحهم، وتحديدها في برامج محددة صالحة للاختيار فيما بينها وتعرفهم على المشكلات العامة التي تواجههم وتزودهم بالحلول المناسبة لها وتعرفهم بحقوقهم وحرياتهم التي يجب عدم تجاوزها”.

كما أن الأحزاب السياسية التي حظها من الأمانة ينقص، وقسطها من الالتواء يزيد “تعمل على تكوين ثقافة سياسية وتوجيه الرأي العام، فتمكنهم من فهم المسائل العامة، والمشاركة في مناقشتها والحكم عليها حكماً صحيحاً؛ فالأحزاب هي أشبه ما تكون بــــــ” مدارس الشعوب”.

والقول بالمشاركة السياسية تكثر فيه المبالغة، ويظهر فيه التكلف، ولا نجد مصطلح المشاركة السياسية عند شعوبنا في المنطقة العربية قد نضج في نفسها وثبتت عليه اعتقادها، ومن الحق علينا أن نتفهم ارتياب الشعوب حيال هذا المصطلح الذي يكثر الجدال واللجاج حوله، فليس هناك في الواقع ما يدل عليه، اللهم إلا في بعض الدول العربية التي نجحت في تحقيق الصلة بينها وبين الفلسفة الغربية، والتي أوجدت لنفسها مساحة من الحرية، لم يسلبها منها بطش حاكم، أو جحود عادة، وهي رغم جهادها وحرصها على توفير تلك المساحة لم تحتفظ إلاّ بأيسر ما نالته من تلك المشاركة، رغم ما لها من حس، وما لها كيد، وما لها تفكير، وما لها من إرادة.

“والمشاركة السياسية كما تعرفها” دائرة العلوم الاجتماعية” هي:” تلك الأنشطة الإدارية التي يشارك بمقتضاها أفراد مجمع في اختيار حكامه وفي صياغة السياسة العامة بشكل مباشر أو غير مباشر، أي أنها تعني اشتراك الفرد في مختلف مستويات العمل والنظام السياسي”. والشيء الواضح والجلي أن شعوبنا في الشرق الأوسط وعالمنا العربي والأفريقي لا تبلغ مشاركتهم السياسية إلا النذر القليل، وهي على قلتها لا تظهر في الأفق إلا إذا أعانها الحاكم ويسرها لأمته، ولعل من بلادة الحس، وفتور الشعور، أن ندعي أن حُكام هذه البقع من العالم يكبرها الناس في أفئدتهم ويؤثرونها بالمودة، لأنها كفلت لهم حرية المشاركة السياسية وأتاحتها لهم، فهم ذهبوا مذهب غيرهم من الطغاة الذين يبسطون القمع لشعوبهم ويجزلون العطاء، هذه الطائفة من البغاة عاجزة أن تلائم بين سيرتها وبين ما تقتضيه فقرات الدساتير في بلادهم، وتمثل المشاركة السياسية المعدومة أو النادرة في دول الشرق الأوسط والقارة الأفريقية “أحد أهم الأدوار الأساسية التي يقوم بها الحزب السياسي حيث يقدم للمواطنين فرصة لتنظيم وهيكلة أنفسهم مع من يشاركونه بالرأي والفكر والعقيدة السياسية من أجل ممارسة التأثير على السلطة الحاكمة، سواء على المستوى المحلي أو المستوى القومي ويصبح الحزب إحدى قنوات الاتصال بين الحاكم والمحكوم وأداة تمكن المواطنين من المشاركة والمساهمة في الحياة العامة وأشهر أنواع المشاركة السياسية هي الانتخابات”. والرؤساء في عالمنا لا يدركون المغزى من حرص الشعوب على هذه الانتخابات التي لا تفضي إلا لما يبتغونه هم وينشدوه، والتي يظهر كل فرد منهم نفسه فيها بمظهر العادل الذي لا يجور، والمتواضع الذي لا يتكبر، والرحيم الذي لا يتجبر، ولعل الأمر الذي يعجز العقل عن فهم فلسفته، كيف لا يتجشم عقل الطاغية أسباب حزن الرعية الذي انتهى بها شغفها إلى التغيير إلى هذه النتيجة المؤلمة، ولا يستقبل ما استقبلته من خيبات عسيرة الاحتمال، والباحث يريد أن يتجاوز طغيان الساسة وعسفهم وتملقهم للحكام والسلاطين، وزهد الرؤساء في تطبيق الدستور الذي أقسموا على العمل وفق حيثياته،  لكن هناك أمرين يعترضانه ويمنعاه من أن يقف عند هذا الحد، فالحاكم الذي يسعى أن يخدع أتباعه بإظهار صلاح لا يثبته نهجه، ولا تثبته أفعاله، لماذا يدأب دوماً في الاستهزاء بالدين؟، ويكره أن يحث عليه؟ ولماذا لا تأخذ جماهيرهم صلاتهم ونوافلهم من منطلق أنها خضوع تام لرب العزة الذي ملّكهم على رقاب الغير؟ ولماذا نشعر في كثير من الأحيان أن الأحزاب الإسلامية التي ينبغي أن نستبين في تفصيلاتها السياسية قيم الإسلام ورسوخه، نجدها تمانع أشد الممانعة، وتأبى أشد الإباء بتصرفاتها الفجة أن نقبل عليها، ونثق فيها، ونسمع لها؟

***

د. الطيب النقر

 

الظواهر السلبية التي ظهرت في المجتمع العراقي منذ بداية الاحتلال عام ٢٠٠٣ والى الآن والتي تعتبر جديدة على المجتمع العراقي وتثير المخاوف والتساؤلات، تختلف الآراء في تفسير اسبابها .

الا ان الملاحظ هو طغيان نظرية المؤامرة واتهام جهات مختلفة بأنها تريد تدمير العراق وتمنعه من التقدم..

ونادراً ما يصدر رأي علمي هاديء يقدم تفسيراً منطقيا ً وعلمياً لما يجري بعيداً عن المؤامرات.

اليس ممكناً ان يكون ذلك الانفلات ناجماً عن عقود من الكبت والتضييق والحياة الصعبة ومخاطر الحروب وعذاب الحصار؟.

متى عاش العراقيون بارتياح وهدوء وتنعّموا بالحياة؟

قالها الرئيس السابق ذات مرة ومن على شاشة التلفزيون، باننا نستطيع جعل العراقيين يتمتعون برفاه دول الخليج، ولكننا نريدهم ان يعتادوا الحياة الصعبة لكي يستطيعوا انجاز المهام القومية التي تنتظرهم !!

اذن فلقد كان التضييق سياسة مخططة ادت الى هذا الكم من العذاب الاجتماعي والحرمان من منتجات التكنولوجيا الحديثة بحجة الدواعي الامنية .

والآن وبعد الانفلات الذي اعقب الاحتلال، هل يمكن مطالبة الاجيال الجديدة بنوع من الانضباط؟

وماهي مقاييس الانضباط ومن الذي يحددها؟

هل كان لدينا بناء منهجي متدرج لمنظومة قيم متفق عليها؟

هل لدينا احزاب تمتلك تراث ثقافي وفكري يغطي كل جوانب الحياة ويدخل في المناهج التعليمية وفي المنتجات الثقافية التي تشكل الوعي المجتمعي؟

هل كانت لدينا مؤسسات ثقافية مستقلة بعيداً عن تدخلات السياسيين وميولهم الايديولوجية ؟

هل كانت لدينا ثقافة مستقلة او دور نشر مستقلة او مسرح او سينما مستقلة؟ هل كانت لدينا منظمات مجتمع مدني ونقابات وجمعيات مستقلة؟.

في فترة ما من تاريخ العراق اضطر حتى المطربون والشعراء والملحنون الى الهرب من العراق لانهم كانوا يُجبرون على الأداء ضمن سياق ايديولوجي تحدده الدولة والحزب القائد.

وعندما انهار النظام وانهار البلد وانهارت مؤسسته الامنية وغيرها من المؤسسات. لم يجد الجيل الجديد امامه سوى ما سمح به الاحتلال من تدفق فوضوي للأشياء المختلفة، المادية والمعنوية والقيمية!

حاجات الناس مختلفة وامزجتهم مختلفة وتطلعات الشباب ايضاً متنوعة ولايمكن أخضاعها الى قوالب حكومية قسرية لان ذلك سوف يخلق شخصيات مزدوجة تتظاهر بالانصياع لرغبات النظام لكنها تخفي اموراً أخرى.

يبدو ان البعض يرى ان اليتم والترمل والاستغلال والفقر والجوع والحرمان ومشاهد العنف والانفجارات والاغتيالات، ليس لها تأثير على توجهات الناس لاسيما الشباب منهم ..

كما يبدو ان البعض يعتقد ان انغلاق الأفق وانعدام فرص العمل.

لاتؤثر في بناء الشخصية!

ارجو ان لايساء فهمي في هذا المنشور، فليس القصد استبعاد الأثر الخارجي في مايحصل في العراق سواء من قبل الدول الاخرى او اجهزة الاستخبارات او العصابات او الشركات الخ..

ولكني اردت القول ان العامل الخارجي ليس هو المسؤول وحده عما حصل بل ان العوامل الداخلية الموروثة والحالية تلعب دوراً فاعلاً في ذلك اضافة الى العوامل الخارجية والمؤامرات، بالطبع.

***

د. صلاح حزام

في المفهوم: التّطبيع، مصطلح في سياقه سياسيّ يشير إلى جعل العلاقات طبيعيّة بين دولة وأخرى، أو بين دولة وعدة دول كان بينهم عداوة أو خلافات وتوتر لأسباب ما، وهم يسعون بالتطبيع لتجاوزها والعودة إلى خلق علاقات طبيعيّة بينهم .

وهذا يعني أنّ تّطبيع بعض الدول العربيّة مع الكيان الصهيونيّ يهدف إلى جعل علاقات الدول العربيّة معه طبيعيّة، ويأتي في مقدمتها الاعتراف بوجوده، بعد كل المجازر والاعتداءات التي قام بها هذا الكيان ضدّ شعوب دول الجوار العربيّة بشكل عام، و الشعب الفلسطينيّ منها بشكل خاص.

السيرة التاريخيّة للتطبيع

لمؤازة إقرار "وعد بلفور" من أجل إقامة الدولة اليهوديّة على أرض فلسطين، كانت اتفاقيّة سايكس بيكو الرامية إلى تفتيت سورية الكبرى، والتي جزأتها فعلاً إلى سورية ولبنان والأردن وفلسطين. وأمام حالة التذرير هذه لسورية الكبرى، جاء انعقاد مؤتمر "سان ريمو" عام 1920 ليفرض حالة التذرير هذه باسم الانتداب ورسالة الرجل الأبيض. ومع تطبيق سياسة الانتداب، أصبحت مسألة تنفيذ المشروع الصهيونيّ وإقامة الدولة الصهيونيّة أمراً حتمياً تحت مظلة السيطرة الاستعماريّة واستحكام قيضتها على مقاليد أمور البلاد. يساعدها في ذلك الحكومات العربيّة المُشكلة في تلك الفترة برغبة استعماريّة، حيث كانت مؤهلة من خلال طبيعتها ومصالحها وارتباطاتها لتنفيذ هذا المشروع الصهيونيّ الامبريالي.

إن التطبيع مع الدولة الصهيونيّة ليس حديثاً كما يبدو لبعضهم، فالكثير من الأنظمة العربيّة منذ حرب 1948 كانت وراء قيام هذه الدولة والتعاون معها في السر، فوراء تدخل الملك عبد الله في حرب 1948، كانت تكمن رغبته في تحقيق مصالحه على حساب القضيّة الفلسطينيّة من خلال سعيه لضم القسم الذي أقرته الأمم المتحدة في قرار التقسيم "181" للفلسطينيين تحت نفوذه، أي تحت نفوذ الأردن. أما تدخل الملك عبد العزيز بن سعود في هذه الحرب، فكانت رغبته في منع الملك عبد الله من تحقيق ضم هذا القسم الذي ترك للفلسطينيين في قرار التقسيم للأردن، حتى لا يقوى نفوذه، وبالتالي امتلاكه القدرة على استرداد ملك أبيه الذي يرى أن آل سعود أخذوه منه في السعوديّة. أما الملك فاروق فكان يطمح بالخلافة الإسلاميّة بعد أن تخلى عنها "كمال أتاتورك"، لذلك تدخل لمنع "عبدالله" من الحصول على القسم الفلسطيني ذاته وضمه إلى الأردن وبرغبة سعوديّة كما سيمر معنا بعد قليل.

تذكر المصادر قبيل قيام حرب 1948، أن الملك عبد العزيز أرسل رسالة إلى الملك فاروق يقول له فيها: ( إن صاحبنا - يقصد الملك عبد الله - في الشرق، " تأبط شراً" يبغي يفاجئنا بالمحظور، فملكه لا يصير توسيعه على حساب القضية، وهو يلعب مع الإنكليز، والانكليز يلعبون به، فوقفه عند حده لازم، وثوقنا بعد الله في حكمتكم. وإلا المصائب تقع علينا وليس عليهم...). (1) . ومثل هذه الرسالة وجهت من قبله إلى قبائل الأردن وحكومة دمشق وقد أعلن عن دعمه لتقديم الدعم الماديّ للمعركة إذا خرج منها عبد الله. (2).

هذا وقد جاء في مذكرات "بن غوريون" عندما سأل المندوب البريطاني عبد الله عن موقف العرب من الحرب إذا قامت، قال له عبد الله: (الجامعة ليست جامعة، والقرارات ليست قرارات، لقد طرحوا في الجامعة مشروع قطع العلاقات مع الغرب، كلام فارغ، هل ابن سعود يستطيع قطع العلاقات مع أمريكا؟. كل واحد في العالم العربي يزايد على الآخر... البيان الذي صدر بعد انتهاء اجتماعات الجامعة، كان موجها لتغطية الفشل العربيّ... شرق الأردن لم يوافق على أي قرار...مصر أعلنت صراحة لن تقدم سوى المال والدعاية والعمل السياسيّ، ولكن لا سلاح ولا جيش وربما يُسمح لمتطوعين... لبنان قال أنه لا يستطيع تقديم أكثر من /500/ بندقية. سورية لها حسابات أخرى.. السعوديّة تعطي الدولارات.. اطمئنوا فالفيلق الخامس بقيادة كلوب باشا.). (3)

نتيجة الخيبات العربيّة المحققة عن طريق تأمر الحكام العرب على القضيّة الفلسطينيّة، والحصار الذي فرض على منظمة التحرير الفلسطينيّة، والمواقف الضاغطة من الغرب وأمريكا، ونتائج مشروع روجرز الذي يرمي إلى سيطرة أمريكا على المنطقة وعزل القضيّة الفلسطينيّة عن محيطها العربيّ التضامني، وتثبيت الوجود الاسرائيلي في المنطقة، وبالتالي تحويل مشكلة الصراع بعد حرب السبعة وستين المدمرة بين مصر وسورية مع الدول الصهيونيّة من مشكلة وجود إلى مشكلة حدود... نقول: أمام كل معطيات هذه الخيبات، بدأت تظهر بعض الأصوات من القادة الفلسطينيين بضرورة حل الصراع بين الفلسطينيين والاسرائيليين، حلاً يقوم على مد الجسور لإقامة مفاوضات سلميّة. ومن هذه الأصوات كان صوت "نايف حواتمة" و"أبو مازن" و"محمد عباس".

فهذا "أبو مازن" يشير في مذكراته في عام 1970 قائلاً: (لقد توصلت إلى ضرورة العمل على الاتصال بالقوى الإسرائيليّة  لإجراء حوار معها من أجل الوصول إلى سلام.).

وهذ "نايف حواتمة" قبيل حرب تشرين بعدة أشهر في آب 1973، يتقدم بفكرة أوليّة لمنظمة التحرير الفلسطينيّة، تهدف إلى ضرورة إقامة دولة ديمقراطيّة موحدة في فلسطين . أما أول جزء من خطة هذا التوجه فهو إقامة سلطة فلسطينيّة على أي جزء من الأراضي المحتلة في فلسطين، بعد تحريرها أولاً بالسلاح أو بالطريقة السلميّة. (4).

بعد حرب تشرين وتحول مصر عن النهج القومي، راح السادات يمارس ضغطه لحل القضية الفلسطينيّة حلا سلميّا وفق قرار مجلس الأمن "338، 22ت1 1973"،  الذي دعا الأطراف المتنازعة جميعاً إلى وقف إطلاق النار وتطبيق القرار242.

وفي مؤتمر القمة العربية السادس /26-28) تشرين الثاني 1973، أعلن الحكام العرب المتواجدون في مؤتمر قمة الجزائر. (التزامهم باستعادة الحقوق الوطنيّة للشعب الفلسطينيّ وفق ما تقرره منظمة التحرير). بعد أن أعطوا المنظمة حق التمثيل الشرعيّ لمصالح الفلسطينيين، في مسألة الصراع العربيّ الصهيونيّ. وهنا تخلى العرب بقرار رسمي عن القضية الفلسطينيّة، وتركوا الفلسطينيين يناضلون دون أرض أو تغطية سياسيّة أو عسكريّة.

بعد هذا التنازل العربيّ عن دعم القضية الفلسطينيّة، تنازلت الدول الإسلاميّة أيضاً في مؤتمر "منظمة المؤتمر الإسلاميّ 1974" المنعقد في "لاهور" عن الفلسطينيين، باتخاذهم قراراً يؤيد استقلاليّة القرار الفلسطينيّ. (5).

في الدورة 39 لهيئة الأمم المتحدة 1974 اتخذت الهيئة العامة للأمم المتحدة قراراً جاء فيه دعوة منظمة التحرير للمشاركة في مناقشات القضيّة الفلسطينيّة من حيث كونها ممثلاً للشعب الفلسطينيّ.  (6).

وبعد حوادث لبنان في /12/ آذار/ 1977، بدأ ما يسمى بالتيار الفلسطينيّ المعتدل يفرض قناعاته تجاه تسوية المسألة الفلسطينيّة، حيث أصدر "المجلس الوطنيّ الفلسطيني" بياناً دعا فيه إلى ضرورة إجراء اتصالات مع القوى الصهيونيّة بما يتلاءم ومصلحة الشعب الفلسطيني. (7). بيد أن الرافضين لهذا الاتجاه قاموا بتصفية العديد من المنادين به أمثال: ( رؤوف القبيسي- علي الياسين- سعيد جمامي- عز الدين قلق- ابراهيم عبد العزيز – نعيم خضر- ما جد أبو شرارة). هذا في الوقت الذي كان فيه ملك المغرب "الحسن الخامس" يشجع ويدفع الفلسطينيين (منظمة التحرير) إلى ضرورة التنسيق مع مصر لتحقيق التسوية السلميّة. الأمر الذي جعل السادات يوافق على وساطة الملك الحسن بعودة المنظمة إلى القاهرة. (8).  ترافق ذلك مع إصدار أمريكا توجهات لسفاراتها بعدم استقبال أي من القوى الفلسطينيّة حتى يعترفوا بإسرائيل وبقراري مجلس الأمن 242 و338. وبذلك سُدّتْ كلُ منافذ الحركة والنضال أمام الفلسطينيين وقادتهم.  (9)0.

مع قيام الثورة الإسلاميّة في ايران 1979اتجهت منظمة التحرير نحو ايران كحليف وداعم للحق الفلسطيني. غير أن خطأ الحسابات السياسيّة في حرب الخليج الأولى وعودة منظمة التحرير لحضن العراق أفسد العلاقات بين الفلسطينيين وايران.

وعندما قام التغيير في روسيا بفعل البيروستريكا ذهب وفد فلسطينيّ رفيع المستوى إلى موسكوا يعرض حال الفلسطينيين وتخلي الكل عنهم، طالبين الدعم الروسي لهم كون روسيا أحد الأطراف الأربعة المكلفة بحل قضية الصراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ. إلا أن غورباتشوف قال لهم عودوا إلى أمريكا فالحل كله عندها.

سارت مصر بمشروع السلام وعقدت اتفاقية كامب ديفيد عام ( 1979). أما الفلسطينيون فقد اتجهوا إلى انتفاضة الحجارة، فكانت النتيجة اتفاقية "أوسلو" (1993) التي أهم نتائجها أمام الحصار الذي فرض على الفلسطينيين من كل الجهات، هو تحقيق أرض يتواجدون عليها ويفاوضون... وبضعة بنادق لشرطتهم... وعلم يرفرف على مقر سلطتهم أمام كل التحديات، وليقولوا للعالم كله نحن باقون وأجيالنا ستعرف أن فلسطين لهم وستعود يوما لا محال. ثم تلتها الأردن باتفاقيّة وادي عربة (1994).

الامارات والبحرين وصفقة القرن

كُتب الكثير في المواقع الإلكترونية والصحف والمجلات العربيّة، وظهر الكثير من التحليلات السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة والثقافيّة على القنوات التلفزيونية التي تناولت هذا المسار التطبيعي الذي سمي بصفقة القرن. لذلك سأحاول في هذه العجالة أن أبين أهم الأهداف الرامية إلى هذا المسار التطبيعي بالنسبة لكل الأطراف المعنيّة بهذا التطبيع بشكل مباشر أو غير مباشر.

على العموم لم تكن صفقة القرن الساعية إلى تطبيع العلاقات بين ما تبقى من الدول العربيّة والدولة الصهيونيّة وليدة المصادفة، أو الظروف التاريخيّة الراهنة، وإنما عمليّة التطبيع بين الدول المطبعة أخيراً وخاصة (الإمارات والبحرين)، كانت قائمة منذ سنين طويلة في الظل، حيث كانت كلتا الدولتين بالكاد تخفيان العلاقات مع إسرائيل. والآن تتطلعان إلى التواصل بشكل منفتح، فجاءت صفقة القرن كي تظهرها على السطح، أي كانت تنتظر فقط الرافعة التي تسمح لها بالظهور على السطح. ولتسمح لكل من المغرب والسودان أن يسيران في هذا الاتجاه أيضاً.

لقد اختار الحاكم الفعلي للإمارات أن يعلن الزواج السياسي بين (أبو ظبي وتل أبيب) بعد خطوبة استمرت عدة سنوات، وقد نال هذا الزواج السياسيّ مباركة هيئة الإفتاء الإماراتيّة ببيان صادر عن رئيسها العالم الموريتاني "عبد الله بن بيه" الذي رأى أن مثل هذه العلاقات هي شأن سياديّ للحاكم.

لقد تمّ الإعلان عن اتّفاقيّة التّطبيع بين اسرائيل والإمارات العربيّة المتّحدة يوم الخميس 13/أغسطس/2020م، ونصّت هذه الاتّفاقيّة على التّطبيع الكامل للعلاقات بين البلدين تحت ذريعة تعزيز السّلام في منطقة الشّرق الأوسط، كما أنّها نصّت على توقيع الاتّفاقات الثّنائيّة في مختلف المجالات، ومنها: الأمن والاتّصالات والتّكنولوجيا بالإضافة إلى السّياحة والثّقافة. هذا وقد تمّ الإعلان عن قيام "مملكة البحرين" أيضاً بإبرام اتّفاقيّة التطبيع مع دولة إسرائيل يوم الجمعة 11/سبتمبر/2020م، وأعلنت وكالة الأنباء الرّسميّة البحرانيّة: بأنّ توقيع هذه الاتّفاقيّة يعدُّ أحد الجهود الدّوليّة للبحرين في نشر ثقافة السّلام والتّعايش في مختلف أنحاء العالم، كما قالت وكالة الأنباء الرّسميّة بأنّ إعلان السّلام البحرينيّ الإسرائيليّ يخلق للشعب الفلسطينيّ فرصاً أفضل في إقامة دولة مستقلّة ومستقرّة ومزدهرة أيضًا.

الأسباب الداعية للتطبيع الأخير وفق صفقة القرن:

أولاً: تحقيق فرص تجاريّة وعسكريّة لدول الخليج

تنظر الدول المطبعة إلى أن هذه الاتفاقيّة ستساعدهم على  كسب التكنولوجيا الاسرائيليّة وخاصة بالنسبة للإماراتيين الطموحين، الذين جعلوا من أنفسهم قوة عسكريّة ومركزاً تجاريّاً ومقصداً للسياحة. و ذلك على اعتبار أن إسرائيل تمتلك أحد أهم قطاعات التكنولوجيا في العالم.

ويبدو أن الأمريكيين مهدوا لإبرام الصفقة عبر تقديم وعود بأسلحة متطورة كانت الإمارات العربيّة المتحدة بالكاد قادرة على التفرج عليها في الماضي. وهي تشمل مقاتلة اف 35 وطائرة الحرب الإلكترونيّة "إي ايه-18جي غرولر".

وكان أيضاً تشارك المخاوف نفسها من إيران، لدى كل من إسرائيل والولايات المتحدة والإمارات والبحرين. فحتى عام 1969، كانت إيران تدعي أن البحرين جزءاً من أراضيها. ويعتبر حكام البحرين السنة أيضاً أنّ بعض الشيعة في المملكة بمثابة طابور خامس محتمل لإيران. أما قضية الجزر بين إيران والإمارات فهي غير خافية على أحد. هذا ويعد تعزيز التحالف ضد إيران ميزة كبيرة أخرى. حيث يرى نتنياهو ودولتا الامارات والبحرين أنّ إيران هي العدو الأول لكل منهم.

ثانيا: تخفيف عزلة إسرائيل

يعتبر تطبيع العلاقات مع الإمارات والبحرين اليوم إنجازاً حقيقيّاً للإسرائيليين. فرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مؤمن بالاستراتيجيّة التي وُصفت لأول مرة في عشرينيات القرن الماضي بـ"الجدار الحديديّ". وتركز الفكرة على أن القوة الإسرائيليّة ستجعل العرب في النهاية يدركون أن خيارهم الوحيد هو الاعتراف بوجودها. لا سيما وأن الإسرائيليين لا يحبون العزلة في الشرق الأوسط، ولم يكن السلام مع مصر والأردن دافئاً أبداً بالنسبة لهم، وربما لديهم تفاؤل أكبر بشأن العلاقات المستقبليّة مع دول الخليج.

ثالثاً: إن نتنياهو كان محاصراً أيضاً، ويواجه محاكمة بتهمة الفساد التي قد تؤدي به إلى السجن آنذلك. إضافة لسوء تعامله مع جائحة كورونا التي دفعت المعارضين إلى تنظيم مسيرات أسبوعية خارج مقر إقامته في القدس. ولذا، لا يمكن أن يأتي وقت لتوقيع حفل الاتفاق في البيت الأبيض أفضل من هذا التوقيت.

رابعاً ً: انقلاب في السياسة الخارجيّة لأمريكا

هذه الصفقة، تفيد رئيس الولايات المتحدة على مستويات عدة: فهي تقدم دفعة كبيرة لاستراتيجيته الرامية إلى ممارسة "أقصى ضغط" على إيران. وهي أيضاً ذخيرة مفيدة، خاصة في الأيام الأخيرة من الانتخابات، لدعم تفاخره بأنه أفضل صانع صفقات سلام لإسرائيل في العالم. وهذا ما جعل "ترامب" يعلن عن الاتفاق من البيت الأبيض. إضافة لذلك، فأي شيء يفعله لصالح إسرائيل، أو بالأحرى لحكومة بنيامين نتنياهو، يتماشى جيداً مع الناخبين الإنجيليين المسيحيين الأمريكيين، وهم جزء مهم من قاعدته الانتخابيّة. وبالتالي يجب على تحالف "أصدقاء أمريكا" ضد إيران أن يعمل بشكل أكثر سلاسة عندما يكون عرب الخليج منفتحين بشأن علاقاتهم مع إسرائيل.

لقد كان هناك الكثير من الجدل لدى الإعلان عن "صفقة القرن" التي أطلقها "ترامب" لصنع السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. لكنّ الاتفاق الإسرائيلي الإماراتي البحراني يمثل تحولاً مهماً في ميزان القوى في الشرق الأوسط، ويتم تقديمه من قبل ترامب على أنه انقلاب كبير في السياسة الخارجيّة الأمريكيّة.

خامساً: الموقف الفلسطينيّ من الاتفاق

لقد أدان الفلسطينيون ما يعرف بـاتفاق "ابراهام" باعتباره خيانة. لذلك جاء الاتفاق بين الإمارات والبحرين وإسرائيل ليكسر شبه الإجماع العربيّ الطويل على أن ثمن العلاقات الطبيعيّة مع إسرائيل هو استقلال الفلسطينيين. وبالرغم من أن إسرائيل  تعمل الآن على ترسيخ علاقات عامة جديدة مع الدول العربيّة، وقد قال ولي عهد أبوظبي "محمد بن زايد آل نهيان" : إنّ ثمن الصفقة هو موافقة إسرائيل على وقف ضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربيّة.  إلا أن  الفلسطينين لا زالوا تحت الاحتلال في القدس الشرقيّة والضفة الغربيّة، وفي ما يرقى إلى مستوى سجن مفتوح في غزة. ولكن يبدو أن رئيس الوزراء نتنياهو قد تراجع عن فكرة ضم أجزاء من الضفة الغربيّة إلى كيان الدولة الصهيونيّة في الوقت الحالي على الأقل، بسبب الضغط الدوليّ الساحق. وليقدم له الإماراتيون والبحرانيون في تطبيعهم مخرجاً من الحرج.

إن توقيع الاتفاق هذا، لم يكن ليحدث من دون موافقة السعوديّة التي طرحت خطة السلام العربيّة المتضمنة إقامة الدولة الفلسطينيّة. إنّ مكانة الملك سلمان بصفته خادم الحرمين الشريفين تمنحه سلطة هائلة، ومن غير المحتمل أن يعترف بإسرائيل فجأة، لكن قد يكون ابنه ووريثه، "محمد بن سلمان"، أقل تردداً، الأمر الذي جعل البيت الأبيض الأمريكي يرحب به كداعم للسلام مع الدولة الصهيونيّة إضافة لحاكميّ الإمارات والبحرين.

سادساً: الموقف الإيرانيّ من اتفاق التطبيع الإماراتي البحريني  مع إسرائيل:

لقد نددت القيادة الإيرانية بالاتفاق بشدة، حيث وضعهم اتفاق ابراهام تحت ضغط جديد. لذلك خرجت تظاهرات في إيران منددة بالتطبيع بين الإمارات والبحرين وإسرائيل. خاصة وأن عقوبات ترامب تسببت في ألم اقتصاديّ حقيقي لإيران. وأصبح لدى إيران الآن صداع استراتيجي إضافي.

لا شك أن القواعد الجويّة الإسرائيليّة بعيدة عن إيران. أما تلك الخاصة بالإمارات، فهي عبر مياه الخليج.  وبذلك سيشكل وجود قواعد جويّة أو بحريّة في دولتي الامارات والبحرين تحت تصرف اسرائيل خطورة كبيرة للغاية على إيران، في حال كانت هناك عودة للحديث عن ضربات جويّة ضد المواقع النوويّة الإيرانيّة.

نعم لقد بات لدى إسرائيل والولايات المتحدة والبحرين والإمارات مجموعة من الخيارات الاستراتيجيّة الجديدة. يقابلها تقلص كبير في مساحة خيارات المواجهة العسكريّة الإيرانيّة .

ملاك القول:

لقد خرجت العلاقة بين أبو ظبي والبحرين وتل أبيب إلى العلن، رغم أنها كانت حديث العالم كله وكانت خيوطها المخفيّة ظاهرة للعيان في مستويات متعددة، بدت غالبا ضد القضيّة الفلسطينيّة وأصحابها، وانحيازا للمحتل في محطات ولحظات حاسمة. وما تجلى في حرب غزة الأخيرة (طوفان الأقصى)، يبين لنا إلى أي حد وصلت مساحة التطبيع وعمقه بالنسبة للإمارات والبحرين ومصر والسعوديّة والأردن ومصر مع الكيان الصهيوني.

نعم هذه هي السيرة العربيّة للتطبيع منذ حرب 1948 حتى اليوم مع الكيان الصهيونيّ الذي تتحمل مسؤوليتها الحكومات العربيّة وليس شعوبها. واسرائيل تدرك تماماً أن قضية التطبيع ليست بين شعوب عربيّة والشعب اليهوديّ، وإنما هي علاقات تطبيع ذات توجهات سياسيّة واقتصاديّة وأمنيّة تعقدها الحكومات. وهذا ما جعل أحد المحاورين الصهاينة على إحدى القنوات الخليجية يقول رداً على تعليق لأحد الرافضين للتطبيع: بأن الشعوب العربيّة ليست مع التطبيع... نحن لا يهمنا الشعوب العربيّة، نحن تهمنا الحكومات العربيّة صاحبة القرار.. ما يهمنا العلاقات الأمنيّة والاقتصاديّة فقط.

كاتب وباحث من سورية.

***

د. عدنان عويّد

.......................

1- معوقات حركة التحرر العربية – عدنان عويّد – دارالمدى- دمشق 2002- ص269 وما بعد.

2- المرجع نفسه. ص270.

3- المرجع نفسه. 270 وما بعد.

4- القضية الفلسطينية العدوان والمقاومة  وسبل التسوية – مجموعة من الباحثين السوفييت – اصدار مركز الاستشراق السوفياتي. موسكو 1983 ص 196.

5- القضية الفلسطينية العدوان والمقاومة مرجع سابق ص165

6- القضية الفلسطينية العدوان والمقاومة مرجع سابق  ص314.

7- القضية الفلسطينية العدوان والمقاومة مرجع سابق   ص318.

8- القضية الفلسطينية العدوان والمقاومة مرجع سابق   ص319.

9- القضية الفلسطينية العدوان والمقاومة مرجع سابق. ص330

ملاحظه: للاستزادة في معرفة السيرة التاريخية بشكل أكثر تفصيلا عن القضية الفلسطينية منذ بداية قيام دولة الكيان الصهيوني حتى أوسلو، راجع كتابنا: (معوقات حركة التحرر العربية في القرن العشرين – عدنان عويّد – دارالمدى- دمشق 2002).

أصبح مفهوم تحقيق "صافي الصفر في عام 2050" هدفا محوريا للعديد من الدول والمنظمات حول العالم في مكافحة تغير المناخ. يهدف هذا الهدف الطموح إلى تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة إلى مستوى يتم فيه موازنة كمية ثاني أكسيد الكربون المنبعثة في الغلاف الجوي مع الكمية المزالة. ومع اقترابنا من عام 2050، من المهم فهم السياق التاريخي والشخصيات الرئيسية والتأثير والأفراد المؤثرين الذين شكلوا الحركة نحو "صافي الصفر في عام 2050".

السياق التاريخي

ويمكن إرجاع الدفع نحو "صافي الصفر في عام 2050" إلى الجهود المبكرة لمعالجة تغير المناخ والاعتراف المتزايد بالحاجة إلى الحد من انبعاثات الكربون. تأسست اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (UNFCCC) في عام 1992 للتصدي للتهديد العالمي لتغير المناخ وتمهيد الطريق للتعاون الدولي في العمل المناخي. كان بروتوكول كيوتو في عام 1997 بمثابة علامة بارزة في الجهود العالمية للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة، على الرغم من أن فعاليته كانت محدودة بسبب عدم وجود التزامات ملزمة من الدول الرئيسية المسببة للانبعاثات مثل الولايات المتحدة.

وفي العقود التالية، أصبحت آثار تغير المناخ أكثر وضوحا، حيث أصبحت الظواهر الجوية المتطرفة، وارتفاع مستويات سطح البحر، وفقدان التنوع البيولوجي واضحة بشكل متزايد. كان اتفاق باريس في عام 2015 بمثابة نقطة تحول في العمل المناخي العالمي، حيث التزمت البلدان بالحد من ظاهرة الاحتباس الحراري بما يقل كثيرا عن درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الصناعة. اكتسب هدف تحقيق "صافي الصفر في عام 2050" زخماً مع قيام البلدان بمراجعة أهدافها المناخية وتبني أهداف أكثر طموحاً لخفض الانبعاثات.

الشخصيات الرئيسية

لعبت العديد من الشخصيات الرئيسية دورا حاسما في الدعوة إلى "صافي الصفر في عام 2050" وتشكيل الخطاب حول العمل المناخي. ومن أبرز الشخصيات هي غريتا ثونبرج، الناشطة البيئية السويدية التي نالت اعترافا دوليا بإضراباتها المناخية وخطاباتها التي دعت إلى اتخاذ إجراءات عاجلة بشأن تغير المناخ. ساعدت مناصرة ثونبرج الحماسية في تعبئة حركة شبابية عالمية للضغط من أجل سياسات والتزامات مناخية أكثر طموحًا من الحكومات والشركات.

ومن الشخصيات المؤثرة الأخرى في الدفع نحو "صافي الصفر في عام 2050" هي كريستيانا فيغيريس، الأمينة التنفيذية السابقة لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ والتي لعبت دورا رئيسيا في المفاوضات التي سبقت اتفاق باريس. لقد كان فيغيريس مدافعا قويا عن العمل المناخي الطموح واستمر في الدعوة إلى "صافي الصفر في عام 2050" كهدف ضروري لمكافحة تغير المناخ بشكل فعال.

تأثير "صافي الصفر في عام 2050"

إن تأثير تحقيق "صافي الصفر في عام 2050" مهم في مكافحة تغير المناخ. ومن خلال خفض انبعاثات الغازات الدفيئة إلى مستويات صافي الصفر، يمكن للبلدان التخفيف من أسوأ آثار تغير المناخ، مثل الظواهر الجوية المتطرفة، وارتفاع مستوى سطح البحر، وفقدان التنوع البيولوجي. ويتيح تحقيق "صافي الصفر في عام 2050" أيضا فرصًا للابتكار والنمو الاقتصادي في تقنيات الطاقة النظيفة والممارسات المستدامة.

إحدى الفوائد الرئيسية لـ "صافي الصفر في عام 2050" هي القدرة على الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري وتجنب الآثار الأكثر كارثية لتغير المناخ. ومن خلال خفض الانبعاثات إلى مستويات الصفر الصافي، تستطيع البلدان التخفيف من مخاطر التغيرات التي لا رجعة فيها في النظام المناخي، مثل فقدان القمم الجليدية القطبية أو انهيار الشعاب المرجانية. سيساعد ذلك على حماية المجتمعات والنظم البيئية الضعيفة الأكثر عرضة للخطر من تغير المناخ.

بالإضافة إلى ذلك، فإن تحقيق "صافي الصفر في عام 2050" يمكن أن يدفع الابتكار والاستثمار في تقنيات الطاقة النظيفة والممارسات المستدامة. ومن خلال تحديد أهداف مناخية طموحة، يمكن للبلدان إنشاء حوافز للشركات للانتقال نحو مصادر الطاقة المنخفضة الكربون وتبني ممارسات أكثر استدامة. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى خلق فرص عمل جديدة في قطاعات الطاقة المتجددة وتحفيز النمو الاقتصادي في الصناعات التي تساهم في تقليل الانبعاثات.

ومع ذلك، هناك أيضا تحديات وآثار سلبية محتملة مرتبطة بتحقيق "صافي الصفر في عام 2050". سيتطلب الانتقال إلى اقتصاد صافي الانبعاثات الصفرية تغييرات كبيرة في أنظمة الطاقة والنقل واستخدام الأراضي، وهو ما يمكن أن يكون مدمرا لبعض الصناعات والمجتمعات. على سبيل المثال، يمكن أن يكون للتحول من الوقود الأحفوري نحو مصادر الطاقة المتجددة آثار سلبية على العاملين في صناعات الفحم والنفط، مما قد يؤدي إلى فقدان الوظائف والاضطراب الاقتصادي.

علاوة على ذلك، فإن تحقيق "صافي الصفر في عام 2050" سيتطلب استثمارات كبيرة في البنية التحتية وتقنيات الطاقة النظيفة، وهو ما قد يكون مكلفا ويتطلب دعما ماليا من الحكومات والمنظمات الدولية. وسيتطلب الانتقال إلى اقتصاد خال من الانبعاثات أيضا إجراء تغييرات في سلوك المستهلك واختيارات نمط الحياة، وهو ما قد يقابل بالمقاومة أو التشكيك من جانب الجمهور.

وبشكل عام، فإن تأثير تحقيق "صافي الصفر في عام 2050" معقد ومتعدد الأوجه، وله آثار إيجابية وسلبية على المجتمع والاقتصاد والبيئة. وسيكون من الضروري أن يعمل صناع السياسات والشركات والمجتمع المدني معا لمعالجة هذه التحديات والفرص وضمان الانتقال العادل إلى مستقبل مستدام وقادر على الصمود.

الشخصيات المؤثرة في "الصافي الصفري في 2050":

قدم العديد من الأفراد المؤثرين مساهمات كبيرة في الحركة نحو "صافي الصفر في عام 2050" من خلال أبحاثهم ومناصرتهم وقيادتهم. أحد هؤلاء الأفراد هو الدكتور فاتح بيرول، المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية (IEA)، الذي كان صوتا رائدا في تعزيز تقنيات وسياسات الطاقة النظيفة لمعالجة تغير المناخ. لقد كان لأبحاث وتحليلات الدكتور بيرول دور فعال في تشكيل سياسات الطاقة العالمية وإعلام صناع القرار بالحاجة إلى التحول السريع إلى صافي الانبعاثات الصفرية.

ومن الشخصيات المؤثرة الأخرى في مجال "صافي الصفر في عام 2050" هي الدكتورة كريستينا هود، عالمة المناخ والمؤلفة التي أجرت بحثا رائدا حول تأثيرات تغير المناخ وسبل تحقيق صافي انبعاثات صفرية. لقد كان لعمل الدكتور هود دور فعال في رفع مستوى الوعي حول مدى إلحاح العمل المناخي وتوفير الأدلة العلمية لدعم الأهداف الطموحة لخفض الانبعاثات.

بالإضافة إلى ذلك، كان إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لشركة Tesla وSpaceX، شخصية بارزة في الترويج لتقنيات الطاقة النظيفة وتسريع الانتقال إلى مستقبل الطاقة المستدامة. ساعدت رؤية ماسك لثورة الطاقة المتجددة واستثماراته في السيارات الكهربائية والطاقة الشمسية في دفع الابتكار والاستثمار في تقنيات الطاقة النظيفة حول العالم.

لقد لعب هؤلاء الأفراد المؤثرون وغيرهم الكثير دورًا حاسمًا في دفع الحركة نحو "صافي الصفر في عام 2050" وتشكيل الخطاب حول العمل المناخي. وقد ساعدت قيادتهم ومناصرتهم وأبحاثهم في حشد الدعم للأهداف الطموحة لخفض الانبعاثات ودفع التقدم نحو مستقبل أكثر استدامة ومرونة.

التطورات المستقبلية

وبينما نتطلع إلى المستقبل، فإن تحقيق "صافي الصفر في عام 2050" سيتطلب بذل جهد متواصل وتعاون عبر القطاعات والمناطق. ستحتاج البلدان إلى تكثيف أهدافها المناخية واتخاذ إجراءات حاسمة لتقليل الانبعاثات والانتقال نحو اقتصاد صافي الانبعاثات صفر. وسيتطلب ذلك استثمارات في البنية التحتية للطاقة النظيفة، والبحث والتطوير في مجال التقنيات الخضراء، وسياسات لدعم التحول العادل للعمال والمجتمعات المتضررة من التحول نحو الطاقة النظيفة.

وفي الوقت نفسه، سيكون من الضروري معالجة الأبعاد الاجتماعية وأبعاد العدالة لتحقيق "صافي الصفر في عام 2050" لضمان تقاسم فوائد العمل المناخي بشكل عادل وعدم تحميل المجتمعات الضعيفة أعباء بشكل غير متناسب من الانتقال إلى مجتمع منخفض الكربون. اقتصاد الكربون. وسيتطلب هذا قيادة قوية من صناع السياسات والشركات والمجتمع المدني لسن سياسات تعزز العدالة الاجتماعية والشمولية والاستدامة.

في الختام، يعد تحقيق صافي الصفر في عام 2050 هدفا حاسما في مكافحة تغير المناخ، بما له من آثار إيجابية وسلبية على المجتمع والاقتصاد والبيئة. من خلال فهم السياق التاريخي والشخصيات الرئيسية والتأثير والأفراد المؤثرين في مجال "صافي الانبعاثات الصفرية في عام 2050"، يمكننا أن نقدر بشكل أفضل التحديات والفرص التي ينطوي عليها التحول نحو اقتصاد صافي الانبعاثات صفر. سيتطلب الطريق إلى "صافي الصفر في عام 2050" التعاون والابتكار والعمل الجريء لتأمين مستقبل مستدام ومرن للأجيال القادمة.

***

محمد عبد الكريم يوسف

حين وصلتني دعوة كريمة من مجلس كنائس الشرق الأوسط للمشاركة في طاولة مستديرة للحوار بعنوان "المساحات الدينية المشتركة في الشرق الأوسط"، بمناسبة عيد البشارة، الذي اعتمد عيدًا رسميًا في لبنان منذ العام 2010 (للمسيحيين والمسلمين)، وبمشاركة نوعية من عدد من البطاركة والمطارنة والأساقفة وعلماء الدين المسلمين والدروز والصوفيين، إضافة إلى شخصيات فكرية وثقافية وباحثين مدنيين بارزين، تساءلت مع نفسي، أثمة نموذج شرق أوسطي راهن للحياة المشتركة على صعيد مجتمعي؟ أم أن النموذج الذي نتحدّث عنه هو في الماضي وإن كان من حقنا أن نتطلع إلى نموذج مستقبلي؟ الماضي مضى ولا يمكن إعادته، ولكن يمكن استعادته، بمعنى التفكّر والتبصّر وأخذ العبر والدروس منه، لأن الأمر يتعلّق بالمعنى والدلالة.

والمقصود بالمعنى قبول الآخر والإقرار بالتنوّع والتعددية، في إطار المشترك الإنساني، أما الدلالة فهي تنطلق من المعايير الإنسانية كذلك، تلك التي تتجسّد في في مفهوم المواطنة المتساوية والمتكافئة  في الدولة العصرية.

وإذا كان ثمة هويّة جامعة وموحّدة، فإن ثمة هويّات فرعية لا بدّ من الإقرار بحقها في الوجود والتطوّر على قدم المساواة مع الهويّات الأخرى، سواء كانت دينية أم إثنية أم غيرها، وبغضّ النظر عن حجمها وعددها، لأن عدم الاعتراف بالهويّات الفرعية يؤدي إلى اندلاع صراعات ونزاعات، بعضها يتّخذ طابعًا مسلحًا على المستويين المحلي والدولي، بفعل نزعات التسيّد والهيمنة، ودائمًا ما تحاول  القوى المتنفذة بسط سيطرتها على الآخر بحجج ومسوّغات مختلفة، فتارة بزعم "الأغلبية"، وأخرى بحجّة "امتلاك الحقيقة"، وثالثة "ادعاء الأفضليات"، والهدف فرض الاستتباع والخضوع على الآخر.

وفي منطقتنا نشأت ثلاث ديانات أساسية، ونمت وترعرعت وانتشرت منها، وبالتالي فإنها أديان مشرقية بالأساس، وأقصد بذلك اليهودية والمسيحية والإسلام، وقد عَرفت هذه البلاد تاريخيًا نوعًا من التعايش والقبول والتسامح والتفاعل، وإن شهدت كذلك صراعات ونزاعات، بعضها كان دمويًا، لكنه لا يمكن مقارنتها بما حصل في أوروبا من حروب الطوائف، يكفي أن نذكر الصراع اللوثري – الكاثوليكي، الذي استمر 5 قرون، حتى تم ّالاتفاق على تسويته في العام 2016.

وكان المطران منيب يونان، قد حدّثني قائلًا: لقد وضعنا الخلافات والإختلافات التي تعود إلى القرون الوسطى وراء ظهورنا، وتركنا أمرها للدراسات الفقهيّة المستفيضة للّاهوتيين من الفريقين ومن يريد أن يدلو بدلوه فيها، فقلت في خلوتي، ألا يستقيم مثل هذا الحل السحري البسيط جدًا لوضع حد للخلافات بين السنة والشيعة؟ وهو خلاف لا معنى له، مستمر منذ 14 قرنًا، ثم ألا يمكن وضع حد للتمييز بحق المسيحيين على أساس المواطنة الكاملة والتامة، بكلّ أركانها، ولاسيّما الحريّة، وخصوصًا حريّة التعبير والاعتقاد والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة؟ وتحت قاعدة "شركاء في الوطن ومشاركون باتخاذ القرار"، لاسيّما في الدول المتعددة الثقافات.

ولعلّ وثيقة الأخوّة الإنسانية،التي وقّعها في أبو ظبي شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيّب وقداسة البابا فرنسيس في 4 شباط / فبراير 2019، والتي اعتُبرت نداءً لكل ضمير حي بنبذ العنف البغيض والتطرف الأعمى، وهي "دعوة للمصالحة والتآخي" بين أتباع جميع الأديان وبين عموم البشر، يمكن أن تكون خلفية فكرية لذلك.

منذ فترة ليست بالقصيرة دعوت إلى ويستفاليا عربية ومشرقية، ومعاهدة ويستفاليا هي التي وضعت حدًا لحرب الثلاثين عامًا والتي دامت من 1618 لغاية 1648، حيث تم توقيع صلح أو معاهدة ويستفاليا التي نصّت على الاعتراف بالحريّات الدينية واحترام استقلال الدول (المقاطعات المتفرقة حينها) وسيادتها، ومنع أي اضطهاد ديني أو طائفي، والتعاون فيما بينها لإزالة الحواجز الاقتصادية والعوائق التجارية، وإنهاء الحروب الأهلية وعوامل التفتيت الداخلية ووضع قواعد عامة أساسها عقد اجتماعي قانوني جديد يستبعد أي إقصاء أو إلغاء.

هل يمكن التفكير كنخب ثقافية مدنية ودينية في حوار يشمل أتباع الديانات؟ ولاسيّما المسلمين والمسيحيين، وقبل ذلك أتباع الطوائف المختلفة في إطار الأمم الأربعة التي تعيش في هذه المنطقة وهم الترك والفرس والكرد والعرب، دون أن ننسى الأمم الأخرى، وكمدخل للحوار يمكن البدء بمثقفين من تلك الأمم، وكان هذا أحد مساعي سمو الأمير الحسن بن طلال بتنظيم حوار العام 2018، أطلق عليه "حوار أعمدة الأمة الأربعة"، ضم نخبًا من هذه القوميات، امتدادًا لحوارات أسبق.

لقد كان ثمن تفريغ المنطقة من مجاميع ثقافية دينية وإثنية فادحًا، وهو ما حصل لليهود في المشرق والمغرب، إضافة إلى تهجير المسيحيين واستهدافهم طيلة العقود الأربعة ونيّف المنصرمة، وكذلك استهداف الإيزيديين، وخصوصًا من جانب تنظيم داعش الإرهابي، وكذلك استهداف الصابئة المندائيين، وذلك كي يقال أن العرب والمسلمين ليس بإمكانهم التعايش مع الآخر، وهو ما عزفت عليه "إسرائيل"، منذ تأسيسها، التي زعمت أن صراعها مع العرب هو صراع ديني إقصائي وإلغائي حول قيم السماء وليس حول اغتصاب الحقوق واحتلال الأرض، وإجلاء سكان البلاد الأصليين، وذلك ما دأبت عليه الرواية الصهيونية، التي لا بدّ من مواجهتها ودحضها بالأفعال وليس بالأقوال.

هل يصبح طريق ويستفاليا العربية والمشرقية سالكًا؟ إذًا لا بدّ من فك الاشتباكات وإنهاء بؤر التوتر في المنطقة عبر الحوار، لبناء سلام دائم وتفاهم مستمر، وفقًا للمشترك الإنساني في كلّ بلد وعلى المستوى الإقليمي، وذلك في إطار المصالح المتبادلة واحترام الخصوصيات وعدم التدخّل بالشؤون الداخلية، والبحث عن سُبل توسيع الحياة المشتركة، وتلك على ما أعتقد رسالة مجلس كنائس الشرق الأوسط.

***

عبد الحسين شعبان

شهادة طازجة في السياق

إن اعتبار بلاد الرافدين هي الحاضن الجغراحضاري للعراق والشام ليست مقولة قديمة انقرضت بل هي حية في لغة البحث العلمي المعاصرة؛ ففي مقالة أركيولوجية باللغة الإنكليزية للباحث فرانز ليدز نُشرت في نيويورك تايمز- عدد 13 شباط 2024، كتبَ فيها مُعرِّفاً بلاد الرافدين وباللفظ اليوناني "ميزوبوتاميا"، بأنها "العراق وسوريا المعاصرتين" والجملة باللغة الإنكليزية هي؛

 ((Mesopotamia modern-day Iraq and Syria، وهذا يعني في اللغة البحثية المعاصرة أن بلاد الرافدين هي التي تحتوي العراق وسوريا تأريخياً وجغرافياً وليس ما يسميها وجدي المصري "سوريا الكبرى" أو "الهلال السوري الخصيب"، ويعني أيضاً أن هذه المعلومة، والتي ذكرناها بصيغة أخرى في الجزء السابق من ردنا شائعة ومتداولة لدى الباحثين الأجانب المعاصرين ومنهم فرانز ليدز على سبيل المثال لا الحصر.

يضيف المعقب: "يقول الكاتب - علاء اللامي-  بعد ذلك بأنّه "عُثر على دليل آثاري يؤكّد عروبة الحضر دون أن يذكر شيئاً عن هذا الدليل". يبدو أن المعقب قرأ المقالة بسرعة فقفز سهوا على الفقرة التالية للفقرة التي اقتبسها، والتي ذكرتُ فيها دليلين وليس دليلاً واحداً على عروبة مملكة الحضر الرافدانية حيث كتبتُ: "عوداً إلى الدليل الآثاري، وهو نقش وُجِدَ على تمثال الملك الحضري سنطروق، ونصّه بالآرامية" ثم ذكرت نصه، وأضفت: "وثمّة تمثال آخر للملك سنطروق مصنوع من حجر الحلان (الجيري) يؤكد ما تقدّم ويضيف إليه غلبة العرب السكانية. وذكرت النص. كما ذكرت في فقرة أخرى دليلاً أركيولوجياً ثالثاً يؤكد عروبة مملكة الحضر وكتبت: "يمكن القول إنّ دليلاً آثارياً آخر تم العثور عليه في أطلال مدينة الحضر ربما حسم الإجابة نسبياً على هذا السؤال. وهذا الدليل هو لوح رخامي يحتوي نقشاً أنيقاً بالخط الآرامي يذكر اسم «الحضر» كمركز لمنطقة «عربايا» (مملكة عربايا). والنقش معروض في المتحف العراقي"، ومن محاسن الصدف أنَّ الزميل المحرر في "الأخبار" نشر صورة هذا اللوح مع المقالة، ولكن المعقب لم ير أياً من هذه الأدلة الثلاثة!

ليسوا آشوريين ولا كلدان بل سريان آراميون

بضيف المعقب: "يضرب الكاتب -علاء اللامي- على وتر حسّاس جداً وهو أنّ أبناء الأقليّات القوميّة متشدّدون قومياً، كالآشوريين والكلدانيين". والحقيقة فالمعقب لم يكن دقيقاً في الاقتباس فالعبارة الكاملة كما كتبتها هي "إنّ القوميين المتشددين المعاصرين من أبناء الأقليات القومية، كالذين ينسبون أنفسهم إلى الهويتين الآشورية والكلدانية والذين ينفون أي مظهر حضاري له علاقة بالعرب في هذه الممالك والإمارات البائدة، يمكن اعتبارهم الضد النوعي العاطفي شكلاً للقوميين العروبيين الذين يعتبرون كل الشعوب الجزيرية «السامية» عرباً لا يجوز التشكيك في عروبتهم...".

ففي هذه العبارة ساويتُ في التقييم السلبي بين القوميين المتشددين من أبناء الأقليات والقوميين المتشددين من أبناء القومية الأكبر "العرب". هذا أولا، وثانياً، فالعبارة واضحة في تشكيكها بانتساب هذه الجماعات إلى الآشوريين والكلدانيين الرافدانيين القدماء. إذْ أنَّ هذا الانتساب لا يقرهم عليه مؤرخون وآثاريون وباحثون مرموقون. فالمؤرخ والآثاري د. بهنام أبو صوف والباحث موفق نيسكو، وهما، في المناسبة، عراقيان محسوبان على هذه الجماعات قومياً ودينياً، بقيا وفيين لمنهج البحث العلمي، وتحملا الكثير من الاتهامات والحملات الإعلامية الظالمة ضدهما، لأنهما رفضا هذا الانتساب المزعوم وقالا ذلك بصريح العبارة وفي أبحاث ولقاءات منشورة.

سأكتفي هنا بفقرة مما قاله أبو الصوف: "أن الآشوريين والكلدان القدماء شعوب رافدانية انقرضت وزالت من الوجود هي ولغاتها واندمجت بقاياها في جماعات أخرى. والجماعات التي تنسب اليوم نفسها إلى هذين الشعبين هم من الآراميين النساطرة، فهم لا يتكلمون اللغة الآشورية أو الكلدية البابلية إطلاقاً، ولغتهم الحالية هي السريانية. أما تسمية الكلدان فقد أطلقت في القرن 15 حين قامت الكنيسة الكاثوليكية - في روما - بجهد كبير لغرض تحويل أتباع الطائفة النسطورية الشرقية الى المذهب الكاثوليكي. وقد نجحت جزئياً بذلك وحينما أرادوا إطلاق تسمية على معتنقي الكاثوليكية في العراق أسموهم بـ (الكلدان) باعتبارهم من أرض بابل (الكلدية)، وليس لأنهم من سلالة الكلديين المنقرضين. إذن، هي لا تعدو كونها مجرد تسمية للتعريف الجغرافي بهم". وبخصوص الآشوريين يقول أبو الصوف: "أما عن جذور اسم آثور من أشور فأنه في أواخر القرن 19 ومطلع العشرين ظهر مطران مسيحي (كاثوليكي) واسمه أدي شير ومؤلفه القيم الموسوم (كلدو - أثور)، ومذّاك ابتدأت هذه الأقوام تتداول مصطلح (آثور) كنوع من التأسيس لهوية تحفظ لهم كينونتهم، حيث اشتد الضغط على الاقليات العرقية والدينية واضطهاد الترك والكرد للأقليات وحصول مذابح الأرمن بعد 1915". ولا يستثني أبو الصوف ما يسميه "الخبث البريطاني" من المساهمة في تكريس وإلصاق التسمية "الآشورية" بجماعات معاصرة، فيكتب: "وقد أجاد المحتل البريطاني المشهود له بدهائه وخبثه أن يوظف الموروثات والتسميات ويرقع منها ما يناسب كسب الاقليات بالعزف على أوتار التفرقة بنغمة تروق لكل منها، فأخذ يدفع باتجاه استخدام مطلح آشوري بدلا من آثوري، وراح يروِّج القول إنَّ جنود فوج الليفي - وهم مليشيا شكلها الاحتلال البريطاني من السريان العراقيين، للمساهمة في قمع العراقيين وحماية مؤسسات الاحتلال آنذاك. ع.ل-  إنما هم ورثة وأحفاد الآشوريين المقاتلين الأشداء، وتمت عملية التجيير الرسمي لمصطلح "الآثوريين" الى الاشوريين وتمسك الإخوة النساطرة بهذه التسمية الى الآن".

من هم المتأشورون؟

أما أبو الإركيولوجيا العراقية، العلامة طه باقر، فقد كتب الآتي: "إن كلمة آشوريين على ما هو معروف كانت تطلق في تأريخ العراق القديم على القوم المعروفين بهذا الاسم، الذين كونوا دولة كبرى في شمالي العراق وهم من الأقوام السامية ومن أقرباء البابليين، وجاء اسم الآشوريين في المصادر الآرامية والعربية أيضاً على هيئة "آثور" و"أفور". أما التسمية الحديثة التي يطلقها على أنفسهم الآثوريون الآن فإنها استعيرت من الكلمة القديمة مفترضين أنهم من أحفاد الآشوريين القدماء؛ على أنَّ نقطة الضعف فيه هي أنَّ اللغة التي يتكلم بها الآثوريون الآن ليست لغة آشورية ولا هي منحدرة من الآشورية القديمة، وإنما هي إحدى اللهجات الآرامية من الفرع الشرقي في العراق، أي السريانية الشرقية. رسالة جوابية من طه باقر - هامش 1 في ص 9 - كتاب أطروحة ماجستير "الآثوريون في العراق" تأليف رياض رشيد الحيدري".

أما الباحث موفق نيسكو فهو يسمي السريان زاعمي الهوية الآشورية "المتأشورون"، وله كتاب معروف يُقرأ من عنوانه؛ "اسمهم سريان لا آشوريين ولا كلدان"، صدر سنة 2020، وفيه المزيد من الأدلة والشواهد التي تؤكد أن لا صلة لهذه الجماعات والشخصيات السريانية الآرامية بالآشوريين والكلدانيين القدماء. 

السامية ومقولات توراتية أخرى

ويضيف وجدي المصري: "إنّ الكاتب -علاء اللامي - كمعظم الدارسين ما زالوا يؤمنون ببدعة السامية دون التدقيق في مفهومها الأساس ومفهومها المتداول حالياً. يعتقد البعض أنّ الشعوب السامية هي الّتي تحدّرت من سام بن نوح بعد نجاته مع أولاده من الطوفان استناداً إلى ما جاء في سفر التكوين من العهد القديم". وهكذا، بجرة قلم، يحشرني المعقب في جملة من يتبنون الخطاب التوراتي ومصطلحاته دون أن يلفت انتباهه إصراري على استعمال صفة (الجزيرية) ووضع (السامية) بعدها بين مزدوجتين! وإذا كان المعقب الذي يجهل هذه المعلومة عن موقفي من المصطلحات التوراتية ليس ملزما بقراءة كل ما كتبته بهذا الصدد نقداً وتفكيكاً للخطاب التوراتي ومصطلحاته منذ عدة سنوات، فأنا أيضاً لستُ ملزماً بتكرار موقفي البحثي المتحفظ على مصطلح "السامية" في كل مقالة أكتبها مكتفياً بذكر بديلها الذي أتبناه وكان عليه على الأقل أن لا يتسرع في توجيه الاتهامات.

وفي المناسبة، فالمعقب يكرر الخطأ الشائع في نسبة مصطلح "السامية" إلى النمساوي شولتزر. ولفائدة المعقب والقراء الذين لم يطلعوا على رأيي بهذا الخصوص أقتبس ما يلي من كتابي "موجز تاريخ فلسطين/ المقدمة، ص23" الصادر عن دار الرعاة الفلسطينية قبل 5 سنوات، وكررته في كتابي "نقد الجغرافيا التوراتية" الصادر عن دار الانتشار العربي اللبنانية قبل سنتين، وقد نشرتُ بعض فصوله كمقالات على صفحات "الأخبار" ومجلة "الآداب"، كتبتُ:

"سأستعمل، ولكنْ بتحفظ شديد مع ذكر البديل، المصطلحَ ذائع الصيت "السامية". وسأستعمله رغم التحفظات العلمية المهمة والكثيرة عليه. فهو مصطلح توراتي، ابتكر واستخدم لأول مرة سنة 1770 من قبل أعضاء مدرسة "غوتنغن" الألمانية. أما نسبة ابتكاره إلى شلوتسر، فغير دقيق.  إن المصطلح الذي ابتكره شلوتسر هو "معاداة السامية" بعد عقد من السنوات تقريباً.

وثمة مصادر سريانية قديمة تقول "إن هذه التسمية "السامية" قديمة جداً، يرتقي تاريخها الى ما قبل القرن السابع الميلادي، وأول عالم سرياني أطلق هذه التسمية على مجموعة اللغات الشرقية هذه هو يعقوب الرهاوي المتوفى سنة 708م. وقد جرى العلماء السريان على أثر الرهاوي فاستعملوا هذا الاصطلاح قبل شلوتسر بقرون كثيرة - عن/ السامية والساميون واللغة السامية الأم - المطران بولس بهنام".

إن "السامية" ليست المصطلح التوراتي الوحيد الذي تحفظتُ عليه في كتاباتي واقترحتُ له بديلاً، بل هناك مصطلحات أخرى يكررها المعقب وسواه، ومنها "الفرعون"؛ وهي كلمة لا وجود لها في السردية المصرية القديمة كلقب ملكي أو معادل لكلمة ملك، ولكن التوراة واللغة الإغريقية أخذتها محوَّرةً عن عبارة "بر عا" العامية وتعني "القصر الكبير" والتي وجدت كصفة شعبية لا كلقب ملكي في عصر الأسرة 18 والملك تحتمس الثالث 1425ق.م. أما كلمة "هيروغيلفية" فهي ترجمة إغريقية لمصطلح باللغة المصرية القديمة هو "ميدونتروا" ويعني (النقش المقدس)، وكلمة "ميزوبوتاميا" وهي ترجمة يونانية لكلمة بلاد ما بين النهرين أو بلاد الرافدين نقلاً عن الترجمة السبعينية للتوراة وكلمة "نمرود" التي لا وجود لها كاسم مدينة أو ملك في السردية الرافدانية مطلقا. يتبع في الجزء الثالث والأخير.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

منذ القدم جاءت الاديان دعماً للمعنويات البشرية، فالدين هو الطاعة دعما للقيم الأنسانية، لزوال الخوف من الظواهرالطبيعية والدنيوية لتأمين الحياة الأمنة لهم من كل ما يصادفهم من معوقات الحياة الغابية، وبمرور الزمن تحولت هذه العادات والتقاليد الى عبادات بشرية مستدامة، حتى تحولت بفعل التطور الزمني الى اديان مقدسة تعبد دون خشية.

وحين احترم الانسان حالة الاديان الجديدة بدأت المفاهيم المخترعة عنده تشكل حالة جديدة تتماشى مع المفاهيم القيمية.. الزهد والعبادة المطلقة التي تحولت بالتدريج الى العدالة والعلاقات الانسانية، حتى تحولت الاديان المخترعة عندهم الى عبادة اساسية كعبادة النار التي حمتهم من الحيوانات المفترسة وقت ذاك، والتي لا زالت تشكل حماية لهم في الغابات والادغال الموحشة الى اليوم.

 وبمرور الزمن ظهرت نظرية جديدة تدعو الشعوب الى التحررمن القيود بنفسها دون الاعتماد على الظواهر الطبيعية التي كان انسان النيانتدرال قبل أكثر من ستة آلاف سنة يمارسها بقناعة.. حتى جاءت الاديان السماوية المقدسة فتحول الاعتقاد الى عقيدة لا يجوز اختراقها يرافقها أنبياء ورسل أدعوا انهم جاؤا برسالات سماوية مقدسة حتى قدر عددهم ب24 نبياً ورسولاً.. لكن الدين ظل اسماً بلامسمى حتى في الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والاسلامية لكون اصحابها لم يلتزموا بحقوق الانسان المتكاملة (الحرية والأخاء والمساواة).. بل بالقدسية الفرضية ولا غير.

وهكذا اختلطت الخًرافة بالعقل.. لذا ليس أمامنا سوى العقل.. فالمحافظة عليه محاربة للجهل والتخلف والخرافة.. لذا اعتبر العقل هو اول مخترعات الانسان، وبه بدأ الأنسان له القدرةعلى عقل الاشياء والسيطرة عليها. لكن الصراع بينه وبين الغريزة استمر ولا زال كون ان الغريزة اقوى منه لانها مركبة في الطبع، في حين ان العقل مكتسب. ويقول المؤرخ أرنولد تويمبي.. ان وحي الانسان لنفسه باكتشاف العقل يعتبر تاريخ بداية حضارة الانسان وحين أطمئن بدأ ت تتربى فيه خصال جماعية منها احترام الاخر والشعور بالعدالة واحترام العادة والتقليد الذي تحول الى قوانين ملزمة.. وكلها جاءت من تطور الزمن المستمر.. ولا علاقة للدين به.

من هنا نشات القوانين كقوانين آور نمو السومري وحمورابي البابلي وقوانين الفراعنة والزرادشتية والبوذية في الموت والحياة.. لكل منها رأي في حرية الانسان.. افضلها برأيي البوذية.. رافقها الاستبداد السياسي للحاكم وغياب الحرية وبروز فقهاء الدين في خدمة السلطة، ومطاردة الرأي الحر، وغياب النقد فسادت روح الانتهازية في المجتمعات الانسانية.. واستمرت فترة طويلة يُحكم البشر حكما قسريا بحجة قوانين الدين.

 حان الوقت اليوم للتخلي عن التعصب الديني والمذهبي.. واخراج العرب والمسلمين من العقيدة الجبرية التي أوقفت حركة التقدم المجتمعي عندهم بقوانين "الحلال والحرام، والجنة والنار والاخرة وحور العين " دون ضوابط معينة اخترعتها الحركة الفقهية المذهبية المخترعة من السلطة لدوام سيطرتها على العقل قبل الأنسان. وأخضاعه لها.. هنا كان موت الدين والاسلام معاً.. وستبقى ان لم تتغير عقلية المسلم في الاعتقاد والتثبيت.

يجب علينا اليوم الاعتراف بأن الحقيقة الدينية تتغير وتتطور حسب استمرارية الفهم الزمني لمفردات الحياة الانسانية ، وليست هي مطلقة ومنقوشة فوق حجر.. لذا نرى السلطة تساند الحركة الفقهية المخترعة منها لتبذل المستحيل وبالثروة المفرطة لتطويع الانسان لمفرداتها الدينية التي تدعي القدسية وهي لحد اليوم عاجزة عن شراء الانسان، وقد أثبتت سلطة الدين معاداتها لحرية الانسان والحقوق..

لم يبقِ لنا الفقهاء من شيء في أصول الاسلام واهدافه اليوم الا حرفوها عن معناها الصحيح خدمة للسلطة لا الدين مستندين الى تزوير الاحاديث النبوية. وخاصة فقهاء عهد البويهيين والسلجوقيين بين 334-447 للهجرة كما عند الكليني في كتابه الكافي، وابن تيمية في كتابه قوة الأكراه جوهر الحكم، حتى تحول الاسلام من فقه الدين الى فقه السلطة خدمة للخلفاء العباسيين من جهة.. وللسيطرة على عقول الناس باسم سياسة الدين من جهة اخرى.. وهنا تم تبديل الاسلام من فقه الدين الحقيقي الى فقه السلطة المزيفة وحولت عقيدة النص المقدس الى نص الحديث الموضوع منهم، والتي بموجبه أنهت الدين واركانه بالمطلق وحولته الى تخريف. خاصة بعد المحاولات الجادة الى استبدال الحديث النبوي المنتحل بدلا من النص القرآني المقدس.

نعم بين اركان الايمان واركان الاسلام جدلية.. وكأنهم ما ادركوا ان أركان الايمان هي شهادة ان لا اله الا الله ومحمد رسول الله والصوم والصلاة والحج والزكاة، وهي شعائر اسلامية جاءت ضمن مفهوم العقيدة الفطرية العبادية.. أما أركان الاسلام لتحقيق الحقوق والواجبات للانسان تجاه الله والناس هي: الاستقامة وعدم الاعوجاج في القول والعمل، والعدل المطلق (أعدلوا ولو كان ذا قربى) والاخلاق العالية في التصرف تجاه النفس والاخر، والصدق في القول والعمل تنفيذا للقسم واليمين، وقد جاءت في سور قرآنية حدية لا يجوز بالمطلق تجاوزها.. أنظر سورة الانعام (151-153). وكلهاضربت عرض الحائط ولم تطبق سوى ظاهريا الى اليوم.

مع الاسف نقولها أن هذا التحول الباطل في الفقه الاسلامي حوَل المسلم الى أستمراء النفاق والخيانة والفساد والانتحال، حتى تحول الى ما يشبه الدمية التي يحركها اطفال الملاعب، وها هي داعش والقاعدة وطالبان نسخة من اسلامهم اليوم.. والا لو كان الحاكم يؤمن باركان الاسلام الحقيقية الاستقامة والعدل والقسم واليمين لما خان الامانة والقسم واليمين وباع الوطن للأعداء الذين يعدهم من الكافرين، ولما قتل العلماء والمفكرين وأستمرأ الحرام في أموال الدولة.. لان الوطن في الاسلام قيم وامانة لا يمكن تجاوزها بأي حال من الاحوال.. (أنظر قضية الامام علي وسرقة السيف) ليتبين لك صدق الأعتقاد.. وها تراهم كيف تجاوزوا على كل القيم من اجل السلطة والمال منذ عهد الأمويين والعباسيين بأستثناء عهد عمر بن عبد العزيز(99-101 للهجرة، والى اليوم. فأسلامنا اليوم هو اسلام الفقهاء لا اسلام محمد الأمين.

كفاية تبجحا بالدين بعد ان اصبح الدين وسيلة من وسائل ضعف الامة وتحويلها الى تدمير حين اصبح النص الديني لا يشكل المعيار الوحيد للسلوك السياسي.. حتى اصبح الحاكم الظالم أفضل من أنعدامه.. فنشات الكتلة الساكتة عن الحق بعد تفسيرهم الخاطىء للأية الكريمة "وما تشاؤون الا ان يشاء الله" فنشأت نظرية فكر الطاعة المتمثلة في الماوردي (450 للهجرة) والغزالي صاحب نظرية الضرورات تبيح المحظورات، وابن تيمية في نظريته فصل الدين عن الدولة سيعني الفوضى.

و فقهاء الشيعة، من امثال الكليني وابن بابويه والشيخ المفيد والامام الطوسي والمجلسي منتحل الاحاديث في كتابه بحار الانوار وغيرهم كثير.

ومالم يتحول الدين الى قوانين ملزمة التطبيق كما عند الأوربين والبوذيين وغيرهم سنبقى الى الابد خارج التاريخ.. ولا يتم ذلك بالمطلق الا بعد فصل الدين عن الدولة وتكوين دولة العلمانيين.. وبمرور الزمن في التطبيق ستتحول الطبيعة البشرية الى احترام القانون والدين معا.. بعد أنحسار نفوذ مؤسسة الدين ورجالها المفترين على الدولة وانسانية الانسان في التطبيق.

من هنا سيكون الجزاء على قدر المواهب والجهد المبذول ومستوى ذلك الجهد من الدقة وعدمها ونصيب العلم والخبرة والاخلاص في العمل، وان يكون للانسان حق حرية التصرف في اتعابه المبذولة في العمل والامانة الوطنية، وان يكون للفرد في الدولة الحق ان يكون آمناً على نفسه وماله وثمرة اعماله، وان يكون هذا الحق مكفولا بنص القانون والعرف الاخلاقي للجماعة.. وفي النهاية سيكسب الرهان.. لا ان يقوم على اساس الحسب والنسب والانتماء الحزبي والديني الموروث كما هو اليوم عندنا. من هنا سيكون التقدم عظيما. يساندهم المنهج الدراسي الصحيح لتكون لهم فلسفة خاصة بالتقدم، وعلى اساس هذه الفلسفة تقوم نظرية سليمة تصلح ان تكون أساساً جديداً الى التاريخ واحوال البشر.

من هذا التوجه السياسي السليم للسلطة واجهت جماعة التقدم الفكري مقاومة عنيفة من السلطة.. او قل مع ركام تاريخية عسيرة الاختراق بها تمت السيادة العقلية على الناس والتحكم في مصيرها كما هو اليوم. هنا دخل التاريخ ودخل التقدم الحضاري بمعركة شرسة بين المستفيد والمحروم ترتب عليه الغاء حركة التاريخ الدائرية بنكرانهم للحركة الحضارية وان التاريخ لايعيد نفسه، بل الاحداث تاتي متشابهة في زمن مختلف.. وظل السجال بين الاول والثاني حتى استقرت نظرية التقدم بوعي خلقي انشأ قانون جديد للعمل والانتاج في الدول الاوربية بعد ان تخطت افكار مؤسسة الدين بتكوين الدولة المدنية.. حتى اصبح االتفكير الحديث في التحسن والتقدم عقيدة.. بينما ظل اصحاب الاديان واقفين في اماكنهم دون حراك.. لا بل قل الى الوراء در.

موضوع شائك ويحتاج لبحث طويل ومركز مدعوم بالحجة والدليل.

***

د. عبد الجبار العبيدي

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم