صحيفة المثقف

قراءات نقدية

المضمون والبنية

"أنا مؤلف أكتبُ قصةَ مؤلف" ص 108

 تتداخلُ في هذه الرواية "مخطوطتان"، وتتكون من قسمين:

المخطوطة الأولى: "العهد القديم:

"صباحات عرزال بن أزرق" يقدمها مؤلفها باقتباس من الكاتب الألماني باتريك زوسكيد: ..." تعدى الخمسين من عمره عاش منها عشرين عاماً خالية من أي أحداث، حتى فاجئته ذات يومٍ حمامة". ص7

وعرزال راويها وشخصيتها المحورية، أما منوال أزرق فهو مؤلفها الذي كتبها خلال 12 ساعة، ويتحدث عن تكنيك كتابته، وسيصير راوياً للمخطوطة الثانية، أما الفرق بين المخطوطتين فهو اختلاف اسم الشخصية المحورية كما توضّحُ قطنه في الهامش كأنها سكرتيرة الكاتب! ص 121

تعتمد بنية "العهد القديم" على سرد الأحجيات ومناقشتها في استراحة السارد: "قبل ساعة تأمل" حيث يبدأ سرديته بعنوان محبطٍ: "إلى هنا يكفي هذا الهراء". ص 11

نلاحظ أن عرزال بن ازرق يكتبُ في هذا الفصل مذكراتِه، يقدّمها كأنه يقرأها أو يرويها، فنحن أمام راوٍ يقترب من "صورة الكاتب" أحياناً، كون السرد من مؤلف عن مؤلف آخر. 3790 سعود السنعوسي

المخطوطة الثانية: العهد الجديد:

يبدأ الساردُ سرديتَه "صباحات منوال بن ازرق"، مُلمّحًا عن "جريدة قديمة  مصفرة الأوراق" ص 23 ، وينتهي بها حيث نطلع على الخبر المنشور فيها عن "حادثة اختفاء توأمي ساحل المرسى..." ص 181. 

بينما أخذ منوال "يترنم وهو يستدعي صوتَ أمّه "يا نظير عيوني، ودعتك الله... نحت أنا لو أبرا، نوح الحمامه.... فتح عينيه التي رأت كل شيء. نفخَ صدره. باعد بين ذراعيه. ثنى ساقيه يهم بالقفز. غروووغ. ثمّ..... سمعَ طرقاً على باب شقته". ص 182 أراد أن ينتحرَ فلم يَجرُؤ على ذلك!

وبعد فصل: "قبل ساعة تأمّل" يُعنونُ روايته ب "مشروع رواية " و"نص لقيط" ، كونه "وُلد بغير فكرة"  كما قالت قطنه للمؤلف. ص 105 و"نص نسيب". وخمسة صباحات، كل منها فصل بحد ذاته تكوّن بنية الرواية.

وهناك فصل طويل بعنوان: "أثناء ساعة تأمل" مكرس لشخصية "قُطنه" البطلة "المحيرة التي ستتضح معالمها بعد انتهاء عملية سيرورة النص. ص 85-106

"أنا مؤلف أكتبُ قصةَ مؤلف، وهذه ساعة تأملي، لا تهدري وقتك!... أنا لا يرضيني هذا الهراء.... إقرئي المذكرات التي أخفاها فحسب... إخترتُ أن أكون أنا وفق ما أروم. كتبتُ نصاً يخالف النص اللقيط الذي تعرفين. ...هنا نصٌّ نسيب أنسبه إلى فكرة واضحة المعالم. انسَي المؤلف بن أزرق الحائر في نصه في العهد القديم". ص 108

نحن هنا أمام مذكرات يكتبها منوال بن أزرق. "مشروع رواية"، حيث يحاول الكاتب من خلال راوٍ آخر أن يفلسفَ النصَّ الأولَ، ويسهل المحتوى، لكن قد يحدث العكس أحيانًا! بالذات في حواراته مع بطلته قطنه. هنا، تكاد الحقيقة تغيب أو تضيع "أثناء ساعة تأمل"، لكنه من أجمل المقاطع السردية التجديدية التي طورت المونولوج التقليدي إلى هجين من مناجاة وحوارات فنية. ص 106

أما الفصل الأخير فهو قصير مكرس للراوي "عرزال" الذي يتحدث أحيانًا بانتقالات واقتضابات عن ذكرياته ويقدم الأحداث والشخصيات الحقيقية مثل زينه ورحال مختلِطَة بالحَمَام وبه والمعزه قطنه والخ.

عندما انتهيت من قراءتي الأولى لهذا العمل المهم، بالذات من الناحية اللغوية، تذكرت "الصخب والعنف"** للأميركي وليم فوكنر، "رواية الروائيين" الصعبة الفهم، لدرجة أن كاتبها أعاد إصدارها بملحق يوضح بعض غموضها! ولاحظت أن الروائي سعود السنعوسي عمل نفس الأمر في فصله الثاني "العهد الجديد" بلغة أقل ما يقال عنها إنها رائعة، سلِسة! أعادَ فلسفة الرواية وطرق الكتابة وفكرتها: الحقيقة أنه لا توجد حقيقة! ص 110

يصورُ الكاتبُ مؤلفًا خمسينيًا، يجلس أمام "مخطوطه" محتارًا "في أمره" كما يقول لمنيره! وهو مكتئِب ومحبَط مما يكتب  ويكرر: "إلى هنا يكفي هذا الهراء!". ص 11

نلحظُ أن الكاتب استجابَ لعقله الباطني، وأطلق العنان لأفكاره وتداعياته في هذا النص ضمن "عفوية" مقصودةٍ ومصمّمَة من قبل الروائي سعود السنعوسي بمهارةٍ عاليةٍ بحيث لا يشك القارئ بها، رغم سخرية الراوي من نصه.

يُفصحُ المؤلفُ هنا عن طريقته في السرد والبنية والتكنيك محاورًا القارئ: "ألفيتني أكتبُ فحسب" ص 13، أنا أعرف القليل عن شخوص روايتي ..." ص 14، وتتضح الإجابة بالتدريج في ثنايا النصوص عن "عرزال" الراوي و"منوال" الكاتب ومنيرة وأسماء أبنائه "البدوية" "الأليغورية" والحفيدين والطيور، إنه المفسّر في حواره مع  قطنة.

في إعادة فلسفة النص تقول قطنه للكاتب: "أنا هنا رسولة مِمّن كتبني ...هو لا يعرفني... أنتَ تقول أشياءً غريبةً عرزال!...سوف يحيطُ جسدَكِ بذراعيه يهمسُ بأذنكِ. الروائيون مرضى، يُنفّسون عن معاناتهم ويستزيدون بالكتابة تعويضًا لنقص في نفوسهم!". ص 103

يتحدث منوال مؤلف "العهد الجديد" عن رغبته في تحفيز شخصياته وحثّها "لفتح حوارات فيما بينها" ويود أن يعرف ايَّ شيء عنها، فقد يستطيع ان ينهي قصته بالانتحار. ص 15

ويقول: "...فجأة. وجدتني ألهثُ في الكتابة، شخص مضطرب اسمه عرزال بن أزرق! حتى الاسم غير مألوفٍ لا أدري من اين جاء. لا أملك تصوراً حول ما كتبت. لا الزمن.. لا المكان... لا الشخوص... بطل؟ الكلمة ذاتها تمنح صاحبها قيمة اشك في وجودها!". ص 13 كأنه هنا أيضًا يوكد فكرة التلقائية والفقد وضياع الحقيقة!

نلاحظ أن الرواية انتهت عملياً بفشل تحقيق فكرة الانتحار! وهنا أيضًا تعبير أليغوري عن استمرار الحياة! "أكتبُ لأدرك مشهد انتحار تلك الشخصية، وحينما اقتربتُ منها لم أقوَ على قتلها!". ص 13 

وهكذا تنتهي الرواية مع استمرار الحياة رغم الصعوبات! وهذا هو مغزاها!

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

1 – القراءة

- مكرُ العتبات:

في مستهل المتن تتبدى علامتان، واحدة تفضح تيمة الضياع، وثانية تمكر بالتجنيس. وفي كلا العلامتين نحس شجْب الراوي هذا الماحولَ المادي والفكري وإدانته. ونقصد بالمادي تيمات الضياع واليباب والموت، في حين نقصد بالفكري رؤية الراوي لفن الحكي عبر قراره البائن بينونةً كبرى وهو يسائلُ جنساً أدبياً وينفي عنه خاصية الامتداد في وصمِهِ إيّاهُ بـ (ليست قصيرة) اعتباراً لسلطان الحجم والكمّ في تحديد الماهيات الأدبية. وهو السلطان الذي يبدو من خلال السياق أن صاحبنا لا يرضى عنها أبدا.

و من هذين المكرين نكتفي بواحد في هذه التوطئة، وهو المتعلق بالتجنيس، لحاجةٍ بعيدة عن المفاضلة بقدر ما هي لصيقة بمنهج التداول لهذا الموضوع في جرأته الأدبية العامرة داخل سياقٍ يروم التعتيم والتعميم وتسمية المتون بغير أسمائها هروبا من مسؤولية التجنيس أو تهريبا لعجزٍ واضح عن فعلِ التجنيس.

أصرّ السارد على وضع العنوان في وضعية ماكرة لا تبدو براءتُها التلقائية بقدر ما يبدو إثمُها المشروعُ في نقد الخطاب السردي. قال: (كتاب حب ضائع في أرض يباب.. ومقصلة). وهو عنوان مُذيّل بمكرٍ آخر. قال: (قصة ليستْ قصيرة). فما الدّاعِي إلى هذا الهجوم الأدبي على النوع القصصي متلبّساً بمفهوم( القصيرة) ؟ والجواب في نظري القاصر موجود في رؤيتيْنِ، واحدة عامة وأخرى خاصة. فأما العامّة فترتبط باستنكار السارد لتغوّل ما يُدَّعى أنه ينتمي إلى فن السرد، وفنّ القصّة. وقدْ سمّاهُ أصحابُهُ في يقينٍ غريبٍ تسميةً مُكثّفة وأقحموه في جسد السرديات، وبنوا له عالماً من الخرجات مشفوعةً بتراكمات تأليفية غمرتِ الساحة الثقافية وجنّدوا له ترساناتٍ من المقاربات والندوات والمحافل.. وأما الخاصّة فترتبط بميثاق براءة من هذا الجنس الأدبي إن جاز نعته بذلك. فالسارد يؤمن بالامتداد النفسي والزمني للإبداع، وهو لا يقدر على تصوّر خطفِ الحدث الذاتيّ أو الغيْرِيّ في مساحةٍ قوليةٍ مركّزَةٍ مسْروقَة وسريعة لا تُوفّر للقارئِ فسحةً زمنية من التفاعل المنساب مع صيرورة السرد في عمقه الوجودي وفي عمقِه الفنّي. ناهِيكَ عن إحساس السارد بعمق وغور ما يحدث له في صميم الحياة المتنكرة له، وبالتالي إحساسه بالغبْنِ وهو يغرف من سيرته الطويلة العميقة ثم يصبّه في إناءٍ نوعيٍّ لا يقدر على استيعاب دفق الروح المجروحة والمطروحة هنا. فالصورة في آخر المطاف تشبه من يروم صبّ مائة لترٍ من بنٍّ في فنجانٍ لا يتّسعُ لثلاثِ رشْفات، ولكم أن تتصوروا هُزءَ المشهدِ ووخْزَهُ  والروحُ العارمة تتدفق هدراً خارج هذا الفنجان المسكين. السارد هنا يشجب النعت( قصيرة) وكأنّه أيضا يصرخ في وجهِنا أنْ نُسمّي ما قَصُرَ في تصوّر مشّائي هذا النوع باسم آخر غير القصة، توقِيراً واحتراما لهذا الجنس الأدبي التاريخي والمارد.

- مكرُ السرد:

يتجلى هذا المكرُ الأدبيّ في بنيتيْن سرديتيْن تُسيِّجان مسار السرد، ويتعلق الأمر بفعل (أغلق) المتصدّرِ لصيرورة الحكي، وفعل (واصل) الخاتِمِ لهذه الصيرورة في تجدّد وانفتاح مُشْرعٍيْنِ على الممكن واللاممكن من عمليات اجتِراح السرد. فكيف نستوعبِ هذا الانشطارَ السردي بين نسقيْنِ: واحدٌ مغلقٌ والثاني منفتح؟

يتحرّك السرد في هذه القصة المستشكلة في حجمها داخل قدر البحث عن شكلٍ مناسبٍ لكتاب الحب، مادام الساردُ مقتنعاً جدّاً بأن الحبّ مستحيلٌ خامسٌ مضافٌ إلى الأربعة القابعة في استحالة الجمال القيمي كما سطّره همسٌ قديمٌ في التراث:

لَمَّا رَأَيْتُ بَنِي الزَّمَانِ وَمَا بِهِمْ  \\\ خِلٌّ وَفِيٌّ، للشَّدَائِدِ أَصْطَفِي

أيْقَنْتُ أَنَّ المُسْتَحِيلَ ثَلَاثَةٌ \\\ الغُولُ وَالعَنْقَاءُ وَالْخِلُّ الوَفِي – صفيّ الدين الحليّ

وهذا الهمسُ يتكرر في سياق آخر حداثِيٍّ موسوم بفكرة النوع الحاكي لا المترنّم. وبفكرة السرد المكتوي بسطحية الماحول وقسوته وتنكره لذاتٍ أجمعتْ كلُّ تفاصيلِها على تبنّي فلسفة العطاء في غير منٍّ ولا أذىً أو انتظار شكرٍ أو مقابل. وعِوضَ أن تُتَوَّجَ الذاتُ الساردة باعترافٍ جميلٍ وجليلٍ من قِبلِ هذا الماحول، نجد هذا الأخير يُسارِعُ في إعدامِ هذه الذات والتنكيل بها في غير رحمة أو حتّى شفقة، فيبْني لها مقصلة ويدعو الدهماء إلى الاحتفال بلحظة الشنق والفتك والقتل.

السردُ هنا لا يفتكُ بالإنسان وحده، بل يفتك بالقيمة، فالإنسانُ ماضٍ في تخومِ السديم فيما القيمةُ باقيةٌ ما بقيَ المعنى. من هنا قسوةُ السردِ في هذه القصة المستشكلة، لأن الأتّهامَ لا يستهدفُ الأنامَ في هبوطهِ بقدر ما يستهدِف الفكرةَ في تردِّيها وفي أفولِها واندحارِها. وهو لعمْرِي أقسى وأشدّ مضاضةً على الوجود الإنساني في مشروعِ كينونتِهِ وهو لا يدرِي كمْ يفتِك بهذه الكينونة خارجَ مقولاتِ التناغم والحب.

يتقدّمُ السرد إلى المتلقّي في بنيتيْنِ أخْريَيْنِ، واحدة مثبتَةٌ وأخرى منفية لحاجةٍ في نفس السارد. (أغلق – خرج – تعب – جلس .. نفت – واصل) في مقابل (لم يجد – لم يعرف – لا تعرفه – لا يعرفونه – لم ينتبه – لم يلاحظ). وهنا بالذّاتِ لا تهمُنا الأفعالُ في تعبيراتها المباشرة عن معناها الثاوي في وجودها القاموسيّ بقدر ما يهما سكونها وحركيتها، انغلاقها وانفتاحها، استسلامها وشجبها، مكرها وبراءتها، دناءتُها وكرمها.. ولنأخذ مثالاً لذلك، ففعل (أغلق) لا يرتبط في المحكي بعملية حسية فيزيائية ترتبط بوجود حسي لباب أو ما جاور، بقدر ما يرتبط بمدخل يتجلي في أبعاد غزيرة منها البعد المعرفي (أغلق ملف الدراسة النقدية) والبعد النفسي (لم يكملها بعد) والبعد الانتظاري المرتقب بقافيْنِ واحدةٌ مفتوحةٌ وأخرى مكسورة. وهكذا فكل الأفعال هنا لا تتحدد ماهيتها إلا داخل السرد في مكره الباني للأنساق المعرفية والنفسية والوجودية بشكل عام.

داخل هذه النسقية الواخزة، يتبدّى محورُ النفيِ قويّاً ومؤلماً لأنه ورد في سياق الآخر المتنكّر. وهو نفيٌ دلاليٌّ لا يقف عندحدود السلوك المجانب لقواعد السلوك البينية في مجال الاجتماع. إنه نفيٌ فلسفيٌّ من جهة الذات المستقبلة يستبطن القيمةَ في وجهَيْها: الوجه المعترف والوجه المتنكر. داخل هذه الثنائية ترقد المعاناةُ التي تتجاوزُ الإحساس بالغبنِ إلى الإحساس بالعبثية. وفي ذلك ما فيه من فلسفة تُلغي الفعل وردّ الفعل لتثبِتَ القيمة واللاقيمة.

والانغلاق في مقابل الانفتاح، هما أكبر من نسق سردي ينظّمُ عين القارئ وذهنه داخل مسار الحكي. إنهما إذانةٌ قاسيةٌ لفعل غير مسؤول، وشجبٌ وجوديٌّ لسلوكٍ جانبَ المعقول. وفي آخر المطاف، فهما مسارُ حكي يصرخُ في وجهِ الرّداءة القيمية التي تتغوّل في الماحول وتُملي على الذواتِ قراراتها العطنة وكأنها محاكم تفتيشٍ تعود من أزمنة الظلام القروسطي لتمارس سطوتها على الفن والإبداع والإنسان، تتسلطنُ وتتمادي في سلطانها لتحكم قبضتها على عنق الساحة الإبداعية، تؤشّرُ للمرور على ما أرادتْ هي في غير معيار.

- مكر الكمّ والحجم:

يُعْفينا السارد من البحث عن مبطّنِ حكيهِ فيما يخصّ شكل المتن الذي نتنزّه في عمقه المؤلم. والمتتبع لهذا المسار يدركُ مورفولوجيا الرسم، وأقصد الكتابة الطباعية للنص. وهي الموسومة بكثيرٍ من نقط الحذف. وهي علامة سيميائية شكلية تنطوي على أكثر من دلالة. وأقربُها إلى محطّتنا التحليلية هو تعبيرُها عن قناعة تجنيسية للمتحدّث هنا باسم السارد. إنه يعترف في مكر الحدث وسرد الحدث وتشكيل الفضاء بشيء واحد وأساسيّ، هو النوعُ الأدبي. فالسارد يقدّمُ في نقط حذفه رواية كاملة بتفاصيلها وجزئياتها ومتاهاتها وتلميحاتها وتصريحاتها. في لبوس جنس القصة القصيرة، مع العلم أن الافعال السردية هنا فاضحة لمشروع الرواية العميقة في مكر هذا السارد. والمتتبعُ باجتهادٍ لهذا الصوغ القصصي سيدرك لا محالة كم هو مختزلٌ هذا الحكيُ لعوالم أخرى معلنٍ عنها في قبضة الإشارة بدل العبارة الثواية في مستقْبَلِ الرواية.

- ختم مفتوح:

الباحثُ والناقدُ والشاعرُ والروائيُّ (عبدالرحمن بوطيب) علامة إبداعية مثقّفة كبيرةٌ جدّاً على وصفنا أو تقريضنا أو مدحنا أو تحليلنا. وهو رجل لمْ يحظَ بعدُ بأيّ اعترافٍ أو تقديرٍ أو حق. وعيبٌ ، كلُّ العيبِ أن يُتركَ هذا المبدعُ في الظل فيما هو يُزِيحُ باستمرارٍ قويٍّ الستائر عن المغمروينَ والمغموراتِ في ساحتنا الثقافية الموسومة بالتناقض القيمي الغريب.

***

بقلم نورالدين حنيف أبوشامة

............................

2 – المتنُ المقروء:

حب ضائع في أرض يباب.. ومقصلة

أغلق ملف دراسته النقدية التي لم يكملها بعد.. خرج يبحث عن كتاب الحب في دروب المدينة.. لم يجد ضالته في الدكاكين والأكشاك والحمّامات والمقاهي.. لم يعرف طريقه إلى مكتبة في دروب لا تعرفه.. كل الوجوه التي يصادفها في طريقه لا تعرفه.. كل الوجوه لا تعرف الحب الضائع الذي يبحث عنه رجل لا يعرفونه.. وصل إلى مركز المدينة.. سأل كلَّ الناس عن مكتبة.. لم ينتبه إلى أن فرقة من الناس كانت تتغامز من وراء ظهره.. لم يلاحظ أن فرقة من الناس كانت تشفق على رجل يبحث عن كتاب حب ضائع في دروب أرض يباب.. تعب.. جلس على رصيف قديم.. أخرج من جيبه ورقة وقلماً.. كتب "هذا كتاب الحب والضياع".. بدأ يسرد.. يسرد.. يسرد.. يتعرق.. يتعرق.. يتعرق.. يرتجف.. أحس بحركة حوله.. رفع رأسه.. شاهد مقصلة منصوبة أمامه.. وعديد جلادين بألف قناع وقناع.. أشعل آخر سيجارة سوداء متبقية في علبته القديمة.. نفث من صدره سحابة دخان أسود كثيفة.. واصل سرده.

***

قصة.. ليست قصيرة. عبد الرحمن بوطيب.

الدار البيضاء / المغرب: الخميس 11 أبريل 2024.

{النص}

المرايا

تسألني المرايا

واسألها؟

من هذا الجسد الطافح بالحزن

تلك الملامح المتصلبة

كبقايا أخمس بندقية في ارضِ

الحرام

أو نطاق ،

كُمَ قميص لبدلة شهيد

لازالت تندبه ثكلى

يمر ذكرى  بأحلام جميلة لامس

الوجد    .

كم حرب مرت

أخذت من سمرة ملامحي

و من سواد رأسي شيبا

أكتست بالظلمة صباحاتي

لكن لازال لي قلب  ينبض بالود

وللود يحلم بوطن حر وأمل جديد لاطغات فيه .

***

تحليل النص  من خلال العناصر الأدبية والسيميائية  المتواجدة فيه:

1. الشكل الشعري: النص يتكون من أبيات مرتبطة بنظام القافية، وهو ما يميزه كقصيدة. الشكل الشعري يساهم في خلق تأثير جمالي وإيقاعي للنص.

2. الرمزية: النص يحتوي على تعابير رمزية ومجازية تعطيه طابعًا استعاريًا. على سبيل المثال، المرآة التي تسأل وتجيب تمثل تواصل الشاعر مع ذاته واكتشاف هويته الداخلية.

3. الصور البصرية: يستخدم الشاعر صورًا بصرية لتوصيل المشاعر والأفكار. على سبيل المثال، وصف الملامحالمتصلبة في الوجه ومقارنتها ببقايا البنادق والحروب يخلق صورة قوية تعبّر عن الآثار السلبية للصراعات والمعاناة على الجسد والروح.

4. العواطف: النص يحمل عواطف متعددة مثل الحزن، الألم، الود، والأمل. يستخدم الشاعر اللغة الشعرية لنقل هذه العواطف بشكل تفصيلي وعميق، مما يلمح إلى التجربة الإنسانية والمعاناة التي يمكن أن يواجهها الفرد.

5. الرؤية الاجتماعية والسياسية: يعكس النص رؤية الشاعر للوطن والحرية والعدالة. يعبر عن رغبة الشاعر في وجود وطن حر يعيش فيه الناس بكرامة وسلام، ويحلم بمستقبل أفضل خالٍ من الاضطهاد والظلم.

السيميائية في النص

 يمكن رؤية عناصر من السيميائية واستخدام الرموز والعلامات لنقل المعاني والرسائل.

1. المرآة: يمكن اعتبار المرآة رمزًا في النص. تعتبر المرآة نقطة تواصل بين الذات والعالم الخارجي، وتعكس الصورة الداخلية والهوية. في النص، تسأل المرآة وتجيب، مما يشير إلى التواصل الداخلي والتفكير الذاتي.

2. الألوان: يمكن أن تحمل الألوان دلالات سيميائية في النص. على سبيل المثال، يشير الحزن والظلمة إلى الألوان المظلمة والمظلمة، بينما يمكن أن يرمز الود والأمل إلى الألوان الزاهية والمشرقة.

3. الحروب والأسلحة: تعد الحروب والأسلحة رموزًا للصراع والعنف في النص. يشير استخدام البنادق والحروب إلى التدمير والدمار، وتأثيرها السلبي على الجسد والروح.

4. الحرية والأمل: تعتبر الحرية والأمل رموزًا للتحرر والتغيير في النص. تمثل الحرية الوطنية والشخصية، بينما يعبّر الأمل عن التطلع لمستقبل أفضل ووطن حر.

من خلال استخدام هذه الرموز والعلامات، يتم توصيل رسائل ومعانٍ عميقة في النص.

كما يمكننا استنتاج أن النص يحمل رسالة أدبية تعبّر عن الإنسانية والتجربة الشخصية، وتسلط الضوء على الصراعات والآثار السلبية للحروب والقهر. كما يدعو النص إلى الأمل والتغيير الاجتماعي، ويعكس رؤية الشاعر للعالم والواقع الذي يعيش فيه. كل المحبة.

***

بقلم الأديب الاستاذ الناقد خلف ابراهيم

يظل الأدب الألماني دون بقية الآداب الأوروبية الأخرى اِنتشارا واِطلاعا بين قراء العربية بالرغم من كونه يعتبر أحد أهم الآداب في العالم وربما يعود سبب قلة انتشاره بين العرب إلى عدم اطلاع المتعلمين العرب على اللغة الألمانية بصفة واسعة سوى نخبة قليلة نذكر من بينهم الدكتور عبد الرحمان بدوي الذي تخصص في الثقافة الألمانية وترجم منها عيون فلسفتها وأدبها وشعرها وإن كتابه حول الأدب الألماني في نصف قرن الصادر عن سلسلة، عالم المعرفة، يندرج ضمن جهوده للتعريف بهذا الأدب حتى يكون رافدا من روافد الابتكار والتجديد والإثراء في أدبنا العربي الحديث.

والشاعر الألماني رلكه عاش بين سنة 1875 وسنة 1926 وهو أهم الشعراء الألمان المعاصرين وقد حظي بأوسع شهرة وأرفع مكانة طوال القرن العشرين لأنه كان حقا نسيج وحده.

المولد والنشأة والانطلاقة:

هو رايتر ماريّا رلكة من مدينة براغ عاصمة الدولة التشكيوسلافيكية وقد ولد سنة 1875 لأب كان ضابطا في الجيش النمساوي وقد شارك هذا الأب في حملة النمسا ضد ايطاليا سنة 1859 ثم اضطر لترك الجيش بسبب صحته والتحق بإدارة السكة الحديدية أما أمه فهي ابنة تاجر كان مستشارا لإمبراطور النمسا لكن الحياة الزوجية لم تستمر طويلا بينهما فعاشا حالة انفصال من دون طلاق وكانت أمه هي التي أنفقت عليه ورعته ودفعته للمطالعة ونمّت فيه مواهبه الفنية.

بعد تعليمه الابتدائي التحق رلكه بالمدرسة العسكرية الثانوية بالقرب من فيينا عاصمة النمسا وذلك سنة 1886 ثم انتقل منها إلى الكلية الحربية سنة 1890 التي لم يمكث فيها سوى عام واحد حيث لم يكن منسجما مع جو الانضباط والقسوة الذي وجده بين زملائه والمدرسّين وقد شبّه ذلك الإطار ببيت الموتى.

ومن القصائد الأولى التي نشرها رلكه قصيدة تحت عنوان ( الفستان الجرار هو الموضة) وذلك سنة 1891 وفي نهاية 1894 ظهرت له مجموعته الشعرية الأولى (الحياة والأغاني) وقد اهتم فيها بالقصائد القصيرة ذات الإيقاع الذي يقوم على المحسنات اللفظية ومن بينها هذه القطعة التي يقول فيها:

غنّ من جديد لحبيبتي

يا صوت عودي المضيء بالحب

غنّ إبّان الليل

وفي هذه المجموعة قصائد أخرى تعتمد الومضة والإيجاز:

من يعرفون الإنسانية يقولون

إن العبقرية مقدّر عليها الهلاك

كلا:إذا كان الزمان لا يخلق عظماء

فإن الإنسان يخلق لنفسه زمان مجده

ونشر رلكه مجموعته الشعرية الثانية تحت عنوان "قربان إلى اللارات" واللارات في الديانة الرومانية القديمة هي الآلهات التي تحمي البيوت وموطن الميلاد فمعني العنوان كما رأى الدكتور عبد الرحمان بدوي أن القصائد الواردة في المجموعة تدور حول مدينة براغ موطن ميلاد الشاعر وحول أهلها ومن هنا نعتها البعض بأنها تندرج ضمن (شعر المدينة) حيث نجد فيها وصفا لبعض الأحياء المتميزة في براغ خصوصا الأحياء الشعبية مثل قوله في إحدى تلك القصائد:

هم يذهبون في حرارة المحبّ الحارة

ويخرجون من المصانع رجالا وفتيات

وعلى جباههم المنخفضة المغلّقة

كتب البؤس مدادا من العرق

الوجوه حزينة والعين منطفئة

والنعال الثقيلة تقرع الطريق

مثيرة التراب والغبار

لكن الشاعر – وهو يتحدث عن القضاء في المدينة بمختلف مكوّناته وأبعاده – نلاحظ انه ينخرط في الصراع السياسي في عصره فهو يقول في قصيد له بعنوان " الشك " :

النزاع الوحشي بين ألم

لا يصل إلى منه أيّ صدى

لأني لا أنحاز إلى أيّ طرف

إذا الحق ليس هناك ولا هنا

وفي أوائل سنة 1896 طبع مجلة أدبية اسمها "الشيكوريا البريّة" وهي تقع في 66 صفحة وقد وزعها مجانا على المستشفيات والنوادي المختلفة ثم راح بعد ذلك يوزعها على المارة بالمجان أيضا وقد قدّم لهذه المجلة قائلا: " مجرد كلمة واحدة: أنتم تنشرون مطبوعاتكم في طبعات رخيصة الأثمان وبهذا تسهّلون على الغني الشراء لكنكم لا تساعدون الفقير لأنه بالنسبة إليه كل شيء غالي الثمن... أنا أيضا فقير لكن هذا الأمل يجعلني غنّيا. إنّ "الشيكوريا البريّة" ستظهر مرة أو مرتين في العام فاقطفوها ولتكن مصدر سرور لكم".

ومن روائع الشاعر رلكه هذه القصيدة:

مثل الريح اخترقت الخمائل

ومن كل بيت كان ينبعث دخان

وبينما كان الآخرون يستمعون بما اعتادوه

بقيت أنا شبيها بعدة غريبة

يداي دخلتا دخولا رهيبا

في مصيرالآخرين المعلّق

لا بد من سند أرضي

لان الثقة لا تتولد إلا في الثقة

كل إحسان هو فعل بمثابة مقابل

أوّاه لم يتطلب مني الليل شيئا

لكن حين توجهت نحو النجوم

أين كنت أنا؟

* البحث عن الشرق

و تماما مثل الشاعر الألماني "قوته" وبتأثر حركة الاستشراق انبهر الشاعر رلكه هو أيضا بعالم الشرق و بما في حضارته من تأمّل وبساطة وروحانيات خاصة، لكن السبب المباشر في انفتاح مهجته على العوالم الشرقية يعود إلى زوجته التي قامت برحلة إلى مصر ومن زمن تلك الرحلة تراه مولعا بالنيل وبالصحراء وبتمثال أبي الهول الذي كتب فيه قائلا ضمن رسالة: "أبو الهول ليس ذلك الأثر الفني الذي صنعه نحات معيّن، بل هو أولا وقبل كل شيء ذلك الأثر الذي عاون في صنعها الزمان، إذن لقد اشترك في عمله فنانان: الفنان البشري ثم ذلك الفنان العظيم الآخر إلا وهو الزمان، فلم يعد الحجر مجرد نحت بل صار كائنا حيا وشاهد إصباح آلاف الأيام وأمواج الرياح وما لا يحصي من النجوم التي تطلع وتأفل ومواكب الأفلاك في العلا وحرارة السماوات الممتدة هناك أبدا.

رلكه في تونس

و قبل أن يصل إلى مصر زار رلكه بلاد الجزائر وتونس التي كتب عنها بعض رسائله قائلا انه طاف بأسواقها الغنية بعروضها ومتاجرها وأقمشتها المتعددة الألوان حيث يسود جوّ ألف ليلة وليلة وقد تجّول في سوق العطّارين فتعّرف إلى عطار لا تصافحه اليد حتي تظل معطرة النهار كله وهو في رسالة كتبها من القيروان بتاريخ 21 ديسمبر سنة 1910 يكشف الجانب الصوفي بما فيه من تقوى وزهد فيقول عن القيروان إنها مدينة مقدّسة وفيها مسجد جامع عظيم استخدمت في بنائه أعمدة كثيرة من آثار قرطاجنة والمدن الساحلية الرومانية والفينقية لتحمل سقفا من خشب الأرز وقبابا بيضاء ولا يحيط بالمدينة سوى السهول والمقابر لهذا تبّدت له كأن الموتى يحاصرونها وهم راقدون حولها يزدادون دائما ولا يتحّركون أبدا.

ويثير هذا المنظر في نفس رلكه خواطر عن الإسلام فيكتب قصيدة "رسالة محمد"، جاء فيها:

لّما تبدّى الملك الكريم الطاهر

ذو الملامح المعروفة والنّور الباهر

تبدّى رائعا له خلوته

خلع كل كبرياء وخيلاء وتوسّل إلى التاجر

وقد اضطرب باطنه إثر أسفاره

توسّل إليه أن يبقى

لم يكن قارئا، وها هي ذي كلمته

كلمة عظيمة حتى على حكيم

لكن الملك وجّهه بمهارة

إلى ما كان مسطورا في لوح

ولم ييأس، بل ظل

يردّد دائما: إقرا

فقرا حتى انحنى الملك

وأصبح ممن

يعرفون كيف يقررون

ويستمعون ويتمون "الرّسالة"

ويرى الدكتور عبد الرحمان بدوي أنّ السبب الذي كان وراء كتابة هذه القصيدة ربّما مأتاه التأثر بكتاب "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي" أو أنّ الشاعر قد قرأ سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتأثر بها وبسورة "العلق".

الرحلة إلى مصر:

في سنة 1911 أبحر الشاعر إلى مصر وهو يشعر أن عالم الشرق بدا يتفتّح له بل وقد استولى على كامل وجدانه عندما بدأ رحلته من الإسكندرية إلى القاهرة ومنها ركب الباخرة إلى الصعيد عبر نهر النيل حيث أوحت إليه بقصيدة "الكرنك".

كان ذلك في الكرنك

إلى هناك ذهنيا على فرس

هيلمانه وأنا،بعد عشاء سريع

وتوقّف الترجمان: هنا طريق آباء الهول

آه..المدخل... لم أنص من قبل

في عالم جديد مثل هذا

أهذا ممكن أيتها العظمة؟

لقد عظمت في نفسي عظمة مفرطة

السفر، هل هو البحث؟ الآن، قد أصبح غاية

والحارس عند المدخل أشعرنا

بقشعريرة المقدار: فلكم كان صغيرا

إزاء ارتفاع البوّابة المتواصل

والآن، طول العمر كله

العمود، ذاك العمود،ليس كافيا

إنّ التدمير جعله على حق

لقد كان أعلى

من أيّ سقف؟ ولكنه بقي حاملا

لقد أودع الشاعر رلكه هذه القصيدة كل انطباعاته تلك التي خطرت له قبل مشاهدة الآثار الفرعونية وسجل فيها أيضا ما لمسه من عظمة الإبداع المصري القديم في الأقصر وطيبة ووادي الملوك والمناطق المجاورة حيث يقول في إحدى قصائده

الفلاح الذي كان يرافقنا

ظلّ في المؤخرة، لقد كنا في حاجة إلى وقت

لتحمل أثر هذا، إذ كان أثرا شبه مدمر

أثر الوقوف وحده في الوجود:

لو كان عندي ولد

لأرسلته إلى هناك في نقطة تحوّل العمر

التي فيها يكّرس المرء نفسه للحق وحده

وعلى طول الجدران ملاحم

الملوك: لم يسمع بمثلها

وامتلأت التماثيل بنور القمر

واحد إثراء آخر

لقد كان نحتا بارزا

و يتحدث رلكه عن رؤيته لتمثال أبي الهول فيقول "تركت ساعة العشاء تمرّ وكان الأعراب يقعون هناك بالقرب من نارهم والظلمة تحول بينهم وبين رؤيتي، لقد انتظرت حثي أسدل الليل ستائره بعيدا في الصحراء ثم مشيت من خلف أبي الهول وقدّرت أنّ القمر لا بد أن يكون على وشك الطلوع خلف الهرم القريب الذي أحرقته شمس المغيب ذلك أن الليلة كانت ليلة بدر، وفي الواقع لم أكد أستدير حول أبي الهول حتي كان القمر قد تصاعد عاليا في السّماء وانتشر منه فيض من النور على الأفق اللامتناهي". ونرى رلكه في قصيدة " أبي الهول " يخلط بين ذكريات الأقصر والكرنك وطيبة وبين ذكريات أبي الهول والأهرام حيث يقول فيها:

إنه يقوده بخفة خلال مناظر الأنين

ويدلّه على أعمدة المعابد أو إطلال

القصور المحصنة التي كان بها أمراء الأنين

يحكمون البلاد بحكمة

ويدله على أشجار الدموع وحقول الأحزان الزّاهرة

ولا يعرف الأحياء عنها إلا الأوراق الرقيقة

ويرى الدكتور عبد الرحمان بدوي أنّ القصيدة تحتاج إلى تفسير لأنها تحيل على عدة إشارات حول التاريخ الفرعوني.

إن الشاعر الألماني رلكه (1885-1927) كان أحد الشعراء في العالم الذين تعرفّوا إلى البلدان العربية واستلهموا حضاراتها فكانت إضافة نوعية في شعره مما جعله الشاهد على اِنصهار الثقافات وتداخل الحضارات في شعره ذي المنزع الإنساني الذي ينظر إلى الثقافة العربية ورموزها نظرة إيجابية.

***

سُوف عبيد – كاتب وأديب تونسي

 

(مقاربةٌ نسقيةٌ ثقافيةٌ في شعرِ سعد ياسين يوسُف)

سعد ياسين يوسف شاعرٌ عراقيٌ مبدعٌ وأكاديميٌ مقتدر، يعيش الكتابة الشعرية كونها ملاذاً وأكسير حياة، اكتشف ثمرة شعره الناضجة في شجرة روحه اليانعة بالإبداع منذ منتصف السبعينات، حتى أضحى شعره فردوسه الذي يظلله وعالمه الخاص به، فأضحت الشجرة تيمة من تيمات شعره في مجاميعهِ ودواوينهِ، عبر في شعرهِ عن مشاكل الإنسان ومآسيه في هذا الوجود، وقد لفت انتباهي في مجموع شعرهِ عتباته النصية التي عالجت مشاكل الإنسان مع الزمان واستشرافه المضيء لحياتنا القاتمة، عندما نقرأ شعره ما أن نبدأ به حتى يأخذنا لعوالم مختلفة لا تنتهي إلا بإيعاز شديدٍ منا. ومن خلال قراءتي لقصيدة شجرة بيروت والتي نشرها في مجموعته الشعرية شجر الأنبياء في تموز /٢٠٠٦، وظف الشاعر في هذه القصيدة (بيروت)حتى غدت صورة مصغرة عن (لبنان) بل واقعاً عن لبنان بل لبنان نفسه بل لبنان في حضوره وشخصه وذاته، وقد حاولت في هذه القصيدة أن استشفَ حركية الأنساق المضمرة، وتعالقها مع الأنساق الظاهرة في الخطاب الشعري، لأنهما وجهان لعملةٍ واحدةٍ، ولا يمكن أن ينفصل أحدها عن الآخر .

يستهل الشاعر قصيدته الموسومة ب (شجرة بيروت)استهلالا مكانياً محدداً (بيروت):

بيروت

روح البحر

قلادته الملأى بجواهره

الزرقاء

بحكايا الحوريات

على رمل شواطئه

شهوته الحرى .. لحياة

لا تشبه أي حياة

 تحيل هذه العتبة الاستهلالية المتلقي إلى أنساق نصية مضمرة،تكمن في نفسه الشاعرة لتجسيد غربته النفسية، خلال التيمة المكانية المشخصة في تعالق تشبيهي استعاري مكثف، حيث تتوالد الصور الاستعارية التشخيصية من التشبيه الكلي أو التمثيلي، وهو من خلال تلك التشبيهات يكشف النقاب عن الهوية المتفردة بكيانها وصورتها الفكرية، التي تحقق تمثلاته الثقافية إذ إِنٌ الحزن والوجع واحد في بلاد الرافدين، من خلال إبراز تلك المهيمنات الثقافية بأنساقها اللفظية الظاهرة، والتي تُضمر للدلالة عن رفض شعوري وسياسي لأي سلطة واعتداء صهيوني لهذه المدينة التي وسمها بروح البحر، تتضمن القصيدة العديد من الإشارات والإيماءات التي تتكشف مدلولاتها من خلال التوليد التصويري في تشبيهات وتعالق استعاري مكثف، لتصوير مواجهة بيروت في معركتها الشرسة مع الاعتداء الصهويني بصفاتها وعروبتها الشامخة. فكان الشاعر حاذقاً في اختياره للفضاء المائي في تجسيد تلك التجربة الشعرية، لما يمتلكه ذلك المهيمن الفضائي المائي (البحر) من كوامن وأنساق ثقافية مضمرة، تجسد تلك العوالم البيروتية القاهرة للعدو بعطائها الشبيه بالبحر. وقد اختار الشاعر المشبه به العقلي (روح البحر) ليحيل المخيلة المتلقية إلى عوالم من العطاء الذي لاينضب للمشبه (بيروت)، ثم تتوالى الصور التمثيلية التشبيهية الحسية فيشبهها بقلادة البحر في تعالق استعاري مكثف، حيث الجواهر الزرقاء ومايحيل إليها هذا الرمز اللوني إلى الصفاء، والعطاء المشترك .بين لون السماء، ولون البحر، وماينضوي عليه من دلالات الصفاء والعطاء، ثم تتوالى التيمات البحرية في توالٍ منسقٍ يستكشف عن مضمرات تخيلية مرتبطة بعالم الأسطورة، والطفولة، والحكايات الشعبية، عن الحوريات، وعروس البحر، في تجسيد لواقع بيروتي قبل الاعتداء مسترجعاً ذلك الواقع الصافي غير الملوث، من خلال تلك التيمات التي تعكس تلك الإيجابية الواقعية المعيشة، فالحياة ليست كأي حياة في ذلك الفضاء الرائع برونقه.

صخب الموج،

 هدير الريح،

نسمات ترقص غنجا

بليالي الصيف تهب

" من أطراف الوادي "

 يجئ صقيع الخبث

تستيقظ شهوةُ موت

الغرباء

كعادتها تقطرُ

موتاً وقذائف

 فيمزق شجر الأرز حبال الثلج

يمد غصونا بردا

 غارا

يا "سيدة نجاة" الجبل،

البحر

هاتي من كفيك زيتا

امسح وجع الجبل

البحر

ويقول أيضاً :

أنيرُ مرافئه الثكلى

وأهلة عشق مآذنه

الذهبية

أُسكتُ صفارات الإنذار

امسح قلب الأطفال،

 بهدأة عينيكِ

 بهدأة عينيكِ

وافتح أبواب الجبل

سلاما طلتك

سلاما همسات الروشة

كل مساء

صباحك يا"صنين "

أغاني الخبز الطالع من أفرانك

عند الفجر الأشهى

من شفتي الشاطئ

عند غروب الشمس

عند نزول الشمس

على شرفات الحمراء

فوق بيوت الضيعة،

في المتن

حيث الريحاني يغني

أخر أغنية للعشق

يشتعل القرميد

يميد الحبق المنثور

بممرات بيوت القرويين

بكهوف جعيتا

حيت أساطير ملوك

 وممالك تصعد تنزل

حفلات من رقص رخام

تتوالى الصور السمعية بدلالاتها الرمزية في هذه النصوص التي تجسد عطاء الطبيعة في مضمر خفي، إلى عطاء المدينة وواقعها قبل الاعتداء الصهيوني، ثم نسمات الصيف الراقصة غنجاً ودلالا في صورة استعارية تخييلية إبداعية، ثم يأتي الواقع المفروض بسلطة الاعتداءوالتدمير، فيوظف الشاعر صور الطبيعة القاسية، لتحيل وبذاكرة جغرافية ثقافية إلى تلك السلطة القاسية التي تصورها بالصقيع الخبيث، وبشهوة الموت في رؤية تجسيمية استعارية دالة،فينقلب الهدوء والطبيعة الرائعة إلى أجواء صقيعية، وموت، وقذائف،وصفارات إنذار، فتصبح المرافئ ثكلى لتلك الذكريات المورقة، ثم يستطرد الشاعر ثانية إلى ماضي بيروت في ذاكرة تجسد الهوية البيروتية، في تيمات تصويرية تحيل بأنساق مضمرة إلى ذلك الماضي البيروتي المورق قبل الصقيع والثكل والاعتداء الصهيوني، حيث شرفات الحمراء، وبيوت الضيعة، ونزول الشمس عليها وغروبها، وأغاني الريحاني، ويمتد ذلك الاسترجاع بعمق ثقافي إلى تأريخ بيروت حيث أساطير الملوك، والعصر الباروكي، وخيول وفرسان، وغجر، لتبقى بتأريخها شامخة في إبداعها:

العصر الباروكي

تصدح موسيقاها

شُرَفٌ مشرعةٌ

 وجميلاتٌ يتقنَ التلويحَ

خيولٌ، فرسان،غجرٌ

ألقى البحرُ عليهم

سحره، جمدوا

علَّ السحر يذوب، يفلُ،

تولد مدنٌ أخرى .

تتوالى في هذا النص التكرارات اللفظية لبعض التيمات الدالة كـ(الشمس، البحر، الجبل، سلاماً، المساء) المترجمة لذلك الاغتراب النفسي عن كل شيء، وقد تجلت الرؤية الشعرية للشاعر المتمخضة من الحالة الوجدانية، من خلال الاستهلال المكاني (بيروت)في سياقات تصويرية مجازية متعددة، تحقق تلك الرؤية لواقعين معيشين ماض مورق، وحاضر أليم، ثم تزداد الشحنات الانفعالية لتبلغ قمتها في تكرار عناصر الطبيعة بصورها الإيجابية والسلبية، لتجسد الواقعية المكونة لرؤية زمكانيةمجازيةمتفردة، تعكس مشاعر الحزن والأنين الثكلى لتلك المدينة الضائعة، ثم يختم تلك الصور النصية المتراكمة في تراكم تأريخي، يعكس تأريخ عريق وتراثي لبيروت الحبيبة، إذ إِنّ هذه الصور جسدت ذلك الغياب الحاضر الموجع، من خلال تقابل الثنائيات (الحضور، والغياب) حيث الوجه الغائب الحاضر المبعثر في ضباب الغياب، في حين لاشيء يظهر إلا ذلك الواقع الأليم، حيث يتماهى الغائب الماضي المورق، ويتجلى ذلك الإبداع التصويري التوليدي من خلال الاسترجاع الزمني،مسترجعاً ومستذكراً الأزمنة الماضية المورقة الشاخصة في قلبه، فضلا عن ذلك لايخفى ما للفونيم الصوتي للحروف المجهورة كالراء، والسين، والحاء من شحنات صوتية جسدت الطاقة التكرارية للراء المتكررة، حيث الوجع المتكرر النفسي للأنا التائهة المبعثرة في متاهات الآخر (بيروت)، ذلك الوجع المتمخض عن تجربته الوجدانية الموجعة، من الثنائية الضدية الماثلة بالدمع الكثير والأمل القليل في علاقات لغوية ولغة شعرية، تحيل إلى تراكمات نسقية ثقافية لتحقق ذلك الفقد والوجع الجمعي، فيغدو ظلام بني صهيون مغلفاً بالكوابيس الطبيعية حيث الصقيع والريح المقتلعة وصفارات الإنذار. فيوظف الشاعر عناصر الطبيعة لتكون معادلا موضوعياً في تجسيد الماضي والحاضر البيروتي، والذي يفضي إلى التردد والتكرار المنسجم مع دلالة التكرار المشهدي، لذلك الحزن والثكل والذكريات بمشهدياتها المختلفة، والطيف المنشود بالتحرر من الظلم والقمع، فضلا عن الواو العاطفة التي تكررت في النص، والتي حققت التواصل المشهدي النصي . إذ إِنّ ذلك الامتزاج والتراسل الحسي بين عناصر الطبيعة المختلفة والفضاء المكاني (بيروت)، يشكل رمزاً فاعلا وحياً لوحدة الحواس المنهمكة بالدال (بيروت)، وذلك ما ينسجم والدلالة النصية. وتتراكم الصور التجسيدية لتكون الذكريات الماضية ملاذاً مؤاسياً في تراصف وتجاور لفظي، حيث صورة ذبول الأمل، والفراغ الآهل بالحسرات، فتنبثق الصورة المائية لتشكل إيحاء رمزياّ فاعلا،في الدعاء بالسقيا والانبعاث لبيروت الضائعة، فتلك السقيا بدلالاتها ما هي إلا رمزاً ومعادلا للدعاء بالخلاص من الظلم والقمع.

وأخيراً أقول تشي نصوص سعد ياسين الشعرية بالقدرة على توليد الصور المبهرةوالمدهشة وغوص بالمعنى، يجعلنا نحلقُ بفضاءات المدى الوجداني والروحي، مع إيقاعات داخلية مموسقة في نسق النص، لأنه رهين لحظته الشعرية .

ملاحظة: شجرة بيروت قصيدة نشرها الشاعر في مجموعته الشعرية شجر الأنبياء، ص ١١٠ والصادرة عن دار الينابيع للتوزيع والنشر، دمشق -٢٠١٢ وقد كتبها إبان الاعتداء الصهيوني الآثم على جنوب لبنان في تموز عام ٢٠٠٦.

***

أ. د. أناهيد الركابي

الجامعة المستنصرية

تعد القرية المهجورة مجموعة قصصية للقاص المغربي محمد الورداشي، صدرت عن دار ديوان العرب للنشر والتوزيع-مصر سنة 2020، وتقع المجموعة في مئة وعشرين صفحة من الحجم المتوسط، وجاءت مقسمة على عشر قصص، في مقدمتها القصة المعنونة ب" دموع السماء"، وفي خاتمتها القصة المعنونة ب"نحو ثورة جديدة" .

قراءة في العنوان:

يتكون العنوان من لفظتين هما القرية المهجورة، تشكلان، من الناحية التركيبية، مركبا وصفيا يضم موصوفا وصفة، أما دلاليا، فإن اللفظتين مؤشرتان على بنية دلالية كبرى تساعد القارئ على فهم دلالات المجموعة، إذ كلمة "القرية" دلالة على مكان جغرافي، وإن شئنا قلنا مكان الإنسان البدوي المعزول عن العالم الحضري، والذي له تقاليده وعاداته ونمط عيشه. أما الصفة "المهجورة"، فإنها لفظة تحيل على الترك والعزلة، لأن الهجرة أضحت السبيل الوحيد للبحث عن سبل عيش كريم، وتحقيق أهداف اجتماعية وثقافية، ورغبة في النجاة من الفقر والعوز، والسعي الحثيث إلى التحرر من ربقة التقاليد والأعراف البائدة التي تعيق حركة الإنسان البدوي في عالم ينزع نحو أساليب الحضارة وأنماط العيش الجديدة التي تفرضها، فضلا عن قيمها التي اكتسحت العالم المتمدن.

موضوعات المجموعة:

تضم المجموعة جملة موضوعات تزخر بها حياة الإنسان وجدليته مع واقعه المعيش، مثل: الفقر، البطالة، الحرمان، الجوع، الموت، الحنين، الجهل، المرض، الحب، الأحلام..إلخ، وكلها تصور لنا وقائع الذات الإنسانية الجريحة؛ إما بسبب الأزمات الاجتماعية والاقتصادية (البطالة، الفقر، الحرمان، الجوع...)، أو بسبب الحنين إلى قيم وذكريات ماضية، أو التشوف نحو مستقبل مغاير لماضي وحاضر الذات الإنسانية (الحب، الأحلام...).

الشخوص:

تعد الشخوص عنصرا بنائيا ضروريا لكل بناء سردي للأثر الأدبي؛ ذلك أنها حجر الأساس الذي ينجز الأحداث والأفعال داخل عالم الحكي، كما أن هذه الأحداث والأفعال تتبلور من خلال عنصر الشخوص. هكذا، نجد أن الشخوص، في المجموعة قيد القراءة، نوعان: شخوص ثانوية ليست لها أهمية كبيرة في تحريك أحداث القصص، وفي المقابل ثمة شخوص رئيسية تلائم زمان ومكان تبلور فعل الحكي، وتشغل دورا أساسا في بناء الأحداث. من هذه الشخوص: الشيخ عبد القادر المصون، المقدم، عمر، محمد..إلخ، ومن ثم تتضح لنا دقة الكاتب في اختيار شخوصه استجابة لأحداث القصة والقيم التي تنتجها أو تعيد إنتاجها بغية ترسيخها تارة، وتفكيكها ونقدها تارة أخرى.

مسار الأحداث:

يجري مسار الأحداث بشكل مستقيم من البداية إلى النهاية، وفق رغبة السارد في سرد الأحداث. وبهذا يبدو مسار الحكي في المجموعة خطا تصاعديا؛ إذ إن كل بداية تقود القارئ تجاه العقدة-المشكلة التي بدورها تحمل بذور النهاية.

الزمن في المجموعة:

وظف الكاتب أزمنة عدة في مجموعته، بحيث تخضع لصيرورة بناء الحدث في القصة، ونجد هنا جدلية الأزمنة من قبيل: الزمن الفيزيائي (الصباح المساء الصيف الخريف الفجر...)، والزمن التاريخي (التضحية بالنفس الفشل الثورة...)، ثم الزمن النفسي (الخوف، الانتظار، الشوق، الحيرة، الألم، الحزن، الخيبة...)، إذ إن هذا الزمن النفسي هو المهيمن في المجموعة؛ فالأحداث التي تقع فيه تصور الحالة النفسية لأهل القرية المهجورة التي تبعث الشفقة في نفسية القارئ، وتحمله على التعاطف مع شخوصها وما تعانيه من مصائر متشابكة ومعقدة .

الفضاء:

تحتوي المجموعة على العديد من الأمكنة، فهي تتعدد بتعدد أفعال الشخصيات، ما يجعل هذه الأمكنة تشكل فضاءين مختلفين في الأبعاد والدلالة. فالفضاء الأول هو القرية، ويضم (الأطلال، الودي، الجبل، الحقول، بساطة العيش، التعايش). وأما الفضاء الثاني فهو المدينة التي تحتوي على (البنايات، الشوارع، الحدائق…). فمن خلال هذين الفضاءين المتقابلين، استطاع الكاتب أن ينقل للقارئ تلك الاختلافات البنيوية والاجتماعية والقيمية بين القرية والمدينة. الشيء الذي جعل المدينة حاضنة لبعض القيم والسلوكات من قبيل: انحلال القيم الإنسانية وفقدها لجدواها باعتبارها وسيلة لخلق التماسك الاجتماعي والإنساني، وتوحيد سلوك الأفراد وتوجيهه نحو قيم وأهداف مشتركة، والهوة بين الفقراء والأغنياء، كما نجد، في المقابل، الوعي الشقي الثائر على العادات والتقاليد والمعتقدات البالية (ثورة عمر على العادات الظالمة).

الحوار:

إن المجموعة تضم نوعين من الحوار: حوار داخلي نفسي، الذي يدور بين الشخصية ونفسها مثل قصة "الثائر عمر"(هنا سأبني قصرا...)، وحوار خارجي يتم بين الشخصيات. فهذان النوعان من الحوار يضيئان الحالة النفسية والاجتماعية للشخوص، علاوة على الصراع ذي التجليات المتعددة الذي يحرك العلاقات بين الشخوص في حركة جدلية مستمرة من بداية المجموعة القصصية حتى نهايتها.

الوصف:

نجد أن الكاتب قد وظف الوصف بشكل ملحوظ في مجموعته، وهذا يعرب عن كونه يعلم جيدا شخصياته، ومنها يقدم صورة متكاملة ومعرفة حول حالها الاجتماعية والنفسية، كما عمد إلى توظيف أسلوب التشويق؛ إذ جعل بواسطته القارئ يتحمس لقراءة المجموعة القصصية حتى يبلغ النهاية دون ملل أو كلل.

ختاما

لا يسعنا إلا القول إن القرية المهجورة عمل قصصي بامتياز؛ لما تضمنه من مقومات سردية قصصية مختلفة، كما أن الكاتب اعتمد في حكي قصص مجموعته لغة سردية فصيحة، باستثناء حضور خافت لبعض التعابير الدارجة المغربية، وهذا جعل الأمر يسيرا على المتلقي في فهم المضمون، كما يوضح هذا حنكة الكاتب في جذب اهتمام القارئ. فالقرية المهجورة تجعل القارئ يتصور الأحداث كأنه يعيشها من خلال سطورها.

وتظل هذه القراءة البسيطة مجرد محاولة قد لا تستوفي المجموعة حقها، كما نأمل أن نقوم بقراءة أخرى لها في قادم الأيام.

***

محسن الورداشي -  متحصل على الإجازة في اللسانيات

هذه نسائم الشعر الاصيل في هذا الصباح الربيعي. قصيدة تحمل صياغة فنية ببراعة مدهشة ورؤية ورسالة تستلهم صميم موجودات التراث الحضاري والانساني والديني، وتطعيمها من حروف الحرير، لكي تكون السند الاساسي في رحلة هذه الرسالة في الارتقاء  الى العلى، وغايتها نقل الانسان من ضفة حالة الاختناق الى حالة أو ضفة آخرى واسعة ورحبة، يتنفس فيها الصعداء في النسائم الربيعية. أما صياغتها الفنية فمقوماتها خبز اللغة والبلاغة المتألقة الى القمة في الجمال والإغراء والغواية،، لتكون هديلاً  من النغم والإيقاع الموسيقي، الذي ينساب بعذوبة وشفافية كمياه الشلال مصاحبة بصدى الهديل النغمي. عند السماوي الكبير الشعر يغسل ويعجن بالماء الكوثر من رونقة الشعر الاصيل، يرتكز على مقومات الاستلهام ما نتج من براعة التراث الحضاري والانساني والديني، وبالتالي كل مقطع شعري هو سمفونية قائمة بذاتها، أو كل هديل شعري يحمل رسالة، ومجموع هذه الرسائل تصب في مرام واحد في غاية الاهمية وفي نسق متدرج، وصولا الى وضوح الرسالة الهادفة في صورتها المتكاملة الكاملة، من البداية من العنوان المعناطيسي الجذاب: الإفطار الاخير. يستلهم عينة ومرام المرادف في العشاء الاخير للسيد المسيح، حين جمع تلاميذه وغمس بيده ارغفة الخبز غمسها بالنبيذ في مأدبة العشاء الاخير وقال لهم: انطلقوا في رسالتكم فأنتم رسل المحبة والسلام، والسماوي الكبير ينطلق برحلته العشقية / الايروتيكية صباحاً ويشد رحاله في هذا المسير الطويل أو الرحلة الطويلة، لكي يرتوي من وحشية العطش الى الارتوى من ماء الكوثر، لكي يقطف ثمار الجنة، هذا الاستلهام المدهش بين الرسالتين، بين الخبز المغمس بالنبيذ، وبين الافطار الاخير، ليسد جوعه وعطشه الوحشي من اللثم:

مُـخَـرَّزًا بـالـعـطـشِ الـوحـشـيِّ لـلـكـوثـرِ..

والـجـوعِ لأشـهـى ثَـمَـرِ الـجـنَّـةِ..

هَـيَّـأتُ

قِـرى إفـطـاريَ الأخـيـرْ

هذا التمازج بين الرسالتين، رسالة  المحبة والسلام في الاولى، وفي الثانية رحلة العشق الايروتيكي في رحلة المسار والمسير الطويل، في الانطلاق الروحي، حتى الوصول الى فردوس اوروك، وهو المبتغى والمرتجى، لكي يبدل بالغربة الوطن، أو بمملكة الهديل، حتى لو كان في نفق السبعين، فأن معجزة الحب تعيده من جديد الى مرحلة الصبا. نحو السرير الوردي لكي يغفو:

وهـا أنـا

بـعـد دخـولـي نَـفَـقَ "الـسـبـعـيـنَ"

قـد عُـدتُ الـى صِـبـايْ

في هذه الرحلة نحو مملكة العشق الايروتيكي، يقوم بها رسولان هما، الهة الحب اينانا، ورمز البطولة والجسارة انكيدو:

يـشـدُّنـي حَـبـلٌ مـن الـضـوءِ الـى سـريـركِ الـوردِيِّ..

أغـفـو مُـطـبِـقـًا فـمـي عـلـى مـبـسَـمِـكِ الـنـديِّ..

أســتـيـقـظُ "أنـكـيـدو" جـديـدًا

أنـتِ "إيـنـانـايْ"

هذه مملكة الحب المبجلة، نشيدها هديل ونغم، وليس نشيدها (لاحت رؤوس الحرابِ / تلمع بين الروابي / هاكم وقود الشبابِ......) أو نشيد (احنه مشينا للحرب) اما رايتها فهي: ناي وربابة، وليس رايات حزبية وطائفية. وشرطتها تحمل الورود، وليس الرصاص أو القنابل الدخانية التي تخترق جماجم الشباب:

مـمـمـلـكـةً نَـشِــيـدُهـا الـهـديـلُ..

والـشـرطـةُ فـيـهـا تـحـمـلُ الـورودَ لا الـرّصاصَ..

والـرَّايـةُ يـاحـبـيـبـتـي: ربـابـةٌ

ونـايْ

مثلما في بيت الله المقدس (الكعبة) يطوف الحاج حول البيت سبعاً ويصلي صلاة الشكر. في المبتغى في رحلة العشق الايروتيكي، يطوف حول السرير الحريري ويصلي صلاة الشكر على سجّادة الشَّعر الحريري:

أطـوفُ حـولَ بـدرِكِ الـتـمـامِ ســـبـعـًـا..

وأُصَـلِّـيْ رُكـعَـتَـيْ شــكـرٍ

عـلـى سـجّـادةٍ مـن شَـعـرِكِ الـحـريـرِ..

أتـلـو مـا تُـيَـسِّـريـن مـن هـديـلِـكِ الـشـجـيِّ لـيْ..

فـمـا الـذي أرجـوهُ مـن لـذائـذِ الـدنـيـا؟

ومـا عـسـايْ؟

ليقطف ما يشاء من ثمار الجنة. التين والزيتون والرمان، في هالة انهار ضوئية والنجم في هالة البدر، والشوق المرهف والمتلهف يقوده الى سريرها الخمري (ها أنا هيئت لك، فأقطف من ثماري بما تشاء):

أقـودُ:

أنـهـاري الـى حُـقـولِـكِ الـضـوئـيَّـةِ الأشـجـارِ..

والـنـجـمَ الـى بـدرِكِ..

والـدَّلـوَ الـى بـئـرِكِ..

والـشـوقَ الـى خِـدرِكِ..

والأمـسَ الـى يـومِـكِ يـا:

أنـايْ

ولكن السؤال الأهم والاصعب، كيفية الوصول الى (ايثاكا) أو الى مملكة هديل العشق في فردوس اوروك، كيفية البلوغ. هل بدبابة غربية أو شرقية؟، أم  بسطوة (سليمان) أو عصا موسى التي شقت البحر؟:

لـسـتُ "سُــلـيـمـانَ"

فـكـيـفَ جـاءنـي بـعـرشِـكِ الـعـشـقُ؟

ولا "مـوسـى"

فـكـيـفَ ابـتـلـعَـتْ كـلَّ ثـعـابـيـنِ الـضـلالِ والأسـى.

عَـصـايْ؟

ليس بهذه الطرق الملتوية:

فأنا لـسـتُ "سُــلـيـمـانَ"

فـكـيـفَ جـاءنـي بـعـرشِـكِ الـعـشـقُ؟

ولا "مـوسـى"

فـكـيـفَ ابـتـلـعَـتْ كـلَّ ثـعـابـيـنِ الـضـلالِ والأسـى

عَـصـايْ؟

ليس بهذه الطرق الملتوية والماكرة، لقد انكشف الظاهر والمخفي ولم يعد التستر على العورة، كل الاشياء فضحت نفسها بنفسها، اصبحت رسل الضلال ثعابين، وانكسرت عصا موسى، اصبحت أفاعي سامة، وانما بإرادة وقوة الحب، بالحب تنتصر الحياة على كل الاشياء، بالحب يستقيم العدل، وليس للحياة إلا الحب والعشق. فهي رسالة خالدة تتجدد على الدوام.

ليس لي إلا ان اقول ايها السماوي: الشعر يتوج بك انت ايها الكبير.

***

جمعة عبدالله

 ......................................

يحيى السماوي: إفطاريَ الأخير

مُـخَـرَّزًا بـالـعـطـشِ الـوحـشـيِّ لـلـكـوثـرِ..

والـجـوعِ لأشـهـى ثَـمَـرِ الـجـنَّـةِ..

هَـيَّـأتُ

قِـرى إفـطـاريَ الأخـيـرْ:(1)

*

رغـيـفُ خـبـزٍ مـن طـحـيـنِ الـلـثـمِ

فـي صـحـنٍ مـن الـعـنـاقِ

فـي مـائـدةِ الـسـريـرْ

*

وكـأسُ زنـجـبـيـلَ مـن قـارورةٍ

نـمـيـرُهـا:

مـا تُـطـلِـقـيـن لـحـظـةَ امـتـزاجِ مـاءَيـنـا مـن

الـزفـيـرْ

*

إفـطـارُ مَـعـمـودٍ غـريـبِ الـقـلـبِ لا الـديـارِ

أضـنـاهُ الـسُّـرى

تـكـادُ عـيـنـاهُ مـن الأجـفـانِ تـسـتـجـيـرْ

*

يُـسـمِـنُ لـيْ روحـي(2)

ويُـغـنـيـنـي عـن الـجـوعِ إذا طـالَ بـيَ

الـمـسـيـرْ

*

فـي رحـلـتـي الـمـجـهـولـةِ

الـمـصـيـرْ

*

بـحـثـًا

عـن الـفـردوس فـي "أوروكَ"

يـا مـعـنـايْ

*

ومـا أضـعـتُ مـن فـصـولِ الـعـمـرِ

فـي مـنـفـايْ

*

سـأمْـسِـكُ الانَ عـن الـبـحـثِ

فـقـد وجـدتُ فـي إفـطـاريَ الأخـيـرِ

مُـبـتـغـايْ

*

حـبُّـكِ مـن أعـادَنـي إلـيَّ بـعـدَ غـربـةٍ

كـنـتُ بـهـا سِـوايْ

*

وهـا أنـا

بـعـد دخـولـي نَـفَـقَ "الـسـبـعـيـنَ"

قـد عُـدتُ الـى صِـبـايْ

*

أجـوبُ فـي بُـسـتـانِـكِ الـمُـمـتـدِّ

مـن بـدايـةِ الـدنـيـا

الـى آخـرِ مُـنـتـهـايْ:

*

أشـمُّ مـن نـخـيـلِـكِ الـطَّـلْـعَ ..(3)

ويَـسـتـثـيـرُنـي جُـمّـارُكِ الـبَـضُّ..

ويـسـتـفـزُّ تـنُّـورُكِ مـحـراثـي ..

وزهـرُ الـكَـرَزِ الـخـبـيءُ يـسـتـحِـثُّ مـا ادَّخـرتُ مـن جـمـري

ومـن نـدايْ

*

يـشـدُّنـي حَـبـلٌ مـن الـضـوءِ الـى سـريـركِ الـوردِيِّ..(4)

أغـفـو مُـطـبِـقـًا فـمـي عـلـى مـبـسَـمِـكِ الـنـديِّ ..

أســتـيـقـظُ "أنـكـيـدو" جـديـدًا

أنـتِ "إيـنـانـايْ"

*

مـن أيـن نـمـشـي فـالـدروبُ تـقـتـفـي ظِـلَّـكِ

أو خُـطـايْ

*

نُـطـرِّزُ الـصـحـراءَ بـالـواحـاتِ ..

والـغـدرانَ بـالـظـبـاءِ والـغـزلانِ..

نـبـنـي لـلـهـوى مـمـلـكـةً

يُـحـيـطُـهــا مـن جـهـةِ الـصّـبـاحِ سـاعـداكِ..

أمّـا جـهـةِ الـلـيـلِ فـسـاعـدايْ

*

مـمـمـلـكـةً نَـشِــيـدُهـا الـهـديـلُ ..

والـشـرطـةُ فـيـهـا تـحـمـلُ الـورودَ لا الـرّصاصَ..

والـرَّايـةُ يـاحـبـيـبـتـي: ربـابـةٌ

ونـايْ

*

تُـطـبِـقُ أجـفـانَـهـمـا عـلـيـكِ كـلَّ لـيـلـةٍ

عـيـنـايْ

*

أفـتـحُ أجـفـانـي عـلـى هُـدهُـدِكِ الـبـشـيـرِ بـالـهـدى وبـالـغـفـرانِ..

أتـلـو سُــوَرَ الـتـوبـةِ والإسـراءِ والـحـجِّ

فـيـغـدو ألـقًـا دُجـايْ

*

أطـوفُ حـولَ بـدرِكِ الـتـمـامِ ســـبـعـًـا ..

وأُصَـلِّـيْ رُكـعَـتَـيْ شــكـرٍ

عـلـى سـجّـادةٍ مـن شَـعـرِكِ الـحـريـرِ ..

أتـلـو مـا تُـيَـسِّـريـن مـن هـديـلِـكِ الـشـجـيِّ لـيْ ..

فـمـا الـذي أرجـوهُ مـن لـذائـذِ الـدنـيـا؟

ومـا عـسـايْ؟

*

تـقـطـفُ مـا تـشـاءُ مـن تـيـنٍ وزيـتـونٍ ورمّـانٍ

فـتـمـلآنِ سَــلَّـةَ الـمـنـى

يَـدايْ

*

أقـودُ:

أنـهـاري الـى حُـقـولِـكِ الـضـوئـيَّـةِ الأشـجـارِ..

والـنـجـمَ الـى بـدرِكِ..

والـدَّلـوَ الـى بـئـرِكِ..

والـشـوقَ الـى خِـدرِكِ..

والأمـسَ الـى يـومِـكِ يـا:

أنـايْ

*

لـسـتُ "سُــلـيـمـانَ"

فـكـيـفَ جـاءنـي بـعـرشِـكِ الـعـشـقُ؟

ولا "مـوسـى"

فـكـيـفَ ابـتـلـعَـتْ كـلَّ ثـعـابـيـنِ الـضـلالِ والأسـى

عَـصـايْ؟

***

يحيى السماوي

السماوة فجر الأربعاء 10/4/2024

..................

(1) القِرى ـ بكسر القاف: الطعام الذي يُقدم تكريما للضيف.

(2) إشارة الى قوله تعالى في سورة الغاشية: (لا يُسمن ولا يغني من جوع)

(3) الطلع: الثمر في وعائه كما في قوله تعالى: (والنخلَ باسقاتٍ لها طلعٌ نضيدٌ). والجُمّار / بضم الجيم وتضعيف الميم، جمع، واحدته جُمّارة: هو  قلب النخلة ويقع في قمّتها، له رائحة ذكية وطعم لذيذ.

(4) أنكيدو: من الشخصيات المحورية في ملحمة كلكامش، كان شبه وحش، يعيش مع الحيوانات في الغابة، ولكن الحبّ قد جعل منه إنسانا سويّا.. و إينانا: هي إلهة الحب والجمال والجنس والخصوبة والحرب والعدالة في ملحمة كلكامش.

في عالم يتسم بالتقلبات الدائمة والتحديات المستمرة، يبرز الشاعر المغربي الحسين العبويدي كصوت شعري يعكس العمق الإنساني والروابط المعقدة التي تُنسج بين الأفراد. في زمن يمكن أن يشعر فيه الأفراد بالعزلة وسط الضجيج الدائم والانقطاع التكنولوجي، تأتي قصائده لتعيد تعريف اللحظات البسيطة التي تُغني حياتنا اليومية، وتُبرز كيف يمكن للشعر أن يكون جسرًا يعبر به الإنسان نحو تفهم أعمق لذاته وللآخرين. القصيدة التي نحن بصدد تحليلها، تأخذنا في رحلة شعرية عبر الذكريات والصداقات، معيدةً تشكيل معاني الحياة اليومية واللحظات الثمينة التي نشترك فيها مع الآخرين. من خلال لغته الشاعرية الغنية وصوره البلاغية القوية، يكشف العبويدي عن الأبعاد العميقة للعلاقات الإنسانية وتأثيرها في تحملنا لصروف الدهر. القصيدة ليست مجرد تسجيل للأحداث، بل هي استكشاف للتفاعلات العميقة والتأثيرات المتبادلة بين الأصدقاء التي تُعطي الحياة قيمتها ومعناها. عبر استخدامه للمجاز والرمز، يُنظم العبويدي لوحات شعرية تفيض بالحساسية والدقة، مُظهرًا ببراعة كيف أن اللحظات اليومية - سواء كانت جميلة أو مؤلمة - تُسهم في نسج خيوط معقدة من الذاكرة والهوية. في هذه الرحلة الشعرية، يدعونا العبويدي لنغوص معه في أعماق النفس البشرية، لنستخلص منها دروسًا عن الصداقة، الحب، والتعاطف، التي تحمل بين طياتها القوة الكامنة في التغلب على الصعاب والمحن.

في هذا المقال، سنستكشف كيف يعالج العبويدي هذه الموضوعات بعمق وحساسية، مُقدمًا لنا نافذةً نطل منها على العالم الداخلي للإنسان وكيف يمكن للشعر أن يكون مرآة تعكس جمال وتعقيدات الحياة. في قصيدته، يستخدم الشاعر الحسين العبويدي مجموعة من المقارنات الشعرية التي تفتح آفاقًا جديدة لفهم العلاقات الإنسانية وأهميتها في تحقيق التوازن والرضا النفسي. من خلال تشبيه الأصدقاء بحبات الرمل ونجوم السماء، يُبرز الشاعر ليس فقط كثرتهم وأهميتهم، بل أيضًا يلمح إلى أن كل صديق يحمل خصائص فريدة تُسهم في تكوين شخصية الفرد، تمامًا كما تتفرد كل نجمة في السماء بلمعانها. هذه الصور البلاغية تعمل على مستويات متعددة؛ فهي تعكس الجمال والعظمة، وفي نفس الوقت تُظهر كيف يمكن لهذه العلاقات أن تملأ الفراغ الوجودي الذي قد يشعر به الفرد في لحظات من الوحدة أو الشك. العلاقات الإنسانية، كما يراها العبويدي، تُقدم الدعم والأمان، وتُعزز من قدرة الفرد على مواجهة التحديات اليومية.  الشاعر يُسلط الضوء أيضًا على الطقوس اليومية البسيطة مثل اللعب، تبادل القصص، وشرب الشاي، والتي تُعتبر من اللحظات الثمينة التي تُعمق الروابط الإنسانية. هذه اللحظات لا تُعتبر مجرد تسلية، بل هي جزء أساسي في بناء وتعزيز العلاقات. من خلال هذه التجمعات الصغيرة، يتم تبادل الأفكار والمشاعر والتجارب التي تُثري الفهم المتبادل وتُنمي الشعور بالانتماء. إضافة إلى ذلك، يُظهر العبويدي كيف أن هذه التجارب المشتركة تُعتبر مصدرًا للقوة والإلهام. الأصدقاء يُصبحون مثل المرايا التي تعكس أفضل ما فينا، وتساعدنا على رؤية أنفسنا بوضوح أكبر. هم أيضًا الشبكة الأمان التي تُمكننا من التعبير عن أحلامنا ومخاوفنا دون خوف من الحكم أو الرفض.

من خلال هذه القصيدة، يُبرهن العبويدي على أهمية الصداقة والذكريات في حياة الفرد، مؤكدًا على أن هذه العلاقات هي جوهر الحياة الإنسانية، وأن الشعر يمكن أن يكون وسيلة لاستكشاف وتقدير هذه العلاقات بعمق وحساسية أكبر.

تطور العلاقات الإنسانية في شعر العبويدي

مع تقدم القصيدة، يعمق الشاعر الحسين العبويدي استكشافه للعلاقات الإنسانية، مُبرزًا كيف تُشكل اللحظات المشتركة بين الأصدقاء نسيج هذه العلاقات. هذه اللحظات، سواء كانت تجمعات عفوية حول فنجان من الشاي أو جلسات مسائية لتبادل القصص، تعمل كلحظات حقيقية للتواصل والفهم المتبادل. الشاعر يوضح كيف أن الفرح والألم الذي يتشاركه الأصدقاء يُسهم في تعميق الروابط وتقوية الصداقات. خاصةً خلال التحديات والأزمات، تصبح هذه العلاقات مصدر دعم وقوة، حيث يستمد الأفراد القوة من بعضهم البعض في مواجهة المحن. في هذا السياق، يبرز العبويدي الأهمية الحيوية للصداقات في تحمل صروف الحياة. هذه اللحظات المشتركة تمثل أكثر من مجرد تجمعات اجتماعية؛ فهي تُعلمنا عن قيمة الصبر، التسامح، والدعم المتبادل. يُظهر الشاعر كيف يمكن للأصدقاء أن يساعدوا بعضهم البعض على تجاوز الخلافات والمحن، مما يُسهم في بناء ذكريات مشتركة تُثري العلاقة وتزيدها قوة ومتانة.

الصور الشعرية والأسلوب اللغوي

الشاعر العبويدي يتقن استخدام صور شعرية معبرة تعكس الدفء والقرب في العلاقات الإنسانية. استخدامه للشاي والقصص كرموز للتواصل والانسجام يُظهر كيف يمكن لهذه الأنشطة البسيطة أن تكون جسوراً للعبور نحو تفهم أعمق للآخر. كما أن إشاراته إلى الفضاء والرمل تُبرز الغموض والوسع، مما يُعزز الفكرة القائلة بأن الصداقات والذكريات تحمل تعقيدات وأبعادًا كبيرة كالكون نفسه. اللغة التي يستخدمها العبويدي تُعبر عن عمق عاطفي شديد، مُقدمة تأملات فلسفية حول الحياة والعلاقات الإنسانية. يُجيد الشاعر استخدام التناقضات والمفارقات، مما يُبرز التعقيدات في الحياة البشرية بطريقة تُحفز التفكير. هذه الأساليب اللغوية لا تُعزز فقط من جمال النص الشعري، بل تُعمق من قدرته على التأثير في القارئ ودفعه للتأمل في الطبيعة الحقيقية للعلاقات الإنسانية. من خلال هذا الأسلوب الغني والمُعبر، يدعونا العبويدي للنظر إلى الصداقة كعنصر أساسي في الحياة، وكقوة قادرة على تحويل التجارب الشخصية إلى روابط عميقة تحمل معاني أكبر من مجرد اللقاءات العابرة.

في ختام هذه الرحلة الشعرية مع الحسين العبويدي، نجد أنفسنا أمام فهم أعمق للطبيعة البشرية والروابط التي تشكل جوهر وجودنا. القصيدة التي تناولناها لا تمثل مجرد تأملات في الذكريات والصداقة، بل تعبير عن كيفية تأثير هذه العلاقات في تشكيل هوياتنا وإثراء تجاربنا الإنسانية. من خلال الصور الشعرية الدافئة والأسلوب اللغوي الغني، يكشف العبويدي عن القدرة الهائلة للشعر على توصيل الأحاسيس العميقة والمعقدة، مما يجعل القارئ يشعر بالتقارب مع الأبعاد الأكثر دقة في الحياة. الشعر، كما يُظهره العبويدي، هو أكثر من مجرد كلمات مكتوبة على صفحة؛ إنه نداء للقلب والروح، دعوة للتأمل في الأواصر التي تربطنا بالآخرين وكيفية تأثيرها في صياغة معاني حياتنا. في عالم يبدو أحياناً مفككاً ومنقسماً، يذكرنا شعر العبويدي بأهمية اللحظات البسيطة، تلك اللحظات المشتركة التي تبني جسور التفاهم والمحبة بين الناس. إذاً، بينما نطوي صفحات هذه القصيدة، نُدرك أن الصداقة والذكريات التي نتشاركها لا تعزز فقط من قوتنا الشخصية، بل تساهم في نسج نسيج مجتمعي أكثر ترابطاً وفهماً. هكذا يبقى الشعر، بألقه وقوته، وسيلة لا تنضب لاستكشاف الإنسانية والإحتفاء بالجمال الذي يُمكن أن ينشأ حتى من أدق التفاصيل في حياتنا اليومية.

***

زكية خيرهم

منظومة القيم إلى أين؟

شهد عالمنا خلال نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي مجموعة من التغيرات التي قلبت موازين العالم ومعها الأنظمة الاجتماعية، من خلال الاكتساح المهول للتكنولوجيا الحديثة وما رافقها من تغييرات في النظم الاجتماعية، فنحن نعيش زمنَ جيمس ويب (JAMES WEBB)، وعصر الذكاء الاصطناعي_ و من مظاهره برنامج شات جي بي تي ((CHAT GPT [1])_ وأصبحنا بموقع السّائل الحائر حيال مواضيع المجتمع والتاريخ والإنسان، في عالم سريع التحوّل والارتقاء من صورة إلى أخرى؛ عالم لا يمكن كبح جماحه في سيرورة التغيير، خاصة في صورته المتشكّلة بالزحف التقنيّ والتكنولوجيّ، حتّى غدونا نتحدّث عن أطروحات "نهاية التاريخ (THE END OF HISTORY)" و "ما بعد الإنسانية (TRANSHUMANISM)" و" المجتمع الرقمي (DIGITAL COMMUNITY)"  [2] ؛ ولقد صدقت نبوءة ستيف كوتش (Steve cutts) [3]حول مستقبل العلاقات الاجتماعية تحت ظل التكنولوجيا ونظرته التشاؤمية التي اعتقد الكثير وقتها أنها مبالغ فيها وتنزع نحو الخيال، غير أننا اليوم نعيش على وقع تداعيات اجتماعية خطيرة كانت لعهد قريب مجرد خيال خطه مخيال كوتس في فيلمه الشهير MAN) [4]).

وانضافت إلى معضلة التكنولوجيا ما يعيشه العالم اليوم من صراعات وحروب ونزاعات في شتى بقاع العالم، وأصبح معها العالم يئن جراء ويلات هذه الحروب، التي حولت العالم أو تكاد إلى يباب، فكان لزاما أن تعيش الإنسانية اليوم، صراعا قيميا واضحا زكاه التسويق لما اصطلح عليه اليوم ب «القيم العالمية"، التي أصّلت لها ثلاث قوى متداخلة ومتشابكة تصب مصالحها في معين واحد؛

أولها: الدول الكبرى التي تمتلك في يدها حصة الأسد من القوة والسلطة، ساعية إلى بسط سيطرتها على العالم تحت مسمى القيم العالمية التي تروج لها، بل وتتخذها مطية مشروعة لمزيد من الهيمنة والامبريالية الناعمة.

ثانيها: الشركات الاقتصادية المتغولة التي حاولت تسليع البشرية والدفع بها إلى نوع من السلوكيات المتجهة دوما نحو الإنتاج والاستهلاك بناء على مواثيق العولمة وما تفرضه من جشع.

ثالثها: مؤسسات الأمم المتحدة التي أصبحت هي الأخرى تفرض على العالم منظومات قيمية تخدم مصالح القوى السابقة وتستظل بظلالها، فتحولت بذلك موازين القوى في العالم بفضل ما تحقق لهذه المؤسسات الثلاث من انتعاش غير مسبوق على جميع الأصعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية.

فتسللت يدها فطاولت الجانب الفكري والثقافي وكذا السلوك الاجتماعي القيمي، إذ لا يمكن فصل الجانب الاجتماعي عن المجالات الأخرى التي غزتها التكنولوجيا كالصناعة والتجارة والسياسة وكذا منظومة التعليم والقيم، فقد امتزجت هذه الأخيرة مع مختلف التغيرات لتنذر بوضع كارثي لا يمكن تصوره، فتعرضت القيم الإنسانية إلى الكثير من الإقصاء والتهميش والنبذ، فلم تعد الدول تتمتع بذاك القدر الضروري من الخصوصية الفكرية والدينية والحضارية، ففتحت الباب على مصراعيه أمام اكتساح القيم العالمية أو ما اصطلح عليه ب"الشرعية الدولية" التي طالت فيما سبق الجانبين السياسي والعسكري، لتتخذ الحرب هذه المرة بعدا فكريا لتتسلل هيمنتها إلى ما يتعلق بالحقوق والحريات بما فيها حقوق الإنسان والمرأة والطفل ومفهوم الأسرة ومنظومة التعليم،  وباتت تبرز على السطح الفوضى الأخلاقية المستفحلة خاصة في وقتنا الحالي الذي عرف هزة اجتماعية أخلاقية تهدد منظومة القيم، ليستفحل الأمر أكثر فأكثر أمام فشل اجتماعي لمؤسسات التنشئة الاجتماعية خاصة مؤسستا الأسرة والتعليم وسط شلل تام لباقي المؤسسات، فبتنا ننتظر مستقبلا مجهولا وضبابيا  يزداد الأمر معه سوءًا، إذ نسجل غيابا تاما للوعي بخطورة هذه المستجدات ،وكذا غياب الوعي بالقيم الملائمة لخصوصياتنا الحضارية،  لذا فنحن نقول مع المفكر المغربي  المهدي المنجرة:  "أن يكون الانسان واعيا بقيمة القيم فتلك قيمة في حد ذاتها "[5] لذلك فلا عجب إن أصبح موضوع القيم من المواضيع التي استأثرت باهتمام الباحثين على تعدد مذاهبهم ومشاربهم الثقافية والأيديولوجية والفكرية ،خاصة وأنه موضوع يرتبط أساسا بفطرة الإنسان في تعدّده النفسي و الاجتماعي والثقافي، ولعلنا نركز بشيء من التفصيل في مقالتنا هاته على البعد الثقافي ، بالذات ما يرتبط بالشعر القيمي في  لامية العرب .

يتبع...

***

لطيفة أثر رحمة الله

......................

[1]  نقصد مقراب جيمس ويب الفضائي، الذي أطلق في 25 ديسمبر 2021، وهو مرصد فضائي طُوِّر بشكل مباشر من قِبل ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية الكندية سيمكن مجموعة واسعة من التحقيقات في مجاليّ علم الفلك وعلم الكون، بما في ذلك رصد بعض الأحداث والأجرام الفلكية الأكثر بُعدًا في الكون .

شات جي بي تي في أبسط تعاريفه نظام روبوتي اصطناعي للمحادثة يحاكي الذكاء البشري أُصدر لعامة الناس سنة 2022

[2] تمثل هذه الأطروحات الفكرية تتويجا لمرحلة إنسانية جديدة تغوّلت فيه التقنية مقتحمة هدوء البشرية، فارضةً نمط حياة جديد، خالقة ما يسمى بالإنسان "المعزَّز تقنيا" إزاء اقتراب نهاية الكائن البشري الكلاسيكي. ولعلّ الإنسانية، بهذا المعنى، انتقلت من السعي إلى الخلود في الأساطير الجلجامشية والثقافة الفرعونية، إلى البحث عن السوبرمان (الإنسان الخارق) في الفلسفة النتشوية، بالغةً شوط التماهي مع التقنية، أو ما عبّر عنه راي كير زويل (Ray Kurzweil) بالآلات الروحيّة في كتابه " عصر الآلات الروحية " (THE AGE OF SPIRITUAL MACHINES)، أو أر إيه بوكانان في كتابه " الآلة قوة وسلطة ".

[3] ستيف كوتس sterve cutts رسام بريطاني متخصص في الكاريكاتور والرسوم المتحركة وهو من أكثر رسامي الكاريكاتور وأفلام الصور المتحركة شهرة وأكثرهم شهرة في نقد الرأسمالية الجشعة، عمل عدة سنوات رساما في وكالة لندن للإبداع ضمن المشاريع الرقمية (ديجيتال) لمجموعة واسعة من العملاء بمن فيهم شركة غوغل وريبوك ونوكيا وسوني وتويوتا .

[4] يرصد فيلم MAN خلال ثلاث دقائق فقط وصفا مؤثرا عن تغير العالم في كرتنا الأرضية منذ وجد الإنسان عليها وكيف عاث فيها خرابا إلى اليوم الذي يحل عليها غرباء من الفضاء الخارجي فلا يجدون في الأرض سوى الخراب والدمارـ

[5] المهدي المنجرة: قيمة القيم، المركز الثقافي العربي الطبعة 2 مارس 2007 ص 14.

 

المجموعة القصصية "رقصة الغربان" لنور الدين خروب

يتشكل فسيفساء الكتابة من عوالم النص وعوالم موازية يختلف حضورها داخل بنية الكتابة النصية، الأثر وما يدل عليه، أو الحضور والغياب، مفهوم يتقاطع مع حوارية ميخائيل باختين وتناص جوليا كريستيفا، حيث يصبح الأثر الأدبي نسيج علاقات متعددة، وهي منطلقات تشكل تصورا منفتحا على النص في سياقاته المتعددة، الأمر الذي يجعل النص معطى لقراءات تأويلية لانهائية، ومن هذا المنطلق نسائل المجموعة القصصية "رقصة الغربان" لنور الدين خروب الصادرة عن دار بصمة للنشر والتوزيع، ط 1، 2024.

يقوم العالم القصصي لنور الدين خروب على مصادر مختلفة تؤثث عوالم قصصه، غير أن حضور البعد الاجتماعي الواقعي، يظل السمة المهيمنة على مجمل قصص "رقصة الغربان"، فالارتباط بمجتمع مليء بالتناقضات، جعل الكاتب يتوغل في بنيته لتعرية المسكوت عنه واللامفكر فيه من خلال أحداث تمزج بين الواقعية والرمزية في توليفة إبداعية تميز الخصائص الأسلوبية للكاتب في رسم معالم تجربته الإبداعية.

وإلى جانب البعد الاجتماعي الواقعي، يحضر البعد الفونتاستيكي بدرجة أقل، لاسيما في قصتي "البطل الذي.." و"البطلة التي.."، وهو ما يمنح المجموعة القصصية فرادتها، الفرادة التي استطاعت أن تشكل فسيفساء من النصوص بأبعاد مختلفة، وذات مقصدية أخلاقية سامية موجهة إلى المجتمع من أجل التغيير، نصوص أشبه بمرآة نرى فيها واقعنا القاتم والبشع، إنه تحقق لرغبات اللاشعور الجمعي الذي يحول هدف الرغبة الحقيقي إلى هدف أقل إيلاما عن طريق ميكانيزمات اللاوعي.

البعد الاجتماعي

يكشف البعد الاجتماعي في المجموعة القصصية "رقصة الغربان" عن تعلق الكاتب بواقع متفسخ أخلاقيا، وبيئة اجتماعية متناقضة لامفكر فيها أو مسكوت عنها، فلم يكن منه إلا أن حمل معول الإبداع لكسر تماثيل الذات الواهمة، والتي ليست سوى ذات القارئ، في قالب قصصي محكم البناء، ولغة سلسة ترسم مشاهد الأحداث بعناية فائقة كما في قصة "حب فوق الجسر" التي جاء فيها: "استيقظت أمي العالية قبل أن ينبلج ضوء الفجر ليوضح الألوان وراء أشجار الزيتون، با العربي ذهب للسوق رغبة منه في التخلص من شنبه مقابل ورقة نقدية خضراء، قالت أمي العالية أن ابن البيولي سيزيده أخرى إن فعل" ص: 6.

يغلف نور الدين خروب عوالمه القصصية بالرموز، با العربي الذي حلق شاربه مقابل مال البيولي، وانقلاب حياته رأسا على عقب بعد ذلك، هي في الحقيقة تأثر الكاتب بتأثير الاستعمار الفرنسي في المجتمع المغربي، الذي اشترى كرامة البسطاء بالمال، وفي معادلة إبداعية بسيطة، استطاع الكاتب بمماحكته اللغوية، ونسج الأحداث المعتمد على الثقافة والبيئة الاجتماعية، ربط الشارب بالكرامة، وهو في الواقع كناية عن الإنسان المهزوم الذي باع روحه/إنسانيته للشيطان، ولم يكن ذلك من أجل المعرفة كما فعل فاوست بل من أجل المال، وهو انتقاد مضمر أيضا للنظام الرأسمالي الذي حول كل شيء إلى سلعة قابلة للبيع والشراء، الكرامة/سلعة والأنفة/سلعة والحرية/سلعة، هذا التجزيء الذي يقود في النهاية إلى جعل الإنسان/سلعة، الاستعباد في ظل نظام كولونيالي رأسمالي ظل جاثما على صدور المستضعفين من المجتمع، والذين لا يملكون في هذه الحياة غير كرامتهم.

ويبلغ انتقاد سلوكات المجتمع أشده في قصة "فوضى أكتوبر"، حيث يظهر الكاتب بشكل جلي تفسخ العلاقات الاجتماعية، والانحلال الأخلاقي، في قالب إبداعي يشهد على براعة الكاتب في تحويل البشع القبيح إلى لغة الإبداع بالمعنى المطلق للكلمة، فها هو ينتقد العلاقات غير الشرعية التي تفشت في المجتمع على لسان السارد الذي ظل مترددا في سرد الأحداث، وهو يختبئ خلف ضمير المتكلم المفرد، حيث يبدي وجهة نظره في الحب، والتي تكشف عن أحداث كان السارد بؤرتها الدلالية: "الحب إذن هو تلك الفوضى العائمة في سرير أكتوبر دون احتساب عدد الأطفال المخنوقين في العوازل ومناديل الورق، الأطفال الذين يتسلقون شاحنات البلدية باكرا ويذهبون إلى الحمام قبل أن يأخذوا طريقهم إلى المدرسة وسط الأشجار ليقفوا في صف المطعم المدرسي في الثانية عشرة تماما. هل فكرت يوما كم من طفل وسيم أرسلناه إلى القمامة بدل أن نضع في يده شوكلاتة ونرسله إلى الروض" ص:12، أطفال القمامة هم أنفسهم أطفال الشوارع الذين يزداد عددهم بشكل مخيف، ألا يحق للضمير الفطن، والفطرة السليمة، أن تكتب الجرح إبداعا؟

يسلط نور الدين خروب الضوء على أحداثة هامشية، أو طابوهات يخشى الكل الحديث عنها، لاستفزازها الشعور الجمعي، لكن القالب القصصي خفف من وطئها، وكأننا أمام تطهير قصصي لكل ذات قارئة.

أما في قصة "خيانة تنزف دما" فقد مزج الكاتب بين البعدين الاجتماعي والرمزي في تشكيل عوالم هذه القصة، خيانة الأنثى التي أغلقت كل سبيل ممكن للعيش، الخيانة التي تجعل الحياة مستحيلة كما في نهاية القصة التي جاء فيها "حاولت الغزالة أن تنسب الآثار له غير أن المنديل المطروح فوق السرير لم يكن له، افتضح أمرها فاندفعت نحوه بقوة لتضمه إلى صدرها رغبة في الصفح لكنها غرست قرنيها في صدره سهوا. وبعد حين من البكاء، شعرت بحبه يطوق رأسها دما ويرسم الخيانة عند قدميها" ص: 29

يهيمن البعد الاجتماعي على البناء الدرامي لأحداث المجموعة القصصية، حيث ينتشر الفقر والخيانة والغدر والانحلال الأخلاقي... غير أن نور الدين خروب استطاع أن يحول كل هذه الأمراض الاجتماعية إلى قصص تغلفها الرمزية، أو المزج بين البعدين الاجتماعي والرمزي، وهي السمة التي تميز خصائص الكتابة الخروبية.

البعد الفونتاستيكي

إذا كان البعد الاجتماعي مهيمنا في نصوص المجموعة القصصية "رقصة الغربان" فإن البعد الفونتاستيكي لا يقل أهمية رغم تجلياته الواضحة في القصتين الأخيرتين فقط، ففي قصة "البطل الذي.." يعمد الكاتب إلى تقنية الكتابة داخل الكتابة، على منوال براندلو في رائعته "ست شخصيات تبحث عن مؤلف"، حيث يتوجه السارد إلى إحدى شخصياته الثائرة التي تريد تغيير مجرى الأحداث ضد رغبة الكاتب، الشخصية التي ترفض الانصياع للسارد في قتل إلهام، ومحاولة الشخصية إقناعه بالعدول عن هذا الفعل الشنيع، كما هو الأمر في المقطع التالي ص ص: 68 69

- قلت لك، عش ما أكتب فأنا الذي صنعتكما وزرعت في صدركما كل الأحاسيس. لقد طلبت منك أن تقتلها فاقتلها. فابستطاعتي تبرئتك وإبعاد التهمة عنك دون أن يقتفي شرطي أو شيطان أثر خطاك.

وبعد صمت أخذ يحوم في بياض الغرفة وهو يتمتم:

- أن تكون بطلا ليس بالضرورة أن تسفك دما. على سبيل المثال، اكتب أنها لا تطيق العالم من دوني سيحبك الناس وستتحدث الصحف عن كتاباتك. هذا أمر جيد

- فن الكتابة صنعة وأنا أعرف كيف أبدع، وما عليك سوى أن تعيش ما أكتب

- لا أستطيع ولن أستطيع قتل إلهام أفضل الانسحاب من هذه اللعبة، يؤسفني أن أعلن ذلك اللحظة. دعني أسافر لعلني ألقاها في مدينتها رغم أني أعرف بأن قلبها ينبض لغيري، هذا قراري ولست أدري لماذا خلقتني لتحسدني بعد فقرتين من الكتابة.

خلق هذه العوالم العجائبية لم يغير من روح الكتابة الخروبية، حيث يوجه مرة أخرى معوله بهذه التجربة للغدر، الفعل المذموم الذي تعرضت له الشخصية الرئيسية من طرف إلهام ليقوم بعدها بالانتحار، أو جعله السارد ينتحر بعد أن رفض قتلها انتقاما منه، هكذا يرسم نور الدين خروب عالما من الجنون القصصي بأسلوب مشوق ومثير.

وقد تتحكم الشخصيات في مجرى الأحداث كما وقع في قصة "البطلة التي.."، والتي جاء فيها: "خرجت من النص لوحدها وأبعدت عشيقها عن القصة والمستشفى، فعادت بين فقرتين تتحسس الورق إلى أن بلغت المطبخ فتحت قارورة الغاز قبل أن تلتحق بعشيقها من جديد، وبعد أن تجاوزا الفاصلة الرابعة في الفقرة الأخيرة، بلغ مسامعهما دوي انفجار اهتزت له باقي الفقرات" ص: 76.

لقد كان البعد الفونتاستيكي في المجموعة القصصية امتدادا للبعد الاجتماعي، حيث ظلت مقصدية معظم القصص محملة برسائل أخلاقية واجتماعية، كاشفة عن اللامفكر فيه والمسكوت عنه بلغة أقل إيلاما، وأقرب إلى الشعرية في التشبيهات والوصف والبناء، وهنا تكمن عبقرية الكاتب في تحويل الموضوع البسيط، من خلال تقنيات الكتابة القصصية، إلى عالم في منتهى الإبداع.

إن البناء السردي لهذا الفسيفساء القصصي يكشف عن كاتب تمكن من ترويض اللغة، والاعتناء برسم معالم الشخصيات الإشكالية التي تنخرط في أحداث اجتماعية وفونتاستيكية ورمزية، وخيال ينفتح على مرجعيات مختلفة يكشف عن تجربة غنية للكاتب نور الدين خروب في أولى باكورات أعماله بعد عشرين سنة أو أكثر من الكتابة.

***

عبيد لبروزيين

تجاوزت المجموعة القصصية " عدالة وطنجية" لسعيد يفلح العمراني مفهوم محاكاة الواقع إلى مفهوم الإبداع والتصوير الخلاق، إن المؤلف نقل واقعا شخصيا موجعا بلمسة فنية قد نجزم بأنه لا تخييل فيها، ولكنها مفعمة بالموضوعية والواقعية، والسخرية، وبأسلوب بلاغي يستحضر بقوة التورية، والطباق، والجناس، والتضمين، والمقابلة. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا بأن اقتران البلاغة بالأدب كان حاضرا في هذه المجموعة حيث تحققت صفة الأدبية كما سماها قديما البلاغي "أمين الخولي" ومن بعد "محمد أنقار" و"محمد مشبال".

لقد عبرت هذه القصص فيما أسميه ب'التطابق"، أو "التماهي" بين ذات المؤلف وذات القارئ، وغالبا ما يتحقق هذا التطابق في السير الذاتية، أو التخييل الذاتي التي تندرج ضمنه هذه المجموعة وإن كان غلاف الكتاب لم يشر إلى مكون التجنيس، لكن المؤلف وصفها بالباقة، و المجموعة وأكد أنها تمتح من الواقع.

وفي إطار مفهوم الحكاية الإطار، و الحكاية المثال نتساءل لماذا هذه القصص لم تعرف طريقها إلى القراء ؟ وهو سؤال عبر عنه القاص بقصة عنوانها "سَرْدين على الكتابة"، فبعدما استفسر صاحب المكتبة عن نسبة المبيعات؛ كان التذمر من الكتبي قبل المؤلف، حينها قرر "سعيد" أن يطعم قططا جائعة، مفترشا لهم ما حملت جيوب بذلته الأنيقة من مسودات ومشاريع علمية، وكأنه يقول بأن القراءة اندثرت أو تناثرت ، كما ستندثر هذه المسودات ، فلا داعي إذن للكتابة. هي قصة ساخرة معبرة. تشربت القطط أفكار سعيد، كما ستلتهم بعض شخصياته الطنجية المراكشية، إن ثيمة الأكل في القصتين، استطاعت أن تحول موضوع التبئير من جديته إلى سخريته، لأن الناظم الأساس في مجموع القصص هو التعبير عن مضاضة الواقع من خلال تجربة حياتية، يرتشف منها القراء أدبا وخبرة ومتعة.

عودة إلى السؤال أقول إني اكتشفت هذه المجموعة مرتين، الأولى سنة 2019, فلم أدر ما تختزنه، كانت موضوعة في رف بمصلحة داخل مديرية تطوان، والثانية عندما قدم لها الصديق الأستاذ د. محمد الفهري مؤخرا في لقاء علمي، لذلك ما يوجهني في هذا التحليل هو ما استمعت إليه في هذه الندوة العلمية، فاقتنصت منه زادي وأفكاري.

إذا شئنا استعارة كلمة "الطنجية" سأقول بأن المجموعة عبرت عن معناها، فكلاهما يضمان قصة؛ للطبخ وللكتابة، لكن لا نستشعر اللذة إلا بعد التذوق والقراءة. إن سعيدا قد زهد في تقديم مجموعته، على مستوى التجنيس وعلى مستوى الشكل، و الإخراج، والتعريف بها، كما أن مرجعياته الفكرية والإيديولوجية، وخرجاته الواضحة، والفاضحة في مواقع التواصل، تحكمت في مدى انتشار العمل. بعدما أهداني عمله هذا ووشاه بعبارات صادقة، لم يطلب مني قراءته، ولكني كبُرت فيه تقديره لي دائما، فجعلت الكتاب في مكان خاص كلما أحل به، أطالع القصة والقصتين، فاستحضرت، قولا (إن الأعمال الأدبية تنتظر شخصا ما ليأتي، ويعتقها من ماديتها وجمودها)، وعدت إلى مقدمة المجموعة فإذا بي أقرأ (تحياتي لكل القراء ولكل من امتدت يده إلى هذا المؤلف ولو على سبيل الاكتشاف قبل الارتشاف).

هذه العلاقة بالمتن الحكائي/ المبنى الحكائي تحدد ماسمته "السرديات" بالانطباع الأول، وهذه الانطباعات تتحكم في قراءة النص في إطار ما عرفه بالفاعلية البلاغية، وهي الحجة والسلطة عند الجاحظ، والتمييز بين الأدب الجيد والردئ عند ابن سلام الجمحي، وابن قتيبة والآمدي وأبي هلال العسكري...

إن الانطباع عرف مستويات مختلفة إزاء هذا العمل، ابتدأ بالكشف، ثم بالإنصات، وأخيرا بالقراءة. فتحقق الارتشاف، وبعده اللذة التي تحدث عنها رولان بارت في كتابة لذة النص.

***

د. عبد المجيب رحمون

 

تشير أغلب الإحصاءات، المعتمدة رسميًّا من جهات حكوميّة عربيّة، ومن جهات معتمدة دوليّة، مثل منظمة اليونسكو، الى أن العالم العربي يقف دائماً في ذيل قائمة الأمم القارئة للكتب، فوفقًا الى تقرير صادر عن منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة في شباط 2023، ينشر العالم العربي 1650 كتابًا سنويًا، في وقت ينشر فيه الولايات المتحدة الامريكية 85 ألف كتاب سنويًا.

وتتفوق إصدارات الكتب في الدول الأوروبية بشكل محزن على ما يقابلها في العالم العربي، الذي إذ يصدر فيه كتابان سنويا، ففي الوقت نفسه يصدر في اوروبا 100 كتاب. والتقرير نفسه يشير الى أن الطفل العربي يقرأ 7 دقائق سنويًا، بينما الطفل الأميركي يقرأ 6 دقائق يوميًا.

 وبعد ...؟

تعاني الثقافة، بشكل عام، في البلدان العربيّة، من انحدار مريع، مع تهدم البنى التحتية الاجتماعية والسياسية، في العديد من الدول العربيّة، واختفاء أهم المؤسسات المدنية الفاعلة وتشوه تركيب المجتمعات، بزوال الطبقة المتوسطة، وظهور طبقة طفيليّة ساعدت على انقسام المجتمعات العربية طائفيًّا وإغراقها في طقوس غيبيّة، ويترافق كل ذلك مع التدهور في الحياة الاقتصادية، لأغلب البلدان العربية، وعيش العديد منها على عوائد النفط فقط، وتحولها الى بلدان استهلاكية وغير منتجة لاي بضاعة.

في الجانب الآخر، نجد أنفسنا، في العديد من البلدان العربية، نقف أمام حقيقة مريعة، هي تحول غالبية العاملين في حقول الثقافة الى موظفين في الدولة، وغياب وتغييب لدور المثقفين العضويين، فيوفر الفرصة لبروز جمهرة من المتثاقفين و(المثقفين نص ردن) أصحاب ثقافة الوجبات السريعة، ونجوم مواقع التواصل الاجتماعي، مع غياب أطر ثقافية فاعلة قادرة على خلق نهضة ثقافية، واستمرار معاناة المثقفين الحقيقيين مع تسيّد الأنظمة القمعيّة وأذرعها البوليسية من مليشيات وأجهزة أمنية قمعية، التي تفرض قيودًا لا عد لها حول أي نشاط ثقافي يتعارض مع منطلقاتها المذهبية والايديولوجية، يترافق هذا مع انتشار الأميّة، وتدهور أوضاع التعليم، بل وانحداره في بعض من البلدان العربية، هكذا تحولت القنوات الفضائية، المتكاثرة مثل الفطر، الى المصدر الأهم للمواطن العربي، منها يتلقى المعلومات والأفكار، عبر ما تقدمه وتسمح به الأنظمة الحاكمة ومؤسساتها الرقابيّة، من برامج ومسلسلات تمثيليّة وأغان، تنشر الأفكار الظلاميّة والسطحيّة. هكذا أصبحت مصادر المعرفة بالنسبة للمواطن العربي محدودة، وصار يتلقى باستمرار جرعات من التفاهة عبر ما تقدمه له الفضائيات من مسلسلات تلفزيونية تسهم في تشكيل، وعيه وتربية ذوقه وقيمه.

في شهر رمضان المنصرم، تورطت ـ بالمعنى الكامل للكلمة!  وتابعت على مضض مسلسل (أولاد بديعة) من إنتاج شركة بنتا لينس، تأليف علي وجيه ويامن الحجلي وإخراج رشا شربتجي، وشارك في أداء أدواره نخبة من نجوم الدراما السورية. كنت أنشد بعض المتعة والمعرفة، فوجدت نفسي أخوض في مستنقع حكاية مفككة تجمّل القبح والجريمة والأفعال الشائنة وتحاول تقديمها خلف غطاء أسماء نخبة العاملين والنجوم من ممثلين وفنيين. ماذا أراد المسلسل أن يقول وأية رسالة؟ أي حكاية قدم؟.

غابت روح المنطق من كل الحكاية التي قدمها المسلسل، وسادت روح الثأر والانتقام التي سكنت قلوب أغلب الشخصيات، وجعلتهم يرتكبون سلسلة من الجرائم التي يقدمها المسلسل كأفعال مبررة وربما بطوليّة، ولأجل مط المسلسل الى ثلاثين حلقة، تم حشوه بكذا حكاية جانبيّة، رهلت أكثر من حكاية الأخوة الأعداء المتخاصمين حول الإرث والوجاهة والنسب.

يردد كبار السن، بأن (الكذب المصفط أفضل من الصدق المخربط)، ولكننا خلال ثلاثين حلقة، لم نجد لا كذبا مصفطا ولا خربطة صادقة.

طبّل منتجو العمل كثيرا، لاجل التسويق، في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، لما سموه بجرأة العمل، ولم أجد فيه كمشاهد أية أفكار جريئة تستحق التوقف عندها، ولا مشاهد فنيّة جريئة تستحق الإشادة، لم يكن هناك من (جرأة) سوى مشاهد كباريه عادية ترتدي فيه الراقصة سكر (الممثلة سلافة معمار) شورت رياضة تحت ملابس الرقص، فأين الجرأة؟.

لقد جمّل المسلسل بشكل فج الجرائم القبيحة والأعمال المشينة، التي ارتكبها أغلب شخصيات المسلسل، بل وتركهم من دون عقاب، وكما يبدو، ولأجل انتاج موسم ثانٍ، حاول ان يحول (أولاد بديعة) الى وطنيين بتعاونهم مع الأجهزة الأمنية وذلك بغدرهم بأحد شركائهم في الجرائم.

من المؤسف أن إمكانيات فنيّة وطاقات تمثيليّة، تهدر لإنتاج مسلسل بقصة مفبركة، إذ لا تخلو حلقة واحدة من حلقاته الثلاثين من أحداث مفتعلة وغير منطقيّة، وحيث تتطور الاحداث بشكل ملفق، مثل محاولة قتل أبو الهول (الممثل محمد حداقي) فإذ ينجو من المحاولة الاولى، بعد مشهد ساذج وذلك بفك عجلات سيارته التي سقطت في الوادي وتحولت الى خردة، ويتبين عدم موته!! ولأجل الخلاص من ابتزازه واسكاته تقرر الراقصة سكر وأخوها ياسين (الممثل يامن الحجلي) قتله على الطريق العام، السريع، بتفجير سيارته بعد رميها بالقنابل اليدويّة! وكأنَّ راكبي وسائقي السيارات المارة على الطريق السريع العام، في بلد عربي، مثل سوريا، مكفوفي البصر!!، فلم يلاحظوا تفجير السيارة ليتصل أحدهم بالسلطات المعنية، وتركوا أخوة بديعة بسهولة يأخذون جثة غريمهم لدفنها وتغييبها، وفق رغبة كاتب ومخرج العمل.

 الميزة الوحيدة لهذا المسلسل، أنه لا يمكنك توقع سير الاحداث وتطور الشخصيات، إنه يذكر بالمسلسلات الامريكية التي تنتج لذات الأهداف، تسطيح وعي المشاهد، وتسمى مسلسلات (ربات البيوت) حيث تكتب قصصها حسب رغبة المشاهدين والمتابعين، فتختفي منها شخصيات وتعشق وتتطلق وتتزوج شخصيات حسب طلبات ورغبات المشاهدين، وكأني بمسلسل (أولاد بديعة) تكتب حكايته خلال انتاج العمل، فالشخصيات تظهر وتختفي من دون مبررات مقنعة، تهبط وترتفع، تحب وتكره، تؤمن وتكفر، تعادي وتصالح، من دون منطق ومن دون مبررات كافية.

وستكون قمة السخرية والهزء بعقول الناس إذا تم انتاج موسم ثانٍ من هذا المسلسل، الذي يمجّد القبح ويجمّل الجريمة والشر وقدم للاسرة العربية، بحضور الكبار والأطفال، في الشهر الطهور، جرعة عالية من العنف، و... يا عزيزي القارئ، ليختر المواطن العربي ديكتاتوره المفضل ويرفع صورته في بيته، ولا تسأل لماذا يتم الاعجاب به من قبل آخرين كثيرين!، فهناك من يعمل على تجميل القبح والشر وتبرير التفاهة.

***

يوسف أبو الفوز 

(الى آخر الملكات) قصيدة للشاعر العراقي علاء سعود الدليمي. القصيدة مُفعَمةٌ بالمجازات والاستعارات البليغة، حيث يدور الشاعر مًلتفّاً على عشقه وإحساسه تجاه المحبوبة بعيداً عن غرائز الحبّ  بالتعلٌّق الحسيّ والتهيُّج العاطفي، والتعبير عن كلِّ ذلك بذكر المحاسن والانشداد الرغبوي والإثارة الحسيّة، من خلال تصوير الحالة الوجدانية عند الشاعر. لكننا نجده يتجه صوب الوجد الصوفيّ في الحبِّ الإلهي الذي يرفع العاشق الموجود الى منازل عليا من الوَلَهِ والذوبان في ذات المعشوق بوحدة اندماجية عاطفية روحية مقدسة، فيها رفعة للمعشوق وسموّ خارج إغراءات اللذات والرغائب التي تدنّسُ التعلّق الوجداني والتعالق الروحي، وحتى مخاطبة المعشوق حسيّا رغائبياً هو تعبير عن الامتزاج الروحي البريء، وهو ما يعبَّر عنه بالحلم، بمعنى ليس حقيقةً واقعية بل طيفاً من الأحلام، لشدّة التعلّق والوله والتشوّق للقاء المحبوب. وبما أنّ شاعرنا يعتبر الحبيبة آخر الملكات مجازاً، وذلك لبيان عمق وتجذُّر العاطفة الجيّاشة تجاه الحبيب. وعليه نجد الشاعر يعبر عن كلِّ ذلك ببيان مكانة المحبوب في روحه وقلبه، لدرجة أنها تأتي طيفاً في أحلامه بثياب البراءة والعفاف الطفوليين. حيث يصوّر لنا حلماً طفولياً ،وهما يغتسلان معاً (مع الحبيب) في النهر (الماء) وبثوب البراءة؛ للتطهّر من الخطايا - إنْ كانت لهما خطايا - كما في طقوس المندائيين، فقد جعل الله من الماء كلَّ شيء حيّ، كما ورد في القرآن الكريم. فالماء (النهر) ترميز للنظافة والتطهُّر والبراءة والحياة والنقاء، وهو ما يقوله في خاتمة القصيدة:

لـلسباحةِ في النهرِ

نغطسُ معًا برفقةِ ثيابِ البراءة

استعار الشاعر النهر اشارة الى الماء وجريانه (نقائه)؛ لأنّ الجريان يجرّ معه الشوائب العالقة، وينظّف الجسد، وكأنه هنا يشير الى التطهّر من الأدران العالقة بالنفس، لتصفو من الخطايا. كما أنه يرمي بذلك الى العفاف في العشق. فالعشق حلم إنسانيٌّ للسموّ بالنفس نحو مدارج العلا والوفاء والتقديس، فالحبُّ عاطفة مقدّسة مُطهّرة للنفس تجمعُ اثنين على سرير الحياة المشتركة، فقد خلق الله المرأة من ضلع لآدم، فهي عضو مكمّل له، وجزء منه لا ينفصل عنه. والشاعر يصف لنا مدى تعلّقه بالمحبوب لدرجة الذوبان معاً، كما يبيّن مدى وفائه في عاطفته، لأنّ الوفاء صفة المُطهَّرين من شوائب النفس الأمّارة بالسوء وبالإحساس والشهوات الآنية العابرة الزائلة. الوفاء هو غاية العشق للعاشق الصافي النيّة، المولّهِ حدَّ الذوبان والتوحّد بذات الحبيب:

خذي حرفي... قصيدتي

محبرتي بل خذي قلبي

لن يخفقَ لسواكِ

هذا العشقُ عشقٌ صوفيٌّ، يملأ أحلام العاشق، حيث تتعرّى مشاعره، فيكفر بأعراف القبيلة التي تقف حجر عثرة في طريقه السليم نحو الحبيبة، فهو طاهر النفس والوجدان نقيُّ السريرة، عفيف المشاعر الجيّاشة البريئة؛ لذا فالكشف عنها يأتي في طيات الأحلام كشفاً صوفيّاً عمّا يضطرب في قلبه وفي نفسه الموجودة:

في باحةِ الحلمِ

تتعرّى المشاعرُ

تكفرُ بعرفِ القبيلةِ

فالقبلةُ

ثورةُ إبتهالاتٍ صوفية

في الذوبان الروحيّ

عنوان النصّ الأدبي هو عتبة الدخول في عالمه - كما يقولون - لالتقاط مكامنه الخفيّة خلف الكلمات والصور والمجازات والاستعارات التي يعمل الشاعر على استخدامها للوصول الى غاياته في البوح عن التجربة الروحية التي عاناها، فيُلقي مرساها على شواطئ الكلمات، لتخلق نصّاً يوصل زورقه الى المتلقي كي يعتليه ويقوده قراءةً صوب ميناء مضمون القصيدة وصورها وبلاغتها، فيتجوّل بمنظار قراءته في زواياها كي يرى، فيلتقط الأحجار اللغوية الكريمة، واللوحات الفنية المرسومة بالحروف، والملوّنة بأصباغ البلاغة ببديعها وبيانها. وفي النظر الى عنوان القصيدة (الى آخر الملكات) نكتشف أنّ الشاعر علاء سعود الدليمي يقدّم لنا عتبةً ومدخلاً من ثلاث كلمات، لكنّها توصلنا الى مضمون النصّ ومكامن بوحه، إنّه يأخذ بأيدينا الى عالم الحبّ. فالتي يصوغ القصيدة من أجلها هي ملكة قلبه وروحه الموغلة في تلافيفهما، الى درجة الذوبان والغياب، لذا يعتبرها الملكة الأخيرة توريةً عن وفائه وإخلاصه وعميق عشقه، فلا ملكة عنده بعدها. نفتح بهذا العنوان بوابة النصّ لنلج في عالمه الواسع: مشاعر، وعواطف، وأحاسيس، وحلم، وعشق، وذوبان، وغياب، ونهر، واغتسال بثوب البراءة في النهر، وهي الصورة الأخيرة للنصّ وخاتمة القول الفصل (بيت القصيد). إنه بريء النفس، طاهر المشاعر، نقيّ السريرة، نفسه أمّارة بالصدق والبراءة والوفاء والعفاف والعذرية. فلماذا إذن أعراف القبيلة تقف جداراً عازلاً بينه وبين من يعشق بوله وهيام؟ إنها النهاية المختومة بختم العشق الصافي.

لقد ألبس الشاعر حبّه الشديد رداء الصوفية، وذلك كي يسمو به الى مراتب العشق الكبرى السامية، والى رقيّ وعمق مشاعره الصادقة والمتأجّجة، والباحثة عن كوّة تخرج منها الى الفضاء والهواء النقيّ الخالي منْ ذرات أتربة الأرض بما فيها من عوالق السوء.

***

عبد الستار نورعلي

...................................

نصُّ القصيدة: (إلى آخر الملكات)

لا غفوةَ لعاشقٍ

يمتطي صهوةَ حلمه

ينفثُ أشواقهُ قبلًا

على صدورِ الكلماتِ.

في باحةِ الحلمِ

تتعرى المشاعرُ

تكفرُ بعرفِ القبيلةِ

فالقبلةُ

ثورةُ إبتهالاتٍ صوفية

في الذوبان الروحيّ

في قطراتِ ثغرٍ عسلية.

يا آخر الملكات

خذي حرفي... قصيدتي

محبرتي بل خذي قلبي

لن يخفقَ لسواكِ

أعدكِ بالخنصر والبنصر

كما الأطفالُ.

كما القصبُ

يراقصُ ظلَّ الماءِ

تصيرهُ الأحزانُ نايًا

تأنسُ بهِ نفوسٌ أوهنها الغيابُ.

أما للطفولةِ من عودةٍ

لحلمةِ حياةٍ

أدمنها طفلٌ

يرتشفها أو يهلكُ

لـلسباحةِ في النهرِ

نغطسُ معًا برفقةِ ثيابِ البراءة.

***

علاء سعود الدليمي

أبو جعفر، حسّان الحديثي، صاحبُ هذه المقامات التي يسميها رحلات أدبية، أو (أدب رحلات)، لا يقصد بها الوصول إلى مدينة بعينها، مدينة قد تشبه مدينة )أين) الخيالية التي قضّى صديقنا ابنُ كركوك سركون بولص عمرَه القصير في البحث عنها دون أن يصل إليها. لأن ابنَ حديثة الذي يحمل في هاتفه وحقيبته خارطة الكرة الأرضية، يدور بها وحولها منذ عقود، كما تدور نواعير الفرات في مدينته الصغيرة، يريد أن يرتوي برؤية مدن العالم التي يذهب إليها للزيارة والتجارة، وبحثا عن السرّ المكنون في هذه المدينة أو تلك، دون أن يغادرها أو يغادر بعضها كللاً أو مللاً، ولا سأماً أو  ضجراً، وإنما اتباعا لما كان يراه شاعر لبنان بشارة الخوري، الذي يقول:

يشربُ  الكأس ذو الِحجا و ُيبِقّي

 ِلغـٍد في قرار ِة الكأس شيّا

وأنا أسمي ما يكتبه الحديثي (مقامات)، وليس رحلات، لأن هناك صلة قربى أراها تشدُّ الرحلات إلى صورة المقامات القديمة لغةً ومصطلحا يجمع بين الإقامة والمقام، ولا تختلف إلا في اختلاف مقتضيات العصر والزمان.

ولست أدري لماذا يأتي إلى الذاكرة راويةُ أبي القاسم الحريري البصري الحارثُ بن همّام كلما قرأت مقامة أو رحلة من رحلات أبي جعفر الحديثي، المنسوب عندي إلى عالم الحداثة في المغامرة والسفر والتعامل مع تجارة الحاسوب وملحقاته، وليس إلى حديثة الأنبار وحدها؛ أهو ما يجمع بين هذه المقامات العصرية وتلك التي أنشأها الحريري في بصرة القرن الهجري الخامس من متعة القص والحكي وتحقيق الغاية البيانية والبلاغية، وما تنطوي عليه كلتاهما من جد القول وهزله، ورقيق اللفظ وجزله، وغرر البيان ودرره، وملح الأدب والمشاهد ونوادرها؟! أم هو اسم الحارث بن همام، الذي نسب الحريري رواية هذه المقامات إليه، والذي يقول عنه ابنُ خلكان في وفيات الأعيان: إن الحريري قصد بهذا الاسم نفسَهُ، ونظر في ذلك إلى قول النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): «كلكم حارث وكلكم همام» فالحارث: الكاسب، والهمام كثير الاهتمام بأموره، وما من شخص إلا وهو حارث وهمام. وليس مثل أبي جعفر حسّان الحديثي حارثٌ وهمام، جمع في حياته بين الحسنين، ونجح في المهمتين، مهمة القلم والتجارة، اللتين لا يربطهما ربما شيء بما اختص به بطلُ الحريري أبو زيد السروجي من حرفة الكدية والشطارة، مع أن بطل المقامة الهمام هذا، الذي يحاول بكل طريقة كسب حياته بطريف الكلام، للفت الاهتمام، هو غير الراوية الحارث بن همام، ومن يقف وراءه، واضعُ المقامات أبو القاسم الحريري نفسه، الذي يحدثنا مترجمو حياته أنه كان من ذوي الغنى والمال، ولا علاقة له بالحاجة وذلّ السؤال.

ولو أتيح لنا أن نقلب الأدوار التاريخية ونجعل الحديثي حسان يعيش في بصرة القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي، الذي عاش فيه الحريري، لما وجد إذا أراد ممارسة الكتابة أو الرواية التي لا تخلو من متعة وغواية سبيلا إلى غير أبي زيد السروجي أو ما يشبهه ليجري الحوار معه، ويجعل مدار الحكاية حوله؛

ويمكننا كذلك أن نتخيل ما يفعله الحريري إذا وجد نفسه في بصرة القرن الخامس عشر الهجري - الحادي والعشرين الميلادي، فهو الآخر لا يكون حينئذٍ بعيدا عن صاحبنا الحديثي الذي تحولت راحلته في سيرها الهيذبى أو الخيزلى الصعب فيما يسميه (طريق القمر) إلى طائرة أو بساط ريح قادر على أن يحمله خلال يوم أو بعض يوم من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، وبالعكس.

ومن يقرأ مقالة االحديثي أو مقامته البصرية الأولى بين مقالات الكتاب ومقاماته، ويرى إلى الحوار الذي يجري بينه وبين صائد السمك البصري الذي كان يرمي سنارته إلى مياه شط العرب ليطعم السمك الساهر في مياه تلك الضفة لا ليصيده، ويعبر عن ذاته الجريحة بعد فراق زوجته بالغناء الحزين، ثم يقرأ مقامة الحريري (الحرامية)، ويرى إلى ما فيها من حوار بين الحارث بن همام وأبي زيد السروجي الذي كان شحاذا أريبا أديبًا ألقى خطبة بليغة في مسجد بني حرام، فيتبعه راوية الحريري الحارث الهمام ليعرف جلية أمره ويقف على سره، كما وقف الحديثي على سر ذاك الفتى البصري، سينتفي ربما عنده الزمن ويدرك، كما أدركتُ، صلة القربي هذه في البناء العام للنصين، وغرابة اللقاء في محتواهما، والعبرة التي يمكن الخروج بها من مثل هذه الصلة بين الأدباء الرحالة الغرباء.

وكم يمتعني أن أقرأ مثل هذا الكلام يقدم له أبو جعفر الحديثي وهو يروي قصته مع ذلك الشاب البصري، ناسيا أني أقرأ لصديق من الأصدقاء أعرفه من هذا العصر، وليس للحريري أبي القاسم في ذلك العصر يرويه، وهو يقدم للقاء راويه في مقاماته مع بطله أبي زيد السروجي:

"كنت أقيم في فندق شيراتون المطّل على شط العرب وقد كانت إحدى أمتع الاوقات عندي هو التمشي ليلاً بمحاذاة الماء في المسافة الواقعة بين تمثال السيّاب شمالا ومطعم شط العرب جنوبا. وفي ليلة من الليالي المقمرة وقد تأخر الوقت وأفلتت عيني النعاس فخرجت من الفندق وقد خلا رصيف الشط من الناس إّلا من اثنين؛ السيّاب حارس المعاني وفتى أسمر اللون هاديء القسمات لم يتجاوز عمره العقدين والنصف يجلس وحيدا مع سنارته المنغمسة في الماء ويرسل صوته الشجي بطور ريفي حزين مترنماً حد البكاء ببعض أبيات عروة بن الورد.."

وأقرأ بعد ذلك أو قبله مقدمة الحريري في مقامته الحرامية الثامنة والأربعين بين مقاماته:

"روى الحارث بن همام عن أبي زيد السّروجيّ قال: ما زلت مذ رحلت عنسي، وارتحلت عن عرسي وغرسي، أحنّ إلى عيان البصرة، حنين المظلوم إلى النّصرة، لما أجمع عليه أرباب الدّراية، وأصحاب الرّواية؛ من خصائص معالمها، وعلمائها، ومآثر مشاهدها وشهدائها، وأسأل الله أن يوطئني ثراها، لأفوز بمراها، وأن يمطيني قراها، لأفتري قراها. فلمّا أحلّنيها الحظّ، وسرح لي فيها اللّحظ، رأيت بها ما يملأ العين قرّة، ويسلي عن الأوطان كلّ غريب، فغلّست في بعض الأيام، حين نصل خضاب الظّلام، وهتف أبو المنذر بالنّوّام لأخطو في خططها، وأقضي الوطر من توسّطها، فأدّاني الاختراق في مسالكها، والانصلات في سككها، إلى محلّة موسومة بالاحترام، منسوبة إلى بني حرام، ذات مساجد مشهودة، وحياض مورودة، ومبان وثيقة، ومغان أنيقة، وخصائص أثيرة، ومزايا كثيرة."

لأرى أن ما يهم الاطلاع عليه في النصين أكثر من غيره، ليس الموضوعَ المنسوب إلى كل راوية من راويتيهما، بل هو الطريقة والأسلوب، والروح المستكشفة والباحثة عن المطلوب.

وهو دائما غامضٌ غيرُ ظاهر، ولا ينبغي أن ننخدع فيه بالمظاهر.

ومدينة حديثة التي خرج منها حسان الحديثي، وهو لا يحمل في رأسه غير الطموح بالذهاب بعيدا عنها والعودة إليها، ولا يحمل في خرجه البدوي غير حفنة من قصائد شعرية علّمها إياها، أخوه الكبير، وزرع في نفسه من خلالها حب الشعر وعشق الأدب والتراث العربي منذ أيام الصبا الباكرة، يسوح في أروقة ماضيه ولغته كما يسوح في شوارع مدن العالم وأسواقها الغريبة، تظل بعيدة نائية، قد يجيب إذا سئل عنها وعن أهله فيها بما يشبه ما أجاب به أبو تمام حينما سئل مرة عن مدينته وأهله:

في الشام أهلي وبغدادُ الهوى

وأنا   في الرقتين وفي الفسطاط إخواني

*

وما أظنُّ النوى ترضى بما  فعلت

حتى تبلّغني  أقصى  خراسان

وخرسان البعيدة هذه التي لا ترضى النوى بما فعلت بالشاعر الكبير حتى وصول راحلته إليها، مدينة واقعة في أقصى الشمال الإيراني. وكأنما هي في نأيها وصعوبة الوصول إليها آنئذٍ الرمزُ القديم لمدينة (أين) الخيالية، أو شنجن الصينية التي لابدّ من التفكير بالضياع لدى التفكير في الذهاب إليها، كما يقول الحديثي، الذي يمزج في رحلاته القريبة والبعيدة، كما قلنا، بين الزيارة والتجارة. فهي مدينة مفقودة مع وجودها على الخريطة ما دامت غير قادرة على الإمساك بزائرها، ليقيم أو يعيش فيها أكثر مما يتطلبه الظرف والحاجة. مع أن البحث عنها يبقى هو الهاجس الخفي عنده، مثلما كان لسلفه ابنِ كركوك، ولكل الرحالة القدماء والمعاصرين، الذين ما فتئوا يرددون قولة ابن زريق البغدادي في غربته الغريبة:

ما آبَ من سفر إلا وأزعجه

رأيٌ إلى سفر بالعزم يُزْمِعُهُ

نعم، فهو مثل هؤلاء، لا يكاد يعود إلى مدينته ومستقره اللندني الأليف هذه الأيام وهذه السنوات إلا وأزعجه الحنين إلى  مدنه الأخرى الموزعة على الخارطة في قارات العالم الخمس، بدءًا من مدينة القلب و(أم العراق) بغداد، التي يكتب في خاتمة رحلاته هذه الكلمات عنها:

"أعرف مدنَ الخيال كما أعرف مدن الواقع، غير أن بغداد هي المدينة التي تجمع الخيال بالواقع وسرُّها يكمن في كثرة المتكسرين على أعتابها، من العشاق حباً ومن الأوغاد عدوانا ً".

وانتهاءً بكل المدن التي زارها وسيزورها للسياحة والعمل، أو مجرد الفرجة والغزل.

وما يعشقه الحديثي في العادة ليس عماراتِ المدن وأحجارَها الإسمنتية الشاهقة، ولا مظاهر الحداثة فيها، لأنه من ذلك النوع من البشر الباحثين عن عراقة المدن وماضيها، لأننا والمدن، كما يقول "من أصل واحد كلانا من ماء عذب وطين لزب"!

وهو يجد نفسه "مسحوراً بحارات دمشق وأزقة بغداد وأحياء القاهرة وحجارة روما وبقايا أثينا، ولا أطيل المقام في سنغافورة وهونك كونك فالتأريخ مكتوب على حيطان المدن ورائحتُه مغموسة بتراب مماشيها وغبار أزقتها القديمة، ومدينة بلا نهٍر جارٍ وطين محروق وحجارة منحوتة، مدينة جامدةٌ وهياكل صامتة ومبان خرساء غريبة عنا نحن البشر".

وقبل أن يخرج المؤلف من بغداد ونخرج معه منها ومن العراق إلى مدن أخرى، لابد من التوقف معه عند بصرة السيّاب "مدينة النخل والمجاز" في الجنوب، وموصل أبي تمام أم الربيعين في الشمال. فهما عنده الطرفان للجسم الواحد، الذي تتوسطه مدينة القلب بغداد، يتردد بينهما ذهابا وإيابا كما يتردد النبض الخارج من شرايين القلب وأوردته.

وبعض الأوصاف التي يضفيها على مدينة مثل البصرة وهو يدخلها لا تختلف عن تلك التي اعتدنا أن نقرأها لدى الرحالة القدماء من الذين دخلوا المدينة قبله بقرون مثل ابن بطوطة..!

ولنقارن بين ما يقوله الحديثي عن المدينة هنا:

"هذه هي البصرة، ِسفرها ليس كالسفار، ولا شأنها كشأن باقي المدن والمصار، فهي ربيع دائم وكنز عائم، محفوفة بالخيرات من كل جانب فأرضها عطاء وأعلامها علماء، وأهلها وأن جارت عليهم الدهور والأزمنة، أهلُ جوٍد وكرٍم وسماحٍة وسخاء."

وما يقوله ابن بطوطة، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي في القرن الرابع عشر الميلادي عن المدينة نفسها:

"ومدينة البصرة إحدى أمهات العراق الشهيرة الذكر في الآفاق الفسيحة الأرجاء المونقة الأفناء، ذات البساتين الكثيرة والفواكه الأثيرة، توفر قسمها من النضارة والخصب... وأهل البصرة لهم مكارم أخلاق وإيناس للغريب وقيام بحقه، فلا يستوحش فيما بينهم غريب."

لنرى كيف أننا في مثل هذين النصين لا نحتاج إلى إجراء مناقلة زمنية نضع أحدهما مكان الآخر، لأنهما موحدان أو متشابهان فيما يقولان، كما لو كان كاتباهما واحدا لا اثنين.

والأمر ليس عائدا إلى نظر الأول الحديث إلى الثاني القديم، وإنما هي وحدة المشاعر والأحاسيس البشرية المدركة عند النظر إلى الموضوع الخاص بالمدينة العريقة وطبيعتها الجغرافية والزراعية، وتاريخها الثقافي والديني والعلمي المعروف لصاحبي النصين كليهما.

ولا يختلف الأمر في الموصل (مدينة الأنبياء) التي يقول لنا الحديثي في أول جملة تخطها يراعته عنها لدى دخوله إليها:

"غبْ عنها ما تشاء من الزمان ستجدها هي نفسها بتلك اللفة وتلقاها بكرمها الذي يلفت النتباه وقد حف أهلوها ضيوفها بكل سماحٍة يتسابقون فيسبقون أنفسهم لخدمة هذا ولراحة ذاك وكأنهم خلية نحل، ستجدها هي ذاتها بجسورها التي تربط ال ُحسنين واللثغتين، بدجلتها الذي يحكي لك حكايات التاريخ والعصور".

ومن مدنه العراقية الثلاث هذه، التي يحجُّ إليها ويستوفي فروضَ العودة إليها وتجديد العهد معها المرّةَ بعد المرة، ينطلق صاحبُنا إلى مدنه الأخرى الواقعة على الطريق إلى القمر.

هذه المدن الموزعة على الخريطة بين آسيا، وأفريقيا وأوروبا وأمريكا، لا يكاد يستثني واحدة منها مهما بعدت ونأت دون أن يعقد العزم للذهاب إليها والوقوف على جلية الأمر فيها، ويسجل ملاحظاته عنها، إذا كان فيها من أسباب الجمال والإلفة ما يدعو النظر إليها للمعاينة والتثبت منها، مثل باريس مدينة النور، التي في كل ركن من أركانها "شعر وأدب وفي كل زاوية عاشق تعب ووراء كل عمود حبل حكاية يتأرجح بين حاضر الخير وماضي الشر بين واقع الترافة وغيب القهر".

وبراغ التي تشبه "اللحن الرقيق لقصيدة لم تُكتب بعدُ، وهي الخاطرةُ التي ما تزال تراود الخيال، واللوحةُ التي تحتاج الى الجرأة قبل الفرشاة والرسام".

وفلورنسا الإيطالية التي لا يملُّ المؤلفُ الرحالة من التجوال بين قصورها وكنائسها ومتاحفها ويرقب مندهشا أعمال فنانيها ويرى أن من الغريب "أن يضع الرسام حسابات رياضية دقيقة نحاول أن نفهمها الآن بصعوبة بالغة ونحن في عصر اختزلنا فيه علوم الفيزياء والرياضيات".

والمدهش أيضا أن "تضم تلك الرسوم والتصاميم فلسفة مخبوءة يعبر بها الفنان عن إنكاره او حبه او إيمانه أو رفضه لأشياء موجودة في لوحة أو منحوتة نتوهم حين نقف أمامها من ِمنا الجامد، ثم لننقلب حاسري الفكرة مكشوفي العيّ، كليلي العقل أمام عظمة الخلود وفلسفة الوجود".

ولا ننسى المدينة الإسبانية الجميلة أليكانتي التي لو كان للمدن وجوه، كما يقول، لأشرق وجه هذه المدينة لطفاً وجمالًا، ولو خلق الله للمدائن شفاهاً وألسنةً لتبسمت أليكانتي بوجوه الناس بل ولقالت شعراً عذباً يناسب روعتها وجمالها ويليق بحسنها وكمالها..!

وذلك لا يمنع من أن يرى في مدن أخرى مثل هونك كونك وتايبيه ما لا يسره ولا يرضيه، فالأولى المليئة بفنادقها الفاخرة وسياراتها الفارهة ومطاعمها الأنيقة ومراكز التسوق التي تضج بالحركة والضوء، تبقى عنده مدينة بائسة، "جعل منها الكونكريت أرضاً خالية من روح التاريخ مقطوعة النسب مع الماضي".

أما الثانية ف "جوّها رطب يكتم النفس وسماؤها معتمة تقبض الروح، وشعبها جامد وهواؤها فاسد وصباحها كئيب وليلها مريب والغريب فيها محضُ شقي غريب".

وهو في إدمانه على زيارة هذه المدن وتفحص قسمات وجوهها ووضع مبانيها وشوارعها وساكنيها والذين يتعامل معهم فيها، صار يرى أن "المدن كالنساء باختلاف السكنى والاطمئنان هذه تسكنك وتطمئن اليك، وأنت تسكن وتطمئن لتلك".. كما هو حاله مثلا مع زحلة اللبنانية التي سكنته، ولا أريد أن أختم كلامي عن الكتاب دون أن أضع هنا شيئا مما قاله فيها .

فهو، بحس الشاعر والأديب والرجل الأريب الذي يعشق الجمال مرتبطا بالتعبير عنه بالكلمات، لا يستطيع أن يرى وادي الجمال في بلدة مثلها دون أن يستذكر أحمد شوقي، وما قاله فيها:

شيّعتُ أحلامي بقلبٍ بــــــا ِك

ولممتُ من دربِ الملاحِ شباكي

*

ورجعتُ أدراج الشباب ووردِه

أمشي مكانهما  على  الاشواكِ

وهو يقول لنا إنه منذُ أن قرأ هذه الأبيات، ولثلاثة عقود مضت، وهو يتخيل زحلة ويرسم

لها صورا في عقله وقلبه، ويشعر أن أحمد شوقي قد أصابته نفثة من سحرها حين كتب لها هذه القصيدة الخالدة، "لكنه سحرٌ من نوع آخر يخترقُ حدود الزما ِن والمكان".

وربما جاز لنا القول بعد الفراغ من قراءة الكتاب إنه هو الآخر نوع من السحر الحلال، تعلق صورُه بالأفئدة والأسماع، ويلون بسحر أدبه المعدي كلّ الصفحات التي كتبت بها الرحلات بيد فنان صناع، اخترق حدود المألوف في إنشاء الكلمات، ورسم تلك اللوحات.

***

الدكتور ضياء خضير

تشير الطائفية في الأدب الإنجليزي إلى تمثيل واستكشاف الانقسامات الدينية أو السياسية أو الثقافية داخل الأعمال الأدبية. لقد كان هذا الموضوع سائدا خلال فترات مختلفة من الأدب الإنجليزي، حيث اعتمد العديد من المؤلفين على تجاربهم ووجهات نظرهم الخاصة لمعالجة القضايا المتعلقة بالطائفية. في هذا المقال، سوف نتعمق في السياق التاريخي للطائفية في الأدب الإنجليزي، وندرس الشخصيات الرئيسية التي ساهمت في هذا المجال، ونحلل تأثير الطائفية على الأعمال الأدبية، ونناقش التطورات المستقبلية المحتملة في هذا المجال.

السياق التاريخي:

للطائفية في الأدب الإنجليزي جذور عميقة في الصراعات الدينية والسياسية التي شكلت تاريخ إنجلترا. أدى الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر إلى انقسامات بين الكاثوليك والبروتستانت، وهو ما انعكس في الأعمال الأدبية في ذلك الوقت. على سبيل المثال، تستكشف مسرحية ويليام شكسبير "روميو وجولييت" العواقب المأساوية للعنف الطائفي بين عائلتين متحاربتين.

خلال الحرب الأهلية الإنجليزية في القرن السابع عشر، تفاقمت التوترات الطائفية، مما أدى إلى موجة من الكتابات السياسية والدينية التي عكست المجتمع المنقسم في ذلك الوقت. تعد قصيدة جون ميلتون الملحمية "الفردوس المفقود" مثالا رئيسيا على العمل الذي يتصارع مع عواقب الخلاف الديني وسقوط البشرية.

الشخصيات الأدبية الرئيسية:

أحد الشخصيات الرئيسية في استكشاف الطائفية في الأدب الإنجليزي هو جوناثان سويفت، وهو كاتب أيرلندي معروف بأعماله الساخرة. في روايته "رحلات جاليفر"، ينتقد سويفت الانقسامات الدينية والسياسية والثقافية في عصره من خلال عدسة مغامرة خيالية. ولا يزال ذكاؤه الحاد وملاحظاته الثاقبة يتردد صداها لدى القراء اليوم.

ومن الشخصيات المؤثرة الأخرى جورج أورويل، الذي تستكشف روايته "مزرعة الحيوانات" بشكل مجازي صعود الشمولية ومخاطر الطائفية داخل الحركات السياسية. من خلال قصة حيوانات المزرعة التي تطيح بمضطهديها من البشر، يسلط أورويل الضوء على الفساد والصراع على السلطة الذي يمكن أن ينشأ داخل المجموعات ذات الدافع الأيديولوجي.

أثر الطائفية في الأدب الإنجليزي:

كان لاستكشاف الطائفية في الأدب الإنجليزي تأثيرا عميقا على طريقة تفاعل القراء مع الاختلافات الثقافية والسياسية والدينية. ومن خلال تسليط الضوء على عواقب العنف الطائفي والتمييز والتعصب، شجع الكتاب القراء على التفكير في معتقداتهم وقيمهم. هذا الحوار لديه القدرة على تعزيز التعاطف والتفاهم، وفي نهاية المطاف، التغيير الاجتماعي.

ومن الأمثلة على تأثير الطائفية في الأدب الإنجليزي رواية سلمان رشدي "الآيات الشيطانية"، التي أثارت الجدل والنقاش حول حرية التعبير، والتسامح الديني، وديناميكيات السلطة بين الأديان المختلفة. لا يزال استكشاف الرواية للتوترات بين الإسلام والغرب موضوعا للمناقشة والتحليل.

التطورات المستقبلية:

للمضي قدما، من المحتمل أن تستمر الطائفية في كونها موضوعا بارزا في الأدب الإنجليزي حيث يتصارع الكتاب مع تعقيدات عالم معولم. وسوف توفر قضايا مثل الهجرة والعولمة والتطرف الديني أرضا خصبة للاستكشاف والتأمل. ومن خلال الاعتماد على أصوات ووجهات نظر متنوعة، ستتاح للكتاب الفرصة لتحدي الصور النمطية، وتفكيك الأحكام المسبقة، وتعزيز الاحترام والتفاهم المتبادلين.

في الختام، كانت الطائفية في الأدب الإنجليزي موضوعا غنيا ومتعدد الأوجه ألهم الكتاب للتعمق في تعقيدات الانقسامات الدينية والسياسية والثقافية. من خلال دراسة السياق التاريخي والشخصيات الرئيسية والتأثير والتطورات المستقبلية المحتملة المتعلقة بالطائفية في الأدب، يمكننا الحصول على تقدير أعمق لدور الأدب في تشكيل فهمنا للعالم من حولنا. ومن خلال التفكير المدروس والمشاركة مع وجهات نظر متنوعة، يمكن للكتاب والقراء على حد سواء المساهمة في مجتمع أكثر تسامحا و شمولا.

***

محمد عبد الكريم يوسف

..........................

المراجع:

- Shakespeare, William. (1597). Romeo and Juliet.

- Milton, John. (1667). Paradise Lost.

- Swift, Jonathan. (1726). Gulliver's Travels.

- Orwell, George. (1945). Animal Farm.

- Rushdie, Salman. (1988). The Satanic Verses.

 

وعملية طوفان الأقصى

بالأمس ذهبت لإحدى بناتي المتزوجات وهي" رضوه"، لآصلها في عيد الفطر، فأصرت وأنا معها أن نشاهد سويا أحدث نسخة جديدة من الأفلام الأمريكية التي صدرت خلال هذا العام، وكان هذا الفيلم بعنوان "النحال The Beekeepe ؛ وهو فيلم حركة وإثارة أمريكي قادم من إخراج ديفيد آير، وتأليف كيرت ويمر.. الفيلم من بطولة الممثل البريطاني جيسون ستاثام، وإيمي رافر لامبمان، وجوش هاتشرسون، وبوبي نادري، وميني درايفر، وفيليسيا رشاد، وجيريمي آيرونز. ومن المقرر أن يتم إصداره في دور العرض بواسطة أستوديوهات أمازون في 12 يناير 2024.

وحسب ما عرفته بعد مشاهدتي للفيلم أنه قد أثار حالة من الجدل الواسع بين محبي السينما الأمريكية، تسبب فيها بمجرد طرحه في دور العرض السينمائي خلال الشهور الماضية، وهو الأمر الذي دفع عشاق السينما الأمريكية للسؤال عن قصة وأبطال الفيلم الذي نال إعجاب الكثيرين.

واللافت في الفيلم -الذي أخرجه ديفيد آير- هو ذلك التشبيه الجديد من نوعه لدولة بحجم الولايات المتحدة الأميركية بخلية النحل، والتي يتم فيها بشكل سري تماما اختيار شخص واحد يتوجب عليه تطهير الخلية من أي تهديد داخلي تتعرض له الدولة حتى لو كان هذا التهديد هو رئيس الدولة نفسه.

  وهذا الفيلم حسب ما شاهدته وأرجو أن يتحملني القارئ في سرد تفاصيله من أنه كان يحكي عن منظمة سرية اسمها "الناحلين"، أو " مربي النحل"، والعاملين في تلك المنظمة على أعلى درجة من الكفاءة القتالية، إذ ينظر لأي منهم وكأنه يمثل جيش بأكمله، ويوجد شخص من تلك المنظمة، وهو بطل الفيلم، ويدعى " السيد كلاي"، وهو متقاعد في منطقة ريفية، حيث استأجر مكانا من سيدة مسنة، وهذه السيدة رئيسة جمعية خيرية، والمكان، وهذا المكان الذي يسكن فيه " كلاي" خصصه كمنحل، وهذه السيدة تعامله معاملة محترمة، وكأنها أمه، وقد دعته ذات يوم ليتناول معها  وجبة العشاء، فوافق كلاي .

  بعد ذلك رأينا تلك المرأة المسنة، وأثناء فتحها للكمبيوتر الخاص بها، جاءتها رسالة تحذيرية، والرسالة أخبرتها أن هادر الكمبيوتر الخاص بها، به مشاكل وأنه يوجد في متن تلك الرسالة رقم تليفون فيجب أن تتواصل من خلال هذا الرقم لحل مشاكل الهارد، فاتصلت به على الفور، خلال الفيلم اتضح أن هؤلاء الأشخاص الذين اتصلت بهم السيدة، تبين أنهم يمثلون شبكة عنكبوتية، حيث رد عليهم رئيسهم بنفسه، وتلك معها أمام صف الاحتيال وذلك كي يتعلموا منه طريقة النصب الصحيحة .

 حسب أحداث الفيلم رأينا السيدة تقول خلال تلك المكالمة بأنها قد أتتها رسالة تحذيرية بأن الهارد به مشكلة، فيرد عليها : "نعم، توجد مشكلة فعلا، ولهذا أٌرسل لكِ "تطبيق"، ثم تضغطين على كلمة "تحميل"، وبعد ذلك سوف تُحل مشكلة الهارد " . وبالفعل نفذت السيدة تعليماته بسذاجة ؛ سيما وأنه ليس لديها دراية عن عمليات النصب التي تتم من خلال الانترنت، فوثقت في كلامه، وفتحت التطبيق، فعرفت المنظمة أسرار حسابها البنكي، وهنا قال لها :" طالما أنك قد استخدمتي التطبيق الخاص بنا، فسأرسل لك خمسمائة دولار مكافأة، وفعلا أرسل لها المبلغ، ولكن بدلا من أن يرسل لها خمسمائة دولار، أرسل خمسين ألفا دولار، فأخبرها أنه أخطأ في التحويل فبدلا من تحويل خمسمائة دولار أرسل خمسين ألفا، وهنا قال لها : "من فضلك رجعي المبلغ، وإلا سأتضرر. فردت عليه : أنا لا يرضيني ذلك " .

وبالفعل أرجعت له الخمسين ألفا، ولكنها، كانت مضطرة بأن تكب الرقم السري لحسابها البنكي، وعقب الإرسال، فوجئت السيدة أن الكمبيوتر أنطفأ فجأة، وهنا تم سحب كل أموالها من السيرفر، وكان من ضمنهم حساب لجمعية خيرية كانت مسؤولة عنها وكان يوجد به حوالي أثنين مليون دولار، وعندما تم سحب المبلغ، عاد الكمبيوتر واشتغل مرة أخرى، ففوجئت أن كل الأرصدة الخاصة بها على السيرفر أضحت مشفرة، فانهارت السيدة وأخذت تبكي بحرقة، وعلى الجانب الآخر، رأينا الشخص الذي ابتزها قام بعمل حفلة مع فريق العمل الخاص به ليخبرهم بنجاح العملية الابتزازية على أحسن وجه لكونهم نصبوا عليها.

 من ناحية أخرى رأينا " كلاي" الذي عزمته السيدة على العشاء، ذهب ليعد برطمان من عسل النحل ليأخذه في عزومة العشاء، وعندما ذهب إلى بيتها، وجد أن مصباح بيتها منطفأ، وهنا يستغرب جدا، وهنا حاول أن يدخل بيتها كي يطمئن عليها، ولكن يفاجأ أن أبنتها " باركر" تأتي من خلفه للقبض عليه،واتضح من خلال مجريات الفيلم أن السيدة انتحرت عقب عملية الابتزاز الذي حدث لها، ثم اتضح أن "باركر"  تعمل في البوليس، بعد أن اعتقد أن كلاي قام بقتل أمها، حيث سألته : من أنت ؟، ولماذا جئت إلى هنا؟، وأخبرها بالحقيقة، ولكن لم تصدقه، والشرطة قبضت عليها، إلى أن تنتهي من تحرياتها، وترفع البصمات.

وبالفعل أكتشف "باركر" بعد تشريح الطب الشرعي لجثة أمها، أنها انتحرت، وأن كلاي ليس علاقة بقتلها، وأفرجوا عنه، وبعد ذلك قامت أينتها بفتح كمبيوتر أمها واكتشفت أن أمها قد وقعت أسيرة نصب عالية، ثم ذهبت أبنتها لكلاي لكي تعتذر له، وعزمته على فنجان شاي، وخلال ذلك أفهمته ما الذي حدث مع أمها ، وهنا غضب كلاي غضبا شديدا لما حدث، وأقسم لها أن ينتقم ممن فعل ذلك ؟ ؛ (سيما وأنها كانت تعامله مثل أمه كما قال كلاي في ثنايا حوادث الفيلم).

 وعقب عزومة الشاي ذهب كلاي إلى خلية النحل الخاصة به، وأخرج منها جهاز تواصل كان معه، فتواصل مع واحدة من معارفة في طاقم خلية النحالين، فطلب منها معرفة هوية الخلية التي قد أٌبتزت السيدة المنتحرة، وفي خلال أربع وعشرين ساعة أخبرته بمكانهم، وعلى الفور، أخذ جركنين بنزين، ولكن أمن الشركة، حاول أن يوقفه، ولكن كلاي ضربهم بكل بساطة علي طريقة أرنولد شوارزنيجر، وبعد ذلك دخل في حجرة الاستقبال فوجد فتاة،حيث قال لها : معي جركنين بنزين، وساحرق الشركة فورا، فلو سمحتي أخبري كل الموجودين بالمبني مغادرة المبني!، ثم صعد إلى الدور الذي يتواجد فيه صف النصابين الذين نصبوا على السيدة المنتحرة، وطلب من كل واحد منهم إغلاق سماعة التليفون، فرفض، ولكن كلاي شده من أنفه، وقال له : ألم أقل لك أغلق السماعة؟، ثم قام كلاي واحتك بشخص آخر وأخذ يبرحه ضربا بسماعة التليفون على رأسه إلى أن مات، وهنا طلب كلاي من الحاضرين المذعورين، أن يكرروا وراءه ما سيقوله :" أنا لن أسرق من شخص ضعيف ولا أحد محروم مرة أخري "، وطلب منهم أن يكرروا ذلك مرارا وتكرارا على مسامعه .

 وعقب ذلك قلم كلاي بصب جركنين البنزين على أجهزة الكمبيوتر التي أمامهم، ولكن حاولوا أن يمنعوه، ومعهم " جارنت" قائد عملية الابتزاز، ولكنهم لم يستطيعوا مقاومته، وهنا هرب " جارنت" بعد أن قطع أصابعه ليحتفظ بها،ثم تركه كلاي ليستكمل تفجير المبني، وتم ذلك بنجاح، وتستمر أحداث الفيلم، فنجد جارنت بعد أن هرب وجدناه يتصل برئيسه واسمه " هاتشر" يحكي لنا تفاصيل ما حدث له مع كلاي، ثم يسأل هاتشر : لماذا فعل ذلك ؟ .. فيقول له : لا أعرف السبب؟، وهنا يسأل " هاتشر " مسؤول الأمن الخاص به، والذي كان حسب أحداث الفيلم رئيس المخابرات الأمريكية المتقاعد لماذا فعل كلاي ذلك ؟، فأجابه بعد أن سأل عن هوية كلاي، فقال له : لا أستطيع أن أخدمك في ذلك ؟، وأعلم أن كلاي طالما وضع في حسبانه أن ينتقم منك فسيفعل!... لم يعبأ " هاتشر" بكلامه، وطلب من " جارنت" حسب أحداث الفيلم أن يؤجر له أحد قريب من خلية النحالين المرتزقة للتخلص من كلاي.

  على الجانب الآخر حسب أحداث الفيلم تذهب أبنة السيدة المنتحرة التي تعمل في البوليس إلى مكان الشركة المحروقة، لتعلم من زملائها في العمل أن أصحاب تلك الشركة لهم علاقة بالأفراد الذين نصبوا على أمها، وأن الذي قام بحرق الشركة لم يترك أي دليل، لأن الكاميرات اٌحترقت مع المبنى .

وتستمر أحداث الفيلم فنجد " جارنت" يأخذ معه مجموعة من المرتزقة ووصلوا إلى مكان كلاي، وذلك بعد أن تتبعوه، وهم في طريقهم إليه، فتحوا النار عليه ومروا مكان المنحل الذي يعيش فيه، انتقاما منهم، ولكنه أخذ يتتبعهم بعد ذلك، ودخل معهم المكان الذي كانوا فيه، وهم لا يدرون بذلك أن كلاي يقودهم لكمين، وهنا نجد حسب أحداث الفيلم ؛ حيث يصرخ جارنت، وهو ينادي على كلاي ويقول له "أظهر أيها الوغد "، ولكن كلاي لم يعبأ به، وأخذ يقتل كل واحد من مجموعة المرتزقة الذين معه بطرق مبتكرة، حتى أنه لم يتبقى سوي جارنت.

 والغريب أن كلاي لم يقتله ـ ولكن قام بتقطيع أصبعين من أصابع يده، ثم تركه وشأنه، فما كان على جارنت سوي الهرب، وهنا رأينا حسب أحداث الفيلم أن جارنت وهو على الجسر أتصل برئيسه "هاتشر"، وأثناء وهو يتكلم معه في التليفونـ يظهر كلاي، واتضح أن كلاي تركه كي يصل إلى معرفة رئيسه، ثم قام كلاي وربط جارنت بحبل ، ثم ربط هذا الحبل بسيارته بعد أعطاها غيار لتسير وحدها بدون سائق، فنجد العربة وهي تسير بدون سائق قد تجاوزت الجسر ومعها جارنت، وهنا رأينا هاتشر (رئيسه) يسمع صراخ جارنت من التليفون، ثم رأينا بعد ذلك كلاي يمسك بالتليفون ويكلم هاتشر ويقول له :" سوف أجبئ إليك أيها الأحمق وأفتك بك فتكاً لا تأخذني به رحمة بك" .

  ثم رجع هاتشر عقب المكالمة وتكلم مع رئيس الأمن الخاص به، وهنا رأينا هذا الرئيس في مشهد ينظر في كمبيوتر وهو بتابع بعض المعلومات عن كلاي، فأدرك أن كلاي أحد المنتمين إلى منظمة الناحلين والذين إذا كُلف أحدهم بعمل انتقامي من شخص ما، فلابد من أن يصفيه ويقتله، ومن ثم لا يستطيع أحد أن يواجهه مهما بلغت قوته، ثم طلب هاتشر من رئيس الأمن ألا يقف متكوف الأيدي.

 ثم تستمر الأحداث حيث نجد هاتشر يستنجد بأمه، والتي تحتل منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية حسب أحداث الفيلم، وهنا تحاول أمة أن تستأجر أحد المرتزقة الذين يعملون في نفس منظمة النحالين والذي كان كلاي واحد منهم، وتستمر أحداث الفيلم فنجد كلاي كان في بنزيمة يفول سيارته، ثم تدور مشاجرة قوية بينه وبين تلك المرتزقة، حيث انتهت بقتل كلاي لهم جميعا على طريقة السينما الأمريكية من الكر والفر. 

ثم نجد  كلاي يقوم بتقطيع أصابع جارنت،  ثم يقوم بربطه بسيارة مفخخه كي يموت في مشهد مروع، وفي اليوم التالي تذهب باركر ( ابنة المنتحرة) إلى البنزيمة، وتدرك أن كلاي وراء هذا الضرب والحرق الذي حدث في البنزيمة، والغريب أن باركر تحاول أن تقبض عليه مع العلم أنه يفعل كل هذا انتقاما لثأر أمها، وعلى الجانب الآخر تستمر الأحداث فنجد رئيس الأمن يستعين بمرتزقة آخرين وعلى مستوى أعلى مما سبق للتخلص من كلاي، ولكن أيضا تفشل العملية مرة أخرى بعد كر وفر، إلى أن بقي مشهد رائع من كلاي وهو يضرب رئيسهم بضراوة كي يخبره بمكان هاتشر وأعلمه أنه ابن رئيسة أمريكا، ومن الصعب الوصول إليه، وتستمر الأحداث في الفيلم إلى أن يصل إليه في أحد المنتجعات ويقتله أمام أمه في مشهد دراماتيكي، ويهرب بعد ذلك من خلال بدلة غوص وينتهي الفيلم.

والشيء المثير في الفيلم هو كيف استطاع كلاي القضاء على عشرات المقاتلين من الحرس الرئاسي والمرتزقة ورجال عصابة المسلحين في أوضاع قتال فردية رغم وجودهم معا، كان يشبك مع الواحد منهم، فيما يشاهد الآخرون حتى ينتهي من زميلهم، ثم يأتي دور التالي ليقضي عليه، وهكذا ليتخذ الفيلم شكل لعبة فيديو بدلا من شكل فيلم سينمائي يحتاج إلى بعض المنطق في أحداثه، ليصل الأمر أحيانا إلى درجة السخافة، وهو الأمر الذي جعل البطل النحال يخرج في الفيلم على القوانين المعلنة والسرية التي تقف في طريق تحقيقه العدالة، وبدلا من محاكمة السيدة التي احتلت منصب الرئاسة الأميركية وابنها المجرم وتابعيه قتلهم جميعا باستثناء السيدة التي اعترفت بالحقيقة وقررت دفع الثمن.

وبصرف النظر في كون الفيلم يسلط الضوء على ظاهرة عمليات الاحتيال الإلكترونية، من خلال قصة "آدم كلاي" الذي يلعب دوره جيسون ستاثام، والذي يتقاعد من عمله كعميل سابق في منظمة سرية تعرف باسم "بيي كيبرز" أو "النحالين"، والتي تم إنشاؤها لحفظ النظام داخل البلد، ويتفرغ لعيش حياة هادئة وتربية النحل.

والمثير جدا جدا أنه عقب مشاهدتي للفيلم الذي أثارني، رجعت إلى منزلي، فرأيت في منامي وأنا أحلم بكلاي، وكأنه قد خرج منه أكثر من سبعين رجلا، وهم يعبرون السور الحدودي لتنفيذ حادث طوفان الأقصى الذي حدث في السابع من أكتوبر الماضي، وأخذت أتساءل: ماذا لو كانت الرؤيا أو الحلم الذي رأيته صحيحا؟، وأن الذين قاموا بعملية طوفان الأقصى من المرتزقة الأمريكان، فهل كان سيحدث ما حدث من تصفية أكثر من 34 ألف فلسطيني في مؤامرة لن يشهد التاريخ بمثلها!! ... أترك الإجابة لإشعار آخر وأٌلقي ذلك في عباءة القارئ !! .. وللحديث بقية..

***

د. محمود محمد علي – كاتب مصري

 

معين بسيسو الذي تسطّر حياته ملحمة فلسطينيّة تقدّم النموذج المُلزم الاقتداء به في تلاحم المبدع مع شعبه وقضيته تلاحما كاملا.

فمنذ صرخته الأولى عندما خرج إلى الحياة في العاشر من تشرين الأوّل عام 1927 التي نبّه بها إلى وجوده، بدأت ترتسم أمامه الطريق النضالية الصعبة الطويلة التي تنتظره. فوطنه فلسطين كان مرهونا في يد المستعمر الإنكليزي الذي يعمل بجدّ لتقديمه هديّه رخيصة لزعماء الحركة الصهيونية كي يقيموا فيه الوطن القومي. وأبناء شعبه تتلاعب بهم الأهواء والانقسامات. ويشقى السواد الأكبر من الشعب من الفقر والعوز وصعوبة تحصيل ما يضمن لقمة العيش.

فيكبر ابن حيّ الشجاعية وسط هذا الواقع المرير غاضبا صاخبا واضعا أمامه هدفا كبيرا لتغيير الواقع وتأمين المستقبل الأفضل لأهله أبناء شعبه.

ترك مدينة غزة ليدرس في القاهرة، وفي مصر تعرّف على المناضلين وانحاز إلى جانب القضايا الوطنية والجماهير المستضعفة، وتابع أخبار التحوّلات الكبيرة التي تجتاح العالم والأفكارَ الاشتراكية التي بدأت تنتشر وتجتذب عقول الشباب وتمنيهم بعالم آخر. فانضمّ إلى صفوف الحزب الشيوعي وكان نشيطا وترقّى في المراتب حتى تمّ انتخابُه أمينا عاما للحزب.

هذه النشاطات المتعدّدة أدّت إلى اعتقاله وإدخاله السجون في مصر لسنوات عديدة. لكنها سنوات صقلته كرجل قويّ يتحدّى كلّ الصعاب، ويتمسّك بأفكاره واختياراته وانحيازه إلى جانب الجماهير.

فالشاعر كما يراه بسيسو يُشبه مُتسلّق الجبال الذي يصعد ثمّ يسقط ويعاود الصعود حتى يصل إلى القمّة التي بعدها لن يكون هناك من راحة أو استقرار، وكأنّ قدره أن يبقى في حالة صعود مستمر.

معين بسيسو عاش النكبة وما تمخّضت عنه، وعانى كغيره رحلة التّيه الفلسطيني، وظلّت غزّة في دمه حيثما حلّ.

وكان لكلّ هذه التجارب والتحوّلات والمعاناة التي عاشها وشعبه أثرها على تفجير مَكامن الإبداع عند معين بسيسو فتدفّق الشعر الثوري الملتزم الذي قرأناه في مجموعته الشعريّة التي صدرت عام 1952 باسم "المعركة" وبرزت في قصائده ملامحُ التجديد والنُّضج والالتزام بآمال وآلام شعبه.

أنا إنْ سقطتُ فخُذْ مكاني يا رفيقي في الكفاحْ

واحملْ سلاحي لا يخفكَ دمي يسيلُ من السلاح

وهتف أيضا:

* فإذا سقطنا يا رفيقي في جحيم المعركة

فانظر تجد علما يُرفرفُ فوق نار المعركة

ما زال يحمله رفاقك يا رفيق المعركة.

 وكما يصفه الشاعر إيهاب بسيسو: معين شكّل حالة ثوريّة وشعريّة مميّزة. وقد قاد المظاهرات في غزة في منتصف الخمسينات لإسقاط مشروع توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء بعيدا عن الوطن.

وصرخ معلنا: "كتبوا مشروع سيناء بالحبر، وسنمحو مشروع سيناء بالدم".

ورغم الملاحقات والمطاردات التي عاشها لمواقفه السياسية واعتناقه للأفكار الشيوعيّة إلّا أنّه سارع لينضم إلى المناضلين في المقاومة المصرية والتصدّي لجنود العدوان الثلاثي على السويس في مصر عام 1956 وهو يُعلنها عاليا:

قد أقبلوا فلا مساومة

المجد للمقاومة.

كما وأصدر معين كتابه الوثائقي "دفاتر فلسطينيّة" الذي كتبه خلال فترة اعتقاله في السّجون المصرية، ووصف فيه ما يتعرّض له المعتقلون الفلسطينيون.

ملاحقة معين بسيسو من قبل أجهزة السلطات المصرية جعلته يعيش حياة القلق والمطاردة ومن ثم الارتحال ما بين العواصم المختلفة: القاهرة بيروت دمشق موسكو ليستقرّ عام 1970 في بيروت وبقي هناك حتى الحصار الأخير.

 وفي هذه السنوات تولّى الكثير من المهمّات النضالية في إطار المقاومة الفلسطينية. وانتخب عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني وعضو الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين. ورئس تحرير مجلة "اللوتس" وعمل في مجلة "فلسطين الثورة" ونال جائزة "اللوتس".

وظلّ معين في حماسه وتدفّق شاعريّته وسرعة التّوثّبِ واتّخاذ القرار الصحيح الذي تفرضُه عليه الأحداث. ففي عام 1982 كان يشارك في مؤتمر أدبي في طشقند. وعندما سمع ببدء العدوان الإسرائيلي على الثورة الفلسطينية والحركة الوطنيّة اللبنانيّة ولبنان، ترك المؤتمر وعاد سريعا إلى بيروت ليكون مع المقاتلين.

ولدي محمّد: في ظلي الدامي تمدّد

أو فوق ركبة أمك العطشى تمدّد

وإذا عطشتَ وجُعتَ فاصعَدْ

وتألّم معين وهو يشهد ويعيش الصمتَ العربي التّام أمام العدوان على لبنان واحتلال بيروت وموت الآلاف من الفلسطينيين، وآلمه أكثر صمتُ المثقفين والمبدعين العرب.

الصمتُ موت

قُلها ومتْ

فالقولُ ليس ما يقوله السلطانُ والأمير

وليس تلك الضحكةُ التي يبيعُها المُهرّجُ الكبيرُ للمهرّج الصّغير

فأنتَ إنْ نطقتَ مُتّ

وأنتَ إن سكتَّ متّ. قُلْها ومُتْ

وفي قصيدته الملحميّة "القصيدة" صرخ عاليا في وجه كل العرب:

هذا العشاءُ هو الأخيرُ

على موائدكم

فمنذُ الآنَ سوفَ أكونُ وجهي

لم تكنْ عذراءَ نخلتُكمْ

ولا عَذراءَ مَريَمُكُمْ

فلا بيضا صنائعُكُمْ

ولا خُضراً مَرابعُكُمْ

ولا سودا مواقِعُكُمْ

ولا حُمرا مواضيكُمْ

ألا تَبّتْ أياديكُم

وداعا يا ليالي الكَرنفالْ

إضافة إلى إبداعات معين في الشعر فقد كتب المسرحية، وأصدر العديد من المسرحيات التي عرضت معظمها على المسارح. كما كتب الأعمال النثريّة العديدة. ولكنّه ظلّ البارز والمتألّق في الشّعر الثوريّ النّضالي.

وقد آمن معين بسيسو كما يقول الكاتب محمود شقير بأهميّة الالتزام في الأدب، وبضرورة أن يكون الأدب مُلهما للجماهير ومعبّرا عن همومها وتطلّعاتها. ومن هنا جاءت فرادتُه وصدقُ انتمائه في زمن القَمع والاستبداد."

ويصفه محمود درويش بقوله:

معين بسيسو شاعر مليء بالمظاهرة والشوارع، مزدحم بهتاف مُتدفّق، يؤمن حتى التديّن بأنّ القصيدة قوّة حركة، قوّة حزب، قوّة قادرة على التّغيير الفوري.

ويقول الكاتب خيري منصور: "من الشائع نقديّا عن شعر معين بسيسو أنّه مباشر وسياسي بامتياز. كما أنه مؤدلج وهذا أيضا سبب لعزوف النّقد عن نصوصه في ثقافة ساد فيها كسل ذهني وصلت فيه النّميمة مكان النّقد".

ويُدافع الروائي رشاد أبو شاور عن مباشرة قصيدة معين بقوله "قد يُقال بأنّ هذا الشعر فيه مباشرة، وتحريض آنيّ، والحقّ أنّ تلك المباشرة حمَلتها مواهب أصيلة ذكيّة، عرَفت كيف تغوص في عُمق الحدَث، وتستخرج منه قيما إنسانيّة جوهريّة لا تموت مع الزمن.". فمعين بسيسو شاعر معركة واشتباك يحيا ويتألّق في الميدان، بين الناس في أتون المعركة".

يقول الناقد محيي الدين صبحي في دراسة له حول شعر معين: إنه يتبع أخشن طرق الأداء، ويركب أوعر أساليب التعبير، شاعريّتُه ينقصُها الصّقل، ولكن نقصان الصّقل ميّزة فنيّة متّسقة تسِمُ أعمالَه كلّها بسمة الخشونة وإفراط في المباشرة، والانحراف بالصورة عن إطاره الإنساني إلى شيء من التّوغّل الوحشيّ، كلّ هذه لمقصد سياسي.

يقول معين رأيَه في الشعر:

لجهنّم يا الكلمة ذات القرط وذات الخلخال

بالشاعر وربابته، بالموّال

وسيرة فرسان بني "عبس وهلال"

لجهنّم يا أوزان بحور الشعر العَلنيّة

ووقوفا في الصّف

صفّا واحد.. بالخوذة والسونكي.

ويقول معين:

علّمتني الزنزانة السّفرَ لمسافات بعيدة، وعلّمتني أيضا الكتابة لمسافات بعيدة، فالسّجين دائما يُسافر بيده في الماء، ويُحاول الكتابة بصوته".

الشعر عند معين بسيسو حالة حبّ عنيفة، يقوم فيها الشاعر بعمليّة بَعث جديدة للغة حتى تستطيع حمْلَ العالم، والدّفاع عن ذلك العالم أمام الذين يريدون سرقته".

كان معين بسيسو قد شارك محمود درويش في كتابة قصيدة "رسالة إلى جندي إسرائيلي" التي استقبلها البعض بالنقد اللاذع والرفض واعتبرها عز الدين المناصرة قصيدة ضعيفة كذلك لم تعجب رشاد أبو شاور وغيره.

ثنائيّة الموت / البعث راسخة في شعر معين بسيسو وكثيرا ما يعود إلى الميثولوجيا المسيحية "المسيح والصّلب".

يقول محمود درويش "كان معين يطرد فكرةَ الموت كما يطرد ذبابة، وكان يُمازحنا ويهدّدنا جميعا بالرّثاء، كان يكره الرثاء ويمقت المشهد الفلسطيني اليومي في طابور الموت".

وكأنّ معين رغم تظاهره برفضه للموت وعدم اكتراثه به أو الخوف منه، كان في لا وعيه يخاف أنْ يموتَ غريبا عن وطنه، بعيدا عن أصدقائه فكتب:

 أخاف أن أموتَ تحت عَلَم غريب

أخاف أن أموت تحت عَلَم أرفض

كلّ خيط فيه

يا إلهي الكبير، يا وطني.

*

على الغريب أن يموتَ فوق أرضه

عليه أن يموت في بداية الطريق

في نهاية الطريق

وليس في منتصف الطريق.     

وتكرّر خوفُه ممّا قد يحدث له بهمسِه في أذن بسّام أبو شرف الذي كان يسير إلى جانبه أثناء مشاركتهما في موكب جنازة بلقيس زوجة الشاعر نزار قباني نحو مَثواها الأخير في مقابر الشهداء في بيروت: لقد وجدَتْ أرضا تحتضُنها وأصدقاء يودّعونَها نحو مَثواها، هل سنجدُ أرضا تحتضننا وأصدقاء يودّعوننا؟

يروي محمود درويش كيف أنّ معين كاد يقتله مرتين: الأولى، عندما استلّ مسدّسَه ليحسمَ نقاشا مع قارئ خبيث قال له إنّ المحاصَرين في تل الزعتر محتاجون إلى الماء أكثر من حاجتهم للشعر. فمرّت الرصاصة فوق كتفي. المرة الثانية: حين وضع على باب غرفته في لندن شارة "رجاء عدَم الازعاج" لم يُزعجه أحد.. ليموت على مَهل، فنبّهني إلى أننا قد ننجو من القذائف لنقعَ في غدر القلب. لنموت بطريقة أزعجت خالدَ بن الوليد. ومنذ وضعَ تلك الاشارة نزعْتُها عن أبواب غُرَفي في كلّ الفنادق. أريدُ مَن يزعجني وأنا أموت. ثم ناداني كثيرا إلى أن انقضّ قلبي عليّ.

تألّم محمود درويش من رَفْض السّلطات الإسرائيلية السّماح بدَفْن جثمان معين بسيسو في غزّة، ومن تلكؤ السلطات المصرية مدّة أربعة أيام لتسمح بدفنه في مقبرة الأربعينات في القاهرة. وذهب به الخيال لحالته وكيف سيتعاملُ الآخرون معه، فكتب في رسالة أرسلها إلى سميح القاسم من باريس يوم (19.5.1986) يختتمها بهذه الكلمات الحارقة:

"قريبا؟ ست عشرةَ سنة! ست عشرةَ سنةً كافية لتَقْبَلَ بنيلوب وُدّ خطّابها وتلعن بحرَ إيجة. ستّ عشرة سنة كافية لأنْ تتحوّل الحشرات الصغيرة على جراح أيوب إلى طائرات نفّاثة. ستّ عشرة سنة تكفي لأصرخ: بدّي أعود. بدّي أعود. كافية لأتلاشى في الأغنية حتى النّصر أو القبر.

ولكن، أين قبري يا صديقي؟ أين قبري يا أخي؟ أينَ قبري؟"

ولكنّ محمود درويش يرتاح في قبره بين أبناء شعبه الذين حوّلوا قبره إلى مَزار يؤمّونه كلّما زاروا رام الله.

* ونُنهي بهذه القصة الجميلة التي يرويها محمود درويش ما حدث له ولمعين عندما تقدّمت منهما فتاة جميلة تحمل الورد على رصيف محطة القطار في تالين استونيا لتأخذَهما إلى الفندق. يقول محمود: بعد قليل اتّصل بي معين ليقول:

- نحن في وَرْطة وعلينا أنْ نغادرَ الفندق فورا، فتلك الفتاة استقبلتنا باعتبارنا راقصَيْن من كوبا! قلتُ له: لن نخرجَ إلى ثلج يبلغ ارتفاعُه مترين حتى لو كلّفنا ذلك أنْ نرقص. فلنرقص إذن. ما الفارق: راقصان من كوبا أو شاعران من فلسطين.

***

د. نبيه القاسم

لقد كان تصوير الحياة الجنسية والشهوانية موضوعا ثابتا في الأدب الإنجليزي، خاصة في نوع الرواية. لقد تطور استكشاف الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية على مر القرون، مما يعكس المواقف المجتمعية، والأعراف الثقافية، والتصورات المتغيرة للجنس. يهدف هذا المقال إلى الخوض في السياق التاريخي للإيروتيكية في الروايات الإنجليزية، ومناقشة الشخصيات الرئيسية في هذا النوع، وتحليل تأثير الإيروتيكية في الروايات الإنجليزية، وتحديد الأفراد المؤثرين الذين ساهموا بشكل كبير في هذا المجال.

تاريخيا، يمكن إرجاع تصوير الموضوعات المثيرة في الروايات الإنجليزية إلى القرن الثامن عشر، حيث قام مؤلفون مثل دانييل ديفو وصموئيل ريتشاردسون بدمج عناصر الشهوانية والرغبة في أعمالهم. أدى ظهور الرواية القوطية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر إلى زيادة حدود الإثارة الجنسية في الأدب، حيث استكشف كتاب مثل آن رادكليف وماثيو لويس موضوعات العاطفة والرغبة والجنس. و مع بزوغ فجر العصر الفيكتوري، أصبح تصوير الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية أكثر تقييدا وتنظيما بسبب القواعد الأخلاقية والاجتماعية السائدة في ذلك الوقت.

إن أحد الشخصيات الرئيسية في تطور الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية هو دي إتش لورانس، الذي تحدت أعماله مثل "عشيق السيدة تشاترلي" و"نساء عاشقات" المحرمات المجتمعية وقوانين الرقابة من خلال تصويرها الصريح للجنس. مهد استكشاف لورانس الجريء للإثارة الجنسية الطريق أمام كتاب المستقبل للتعمق أكثر في موضوعات الشهوانية والرغبة في أعمالهم.

هناك شخصية أخرى مؤثرة في عالم الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية هي أنيس نين، التي تجاوزت مذكراتها ورواياتها مثل "دلتا الزهرة" و"الطيور الصغيرة" حدود الأدب المثير من خلال تصويرها الصريح للتجارب والتخيلات الجنسية. كان لاستكشاف نين للجنس الأنثوي والرغبة تأثيرا دائما على هذا النوع، حيث ألهم أجيالا من الكتاب لاستكشاف موضوعات الشهوانية والحميمية في أعمالهم.

يمتد تأثير الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية إلى ما هو أبعد من مجرد قيمة الإثارة أو الصدمة. إن تصوير الحياة الجنسية والرغبة في الأدب هو بمثابة انعكاس للتجارب والعواطف والعلاقات الإنسانية. من خلال الخوض في موضوعات الشهوانية والحميمية، يمكن للكتاب استكشاف تعقيدات التفاعلات البشرية، والرغبات، ونقاط الضعف بطريقة عميقة وبصيرة.

ومع ذلك، فإن تصوير الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية واجه أيضا انتقادات وجدلا. حيث يجادل البعض بأن التصوير الصريح للجنس يمكن أن يكون غير مبرر أو مسيئا أو غير مناسب، بينما يعتقد البعض الآخر أن مثل هذه المواضيع ضرورية لتمثيل النطاق الكامل للتجارب الإنسانية. يستمر الجدل حول الإثارة الجنسية في الأدب في التطور، حيث يتصارع الكتاب والقراء على حد سواء مع مسائل الرقابة والأخلاق والحرية الفنية.

في الختام، فإن استكشاف الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية له تاريخ غني ومعقد، مع شخصيات رئيسية مثل دي إتش لورانس وأناييس نين الذين يشكلون هذا النوع من الأدب من خلال أعمالهم الجريئة والاستفزازية. يمتد تأثير الإثارة الجنسية في الأدب إلى ما هو أبعد من مجرد الدغدغة، حيث يعمل بمثابة انعكاس لرغبات الإنسان وعواطفه وعلاقاته. في حين أن تصوير الحياة الجنسية في الروايات يمكن أن يكون مثيرا للجدل، فإن استكشاف موضوعات الشهوانية والرغبة يستمر في أسر القراء والكتاب على حد سواء، مما يدفع حدود التعبير الأدبي. من المرجح أن يستمر مستقبل الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية في التطور، مما يعكس المواقف المتغيرة تجاه الجنس والجنس والهوية في المجتمع.

مع الحب

***

محمد عبد الكريم يوسف

 

في رواية دي إتش لورانس المثيرة للجدل، عشيق الليدي تشاترلي، يلعب موضوع القيم دورا مركزيا في تشكيل الشخصيات وعلاقاتهم. يستكشف لورانس الصدام بين القيم المجتمعية التقليدية والرغبات الشخصية، ويقدم نقدا للقيود التي تفرضها الطبقة والجنس والأخلاق. تتبع الرواية بطلة الرواية، السيدة كونستانس تشاترلي، وهي تتنقل في انجذابها إلى حارس الطرائد، أوليفر ميلورز، وتتصارع مع توقعات ومعايير حياتها من الطبقة العليا. من خلال شخصيتي السيدة تشاترلي وميلورز، يدرس لورانس التفاعل المعقد بين القيم الفردية والتوقعات المجتمعية. إن كفاح الليدي تشاترلي للتوفيق بين شوقها إلى الإنجاز والعاطفة مع قيود وضعها الاجتماعي يسلط الضوء على الصراع الداخلي الذي ينشأ عندما تتعارض القيم الشخصية مع الأعراف الخارجية. وبينما تتكشف أحداث الرواية، يتعمق لورانس في تعقيدات العلاقات الإنسانية والطرق التي تشكل بها القيم تصوراتنا عن أنفسنا والآخرين. تعد عشيق السيدة تشاترلي في نهاية المطاف بمثابة استكشاف مؤثر للصراع الدائم بين الإلتزام والأصالة، مما يتحدى القراء للنظر في الطبيعة الحقيقية لقيمهم ورغباتهم.

النقاط الرئيسية

1. يعكس تصوير القيم التقليدية مقابل القيم الحديثة في رواية عاشق الليدي تشاترلي استكشاف دي إتش لورانس للأعراف المجتمعية والرغبات الفردية.

2. إن طبيعة الصراع الداخلي لكونستانس تشاترلي بين التوقعات المجتمعية والإشباع الشخصي يسلط الضوء على أهمية البقاء صادقا مع قيم الفرد على  الرغم من الضغوط الخارجية.

3. يستخدم لورانس العلاقة بين كونستانس وميلورز لتوضيح أهمية الاتصال والثقة والأصالة  في دعم القيم في مواجهة الشدائد.

4. تتحدى الرواية المفاهيم التقليدية للأخلاق والإخلاص، مما يدفع القراء إلى التشكيك في صحة البنيات المجتمعية وتبني فهم أكثر شخصية ودقة  للقيم.

5. من خلال نقده للتصنيع، والاختلافات الطبقية، وأدوار الجنسين، يشجع لورنس القراء على إعادة تقييم قيمهم الخاصة والنظر في تأثير التأثيرات المجتمعية على المعتقدات والخيارات الشخصية.

التفاصيل:

1. يعكس تصوير القيم التقليدية مقابل القيم الحديثة في رواية عشيق الليدي تشاترلي استكشاف دي إتش لورانس للأعراف المجتمعية والرغبات الفردية.

عشيق الليدي تشاترلي هي رواية تتعمق في التفاعل المعقد بين القيم التقليدية والقيم الحديثة، وتسلط الضوء على التوتر بين الأعراف المجتمعية والرغبات الفردية. يعرض دي إتش لورانس ببراعة الصدام بين العالم القديم والعالم الجديد، ويدعو القراء إلى التشكيك في صحة العادات الراسخة في مواجهة الأوقات المتغيرة. طوال الرواية، يقدم لورانس تناقضا صارخا بين القيم التقليدية التي تدعمها شخصيات مثل السير كليفورد والقيم الحديثة التي تجسدها الليدي تشاترلي وميلورز. يمثل السير كليفورد، وهو نموذج للحرس القديم، الطبقة الأرستقراطية التي تقدر التقاليد واللياقة والرواقية فوق كل شيء آخر. إن التزامه بالتوقعات المجتمعية والقواعد الأخلاقية الصارمة يجعله في النهاية باردا وبعيدا ومنفصلا عن العالم من حوله. من ناحية أخرى، تقف الليدي تشاترلي وميلورز كتجسيدين للحداثة، حيث ترفضان قيود التقاليد وتحتضنان رغباتهما وعواطفهما. إن استيقاظ الليدي تشاترلي لاحتياجاتها ورغباتها الخاصة يتحدى المعايير الأبوية التي أملت سلوكها منذ فترة طويلة، مما دفعها إلى البحث عن الإنجاز خارج حدود زواجها. وعلى نحو مماثل، فإن ميلورز، حارس الطرائد الذي يتجنب توقعات المجتمع لصالح وجود أكثر بدائية وأصالة، يجسد رفض القيم التقليدية لصالح الاستقلال الشخصي. إن استكشاف لورانس للمشهد المتغير للقيم في عشيق السيدة تشاترلي هو بمثابة تعليق قوي على الطبيعة المتطورة للمجتمع والصراع الأبدي بين المطابقة والفردية. من خلال التوفيق بين الالتزام الصارم بالتقاليد والسعي الجامح لتحقيق الإنجاز الشخصي، يجبر لورانس القراء على مواجهة معتقداتهم الخاصة حول ما يعنيه أن يكون الشخص صادقا مع نفسه في عالم يتطلب غالبا الامتثال. بهذه الطريقة، تصبح عشيق الليدي تشاتيرلي أكثر من مجرد قصة حب؛ يصبح انعكاسا للتوتر الخالد بين التقاليد والتقدم والواجب والرغبة. إن تصوير لورنس الدقيق لهذه القيم المتضاربة يدعو القراء إلى النظر في الطرق التي تشكل بها المعايير المجتمعية حياتنا وأهمية البقاء صادقا مع الذات في مواجهة التوقعات المجتمعية. من خلال الرواية، يتحدانا لورانس للتشكيك في القيم التي تحكم حياتنا والبحث عن حقيقتنا، حتى لو كان ذلك يعني تحدي التقاليد.

2. إن طبيعة الصراع الداخلي لكونستانس تشاترلي بين التوقعات المجتمعية و الاشباع الشخصي يسلط الضوء على أهمية البقاء صادقا مع قيم الفرد على الرغم من الضغوط الخارجية.

في رواية دي إتش لورانس "عشيق السيدة تشاترلي"، تواجه شخصية كونستانس تشاترلي صراعا داخليا عميقا بين التوقعات المجتمعية والإشباع الشخصي. كعضو في الطبقة العليا، من المتوقع أن تلتزم كونستانس بمعايير سلوكية معينة وأن تلتزم بتوقعات طبقتها الاجتماعية. ومع ذلك، تجد نفسها غير راضية بشكل متزايد عن حياتها ومنفصلة عن زوجها السير كليفورد تشاترلي. يسلط الصراع الداخلي الذي تعيشه كونستانس الضوء على أهمية البقاء صادقا مع قيم الفرد على الرغم من الضغوط الخارجية. طوال الرواية، تتصارع كونستانس مع الرغبات المتضاربة للتوافق مع الأعراف المجتمعية واتباع رغباتها الخاصة. إنها ممزقة بين واجبها كزوجة وشوقها إلى حياة أكثر إشباعا وعاطفة. على الرغم من التوقعات المعلقة عليها، اختارت كونستانس في النهاية أن تتبع قلبها وتواصل العلاقة مع حارس الطرائد، ميلورز. ومن خلال اتخاذ هذا الاختيار، يوضح كونستانس أهمية البقاء صادقا مع قيم الفرد ورغباته، حتى في مواجهة الضغوط الخارجية. من خلال اختيار الإنجاز الشخصي على التوقعات المجتمعية، تجد كونستانس في النهاية السعادة والوفاء في علاقتها مع ميلورز. وهذا بمثابة تذكير قوي بأن البقاء صادقا مع نفسه أمر بالغ الأهمية، حتى عندما يواجه ضغطا مجتمعيا للامتثال. في الختام، فإن الصراع الداخلي لكونستانس تشاترلي في عاشق الليدي تشاترلي هو بمثابة توضيح مؤثر لأهمية البقاء صادقا مع قيم الفرد على الرغم من الضغوط الخارجية. من خلال اتباع رغباتها الخاصة واختيار الإنجاز الشخصي على التوقعات المجتمعية، تجد كونستانس في النهاية إحساسًا بالهدف والسعادة. وهذا بمثابة تذكير قوي للقراء بأهمية البقاء صادقا مع الذات، حتى في مواجهة الشدائد.

3. يستخدم لورانس العلاقة بين كونستانس وميلورز لتوضيح أهمية الاتصال والثقة والأصالة في دعم القيم في مواجهة الشدائد.

في رواية دي إتش لورانس عشيق السيدة تشاترلي، تعد العلاقة بين كونستانس وميلورز بمثابة توضيح قوي لأهمية الاتصال والثقة والأصالة في دعم القيم وسط الظروف الصعبة. بينما تتصارع كونستانس مع رغباتها في العلاقة الحميمة الجسدية والعاطفية، تجد العزاء والوفاء في علاقتها مع ميلورز، حارس الطرائد الذي يجسد إحساسا بالأصالة الخام والصدق المفقود في زواجها من السير كليفورد. يصور لورانس العلاقة بين كونستانس وميلورز على أنها علاقة مبنية على أساس الثقة والاحترام المتبادل والاتصال الحقيقي. على عكس تفاعلاتها السطحية والمنفصلة مع السير كليفورد، تنجذب كونستانس إلى أصالة ميلورز وشفافيته. من خلال محادثاتهما الحميمة ولقاءاتهما العاطفية، يشكل كونستانس وميلورز رابطة عاطفية عميقة تتجاوز الأعراف والتوقعات المجتمعية، مما يسمح لهما بالعثور على العزاء والوفاء في حضور بعضهما البعض. في مواجهة الشدائد والحكم المجتمعي، يظل كونستانس وميلورز ملتزمين بقيمهما ومعتقداتهما، ويرفضان التنازل عن ارتباطهما وأصالتهما من أجل المطابقة. على الرغم من العقبات التي يواجهونها، بما في ذلك الاختلافات الطبقية والازدراء العام، فإنهم يختارون إعطاء الأولوية لسلامتهم العاطفية وسعادتهم على المصادقة الخارجية. من خلال ثقتهم التي لا تتزعزع في بعضهم البعض وقدرتهم على البقاء صادقين مع أنفسهم، يُظهر كونستانس وميلورز المرونة والقوة التي يمكن العثور عليها في الحفاظ على الروابط والعلاقات الحقيقية. بشكل عام، يستخدم لورانس العلاقة بين كونستانس وميلورز لتسليط الضوء على أهمية الاتصال والثقة والأصالة في دعم القيم في مواجهة الشدائد. من خلال تصوير الرابطة بينهما كمصدر للقوة والوفاء، يؤكد لورانس على القوة التحويلية للاتصالات الحقيقية والشجاعة المطلوبة للبقاء صادقا مع نفسه في خضم الضغوط المجتمعية. من خلال كونستانس وميلورز، يدعو لورانس القراء إلى التفكير في أهمية الأصالة والثقة في الحفاظ على قيم الفرد ونزاهته، حتى في مواجهة التحديات والعقبات.

4. تتحدى الرواية المفاهيم التقليدية للأخلاق والإخلاص، مما يدفع القراء إلى التشكيك في صحة البنيات المجتمعية وتبني فهم أكثر شخصية ودقة للقيم.

في رواية "عشيق السيدة تشاترلي" للكاتب دي إتش لورانس، تتحدى الرواية المفاهيم التقليدية للأخلاق والإخلاص، مما يدفع القراء إلى التشكيك في صحة البنيات المجتمعية واحتضان فهم أكثر شخصية ودقة للقيم. تبدأ بطلة الرواية، الليدي كونستانس تشاترلي، في رحلة لاكتشاف الذات والتحرر مما يجبرها على مواجهة التوقعات الصارمة التي يفرضها عليها المجتمع. من خلال علاقتها مع حارس الطرائد، أوليفر ميلورز، تجد الليدي تشاترلي نفسها تتساءل عن مؤسسة الزواج والقيود التي تفرضها على السعادة الشخصية. يتحدى لورنس القراء لإعادة النظر في القيم التقليدية للإخلاص والأخلاق، ويحثهم على النظر في تعقيدات العلاقات الإنسانية وأهمية الإشباع العاطفي. تتحدى الرواية فكرة أن الأعراف المجتمعية يجب أن تملي علاقات الفرد ورغباته الشخصية. من خلال استكشاف الطبيعة المحرمة لعلاقة السيدة تشاترلي وميلورز، يدفع لورانس القراء إلى التشكيك في القواعد التعسفية التي تحكم الحب والحميمية. وبدلا من الالتزام الأعمى بالبنيات المجتمعية، تشجع الرواية القراء على تبني فهم أكثر فردية وأصالة للقيم. بهذه الطريقة، يعد "عشيق السيدة تشاترلي" بمثابة تعليق قوي على حدود الأخلاق التقليدية وضرورة التشكيك في الأعراف الاجتماعية. من خلال تحدي القراء للتفكير بشكل نقدي حول صحة البنيات المجتمعية، يدفعهم لورانس إلى النظر في أهمية الأصالة والوكالة الشخصية في تشكيل قيمهم ومعتقداتهم. من خلال رحلة الليدي تشاترلي، يتم تذكير القراء بالحاجة إلى صياغة طريقهم الخاص والعيش وفقا لبوصلتهم الأخلاقية الداخلية.

5. من خلال نقده للتصنيع، والاختلافات الطبقية، وأدوار الجنسين، يشجع لورنس القراء على إعادة تقييم قيمهم الخاصة والنظر في تأثير التأثيرات المجتمعية على المعتقدات والخيارات الشخصية.

في روايته "عشيق السيدة تشاترلي"، يتعمق دي إتش لورانس في العديد من القضايا المجتمعية، مثل التصنيع، والاختلافات الطبقية، وأدوار الجنسين، لتحفيز القراء على التفكير في قيمهم ومعتقداتهم. من خلال نقده لهذه المواضيع، يتحدى لورانس القراء لإعادة النظر في تأثير التأثيرات المجتمعية على الخيارات الشخصية ووجهات النظر. إن تصوير لورانس للتصنيع كقوة تجرد الأفراد من إنسانيتهم وتنفرهم من الطبيعة ومن بعضهم البعض يدعو إلى التشكيك في قيم التقدم والكفاءة التي غالبا ما يعطيها المجتمع الحديث الأولوية. إن مكننة منجم الفحم في الرواية لا تمثل التدهور المادي للمناظر الطبيعية فحسب، بل ترمز أيضا إلى فقدان الاتصال البشري والحميمية في عالم سريع التغير. يحث لورانس القراء على التساؤل عما إذا كان السعي وراء الثروة المادية والتقدم التكنولوجي يأتي على حساب إنسانيتنا وعلاقاتنا. علاوة على ذلك، فإن استكشاف لورانس للاختلافات الطبقية يسلط الضوء على ديناميكيات السلطة المعقدة التي تلعبها في المجتمع ويجبر القراء على مواجهة تحيزاتهم وافتراضاتهم حول الوضع الاجتماعي. تتحدى علاقة الحب المحرمة بين الليدي تشاترلي وحارس صيدها ميلورز المفاهيم التقليدية للحدود الطبقية وتكشف الطبيعة التعسفية للتسلسلات الهرمية المجتمعية. يحث لورنس القراء على التفكير فيما إذا كانت الفروق الصارمة بين الطبقات الاجتماعية تعكس حقا قيمة الأفراد وكرامتهم أم أنها تعمل فقط على دعم الأنظمة القمعية للامتياز والقهر. أخيرًا، يتساءل نقد لورانس لأدوار الجنسين عن التوقعات المحدودة والمحدودة الموضوعة على الرجال والنساء في المجتمع. من خلال شخصية السيدة تشاترلي، التي تتحدى المعايير الجنسانية التقليدية من خلال البحث عن الإنجاز والعاطفة خارج زواجها، يدعو لورانس القراء إلى التشكيك في الأدوار التقييدية المفروضة على الأفراد على أساس جنسهم. من خلال تصوير ميلورز كرجل حساس ومعبر عاطفيا على عكس السير كليفورد البارد و المنفصل، يتحدى لورانس الصور النمطية حول الذكورة والأنوثة ويشجع القراء على تبني فهم أكثر دقة و شمولا للطبيعة البشرية.

إن استكشاف لورانس للتصنيع، والاختلافات الطبقية، وأدوار الجنسين في "عشيق السيدة تشاترلي" بمثابة حافز قوي للقراء لإعادة تقييم قيمهم ومعتقداتهم في مواجهة الضغوط والتوقعات المجتمعية. من خلال التشكيك في تأثير التأثيرات الخارجية على الخيارات ووجهات النظر الشخصية، يدعو لورانس القراء إلى التأمل والنظر في الطرق التي يمكن أن تشكل بها المعايير المجتمعية أو تقيد بوصلتهم الأخلاقية. ومن خلال عملية التفكير والفحص الذاتي هذه، يمكن للقراء أن يبدأوا في صياغة طريق أكثر أصالة وذات معنى نحو تحقيق الشخصية والعدالة الاجتماعية.

وفي الختام، فإن رواية دي إتش لورانس "عشيق السيدة تشاترلي" هي بمثابة استكشاف مثير للتفكير لأهمية القيم في تشكيل السعادة الشخصية والوفاء. من خلال شخصيات كونستانس وميلورز، يتعمق لورانس في تعقيدات الأعراف المجتمعية والرغبات الشخصية، مما يتحدى القراء في نهاية المطاف للتفكير في معتقداتهم و أولوياتهم. و من خلال دراسة موضوعات الحب والعاطفة والأصالة، يسلط لورانس الضوء على القوة التحويلية للبقاء صادقا مع نفسه، حتى في مواجهة التوقعات المجتمعية. بينما نبحر في حياتنا، يذكرنا "عشيقة السيدة تشاترلي" بأن نأخذ في الاعتبار القيم التي توجه أفعالنا و قراراتنا، وأن نبقى واعين لكيفية تشكيل تصوراتنا الخاصة عن السعادة والنجاح.

***

محمد عبد الكريم يوسف

..........................

المراجع

Lady Chatterley's Lover , D H Lawrance

 

تنماز الحركة الشعرية النسوية المعاصرة بوفرة وغزارة في الإنتاج، وتنوع في الأغراض والموضوعات وتفاوت في الجزالة واللفظ، وقد خلقت هذه الكثرة نوعا من التنافس بين جماعات نون النسوة، تنافس نجح في بعض زواياه في تحريك راسب الطين في عموم حركة الشعر النسوية التاريخية، فنشطها وأعطاها زخما حركيا نافعا، وتسبب بعض منها في تأجيج خصومات وخلق عداوات بينهن، ولاسيما منهن اللواتي لم ينجحن في تخطي الخط الأخضر؛ الذي لا تصبح المرأة شاعرة إلا إذا اجتازته بلا عون من أحد، فتلك النسوة بقين محتفظات بمستوى واحد يقبل النزول ويأبى الصعود، ولكنهن لم يعترفن بالهزيمة، ولاسيما بعد أن فتحت شبكة الانترنيت لهن أبوابها، وفسحت المجال لهن كلهن لينطلقن في كل الاتجاهات دونما رقيب، وينشرن نتاجهن دونما تقييم أو تقويم. وإن كان لشبكة الانترنيت من حسنة تذكر فهي السماح لهن للاطلاع على نتاج بعضهن ولكنها لم تعلم الكثير منهن على فضيلة أن على المرء أن يعرف مقدار نفسه، مثلما سمحت لنا الشبكة الاطلاع على مجمل النتاج النسوي ومتابعته من واقع حيادي لا انحراف فيه.

الشيء الذي أعجبني في ساحة المنافسة التي يخضن نزالاتهن فيها أن بعضهن تصدرن السباق بشعر غاية في الروعة والجمال، واختيار المفردات، ونسق الصياغة، وجزالة الفكرة، ونمط التوصيف وتعدد الأغراض، والعمل المثقف، وبعضهن قصرن عن اللحاق بالركب، فبقين يراوحن في مكان قصي اخترنه ملاذا، وكأنهن يرفضن تطوير أنفسهم، أو لا يملكن عوامل قدرة التطوير التي تدفع بهن للأمام ولو بضع خطوات.

وكانت الشاعرة الدكتورة وجيهة السطل واحدة من اللواتي أجدن وابدعن، وحققن تقدما لا يجارى، ولهذا أسبابه، فهو ربما كان بسبب تخصصها العلمي، فهي تحمل درجة الدكتوراه في علوم اللغة العربية من جامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٦، وربما بسبب النشأة والمعاناة التي تعرضت لها، فهي فلسطينية الأصل من يافا، نشأت وترعرع، ودرست وتعلمت في سورية، وتحمل الجنسية المصرية. فتنوع جغرافية النشأة والمؤثر المجتمعي يزود المرء عادة بدفقات من مواريث مختلفة لكل منها خصوصيته ومواطن جذبه.

غير هذا أعلل تقدمها ربما لأنها باحثة علمية نجحت في إصدار مجموعة مؤلفات تخصصية مثل: كتاب جسم الإنسان في معاجم المعاني. وكتاب مدخل إلى اللغة العربية - منهج ميسر؛ دروس في النحو والصرف مع تدريباتها وحلولها. وربما بسبب كونها محققة سبق وأن حققت كتاب الملمَّع للحسين بن علي النمري، وغير هذا وذات إصدارها في وقت مبكر ديوان حديث العشق. وربما اجتمعت كل هذه الخصال لتعطي شعرها دفقات الروعة والعذوبة والفصاحة والجمال.

وآخر شعر اطلعت عليه من نتاجها المعرفي قصيدة "ما لا يُحتوى ببيان"، التي كتبتها في نهاية شهر آذار من عام 2023، ثم قامت بتعديلها في العشرين من شهر تموز من العام نفسه.

ما لا يُحتوى ببيان قصيدة اقتبست الشاعرة فكرتها من كتاب السيرة النبوية لابن هشام، وهي تحكي مواقف ومقاطع من سيرة سيدنا النبي الأكرم ﷺ شعرا؛ ابتداء من اللحظة التي كفله فيها عمه أبو طالب:

الله كرّمه وفي القرآن

خصَّ اليتيمَ، بعطفه الربّاني

*

آوى اليتيمَ إلى حماهُ فأثمرت

سنواتُ عمرٍ فاحَ كالريحان

وبعيدا عن التسلسل الروائي يمكن للحصيف أن يشخص فرادة منهجها البنائي منذ صدر البيت الأول من القصيدة، فهي تتأرجح على الفكرة وتراهن على بساطة الكلمات لتوصل معنى متفردا في عليائه، نافرا مرة وطيعا مرة أخرى، وكأنها تريد الإشارة إلى أسس البساطة المدعومة بالقوة المؤمنة المثقفة التي سينشرها الوليد المقدس الجديد في الكون، لتحل بدلا عن التعقيد الذي أنهك إنسانية الإنسان في مجتمعات طبقية يتحكم فيها الاستبداد والأسياد برقاب الأغلبية المسحوقة.

لم تكن الدكتورة الشاعرة موفقة في اختيار بداية القصيدة فحسب، إذ سارت بعد تلك البداية الموفقة الواعدة مع نمو وتجلي هذا النور السامق والوعد الشارق خطوة خطوة، فوصفت طفولته واشتغاله في رعي الغنم في بادية بني سعد، وعرجت على فتوته واشتغاله مرة أخرى في رعي الغنم بأجياد في مكة:

كبُر اليتيمُ، وصارَ أجملَ يافعٍ

ولَذكرهُ نغمٌ معَ الخلّان

*

راعٍ يقدِّمُ للرعاةِ دروسَه

ولكلّ نبعٍ في الفصاحةِ داني

*

وقريشُ كانت بالقلوبِ تحوطُه

والأهلُ منه على المدى بأمان

فالرعي لا يتيح مددا للتأمل فحسب نتيجة الخلوة، بل ويتيح تعلم وممارسة القيادة، والقيادة فن وممارسة وتطبيق وتطوير، ومن ينجح في تدجين حيوان أبكم لابد وأن ينجح أكثر في محاولته بناء إنسان جديد من عدم الإنسانية البالية التي أنهكها الجور.

وفق المنهج التسلسلي ذاته انتقلت بعد تلك الشروح لتتحدث عن تجربة اشتغاله ﷺ بالتجارة، في إشارة إلى ذهابه مع عمه أبي طالب إلى الشام ولقائه بالراهب بحيرا الذي توسم فيه دلائل النبوة:

ثم ارتقى   لتجارةٍ معَ قومِه

وإلى الشآم مضى مع الرُّكبان

والتجارة هي الأخرى تجربة حياتية تنماز بكونها فن وخبرة وأسلوب تعامل ومقدرة على التمييز وانتقاء الأكثر نفعا وعدم الاستهانة حتى ببسيطات الأمور، وهي كلها عوامل تربوية ونشأوية كانت ممهدات تطورية أسهمت في بناء شخصية القائد المؤمل الموعود الذي تنتظره البشرية ليعيد لها ثقتها بإنسانيتها.

بعدها اقتبست قصة زواجه من الوجيهة القرشية أمنا الطيبة السيدة خديجة بنت خويلد، وهو زواج خارج سياقات المنطق مثلما وصفته الروايات التاريخية التي تحدثت عن فارق كبير في السن بينهما، مما دفع آخرين لنقي تلك الأخبار وإبطال تلك الروايات، وكلاهما لم ينتبه إلى أن هذا الزواج أصلا كان بأمر إلهي ولم يخضع لأي مقاييس، وفيه إشارة إلى رؤية الإسلام الذي ينتظر الولادة على يديه المباركتين، بالمرأة كعنصر بناء لا يقل دورها وتأثيرها عن الرجل وهي تزاحمه منزلة، فقالت:

سمعَتْ به ورأتهْ بنتُ خويلدٍ

عشقتْ أمانته، وحُسنَ تفاني

*

ولطيبِ سيرتِهِ أصاخت وارتوتْ

ممّا   رَوَوْا عنه من استحسان

بعد هذا الوصف التفصيلي، انتقلت الدكتورة وجيهة إلى مرحلة النأي عن الناس والخلوة بالروح والقلب لاستحضار حقيقة الوجود البهي الذي يشرق في أرجائه نور الله الباهر، انتقلت لتتحدث عن مرحلة الاعتكاف في غار حراء، فأبدعت في وصف دقائقها وأجزلت البوح:

هذا حِراءٌ سوف يسمعُ وحيَه

ليتيهَ   غارٌ   فوق   كلِّ مكان

*

ويظلّ   مُعتكِفًا    سنينَ   مفكّرًا

وعطورُ   ذاك الفكرِ في الوُجدان

ولأن النور أشرق في الغار، ومن الغار كانت البداية، انتقلت الشاعرة لتتحدث عن نزول الوحي الأول بكل ما تمثله تلك اللحظة التاريخية من وجل يخلع الألباب:

ناداه    جبريلٌ   وردّدَ آمرًا

(اِقرأ) محمّدُ!  يا لَرعبِ جَنانِ

*

لا!  لست ممن يقرؤونَ ولم تكن

خطَّتْ يمينيَ أحرفًا بمعاني

*

(اِقرأ) وباسم الله سوف تقولُها

ربِّ الجميعِ معلِّمِ   الإنسان

ولأن كتب السيرة كانت قد أشارت إلى أن النبي بعد أن حُمِّل الرسالة أصابه الرعب فنزل من حراء ولجأ إلى زوجته الأمينة يقص عليها ما حصل، وهو ما وصفته الشاعرة بقولها:

فمضى وخبَّأ خوفَه في حجرِها

فجَرَتْ إليه    ودثّرَتْ    بحنان

مع أن هناك من يرى أن التصديق بتلك الروايات يُعدُ من الأمور التي تخالف المنطق والعقل، إذ يستحيل أن يصاب من كان ينتظر الوحي بلهفة وشوق بكل ذلك الهلع، وهو الذي اعتزل الناس كلهم ولجأ إلى "حِراء" يتأمل ويتعبد وينتظر اللقاء.!

إجادتها وجميل نظمها واستيعابها للروايات التاريخية خلق عندها نوعا من السمو العرفاني شعرت معه بنوع من التقصير، يشعر به كل من يتطوع لمدح رسول الله، فالنبي كيان إلهي يختلف عن كل الكيانات، نعم هو القائل: " إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد" ولكن ولادات نساء كل الدنيا لا ترقى لأن تكون في مصاف تلك الولادة العظمى التي أنار لها الكون، ولذا قالت وكأنها تطلب السماح، فهي لم تطلب أكثر من رشفة كوثرٍ من كفه الكريم، وطمأنينة عظمى بأن الشفاعة تشمل الطيبين:

مهما تبارَى المادحون بمدحِه

فهو المُفدَّى والعظيمُ الشان

*

وبذكره تصفو النفوسُ وترتقي

فالنورُ في الأرواحِ والأبدان

*

يا مؤمنًا صلّى عليه   مُسلِّمًا

وتلا الشهادةَ عند كلّ أذانِ

*

ستنالُ رشفة كوثرٍ من كفّهِ

وتفوزُ بعد شفاعةٍ بجِنان

ولتعليل هذا القصور المتخيل، قالت وكأنها تعتذر عن قصورها في بلوغ المعنى:

يا سيِّدي يامَنْ بذكرِك أحتمي

وألوذُ مرتجيًا رضا الرحمن

*

يا أيها المبعوث فينا رحمةً

ألهمتني فعزفْتُ ما أشجاني

*

فالحرفُ في قلبي يضيء جوارحي

وهواك في روحي يصونُ كياني

وإيغالا في الاعتذار سعت الشاعرة وراء تبيان سبب كتابتها لهذه القصيدة، فقالت:

قد قلتُ ما أمْلتْ عليّ مشاعري

وسكبتُه فيضًا بلا كتمان

*

ورسمتُه مثلَ الضياء قصيدةً

في مدح أحمدَ سيد الأكوان

وفي التفاتة نادرا ما تحدث الفقهاء عنها، ولاسيما بعد أن شذت بعض الفرق واعتبرت مرتكبها مشركا، وأقصد بها موضوعة "التوسل بالنبي"، إذا اختلف الفقهاء بين من قال: إن التوسل جائز إجماعا، ولم ينكره أحد لا من السلف ولا من الخلف، ومن ذهب إلى أن التوسل لا يجوز إطلاقا، ونهوا عنه، وقالوا: لا يسأل بمخلوق، رغم هذا النشاط التضادي بدا وكأن الشاعرة أرادت التمرد على الثقافة الاقصائية الخالية من الروح وجهرت بعالي الصوت متوسلة برسول الله، فقالت:

ربّاه قد أكرمتَنا بمحمّدٍ

برسالة الإسلامِ والإيمان

*

أسبِغْ إلهي مِنْ نعيمِك راحة

وامنح عبادك نعمة الغفران

*

واقبل عبادًا تائبين لربهم

وأعتق رقابهم من النيران

*

وارحمْ إلهي في الثرى شهداءَنا

وانصرْ بحقِّ نبيٍنا العدنان

وفق هذه الصياغة بدت القصيدة في بعض جوانبها تقريرية تعليمية أكثر منها وجدانية، وفي جوانب أخرى مغرقة بالوجدانية والروحانية، فجمعت بين نقيضين بشكل محبب مع اعتناء في البناء والإخراج، أما موضوعها المحبب فقد جعلها مقربة للنفوس وأعطاها مقبولية أدبية واجتماعية، فبدت وكأنها أنشودة ينشدها أطفال في غسق ربيعي.

***

الدكتور صالح الطائي

أعتقد أنّ الكتابة ليست سهلة في بعض نصوصها، إنّها نصوص اجتهدت لتكون قطعة مميّزة في قصة مميّزة ناضجة من حيث البناء السردي الفني المتناغم عن شخصيات عاش معها الكاتب ومؤثرة فيه عن أفراد مجتمع في ذهن الكاتب التي كوّنها واختلقها إبداعيًا واقعيًا بامتياز. تنحني بها أمام ذاكرة الراوي عندما تقرأ النصوص كأنّها صف مرصوص لا يختلف بنيانه في الكثافة المخصصة للسرد.

خارج الصالة تبدأ الحكاية، يصف الراوي القرية التي جمعتهم بين الأزقة الضيقة التي يسكنان بها مع وهب حيث، دخول الكاتب في دهاليز الاسترجاع " الفلاش باك" بين وصف الحياة الطبيعية التي يعيشها المجتمع في ذلك الزمان، قبل الدخول في هندسة السرد والمجاديف التي استخدمها الكاتب في الإبحار تحمل معها بوصلة شمالية محددة بين البداية والنهاية، لكن قبل الوصول، دوّن بخياله الواسع النصوص الأدبية المتعاركة بين وقوف واستشهاد لهذه العبقرية التي نسجت هذه الخيوط الذهبية في البيئة التي كانت مسرحًا لأحداث القصة.3693 رواية مائل بخط الرقعة

وهب حمل هذه القصة بأكملها مع صديق عمره، وهو الراوي، جمعت تارة بضمير الغائب وتارة بضمير المتكلم بين وصف مبدئي، يقصد عبد الوهاب الذي طالما ينادى باسم "عبد" بين الساباط والشوارع الضيقة وبين الاسم الأصلي "عبدالوهاب" الذي يتوجس منه إحسانًا عندما يراد منه خدمة مجانية. في بداية حياته كان يعمل حارس مقبرة، وبين قراءتي للأدب منذ عقود إلّا أنّي لم أجد وصفًا جميلًا يحمل نصه الموجة العالية حين يصف الكاتب وهب "فعين مفتوحة على اتساعها دائمًا ولا شيء يجعلها ترفّ، والعين اليسرى تهجع تحت لحاف جفنه المتغضّن فهو لا يحتاجها عادة" يجعلك الكاتب تفيض بأنه أعور "أي ذهب بصره، هكذا يأسرك النص بقوة عباراته وجمال المعنى وحسن الصياغة في فنّ البلاغة.

لقد استخدم الكاتب العدسة من الزاوية الواسعة التي تضبط المشاهد ذات الطول البؤري الذي تستطيع أن تحصل على المشهد كما في الخيال المرسوم خارج نطاق المونتاج الذي نعرفه عندما أنتج هذا المشهد الذي يقول: "وقبلها قبل أن تنحني السكة ثم تستقيم ملتويةً بجدران قرض في طينها الزمن وبانت نتوءات أحجارها الكلسية البيضاء يكاد يمسكها الطين وترفد نهرها جداول السمك الفرعية، وفتات الكلس يصبغ التراب أسفل الجدران بالأبيض ليخفف من اللون الرمادي لتراب السكة".

أناقة الكاتب كانت في النسيج المخيط بإحكام بعيدًا عن الإسهاب الممل في سرد الأحداث، مما جعله في انتقاء الألفاظ المعبّرة عن معانيها في الذاتية الواضحة عن فكر صاحبه وهب وخواطره النفسية.

يذهب الكاتب أكثر في المتعة الأدبية المتجسّدة بنقل الأحاسيس والمشاعر في زمن الطفولة التي عاشها بين الأزقة للأطفال الذين يلاحقون قطةً شقية والغبار المنبعث من تلك المناورة التي تنظر صاحبها وهب وبين التداخل الوقتي المختلط بين الصالة التي يعمل بها وهب بعد حارس المقبرة بوصفهم الغربان السود الذين يمتصون أعوادًا من القصب في الديوانية "القدو"، وتلك كانت إحدى مهامه في صغره.

لقد استرجع المؤلف الذكريات مع الملاية وصرامة عصاها التي وفرت مخرجات معرفية كما يقول الكاتب، وهنا يسترسل الكاتب في الأثر النفسي الذي وقع عليهم في وفاة الصديق العزيز أحمد وهو في التاسعة من عمره بسبب أمراض تلك الحقبة. واصل وهب حرفته مع (أم رزاق) في الطب الشعبي الذي ينسب إلى ابن سينا، لكنه يكتشف الجانب السري لـ (أم وهب) وهو عالم الجنّ والأرواح الشريرة الجالبة للمشكلات والأمراض، لكنه تأثر بهذه الأرواح والأسطرة التي خدعت بها الناس في الحي، مما جعله لا ينظر إلى المرآة لفترة من الزمن اعتقادًا بأنّ روحها تحوم حول البيت وتجول في غرفته محاولة التلبس في صورته.

لقد نسج الكاتب كاظم خليفة المجموعة القصصية معتمدًا فيها على ذكاء القارئ حتى يدفعه إلى النتيجة التي يهدف إليها من وجهة نظر أدبية التي مثلت الكاتب، ليدوّن كلمات وتأملات عن الحياة وشعورها، لكنّها تمثل شعور كاتبها استوحاها من الثقافة الشعبية التي أحاطته يوم كان طفلًا وشابًا، مكونًا مشهدًا آخر من جمال القصة التي تستحقّ أن تكون في الصفوف الأولى للقصص العالمية التي تستدعي الانتباه لهذا الكاتب مع السرد النصي الأخير واصفًا جدته واحتفائها بأوراق السدر بعد تجفيفها وسحقها وخلطها بالماء، إذ تعتقد الجدة أنّ شجرة السدر مباركة وأمان من الشياطين معتقدة بأنّ الأرواح الطيبة تغفو فوق أغصانها، تمتمات قليلة تنجده من المراد.

مع الوداع شعر الراوي أنّ وهب قيمة إنسانية ما زالت راسخة في الحالة الروحية. اقترنت هذه القصة مع ست وعشرين قصة ذهبية في العنوان السريالي الذي أضاء للمؤلف "مائل بخط الرقعة". إنّها حزمة الكاتب التي تجلّت بعناوين مختلفة، سهلة القراءة، ممتعة، لا تستلزم الكثير من الجهد والتركيز وإنّما يكفي تتبع الأحداث لمعرفة نهاية كلّ قصة، وسوف يكتشف القارئ أجمل النصوص المبتكرة في عالم الأدب.

***

فؤاد الجشي

 

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

أنتج ثلاثة شعراء رواد من سلوفينيا في النصف الثاني من القرن الماضي البواكير الأولى للهايكو باللغة السلوفينية، وهم (فلاديمير جاجيك ومارت أوجين وإيزتوك جيستر). أما أول ترجمة للهايكو الكلاسيكي الياباني إلى السلوفينية فكان على يد الشاعر (مارت أوجين) الذي ترجم عدة إضمامات من هذا الشعر وفقا ل (ألنكا زورمان) التي نشرت مقالها القيم بعنوان (مشهد الهايكو السلوفيني) في العدد (12) من مجلة (شمروك) المعنية بالهايكو في ايرلندا وبقية بلدان العالم، وكان العدد المذكور مخصصا للهايكو السلوفيني. وهي شاعرة هايكو معروفة عالميا. ولدت عام 1947. كتبت الهايكو منذ عام 1999. صدرت لها مجموعة شعرية بعنوان (فراشة على الكتف). نشرت قصائدها في مختلف الصحف والمجلات والدوريات المحلية والأجنبية. منحت عدة جوائز. رئيسة نادي الهايكو في سلوفينيا. وقد شهد عام 1996 ولادة أول مجلة مختصة بالهايكو السلوفيني تحت اسم (بريجاتيلج – الصديق – تومو باللغة اليابانية) على شاكلة مجلة (أزامي) الصادرة في (أوساكا)، وقد صدرت منها حتى عام 1998 سبعة أعداد، وتضمنت (747) قصيدة هايكو و(29) مقالة وغيرها. وفي عام 1997 أسس أول نادي للهايكو في سلوفينيا، وقد إنتسب اليه بالتدريج بين (30 – 40) شاعر هايكو سلوفيني. ومن كتب الهايكو القيمة الصادرة بالسلوفينية كتاب (بركة الصمت: مختارات من الهايكو السلوفيني) الذي حرره الشاعر والكاتب وصانع الأفلام المعروف (ديميتار أناكييف) المولود في عام 1960 وصاحب (11) مجموعة هايكو. وهو مؤسس مشارك لجمعية الهايكو العالمية وحائز على ميدالية (فرانز كافكا) التي تمنح للأفراد والمؤسسات لإبداعهم الفني أو لمساهمتهم في الفن على نطاق العالم، وجائزة متحف هايكو للأدب في اليابان وجائزة الاستحقاق السنوية لجمعية الهايكو الامريكية والجائزة الوطنية السلوفينية لأفضل فيلم وثائقي وغيرها. وهكذا ازداد انتشار الهايكو في سلوفينيا قراءة وكتابة، وبدأت قصائد الهايكو السلوفينية تظهر في الصحف والمجلات والمواقع الأوروبية والعالمية مع اشتراك الشعراء في المسابقات الشعرية داخل وخارج البلاد. والان يدرس الهايكو في المدارس والجامعات وتقام له دورات وورش عمل في مختلف المدن السلوفينية للترويج له وللوقوف على قواعده وأسسه.علما انعقد في (تولمين – سلوفينيا) المؤتمر العالمي الأول لجمعية الهايكو العالمية في 8 أيلول 2000 بمشاركة (60) شخصا، للوقوف على شعر الهايكو وتبادل التجارب الشعرية في هذا المجال.

1 – آدم سوليجوج

خراب بلون أبيض

في جناح المستشفى –

برد الشتاء

*

دار مهجورة

تسكنها شجرة تين

أخيرا

*

بريق الثلج –

ثعلب يبتسم متربصا

في نهاية مسارات الأرانب

2 – تاتيانا جامليك

بعيد تساقط الثلوج

تسود السكينة في الصباح

و ظلال أجنحة الغربان

3 – سبيلا لوفيتشيك

على الطرف الآخر أيضا...

تجفف الاطيار أجنحتها

فوق قوس قزح

4 – بولونا أوبلاك

الغربان

طالما كان العالم

صورة ظلية

*

غير مرئي

و لاذع أيضا

نبات القراص

*

تنساب من خلال

ضوء الشمس الخافت،

تغريدة الشحرور

*

رذاذ مطر بارد

الكلب الذي أراد الخروج

يعود أدراجه

5 – أنيكا بيديتش

قوس قزح يتشكل –

تزحف البزاقة على إمتداد القناة

بإزاء الأوراق الرطبة

6 – يانيز مردافشتيش

همود النهر

تغفو البجعة

على ذروة الغمامة البيضاء

7 – سيلفا ميزريت

وعاء متروك

معبأ بماء المطر –

صورة قوس قزح

*

فتاة كسيحة

في المرجوحة

صرختها الطويلة الحادة

*

أوراق شجر متساقطة...

تزداد السماء إتساعا يوما بعد يوم

من تحت هذه الأشجار

*

لم يزل

الطائر العابر

يرى نفسه في البركة

8 – ألنكا زورمان

بحثا عن الديدان المتوهجة -

الصبي المتطفل

يستخدم شعلة

*

في الصباح البارد

ثمة حافلة تغطيها

ملصقات مارلين مونرو*

*

العناز في الزريبة

الغيوم تسيرها الرياح

بإزاء خط الأفق**

*

لحس البوظة

تضيف اليها الريح

الطعم المالح

*

صباح ضبابي

تشرق الشمس

عندما أشتري أزهار دوار الشمس

*

الغسيل الجاف -

المنشفة التي على شكل سمكة

ما برحت رطبة

*

مساء قائظ

أنفاسه

النسمة الوحيدة

*

دعسوقة***

على بلوزتي الحمراء

لا تكاد ترى

*

فرملة الحافلة

اقترب أكثر

من شخص غريب

*

شارع مبلل

خطوات محترسة

فوق النوافذ المضاءة

*

بعيد الاختصام

يملأ صوت المطر

الفراغ الذي يفصلنا

*

قبيل العاصفة

طفل وشبكة صيد الفراش

إصطياد الرياح

*

مياه مد ضحلة

بحيرة

فقط في روايتي

*

تساقط أوراق الشجر

أعد الطيور التي لم تهاجر

بعد

*

ورقة شجر في المقبرة

همسات الريح، لا غير

أغنية حزينة

*

ورقة شجر في المقبرة

همسات الريح، لا غير

أغنية حزينة

9 – رودي روبيتش

على سطح مهترىء

تغطيه الطحالب الندية،

ثمة غراب صامت

*

أنظر مليا إلى هذا العصفور الخائف

و هو يخرج طائرا

من بئر لم يعد فيها ماء

*

يبني الطائر المغرد

عشه الدافىء

في خوذة عتيقة

10 – ماريجان ماكو

أزهار شجرة المشمش

و ندف الثلج...

توقف النحل عن الزيارة

11 – جوز فولريتش

جز العشب –

أبو الحناء فوق غصن الشجرة

ينتظر أن أنهي عملي

12 – ايفانكا كونستانتينو

الحجر الصحي

رنين الهاتف

عوضا عن جرس الباب

13 - ديميتار أناكييف

مراسيم تأبين –

ريح الربيع

مغطاة بعلم

14 – بويان فورشيك

شجرة صنوبر وحيدة

تلامس تخوم المدينة

فعلا

15 – زفونكا بيزجاك

شمس لاهبة

مظلة مهملة

وحيدا جدا على السلالم

16 - سامو كروتز

محطة القطار –

يشاهد ضوء الفجر

بين كومة الامتعة

*

يحدق

و لم يحدق إلى السماء

لاجئ حرب

*

أبواب منزل أمي

مفتوحة على مصراعيها –

أريج الورد

*

ربع قمر

أول وآخر كلمة

نطقت بها

*

سماء خالية من القمر

النجوم الساطعة

في تهليل أمي

*

تعمل أمي بدوام كامل

راعية صغار

البط

17 – ديميتري سكرك

يتوهج كل القرع الموجود في الحقل

تحت ضوء القمر

ثمة قرع واحد في الماء

***

....................................

مارلين مونرو: ممثلة ومغنية أمريكية (1926 – 1962). *

** خط الأفق: أو الأفق الهندسي، خط وهمي يفصل السماء عن الارض، أي تلتقي فيه السماء مع السطح الظاهر للأرض.

* الدعسوقة: حشرة صغيرة، لها لون أحمر مرجاني أو برتقالي مع وجود نقاط سوداء.

- مترجمة عن الإنكليزية: -

1 – Haiku from Ireland and the rest of the world. Shamrock Haiku Journal. Issue No. 12. https: // shamrockhaiku. webs. com

2 – Haiku – Alenka Zorman – Slovenian haijin – tempslibres. https: // www. tempslibres. org

3 – Haiku Competitions 2022. www. gimvic. org

4 – World Haiku Series 2022 (3) Haiku by Alenka Zorma. https: // akitahaiku. com

5 – Meeting Report on the World Haiku Conference in Tolmin. https: // www. worldhaiku. net

6 – The Essence of Haiku. https: // poetrysociety. org. nz

7 – dimitar anakiev I Balkan haiku – Basho’s Road – Outlaw Poetry. https: // bashosroad. outlawpoetry. com

8 – Haiku Dialogue – Literary Devices – repetition / parallelism. https: // thehaikufoundation. org

9 – Haiku Dialogue – Simply a Place to Dwell (1). https: // thehaikufoundation. org

10 – Haiku Dialogue – Simply Precipitation (1). https: // thehaikufoundation. org

11 – Haiku Dialogue – Under The March Moon – Half Moon (1). httos: // thehaikufoundation. org

12 – Haiku Dialogue – Under The March Moon – New Moon (1). https: // thehaikufoundation. org

13 – Haiku Dialogue – Avian Adventures – Favorite Moments in Birding. https: // thehaikufoundation. org

14 – the results pf the 3rd haiku contest on theme Gourds – Tri rijeke. https: // tri – rijeke. hr

15 – European Kukai. Rssing. com. https: // kukai2. rssing. com

[email protected]

أثارت رواية دي إتش لورانس "عشيق السيدة تشاتيرلي" الجدل والنقاش منذ نشرها في عام 1928. وفي قلب هذه الرواية استكشاف الأخلاق والأعراف المجتمعية، لا سيما في سياق الحب والرغبة والعلاقات. إن تصوير لورانس للعلاقة بين السيدة كونستانس تشاترلي وحارس الطرائد في المزرعة، أوليفر ميلورز، يتحدى الأفكار التقليدية للأخلاق ويتحدى القراء للتشكيك في معتقداتهم حول ما هو صواب وما هو خطأ. طوال الرواية، يثير لورانس أسئلة مثيرة للتفكير حول طبيعة الأخلاق والقيود التي يفرضها المجتمع على الأفراد. إن صراع الليدي تشاتيرلي مع التوقعات المجتمعية وحبها المتزايد لميلورز يدفع القراء إلى التفكير في الجوهر الحقيقي للأخلاق وما إذا كان ينبغي أن تمليها قوى خارجية أو ضمير الفرد. إن استكشاف لورانس لهذه المواضيع في "عشيق السيدة تشاتيرلي" يدعو القراء إلى التفكير في تعقيدات العلاقات الإنسانية والطرق التي يؤثر بها المجتمع على فهمنا للصواب والخطأ.

الأفكار الرئيسية

1. إن استكشاف التوقعات المجتمعية والقيم الأخلاقية في رواية عاشق السيدة تشاتيرلي يدفع القراء إلى التشكيك في جمود المعايير التقليدية.

وصحة قمع رغبات الفرد من أجل الامتثال. 2. يتحدى دي إتش لورانس الأخلاق التقليدية في عصره من خلال تصوير بطل الرواية، كونستانس تشاتيرلي، كامرأة تجرأت على تحدي الأعراف المجتمعية واتباع قلبها في السعي لتحقيق الإنجاز

الشخصي والسعادة.

3. من خلال شخصيات كونستانس وميلورز وكليفورد، يتعمق لورانس في تعقيدات المسؤولية الأخلاقية، والحرية الشخصية، والسعي وراء التعبير الحقيقي عن الذات في مواجهة القيود المجتمعية.

4. تثير الرواية أسئلة مثيرة للتفكير حول طبيعة الأخلاق، وأهمية النزاهة الشخصية، وأهمية تنمية الروابط الإنسانية الحقيقية المبنية على الاحترام المتبادل والتعاطف والتفاهم.

5. من خلال تصوير الصراعات الداخلية للشخصيات والمعضلات الأخلاقية، يشجع لورانس القراء على التفكير في معتقداتهم وقيمهم وسلوكياتهم، مما يدفع إلى فحص أعمق للبوصلة الأخلاقية التي توجه أفعالهم وقراراتهم في الحياة.

التفاصيل

1. إن استكشاف التوقعات المجتمعية والقيم الأخلاقية في رواية عشيق السيدة تشاتيرلي يدفع القراء إلى التشكيك في جمود المعايير التقليدية وصحة قمع رغبات الفرد من أجل الامتثال.

في رواية دي إتش لورانس "عشيق السيدة تشاتيرلي"، يلعب استكشاف التوقعات المجتمعية والقيم الأخلاقية دورًا مركزيًا في تشكيل قرارات وأفعال الشخصيات. من خلال العلاقات المعقدة والصراعات الداخلية للأبطال، يتحدى لورانس جمود المعايير التقليدية ويدعو القراء إلى التشكيك في صحة قمع رغبات الفرد من أجل الامتثال. تتصارع شخصية كونستانس تشاترلي، على وجه الخصوص، مع التوقعات المجتمعية المفروضة عليها كامرأة في عصرها. وباعتبارها عضوًا في الطبقة العليا، يُتوقع منها الالتزام بقواعد سلوك معينة والوفاء بواجباتها كزوجة وأم. ومع ذلك، تجد كونستانس نفسها غير محققة ومختنقة بسبب قيود حياتها المميزة ولكن المقيدة. إن انجذابها المتزايد إلى حارس الطرائد، أوليفر ميلورز، يجبرها على مواجهة المحرمات الثقافية المحيطة بالطبقة والجنس، مما يؤدي بها في النهاية إلى تحدي الأعراف التي تملي سلوكها. وبالمثل، فإن ميلورز نفسه هو شخصية تتحدى التوقعات المجتمعية وتشكك في القيم الأخلاقية المفروضة عليه. باعتباره رجلًا من الطبقة العاملة، تنظر إليه الطبقة الأرستقراطية على أنه أقل شأنًا وفظًا، ومع ذلك فهو يجسد إحساسًا بالأصالة والحيوية يتناقض بشكل حاد مع سطحية أقران كونستانس من الطبقة العليا. من خلال علاقته مع كونستانس، يتحدى ميلورز هي والقارئ لإعادة تقييم مفاهيمهم المسبقة عن الطبقة والأخلاق والأعراف المجتمعية. في عشيق السيدة تشاتيرلي، يستكشف دي إتش لورانس ببراعة التوتر بين الرغبات الفردية والتوقعات المجتمعية، مما يدفع القراء إلى النظر في عواقب قمع الذات الحقيقية من أجل التوافق مع الضغوط الخارجية. من خلال تسليط الضوء على تعقيدات العلاقات الإنسانية والفروق الدقيقة في الأخلاق، يدعونا لورانس إلى التشكيك في صحة المعايير التقليدية واحتضان الحرية التي تأتي من اتباع حقائقنا الداخلية.

تجرأت بطلة الرواية، كونستانس تشاترلي، كامرأة تجرأت على تحدي الأعراف المجتمعية واتبعت قلبها في السعي لتحقيق الإنجاز الشخصي والسعادة.

في رواية "عشيق السيدة تشاتيرلي"، يقدم دي إتش لورانس لقرائه بطلة الرواية، كونستانس تشاتيرلي، التي تجرؤ على تحدي الأخلاق التقليدية في عصرها. في ظل مجتمع جامد وحكمي، تبرز كونستانس كامرأة ترفض التوافق مع التوقعات المجتمعية وتختار بدلاً من ذلك أن تتبع قلبها سعياً لتحقيق الإنجاز الشخصي والسعادة. يصور لورانس كونستانس على أنها امرأة تجد نفسها في زواج بلا حب مع زوج مشلول من الخصر إلى الأسفل. تشعر كونستانس بالعزلة والحصار في بيئة خانقة، وتبدأ بالتوق إلى شيء أكثر في حياتها. عندما تلتقي بحارس الطرائد، أوليفر ميلورز، تنجذب إلى رجولته الخام وطبيعته غير الاعتذارية. على الرغم من الاختلافات في أوضاعهما الاجتماعية، تبدأ كونستانس في علاقة عاطفية مع ميلورز، متحدية معايير مجتمعها والمخاطرة بكل شيء من أجل فرصة الحب الحقيقي والوفاء. من خلال شخصية كونستانس، يتحدى لورانس الأخلاق في عصره من خلال التشكيك في صحة المعايير المجتمعية التي تمنع الأفراد من تحقيق رغباتهم الخاصة وإيجاد السعادة بشروطهم الخاصة. إن رحلة كونستانس نحو اكتشاف الذات وتحقيق الذات هي بمثابة بيان قوي ضد قيود المجتمع، مما يشجع القراء على التشكيك في المعايير الأخلاقية الراسخة التي قد تمنعهم من العيش بشكل أصيل وإيجاد السعادة. من خلال تصوير كونستانس كامرأة تجرؤ على تحدي التوقعات المجتمعية وتتبع قلبها، يدعو لورانس قراءه إلى النظر في أهمية الاستقلال الفردي والسعي لتحقيق الإنجاز الشخصي في مواجهة الضغوط المجتمعية. إن شجاعة كونستانس التي لا تتزعزع وتصميمها على أن تعيش حياتها وفقًا لشروطها الخاصة هي بمثابة شهادة على فكرة أن السعادة الحقيقية لا يمكن تحقيقها إلا عندما يكون المرء صادقًا مع نفسه ويتبع قلبه، بغض النظر عن أحكام الآخرين وتحيزاتهم. في الختام، يتحدى دي إتش لورانس الأخلاق التقليدية في عصره من خلال شخصية كونستانس تشاتيرلي، وهي امرأة تجرأت على تحدي الأعراف المجتمعية واتبعت قلبها في السعي لتحقيق الإنجاز الشخصي والسعادة. من خلال رحلة كونستانس نحو اكتشاف الذات وتحقيق الذات، يشجع لورانس قرائه على التشكيك في قيود المجتمع واحتضان حرية العيش بشكل أصيل والسعي وراء سعادتهم.

3. من خلال شخصيات كونستانس وميلورز وكليفورد، يتعمق لورانس في تعقيدات المسؤولية الأخلاقية، والحرية الشخصية، والسعي وراء التعبير الحقيقي عن الذات في مواجهة القيود المجتمعية.

في رواية دي إتش لورانس، عشيق الليدي تشاتيرلي، تجسد شخصيات كونستانس وميلورز وكليفورد نسيجًا غنيًا من المعضلات الأخلاقية، والصراعات الشخصية، والتوقعات المجتمعية. من خلال تفاعلاتهم ورحلاتهم الفردية، يتعمق لورانس في تعقيدات المسؤولية الأخلاقية، والحرية الشخصية، والسعي وراء التعبير الحقيقي عن الذات في مواجهة القيود المجتمعية. تجد كونستانس، السيدة الفخرية، نفسها ممزقة بين مسؤولياتها كزوجة لكليفورد المعاق وتوقها إلى الإشباع العاطفي والجسدي. بينما تشرع في علاقة عاطفية مع ميلورز، حارس الطرائد في المزرعة، تتصارع كونستانس مع الأعراف المجتمعية التي تملي دورها كامرأة والتوقعات التي يضعها عليها زوجها والمجتمع ككل. يرسم لورانس صورة دقيقة لكونستانس، ويسلط الضوء على اضطرابها الداخلي وهي تتنقل بين المتطلبات المتضاربة للواجب والرغبة. من ناحية أخرى، يمثل ميلورز تناقضًا صارخًا مع كونستانس وكليفورد. كرجل من الطبقة العاملة منفصل عن زوجته، يجسد ميلورز إحساسا بالحرية والأصالة التي يجدها كونستانس مغرية. إن رفضه للأعراف المجتمعية والتزامه بالعيش وفقا لشروطه الخاصة هو بمثابة إحباط لوجود كونستانس المقيد. من خلال ميلورز، يستكشف لورانس فكرة الفاعلية الشخصية والسعي للتعبير عن الذات في مواجهة القيود المجتمعية. يقف كليفورد، زوج كونستانس، في تناقض صارخ مع كل من كونستانس وميلورز. بعد إصابته بالشلل من الخصر إلى الأسفل بعد الحرب العالمية الأولى، يكافح كليفورد لتأكيد رجولته والحفاظ على سلطته على زوجته. تكشف مرارته وشعوره بالاستحقاق عن حدود التوقعات المجتمعية والطرق التي يمكن من خلالها خنق النمو الشخصي والتواصل الحقيقي. من خلال كليفورد، يؤكد لورانس على أهمية الأصالة والقوة الشخصية في مواجهة الشدائد. في عاشق السيدة تشاتيرلي، يتنقل لورانس ببراعة في تعقيدات المسؤولية الأخلاقية، والحرية الشخصية، والسعي وراء التعبير الحقيقي عن الذات من خلال الرحلات المتشابكة لكونستانس وميلورز وكليفورد. من خلال استكشاف تعقيدات العلاقات الإنسانية، والتوقعات المجتمعية، والنضال من أجل تحقيق الذات، يدعو لورانس القراء إلى التفكير في طبيعة الأخلاق والطرق التي يتنقل بها الأفراد في تحديات العيش بشكل أصيل في عالم مليء بالقيود.

4. تثير الرواية أسئلة مثيرة للتفكير حول طبيعة الأخلاق، وأهمية النزاهة الشخصية، وأهمية تنمية الروابط الإنسانية الحقيقية المبنية على الاحترام المتبادل والتعاطف والتفاهم.

في رواية دي إتش لورانس "عشيق السيدة تشاتيرلي"، يعد استكشاف الأخلاق موضوعا رئيسيا يثير أسئلة مثيرة للتفكير حول جوهر القيم الإنسانية، والنزاهة الشخصية، وجودة العلاقات الإنسانية. من خلال الشخصيات وعلاقاتها المعقدة، يتعمق لورانس في تعقيدات المعضلات الأخلاقية، والتوقعات المجتمعية، والسعي وراء السعادة الحقيقية. في قلب الرواية تكمن العلاقة بين السيدة كونستانس تشاترلي وحارس الطرائد زوجها أوليفر ميلورز. تتحدى هذه العلاقة غير المشروعة المفاهيم التقليدية للأخلاق وتثير تساؤلات حول طبيعة الحب والرغبة والسلامة الشخصية. بينما تعبر الليدي تشاتيرلي عن مشاعرها تجاه ميلورز، فإنها تواجه القيود المجتمعية التي تملي عليها أفعالها وقراراتها، مما يجبرها على إعادة تقييم إحساسها بالأخلاق والأصالة. من خلال شخصيات السيدة تشاتيرلي وميلورز، يؤكد لورانس على أهمية تنمية الروابط الإنسانية الحقيقية القائمة على الاحترام المتبادل والتعاطف والتفاهم. وتتجاوز علاقتهما الأعراف والتقاليد المجتمعية، وتسلط الضوء على القوة التحويلية للحب والتواصل في تشكيل البوصلة الأخلاقية للفرد. من خلال احتضان رغباتهم وعواطفهم الحقيقية، تسعى الليدي تشاتيرلي وميلورز إلى العيش بشكل أصيل ومتوافق مع قيمهم الأعمق، بغض النظر عن أحكام وانتقادات الآخرين. في الرواية، يتحدى لورانس القراء للتفكير في طبيعة الأخلاق وأهمية النزاهة الشخصية في التعامل مع تعقيدات العلاقات الإنسانية. وهو يدعونا إلى التشكيك في التوقعات والأعراف المجتمعية، ويحثنا على إعطاء الأولوية للصلات الإنسانية الحقيقية القائمة على الاحترام المتبادل والتعاطف والتفاهم. في نهاية المطاف، تعد رواية "عشيق السيدة تشاتيرلي" بمثابة تذكير مؤثر بأهمية احتضان ذواتنا الحقيقية، وتنمية العلاقات الهادفة، والعيش بشكل أصيل في عالم يتطلب غالبا الامتثال والتضحية.

5. من خلال تصوير الصراعات الداخلية للشخصيات والمعضلات الأخلاقية، يشجع لورانس القراء على التفكير في معتقداتهم وقيمهم وسلوكياتهم، مما يدفع إلى فحص أعمق للبوصلة الأخلاقية التي توجه أفعالهم وقراراتهم في الحياة.

في عشيق السيدة تشاتيرلي، يتعمق دي إتش لورانس بمهارة في الصراعات الداخلية والمعضلات الأخلاقية التي تواجهها الشخصيات، مما يمهد الطريق للقراء للتفكير في معتقداتهم وقيمهم وسلوكياتهم. من خلال التصوير المعقد للديناميكيات المعقدة بين كونستانس وكليفورد وميلورز، يدفعنا لورانس إلى التشكيك في بوصلتنا الأخلاقية والتفكير في المبادئ التي توجه أفعالنا وقراراتنا في الحياة. رحلة كونستانس، على وجه الخصوص، تجبر القراء على مواجهة التوقعات المجتمعية الصارمة والقواعد الأخلاقية التي غالبا ما تملي حياتنا. بينما تتنقل خلال زواجها من كليفورد المشلول وعلاقتها المزدهرة مع حارس الطرائد ميلورز، تتصارع كونستانس مع مشاعر الواجب والرغبة والتحرر في النهاية. يرسم لورانس صورة مؤثرة لصراع كونستانس الداخلي، ويدعو القراء إلى النظر في الطرق التي يمكن أن تتصادم بها الأعراف المجتمعية والتطلعات الشخصية، ويتحدىنا للتفكير في الخيارات التي نتخذها سعياً لتحقيق السعادة الشخصية والإشباع الشخصي. وبالمثل، فإن شخصية كليفورد بمثابة تناقض صارخ مع ميلورز، حيث تجسد قيود الأخلاق التقليدية والضغوط المجتمعية. إن إحباطاته ومرارته تجاه قيوده الجسدية واستقلال كونستانس المتزايد تجبر القراء على دراسة عواقب إعطاء الأولوية للتوقعات المجتمعية على القيم والرغبات الشخصية. من خلال قوس شخصية كليفورد، يحثنا لورانس على تقييم الطرق التي نتنقل بها في التوازن الدقيق بين التوقعات الخارجية والقناعات الداخلية، مما يدفعنا إلى التشكيك في التضحيات التي نقوم بها من أجل التوافق مع الأعراف المجتمعية. يعتبر ميلورز، بأصالته التي لا تخجل وازدراءه للاتفاقيات المجتمعية، بمثابة منارة للوضوح الأخلاقي في عالم يخيم عليه النفاق والقمع. إن التزامه الذي لا يتزعزع بالحياة بشكل أصيل يتحدى القراء لمواجهة معضلاتهم الأخلاقية الخاصة والنظر في الجوهر الحقيقي للأخلاق - ليس كمجموعة من القواعد الصارمة، ولكن كانعكاس لرغباتنا وقيمنا العميقة. بينما يشهد القراء كفاح ميلورز للتوفيق بين حبه لكونستانس وإحساسه بالواجب والأخلاق، فإننا نشجعنا على فحص الطرق التي نتنقل بها عبر تعقيدات العلاقات والنزاهة الشخصية. في جوهر الأمر، فإن استكشاف لورانس للأخلاق في رواية عاشق الليدي تشاتيرلي يتجاوز مجرد تصوير صراعات الشخصيات ومعضلاتها - فهو بمثابة مرآة يمكن للقراء من خلالها التفكير في معتقداتهم وقيمهم وسلوكياتهم. من خلال إثارة فحص أعمق للبوصلة الأخلاقية التي توجه أفعالنا وقراراتنا في الحياة، يتحدانا لورانس لتنمية فهم أعمق لأنفسنا والخيارات التي نتخذها في السعي لتحقيق السعادة والوفاء.

في الختام، تستكشف رواية دي إتش لورانس "عاشقة السيدة تشاترلي" الطبيعة المعقدة والمتغيرة باستمرار للأخلاق في المجتمع. من خلال تطوير شخصية كونستانس وميلورز، يتحدى لورانس المفاهيم التقليدية للصواب والخطأ، ويقدم بدلاً من ذلك صورة دقيقة للعلاقات الإنسانية والرغبات. في النهاية، تشير الرواية إلى أن الأخلاق الحقيقية لا تكمن في التوافق مع التوقعات المجتمعية، بل في اتباع إحساس الفرد بما هو صواب وعادل. كقراء، نحن مجبرون على مواجهة معتقداتنا وقيمنا، والنظر في الطرق التي نتعامل بها مع المعضلات الأخلاقية التي تنشأ في حياتنا. تُعد عشيق الليدي تشاتيرلي بمثابة تذكير قوي بأن الأخلاق ليست دائما أبيض وأسود، بل هي تجربة شخصية وذاتية عميقة تتطلب الاستبطان واكتشاف الذات.

***

محمد عبد الكريم يوسف

.............................

المراجع

Lady Chatterley's Lover, DHLawrance

 

في بناءٍ هندسيّ – فكريّ، تسوحُ بنا رواية (بين بغداد وظلّي)، لأصنّفها ضمن الروايات السايكولوجية،لما فيها من تشظٍّ لا (ازدواجية) شخصية بل تناسل وتفريخ لشخصيات في شخصية واحدة، وارتباطات في شبكية معقدة من الروابط والعلاقات.

بين جذبٍ وطردٍ عاطفي، بين جنون وعقل، تنتصبُ نظريات (سيجموند فرويد) فلا تقوى على الوقوف والصمود أمام العاهات النفسية والظواهر الجمعية المشوشة حيناً والملغّزة داخل الرواية. في الرواية يكون لكل شخصية ظلال لا ظل واحد، تتشظى الذات البشرية بحكم الحروب وما أفرزته من قحط وفقر ولصوصية و(حواسم)، و(عشوائيات)، ورموز جديدة تطول وتتقزم ظلالها بين فترة وأخرى، لم يكن (الظّل) عند الشخصية صورة واضحة الملامح بل تكاد أن تكون زئبقية، فتكون طفلا أو كهلا...

الازدواجيات المتعددة في الرواية تبدأ:

الصورة الأولى للظل: من ذات الكاتبة، فمن تتبعي لكتاباتها، فللمرة الأولى تكون ظلاّ للذكورة (لرجل)، وتحمل نَفَساً طويلاً في لعب هذا الدور وتحس وتتحرك وتتنقل الألفاظ والعبارات بصيغ رجولية بعيداً عن خطابها الأنثوي الذي يتحرك في رواياتها السابقة وتكون هي منْ تحمل وتبني الحبكة وتصاعد الحدث .

الصورة الثانية: الظلال الأخرى التي تتصارع تارةً، وتضع الهدنة ما بينها تارةً أخرى في صورة البطل (الصحفي) حيث ينشطر الى ( قاسم/مناضل/ مناضل صالح/ المفقود)، بل أن ظلّهُ يتغير من صيغة الى أخرى وبأشكال كأنه أواني مستطرقة.

تقرأ الرواية للوهلة الأولى سهلةً، تستطيع أن تركبَ موجتَها، وتفكَّ مفاتيحَ شفراتها، لبساطة العبارة والانتقاء للمفردة الواضحة المفهومة للمتلقي، لكن بعد حين تصطدم بصورٍ تجعلك تعيد النظر والتقدير في المفاهيم وأسس بناء الرواية. هي ليست مقالاً صحفياً، للبطل (الصحفي)، وليست انعكاس لكتابة تقريرية تُعرضُ كأنها شريطا سينمائيا أو تلفازياً لصورة وطن.

حالات السرقة والنهب، والاختلاس، والأفعال المشينة للحصول على الكراسي، وشراء الذمم والأصوات، ونهب الثروات، والتدمير المتعمد للبناء الأخلاقي فالبنى التحتية، هل هي منْ سبّبت أمراضنا وعللنا، وهذا التشظي، أم أن التشظي هو الذي سبّب هذا الخراب؟؟

الصورة الثالثة للظل: الازدواجيات المتعددة، جاءت نتيجة لأزمات وحروب طاحنة، أدّت الى انهيار الذات، وتعدّد الصور في الواقع والخيال مما تؤدي الى فقدان وانعدام الاستقرار والخوف والقلق. وفي الصورة الثالثة نجد سبب انشطارها وغثيانها صورة الفقد، وهي صورة (الشاب الروسي سيفاكس). واضطرابه النفسي وانعزاله عن العالم وعن أهله( أمه).

الصورة الرابعة للظل: التشظي لظلال الموسيقى بين (العود) وآلة ( البالا لايكا) و(الغيتار) و(الساكسفون). عزفٌ على مقام (الصبا) تنشطر الأوتار فالنغمات لتولد بصيغٍ مختلفة في قنوات موسيقية هي الأخرى أصابتها أمراض نفسية، لأنها تخرج من النّفس، وهذه النّفس تُدخل في الآلة هذا الانشطار والخوف والقلق .

الصورة الخامسة: ظلال العائلة، العائلة التي كانت تُبنى بنظامٍ سليمٍ، وهي اللبنة الأولى في بناء المجتمعات، كيف بناها (قاسم/ مناضل) من أناس مشردين (العجوز –مسعود، الأطفال- جواهر وهمام، الشابة- جميلة). ظلالٌ غير متناسقة وتحل كل ذات منها تاريخ من الألم والعاهة المستديمة في الفقد بكل أشكاله.

الصورة السادسة: ظلال الفن التشكيلي والنحت: امتدت في ثنايا الرواية صور توصف المقتنيات والنّصب في ساحات ومتاحف (بغداد) و(موسكو) و(باريس)، ظلالها تاريخ وقصة كبيرة فالمنحوت له ظلال، والفنانون (النحّاتون) لهم ظلالهم فيما تركوا من أثر وفكرة، في بغداد كان ( جواد سليم / محمد غني حكمت/ خالد الرّحال)، وظلال أعمالهم(نصب الشهيد/ الجندي المجهول/ نصب الحرية/ الفانوس السحري..)، وظلال الفنانين الروس (أندريه روبيلوف/ألكسندر ايفانوف/ فاسيلي سوريكوف).

الصورة السابعة: ظلال المكان: لبغداد ظلالها التي تلاحقها أيضا، فتكون فقيرةً تارةً، في أحياء شعبية، ومناطق لا تصمد بوجه الأمطار ولا تحمي ناسها من جمر الصيف، وظلال في قصور فارهة خدماتها (VIP) . بين صور قبحٍ وجمال، ونقاءٍ وزيف، .. بين عقول ونفوس تتوق لوطنٍ معافى، وعقول خاوية لا تعرف إلا الهدم طريقاً لبقائها. ذئاب تستحوذ على المدينة، تنهش كل شيء.

الصورة الثامنة: ظلال الملابس: للملابس حكايات في الرواية، ولكل ملبس حوار وظلال تلقي بفكرتها على الآخر، فالآخر أصبح آخرين , الملابس والعطور عند رجال الصدفة هل تخفي تشوّهاتهم الأخلاقية؟ -ص12، الظل يلبسُ (البيجامة)-ص 17، والظل في شراء ملابس لشخصين بنفس المقاس –ص42،

وصورٌ أخرى لظلالٍ تتشابك وتتحاور في ظلال الصفحات وبين السطور، لكنك حين تقرأها لا تتوه بل هي إشارتٌ تُدلّكَ على الطريق الذي يوصلك الى الدلالة .

الرواية عمودها الظلال، والمكان، وفقراتها الصحافة ودورها في كشف الحقيقة، وبناء مجتمعٍ جديد واعٍ لقضيته وبقضيته.

الخاتمة: رسالة الرواية، أننا نعيش زمن الظلال التي تحرّكنا، علاقات شبكية كأشباح، لكن هذا (الصحفي) ملتزم بقضيته، وتضعه الكاتبة هو بريق الأمل والمنقذ للآتي من الزمن، بقلمه وفكره، ونقله للوقائع، وأن يقف مع المظلومين، الصحافة سلاحٌ ماضٍ بوجه المتسلطين الذين أمسكوا به لتمرير أكاذيبهم وللتدليس وإخافة الناس وإضعافهم. تضعنا الروائية في مصحتها لغرض العلاج النفسي، لأن في كلّ متلقي ظلال عليه أن يستجمع ذاته ويوّحد قراره وخطابه ليرى الوطن صورةً أجمل.رواية تفتح نوافذ لمستقبلٍ آتٍ تُنبيء به الكاتبة بأن القادم أفضل.

***

د. وليد جاسم الزبيدي

في مسرحية ويليام شكسبير "أنتوني وكليوباترا"، تلعب السياسة دورا مركزيا في تشكيل مصائر الشخصيات الفخرية والإمبراطورية الرومانية الأوسع. تقع أحداث المسرحية على خلفية العالم القديم، وتتعمق في ديناميكيات القوة المعقدة والتحالفات والصراعات التي تحدد المشهد السياسي في ذلك الوقت. بينما يناور أنطوني وكليوباترا وأوكتافيوس قيصر من أجل السيطرة والنفوذ، فإن أفعالهم لا تؤثر فقط على علاقاتهم وطموحاتهم الشخصية، بل لها أيضا عواقب بعيدة المدى على استقرار الإمبراطورية الرومانية ومستقبلها. المواضيع السياسية التي تم استكشافها في "أنتوني وكليوباترا" غنية ومتعددة الأوجه، وتقدم رؤى حول تعقيدات القيادة والولاء والخيانة. قرارات واستراتيجيات الشخصيات مدفوعة بمزيج من الرغبات الشخصية والحسابات الإستراتيجية وثقل التقاليد والتوقعات. بينما يبحر أنتوني وكليوباترا في مياه السلطة الغادرة، يجب عليهما مواجهة شبح الخيانة الدائم وتغير الولاءات، مما يسلط الضوء على الطبيعة الهشة للتحالفات السياسية والطبيعة القاسية للطموح في عالم حيث السلطة في حالة تغير مستمر. من خلال تفاعلاتهم وخياراتهم، يدرس شكسبير ببراعة عواقب المكائد السياسية والخسائر التي تلحقها بكل من الأفراد والإمبراطوريات.

الأفكار الرئيسية

1. يتميز المشهد السياسي المعقد في عهد أنطوني وكليوباترا بتحول التحالفات والصراع على السلطة بين الحكام الرومانيين الثلاثة، أوكتافيوس قيصر، وماركوس أنتوني، وليبيدوس.

2. تتشابك الطموحات السياسية والعلاقات الشخصية للشخصيات الرئيسية، وخاصة أنتوني وكليوباترا، مع الصراع الجيوسياسي الأوسع بين روما ومصر.

3. يسلط تصوير شكسبير للسلطة السياسية في المسرحية الضوء على موضوعات الولاء والخيانة وعواقب تحقيق رغبات الفرد السياسية على حساب العلاقات الشخصية.

4. إن النظامين السياسيين المتناقضين في روما ومصر، مع قيم الواجب والمتعة الخاصة بكل منهما، يشكلان بمثابة خلفية لدراسة التوترات بين البراغماتية السياسية والرغبات الفردية.

5. في نهاية المطاف، يمكن النظر إلى سقوط أنطونيو وكليوباترا باعتباره قصة تحذيرية حول مخاطر إعطاء الأولوية للإشباع الشخصي على المسؤولية السياسية، والعواقب المترتبة على الاستسلام لإغراءات السلطة والطموح.

1. يتميز المشهد السياسي المعقد في عهد أنطوني وكليوباترا بتحول التحالفات والصراع على السلطة بين الحكام الرومانيين الثلاثة، أوكتافيوس قيصر، وماركوس أنتوني، وليبيدوس.

في مسرحية ويليام شكسبير "أنتوني وكليوباترا"، يندفع الجمهور إلى عالم من المؤامرات السياسية المعقدة والصراع على السلطة. في قلب المسرحية تكمن العلاقات المعقدة بين الثلاثي الروماني - أوكتافيوس قيصر، وماركوس أنتوني، وليبيدوس. هؤلاء الرجال الثلاثة، الذين اتحدوا ذات يوم في اتفاق لحكم روما معًا، يجدون أنفسهم الآن على خلاف بينما يبحرون في مياه السياسة والطموح الغادرة. يمثل أوكتافيوس قيصر، القائد الذكي والمحسوب، تجسيدا لقوة روما الإمبراطورية. إن تصميمه الذي لا يتزعزع على تعزيز سيطرته على الإمبراطورية الرومانية هو الذي يقود الكثير من الصراع في المسرحية. في المقابل، يجد ماركوس أنتوني، الذي كان في السابق جنرالا عظيما ورفيقا موثوقا لقيصر، نفسه ممزقا بين ولائه لروما وشغفه بكليوباترا، ملكة مصر الغريبة. تعكس صراعات أنتوني الداخلية الصراعات الخارجية التي تهدد بتمزيق الثلاثي. تم تصوير ليبيدوس، العضو الثالث في الثلاثي، على أنه زعيم ضعيف وغير فعال، ويمكن التلاعب به بسهولة من قبل نظرائه الأكثر قوة. إن وجوده بمثابة تذكير بالطبيعة الهشة للتحالفات السياسية وميزان القوى المتغير باستمرار في روما. طوال المسرحية، يتم تشكيل التحالفات وكسرها، ويتم اختبار الولاءات، وتكثر الخيانات حيث تتنافس كل شخصية على السيطرة والنفوذ. تتميز الديناميكية بين الثلاثي بعدم الثقة والخداع، حيث يخططون ويتآمرون للتغلب على بعضهم البعض في سعيهم إلى التفوق. في نهاية المطاف، يعد المشهد السياسي المعقد في "أنتوني وكليوباترا" بمثابة خلفية لموضوعات أكبر مثل الحب والولاء والطبيعة المدمرة للطموح. وبينما تتنقل الشخصيات في مياه السلطة والسياسة المضطربة، يضطرون إلى مواجهة عواقب أفعالهم والتضحيات التي يجب عليهم تقديمها في السعي لتحقيق أهدافهم. في هذا العالم الذي يتسم بالتحالفات المتغيرة والصراعات على السلطة، لا أحد في مأمن من مكائد السياسة القاسية.

2. تتشابك الطموحات السياسية والعلاقات الشخصية للشخصيات الرئيسية، وخاصة أنتوني وكليوباترا، مع الصراع الجيوسياسي الأوسع بين روما ومصر.

في مسرحية ويليام شكسبير "أنطوني وكليوباترا"، تتشابك الطموحات السياسية والعلاقات الشخصية للشخصيات الرئيسية، وخاصة أنطوني وكليوباترا، بشكل معقد مع الصراع الجيوسياسي الأوسع بين روما ومصر. إن علاقة الحب بين أنتوني، أحد حكام روما الثلاثة، وكليوباترا، ملكة مصر، بمثابة حافز للصراع على السلطة بين الحضارتين القديمتين. إن تورط أنطوني مع كليوباترا لا يضع ضغطا على تحالفاته السياسية مع روما فحسب، بل يسلط الضوء أيضًا على الصراع بين واجبه تجاه الإمبراطورية ورغباته الشخصية. كعضو في الثلاثي إلى جانب أوكتافيوس قيصر وليبيدوس، فإن أنتوني ممزق بين ولائه لروما وحبه لكليوباترا. علاقته بالملكة المصرية تتحدى سلطة روما وتهدد استقرار الإمبراطورية، مما يؤدي في النهاية إلى مواجهة بين قوات أوكتافيوس قيصر وقوات أنتوني وكليوباترا. وبالمثل، تُستخدم علاقة كليوباترا الشخصية بأنطوني كأداة لتعزيز طموحاتها السياسية. من خلال تحالفها مع أنطوني، تسعى كليوباترا إلى تأمين منصبها كحاكمة لمصر وحماية مملكتها من الغزو الروماني. إن حبها العاطفي لأنطوني ليس فقط مصدرًا للوفاء العاطفي، ولكنه أيضًا خطوة استراتيجية لاكتساب القوة والنفوذ في المشهد السياسي المتقلب للعالم القديم. إن تشابك العلاقات الشخصية والطموحات السياسية في "أنتوني وكليوباترا" هو بمثابة نموذج مصغر للصراع الجيوسياسي الأوسع بين روما ومصر. تصبح علاقة الحب بين أنطوني وكليوباترا رمزا للصراع بين الشرق والغرب، فضلاً عن انعكاس لتعقيدات ديناميكيات السلطة والولاءات الشخصية في العالم القديم. من خلال العلاقة بين أنتوني وكليوباترا، يستكشف شكسبير تعقيدات السياسة والقوة والعاطفة، ويسلط الضوء على الطرق التي يمكن من خلالها للرغبات الشخصية أن تشكل مسار التاريخ وتؤثر على مصائر الأمم.

3. يسلط تصوير شكسبير للسلطة السياسية في المسرحية الضوء على موضوعات الولاء والخيانة وعواقب تحقيق رغبات الفرد السياسية على حساب العلاقات الشخصية.

في مسرحية شكسبير أنتوني وكليوباترا، كان تصوير السلطة السياسية بمثابة موضوع رئيسي يتعمق في تعقيدات الولاء والخيانة وعواقب إعطاء الأولوية للطموحات السياسية على العلاقات الشخصية. من خلال شخصيات أنطوني وكليوباترا وأوكتافيوس قيصر، يوضح شكسبير ببراعة الديناميكيات المضطربة والمعضلات الأخلاقية التي تنشأ عندما يواجه الأفراد المطالب المتضاربة للسياسة والولاءات الشخصية. يواجه أنتوني، حاكم روما الثلاثي، التحدي المتمثل في الموازنة بين واجباته تجاه الدولة وحبه العميق لكليوباترا، ملكة مصر. يتم اختبار ولائه لروما باستمرار حيث يجد نفسه ممزقا بين مسؤولياته السياسية ورغبته في أن يكون مع كليوباترا. في سعيه لتحقيق السعادة الشخصية، يضحي أنتوني بتحالفاته ويخون قيصر في النهاية، مما يؤدي إلى سقوطه. إن تصوير شكسبير لصراع أنطونيو بين الولاء للدولة والولاء لحبيبته يؤكد على الطبيعة المعقدة للسلطة السياسية وتأثيرها على العلاقات الشخصية. وبالمثل، تم تصوير كليوباترا على أنها حاكمة قوية وماكرة ترغب في التلاعب بالآخرين للحفاظ على قبضتها على السلطة. علاقتها مع أنتوني محفوفة بالخيانة والخداع لأنها تتلاعب به لتحقيق مكاسب سياسية خاصة بها. على الرغم من حبها لأنطوني، أدت تصرفات كليوباترا في النهاية إلى وفاته، مما يسلط الضوء على عواقب إعطاء الأولوية للرغبات السياسية على العلاقات الشخصية. إن تصوير شكسبير لكليوباترا بمثابة حكاية تحذيرية من مخاطر السعي إلى السلطة السياسية على حساب الثقة والولاء. ومن ناحية أخرى، يمثل أوكتافيوس قيصر وجهة نظر متناقضة للسلطة السياسية، فهو يعطي الأولوية لطموحاته السياسية قبل كل شيء. إن نهج قيصر القاسي والمدروس في السياسة يسلط الضوء على عواقب وضع السلطة والهيمنة على العلاقات الشخصية. تُظهر خيانته لأنطوني وكليوباترا الطبيعة المدمرة للطموح السياسي والتأثير الذي يمكن أن يحدثه على العلاقات. بشكل عام، يسلط تصوير شكسبير للسلطة السياسية في مسرحية أنتوني وكليوباترا الضوء على موضوعات الولاء والخيانة وعواقب إعطاء الأولوية للرغبات السياسية على العلاقات الشخصية. إن صراعات الشخصيات مع الولاءات المتضاربة والمعضلات الأخلاقية بمثابة تذكير مؤثر بالتعقيدات والتعقيدات الأخلاقية التي تصاحب السعي إلى السلطة السياسية. من خلال شخصيات أنطوني وكليوباترا وأوكتافيوس قيصر، يقدم شكسبير استكشافا مثيرا للتفكير للتوترات المستمرة بين السلطة السياسية والعلاقات الشخصية.

4. إن النظامين السياسيين المتناقضين في روما ومصر، مع قيم الواجب والمتعة الخاصة بكل منهما، يشكلان بمثابة خلفية لدراسة التوترات بين البراغماتية السياسية والرغبات الفردية.

في مسرحية شكسبير أنتوني وكليوباترا، تلعب الأنظمة السياسية المتناقضة في روما ومصر دورا حاسما في تشكيل تصرفات الشخصيات وعلاقاتها. إن روما، باعتبارها مثالاً للواجب والنظام، تقدر البراغماتية السياسية والولاء والمسؤولية قبل كل شيء. ومن ناحية أخرى، تجسد مصر عالما من البذخ والمتعة والانغماس، حيث يسود السعي وراء الرغبات الفردية. ويظهر التوتر بين هذين النظامين السياسيين واضحا في شخصيتي أنطوني وكليوباترا. أنتوني، كجنرال روماني، ممزق بين إحساسه بالواجب تجاه روما وحبه الساحق لكليوباترا. ويسلط صراعه الضوء على الصراع بين البراغماتية السياسية والرغبات الشخصية، حيث يضطر إلى الاختيار بين مسؤولياته كقائد ورغبته في أن يكون مع كليوباترا. ومن ناحية أخرى، تمثل كليوباترا قيم مصر، حيث يتم إعطاء الأولوية للمتعة والرفاهية قبل كل شيء. إنها رمز للشهوانية والعاطفة، وغالبا ما تتعارض رغباتها الفردية مع توقعات دورها كملكة. إن عدم قدرة كليوباترا على التوافق مع المعايير الصارمة للمجتمع الروماني يزيد من تعقيد الديناميكيات السياسية في المسرحية، حيث غالبا ما يُنظر إلى تصرفاتها على أنها تهديد لاستقرار الإمبراطورية الرومانية. من خلال تجاور روما ومصر، يستكشف شكسبير التفاعل المعقد بين البراغماتية السياسية والرغبات الفردية. تعمل التوترات بين الواجب والمتعة، والولاء والعاطفة، والنظام والفوضى، كخلفية للعلاقات المعقدة وصراعات السلطة التي تتكشف في المسرحية. في نهاية المطاف، يؤكد النظامان السياسيان المتناقضان في روما ومصر على الموضوعات العالمية المتمثلة في الطموح والولاء والحب والخيانة، ويسلطان الضوء على الصراع الأبدي بين الرغبات الشخصية والحقائق السياسية.

5. في نهاية المطاف، يمكن النظر إلى سقوط أنطونيو وكليوباترا باعتباره قصة تحذيرية حول مخاطر إعطاء الأولوية للإشباع الشخصي على المسؤولية السياسية، والعواقب المترتبة على الاستسلام لإغراءات السلطة والطموح.

في مسرحية "أنطوني وكليوباترا" نشهد السقوط المأساوي لحاكمين قويين يستسلمان لرغباتهما الشخصية ويهملان مسؤولياتهما السياسية. أنتوني، وهو جنرال روماني محترم، ينشغل بحبه لكليوباترا، ويسمح لشغفه أن يحجب حكمه. من ناحية أخرى، تعطي كليوباترا الأولوية لمتعتها ورفاهيتها على رفاهية مملكتها، مما يؤدي إلى اضطرابات سياسية وكارثة في نهاية المطاف. ويخدم سقوطهم كقصة تحذيرية حول مخاطر وضع الإشباع الشخصي فوق المسؤولية السياسية. إن قرار أنطوني بالتخلي عن واجباته كقائد ليكون مع كليوباترا لا يضعف موقفه فحسب، بل يقوض أيضا استقرار الإمبراطورية الرومانية. وبالمثل، فإن تثبيت كليوباترا على رغباتها الخاصة يعميها عن احتياجات شعبها، مما يؤدي إلى صراع داخلي وتهديدات خارجية تؤدي في النهاية إلى سقوطها. علاوة على ذلك، تصور المسرحية عواقب الاستسلام لإغراءات السلطة والطموح. كل من أنتوني وكليوباترا مدفوعان بالتعطش للسيطرة والهيبة، مما يؤدي في النهاية إلى اتخاذ قرارات متهورة تؤدي إلى زوالهما. إن جوعهم الذي لا يشبع إلى السلطة يعميهم عن حقائق أوضاعهم، ويجعلهم يتجاهلون التحالفات والولاءات التي كان ينبغي عليهم رعايتها من أجل الحفاظ على مواقعهم في السلطة. وفي النهاية، فإن المصير المأساوي لأنطوني وكليوباترا بمثابة تذكير واقعي بمخاطر الغطرسة والأنانية في الساحة السياسية. ويسلط سقوطهم الضوء على أهمية الموازنة بين الرغبات الشخصية والمسؤوليات السياسية، وضرورة الانتباه إلى العواقب المترتبة على تصرفات المرء على نطاق أوسع. في نهاية المطاف، يعد "أنتوني وكليوباترا" بمثابة حكاية تحذيرية حول مخاطر إعطاء الأولوية للإشباع الشخصي على الواجب السياسي، والثمن الباهظ الذي يدفعه الأفراد عندما يستسلمون لإغراءات السلطة والطموح.

في الختام، فإن تصوير شكسبير للسياسة في أنتوني وكليوباترا بمثابة استكشاف مقنع لديناميات السلطة، والولاء، وتعقيد العلاقات الإنسانية. من خلال تصوير التفاعل المعقد بين الرغبات الشخصية والطموحات السياسية، يدعونا شكسبير إلى التفكير في عواقب الطموح غير المنضبط وتوازن القوى داخل الهياكل السياسية. من خلال المواضيع الخالدة والتوصيفات الدقيقة، يظل كتاب أنتوني وكليوباترا بمثابة فحص خالد ومثير للتفكير للتأثير الدائم للسياسة على الحياة الشخصية والعالم ككل.

***

محمد عبد الكريم يوسف

......................

المرجع

Anthony and Cleopatra, William Shakespeare

شروحات أساتذتي الكرام أثناء دراستي الجامعية

إن مضامين قصائد ديوان (زنابق السنين) للشاعر د. بهجت عباس الشعرية العمودية، قد انزاحت الى تناول قضايا مهمة في الشأن السياسي والديني للحقب السوداء المتعاقبة على تاريخ العراق السياسي، التي مرت على العراق، ودفعته الى حافة العواصف الهوجاء، التي تميزت في انحراف البوصلة خلال أكثر من ستة عقود عجاف، تجرع كأس الحنظل في المخاطر الجسيمة، التي لعبت في مصير الوطن والانسان الى حافة الانزلاق والتصادم العنيف بين الفرق السياسية. القصائد الشعرية برعت في صياغة القصيدة العمودية على وقع أنغامها وبحورها الشعرية في إيقاعات موسيقية مختلفة الترنم والترتيل، في لغة شعرية سلسة ورشيقة وواضحة، بحيث تتحرك بوهج الفعل المتجسد من أتون هذه الحقب السوداء، التي مرغت الوطن في المستنقع العكر، عقود عجاف، وتجرع مرارة معاناتها المتشظية، في معالم البطش والاستبداد والطغيان في اتجاهات مختلفة، ولم ينقطع نزيف الدموي منذ آنذاك ولحد واقعنا الحاضر. القصائد الشعرية تمتلك الرؤية الفكرية الناضجة في الإحساس الذاتي الصادق، وتمتلك وضوح الرؤية، هذا الوضوح أتاح فتح معالم القصائد في الاتساع والاشعاع، من افرازات هذه الحقب السوداء، في مراحلها العاصفة على ايقاعات تراجيدية مأساوية، ولم تغب السخرية والاستهجان والألم والحزن والغضب والاحتجاج، من هذا النزيف الدموي. الذي لم ينقطع نزيفه من جسد العراق، من الظلم والحرمان والإرهاب ومآتم الموتى بالمجان، في الانحراف البوصلة السياسية والدينية من السيء الى الاسوأ، في الانزلاق السياسي، وتمزيق الهوية الوطنية والاجتماعية في هذه المراحل العجاف. وقصائد الديوان الشعري ( زنابق السنين) تشكل وثيقة بيانية صارخة للأحداث الملتهبة التي مرت على تاريخ الوطن. منذ ان سرقوا أجهضوا ثورة الشعب في ارتكاب سفك الدماء والمجازر ومشانق الموت في الشوارع والساحات، في اغتيال عهد الجمهوري الوليد، الذي جاء ليضع العراق على سكة السلامة في الازدهار والتطور. وعبر الشاعر عن فرحته بهذا الحدث الكبير في تاريخ العراق بقصيدة (ثورة الشعب). وترنمت على ايقاع صدى الشعبي الواسع الذي فرح في انطلاقة الثورة.

 يا ثورةَ الشعبِ، صُبِّي وابلَ الغضبِ

وحطِّمي كلَّ فـكـرٍ شـاردٍ جدِبِ

*

وقوِّضي كلَّ ما يَبـنونَ مـن عُرُشٍ

فقد أبَـوْا أنْ يسـيرَ الركبُ بالأرَبِ

*

وحطِّمـي كلَّ بـاغٍ من خسـاستـه

أنْ يقذفَ الشعبَ بالأهـوال والكُرَبِ

 لكن مسيرة الثورة انتكست وخابت الاحلام والامال، واجهضت انطلاقة الثورة في مهدها. وضاعت فرحة الشعب، فقد عصفت بها عاصفة هوجاء اقتلعتها من الجذور. من المغامرين المأجورين. الذين عملوا في الظاهر والخفاء على اغتيال الثورة وغرقها بالدماء. من احد المتهورين الذين حط على رأسه طير السعد، ليمتطي الموجة صولجان الحكم والنفوذ، وما شخصية (حمدي) هي رمزية لكل طاغٍ ومستبد يضع نفسه الاله الاعظم والشعب عبيد تابع له، يؤدي فروض الطاعة والمهانة والذل، بالتلويح بالقبضة الحديدية في البطش والتنكيل لكل من يخرج من طاعته.

وربَّ عبدٍ كان يُدعى حمدي

 حطَّ على رأسه طيرُ السعدِ

*

فراح يبدي العنفَ والتحـدّي

وينظر الناسَ بعـين الحقدِ

*

واختار في الدنيا طريقَ الكيدِ

 يُـعلّل النفسَ بأغلى صـيْدِ

*

فلَطَمتـْه كفّ دهـرٍ وغْـدِ  

فصار قرداً من قرود الهنـدِ

*

صـيَّره الزمان حَيْـزبونـا

يبـتدع الفنـونَ والشجونا

*

وينهـش البائسَ والمسـكينا

ويحسَـبُ العبادَ مارقيـنا

*

والناسَ، إنْ لمْ تُصغ،ِ خاسرينا

لا يفـهم اليسارَ واليميـنا

*

لا يُـدرك الظاهرَ والمكـنونا

وإنَّ في الغيب له شؤونـا

 صناعة الدكتاتور وخلقه هي من ارادة الشعب وصنعه بنفسه لنفسه. في بادئ الأمر كان للتسلية والملهاة وانتهى بالتراجيديا المأساوية، حين صنعوا دمية التنين، وصلوا ودعوا الرب ان يبث الروح في دمية التنين، وحين استجاب الرب الى دعواتهم وصلواتهم في بث الروح في التنين، وتحركت روحه واستقام له الحال والمقام، وبعد ذلك جرعهم المر وجعلهم يتلوعون بنار جهنم. فدعوا الله في صلواتهم أن يسلب الروح من هذا التنين الوحش، فلم يستجب لهم، وأخذ التنين يرقص فرحاً ويقهقه زهواً على غبائهم وسذاجتهم.

صنـعـوا مـن الطِّـين تـنّـيـناً للهوهمْ.

صلَّـوْا ودَعـَوْا ربَّـهم أنْ يبعثَ فيه الروحَ، فـفعـل.

فلما دبَّـت الحياةُ فـيه، انـقـضَّ عليهم فهـربوا.

ولما دخـل بـيوتَهـم، هـجروها ونـاموا في العَـراء.

أخذوا يصلّـونَ ويـدعون الربَّ أنْ يسلبَ الروحَ منه، فأبى!

أخذ التِّـنّـينُ يـُقَـهْـقِـه وهـم يُـوَلـوِلـون!

لقد أصبحت نعمة النفط نقمة ودمار ولهيب تحرق الشعوب وتدميرها، أن تكتوي بالنيران، بدلاً أن تكون نعمة رخاء ورفاه وسعادة. حدث العكس، فقد أصبح النفط نقمة ومعاناة، فقد فتح بابواباً عريضة لحيتان الفساد وحاشيتهم في النهب واللصوصية في وضح النهار، ويحرمون الشعوب من خيراته. أصبحت موارد المالية الضخمة مرتعاً لتنافس والنفوذ على الغنائم الحصص بين أصحاب الجاه والنفوذ. فقد اصبح الذهب الأسود مصدر الشقاء والبؤس وعدم الامان والاستقرار، وأصبح مصدر للحروب والنعرات والفتن.

 يـا نفط بـلْ يا لهبُ أأنتَ حقّــاً ذهبُ؟

أشـقيتـَنا أحرقـتـَنا جعـلـتـَنا نـنـتـحـب ُ

*

أغـريتَ كلَّ طـامعٍ بنهبِ ما لا يُنهَبُ

وكـلَّ سـفـّاح ٍ أثـيـم ٍ دمَـــنــا يسـتـعــــذب ُ

*

دعـوتَـهمْ لأرضـنا لبّـَوْا فكان الشَّجَـب ُ

قد خلقـوا أبـشـعَ وحــش ٍ شـهدتـه الحِـقَـبُ

*

ونَصَّـبوا حاشـيـة ً ذئـابُ غـاب ٍ تـثـب ُ

وخـلفـه أزلامـُـــه لا خـُلُــق ٌ، لا أدبُ

وتضمن الديوان الشعري بعض الرباعيات المتفرقة، التي تملك صياغة شعرية وتعبيرية مبهرة في الصورة والدلالة تجسد الواقع في كل مجرياتها المنحرفة عن جادة الصواب، بأن هذه الدنيا من صنع البشر، حينما يعلو الجهل والأوهام والخرافة، الى المراتب العليا، والوعي الثقافي والفكري الى المراتب السفلى، ماذا تكون نتيجة أفعال الدنيا والحياة ؟.

 هذه الدّنيـا صنعــناهـا بأيـديــنـا كـئيـبـة

ورفعنـا الجَّهـلَ والأوهامَ أعلاماً رهيـبة

*

وتركـنـا العقـلَ يستـهدي بآراءٍ مُـريـبـــة

فزرعنا الموتَ والأحقادَ في أرض خصيبة

وكذلك تضمن الديوان الشعري على بعض الخماسيات ذات الاشطر الخمسة، بارعة الصياغة والتعبير في دلالتها البليغة عن حقيقة الواقع للطبقة السياسية الحاكمة للعهد الجديد، التي تملك السلطة والنفوذ والمال الوفير.

 يلعب اللصّ ُبقوتِ الشَّعب والرأسُ عِـمامـة

وجـهـُه ينضح حـقـداً وخداعـاً ولآمـة

فَمـُه يلهـجُ بالحمـد فقـد نـال مـرامَـه

أهوَ الدّيـن الذي أرخـى على العقـل غمامة؟

أم هُـوَ الشَّيطانُ قد سلَّـمَ للشَّيـخ زمامَـه؟

***

 جمعة عبدالله

 

فالقُطَّبِيّاتُ فالذَّنُوبُ

        أَقْفَر منْ أَهْلِهِ مَلْحُوبُ

بنيت المعلقة على (مجزوء البسيط) (مستفعلن فاعلن مستفعلن) باستخدام كل الزحافات لكل تفعيلة منها، الا ان العروضيين حسبوها على (مخلع البسيط) (مستفعلن فاعلن فعولن) الذي لم يسمح – حسب افتراض الخليل – الا بدحول الزحاف على (مستفعلن الاول) ولزحافين فقط هما (الخبن والطي). فلم يسمح بدخول (الخبل). وجعل الخليل التفعيلة الثالثة (مستفعلن) مقطوعة مخبونة وجوبا فتحولت الى (فعولن). أما الشاعر فاستخدم كل الزحافات الداخلة على (مستفعلن) الاولى (الخبن والطي والخبل)، واستخدم الخبن مع التفعيلة الثانية (فاعلن) واستعمل مع مستفعلن الثانية (القطع وحده، والقطع مع الخبن).

موسيقيا، القصيدة موزونه ورائعة الموسيقى. وهذا أول رأي يقرأ القصيدة قراءة صحيحة ذوقيا وعروضيا، فكل السابقين رأوها مضطربة مكسورة قال الخاديان (يجفو عنها السّمع وتضطرب في الذوق) وقال ابن رشيق (ومنه قبيح مردود لا تقبل النفس عليه، كقبح الخلق واختلاف الأعضاء في الناس وسوء التركيب، مثله قصيدة عبيد المشهورة: (أقفر من أهله ملحوب) فإنها كادت تكون كلاماً غير موزون بعلة ولا غيرها، حتى قال بعض الناس: إنها خطبة ارتجلها فاتزن له أكثرها. وقال أبو العلاء المعري (وزنها مختلف وليست موافقة لمذهب الخليل في العروض) ، وقال الأخفش الأوسط (وفي الشعر الرّمل، وهو عند العرب عيبٌ. وهو ممّا تسمّي العرب. وهو كلّ شعر مهزول ليس بمؤلّف البناء. ولا يحدّون في ذلك شيئاً. وهو نحو قول عبيد: (أقفرَ من أهلهِ ملحوبُ فالقطّبيّاتُ فالذَّنوبَ). وقال ابن سنان الخفاجي (ومن المناسبة أيضاً: التناسب في المقدار وهذا في الشعر محفوظ بالوزن فلا يمكن اختلاف الأبيات في الطول والقصر فإن زاحف بعض الأبيات أو جعل الشعر كله مزاحفاً حتى مال إلى الانكسار وخرج من باب الشعر في الذوق كان قبيحاً ناقص الطلاوة، كقصيدة عبيد بن الأبرص: (أقفر من أهله ملحوب). وقال ابن سلام الجمحي: (وعبيد بن الأبرص، قديم، عظيم الذكر، عظيم الشهرة، وشعره مضطرب ذاهب، لا أعرف له إلا قوله: (أقفر من أهله ملحُوبُ فالقُطَبِيَّاتُ فالذنوبُ) ولا أدري ما بعد ذلك).

وهذه الاراء الصادرة عن كبار رجال العلم والادب كلها خاطئة لانها تابعت الخليل ووقعت تحت تأثير عروضه، ولم تستشعر الموسيقى الصحيحة التي لم يخرج الشاعر فيها عن (مجزوء البسيط) ومن ثم لم يعطوا لانفسهم وهم واقعون تحت تأثير الانقياد والسير الاعمى وراء الخليل فرصة تذوق موسيقاها والحكم عليه شخصيا.

القصيدة حسب رواية الجمهرة تتألف من (49) بيتأ، جاء (12) بيتا منها متفقا مع عروض (مخلع البسيط) الذي حدده الخليل بنفاعيل (مستفعلن فاعلن فعولن)، و(12) بيتا خارج عروض الخليل ولكنه ضمن (مجزوء البسيط) (مستفعلن فاعلن مستفعلن). وجاء (25) بيتا يخلط بين العروضين.

فمن الابيات الى وافقت عروض الخليل:

للماءِ مِن تَحتِهِ سُكوبُ

مستفعلن فاعلن فعولن

أو جَدْوَلٌ في ظِلالِ نَخلٍ

مستفعلن فاعلن فعولن

*

أنّى؟ وقَد راعَك المَشيبُ

مستفعلن فاعلن فعولن

تَصبُو وأنّى لكَ التّصابي؟

مستفعلن فاعلن فعولن

*

وغائِبُ المَوْتِ لا يَؤُوبُ

متفعلن فاعلن فعولن

وكلّ ذي غَيْبَةٍ يَؤُوبُ،

متفعلن فاعلن فعولن

*

أو غانمٌ مِثْلُ مَنْ يَخيِبُ

مستفعلن فاعلن فعولن

أَعَاقِرٌ مِثْلُ ذاتِ رِحْمٍ؟

متفعلن فاعلن فعولن

*

وسَائِلُ اللَّهِ لا يَخيبُ

متفعلن فاعلن فعولن

مَنْ يَسْأَلِ النَّاسَ يَحْرِمُوه

مستفعلن فاعلن فعولن

ومن الابيات الى خالفت عروض الخليل ولكنها وافقت عروض مجزوء البسيط باستخدام كل زحافات تفاعيله قوله:

وكلّ ذي أملٍ مَكذُوبُ

متفعلن فعلن مستفعل

فكلّ ذي نِعْمَةٍ مَخْلُوسٌ

متفعلن فاعلن مستفعل

*

وكلّ ذي سَلَبٍ مَسْلُوبُ

متفعلن فعلن مستفعل

وكلّ ذي إبِلٍ مَوْرُوثٌ،

متفعلن فعلن مستفعل

*

والقَوْلُ في بَعْضِهِ تَلغيبُ

مستفعلن فاعلن مستفعل

باللَّهِ يُدْرَكُ كلُّ خَيْرٍ،

مستفعلن فعلن فعولن

*

ـ دَّهْرُ، ولا يَنْفَعُ التَّلِبيْبُ

مستعلن فاعلن مستفعل

لا يَعظُ النّاسُ من لا يعظُ الـ

مستعلن فاعلن مستعلن

*

طُولُ الحَياةِ لَهُ تَعْذِيبُ

مستفعلن فعلن مستفعل

والمَرْءُ ما عاشَ في تكذيبٍ

مستفعلن فاعلن مستفعل

*

ومن الابيات التي جمعت العروضين:

فالقُطَّبِيّاتُ فالذَّنُوبُ

مستفعلن فاعلن فعولن

أَقْفَر منْ أَهْلِهِ مَلْحُوبُ

مستعلن فاعلن مستفعل

*

فَذاتُ فِرْقَينْ فالقَليبُ

متفعلن فاعلن فعولن

فَرَاكِسٌ فَثُعَيْلِباتٌ

متفعلن فعلن فعولن

*

والشّيبُ شَينٌ لمن يَشيبُ

مستفعلن فاعلن فعولن

إمّا قَتيلٌ وإمّا هَالِكٌ،

مستفعلن فاعلن مستفعلن

*

كأنّ شَانَيْهِما شَعيبُ

متعلن فاعلن فعولن

عَيْنَاكَ دَمْعُهُما سَرُوبُ

مستعلن فعلن فعولن

*

مِن هَضَبَةٍ دونَها لُهُوبُ

مستفعلن فاعلن فعولن

واهِيَةٌ أو مَعينٌ مُمعِنٌ

مستعلن فاعلن مستفعلن

ولهذا تكون معلقة عبيد بن الابرص سليمة موسيقيا وعروضيا، وعلى المثقفين وطلاب العلم أن يقرؤوها قراءة حرة هذه المرة بعيدة عن تأثير القراءة الخاطئة المخطّئة لتعود القصيدة الى مكانها ومستواها اللائق يسن المعلقات.

***

الاستاذ الدكتور محمد تقي جون

تعد الحواس الخمس من أهم الأدوات التي تمكننا من إدراك ما حولنا؛ فهي العتبة الأولى نحو العالم الخارجي، بتلك الحواس يقيم شاعر الهايكو شراكة فاعلة بين عالمه الداخلي ومحيطه البيئي؛ فتحدث اللحظة الجمالية. ينقل الهايكو، كونه مشهدا حسيا في الأساس، تجربة الشاعر الإنسانية المعاشة من خلال شغف الحواس الخمس: البصر، السمع، اللمس، التذوق، والشم. تسهم الحاسة البصرية بالنصيب الأكبر والأهم في إدراك العالم، يليها السمع، مع ذلك لا غنى عن الحواس الأخرى لفهم العالم بشكل تام. يقوم الهايجن بدور المراقب عبر حواسه لينقل تجربته المشتركة دون أن يبوح بمشاعره التي أثارتها تلك التجربة. يؤكد هذه الحالة مقولة جوزيف كونراد: "إن فن الكتابة يجعلك تسمع وتشعر، وقبل كل شيء ترى"، التي تشير إلى أهمية الوعي، الناتج عن الإدراك المفاجئ للحقائق الكامنة في الوجود، في نشوء شرارة العملية الإبداعية.

ما يميز كاتب الهايكو عن غيره من كُتَّاب الأنماط الشعرية الأخرى قدرته الاستثنائية في استخدام حواسه لتشكيل صورة أو صورتين متجاورتين تنقلان جوهر التجربة الإنسانية بكلمات غاية في الإيجاز، وأحيانا عبقريته في تجاوز هذه التجربة عبر إحداث صدى جمالي أو وميض أو إحساس مفعم بالدهشة.

أمامنا خمسة نصوص لتلميذ باشو، كيكاكو، استطاعت، عبر الحواس الخمسن، تحقيق جمالية الاستنارة (حالة الوعي بالعالم):

(1)

غروب الشمس

فراشة ترفرف

وسط المدينة

(2)

طائر الدخلة

يتشقلب

أغنية العالم الجديد

(3)

متعرضا للطعن

في حلم يبدو واقعا

مسارات البراغيث

(كيكاكو)

(4)

جنبا إلى جنب

مع عربة تجميع السماد

أزهار الكرز الجبلية

(5)

عند بوابة العشب

ألتهم فلفل الماء -

يراعة!

The Haiku Foundation[1]

يعرض النص الأول لوحة حسية واضحة المعالم، تعتمد بشكل أساسي على الحاسة البصرية. تمكننا الألوان المتنوعة في اللوحة رؤية غروب الشمس.، كما يمدنا كيغو الفراشة بألوانها الفاتنة بصورة الموسم. يحدث تآلف حاستي الصوت والحاسة البصرية من خلال رفرفة الفراشة، فيشكل لوحة شعرية نابضة وزاخرة بالألوان والحياة.

في النص الثاني هناك مشهد مفعم بالحيوية والحركة ( شقلبة طائر الدخلة )، يلفت انتباه الرائي، لكن غاية النص في الأساس هي التركيز على أغنية الطائر التي استرعت الحاسة السمعية لدي كيكاكو.

في النص الثالث يصلنا إحساس الشاعر، من خلال حاسة اللمس، (الحكة الناتجة عن قرصة البراغيث)، حيث كان عالم الحشرات جزءا عاديا من الحياة اليومية في اليابان آنذاك. نجح الشاعر في تجسيد معاناته مع تلك الحشرات، لا سيما أن هاجس الخوف والإحساس بالمعاناة تسللا إلى الشاعر في حلمه، فأصبح الألم في الحلم لا يقل حدة عن الواقع.

في نص (4) يوظف الشاعر حاسة الشم من خلال الجمع بين رائحتي روث البهائم وأزهار الكرز البرية، في محاولة منه لنقل صورة واقعية تتشكل من عالمين مختلفين (الجمال والقبح)، وهي ذات الطريقة التي انتهجها معلم الهايكو في كثير من أعماله الخالدة. بالطبع هناك حواس أخرى فاعلة بالنص كحاسة البصر، لكن الحاسة السمعية، على الآكد، هي المهيمنة على جو النص.

في النص الأخير تبدو حاسة التذوق جلية، حيث يتناول كيكاكو عشبة لاذعة وحارة للغاية تسمى "فلفل الماء". ينتقل إحساس الشاعر إلى القارئ، وقد يصل حد القشعريرة، لكن كلمة "ألتهم" قد تخفف هذه الحدة، فهي تشي بتقبل الشاعر لطعم هذه النبتة اللاذعة.

أخذ باشو موسيقى أشعاره المبكرة من كلمات وإيقاعات الـ"كوتا"، وهي أغان شعبية كانت سائدة في عصره. أدى التركيز على الشكل الموسيقي بشكل كبير إلى افتقار هذه الأشعار إلى العمق والإبداع الفني، لكن خفتت تلك الخاصية في الكثير من الأعمال اللاحقة مع تعميق وتطوير جمالية الكارومي. ذات مرة قال باشو لتلاميذه: "القصيدة الجيدة في نظري هي التي يبدو فيها شكل النص واتصال جزئيه خفيفين كنهر ضحل يتدفق فوق قاعه الرملي". هكذا أدرك باشو أن الموسيقى الخفيفة والخفية يمكنها أن تحقق جودة الشعر وعمق التجربة بدلا من الإيقاعات الصاخبة. في نص البركة الشهير يجمع باشو بين عدة حواس في صورة شعرية متآلفة المشاهد تتميز بالانسياب الموسيقي:

بركة قديمة

ضفدع يقفز . . .

صوت الماء

يعرض النص ثلاثة أنواع من المشاهد تتفاوت فيما بينها ما بين الثبات والحركة والصوت: (1) سكون صورة البركة، (2) حركة الضفدع في قفزته الديناميكية، (3) صوت تدفق المياه الضحلة في البركة. هكذا تتشكل الصورة السمعية عبر الصوت الناتج عن قفزات الضفدع في الماء وحركة تيارات الماء الصافية وتموجاتها الهادئة. يعكس إيقاع الصور في النص إحساسا بأهمية اللحظة التي نعيشها، ومدى تناغمنا مع أبسط الأشياء التي تقدمها لنا الحياة.

تلك التقنية التي استخدمها باشو يطلق عليها "تحول الحواس"، وهي بمثابة انتقال مفاجئ يؤدي إلى إبهار القارئ، وإحداث صدى في ذهنه. انتقل الشاعر من المرئي في المشهد الأول ( البركة القديمة وصورة الضفدع وهو يقفز فيها)، ولم يستمر المشهد في تصوير التفاصيل المرئية، لكنه فاجأنا بانتقاله إلى السمعي "صوت الماء"، وعن طريق تقنية التجاور "التوريوازة" الناجحة، استطاع باشو ربط عناصر القصيدة ليقدم نصا غاية في التماسك والإدهاش.

يقول الشاعر السوري ماهر حرامي في النص التالي:

شفتاها ترتجفانِ

إذ تدنو من أصابعي:

قطةٌ مبلّلة.

اعتمد الهايجن على حاستي السمع والبصر لخلق مجموعة متنوعة من الحالات المزاجية والمشاعر والعواطف. أسهمت حاسة البصر، وهي أكثر الحواس شيوعا في الهايكو، في تكوين المشهد وتصور موقع الحدث، بالإضافة إلى خلق حالة من الوعي والاستنارة لحظة الالتقاطة الجمالية. تنشا موسيقى الحركة من ارتجافة شفتي القطة المبللة وهي تدنو من أصابع الشاعر، كما تسهم حاسة البصر، بغض النظر عن أي من الحاستين أسبق في رسم المشهد. تثير هاتان الحاستان مشاعر الألفة والشفقة تجاه الكائن، وتعكسان حالة التماهي بين الذات الشاعرة وتفاصيل هذا العالم الذي يحرك حواسنا.

هناك نص آخر للشاعر العراقي سرهد هوزايا:

شجيرة خضراء

الزهرة الملتصقة بها،

من شجرة تظللها

انتقلت إلينا مشاهد النص عبر حاسة البصر بشكل أساسي، فألوان الشجيرة الخضراء والزهرة، مع حركة ظل الشجرة الكبيرة، تشكل صور الطبيعة المتناغمة التي تعكس حالة الهدوء الداخلي لدي الهايكست لحظة التقاط المشهد الجمالي. يلفت انتباه الرائي (الهايجن) التصاق زهرة الشجرة الكبيرة بالشجيرة في مشهد حان، يضفى نوعا من البهاء والجمال الآسر. يخبرنا هذا المشهد المفتون بالتفاصيل الكونية اللافتة أن العالم الطبيعي من حولنا لا يمتلك فتنة الإدهاش فحسب، بل ايضا تتبدى من خلال جزئياته لحظات الخلود والكمال الروحي. ترمز تلك الشجرة التي يمتد فيئُها وتتناثر أزهارها إلى العطاء الأبدي للطبيعة.

تلك النصوص المختارة من منتدى هايكو مصر اكتسبت جماليتها من تقنية تحول الحواس:

رفيف

بين الثابت والمتحرك

تترنح اليعاسيب

(لخداري عيسى)

*

حفيف

فقط قفزة الجندب

في سماء اللزورد

(عبدالله هدى)

*

رائحة التفاح

أشعر بأنبوب النرجيلة

بين أصابعي

(إدريس العميري)

*

موسم القطف

دوران الرحى

بأهازيج أمازيغية

(فتيحة بنزكري)

*

شائكة،

تتخطى حدود الحديقة

رائحة الجوري

(كبرياء إبراهيم)

*

لا شيء في الزرقة

سواها

رائحة البارود

(سامية بنعسو)

*

بحيرة جافة

على رائحة المطر

تعود الطيور

(محمد شداد شداد)

*

المطر الغزير ..

يجترح من الحديقة

رائحة النعناع !!

(زيا يوخنا)

***

حسن التهامي

...................

[1] https://thehaikufoundation.org/new-to-haiku-imagery-in-haiku-with-joshua-gage/

 

يبدأ فعل القول بأكثر من نصّ من نصوص تحريك اللغة؛ كفعل قولي استعمالي؛ وفعل قولي آني، وفعل قولي متقدّم على أفعال النصّ الحركية والانتقالية؛ ومن هنا تكون الذات قد بحثت عن مستقرّها الدلالي كذات قولية حقيقية، تنتمي إلى النصّ المخالف وذلك عندما تكون اللغة قد اختلفت عن السائد، وهي اللغة الشعرية بحدّ ذاتها، وذلك من خلال التعدّد الفعلي للفعل القولي ذي الاتجاهات المتعدّدة؛ فالفعل يعني لنا مجموعة من الظواهر التي تشتغل على اتجاهات خاصة، وهي التي تكوّن العلاقات النصّية مع عناصر النصّ الشعري، وهذا ما نلاحظه في العديد من النصوص المكتوبة، ولكن لو تقصّينا الأمر أكثر فسوف نكون في منطقة النصّ المقروء أوّلا، وهو النصّ الذهني قبيل الكتابة، وهو المستهل للعلامات والوحدات اللغوية؛ حيث يمدّنا النصّ بفعل الكتابة الذي تبحث الذات عنه مع فعل قولها المناسب.

موضوع فعل القول وعلاقته بالمفاهيم الداخلية والخارجية، هو الذي يشكّل للنصّ محور التحدّث القولي للذات الحاملة للغة الشعرية؛ فيأخذ الفعل شكل التأسيس، كأن تكون مفاهيم اجتماعية، أو تاريخية، أو نفسية، أو فنّية؛ فجميع هذه العناصر ذات علاقة مع فعل القول النصّي، ولكن الذي يهمّنا هو المفاهيم النصّية التي انطلقت منها الشاعرة السورية هلال شربا؛ وبموجبها تحرّكت أفعال الذات بمفهوم اللغة المحمولة التي انعكست على النصّ الشعري، باعتبار أنّ النص المستقبل الوحيد للغة. وأي نصّ ندخله، يعني إعادة المفاهيم الحياتية المحيطة بالباث الأوّل، حيث أنّ المقاصد تشكّل البؤرة الأولى في النصّ، وتلحقها المفاهيم الكتابية التي تكون خلاصة المقروء في الذهنية.

لا يمكننا الاتكاء على معاني رابطة ومعاني نهائية، وكذلك لا يمكننا أن نذهب إلى التبعثر الاستعاري في منظور الخطاب الشعري، دائما المعاني متوازية، ولكنّها لا تنتهي بنقطة معيّنة حتى إذا كانت تلك نهاية النصّ، فالتأكيد الذي يجري هو إطلاق المعاني في الوجود الزمني المفتوح. وعند المقارنة نعتمد عناصر التشبيه، وهي جزء من الاستعارات الوظيفية في الخطاب الشعري (إنّ العامل في تأثير الاستعارة هو المسافة بين المشبّه والمشبّه به أو كما يقول سايس "sayce": زاوية الخيال. وإذا كانت المسافة بين المشبه والمشبه به قريبة نحو: "وردة تشبه أخرى"، فإنّ الاستعارة تكون مناسبة، ولكن دون أي صفة تعبيرية. – الاستعارة في النقد العربي الحديث – ص 11 – الدكتور يوسف أبو العدوس).

أحب شحيح الدمع في عينيك

فهو مشكاة ضوئي..

..

على ضفة من جسدي

كتبت عنوانكَ

ورسمت خارطة للدرب

اشتعلت بهواجس شتّى

..

من قصيدة: عندما تبحث عيناي

ضمن القول الواحد، قوّلت الشاعرة السورية هلال شربا المشهد الإشاري الذي اعتمدته؛ فالفضاء الذي أمامها يتّسع للمنظور البصري، الذي تحرّك من قبل المنظور الذاتي، لذلك عندما استقبلت الإرسال، في الوقت نفسه عملت على حياكته، وهنا أتكلم عن اللحظة الذاتية التي ظهرت ضمن اللحظة الزمنية؛ حيث أن القول يظهر: كمبدأ يتمّ ترجيعه إلى المخاطِب.. أو يتمّ ترجيعه إلى المنظور النصّي، الذي ينوب عن المنظور المباشر، أي تحويل فعل المباشرة إلى قول زمني حسب استحقاق المخاطِب.. فكتابة العنوان، وحضور الجسد، فيكوّن ذلك تعدّداً صامتاً، وهو النصّ بعينه عندما يقفز فعل القول في دواخله لتحريكه. أمّا المتكلم فله العودة بكل تأكيد حسب الشاعرية والثقل الشعري الذي ينوب عن الكلام، ويكون عادة القول الآني أو المستقبلي؛ حيث يندمج الماضي بينهما..

أحبّ شحيح الدمع في عينيك + فهو مشكاة ضوئي..

على ضفة من جسدي + كتبت عنوانكَ + ورسمت خارطة للدرب + اشتعلت بهواجس شتّى

نميل إلى المتعلقات التي طرحتها الشاعرة السورية هلال شربا، والمتعلّق هنا، تعلّق مقامي إخباري، حسب فعل القول الذي قادنا إليه ونحن نقرأ ما تشير إليه من خلال الجمل التواصلية. وقد أكدت بحوث (علم المعاني، وحسب ما جاء به الباحث المغربي د. رشيد بلحبيب) على المقامات وحول التأخير والتقديم في الجمل؛ وبما أنّ الجملة التي تسندنا جملة شعرية، فهذا يعني أنّ للمعنى الأثر والفعّالية وكيفية الدخول إليها من خلال المقامات والمتعلّقات.

أحبّ شحيح الدمع في عينيك = جملة فعلية مسندة إلى فعل القول، فإخبار الشخص الآخر المغيّب، تعني أنّ هناك حواراً جرى بين الشخص الآخر والباث، ولكن ليس كأيّ حوار نعتمده، فالموقع المعتمد، موقع إشاري؛ فقد أشارت الشاعرة إلى نوع الخبر المندمج مع الدمع، وعندما نشير إلى الدمع، نشير إلى مصدرها أيضاً، وإلا فالاختلاف اللغوي يكون قد سيطر بشكل فعّال على الكلمات وأبعد التجانس اللغوي؛ فالشاعرة هلال شربا أخرجت الداخل الذاتي وتمتّعت بالكلمات بكلّ أريحية وهي تطلق وترسم أجزاء الربط بين جملة وأخرى:

أحبّ شحيح الدمع في عينيك + فهو مشكاة ضوئي..

على ضفة من جسدي + كتبت عنوانكَ + ورسمت خارطة للدرب + اشتعلت بهواجس شتّى

نسعى إلى التفكيك، ونتّصل بالعالم، العالم الذي يحيط بالشاعرة، وهو ضمن عدّة عوالم تعوم حول الذات الحقيقية؛ ولكن نتوقّف أمام عالم واحد، وهو الخبر الضمني حول ضفة الجسد الذي انتقل من الداخل الذاتي إلى الخارج الذاتي، وكأن فعل الإشارة هو الذي ظهر لتكوين الدلالات التي اعتمدتها الشاعرة. ومن خلال الجملة وما تحمله من معنى دلالي دلّت إلى أنّ المطالع التي اعتمدتها هي لوحدات لغوية. ولكن في حالة الفعل الكتابي يختلف المنظور عن الفعل الكلامي، فقد اعتمدت على تأويل الجملة؛ ووظفت الشاعرة بعض المفردات والتي لها مركزيتها في الجمل الشعرية ومنها: الجسد، العنوان، خارطة والهواجس، وما يشغلها هي الكتابة على شكل رسالة، وهنا تعتمد حالة التشبيه التي أشرت إليها أعلاه أيضاً.

أتشبّث بحبال السراب

تقذفني كرة ثلج

تذوب في

وهج الحمّى

الحمّى التي تعالت

من حولنا:

تزدحم الطرقات

الأيائل التي مازلنا نودّعها

هجرة الأولاد

وفتنة القياسات التي

مازالت قيد التنفيذ...

.....

من قصيدة: عندما تبحث عيناي

نعتمد على فعل القول الذاتي من خلال المقطع الذي رسمته الشاعرة هلال شربا، فنلاحظ أن أصغر بنية دلالية هي الحركة، وقد بدأت بالفعل (أتشبّث)، وأكبر بنية دلالية هي اللفظ، ولكن عندما نكون مع فعل القول الذاتي، فإنّ الذي يخرج أمامنا يطابق المعنى اللاحقيقي، وتتكوّن إشارات استندت عليها الشاعرة، وهي توحي إلى التقديرات؛ حيث استطاعت أن تكون ذات مساحة ملائمة من الانزياح في جملها، معتمدة على نظرية الاستعارة، والتي تعد إحدى النظريات المهمّة؛ ومثل هذه الجمل تعدّ من الجمل التنشيطية للنصّ الشعري الحديث، وهي تقودنا إلى الصور الشعرية.

أتشبّث بحبال السراب +   تقذفني كرة ثلج + تذوب في + وهج الحمّى + الحمّى التي تعالت + من حولنا: + تزدحم الطرقات + الأيائل التي مازلنا نودّعها + هجرة الأولاد + وفتنة القياسات التي + مازالت قيد التنفيذ...

طرحت الشاعرة هلال شربا المعنى الوجودي في المنظور الاستعاري في كلّ جملة شعرية تواجهنا؛ وذلك من خلال الصلات الدلالية التي عمّقت المعاني من جهة، والبدائل لبعض المفردات المختلفة من جهة أخرى، فقد جاءت مثلاً جملة: أتشبّث بحبال السراب، فالسراب لا حبال له، ولكن الصلة الدلالية عمّقت المعنى وكذلك اختيار بعض الكلمات التي ابتعدت عن المباشرة، وأيضاً جملة: تقذفني كرة ثلج، فقد جعلت من كرة الثلج حياة أخرى قد تمتطيها عندما قذفتها أو كانت متدحرجة عندما واجهتها وأبعدتها من خلال الدحرجة. الكرة الثلجية لا تشبه السراب، فقد كان المطلع النصّي كافتتاح، بينما التواصل اللغوي بدأ من الجملة الثانية، وجميعها تؤدي رسالة عن الألم السوري الآني وهجرة الأولاد من البلاد التي انجبتهم.

تعتريني شهقاتُ الموت

في اللحظة لحظاتٍ

حتى يغادرَني ثقلُ الهواءِ الذي

لن يفهمَ رسالة وجودي...

اضطراباً لأنسام محنّطة

في كبد الفضاء

...

من قصيدة: رائحة اللحظة

فلسفة الأنا أقوى من الـ (هو)، أي أنّ للمنظور الآني نشاطاً لغوياً أقوى من الغائب وكذلك من الماضي، فتحضر هذه الأفعال من خلال المنشّط الحاضر لفلسفة الأنا، وما نلاحظه بالفعل الذاتي الحركي هو الذي نشّط الفعل اللغوي في النصّ الشعري الحديث؛ ومن هنا ينتظم الخط التواصلي بين الفعل الذاتي الحركي، والفعل النصّي والذي يصبح موضوعاً تعيينيا بلغة تعيينية في النصّ المكتوب.

عندما نذكر القول الدال الذي يشير إلى الكلمات كمنبّهات متواصلة إلى المتلقي، نشير في الوقت نفسه إلى الجملة بأجزائها، ولا نستطيع أن نتخلى عن أجزاء الجملة والتي نعني بها جملة شعرية انتهت بنا إلى حد التواصل كمركبات لمفردات وذلك لكي نتوصّل إلى الجنس التام.

تعتريني شهقاتُ الموت + في اللحظة لحظاتٍ + حتى يغادرَني ثقلُ الهواءِ الذي + لن يفهمَ رسالة وجودي... + اضطراباً لأنسام محنّطة + في كبد الفضاء

بين القصدية الآنية، والقصدية الأخرى، يكمن الدال عندما أطلقوا على الدلالة بين الشيء والشيء الآخر، فقد كان الشيء هو الدال والآخر هو المدلول، لذلك لو تقصّينا النصّ الماثل أمامنا، فسنى أنّ هناك الشيء، وهناك الشيء الآخر، أي أنّ الشهقة تعدّ من الأشياء، والآخر هو الذي يتبيّن من خلال التفصيل النصّي، هو الموت، ومن هنا نؤكّد بأنّ الشاعرة هلال شربا أرادت أن تبلّغ عن شهقات الموت، وهي الخطوات التي تؤدّي إلى الموت؛ لذلك ظهرت الخطوط الرئيسية الدلالية للمعنى اللغوي من خلال الاختلاف أوّلا ومن ثمّ دلالة اللفظ ثانياً.

أنا شيفرةٌ لم تجدْ بعدُ من يفكُّ رموزِها

لم يأتِ أوانُ فهمِ هذا الوجيب

والقمرُ آيلٌ للسقوط

مضيتُ كعشتار

عندما أصبح الوجودُ حديقة

وأنا أسقيها

بماءٍ الأقحوان

...

من قصيدة: رائحة اللحظة

هناك ثلاث باقات من المعاني، فهي تبدأ من النصّ، وتنتهي به، ونستطيع أن نضيف لها مفهوم (التمثيل) والذي يمثل المعنى الأحادي، باعتبار العنونة حالة مستقلة؛ وسوف أدمج ما تبقى من النصّ كمعنى اعتمد اللامألوف وما قدمته الشاعرة السورية هلال شربا في رحلتها النصّية:

الباقة الأولى:

الأنا المتمثلة بالوعي الذاتي؛ كما جاء في جملة: أنا شيفرةٌ لم تجدْ بعدُ من يفكُّ رموزِها

والتي تمثلت كمطلع للوحدة الدلالية، وهي بداية المعنى الذي أقصده، حيث تنسب شخصيتها للشيفرة التي لا يمكن فكّها، لنقل ليس بهذه السهولة تفكّ الشيفرات والتي تعتمد الرمزية النصّية، ولكن في الوقت نفسه اعتمدت الشاعرة التوضيح الدلالي في دلالاتها للمعاني المعتمدة.

ما أجملَ وفاءَ الغيوم

عندما تصرّ على أنّها ستغسل الأرض

والأرضُ تصرّ على الزغاريد

عندما تستقبلُ لحظاتِ الشمس

وهي تظهر من خلف الغيوم

كلحظاتِ طائر تراءت لعينيه

حفلاتُ الجنون!

....

من قصيدة: رائحة اللحظة

إنّ البناء القصدي الذي يؤدي إلى التأمّل، يقودنا إلى التفاؤل أيضاً، وهذا ما قصدته الشاعرة وهي تقودنا إلى القمر، وإلى عشتار، وكذلك إلى الفرحة (الحديقة)؛ هذه المفردات التي اعتمدت البناء، ماهي إلا امتداد للفعل الذاتي من خلال الوعي كنشاط للذات الحقيقية.

الباقة الثانية:

إنّ أي قيمة للمعنى، هي قيمة دلالية، والتغيير الذي يحدث بين المعاني، تغييرات في الأفعال الحركية والانتقالية، ومن هنا من الممكن أيضاً أن يكون اتصال النصّ، اتصالاً دلالياً.

إنّ ما طرحته الشاعرة هلال شربا من مسمّيات مختلفة أدّت إلى وظائف فعلية، وهي متواجدة في المنظور الخارجي، لذلك فالنصّ لم يكن حبيس معانيه: ما أجملَ وفاءَ الغيوم + عندما تصرّ على أنّها ستغسل الأرض... والأرضُ تصرّ على الزغاريد + عندما تستقبلُ لحظاتِ الشمس... نلاحظ الربط بين باقة وأخرى، بين جملتين متواصلتين مع جملتين آخريتين.

الباقة الثالثة:

المعنى كمطلب نصّي، أي نصّ يواجهنا جلّ ما يعانيه هو طرح المعاني ومدى التنسيق بين الجمل التواصلية، فالعلاقة التي نبحث عنها، علاقة النصّ بالعالم الخارجي، وذلك باعتبار أن النصّ يمتلك حالته الفنّية مع حالة المعنى وما يحوي من علاقات والتي تكون على المحكّ إمّا ببيئة الباب، أو بالناس الذي حوله وما يهدف النصّ إليه.

عندما تبحث عيناي

أحب شحيح الدمع في عينيك

فهو مشكاة ضوئي..

..

على ضفة من جسدي

كتبت عنوانكَ

ورسمت خارطة للدرب

اشتعلت بهواجس شتّى

..

أتشبث بحبال السراب

تقذفني كرة ثلج

تذوب في

وهج الحمّى

الحمّى التي تعالت

من حولنا:

تزدحم الطرقات

الأيائل التي مازلنا نودّعها

هجرة الأولاد

وفتنة القياسات التي

مازالت قيد التنفيذ...

..

عند العتبة

أعدّ أصابعي الخمسة

وأقبض على سبابتي

خوفا عليها من التلف

أقبض على منفاي

واجعل الأصفاد كالرمل ذائبة

**

رائحة اللحظة

تعتريني شهقاتُ الموت

في اللحظة لحظاتٍ

حتى يغادرَني ثقلُ الهواءِ الذي

لن يفهمَ رسالة وجودي...

اضطراباً لأنسام محنّطة

في كبد الفضا

أنا شيفرةٌ لم تجدْ بعدُ من يفكُّ رموزِها

لم يأتِ أوانُ فهمِ هذا الوجيب

والقمرُ آيلٌ للسقوط

مضيتُ كعشتار

عندما أصبح الوجودُ حديقة

وأنا أسقيها

بماءٍ الإقحوان

هذا المدارُ فارغٌ إلا منّي

هناك بضعُ كويكباتٍ رامت مرافقةَ

الوجعِ النابضِ بي

ما أجملَ وفاءَ الغيوم

عندما تصرّ على أنّها ستغسل الأرض

والأرضُ تصرّ على الزغاريد

عندما تستقبلُ لحظاتِ الشمس

وهي تظهر من خلف الغيوم

كلحظاتِ طائر تراءت لعينيه

حفلاتُ الجنون!

***

 

فضاءات الداخل الشخوصي تؤول إلى معادلات نفسانية مركزة

توطئة: تحيل جملة استهلالات بنية الوحدات السردية في مكونات قصة (إدانة غير معلنة) للقاص والروائي احمد خلف، نحو مرتكزات مكينة من أدوات (المساق التمويهي) الذي يشكل في منظور السرد، ذلك التحول بالمستوى الأدائي - إرتباطا - وحيثيات جملة شواغل خاصة من حيز وظائف (العلامة - زاوية الرؤية - مضاعفة الأختزال )،امتدادا نحو جملة محققات وظيفية، من شأنها أولا واخيرا، التركيز على مستويات معينة من الإحالة في مداري (الحكاية - الخطاب) وصولا الى تفاصيل أكثر إضمارا للمعنى من الظاهر في حدود شاشة المقروء في الابعاد النصية.

مكونات المادة الحكائية في مساق البؤرة المركزة

قلنا بادئ ذي بدء، من إن عتبات النص الوحداتية، تحيل موجهاتها على جملة من الوحدات الأدائية المتمحورة في جهات الإشارات وتواصل الارتباطات الضمنية الى حالة كيفية من فرادة العلاقة بين اطراف ثلاثية المنحى في منظور مستهدفها التلفظي (السارد العليم= شخصية الزوج= محورا مشاركا) ولو أردنا توخي الدقة في المعاينة المنظورية، لوجدنا أن هناك حالة عقدوية في نسيج مادة الحكاية، يمكن أن يكون مبعثها نزعة (سلطة الزوج) أو ذلك الوازع الذي يتغيا تحققا في متعلقات علاقة زوجية تحكمها دوافع (الظنون الغيرية - اضداد خارجية - خفايا سلوكية) وقد تكون هذه العوامل هي أكثر تعلقا في حالة طرفية فريدة، يكون مرادها الفعل للزوج ذاته أمام تشعبات حالات الزوجة الغوائية، لذا فإن المراد الدلالي في حالاتي (الزوج - الزوجة) لا تظهرها القابلية الموضوعية في الحكي، إلا على انها علاقة مراوغة وذكية من قبل القاص احمد خلف، فهو يضعنا أمام خيارات ظنية تتراوح ما بين الطرفين، ما يجعل القارئ لها يتصور لوهلة ما بأن المدان هو الزوجة كحالة طرفية، ولوهلة أخرى يثقلنا الإحساس بأن الزوج هو بؤرة الغواية الظنية في الحكاية كلها. ولكن مساحة النص لا تمنحنا فرصة الفوز بالدليل الأكيد في مصادر وموارد المسبب الرئيسي في هذه اللعبة المحكية التي لا تكشفها مجرد المعاينة الإسقاطية لها حتى نعلم في مراحل النص الأولى بأن ذلك المشبوه والمشتبه به يتوزع بين علاقة كيانين في مستوى خاص من مأزومية الحدوث والأسباب المؤدية إلى ذلك السلوك بين كلا الطرفين: فمن ياترى المظنون به سوءا هنا الزوجة حقا أم أن الامر يتعلق بمستوى ظنية من هستيريا الزوج نفسه!. لعل القاص احمد خلف وضع القارئ أمام خيارات العرض والإيهام بالصلات وغواية السلوك، وهذا ما بدا واضحا لنا منذ عتبات النص الأولى،إذ هناك حالات من (التمويه - اللف - الدوران) محققا بذلك القاص لنصه بواعثا تحفيزية في عملية الاستدراج التوقعي ولا توقعي معا، لذا بقيا محوري (الزوج - الزوجة) في شبكة القيود الانتقائية الملمحة في صعيد موجهات خاصية احتمالية متناسلة في مفاوز التشاكل الشكوكي والظنوني عبر لعبة استدراجية بالسرد والوصف والتمظهر القصدي المعلن ولا معلن، مما جعل فعل التلقي للنص متحولا تارة الى موضعية مثخنة بالأداء التمويهي، وتارة أخرى تكليفا في مسار البحث عن مواضع أسباب حدوث الافعال من جهات وعوامل أكثر تمحورا في الداخل الشخوصي، ولكن مع ذلك تبقى حدود المرسل إليه من زاوية الرؤية للسارد المشارك وهو الزوج، علما بأن هناك وظائف ووسائط راح يقدمها السارد العليم وصوته وتحولاته المدمجة في الوعي السردي منظورا (أمسك بكتفها الرقيقة وسحبها إليه برفق، كف جسدها عن الحركة، نظرت إليه نظرتها المعتادة، المعاتبة المرتبكة / النص القصصي) تستدعينا علاقات هذه هذه الدوال الأدائية المتمحورة الى مستوى مكين من المقاصد المستترة، ما يجعلها من ثراء المرصود الوصفي - اختيارا، موفقا، كان قد اسقطه احمد خلف في حدود مقابلات بؤرة المشار إليه بـ(الإدانة) تحديدا، لذا قوبلت خطية مسانيد دوال (أمسك - سحبها - إليه برفق - كف جسدها الرشيق - عن الحركة) تحت موجهات هذه الافعال الأدائية المختزلة، نكتشف غائية التقطيع الزمني والأحوالي، وكيفية كونهما يشكلان مع بعضهما البعض علاقة حدية تغمرها إيحاءات ومقاصد المواجهة الفعلية المضمرة بتحولات عدم التوكيد المحوري، أقصد ماهية المشار إليه من فعل (الإدانة) في ذاتها وجودا دلاليا أكثر تعمقا في محفوفات التأويل، لذا تزامنا مع عدة تساؤلاتنا عن خيوط ونقاط مكونات النص، نكتشف بأن هناك وحدات أخذت لذاتها مواطن (الانزياح - المنافرة الدلالية - القيد الظني) وصولا الى مرحلة وقائعية تتعلق في حضورها بالعلامات والمرموزات المتواطئة تلفظا وملفوظا.

1 - إشكالية المرمز وهواجس الحبكة التقاطعية:

لعل من دوافع احتساباتنا القرائية للمقروء، أبقاء ذلك الحيز الكموني من استقلالية علائق الحكاية وخطابها المتشعب في موارده الإفادية،إذ نعاين بأن مراحل النص تتقصد دليلا مفتقدا في حدود معاينة إمكانية ممكنة من الصوغ للمحاور،لذا فإننا إزاء قصة قصيرة لها من العلائق والمتعلقات ما تتجاوز بها إمكانية الاوضاع النمطية من البناء والتشييد التقليدي للقص، وبإشارة ما أو عدة ظروف للنص، نجد أنفسنا في مواجهة (تعدد محاور المحبوك) ليس تعدد الحبكات؟ ذلك لأن النص القصصي بدوره لا يتعدى في مكوناته البنائية الحدود المرسومة إليه في مدار وضع حبكوي مخصوص، وقد تكون مجالات الحبكة متفرعة بالنمو العقدوي، ولكننا إزاء مهام علائق قصة (إدانة غير معلنة) نعاين وجود مستويات تصاعدية في حالات المحبوك الذي هو بدوره الحافز النوعي في نمو وتشعب منطقة الحبكة وشواغلها واطوارها السببية. إذن نحن في مواجهة ممكنة مع (إشكالية المرمز) الذي هو عبارة عن جملة تأهيل الأدوار والهيئات بطرائق إحالية متتالية من جهة ما في التحقيق والنوع والوحدة المتعدية قصدا،مادام عدة بناء القص جاءت متاحة في مواطن ظنية واشتباهية واحتمالية من احوال القصد الآنوي المحسوس في وسائل الخطاب السردي اللامعلن.

2 - دلالة الاقدام العارية.. هوامش نسبية مركزة في الموصوف الدال تعاضدا:

تتأتى الانتقالات السردية في مواضع الوحدات اللاحقة، كطبيعة مخصوصة بتحليل أدق دقائق النص، إذ ظل جانب من علاقات النص ضمن مرحلة سردية أتخذت لذاتها ما يسعنا تسميته ب (إحالات:هوامش نسبية الوضع - الموصوفات الدالة تعاضدا) تبعا الى كون صور التقابل بدت ما بين (زوجة =زوج= اختلاف زاوية الرؤية للسارد) بمعنى ما اختلاف حالات علاقة متقاطعة، ذلك لأنهما تحت سقف زمن (توحدي - تقاطعي) وهذا الأمر ما جعل من محتوى الزمن في المواجهة الفعلية المضمرة تتم بتحولات طرفية خاصة، كحال أوليات السلوك العرضي في بداية النص، ايضا هناك أوليات مكانية تتمثل في حدود مساحة (فضاء المنزل) أو لربما في رؤية أكثر تعمقا في فضاءات داخلية ومغلقة من كلا الطرفين في التشكيل والتنوع الشعوري والحسي بين فضاءات ومواقع تحرك الافعال والموصوفات، مما يجعل منهما حالات أكثر اندغاما ووعي في مكونات (الزوج = فضاء داخلي/ الزوجة = فضاء خارجي) إعتمادا على جملة مرسوم الأحداث في مسار النص، ومدى نوعية الفضاءات في مرسلات الاحوال والمنظور السرديين، فعلى سبيل المثال، نقرأ ما جاءت به هذه الوحدات من الحكي، لنستدل من خلالها مدى جدوى ما نرمي إليه من تأويل وتحليل ومقاربة: (هبطت عيناها الى أرض الغرفة الصلبة، وتطلعت الى قدميه العارين وهي تستمع إليه: - أقول، إذا لم يعجبك هذا، فلن اعود إليه مرة أخرى؟. بصوت مخذول:كلا، لا يهم لكنه غير لائق، انه يضايقني بعض الشيء؟ لن افعلها ابدا/ أصبحا وجها لوجه، وعادت تمظر إليه، تعلم انه يكذب وسيفعلها مرات أخرى/ النص القصصي) مما يجب الالتفات إليه عبر هذه المقطعات الحوارية٠المونولوجية، أن هناك إيحاءات ومرمزات مخصوصة، قد لا تتعلق في مجال سطرا أو سطرين، ذلك لانها محملة بأبعاد حسية وحدة الانطباع، وحدود مختلفة من إجراءات التحقيق المرمز في الجانب المؤول من استباقات واسترجاعات الدلائل الوسائطية، اي بمعنى ما يمكننا القول: هل معنى - قدميه العارين- تشكلان مسألة تتعلق في حدود استرجاعية خاصة في مكون (الإخصاء) أو (غياب الاخصاب) مثالا، وهو ذات الامر الذي يخص مدى خصوبة الزوجة كحالة انجابية ممكنة التوليد والانبعاث طلبا للخصب الذكوري المفقود لديه ( أرض الغرفة؟) بخاصة وان هناك ماراح يعزز كون شخصية الزوج لا تتنامى ومستوى الماصدقية في شكلها الوثوقي من قبل جهة الزوجة تحديدا، ذلك بافتراض ما كانت تقصده الزوجة عبر لسان السارد (تعلم انه يكذب؟) وبهذا المعنى وغيره، تحضرنا علامات خاصة تعكس ما جاءت به تفصيلات التحولات العلائقية من جملة أوجه وظائف تدفعنا الى حصيلة ما من دلالات المسكوت عنه والحدوث الضمني منها في مواضعات أكثر حساسية عبر تلميحاتها وإقراراتها الحرجة.

التراتيبية الزمنية: مأزومية الحدوث المصدق في الشرود الذهني

في كل تمفصل من تمفصلات حكاية وخطاب التص، ثمة مأزومية خاصة، اي هناك مساحات لا يمكن فك شيفراتها بأقل السطور المؤولة والتحليلية لذا صرنا نعلم حجم الثغرات في مجمل الحياة النفسية الشخوصية بعد مراحل متقدمة من الحكي والسرد والوصف والمسرود إليه، لذا استغرقت مجموع الوحدات الى البعد الكيفي، ما يمكننا تقديره من ناحية تحليلية،كالزوجة وهي تظهر وكأنها تعاني من حياة زوجية اشبعها عدم الاخصاب الذكوري كل استعداداتها على المضي في ديمومة حياة زوجية موفقة، فيما يظهر الزوج وهو محمل بأعباء من الهموم من جراء حقيقة الزوجة المغوية، وهذا الامر ماجعل إحساسنا يتضاعف في حياة شرودية ذهنية لكلا الزوجين، والزوج تحديدا عند حالات ونوبات شعوره من ضجيج أقدام الاطفال في الغرفة المجاورة للغرفة الخاصة بالزوج والزوجة:فلا أدري هل كانت هذه محض ايهامات بخيانة الزوجة لعدم خصوبة الزوج التلقيحية وما يتبعها من اضطرابات الزوجة المكررة بوصفها عدة مشاعر مهملة من البرود والاهمال للزوج وخروجها من المنزل علامة على محاولة تحررها وخيانتها مثالا؟ أم أن الصورة تعكس كون الزوج غاطسا في اعماق حالات هستيرية من جراء كون الزوجة صارت تبحث عن البدائل المتاحة لفقدانها للأمان الأسري في حياتها مع ايهامات الزوج المرضية؟ ولو افترضنا كون الزوجة صارت تمتهن للدعارة و الفعل الديوثي في حساب محتملات الزوج فما وجه الاتفاق على كون الزوج يمثل حالة تطهرية مثالاً ولماذا لا يحدث العكس ربما؟. إذن هو يفترض هوسا في ذاته، لترتبط الاحوال والمنظور لديه الى حقائق لا تفارقها إيحاءات المحتمل من الصواب والظنية والوساوس: ( كان يختفي عن أنظار ضيوفها، وهو يصغي الى صوت الأطفال في الغرفة المجاورة، لقد اصبحوا ثلاثة أطفال، وليس بينهم طفل واحد يعود له... كان الجدار لا يزال يدفع بحرارته الصيفية الى كتفيه، وهو في وقفته تلك يشعر أنه منعزل ومهمل تماما، وهو يسمع حركات النسوة خارج الغرفة، يغادران البيت الواحدة بعد الأخرى، لم يعد ثمة احد سواهما، هي وهو داخل البيت فقط. / النص القصصي) ها هنا تبدو ثمة علاقة متغايرة ومتتابعة ومتباينة، فهي تعبر عن محض تصورات تارة، والحقيقة المعادلة تارة أخرى، فالزوجة مدنسة في ذروة علاقة صنعها الوهم للرجل نفسه، أو لربما هي مباعث الفرد في أشد حالاته القهرية عندما تبلغ به مساحة الفائض عن الحاجة في كل أوجه طاقاتها المعنوية والنفسية:ولكن هل معنى ذلك ان بعض التفصيلات في مركبات النص من أساس محفز الوهم الشخوصي المتمثل بالزوج نفسه؟. أقول طبعا لهذا النوع من المفترض، ذلك لكون لسان حال السارد كان حاكيا تفصيليا عن حيثيات وعي وقرار موجه الشخصية - الزوج-، لذا فهو غدا يقيم وحدات سرده المحكي إنطلاقا من عين اللحظة الزمنية والأحوالية التي يعتاشها، فهو مثلا كان يتخيل ويتوهم حدوث (زيارة سرية تحدث بعيدا عنه؟!) أو (تبدأ عادة بالتلصص، حتى تتم وهو لا يعلم بها لأنه يشعر بحدوثها فقط، كان يحدس ذلك ؟!) فالوحدات هنا وهناك، قادمة من مؤشرات غير دلائلية واقعا، بل هي محض مشاعر يصقلها الوهم والمساق الظني بعدم حسن سيرة الزوجة، لذا فإن جميع الخيوط في النص كانت ترجح ناحية كون الزوجة تمارس فعل الديوثة أو أنها عاهرة مزاجية متشهية غالبا، عبر محفزات وتصورات الزوج للافعال والشواهد التي كان يحدسها في هستيريا الخواطر: (وخيل إليه حين تصمت ولا تتفوه بشيء، إنما تفكر بأمر الضيوف، ربما بسبب ذلك أخذت النسوة ينقطعن عن زيارتها. / النص القصصي). وعلى هذا النحو نفسه، نعاين فقرات توسطية في مطروح السرد والحكي، جعلت تمنحنا الاعتقاد ذاته في كون هذا الزوج هو من ينتمي الى عوالم واهمة تتقمصها مشاهدات واكبت منظور الواهم الغاطس في أقصى درجات وهمه القهري، فتنبو عنه الخواطر بنوها عن أجواء خيانة الزوجة له باقصى درجات المتاجرة في لحمها الرخيص: (- ماذا فعلت هذا اليوم؟ عادت تشهق، وهي تحتار بوضع نظرتها في اي مكان يأويها: لاشيء، لم افعل اي شيء.. من المؤكد، أن صوتها هو الذي يفضح كذبها/ النص القصصي).

1 - الخطاب القصصي وفضاء الايهام بالواقعة المحتملة:

ان الحديث الإسقاطي عن شواهد قصة (إدانة غير معلنة) لربما تجعلنا نتعامل وحيثيات زمن المحكي بطريقة لا تكلفنا الكثير من الصفحات في الكتابة والتفكير فيها بمقدار زمن نصف ساعة على أقل تقدير منا، ولكن لو فكرنا بجدية النص الإبداعي وعبر مدار زمن قراءته وتعمق في جل مكوناته البنائية والاسلوبية والتشكيلية، لوجدنا أنفسنا في أشد حالات الافراط في التفكير والإنطلاق في جنوحات الرؤية المتتالية عير حسية النظر في الواصلات والترابطات بين حدود (الحكاية - الخطاب). فالزمن في صيرورة حالات موضوعة النص، هي من المتتاليات المترابطة واللامترابطة في حسابات الموقف الأستثنائي من قيمة النص موضع بحثنا، أقول مجددا أن زمن الافعال في قصة (إدانة غير معلنة) يتجاوز معالم المصادفات والمقاصد الخطية، دخولا في تراكيب حسية وأنفعالية وإيقاعية من حياة الشخصية في الخطاب الفضائي الخاص بدواخل الذوات الهاجسة. فقد لاحظنا ما كان عليه حال الزوج من تمفصلات هلامية هوسية سائلة المفعول في منحنيات مجرى تصوراته الواهمة، فهو داخل إحاسيسه وزمنه المفجوع بالحدوس القاهرة، فلا يجوز لنا الجزم في كل حالاته يقينا، أو على كونها من محققات الرد الفعلي المباشر الناتج عن حقيقة قد حدثت في أي من الأزمنة، خصوصا وأن القصة وأحداثها ناتجة عن حدود الشكل المحكي الأكثر إيغالا في رقعة (المبئر في تبئيره - دواخل المبأر - الرؤية من زاوية داخلية، جوانية) اي بمعنى ما أن الفاعل الذاتي الذي غدا ممارسا لفعله هو ذاته (المتكلم عن - منظور داخلي - الداخل الراوي- السارد بذاتية الشخصية الحكائية) وعلى هذا القبيل، يجوز لنا معرفة (الصوت الاوحد -شخصية المتكلم - صيغة الحال الظرفي) وسنتبين من هنا كيفية أن يكون مدى صحة عنونة النص بـ (إدانة غير معلنة) ذلك عندما تتوافر كل الاسباب والشرائط الموجبة في تضافر النص وبنياته، كتفاعلات تذهب لصالح المتضاد في مكونات الفرد الشخوصي و عامليات النص وأدواره - امتدادا في بيان الشواهد الواضحة كقيمة مقصدية كامنة في مضمرات النص، لنقرأ مثل هذه الوحدات وما جاء بها من تخريجات مقنعة وأكثر استيعابا للمدلول وتحولاته الكيفية المعادلة: (بين الساعة السادسة والساعة السابعة من مساء، نهضت واقفة وسط الغرفة الكبيرة، المطلة على الشارع الصغير، حيث يفصل مابين السوق والشارع العام.. نظر الى قامتها الرشيقة مع انزلاقة ثوبها الناعم المتهدل فوق سيقانها الممتلئة وعجيزتها المستديرة وكتفيها التاعمين، تلك النظرة المتوهجة في لحظة خاصة، تطرق باب وجدانها فجأة، وبدون سابق انذار أو تخطيط، لحظة تأتي مشحونة بالقرار، مسرعة لا تتعثر في سيرها ولا تتردد في تصميمها بأن تفعل شيئا: سأذهب الى السوق -هكذا فجأة تذكرته؟ سأشتري بعض الحاجيات../ النص القصصي).

- تعليق القراءة:

في الحقيقة أننا إزاء حوادث محكية لقصة قصيرة ممعنة في فواعل صوغها السردي والمحكي والوصفي والإيقوني، لذا فهي تزيغ بالثوابت الاولى من التوقع، لتعكس لنا حالات دقيقة تلفت الانتباه في خرقها لثنايا محطات انتظار القارئ، لتعكس مدى قدرتها على تمويه الطاقة السردية للفاعل الذاتي بموجهات، لايكون لها القارئ منتظرا ولا متوقعا. أقول أن القاص والروائي القدير أحمد خلف، اشاع بيننا الشك في كون شخصية الزوج واهمة فقط أو ربما هي كذلك، عبر جل مراحل النص الاولى والتوسطية وما قبل الاخيرة، ولكن دهاء القاص راح يحفز في خلايا السرد توقفات وقائعية مقرونة بتداخل صوتي (السارد العليم - المحور المشارك) حتى تكشف لنا متتاليات وحلقات التواتر الذروي، تلك السيرورة السرانية التي لا تعلن عن رأس الإدانة ومرجحاتها الوثوقية لمن تتجه إليه سببا ودليلا. النص يخبرنا عن ذلك الشاب الذي انقادت إليه الزوجة في وسط زحمة السوق، ولكن هل ذلك هو الزمن المقطوع الذي راح يخفي حقيقة المدان فعلا؟ لذا ظلت صراعات الشخصية تداري شكوكها وذاتها في الداخل الفضائي الشخوصي الفاعل، راحت تطرق نوازعه تلك الابواب الباحثة عن أدلة الاشياء الأكثر تحقيقا لليقين: (تلك هي الغرفة المنعزلة عن بقية الغرف الأخرى -أن ما يعوزنا هو الأطفال ياسام- انني أعرف الى أين أذهب ومن سيكون معي./ التص القصصي) من خلال هذه المحاور وحوافزها المزدحمة بيقين خيانة الزوجة، انطلقت دلالات التواصل المميت بالزوجة، ملوحا لنا القاص الكبير احمد خلف عن خاتمة مشحونة باللعب الحاذق بالتمويه ونوازع تقابلات خيارية غامضة في محققات وظائف نهاية قصصية تخاتل فينا مقصودية المعنى وتسرق منا أدلة حقيقة الوقائع وواصلاتها السببية الكفيلة في جعل النص إدانة غير معلنة.

***

حيدر عبد الرضا

قراءة نقدية في مجموعة (الأشجار تحلّق عميقاً) للشاعر سعد ياسين يوسف

الأشجارُ لا تحجبُ ظلَّها حتى عن الحطّاب

"هيتوباديشا"

***

نداءُ الوحش A Monster Calls عنوان الفيلم الذي تضحي فيه الشجرةُ الساردَ العليم بعد أن تغدو وحشاً في كابوس الطفل ذي الاثني عشر ربيعاً، يحكي هذا الوحشُ للطفل حكاياتٍ، هي، بالتحديد، أربعُ حكاياتٍ، يأمرُ الوحشُ، في نهاية المطاف، الطفلَ بأن يُفصح عن سرّه، وبعد سماعِ الوحش لسرّ الطفل، يهوّن عليه مصيبَتَهُ بفقد أمّه، ويخبره بأنه لا يتمنّى مغادرةَ أمّهِ الحياة، راجياً الطفلُ، في الآن ذاته، انتهاءَ عذابه، بعد أن اكتشف أن أمَّهُ كان لديها الحكاياتُ ذاتُها مع الشجرة/ الوحش.

أرى، الآن، أن الشجرةَ الوحشَ هي ليست (الغولَ المحبَّ للبشر) الذي عنون به أوكتابيو باث Octavio Paz كتابَهُ El ogro filantrópica والذي يظهر فيه الحاكم مرتدياً ثوبَ الحمل الوديع، بيد أنّهُ في الحقيقة ذئب غادر.

يصحبنا العنوان الأشجارُ تحلّق عميقاً** إلى التحقيب بعيداً حيث البدء لنتأمّل الشجرة التي رافقت الشاعر سعد ياسين يوسف مرافقةَ الضوء للمشكاة، معلناً عن هويتها، وتعلن الشجرة عن هوية الشاعر في النص وفي الانتماء، وأنا لا أريد أن أقدّم نتيجة الآن بقدر ما أريد أن أطرح سؤالاً على نفسي كوني أسعى للإنصات عمّا تخفّى من دبيب حبٍّ، وتنامى من لهف وجد، في قراءة الشعر التي تقودنا إليها أحلامُ اليقظة هدفاً سامياً للروح.

لقد رافقت الشجرةُ الإنسانَ منذ النطفة الأولى، فكانت ظلّاً له، ثم روحاً ومعنى حياة، هي شجرة المعرفة، والتي لولاها لما كنّا، ولا كانت قصائد الشعراء التي ترافقنا إليها، لم يعرف آدم ولم تعرف شقيقةُ روحهِ حواءُ السرّ فيهما، لقد كانت عيونهما صامتة، وهي تشهد دهشة الفردوس جمالاً، لقد منحتهما الشجرةُ المعرفةَ، فانكشف السّرُّ، ليدق قلباهما متسارعين، ما هذا؟ إنّهُ الجسد يا أبتانا، والذي لولا الشجرةُ لما عرفتُماه، وما كنّا هنا عابثين بفجر حرارة طفولتنا الأولى، لم نغادر الفردوس إذن، بعد اندلق السّرُّ بين أيدي أبوينا، فجلبت الدهشةُ الفردوس إلينا، نازلاً فينا عميقاً، فصارت الشجرة الدال الذي به نحلّق عميقاً، لكن أيّ عمق، هل هو عمق الذات، أم عمق الانتماء؟ أظنُهُ العمقَ الذي يحقّب بنا عالياً، إلى سماء الدهشة وغربتها السعيدة، مثل زمننا الممتد من شجرة طوبى إلى شجرة طُور سَيناء، (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) الرعد: 29، (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) المؤمنون: 20، ونحن نبحث عن قبسٍ نوقد به نارَ إدراكنا لتراب الأرض التي بذر فيها الشاعر سعد ياسين يوسف حبّاتِ أشجارهِ الشعريةَ لتنمو بين أيدينا دلالات، لعلّ الروحَ ترتكن إليها شعوراً بالسكينة التي تمنحها إيقاعاتُ الكلام، نتنسمه باحثين في عطر أور، عنوان القصيدة الأولى، عن هويتنا نحن العراقيين:3639 الاشجار سعد ياسين يوسف

من طينة الفراتِ

قُدَّ قلبُهُ، قارورةً من أور...

هذا الذي هفا للضفةِ الأخرى

بصدره المسكونِ بالنورِ

أجنحةً ما صدَّها

انهمارُ نيرانِكَ

التي أضحى بها مسلةً،

زقورةً...

نجدنا، الآن، في التربة التي غرس فيها أشجاره الأولى، غرسها العراق أو الشاعر سِيّان، ولا أخالها إلا شجرة الحروف التي خبّأها ابن عربي في جلباب أشجارِ الله، لينثرها العراقيون الأوائلُ كلماتٍ مسماريةً في ألواح الطين، يلملم الشاعر فيها خيالَنا المبعثرَ مرسوماً بضوء الدّم وعياً بمأساة الوطن:

كم من الدّم يلزمُ هذه الأرضَ

لتغسلَ عتمةَ الحزنِ

عن وجهها،

ظلامَ ألفِ عامٍ

وعام...؟؟؟!!!

هي ضريبة الانتماء الممهور بمبسم عبّاد الشمس لشمسه، وهو يظلّ محلّقاً برأسه عالياً خلفها حتى تأفل، ثم ينطوي على ذاته، منتظراً صبحَهُ القادمَ ليلاحقَ محبوبته بعين عَشِقَت السماءَ، لكننا بأشجار سعد ياسين يوسف نحلّق عميقاً، ممسوسين بوجع الأرض واحتراقاتها، أليس في العمق تكمن الرّوح، هذه صلواتنا التي كتبها لنا الربّ المتعالي، في كلّ سجود على الأرض نرتقي صوب سدرة المنتهى، شجرة النهاية التي لم يصلها إلا نبينا المحبوب، ومن تعدّاها بلغ العدم (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى) النجم: 13-16، ألم يكن إبراهيم عليه السلام شجرةَ أور التي تناسل منها الأنبياء، بعد أن أصبح إبراهيم عليه السلام شجرةً وارفةَ الظِّلال مثمرةً، فهو النبي والخليل والإمام، فمحمدنا عليه السلام ابن هذه الأرض، من عطر أور، وإن كان في البدء نوراً، (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) آل عمران: 34، فهو الذي بلغ سدرة المنتهى، فعُمقنا عروج لفردوسنا المنشودِ فيها، وإن عُمّدت محجاته بالدّم:

ألا تكفي ابتسامات الدمِ

في صدورهم

حينَ تعرّوا للرصاصِ

الباحثِ عن وطنٍ فيهم

في رحلتهم الأزليةِ

للبحث عن وطن...؟؟؟!!!

في رحلة المتاه تتدافع أحلامُنا متأثرة بالحدث الكوني حتى لو كان خفقةَ جناح فراشة أو حبةَ رملٍ على الشاطئ حرّكتها يدُ طفلٍ ترسم براءتُهُ القمرَ مُمتَزَجةً بخيال عاشق أو عاشقة يختلسان النظر إليه، فتغدو ألواحُ الطين ضوءاً من ألواح حُلم، عنوان القصيدة الثانية، تعرج بنا صوب سماء نائية وإن كانت تحلّق عميقاً، لكن هل نقبض على أحلامنا بعيوننا المغمضة خوفاً وانبهاراً:

ممسكونَ بالمجرةِ

منذ أن توسّد القرنفلُ

ألواحَ البدء راسماً سُلالةَ الضوء،

ملامحَ الغبطةِ الغامضةِ في الطينِ

وهو يراقصُ نيرانَ البشارةِ

قبل انبثاقِ زهرةِ الشمسِ

وكلّما اقتربنا

من الإمساكِ بحلمنا الضائع

فرَّ هارباً...

لا أظنُّنا نملك قدرةَ الإمساك بحلمنا ما دامت عيونُنا مفتوحةً على آفاق وجودنا، وهي تبحث عن نافذة للإفلات من حوادث القهر التي تطوقُنا مثلَ سوار، فضوءُ المجرات البعيدة لا يُدرك إلّا بعيون مغمضة، إغماضةُ العين تعني مشاهدة الأعماق وإعمال التفكّر فيها، حيث هناك تستقر أحلامُنا، تقودنا إليها الغبطةُ المودعةُ في الطين، هذا هو البدء والابتداء، ضوءُ التاريخ وعَتمتُهُ متوهّجاً بزهرة الشمس ومتوّجاً بها قبل انبثاقها، يا للقدر كلما اقتربنا كان الابتعاد، فخسرنا أحلامنا، خسرناها هاربةً، معلنةً عن عدم اكتساب الهُوية معناها، حيث لا تكتمل صورةُ الإنسان في مراياه المتكسّرة، هكذا يكتب إيقاعُ القصيدةِ ذاتَ الإنسان وهي لا تحرز اكتمالَها.

نركضُ خلفه بيدين مفتوحتينِ

وعينين مغمضتينِ

وما أن نُمسكَ أطرافَهُ

حتى يتمزّقَ

كقميصِ نبي دكّتهُ شمسُ الأمنياتِ..!!!

فإذا كانت زهرةُ الشمس تنتظر حريتَها التي تبتدئ وأولَ خيطِ ضوءٍ لمعشوقتها الشمس، فإن الذات الكاتبة تتجسّدن فينا في الأزمنة كلّها، يرتبط حاضرنا بالماضي، ليس في رحلة نكوص، بل في الكشف عن غدر الزمان والإنسان وسرهما كما فُعل بالنبي يوسف عليه السلام، أنموذجاً بدئياً استعاض الشاعرُ عنه بالقميص وبالفعل (دك) الذي يدل على استواء الأرض وطمر البئر، وهو قميص الكذبة الثانية التي أطاحت بحياة نبي، وما قَدِرَتْ مادام الربُّ الشاهدَ والحارسَ، وهذا هو حالُ الأرضِ وأشجارِها المحلّقةِ عميقاً، تحلّق عميقاً لترى مسيرة أحلامها في جفنٍ مرتجف، أو غيمةٍ تحملها الريحُ غيثاً يندّي ترابَ الأرض منحدراً فيها.

أو رايةِ وطنٍ بلَّلتها

دموعُ اليماماتِ

الّتي طافتْ حولَها

فلم ترَ سوى حبلِ الصَّيادِ

وهو يرتفعُ صوبَ رَقَبَتِها

تاركةً لرفيفِ جناحيها

أنْ يرسمَ شكلَ الحُلمِ

في الهواءِ...!!!

تنحني الزهرةُ..

كمسمارٍ أعيتهُ المطارقُ،

يتطايرُ شرراً من صراخٍ

لتشتعلَ المجرَّةُ بين أيدينا

تضيءُ ظلاماً آخرَ

تحتَ ذريعةِ الحُلمِ الّذي

ما أَجَدْنا رسمَهُ....

ونحنُ نلقي برؤوسِنا على

ألواحِ طينِ طقوسِنا

السَّاحرةِ...

يَنْشَدِهُ الشاعرُ بلغة التراب الذي يبله الماءُ فيغدو لوحاً، لا يغادر صمتَهُ إلّا بعود استُل من قلب شجرة به يرسم الإنسان تشوفاتِهِ ورؤاه، أليس الماءُ حليبَ السماءِ ترسله لأختها الأرض صدرَ أمٍّ ترتوي منه أحلامُنا، هكذا يبتعد الشاعر سعد ياسين يوسف عن الصور الساكنة في ابتناء دوال القصيدة المتحركة نحو أعماق الروح والأرض في آن، فالحلم شجرةٌ أيضاً بها يكتمل الإنسان، وهو يؤدي طقسَه الساحرَ، لكن أنّى له الاكتمال...

عنوانات قصائد ديوان الأشجارُ تحلّقُ عميقاً هي هُوية الشاعرِ الشعريّةُ والإنسانيّةُ بها نحقّب عميقاً، فنعيد معاينة الإدراك وترتيبه، فإذا كانت شجرةُ المعرفة قد كشفت للإنسان سرَّ لذةِ الجسد وغوايته، فإن شجرة اليقطين قد غطّت هذا السرَّ لرعايته، (وَأَنۢبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍۢ) الصافات 146، لأن الإنسان قد اكتشف حرارة السرِّ فيه، من هنا أعدّ قصائد الشاعر سعد ياسين يوسف الباب الذي نلج منه إلى عالمه الممتلئ شعراً وفكراً، مقدماً (أنا) بين يديّ مقطعاً من شجرةُ العودِ، القصيدة السادسة، سبيلاً لقراءة قادمة.

حينَ ارتقيتِ

سُلّمَ شجرتي

شددنا معاً وترَ الغصنِ السَّادسِ

فتبسّمَ "زريابُ"

إذ أزلْتِ سقفَ المسافةِ

لتهبطَ عليَّ الملائكةُ

وأنا في محرابِ التَّوهُّج

أنتظرُ نجمَكِ المتلألئَ

يُمطِرُني بفراشاتِ الضَّوء.

***

د. محمد عبد الرضا شياع

كاتب وأكاديمي من العراق – أمريكا

.................................

* سعد ياسين يوسف: (الأشجارُ تحلّقُ عميقاً)، دار أمل الجديدة، دمشق، الطبعة الأولى، 2021.

 

تقديم أول: أقامت دائرة السينما والمسرح بالتعاون مع نقابة الفنانين العراقيين احتفالا بمناسبة يوم المسرح العالمي، تحت عنوان أيام مسرحية عراقية للفترة من 25 ولغاية 28 / 3 /2024 في مسرح الرشيد، تم تكريم العديد من الفنانين والاحتفاء بجهودهم في دعم وتحصين المشهد المسرحي العراقي، قدمت ثلاث عروض مسرحية مميزة هي (عرض مسرحية عزرائيل - عرض مسرحية حياة سعيده - عرض مسرحية لعنه بيضاء) وجميعها عروض تستحق الوقوف عندها، وتأمل ما تفردت به من خصائص، تستوجب تناولها بالدرس والتحليل.

تقديم ثان:

أول عرض أخرجه د.محمد حسين حبيب عام ١٩٨٦ - مسرحية (أهمس في أذني السليمة) شاهدته في منتدى المسرح، وشاهدت يوم الخميس ٢٨/ ٣/ ٢٠٢٤ الساعة التاسعة مساء على مسرح الرشيد - بغداد عرض مسرحية (لعنة بيضاء) من إخراجه وتأليف أحمد عباس، عن قصة للكاتب (الإيطالي ايتاليو كالفينو) بعنوان (شاة سوداء)، بين العرضين ثمان وثلاثون سنة قدم خلالها ثمان وعشرون عرضا مسرحيا، لقد تمرس د.محمد حسين حبيب في العمل المسرحي والدرس الأكاديمي بصفته استاذاً في كلية الفنون الجميلة - جامعة بابل.3627 لعنة بيضاء

عرض مسرحية (لعنة بيضاء)

عنوان العرض (لعنة بيضاء) الشفرة الاولى في العرض، ولا يمكن كشف مداها وعمقها ما لم يكتمل العرض، انها ليست لعنة فردية، هي لعنة أصابت المجتمع الذي يعمل على تبييضها، رغم أنه يدرك ان سلوكه مضاد للقيم النبيلة والاخلاق الحميدة، ويبدو أن النجاة من اللعنة ليس سهلا، يقرر المؤلف لا نجاة من اللعنة بدلالة أن الشخصية الوحيدة المتمسكة بالفضيلة يتم التخلص منها.

انطوى نص المؤلف (احمد عباس) على فكرة مركزية واحدة، لم يغادرها إلى طرح أفكار ثانوية، في حين تعددت الأحداث التي لا رابط بينها سوى أنها تصب في ذات الفكرة، تبلورت فكرة المسرحية بالمقولة التالية :

(حتى إن عمّ الفساد وشاعت السرقة وخربت شرائح اجتماعية كثيرة لابد من وجود شخصية ترفض ان تكون جزء من نظام الرذيلة وتنأى عن المشاركة فيه)

اتضح فساد الجميع من خلال ثلاث مشاهد قدمت باللهجة والروح المحلية:

مشهد السرقة: بدأ مع الموسيقى بحركة معبرة بوضوح واستبعد لغة الكلام، تذهب الشخصيات تحمل سلة مهملات إلى بيت الجار لتفرغ سلته مما فيها، وفي الوقت نفسه هناك شخصية ثانية تفرغ سلة الذي أفرغ سلة جاره في سلتها، وتوجد شخصية ثالثة تفرغ سلة اخرى جار آخر وهكذا تبدو عملية السرقة متوالية، انها حالة طبيعية في هذا المجتمع، ومن لا يسرق هو استثناء من قاعدة السرقة التي عمت المجتمع.

مشهد السوق: رجل يبيع الخضار الفاسد، يأتي رجل ليشتري مع علمه ان هذا الخضار فاسد، يدفع مبلغ الشراء بعملة مزيفة، يقبلها البائع مع علمه بانها مزيفة لأنه سيدفعها إلى آخر يعلم أنها مزيفة، وهكذا تدور عمليات البيع والشراء.

مشهد العيادة : الطبيب والأستاذ الجامعي المريض، الطبيب يبالغ بفحوصات المريض من حيث عددها وأسعارها الباهظة وكلف العلاج والدواء، يبحث الأستاذ الجامعي/المريض في كيفية توفير المبلغ اللازم، لا يجد سوى الاحتيال على طلاب الجامعة وابتزازهم سبيلا لتوفير مبلغ علاجه.3629 لعنة بيضاء

كل مشهد من المشاهد الثلاثة مستقل بحكايته وشخصيّاته، ولا يرتبط بالمشهد الآخر عضويا كجزء من الحدث، بل يرتبط بصفته أحد محاور الفكرة، المشاهد الثلاثة قالت بصيغة مباشرة المتداول في بعض الأوساط الإعلامية وتطبيقات التواصل والحوار السياسي، وما يتداوله الشارع بنقمة وازدراء، وقد عمل المؤلف (احمد عباس) على تكييف المتداول على وفق عناصر الدراما غير التقليدية، بدأ خط البنية هرمية للأحداث يتضح وصولا الى الصراع صاعد وثم إلى الذروة حالما اتضحت اطراف الصراع، وكانت الغلبة محسومة من البداية لطرف الفساد، وقد استسلم (الرجل الأمين) بسهولة لقوة المجموعة المهيمنة بقيادة المختار وزمرة السراق، ولم يفعل شيئاً يوازي قوة الطغاة سوى تعلقه - اي الرجل الأمين - بكتبه حتى النهاية والارتقاء على الجسر،عسى ان تنظف الكتب المياه القذرة الجارية تحت الجسر، أسقطوه من الجسر فاشتعلت النيران، انها صورة شعرية كتبها المؤلف وعمل المخرج على تنفيذها حين جعل النيران تشتعل على السايك الخلفي وملأ الفضاء المسرحي بركام البيوت والحواجز وبسطات الباعة، وبعدها جاء المايسترو ليعزف موسيقى النهاية.

جاء الإخراج لنقل القول المباشر وتقديمه بمعالجة درامية ورؤية جمالية، والضرورة الجمالية تستلزم بناء أنساق مشفرة يتفرد بها، من خلال إنشاء لغةٍ تواصلية بين العرض ومتلقيه، تكفل جعل المتلقي شغوفا بما تقدمه الشخصيات، منتظرا للآتي من الأحداث.

بدأت مسرحية لعنة بيضاء بقائد (مايسترو) فرقة موسيقية منسجمة وانتهى العرض بالمايسترو نفسه ولكنه يقود وسط خراب وركام هياكل البيوت التي سكنها الفاسدون والمفسدون، ولم يظهر بينهم سوى (رجل امين) واحد قتلوه او اجبروه على الموت، ولم يشفع لظاهرة اللا أمل التي تمت بها المعالجة الاخراجية سوى أمرين :

الأول: أن الراقصين الذين استهلّوا العرض وختموه بحركاتهم الإيقاعيّة هم شباب يرسمون صورة تدعو للتفاؤل وإن كانوا جزء من منظومة القيم المتدهورة بصورة ما.

الثآني: أن مخرج العرض وضع وشاح الرجل الأمين على كتفيه في نهاية العرض وتقدم لتحية الجمهور بدلالة قصدية واضحة تعني أنه وفريق العمل تصدوا إلى ظاهرة الفساد والمفسدين من خلال العرض وسيستمرون بهذا.

من جماليات العرض وجود امتدادات على السايك الخلفي (الشاشة) لما يجري على الخشبة، إذ عرض عمليات سرقة لا متناهية، مشهد السرقة (الجميع يسرق من الجميع ) ومشهد السوق (الجميع يغش الجميع) ومشهد العيادة (الجميع يبتز الجميع)3630 لعنة بيضاء

قدم المخرج معالجة للساكن الجديد في أحد هياكل البيوت، عبرمنحه صورة المصلح/المثقف، وسماه المؤلف (الرجل الأمين) الذي لا يقبل أن يَسرق ولا يتقبل أن يُسرق، كل ما يريده هو أن يعيش في مجتمع من الأسوياء، بمعنى أن يتمتع الأفراد بالأخلاق الحميدة التي فطر الإنسان عليها، وان تسود القيم وتلفظ الانحرافات بعيدا، ومن خلاله اتضحت مفارقة العرض لأنه (وحده) مَثّلَ الطرف الثاني في الصراع، أما الطرف الأول فهو المجتمع الغارق بالرذيلة بدرجات متفاوتة وبأعمارهم المتباينة، مع الإشارة إلى أنه مجتمع ذكوري بامتياز فلا وجود للمرأة في هذا العرض.

دفع المخرجُ الممثلون إلى ابتكار بنية شخصياتهم وإظهارها بترجيعات واقعية عبر إنشاء ملامح مأخوذة من شخصيات متواجدة في المجتمع، الممثل (علي حسن علوان) جسد شخصية (رجل النظام) الذي لا يقبل أن يتواجد رجل لا يسرق في مجتمعه، فهو ينادي بالنظام ويعمل على تطبيق اللا نظام، اما (علي عدنان التويجري) الذي جسد شخصية بائع البضاعة الفاسدة بصوته العالي وملامحه غير المستقرة، انه البائع الصلف الفظ، وهو نموذج يتواجد عادة في الأسواق، وقدم (فقدان طاهر) شخصية الطبيب الجشع الذي يبتز المرضى بالمبالغة بسبل العلاج بالتواطؤ مع ضعاف النفوس من ذوي المهن الطبية الأخرى، وانعكس ذلك على الأداء المبالغ به بالصوت والانفعالات وعدم الاستقرار الحركي، وظهرت شخصية الأستاذ الجامعي هزيلة وبلا قرار صائب، جسدها الممثل (علاء القره غولي) فبعد تفكير توصلت الشخصية إلى أن الوسيلة الوحيدة لدفع تكاليف علاجها هي ابتزاز طلبة الدراسات العليا، وهكذا الحال مع شخصية (المختار) المسندة للممثل (مخلد الجبوري) تجسدت بلمسة العباءة العربية وصفة القيادة الجوفاء.

الديكور بمفهومه التقليدي يعني عمارة ثابتة -غالبا- وصناعة مشهدية يوحي ببيئة الأحداث بالإفصاح عن الزمان والمكان، ويساعد على تعرف المستوى الاقتصادي والاجتماعي الذي تعيشه الشخصيات وتنمو فيه الأحداث، في عرض (لعنة بيضاء) استخدمت مفردات ديكورية شكلت مناظر العرض المتعددة، وهي: هياكل بشكل متوازي مستطيلات وكراسي مصنوعة من خامة واحدة وبلون واحد بأحجام مختلفة، هذه المفردات شكلت البيوت، والحواجز بين الناس، وبسطات السوق، وأدوات لمهاجمة العدو (الرجل الأمين) وتتركب فوق بعضها لتكون ركام نهاية العرض.

كان تصميم الأزياء نفسه للجميع الشخصيات (بدلة سوداء وقميص ابيض وفيونكه حمراء) عدا شخصية الرجل الأمين فهو يرتدي بنطلون وقميص اسود ويضع على كتفه قماش ابيض يلفه على رقبته، وشخصية المختار الذي تميز بوضع العباءة العربية على كتفيه

للإضاءة في هذا العرض دور جمالي فضلا عن مهمتها الأساسية في صنع الجو النفسي العام وتيسير الرؤية، فكان مصمم الاضاءة علي المطيري منسقا للمنظر ومضيئا لما خفي من بواطن الشخصيات والأحداث بفاعلية الضوء والظل واشعال الحرائق اظهار فعل السرقة الممتد إلى ما لا نهاية.

ثلاث خصائص في هذا العرض:

1. حفل العرض بالتنوع: أداء تمثيلي (صوت وحركة وانفعال) وحركات جماعية تعبيرية إيقاعية (كوريوغراف Choreograhg)، وشغل حركي صامت.

2. المعتاد في رؤى المؤلفين تقديم الجماعة الخيرة قبالة طغيان فرد مع بعض الأعوان لتحصل المواجهة بين طرفي الصراع، وغالبا ما تنتهي بالقضاء على الفرد وأعوانه، كما في مسرحية مكبث وغيرها، قدم مؤلف مسرحية (لعنة بيضاء) رؤية -ربما- فريدة من نوعها، بأن جعل الجماعة باغية طاغية سادرة بعالم بلا قيم، وجعل الفرد المثقف يتعرض إلى هذا البغي والطغيان لا لشيء إلا لانه لم يشترك مع الجماعة ومنصرف إلى قراءة  الكتب، وفي هذا تغريب واضح للواقع الاجتماعي الذي يتمسك بالأخلاقيات السامية والشواذ فيه قلة، وان بدت الكثرة عليهم فهي بسبب مسارات النشاز التي يسلكونها

3. تناول العرض موضوعة موغلة بالمحلية: رصد العرضُ مشكلة/ ظاهرةً واقعية وعالجها بأسلوب غير واقعي يدركه المتلقي بوضوح،  وهذا امر غير يسير.

يقال ان الفنان يرى ما لا يراه الآخرون، قدم عرض (لعنة بيضاء) ما يراه الآخرون ويسكتون عنه، لقد كسر الصمت الدرامي بتقديم المشكلات الواضحة بأسلوب متفرد، لقد تصدى المؤلف (احمد عباس) وجميع فريق العمل من فنانين وفنيين بقيادة المخرج (محمد حسين حبيب) لإيضاح الواضحات - وهذا من أشكل المشكلات - بأسلوب جمالي امسك بالمتلقي حتى النهاية.

***

د. حبيب ظاهر حبيب

 

لحميد الحريزي

توطئة: ان ثيمة ثقافة قدسية الوطن وحب الأنسان ونسغهِ الصاعد أستدامة الحرية والخبز من أهم الأساليب التي وظفها حميد الحريزي في مجموعته الشعرية " مشاهدات مجنون في عصر العولمة " يكشف أسرار ذاتهُ وأرهاصاتها السايكولوجية وتكاد تكون الثيمة الرئيسة في ديوانهٍ والتي شكلت البنية الهندسية المعمارية الرصينة للقصيدة ومن خلال هذه الأثارات الأيحائية الوطنية يتجه مؤشر بوصلتهٍ بأتجاه صناعة (الأدراك والوعي) عند الجماهير المسحوقة، لعمري هنا بيت القصيد في توفر (الوعي) عند الشعب المغلوب على أمره يعتبر (كود) الثورة حسب نبوءات الفيلسوف الألماني ماركس، أجزم إنها الوريث الشرعي لرقي القصيدة العراقية والعربية لقد أثارت طوفاناً تسونامياً جارفا من الكمْ الثري من الأسئلة حول طروحاته الفلسفية الترميزية ومحتوياتها الغرائبية والعجائبية والتشاؤمية لموضوع الساعة (حب الأرض وعشق الوطن والتأمل الواعد في أستراتيجية هيكلته أيقونة مبهرة بين الأوطان .

الموضوع: أحببتُ أن أقتحم قلاع ديوان حميد الحريزي هذه المرة بأسلوب نقديٍ مغايربمجسر سايكولوجي للكاتب وسوسيولوجي للنصية السردية للقصائد، يقتضي أخذ الحذر والحيطة والتركيزلأني أمام جبلين خطرين الأول فوبيا سيمياء العنوان المثير للجدل (مجنون وعولمة) والثاني التعامل مع كاتب متمرس وروائي قل نظيره وشاعرمتمكن يلعب بجميع أوراق فنون الشعر وصحفي أعلامي وجندي شجاع باسل وصبور في مهنة المتاعب وشخصية كاريزمية مهيبة ثابت الخطوة يمشي ملكا، خلال قراءة الفصل الأول من المجموعة الشعرية ترى نفسك أسيرا في جو ظلامي مرعب يقودك مجنون عبر مفازة (يباب) قاحلة تتصادم مع مطباتها ومتاهاتها وكأنك تجريبي مطوع لتجربة العالم الروسي (بافلوف) في تجربة المتاهات، حقاً وجدتُ في مجمل قصائده الشعرية إنها غرائبية الطرح أقتحامية وبكل جرأة يوجز حياتنا بجملة كبيرة من التناقضات صراع بين الجلاد والضحية وبين السارق والمسروق وبين المترف والجائع وبين الرابح والمنحوس والمتغطرس والذليل وجلها تتراكم وتزدحم في بودقة الصراع الطبقي للعم ماركس، وبهذه الآرهاصات المتضاربة قررت أقتحام أسوار الشاعر الكبير "حميد الحريزي"، وأحببت ُالنصية السردية للمجموعة وجدتها بوح سردي حكاواتي لأجيال مترعة بالدراما والتراجيدية المأساوية، يقول الكاتب حميد الحريزي عن نفسهٍ في نجوى حالم يبحث عن وطن حر وخبزٍ نظيف، وثمة فضول يثيرلدي سؤالا: أتعلم لماذا أنتحر همنغواي؟! وهو في صراع مرير مع المجهول وخيبات ذلك اليوم المنحوس لقد ميَز بين كائنين من البشركائن شرير وكائن أيجابي مصلح، فالأول وغد ووقح وأكثر قوة وتأثير وجاه وسلطة فهو سيد الموقف في دولة التفاهة والرثاثة حائز على الأغلبية المطلقة في مؤسسات ا لنهب في الدولة العميقة أو دولة (اللادولة) كما سماها الكاتب الراحل فالح عبدالجبار، والثاني كائن أيجابي لا مكان له في الأعراب عدا (لا) النافية، ووشم على الجبين وبتر الآذان . لذا أخاطب زميلي وأستاذي الشاعر الكبير حميد الحريزي (ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟ فالقوم في سرغير القوم في العلن!).

الآغراض الشعرية في مجموعة الحريزي

- في أمراض عصر العولمة صخب الحياة، أنتشار الأنتاج الرقمي الأفتراضي، العزلة عن الواقع الأجتماعي، تفكيك الأواصر الأسرية، تكليس الذات البشرية والعاطفية الوجدانية، وأختار الوطن (العزلة) لمئة عام منذ ترقيم التأسيس المنحوس 1921 وأستنساخ المواطن (الطوعي) كما يسميه الفيلسوف الكندي آلان دونوفي كتابه دولة التفاهة إن ذلك المواطن الذي يمارس المخدرات والمسكنات المتمثلة بتوطين الغيبيات اللاهوتية وانتظار المنقذ!؟ وتقول القصيدة:

في قاعات الدرس

يعلمنا فن الخطابة أخرس

ومتسوُلْ أعمى

وشيخ الحي

يعلمنا فنون المنكر والرجس!

كأننا أمام عولمة جديدة ؟!

- ترميز زمكنة الواقع بأرختة سايكولوجية وسوسيولوجية المجتمع العراقي في عهد الحكومة السابقة لخمس وثلاثين سنة عجاف لا يعصرُ فيها ولا يطحن عدا طحن تدمير الروح العراقية والتي يسميها مُنظْرْ البعث الكاتب والمؤرخ " حسن العلوي " بجمهورية الخوف، عند تفحص سايكولوجية المجنون بطل المجموعة الشعرية في فصل الرقم المنحوس لعصر العولمة والذي يصرح بتشاؤمية شديدة من اللاوعي الباطني إن وحدهُ هو(العاقل) وغيرهُ في عصر العولمة هم المجانين، وعند الفلترة (الفرويدية) لهذا التصريح الخطير، يقول: إن التشاؤم قمة الوعي وأقصى درجات الرفض، ولفتت نظري قصيدة أخرى في مضمون التورية والترميزالمقصود في أدوات (النصب) هو الأحتيال وأدوات الجر هو قيادة الشعوب المقهورة كالخرفان، وقال فيها الحريزي:

الرقم المنحوس     

العالم مشغول بسر عولمتنا

تمثلنا (الدي) فهي الرأس

أل (مقراطية) ذيل

يجرح عزتنا لا نقبلهُ

نحن علمنا الناس سر الحرف

وسر (النهب) وسر (الكرف)    

فليتوجه كل العالم صوب قبلتنا

والعالم مشغول بسر عولمتنا

وقصيدة قطعان

قطعان مدينتنا

تعاف البرسيم

وتلتهم أوراق ورد الجوري

حمير مدينتنا

تُدرسْ ساستنا علم المنطق

وأدوات النصب والجرْ

- ينحو كاتبنا أحيانا كثيرة إلى الضغط على الحرف والنفخ فيه ليتحول إلى تمثيل الجملة بل الصورة الشعرية بفنتازية خيالية وربما مأساوية، بأعتقادي أنها عادية تجد سداها ولحمتها عند الكبار من الشعراء، قال فيها المتنبي:

يوماً رأيتُ الذئب يحلبُ نملةً – ويشربُ منها رائباً وحليبا، وقالت العرب: أعذب الشعر أكذبهُ؟!!!

غجرية ثملى

تنشد لحن (الهجع)

من فوق مئذنة الحي

المزينة بالدولارات النفطية

-في تقديس حب الحياة والحرية والديمقراطية مرادفة لفروض صلاة "أنتصر للحرية وحب الوطن" المجموعة الشعرية دعوة للحياة بشكلٍ مغاير، وثمة أحساس ما بين السطور أنها دعوة من الشاعر الحريزي لحبٍ عذري وصوفي خالي من الماديات والخاضعة للتجربة، أممية المحتوى أنسانية الهوى ويتماهى هذا الحب المقدس مع نهرٍ بلا ضفاف من الأنسنة والفضيلة، وهي دعوة تأمل باللجوء إلى العقل بتقديس الوطن والتراب، لا كما أنسان اليوم في عصر العولمة الرقمية المعصرنة حيث يطحن بأزيز آلات العسكرتارية وماكنات أمبراطوريات تجار الحروب العبثية ربما بعجلة غيلان النفط والدولاروالدم، وتجير الطبقة الوسطى إلى عالم اليأس والقنوط ومصادرة حرياته وسحق روحهِ بتقديس (السلطان) بشعاره أنا ربكم الأعلى المفرو ض قسراً، المجنون في هذه المشاهدة يستعمل ألفاظاً مستهجنة تحت عباءة جنونهِ من ناحية وبما يليق بحكام عصره من جهة ثانية، يقول الشاعر فيها:

من بركاتنا

جعلناكم خصياناً

لاتحزن

نساءكم سيطؤها سيدنا السلطان

أعفاكم من الشقاء

لاظلم بعد اليوم

للكل الحق ب(---) السلطان ؟؟؟

تتزين صدورهن

بقلائد مرصعة بكرات من براز السلطان

نساء لا تنجب إلا بأمر من (---) السلطان

- تزخر المجموعة الشعرية لنظرية التضادات والمتقاطعات فكرياً وعقائديا وسلوكيا من خير وشر وحرب وسلم وعقل وقلب وحب وكراهية والمحلل والمحرم والمؤمن والملحد والمجنون والعاقل والرحمن والشيطان والحقيقة والزيف والحرية والعبودية، وتلك علامات تكاملية جمالية في ديوانه الجديد المجموعة الشعرية في "مشاهدات مجنون في عصر العولمة"

عاش الأمير

كلنا حمير

أسجد للمنصور والمعتصم

والمؤيد بالله

فهو الأول والآخر

- من سيمياء ديوان الحريزي ترى شيئاً من الغرائبية ملفتا للنظرتحمل دلالات ملتهبة وهامة بل منبعثات محرقة تقتحم ممنوع الممنوع ليقدم مدونة غريبة مفاجئة لم ينتهي الجدال فيها تأريخيا بعد، حسب أعتقادي الأدبي: إنهُ نجح في تقديم ملحمة شعرية في التناص والأسلوب والقصد، يتكون النص من 13مشهدا تراجيديا بنكهة الهزيمة والقهر والأحباط، وسمى المشهد الأخير بالمشهد المنحوس، يقول:

أنا صوت (القواد) وربان

المقود

أنا السيد الأعلى

أنا الأله الأعمى

أنا راعي القطيع الأسمى

أنا الأ ول أنا الآخر

أنا الوحيد الأوحد

أنا المعبود وأنا العابد

-ومن مشاهدة أخرى للمجنون معارضته للسلطان الوالي والذي يحكم العباد بموجب نظرية الحق الآلهي وترميزها يقصد أصحاب القرار السياسي في العراق العظيم بأستعمال التهمة الجاهزة (التجاوز على التفوبض الآلهي) والحكم بالحد الشرعي بالموت كما جرى قديما للحلاج بتهمة الزندقة، وحديثا قريبا في العهد الصدامي كانت خشبة الموت جاهزة لتهمة شتم رمز العراق الأوحد يقول فيها الشاعر:

ممنوع

ممنوع كل شيء

ممارسة الموت

في الشارع مقبول

أما الفرح محظور

حتى خلف الباب المقفلة

-أخيراً: إن الشاعر " حميد الحريزي " يقدم بعض الرؤى الباعثة على التأمل والتفكير منها حب تراب الوطن والتمسك بالحرية والحب والجمال والسلام على الوطن للوصول إلى المدينة الفاضلة (اليوتوبيا)، والتمسك بمدرسة الحياة والحرية، وصفحات من حكومات الصعاليك والدولة العميقة واللادولة، ومع الأسف الشديد في زمننا زمن منصة التواصل البغيض نجحت في ترميز التافهين حيث صار بأمكان أية جميلة بلهاء ووسيم فارغ من ذوي عاهات قطع الأرحام ونكران الجميل أن يفرضوا أنفسهم عبرعدة منصات هلامية غير منتجة وهو زمن ألصعاليك فكلما تعمق الأنسان بالأسفاف والأبتذال والهبوط كلما أزداد جماهيرية وشهرة، تنشرجيناتها الشريرة والمدجنة عبر المنصات الهابطة وما أكثرها تعمل على تفريخ اليأس والقنوط والأستسلام التام لنظام التفاهة حكومات الصعاليك حيث أستنساخ (المواطن الطوعي) وهات يا عجب!! حين تنتشر فايروسات الدعاوي الكيدية والمخبر السري بتشغيل ديناميكية المقاصل وخشبات الأعدام وكانت ضحاياها الآلاف من الأبرياء، أحدهم منذ ثلاثين عاما أعدم صوت الجنوب الفنان صباح السهل في 1993ضحية بشاعة النظام الشمولي السابق أثر دعوة كيدية من زوجته الثانية، حيث كانت له آخر أغنية شجية مؤثرة (بلايا وداع) كلمات شاعرالفراتين عريان سيد خلف ولحن الكبير جواد أموري: مثل الماي من ينشف بلايا وداع –تدريني هرش أوجرت بيه الكاع – يا رخص البشر من ينشرى وينباع!!!؟

***

عبد الجبار نوري: كاتب عراقي مغترب

في نيسان 2024

.....................

هوامش

- مصير العولمة بين التشكيك والمواجهة – عثمان محمد عثمان

- الأخوة الأعداء – ديستوفيسكي

- دولة التفاهة – آلان دونو

البشير عبيد، شاعر وكاتب مهتم بقضايا التنمية والتنوير الفكري والمواطنة.. ناشط في الحركة الحقوقية والمشهد الثقافي التونسي..

طاقة ابداعية متأججة قصيدته نثرية حديثة يضخ بها من وهج ذاكرته مازجا اياها برؤية تفعيل ديناميكي مستمر كعجلة في طريق ومع انه شاعر حداثوي الا انه يرفدها بالموسيقى احيانا وبالايقاع الخارجي اضافة لايقاع بصمته داخليا قاموسه اللغوي والشعري يجعلها مزيجا فريدا بين لغة رصينة راقية وبين لغة سلسة محكية في نصوص لا تخلو من دسامة الحكمة التي توشح نصوص الشعراء المتميزين اضافة الى مغزاها الرسالي.

الشاعر البشير عبيد عروبي الانتماء والنشأة تقدمي التوجه ففي كل نصوصه التي قرأتها اجد بصمة الهوية واضحة تحمل مشعلا للشباب (الجيل)، والجميل انه يرسم لوحات امل في استدعاء ذاكرة اقل تشويشا باشارته للاقاليم البعيدة كنوع من التدليل على ان مشكاة الاوطان من هناك تضيء حيث القيم الصافية السامية وهذا تأصيل واضح الوجهة والتوجه لاجل ضخها في ساحة المدنية وجعلها ذات قيمة فعالة منغمسة في جعل الماضي والحاضر ككفي فعل لاجل بناء مستقبل مأمول..

 مأمول منهما تحريك الرواكد لاجل اعلاء الامل وجعله واقعا يتحقق، وتلك هي الروح الفاعلة عند كل مفصل من مفاصل النهوض

ولعل الاشارة الى مقولات ابن خلدون اكثر تدليلا على دعم هذه القراءة الخاطفة، فابن خلدون يولي اهتماما كبيرا ب(محيط) دائرة الصراع او الفعل اكثر من (المركز) من حيث (التشخيص والابتداء) وان كان المركز هو الغاية الاخيرة (باعتبارة موئل الادارات المنظمة للارادات)

اهالي الاقاليم يقول عنهم (ابن خلدون) انهم تكفيهم الاحتياجات الاساسية الملحة فقط وانهم اكثر جدية ونشاطا وبأساً وصبرا وهمة وفضولا ووضوحا وحتى اخطائهم يمكن تداركها بطرق ابسط من اخطاء اهل العواصم  الذين يركنون للراحة والملذات والكماليات اكثر فتهمد بذلك هممهم ويكون تغييرهم وحملهم على العطاء والجد وتحمّل المسؤولية اصعب وهنا ابن خلدون يربط ذلك بقوة الدول وضعفها ومحاولات الاصلاح والصلاح الاجتماعي والثقافي والسياسي

وذلك ما وجدته بصمة  في نصوص الشاعر  البشير

الذي يرسل اشارات عن البديل بذكره العبور، الهجرة، المنافي وغير ذلك كحمية وقاية او نظام علاج عن وعي تنويري تثويري جماعي السمة لا يفتر مبتعدا في كتاباته عن ذكر مناقبه(هو) ذاتا مبتعدة عن النرجسية واستعراض المغانم الفردية التي يتبجح بها أخر في واجهات المحافل والتجمعات،، الاحظ ذلك من خلال قراءتي شاعرنا البشير شعرا وطروح كتابة وافكارا وحضورا كثيفا في المواقع والمجلات والصحف وليس عن معايشة او مجايلة ولكنه استقراء من خلال متابعة الاثر ولا يفوتني القول ان من الفضيلة ان نحتفي بمبدعينا بحياتهم قبل ان تخط عكاز الوهن طريقها لصوامع العزلة التي تجعل المبدع رهين اكثر من محبسين ملصقة به تجاعيد نسيان وتناسٍ مخلفة رماد رأس كان يتدفق عطاء وحيوية..

***

حفريات في جسد المدى

البشير عبيد / تونس

قبل هطول مطر يناير

كانوا يمدحون الظلال

اخذتهم خطاهم إلى مدن الثلج

و الرماد

ليس في دفاترهم حكايا الرحيل المباغت

للملكوت

اصواتهم تجاوزت الشرفات

قبل مجيء الغروب ٫ يأتي الغرباء

ذاهلين تراهم عيون العسس

حالمين بالافق والتلال البعيدة

كانها منارة امراء الحرب قبل ضياع

الفريسة

هنا وصايا الولد العنيد تكتبها سواعد

فتيان الرصيف

لم نر في وجوه العابرين

دهشة الأجداد حين غابت عنهم حكايا

الولد الأسير

كثير من نبيذ الشرق على طاولة الذكرى

قليل من بياض الروح حذو النهر المتاخم

للحنين

*

قيل لاولاد الروابي انهم جاؤوا من ضفاف

المدى

ليس لهم في المدينة ذاكرة وأحفاد

لا يخافون من الأنواء

لا يهابون الضجيج الطالع من افواه

السفهاء

لا مكان لهم في مشهد الغيم المتناثر

في الزوايا

ربما خذلتهم الأجساد

و تبعثرت ألأوراق

بامكان القوافل الآتية من بعيد

أن تحفر في دهاليز الزمان

للمدى ذاكرة وانوار

للصدى إنفتاح المسافات على بهاء

الصياح

للريح الآتية من جنوب الأقاليم

ولد جسور وصبايا ذاهلات

هنا حبري وغضبي وذاكرتي ودعاء الأمهات

إحداهن إسمها آمنة

كانت تقول لي فجر كل يوم:

أكتب يا ولدي

و لا تلتفت إلى الوراء

حبرك محلق في سماء الينابيع

أكتب أيها الآتي من الزمن البعيد

 ولا تخف من سفهاء المرحلة

في البدء كانت الكلمة ونوارة الروح

*

ربما نسي الأحفاد ذاكرة الأجداد

و صار المكان القصي ملاذا للعابرين

هنا قريباً من الصدى ينام الفتى

بلا حقيبة باذخة

ولا مدد يأتي من الأنصار

لا خوف في الجسد النحيل

لا افق تراه العيون

لا أمل في القادمين من الأنفاق

كانهم جاؤوا من زمن بعيد

يحملون على الأكتاف بهاء اللغة

المشتهاة

هنا حبري ودمع الرجل الشريد

لم نكن وحدنا في لهيب العاصفة

كانت معنا الرياح اللواقح

ذاكرة الأيام

إنفتاح الكلام على ورقات الحنين

إخضرار الشجر الحزين

قبل هبوب العاصفة

رحيل الخطى إلى الملكوت

*

للجسد الغارق في المتاهة

آهات وصيحات الآتين من الأقاصي

قبل مرور الشاحنات تباغتني امراة

النور بالسؤال اليتيم:

كيف صار المشهد قريباً من الغيم

و البلاد صارت سرابا....؟!

ستبقى أصوات الرعاة ملاذا للعابرين

هنا سرب من حمام الشرق

يعبر الأقاليم

على الأجنحة ذاكرة الفيافي

و إرتمام الجسد في النهر المتاخم

للرخام القديم

28 فيفري / فبراير 2023

**

وحدهم يعبرون الجسر

البشير عبيد

يرحلون بإتجاه الغيم الآتي

من ذاكرة القرى الهاربة من التيه

يحملون حقيبة تلو أخرى ذاهلين

من جدار عتيق تداعى

و احلام فتية تبعثرت في الروابي

لم تكن الشفاه جاهزة للهمسات

في الخامس من تشرين تاخذنا الخطى

 إلى ينابيع الظلال

و الشيخ الضرير يباغتهم بالحكمة الباذخة:

باقون هنا كالشجر السامق في الجنوب

لاحفادنا بهاء الفكرة وكبرياء المعنى

العشاق لا تهمهم حرب هنا وعاصفة هناك

تلتقي الأجساد والأرواح  في الضفة الأخرى

من ذاكرة النور

إنتصف الليل ولم يأت المدد

لا خوف لي من الأفق البعيد

الأحداق

الكوابيس

عشق الفتى للورقات المكتوبة بحبر

الانحياز

ذهاب العسكر الى حروب عبثية

خروج الشبيبة من حدود بلاد غابت عنها

اقواس الحقيقة

*

يرحلون إلى زمن تداعت فيه المرايا

و صارت نوافذ الضوء ملاذا

للعابرين

ربما نسيت أو تناست امراة النور

كيف تحكي لاولاد الزقاق العتيق

ملحمة الأجداد قبل هطول المطر الغزير

و انسحاب الغزاة الشقر من لهيب

المعركة

يرحلون إلى مدن غابت عنها الينابيع

لم يكونوا فرسانا للكلام

أو عشاقا لانفلات الحبر في مدح النور الطالع

من قبو قديم

 *

فرادى يعبرون الجسر قبل مرور العاصفة

لم ينسوا ذاكرة القرى

حقيبة الشيخ الضرير

موسيقى الجاز

ثمار الحديقة المنسية

وصايا الأم للطفل الشريد

حكايا الصبايا في ليلة ماطرة

إنتصف الليل ولم يكتمل العناق الطويل

طلع النهار ولم يأت المدد

ربما صار الجسد الهزيل مزارا

لمن ناموا في العراء

هنا ذاكرة المرايا وانفتاح الأقاليم

على الشجر الحزين والينابيع

*

لعبور الجسر مباهج

و لاخضرار الروح طقوس وهواجس

فتيان القرى المنسية، كانوا وراء التلال

يحملون حقيبة تلو أخرى

لا شيء على الأكتاف

سوى حنين الأجساد للزقاق القديم

ذاكرة الأيام

هروب الفتية من صقيع الضواحي

كانهم جاؤوا من زمن بعيد

و ارتماء الجسد في اليم العتيق

كان لزاما على الفتيان ان يعبروا الجسر

فرادى

هناك حذو العربات القديمة

تتعالى الأصوات

ترتبك الأصابع

تكتب الأنامل النشيد المشاكس

هنا قرب الشيخ الضرير٫تمر القوافل

معلنة ذهاب الكلام الذهبي إلى ضفة الرؤيا

إنتصف الليل ولم يكتمل العناق الطويل

صارت الأجساد كفاكهة الشتاء

و امطار زمن المماليك

سريعا تاتي العواصف

قبل عبور أولاد القرى الجسر المتاخم

للانين

و متاهة المشهد

لا خوف للفتية من ضباع الشوارع

لا خوف للبلاد من ضباب مباغت......

***

ا. ثامر جاسم

اديب وناقد عراقي مقيم في تركيا

تونس - 2022/11/23

.......................

* الصورة للاستاذ البشير عبيد

عن رواية الكاتب الحائز على جائزة نوبل والتي نُشرت بعد وفاته، حتى أغسطس.

بقلم: جونوت دياز

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

توفي غابرييل غارسيا ماركيز، ساحر أراكاتاكا، وأحد أفضل الكتاب على هذا الكوكب، في عام 2014. من الصعب أن نتخيل ذلك عندما ننظر إلى الوراء، لكنه لم يكن يبدو دائمًا متجهًا إلى السماء؛ ولد فقيرًا ونشأ على يد أجداده، وكان صحفيًا مخلصًا لكنه مكافح، وصمتت روايته الأولى، "عاصفة الأوراق"، سبع سنوات قبل أن يجد ناشرًا. كتاب مبكر آخر، ساعة الشر، جاء وذهب دون ضجة. وبعد ذلك، في عام 1967، في ذروة الثقافة المضادة، نشر مائة عام من العزلة، وهو إنجاز هائل أكسبه استحسان النقاد، وقراء عالميين، وفي النهاية حصل على جائزة نوبل.

كان لجابو، كما يعرفه معجبوه، تأثير لم يحققه سوى عدد قليل من الفنانين في أي قرن، وفي أي نوع موسيقي. لم يقم أحد بتصوير عجز واقعية العالم الأول عن التعامل مع واقع العالم الثالث (أو شبح الاستعمار) بشكل أفضل من جارسيا ماركيز. لم يكن هناك أحد أفضل منا في وضع استراتيجية حول الكيفية التي يمكن بها لأولئك الذين ينحدرون من ما يسمى بشكل ملطف بالجنوب العالمي أن يلتقطوا حقائقنا المستحيلة، أو يتدخلوا بشكل هادف في الصراع الإمبراطوري بين الحقيقي والواقعي.

لقد غيّر غارسيا ماركيز الفن إلى الأبد. وربما كان ما فعله لكتاب أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي أقل ضخامة بعض الشيء: فقد فتح بابًا فنيًا لم تتمكن أي قوة على هذا الكوكب من إغلاقه. أنا لست الوحيد الذي يعتقد أنني لم أستطع أن أصبح الكاتب الذي أنا عليه بدون الأشباح التي أثارها.

لا يزال غارسيا ماركيز يقدم لنا رؤى تنبؤية، ولكن ربما ليس على وجه التحديد بالطريقة التي توقعها أو تمناها.

قبل أن يوقفه الخرف عن الكتابة تمامًا، كان غارسيا ماركيز يعمل بشكل متقطع على عمل روائي نهائي لم يكمله أبدًا بما يرضيه. بعد خمس مسودات، قال غارسيا ماركيز المريض لأبنائه: «هذا الكتاب لا يصلح. يجب تدميره."

ولم يتحدث بصوت عال. كما يعرف بالتأكيد أي شخص حاول تعقب المسودات المبكرة لأعماله، كان لدى غارسيا ماركيز عادة قاسية تتمثل في تدمير مسوداته - ولم يتردد أبدًا في ممارسة حق الكاتب المطلق في تحديد أي من أعماله يستحق تسليط الضوء عليه وما لا يستحق ذلك. ربما تلك طريقته في السيطرة على أسطورته الأدبية.

لا بد أنك سمعت الآن الدراما: تجاهل أبناء جارسيا ماركيز رغبات والدهم ونشروا بعد وفاته العمل الذي كان من المفترض أن يتم تدميره باعتباره رواية "ضائعة" - والتي نشرت مجلة نيويوركر مقتطفًا منها في عام 1999.

تدور أحداث رواية "حتى أغسطس" حول آنا ماجدالينا باخ، التي تزور كل عام الجزيرة الكاريبية حيث أصرت والدتها على دفنها، وذلك من أجل تنظيف القبر وإيصال أخبار عالمها إلى والدتها:

كانت تكرر هذه الرحلة في 16 أغسطس من كل عام في نفس الوقت، مع نفس التاكسي ونفس بائع الزهور، تحت الشمس الحارقة لتلك المقبرة الفقيرة، لتضع باقة من زهور الزنبق الطازجة على قبر والدتها. بعد ذلك، لم يعد لديها ما تفعله حتى الساعة التاسعة صباحًا، حتى تغادر العبارة الأولى إلى البر الرئيسي.

كانت تبلغ من العمر ستة وأربعين عاماً في بداية الرواية، و"في زواج موفق من رجل أحبته وأحبها وتزوجته قبل أن تنهي دراستها في الآداب، ولا تزال عذراء وبدون أي علاقات سابقة،آنا ماجدالينا باخ هي نموذج المرأة الجادة. إنها من الطبقة العليا، ومثقفة، وقارئة للروايات، ومحبّة للموسيقى، وراقصة ممتازة. وتصادف أيضًا أنها امرأة جميلة ذات "عيون توباز" وجلد "بلون وملمس دبس السكر" - وهي تعرف ذلك. وبعبارة أخرى، فهي تشبه ماكوندو ماريا سو.

أثناء الزيارة إلى المقبرة التي تفتتح «الرواية»، تنام آنا، لأسباب توصف بشكل ضبابي في أحسن الأحوال، مع شخص غريب، وهو أمر لم تفعله من قبل. إنه "غرينغو من أصل إسباني" "كشف عن نفسه على أنه عاشق رائع رفعها على مهل إلى نقطة الغليان". في صباح اليوم التالي تكتشف أن حبيبها قد رحل، لكنه ترك لها ورقة بقيمة عشرين دولارًا، مما يغضبها ويعذبها.

في العام التالي، تعود آنا إلى الجزيرة، وتنظف القبر، وتتحدث لفترة وجيزة مع والدتها المتوفاة (التي لم تعرف أبدًا أسباب دفنها في هذه الجزيرة بالذات)، وتترك باقة أخرى من زهور الزنبق، ثم بدلاً من قراءة الرواية المروعة ( The Day of the Triffids) كما كانت تنوى ، تعثرت فى ليلة أخرى .

إذا كنت تقرأه بسخاء شديد أو كنت من أتباع جارسيا ماركيز، فلن يزعجك (حتى أغسطس). الكتاب قصير وهناك لمحات من حين لآخر عن العبقرية التي ساعدت في إعادة كتابة الأدب العالمي ("لقد أخضعته للأسلوب المميت المتمثل في عدم أخذه على محمل الجد") وبالنسبة للبعض فإن المتعة البسيطة المتمثلة في صوت جارسيا ماركيز، مهما كانت خافتة، قد تكون كافية.

أنا شخصيا وجدت الكتاب مرهقا - على وجه التحديد بسبب خفته. ليس هناك الكثير هناك. الحكمة، الشك، التعقيد، الدفء البشري، السحر - كل ذلك غير متوفر. الناس أيضا. تقول آنا عن عشاقها المتنوعين: "لقد عرفته كما لو كانت تعرفه دائمًا" و"عرفته حينها كما لو كانت تعيش معه دائمًا" لو كان القارئ سيئ الحظ إلى هذا الحد. تم وصف شخصيات الكتاب ولكن لم يتم الانخراط فيها بعمق ولم يتم تقريبها أبدًا. آنا تعاني أكثر من غيرها من هذا الأسلوب البسيط. نعلم أنها تقرأ، ونعلم أنها ترقص، ونعلم أنها تحب زوجها، ونعرف أشياء كثيرة، لكنها كلها معلومات، تبقى في الرأس، لا يدخل أي منها إلى القلب أو الخيال، ولا شيء منها يصبح حقيقيًا أو صحيحا.

آنا ماجدالينا باخ، في النهاية، ليست تعويذة، بل مكوناتها، تنتظر تعويذة لن تأتي أبدًا.

ثم هناك الكتابة، التي يعطي بعضها انطباعًا بأنها من تأليف الذكاء الاصطناعي، ولكنه ذكاء اصطناعي يفتقر إلى المحفزات. "في أول دفعة شعرت أنها تموت من الألم والصدمة الفظيعة، كما لو كانت عجلا ممزقا. لقد تُركت لاهثة، غارقة في العرق البارد، لكنها ناشدت غرائزها البدائية ألا تشعر بالنقص أو تدع نفسها تشعر بأنها أقل منه، وأطلقوا أنفسهم في متعة لا يمكن تصورها للقوة الغاشمة، خاضعة للحنان." (الأصل الإسباني، لا يذك العجل، لكنه لا يزال ليس أفضل بكثير.)

بالنسبة لكتاب يستحضر الكثير من الرقص والموسيقى، فمن المدهش مدى قلة وجودهما على الصفحة.

ليس من المستغرب أن يكون (حتى أغسطس)  كتابًا مسكونًا. مسكون بوفاة غارسيا ماركيز. بعد أن طاردته كلمات غارسيا ماركيز، يجب تدميره. كما يطارده قرار أبنائه بنشر الكتاب ضد رغبة والدهم.   كتاب مسكون بإجبار غارسيا ماركيز على الرقص مرة أخرى رغماً عنه. لن يهتم معظم القراء بالأشباح أو الرقص أو غير ذلك، وهذا أمر متوقع. إن هوسنا بقصص الأشباح هو اللحية التي تخفي مدى قلة اهتمامنا برغبات الموتى. سينتهز المشجعون فرصة الرقص للمرة الأخيرة مع المايسترو. في أراكاتاكا ينتظرون وصول سياح غابو مثلما كان جدي الريفى ينتظر هطول المطر.

ولكن إذا كان غارسيا ماركيز قد علمنا أي شيء، فهو أن ننتبه إلى الأشباح - سواء كان خوسيه أركاديو الثاني، أو برودينسيو أغيلار، أو ميلكياديس، أو العمال الثلاثة آلاف الذين ماتوا في مزارع الموز، أو حتى غارسيا ماركيز نفسه.

كتب سلمان رشدي، أحد أشد تلامذة غارسيا ماركيز، في كتابه «آيات شيطانية»: «ما هو الشبح؟ العمل غير المكتمل، هو هذا."

إذا كانت مسألة (حتى أغسطس)  تعلمنا أي شيء، فهو أنه سواء كنا غابرييل غارسيا ماركيز أو فولانو دي تال*، فإننا جميعًا عمل غير مكتمل. وهذا يعني أن رأس المال النيوليبرالي لن ينتهي عندنا أبدًا؛ لا شيء سيمنعه من انتزاع العمل منا – لا الحياة ولا الموت.

حتى في كتاب قابل للنسيان مثل هذا، لا يزال جارسيا ماركيز يقدم لنا رؤى تنبؤية، ولكن ربما ليس بالضبط بالطريقة التي توقعها أو رغب فيها.

***

.......................

* فولانو دي تال كانت فرقة روك لاتينية من أمريكا الشمالية، تشكلت في عام 1995 في ميامي، فلوريدا.

* المؤلف : جونوت دياز/ Junot Díaz: جونوت دياز هو مؤلف كتاب "يغرق"، "هذه هي الطريقة التي تفقدها"، و"الحياة العجيبة القصيرة لأوسكار واو"، الذي فاز بجائزة بوليتزر للرواية لعام 2008.

* رابط المقال على  مراجعة بوسطن / Boston Review : بتاريخ 21 مارس 2024

https://www.bostonreview.net/articles/the-ghost-of-gabriel-garcia-marquez/

بقلم: مايكل أ. جونزاليس*

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

مسترشدًا بالأرواح، في صباح أحد أيام شهر أكتوبر الملبد بالغيوم، التقطت نسخة من Right On! من القسم غير المقروء في رف كتبي. مجموعة كتابية للسود حرّرها برادفورد تشامبرز وريبيكا مون في عام 1970، وكانت هدية حديثة من صديق كان يعرف جيدًا ضعفي تجاه مختارات الخيال الأمريكية الأفريقية، وخاصة القصص القصيرة. أبرزت Right On أهمية المعتادين من الكتاب المحترمين بما في ذلك ريتشارد رايت، وآن بيتري، وويليام ملفين كيلي، ومارجريت ووكر. لكن بعد فتح الكتاب على صفحة عشوائية، عثرت على ديان أوليفر، كاتبة لم أقرأها أو أسمع عنها من قبل، وعثرت على قصتها المفجعة "الجيران".

جلست لقراءة قصة أوليفر، التي نُشرت في الأصل عام 1966، وأعجبت بالقوة السردية التي أظهرتها؛ علمت لاحقًا أنها كانت لا تزال في أوائل العشرينات من عمرها عندما نُشرت القصة، لكن صوتها كان ناضجًا بالفعل. في مسيرة مهنية قصيرة تألفت  بست قصص منشورة، كتبت أوليفر عن العرق وأهوال العنصرية التي ارتكبت على العائلات في الولايات المتحدة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. لا شك أن السود عرفوا رعب العنصرية منذ الأيام التي أجبروا فيها على المجىءإلى هذا البلد مقيدين بالسلاسل، وقبل فترة طويلة من ظهور أفلام جوردان بيل الغريبة "Get Out" و"Us".

قصة "الجيران" كُتيت بشكل جميل عن أسرة سوداء تتعامل مع ضغوط طفل العائلة، تومي ميتشل، الذي يندمج في مدرسة ابتدائية بيضاء بالكامل. إنها قصة مأخوذة مباشرة من الفيلم الوثائقي PBS "عيون على الجائزة"، حيث تنقسم العائلة بين النضال من أجل حقوقها والحفاظ على تومي الصغير في مأمن من الغوغاء الغاضبين المستعدين للبصق أو الركل أو قتل الطفل.

إن نثر أوليفر الطبيعي مرعب مثل نثر شيرلي جاكسون في قصتها الهجائية الفاضحة عن بلدة صغيرة وطقوسها السنوية في "اليانصيب". في حين أن قصة جاكسون كانت خيالية (ولا تزال تزعج العديد من القراء)، فإن عنصرية جيم كرو المصورة في قصص أوليفر كانت حقيقية. أسلوبها مليء بالأفكار المعقدة التي يتم سردها بطريقة بسيطة، ولكنها ليست بسيطة مثل "الخيال الاحتجاجي". عندما كانت طالبة في ورشة عمل الكتاب في آيوا عام 1965، كانت أهدافها الكتابية أدبية وليست دعائية. لقد عانى الأشخاص الذين كتبت عنهم من مئات السنين من الصدمات الواقعية، بما في ذلك العبودية، والإعدام خارج نطاق القانون، والضرب، والمضايقات، وعدم اليقين المستمر.3606 Diane Oliver

نُشرت قصة "الجيران" لأول مرة في عام 1966 في مجلة Sewanee Review، وهي مجلة أدبية ما تزال موجودة حتى اليوم، ويتم سرد القصة من وجهة نظر أخت تومي الكبرى، إيلي، التي تعمل خادمة في الجانب الآخر من المدينة، وتبدأ الأحداث  في اليوم السابق لدمج تومي في المدرسة. لإثارة والتوتر الذي تشعر به إيلي عندما تبدأ رحلتها بالحافلة إلى المنزل هو ما يحرك القصة. وكتبت أوليفر: "على الأقل النظر إلى الركاب منعها من التفكير في الغد".

"الجيران" مكثفة دون أن تكون ميلودرامية.تقول الكاتبة جيك آن جونز المؤلفة المشاركة لكتاب "أحيانًا تصبح فتيات المزارع ثوريات"( قصة الناشطة الراحلة في مجال الحقوق المدنية فلورنس إل تيت ): " كان أسلوبها] أوليفر[  في الكتابة بسيطًا، لكنها بنثرها أتاحت لنا نافذة لمراقبة هذه العائلة وحياتها المعقدة". الخوف والرعب بارزان، ولكن كذلك العائلة المحبة التي ستواجه إهانة أخرى.كل شيء فى "الجيران" يبدو حقيقيًا. هذه ليست حقوقًا مدنية مثل العروض السينمائية؛ هؤلاء أناس حقيقيون يتصرفون بطريقة حقيقية."

علي حين تُسرد القصة ببراعة، هناك شعور بسيط  بالواقعية الاجتماعية مثل مقال عن الأشخاص العاديين الذين يقفون وراء الحركة. عندما أغلقت الكتاب، شعرت بالحيرة بشأن سبب عدم شهرة ديان أوليفر بشكل لائق. من دون شك، إذا كانت قصة "الجيران" الرائعة تشير إلى أي شيء، فإن صوتها الأدبي كان ينبغي أن يكون ملهمًا للكتاب الطموحين مثل: زورا نيل هيرستون أو جيمس بالدوين.

قبل عقد من نشر كتاب "الجيران" القوي، كانت أوليفر نشأت في منطقة جيم كرو الجنوبية عندما صدرت قضية براون ضد مجلس التعليم في عام 1954. وكان والدها، ويليام روبرت أوليفر، مدرسًا ومدير مدرسة في موطنه شارلوت، شمال البلاد. كارولينا، بينما كانت والدتها، بلانش ران أوليفر، تدرس الموسيقى في منزلهم الجميل في شارع واشنطن، وهو شارع في الضواحي تصطف على جانبيه الأشجار. على الرغم من أن أوليفر كان عمرها 10 سنوات فقط عندما قضت المحكمة العليا بأن الفصل العنصري في المدارس العامة ينتهك الدستور، إلا أن دور والديها كمعلمين كان سيشكل وجهات نظرها، وربما تكون قد استندت في كتابها "الجيران" إلى أي عدد من الأشخاص من عائلتها فى  مسقط رأسها .

بدأت طريقها لتصبح كاتبة في مكتبتها المحلية. "عندما كانت طفلة، كان أوليفر تقرأ بنهم، بتشجيع من جدتها،" وفقًا لموقع eNotes.com. "عندما كانت في المدرسة الإعدادية وقرأت جميع المجلدات الموجودة في المكتبة الفرعية المنفصلة، قررت أن تصبح كاتبة حتى يكون هناك دائمًا شيء يقرأه الأطفال مثلها. وبعد سنوات قليلة كان كتابها المفضلون هم جيمس بالدوين ورالف إليسون وإرنست همنغواي وجيمس أجي.

بالنظر إلى صور منزل أوليفر القديم، أستطيع أن أتخيلها في غرفة النوم الخلفية، تجلس على مكتب وتكتشف عوالم وأشخاصًا جددًا في صفحات كتبها. عندما نظرت من النافذة، ربما فكرت في باريس الرائعة في عهد همنجواي أو في شوارع هارلم البرية في عهد جيمس بالدوين، واعتقدت أنها أيضًا ستسير يومًا ما في تلك الجادات.

التحقت أوليفر بمدرسة ويست شارلوت الثانوية، وتخرجت عام 1960 وقبلت في كلية البنات بجامعة نورث كارولينا - الآن جامعة نورث كارولينا في جرينسبورو. تفوقت أوليفر في المدرسة المدمجة حديثًا، حيث سرعان ما أصبحت رئيسة تحرير صحيفة المدرسة The Carolinian.

تخرجت في عام 1964 وفازت بالدخول إلى برنامج Mademoiselle Guest Editor تقديرا لها بفضل مقالتها "The Corner" التي تدور حول معركة الحقوق المدنية لدمج المتاجر القريبة من مدرستها. عقدت المجلة النسائية تلك المسابقة السنوية من عام 1939 إلى عام 1980، وكان من بين المشاركين جوان ديديون وسيلفيا بلاث، اللتان أدرجتا التجربة في الجرس الزجاجى. نشرت أوليفر قصتها القصيرة الأولى، "مفتاح المدينة"، بعد عام في المجلة الأدبية عام 1965 / Red Clay Reader II جنبًا إلى جنب مع هنري روث وكلارنس ميجور. توضح قصتها تفاصيل الإثارة والمحن التي عاشتها عائلة جنوبية في طريقها إلى شيكاجو.

أصدرت الشاعرة والمعلمة تشارلين سوانسي مجلة Red Clay Reader كمتنفس للكتاب والفنانين "المتجذرين في التربة الجنوبية"، كما وصفتها مجلة Our State في عام 2014. ومثل أوليفر، كان سوانزي في الأصل من شارلوت بولاية نورث كارولينا. أسست المجلة بعد وقت قصير من طردها من كلية كوينز لكونها "مبدعة وشجاعة للغاية"، على حد تعبيرها. لا أعرف كيف تواصلت أوليفر مع سوانسي، التي كانت تكبرها بعقد من الزمان، ولكن لا بد أن نشر قصة "مفتاح المدينة" ساعد الكاتبة الناشئة عندما تقدمت بطلب لحضور ورشة عمل الكتاب الشهيرة في آيوا.

كتب معلمها السابق بيتر تايلور، الذي وصفته صحيفة نيويورك تايمز ذات مرة بأنه "... أفضل ممارس أمريكي للقصة القصيرة في القرن الماضي"، خطاب توصية لها . و كتب مؤلف سيرة تايلور الذاتية، هيوبرت ماك ألكسندر: "لقد تمنى بشدة أن تذهب [أوليفر] إلى ولاية أيوا حتى لا تنشغل بالمشاجرات الموضعية التي تهيمن تمامًا على الدوائر التي قد تنتقل إليها في مكان آخر". وفقًا لماك ألكساندر، كان  يقصد بذلك  مسيرات الحقوق المدنية، والاعتصامات، والمظاهرات، ولكن كما يمكننا أن نقرأ في قصصأوليفر ، كانت قد تأثرت بالفعل.

كان هناك عدد قليل من الكاتبات السود (كريستين هانتر، ولورين هانزبيري، وجيه جيه فيليبس، وروزا جاي) يحققن خطوات واسعة في منتصف الستينيات. لكن مشاركة أوليفر في ورشة عمل آيوا، ونشر قصة "الجيران" لاحقًا في قصص الجوائز، 1967: جوائز أو هنري، كانت نادرة. خلال تلك الفترة، خلال تلك الفترة، كان الكاتب الطالب الأسود الوحيد الآخر في ورشة العمل هو جون إدجار وايدمان، الذي حقق نجاحًا أدبيًا مثيرًا للإعجاب.

وذكرت سوزان ماكونيل، كاتبة القصة القصيرة المشهورة، في مقابلة هاتفية أجريت معها مؤخرا: "لم يكن هناك الكثير من السود أو النساء في ولاية أيوا في ذلك الوقت". على الرغم من أن الاثنتين لم تكونا صديقتين مقربتين، إلا أنهما كانتا تتواجدان في نفس الدائرة من الكتاب والأكاديميين الناشئين. قالت ماكونيل، التذي شاركت في تأليف كتاب "الشفقة على القارئ: في الكتابة بأناقة" مع كيرت فونيجوت: "كانت ديان شابة جميلة ولطيفة وترتدي ملابس أنيقة .  كانت رصينة للغاية، ولم تكن جامحة على الإطلاق." وتابعت ماكونيل: "قصة" الجيران "أبهرتني". "لقد كنت جزءًا من الحركة وقد شاركت في مسيرة في سلمى [في عام 1965]، لكنني لم أفكر أبدًا في الاندماج من منظور عائلة تحاول حماية طفلها. لقد جعلتني أتوقف وأفكر"

بينما كانت أوليفر منسجمة بشكل جيد مع زملائها الطلاب، أشارت ماكونيل إلى أن "ديان بدت دائمًا حذرة للغاية ومتحفظة، ولكن أعتقد أنه بالنظر إلى البيئة المحيطة بها، كان عليها أن تكون على هذا النحو". لا بد أنه كان من الصعب جدًا أن تكون الشخص الأسود الوحيد (أو واحدًا من القلائل) في دائرة النخبة الأدبية في ورشة عمل الكتاب في آيوا، لتشعر وكأنك تخضع باستمرار للتدقيق أو التحدث عنك أو التفكير فيك بشكل سلبي."

تناولت أوليفر مشاعر "أن تكون التجربة" ومحاولة التأقلم مع الطلاب البيض في قصتها "الخزانة في الطابق العلوي". نُشرت  القصة جنبًا إلى جنب مع أعمال إرنست جاينز وأندريه دوبوس وجيسي هيل فورد في كتاب الكتابة الجنوبية في الستينيات: الخيال (1966) وحرره جون ويليام كورينجتون وميلر ويليامز، وتبدأ القصة مع أول يوم لبطلة القصة في الكلية. . أول طالبة سوداء في مدرستها.

على الرغم من أن والديها الغافلين لم يلاحظا "تلك الوجوه البيضاء المضغوطة على زجاج النوافذ"، إلا أن وينيفريد تمشي على قشر البيض. غالبًا ما تسمع فتيات يتحدثن عنها ("أنت تعلمين أن الأشخاص الملونين ليسوا مثلنا") وتشاهدهن يتطفلن على أغراضها.

وبدلاً من التشكيك في دوافعهن، تنسحب وينيفريد من الواقع، مجازيًا وحرفيًا، بنفس الطريقة التي تختفي بها شخصيات رايت أو إليسون من المجتمع. إن قصة "الخزانة في الطابق العلوي" سريالية بطريقة كافكاوية، ولكنها مرتبطة بـ "الجيران" الأكثر طبيعية من خلال تيمة الدمج.

في العام الذي سبق ظهور "الجيران"، بدأت أوليفر علاقة مهنية مع مجلة Negro Digest، وهي مجلة أدبية وسياسية رائدة مملوكة لشركة جونسون للنشر التابعة لشركة Ebony and Jet. نشرت صحيفة دايجست "الخدمة الصحية" (نوفمبر 1965) و"ازدحام المرور" (يوليو 1966)، وهي قصص عن ليبي فريدريك، وهي امرأة جنوبية فخورة ولكنها مضطربة ولديها الكثير من الأطفال وزوج غائب وليس لديها ما يكفي من المال.

وتعد قصة "الخدمة الصحية"  تعليق لاذع على المعاملة اللاإنسانية التي ألحقها المجتمع الطبي بالفقراء السود على مدى عقود. يقول أحد المرضى في غرفة الانتظار مع ليبي: "أحياناً أتساءل لماذا لم يمت المزيد منا". "كان من الممكن أن تنفجر الزائدة الدودية بداخلي ولن يحدث ذلك أي فرق بالنسبة لهم."

في قصة "ازدحام المرور"، تعود ليبي في حكاية حلوة ومرّة تُظهر عملها كخادمة لدى السيدة نيلسون المزعجة، وهي امرأة بيضاء لا تدفع ما يكفي ولكنها تحب طرح أسئلة حميمة كما لو كان لها الحق في الحصول على إجابات.

قال المؤلف جيك آن جونز:

- كان الفقر ثقيلاً للغاية في تلك القصص، وبدا وكأنه شخصية أخرى . "كان الأمر مؤلماً للغاية، وكنت أشعر به في عظامي.

ومع ذلك، كان هناك شعور بالانتماء للمجتمع في معظم قصص أوليفر القصيرة. نرى ذلك في بداية "الخدمة الصحية" عندما تتوقف ليبي في محطة إيسو مع طفلتها الصغيرة لأخذ قسط من الراحة ويواسيها صديقها القديم مات، وهو أيضًا أفضل صديق سابق لزوجها المنفصل عنها. يقول مات قبل أن يشتري كوكا كولا للأطفال.:

- إذا كنت بحاجة إلى أي شيء الآن، فأخبريني..."

في 21 مايو 1966، قبل شهر من تخرجها بدرجة الماجستير في الفنون الجميلة من ورشة عمل الكتاب في آيوا وقبل شهرين من عيد ميلادها الثالث والعشرين، قُتلت أوليفر في حادث دراجة نارية. كانت على ظهر دراجة طالب آخر عندما خرجا من الزقاق واصطدما بسيارة فولكس فاجن. ونجا الطالب الآخر من إصابة خطيرة بينما  توفيت أوليفر بعد دقائق قليلة من وصولها إلى المستشفى.

قالت سوزان ماكونيل، التي كتبت عن "الكاتبة الخيالية الجميلة والحذرة... الموهوبة" في مقال مؤثر نُشر في الكتيب التذكاري للذكرى الخمسين لورشة العمل، "يبدو الأمر مثل الأوقات القديمة، 1986": "لقد كانت خسارة فظيعة". . تمت تسمية المقال الذي يحمل عنوان "قرية بلاك جاسلايت" على اسم مجمع سكني للطلاب.

نشرت كل من Jet و Negro Digest نعيًا. وقالت جيت إن الكاتبة الشابة قبلت منصبًا تحريريًا لتبدأ بعد التخرج. وصف نيغرو دايجست وفاة أوليفر بأنها "ذروة سابقة لأوانها لمهنة قصيرة ولكنها ملحوظة، حيث كان من دواعي سرورنا نشر بعض أعمال الكاتبة الناشئة. ... إلى جانب كتاباتها، شاركت الآنسة أوليفر في العديد من أنشطة الحرم الجامعي بما في ذلك مظاهرات الحقوق المدنية والاحتجاجات في فيتنام. أمضت صيفها الأخير كمساعدة للمعلم في عملية Head Start. … لقد حزنا لوفاتها، لكننا اخترنا أن نتذكر دفء ابتسامتها”.

في مارس 1967، نشرت مجلة نيغرو دايجست آخر قصة قصيرة لأوليفر، بعنوان "جلاب النعناع لا يتم تقديمه هنا"، وهي قصة قوطية مثيرة للقلق حول زوجين أسودين يعيشان في أعماق الغابة مع ابنهما رابيت، الذي لا يستطيع الكلام. إنهم يسكنون في جنة خاصة حتى يأتي الأشخاص البيض الذين يتطفلون حولهم، "ينظرون بعيون جليدية، ويجمدون كل شيء، ويحاولون جعل كل شخص في العالم مثلهم".

منحت ورشة عمل الكتاب في آيوا درجة أوليفر بعد وفاتها. وأعيد طبع "الجيران" في قصص الجوائز، 1967: جوائز أو هنري بعد وفاة أوليفر.

في الثقافة الشعبية، هناك أحيانًا رومانسية غريبة مرتبطة بالموت في سن مبكرة. لكن الحقيقة هي أنه لا يوجد موت يمر دون حزن. لقد أحزن فقدان ديان أوليفر الكثيرين - والديها وأصدقائها، وبعد سنوات، الغرباء الذين اكتشفوا أعمالها بالصدفة في غلاف ورقي متهالك.

***

.....................

* قبل فترة طويلة من ظهور أفلام جوردان بيل "Get Out" و"Us"، كتبت كاتبة شابة في الستينيات تدعى ديان أوليفر ست قصص قصيرة عن أهوال العنصرية في مجتمعات السود في ضواحي أمريكا. ولكن لم يكتشف الناقد الثقافي وكاتب المقالات مايكل أ. جونزاليس كتاباتها إلا في أكتوبر الماضي.

المؤلف: مايكل أ. جونزاليس/ Michael A. Gonzales: ناقد ثقافي، وكاتب قصة قصيرة، وكاتب مقالات من هارلم، وقد كتب لـ

The Village Voice، Wax Poetics، The Wire UK، Soulhead.com، Longreads، Pitchfork.

بدأت إعادة اكتشاف جونزاليس للمؤلفين الأمريكيين من أصل أفريقي الغامضين والمستخفين بعمود كتابه "القائمة السوداء"، ويمتد إلى مراجعة باريس؛ التمسك بالرجل: الثورة والثقافة المضادة في الخيال الشعبي، من 1950 إلى 1980، حرره إيان ماكنتاير وأندرو نيت؛ ومجلة الخيال والخيال العلمي. أحدث قصته القصيرة "أرواح" نشرتها دار Taint Taint Taint.

 

في السادس من آذار/مارس الجاري ذكرى يوم ميلاد غابرييل غارسيا ماركيز صدرت في روسيا روايته الجديدة، التي لم تنشر خلال حياته «نلتقي في أغسطس» وستنشر خلال الأيام القليلة المقبلة مترجمة إلى أربعين لغة في شتى أنحاء العالم، بالإضافة إلى الأصل الإسباني.

وهذا أمر نادر الحدوث. في هذه الرواية القصيرة التي تقع في 122صفحة، يعود الكاتب الكولومبي إلى أسلوب أعماله الأولى، ويتطرق أيضا إلى موضوع جديد في عمله الإبداعي.

شرع ماركيز بكتابة «نلتقي في أغسطس» في مارس 1999، وأصبح من المعروف لاحقا أنه كان يعمل على رواية جديدة، حتى إنه قرأ جزءا منها في منتدى أدبي في مدريد، ولم تكن حالته الصحية جيدة في ذلك الوقت، فقد كان مصابا بالسرطان، لكن ذهنه كان صافيا تماما.

بحلول عام 2004، كان ماركيز قد كتب خمسة احتمالات سردية مختلفة لـ«نلتقي في أغسطس» ثم توقف عن العمل قائلا: «ينبغي أحيانا ترك المسودة لبعض الوقت». في عام 2010، عرض المخطوطة على كريستوبال بيرا، وهو محرر عمل معه سابقا على إعداد كتاب مذكراته «عشت لأروي».

قبل أن يصاب بفقدان الذاكرة، «لم تعد ذاكرته تسمح له بجمع كل القطع وكل التصحيحات في نسخة واحدة، بطريقة أو بأخرى، ولكن في أثناء مراجعة المسودة، كان بإمكانه قضاء بعض الوقت في فعل ما يحبه: اختيار صفة في مكان ما، وتغيير تفصيلة صغيرة في مكان آخر».

في عام 2012، تفاقم مرضه ولم يعد يتعرف على أفراد عائلته، باستثناء زوجته مرسيدس بارشا. بعد وفاة ماركيز، تبين أن المخطوطة، التي تحتوي على الاحتمالات الخمسة للنص تقع في 769 صفحة ضمن أرشيفه المحفوظ في جامعة تكساس في أوستن.3602 الطبعة الروسية

الطبعة الروسية

واعترف غونزالو غارسيا بارشا الابن الأصغر للكاتب، للصحافيين بأن والده كان يعتقد أن رواية «نلتقي في أغسطس» لا قيمة لها: «لقد أخبرني بشكل مباشر أنه يجب تدمير الرواية». وذكر رودريغو غارسيا أكبر ولديه، أنه بحلول ذلك الوقت لم يعد بإمكان والده متابعة الحبكة، وفقد القدرة على إصدار حكم حول الكتاب.

كتب ابنا المؤلف مقدمة للرواية الجديدة يقولان فيها: «بشكل عام، لم ندمر النص، لكننا أجلنا نشره، على أمل أن يخبرنا الوقت بما يجب القيام به». وعندما قرآ النص من جديد بعد عشر سنوات من وفاة والدهما، وجدا فيه العديد من المزايا الجذابة.

نعم: «إنها ليست مصقولة مثل رواياته الكبيرة. هناك أشياء تتعثر فيها، وهناك تناقضات طفيفة، ولكن لا يوجد ما يمنع القارئ من الاستمتاع بالسمات المفضلة لنثر غابو: الخيال الجامح، واللغة الشعرية، والسردية الأخّاذة، والمعرفة العميقة بمكامن النفس البشرية، والالتصاق الحميم بالتجارب المعيشة، لاسيما في الحب الذي شكل بمعنى ما المحور الأساس والمحرك الأول لكل أعماله».

يقول كريستوبال بيرا، الذي عهد إليه بإعداد الكتاب للطباعة: «لقد عملت كمرمم للوحة فنية لفنان عظيم». وهذا كلام غير دقيق لأن دور المحرر لم يكن ترميم الأجزاء المتضررة بفعل الزمن، بل عمد إلى معالجة الهفوات مثل، تصحيح عمر البطلة أو التناقض في رسم بعض الشخصيات في عدة مواضع، وسد الثغرات بين أجزاء الرواية، وما إلى ذلك.

ردود فعل متباينة

أثار قرار الأخوين الوريثين بنشر المخطوطة بدلا من حرقها كما أوصى والدهما، ردود فعل متباينة في العالم. قال غونزالو: «بالطبع كنا قلقين من أن يظن الآخرون أن دافعنا هو الجشع فقط». ولقد حدث ذلك فعلا، حيث يرى العديد من النقاد أن الكسب المادي كان وراء قرار الأخوين، نشر مخطوطة رواية غير مكتملة. وقد اعترف غونزالو بأنه كان من الصعب مخالفة إرادة والده، لكنه أصر على أن هناك «الكثير من الأمثلة في تاريخ الأدب لأشخاص طلبوا حرق مخطوطاتهم، ثم تبين أنها عناصر مهمة في الأدب. بالنسبة لي شخصيا، أشعر بالارتياح لأن هذه هي آخر قطعة كتبها غابو. أشعر بأن أعماله الكاملة لن تكتمل إذا لم يتم نشرها. ولا توجد روايات أخرى مختبئة بين أوراقه».

من المؤكد أن نشر رواية «نلتقي في أغسطس» هو الموضوع الأكثر نقاشا في كولومبيا في هذه الأيام، حيث يعد ماركيز بطلا قوميا (حتى إن صورته مطبوعة على الأوراق النقدية المحلية). اشتكى الكاتب والصحافي الكولومبي خوان موسكيرا في مقابلة مع صحيفة «نيويورك تايمز» قائلا: «إنهم لا يعرضون عليك هذه الرواية كمخطوطة، أو عمل غير مكتمل ـ بل كرواية غارسيا ماركيز الأخيرة، ولكنني لا أصدق ذلك. أعتقد أن هذه لحظة عظيمة لعلامة غارسيا ماركيز التجارية». ومن ناحية أخرى، قال الروائي الكولومبي هيكتور أباد فاسيولينس: «كنت أخشى أن يكون هذا كله عملا من أعمال الانتهازية التجارية، لكن تبين لي العكس تماما. كل الصفات التي جعلت أفضل كتب غارسيا ماركيز رائعة موجودة هنا».3601 الطبعة الاسبانية

الطبعة الاسبانية

وقال الروائي الأيرلندي كولوم ماكان: «يا لها من فرحة أن تعتقد بأنه لا تزال هناك أشياء يجب اكتشافها في العالم. كنت سأمشي مسافة 500 ميل للحصول على كتاب جديد لماركيز. إنه مثل اكتشاف الجليد في نهاية رحلة طويلة. ماركيز محبوب وضروري في الوقت نفسه، وهو مزيج نادر في عالم الأدب. أتذكر تجربتي الأولى مع ماركيز عندما قرأت قصته القصيرة «أجمل رجل غريق في العالم». وفجأة أصبح كل شيء جديدا تماما. في كل مرة تقرأ فيها أي كتاب لماركيز، سيكون هناك شيء جديد، حتى لو كنت قد قرأته أربع أو خمس مرات. إن اكتشاف الجديد أمر نادر.

النساء في روايات ماركيز

النساء شخصيات ثانوية مهمة في روايات ماركيز، بدءا من «مئة عام من العزلة» وفي جميع رواياته اللاحقة، لكن لم تكن المرأة الشخصية الرئيسية في أي منها. بطلة «نلتقي في أغسطس» امرأة في منتصف العمر، قررت استكشاف حياتها الجنسية وحريتها، وأدى ذلك إلى صراعات، لكنها استمرت في السير على هذا الطريق، رغم أنها من الناحية النظرية امرأة سعيدة، وليس لديها أسباب موضوعية لذلك. ولهذا وصف ابن الكاتب رودريغو هذه الرواية بأنها نسوية، وهذا قد يكون باعثا على إعادة التفكير في مؤلفات ماركيز بأكملها، خاصة دور المرأة فيها، ولهذا السبب فإن «نلتقي في أغسطس» هي في غاية الأهمية. تتكشف حبكة الرواية على مدار عدة سنوات في جزيرة صغيرة في البحر الكاريبي، حيث يتناقض فقر أكواخ السكان المحليين مع فخامة الفنادق الساحلية وخضرة الطبيعة الاستوائية. تستأجر امرأة سمراء جميلة ونحيلة غرفة في فندق متهالك في الجزيرة، يطل على البحيرة الزرقاء. خلال النهار تزور قبر والدتها على قمة التل، وتعود في الليل لتقضي وقتا ممتعا في بار الفندق على أنغام السالسا والبوليرو. وهي متزوجة وتعيش بسعادة منذ فترة طويلة، ولكنها تتعرف ذات مساء إلى رجل ساحر في منتصف العمر، وتقضي الليل معه. هذه التجربة الجديدة تهزها حتى النخاع. كانت سعيدة في البداية بمغامرتها. تستيقظ في الصباح وهي تتخيل أنها استمتعت بليلة من السعادة دون مسؤوليات أو عواقب، ثم تكتشف أن شريكها قد ذهب وترك لها ورقة من فئة 20 دولار أمريكي مدسوسة في كتابها جوار سريرها. وكان ذلك صدمة لها، لأنها ظنت أنها قد أصبحت حرة، في حين ظن الرجل أنها من بنات الهوى. وبعد ذلك كل عام في 16 أغسطس، تستقل العبّارة إلى الجزيرة لقضاء ليلة ساخنة مع حبيب عشوائي.

وبالعودة إلى المدينة، فإن الأمور لا تسير على ما يرام، في البداية، كان زواجها مثاليا، فقد كان زوجها وسيما، وبارعا في كل شيء بدءا من تنس الطاولة إلى الحيل السحرية وحتى الشطرنج على مستوى أستاذ كبير. لقد مارس الزوجان الجنس بشكل متكرر ولطيف. وكان أطفالهما موهوبين وواثقين من أنفسهم (على الرغم من قلقهما بشأن تصميم ابنتهما على أن تصبح راهبة) لكن مغامراتها السرية في الجزيرة دمر زواجهما. فهي تدرك: إذا كان بإمكانها أن تكون غير مخلصة، فربما يمكن ذلك لزوجها أيضا، بحلول نهاية القصة، يصبح الزوج مجرد «ضيف عرضي في سريرها.

من أجواء «نلتقي في أغسطس»

كان اسمها آنا ماجدالينا باخ، وكان عمرها ستة وأربعين عاما، أمضت سبعة وعشرين منها في زواج راسخ مع الرجل الذي أحبته، والذي أحبها وكان خطيبها الأول ـ تزوجته وهي عذراء قبل أن تتخرج في كلية تاريخ الفن. كانت والدتها معلمة تحظى باحترام كبير في مدرسة مونتيسوري الابتدائية، وعلى الرغم من إنجازاتها العديدة، رفضت أي ترقية حتى أنفاسها الأخيرة. ورثت آنا ماجدالينا منها عينيها الذهبيتين المبهرتين، الاقتضاب الفعال والذكاء للسيطرة على تقلبات شخصيتها. لم يكن هناك سوى موسيقيين في عائلتها. كان والدها يدرّس البيانو ومديرا للمعهد الموسيقي المحلي لمدة أربعين عاما. وخلفه في هذا المنصب زوجها، قائد الأوركسترا الذي جاء أيضا من سلالة موسيقية. أصبح ابنها أول عازف تشيلو في الأوركسترا السيمفونية الوطنية وهو في الثانية والعشرين من عمره، وقد أشاد به مستيسلاف ليوبولدوفيتش روستروبوفيتش نفسه في حفل موسيقي خاص. وكانت الابنة، التي كانت في الثامنة عشرة من عمرها، تتمتع بقدرة تكاد تكون عبقرية في تعلم العزف على أي آلة موسيقية عن طريق السماع، لكنها كانت تقدر هذه الموهبة في حد ذاتها كذريعة لعدم قضاء الليل في المنزل. كانت تربطها علاقة غرامية مع عازف بوق ممتاز في موسيقى الجاز، لكنها كانت ذاهبة، خلافا لرغبة والديها، لتأخذ نذورا رهبانية حافية القدمين في النظام الكرملي. كانت والدة آنا ماجدالينا قد أعربت عن رغبتها في أن تدفن في الجزيرة قبل وفاتها بثلاث سنوات. أرادت آنا ماجدالينا الذهاب إلى الجنازة، لكن الجميع اعتبروا ذلك أمرا غير معقول، وشعرت هي نفسها بأنها لا تستطيع تحمل مثل هذا الحزن. أخذها والدها إلى الجزيرة في الذكرى الأولى لوفاة والدتها لوضع لوح من الرخام الأبيض على القبر. كانت خائفة من الرحلة على متن زورق بمحرك خارجي: أبحرا لمدة أربع ساعات تقريبا، وخلال هذا الوقت لم يهدأ البحر ولو لثانية واحدة. كانت مفتونة بالشواطئ المليئة بالرمال الذهبية الدقيقة على حافة الغابة الكثيفة العذراء، وصخب الطيور، ورحلة مالك الحزين الشبحية فوق المياه النائية للبحيرة. شعرت بالحزن بسبب فقر القرية، حيث اضطرا أن يقضيا الليل في الهواء الطلق، في ارجوحتين معلقتين بين شجرتين من جوز الهند، على الرغم من أنها كانت القرية الأصلية لشاعر شهير، فضلا عن كونها موطن سيناتور ساخر كاد أن يصبح رئيسا للبلاد. لقد أذهلها عدد الصيادين السود الذين فقدوا أيديهم بسبب تفجير فاشل لعصي الديناميت. لكن الأهم من ذلك أنها فهمت وصية والدتها عندما رأت روعة العالم من أعلى تلة المقبرة. لقد كان المكان المنعزل الوحيد في العالم الذي لم تشعر فيه بالوحدة. عندها قررت آنا ماجدالينا أن تتركها حيث كانت، وتحضر باقة من زهور الزنبق إلى القبر كل عام. إن شهر أغسطس هو شهر الحرارة والأمطار الغزيرة، لكنها اعتبرت ذلك شرطا أساسيا لحج التوبة، والذي كان عليها أن تؤديه دون أي تراخ وبمفردها حتما.

***

جودت هوشيار

 

صورة الأم في الرواية

ننطلق من هذه القراءة لروايتي: "امرأة" ل"آني إرنو Annie Ernaux "، و"الحضارة أمي" ل"إدريس الشرايبي" من مفهوم التأويل التقابلي ل"محمد بازي"، وغاية القول " في هذا المستوى من التقابل التأويلي، هو أن النصوص ترحل إلى بعضها البعض عبر اشتغال التأويل، ورحلتاه هاته إغناء لقراءتها" [ التأويلية العربية، ص: 304] حيث يستدعي هذا المفهوم حوار النصوص ومساجلتها لبعضها البعض، واستحضار للأنساق المشكلة للنص، ووضع "تجربة واحدة في صور مختلفة" ( نفسه، ص: 305).

رواية "امرأة" رواية قصيرة، تأبى المؤلفة تجنيسها ضمن الرواية بقولها " هي ليست بسيرة، ولا برواية، ولكنها تقع ضمن الأدب، والتاريخ، وعلم الاجتماع". يندرج هذا الرأي في إطار مكتسبات النظرية الأدبية الحديثة التي تستعلي على مفهوم التجنيس، لكن من جانب آخر يمكن للقارئ أن يصنف العمل مادام ملكيته انتقلت إليه ولم تعد بيد المؤلف، وبين حرية المؤلف، ورحابة فكر القارئ يتموقع النقد والتأويل.

تسبر الرواية أغوار نفس امرأة فقدت أمها التي خبل عقلها، بعد سنوات قضتها في دار المسنين، تصف الساردة  بلغة بسيطة؛ الأيام الأخيرة لأمها قبل الوفاة،  هذا الجزء من بنية الحكاية يتسم بالواقعية، وبمشاعر قوية تتقبل الموت، حيث تقوم بتشيــيع أمها إلى مثواها الأخير باطمئنان ورضى. إن هذه الواقعية عبر عنها العنوان بلفظ "امرأة" وليس "الأم". هل هي واقعية ؟ أم هي صورة لعلاقة الجفاء بين الأم وابنتها؟ أم هو تجسيد لواقع   أسري في المجتمع الغربي؟  أم يمكن اعتبار لفظ "امرأة" لفظا عاما يشمل النساء بمن فيهم "الساردة الحقيقية"؟،  هي أسئلة تتبنى مشروعيتها من نظرية القراءة التي تفرضها الأعمال الأدبية، لكن ما يهمنا هو كيف ستنتقل هذه المشاعر من وضع القوة إلى الضعف، وتأنيب الضمير الذي يبدو في الأسلوب التبريري التي تعتمده الساردة من حين لآخر عبر تقنية الاستذكار، والاسترجاع وهي تستعرض قسوة أمها، وحياتها الخاصة. لكن هذا التبرير لم يشفع  لها؛ حيث تحضر الأم بطيفها وصورتها الذهنية الخيالية، وتعم أرجاء البيت. الحكاية في مجملها تعبر عن وضعية  اجتماعية يرسخها المجتمع الغربي، و يدرك عواقبها مستقبلا، لذلك تساءلنا منذ البداية كيف يصبح الموت حياةً؛ حياة مقلقة؟ 

أما كيف يصير الأحياءُ أمواتا فقد عبرت عنه رواية "الحضارة أمي" لإدريس الشرايبي، ترجمها عن الفرنسية "سعيد بلمبخوت" 2014، هذه الرواية التي اختبأت وراء مفهوم التخييل الذاتي السيري، يكشف لنا السارد عبر مرحلتين: مرحلة  الطفولة من حياته برفقة والدته وأخيه، بحيث تتوجه بؤرة السرد نحو الأم البدوية، التي لا تحسن القراءة والكتابة، وتغفل الكثير من أشكال الحضارة التي أصبحت تظهر في البيت كالكهرباء والمذياع، والهاتف، حيث تعبر بعقل بريء وساذج عن استغرابها من طريقة اشتغال هذه الآلات. الزوج البرجوازي يحرص على توفير حياة مريحة وباذخة، دون أن يهتم  بكيان زوجته، تركيزه منصب على تجارته فقط. التقط الابن السارد هذا الوضع المختل  فأراد تحقيق توازن أسري عاطفي، فبدأ في تعليم أمه، وإدماجها في عالم الاختراعات، بأسلوب يجمع بين المرح والطرافة، وألقى عليها محبة غامرة لعلها تعوضها جفاء الأب. أما المرحلة الثانية فهي الغاية التي تطمح إليها الرواية، ورسالتها؛ فالأم البدوية ستصبح متعلمة، وشخصية بارزة، حققت ذاتها، وتسافر بين البلدان مدافعة عن حقوق المرأة، وفي نوع من التعاطف مع الأب، أو لنقل محاولة تحسين وتجميل صورة الرجل العربي، يكشف لنا السارد عن ندم الأب، وتثمينه لمواقف الإبن مع أمه.

الرواية بلا شك طرح مُضمر لأفكار النسوية خصوصاً وأن الكاتب ترعرع في فرنسا، وهو نقد موجه لهيمنة الرجل التاريخية والاجتماعية. والأجمل في هذا الطرح هو استعارة "الأم" بحمولتها الدلالية والتاريخية والاجتماعية والنفسية لهذه الحكاية الطريفة. أما رواية "امرأة" فعرَّت عن مفهوم الأمومة، وأظهرت قسوة المجتمع الغربي الذي انطلقت منه أفكار النسوية التحررية التي ناضلت بقوة من أجل مناهضة التمييز بين الجنسين، ونقض أركان الهيمنة الذكورية. في نهاية الرواية تذكر بألم وحسرة" آني إرنو-" الفائزة بجائزة "رينودو" عن عملها هذا سنة 1984، وجائزة "نوبل للآداب" سنة 2022- بموت أمها فتقول: إنها ماتت قبل "سيمون دي بوفوار" بثمانية أيام، وبموتها فقدت آخر رابط بيني وبين العالم الذي جئت منه". "سيمون دي بوفوار" الفيلسوفة الوجودية التي تقول:" لا نولد نساء بل نصير كذلك". لقد فشلت النسوية الغربية في الحفاظ على الخيط الروحي بين الأبناء والآباء، إلا ما ندر من الحالات التي نعدها من الاستثناءات، في حين رسخت الهوية الإسلامية، والذاكرة العربية مفهوم الأم في رواية "ادريس الشرايبي".

***

د. عبد الـمُجيب رحمون

قراءة في نص الشاعر اليمني "حميد البهال": (في جنازة الحب)

النص// في جنازة الحب

حلمت....

بأنني أسير على الرصيف وحدي

على كتفي نعشي

كل حاجياتي، أمنياتي

وأنا أجهش باكيا ،

يشتد بي العويل

*

السحب سوداء قد حُملت ثقيلة

مررها قَدَري من خلالي الى ارض موت أسود

*

سألت عابراً للطريق

أَصادفت جنازة عابرة

محمولة من هنا؟

قال: بلى....

أنها لرجل مات قبل يومه، يقال

قد قتله حبه

*

فوجدتني ، في بيت عزاء ،

كأنه بيتي القديم

أستقبل المعزين

أمد ذراعي وأشير بأصابعي

مساحات خاوية

بقلب أسودت ندوبه

*

.. ما كان له أن يكون قلبي

لولا امرأة أظلت طريقها إليه

هي بثوب حداد

مصنوع من

خيوط مدامع الليالي المظلمة

تلك الأيام

التي قضتها مع وطواط بشرى

أخذ على عاتقه الانتقام من كل ذي شرف مضيء

*

بعدما لطخته بعارها الرغبات الآثمة

وجعلت منه مصاصا للدماء المهدورة

سفكت في مذابح الكرامة

***

القراءة//

السرد التعبيري سرد حكائي يحمل خصائص النثر، يمتاز بتقنيات شعرية من مجازات، ورموز، وإيحاءات، ودلالات، وانزياحات، وظفها السارد كمعادل موضوعي للسرد، وبقدر ما يحمله النص السردي من لغة ومعاني وصور وتراكيب ذات دلالة إيحائية، فاللغة التعبيرية (لغة تتحدث عن المشاعر والعواطف والحالات الذهنية عن طريق تكثيف اللغة وانزياحاتها)، فهي تحمل جمال السرد والتعبير والصورة والإختزال والتكثيف، وهذا يستدعي وجود قارئ لديه المقدرة حتى يتمكن من فك شيفرات النص ومعرفة دلالاته التي يوحي بها.

الشعراء لهم اهتمامهم الراسخ بالاحلام، فتراهم يتكئون عليها، لان فضاء الاحلام فضاءً واسعاً، ويشكل لهم مهرباً من مواجهة واقع موضوعي قاسي، جعلهم يهربون نحو عالم ذات ابعاد مألوفة. فهم يصيغون شعرهم بلغة الحلم، حتى يبقى عالقاً في ذاكرتهم، لان الحلم بالنسبة لهم عمل فني، يتجاوز التفكير الواعي، حاله كحال الشعر، فهو الوجه الانفعالي الذي يعبر عن الحالة النفسية العاطفية التي تنتاب الشاعر، الذي يترك الأثر الانفعالي المباشر لدى المتلقي.

فكان نص الشاعر "حميد البهال" منفتح على تقنيات سردية واضحة، تتسم بكثافة دلالية، وصورة شعرية تعبيرية، مصحوب بزخم لغوي إيحائي شعري ذات نزعة درامية.

اعتمد الشاعر "حميد البهال" في نصه (في جنازة الحب) على تقنيات السرد، والسير به نحو الاتجاه الدرامي في تجسيد الحلم، من خلال استثمار طاقة السرد التصويرية في تشكيل النص، والانفتاح على افاق جمالية فيه، ليقدم نصه بطريقة درامية، من خلال مزج السرد التعبيري والتصوير الشعري، المليء بالرؤى العميقة، والإيحاءات الشعرية والكثافة الدلالية التي تضفي عليه أبعاداً شعرية عميقة.

ولو أردنا ان نخضع حلم الشاعر "حميد البهال" الى قواعد التحليل النفسي الفرويدية في تفسير الأحلام. وفق ما ذكرها "سيجموند فرويد" في كتابه (تفسير الأحلام)، الذي عُد مذهباً في معرفة واكتشاف الأحلام المكنونة داخل النفس الإنسانية. الحلم حسب "فرويد" حالة من الهذيان، وخليط من الأحاسيس والرؤى، القابعة في أعماق النفس البشرية. الذي يرى في الحلم (استجابة نفسية لعامل فسيولوجي ليس إلا) وهناك من يراه (تعبيراً عن اضطرابات سيكولوجية).

يمثل العنوان (في جنازة الحب) عتبة هامة لدخول فضاء النص وعالمه، وهو بهذه الکيفية يصبح دالة سيميائية مرتبطة بالنص، فيبدو عنوان النص بمثابة (علامات لسانية، تصدر وتعين، وتشير إلى المحتوى العام للنص)، "شعيب حليفي، النص الموازي للروايه، استراتيجية العنوان، ص84".

شكل (الحلم) المحور الاساسي في النص الشعري بمجمله، فهو العاطفة الذاتية المعبرة عن روح الشاعر وفكره، ومن خلاله تتضح رؤية الشاعر الشعرية، التي هي نوع من التأمل الفلسفي أو الصوفي. أما لغة النص يمكن أن نضعها في مستويين، بين الحلم والهذيان، فهي رحلة خيال مميزة، تكثر فيها تراكيب المنهج الفلسفي الوجودي وتساؤلاته الذي يحملنا الى معنى مفتوح التأويل، معنى لا يشبه شيئاً سوى تفسير الأحلام، فيحتم علينا التأمل في النص واستحضار دلالاته الرمزية، ومحدداته الشعرية التي قد تخضع الى عملية (التحليل النفسي)، فثمة إشارات وعلامات يلتقطها القارئ، كمفاتيح لأبواب مغلقة في النص، ينبغي أن نقرأ دلالاتها الرمزية وليس دلالاتها الصورية.

عند تناول هذا النص ليس (كل حلم قابل للتفسير) كما يرى "فرويد"، بل ينبغي أن يكون تحليل للحلم وفك تشفير رموزه وتحليل عناصره أولاً، وليس تفسيراً له.

النص الذي امامنا لا يخلو من صعوبة الفهم بسبب ما يحيط به من تعقيدات فلسفية، قد تكون فيه الأحلام أداة أساسية في فهم وإضاءة للذات، وكاشفة عن مشاكل نفسية ومخاوف ورغبات مكبوتة تظهر بأشكال رمزية.

فلا أريد في هذه القراءة ان أكون مفسراً لأحلام الشاعر، بقدر ما أبحث في رموز حلمه وتأويلاته، لأن الشاعر يدور في فلك الصورة الخيالية للنص، فهو بين عالمين (الواقع/الحلم).

يُختزل نص الشاعر "حميد البهال" (في جنازة الحب) في صور وتراكيب مجازية، ذات وصف شكلي محسوس يبين براعة الشاعر السردية في الوصف كأنك ترى ما يصفه وما تحسه، فهو يعيش واقعاً عنيفاً، يتم التعبير عنه في (الحلم) الذي شكل الهيكل التأسيسي للنص، و (لازمة شعرية) مستدامة في متن النص.

فالشاعر "حميد البهال" شاعر مستيقظ الوعي، يخترقه سيل جارف من المعاناة النفسية والوجدانية. يكاد أن يكون النص، بكائية لإنسان فقد معنى وجوده، وصورة مأساوية للحب.

الحب شعور عاطفي شامل، له مستويات مختلفة ومتباينة، لا يخضع للعقل ولا يلتزم بالمنطق، وطالما كان محور اهتمام الشعراء والكتاب والعلماء والفلاسفة، وجميع هؤلاء يتفقون على هذا الوصف، فهو (قيمة وجودية كبرى)، كما قال عنه "سارتر". يمثل مشاعر إنسانية معقدة ومتعددة، فلا يمكن أن نؤطره في إطار عقلي أو عاطفي، فالحب (جواب على مشكلة الوجود الإنساني)، "إيريك فروم". والعاطفة في النص لا تنفصل عن العاطفة العامة والمنسجمة مع وحدة الانتماء الإنساني، بمعناه العام.

جاءت سردية الحلم في نص الشاعر "حميد البهال" على شكل مستويات ومنحى أنسيابياً داخل النص، بحيث يتنقل القارئ من مستوى الى اخر حتى يبلغ الحلم ذروته، فقد اعتمد الشاعر الأسلوب التصويري من أجل تجاوز التشابه المألوف في كتابة النص لأنه في لحظة حلم فكان إسلوب المقاطع المتسلسلة منسجم فنياً مع حالة الحلم.

قد يكون الحلم معبر عن إشارة إلى مرحلة صعبة يمر بها الشاعر. وفهم هذا الحلم بطرق مختلفة وحسب سياق ظروف الشاعر ومشاعره وتجاربه الشخصية والعوامل المحيطة به، قد تكون له تفسيرات متعددة، طبقاً للرؤية الوجودية الشائعة بين الذين يعانون من الحزن، والقلق، لان الأحلام امتداد لحياة اليقظة، ومعبرة عن وجود الإنسان في عالمه واوهامه، ‏هذه الاوهام هي (التي تجعل الحياة أمراً يمكن إحتماله، لذلك يكره الناس الحقائق لأنها تبدد الأوهام وتضعهم أمام مرارة الواقع)، كما يقول "كولن ولسون".

أتى النص كتلة واحدة، فيه سرد، ووحدة موضوع، وايحاءات كثيرة، وأعطى مساحة واسعة لاستيعاب الحدث الدرامي. كذلك اعتمد الشاعر إسلوب الوصف في تشكيل بنية النص، الذي يعد من اهم الركائز السردية، للتعبير عن الرؤية الدرامية في النص بدلالاتها المتنوعة.

***

بقلم/ حسين عجيل الساعدي

كان البروفيسور أشرف إبريق قد شدّ انتباهي واهتمامي بكتابه الأول "نوتات الكيميائي" (مكتبة كل شيء حيفا2020)، بجمال لغته وسلاسة مفرداته وجُمَله التي صاغها بأناقة الصّانع الفنّان وبسعة ثقافته الأدبية.

وجاء إصدارُه الثاني "للحديث نظير"(مكتبة كل شيء2024 حيفا) وحدّدَ الأهدافَ التي أراد تحقيقها منه بقوله: "أنْ أقوم بتشجيع الناس كي تخرج من الأماكن التي تتواجد فيها، وتكتب، وترينا عالمَها. أحبّ أنْ أرى عالمَ الأطباء من خلال عيونهم، المُزارع، الطبّاخ، الفيزيائي وسائق التاكسي، كلهم لديهم ما يقصّونه علينا، خسارة أنْ يحرمونا من كل هذه العوالم الجميلة. يجب علينا ألّا نخاف من أنْ نتشابك بين مختلف مَجالات المهن والإبداع. لا توجد هنالك مجتمعات ليست مبدعة، الكل يستطيع أنْ يكون في الطليعة، يجب علينا أنْ نخلق هذه البيئة لأنفسنا لنستطيع أنْ نستمر. وأنا فعلا أرى بوادر لتحرّكات علمية وثقافية وإبداعية على كافّة المَجالات، وهذا واحد من أهداف الكتاب، بأنْ أكون جزءًا من هذا الحِراك. نحن بحاجة لأنْ نقرعَ البيوت والمنصّات، القرى والمدن العربية، وأنْ نصنع هالة حول الثقافة من أجل التّحفيز والإبداع عند كل شخص في مجاله، سواء على صعيد أدبي أو علمي. وواجب علينا أنْ نحبَّ إبداع بعضنا، ونشجّع بعضنا، هذا شيء جدا مهم." ("ورشة الحوار الصحافي" التي نظّمها موقع "عرب 48" بالتّعاون مع جمعية الثقافة العربية)

واستهلّ "للحديث نظير" باقتباس من كتاب "الإمتاع والمُؤانسة" لأبي حيّان التوحيدي "إنّ في المُحادثة تلقيحا للعقول، وترويحا للقلب، وتسريحا للهمّ، وتنقيحا للأدب" وكأنّه بهذا الاقتباس أراد، من حيث لا يقصدُ، أنْ يُحدّد لنا هويّة مؤلّفه الجديد والمَنْحى الذي اختاره والحدود التي ألزم نفسَه بها. غير منتبه للتَّعْريف المُتسرّع الذي قدّم به نصّه الجديد على أنّه رواية.

ثم يهدي كتابه لوالدته الغالية ولوالده الحبيب المرحوم "اللذَين شكّلا لي ولأخوتي الثلاثة وأخواتي الستّ مصدرَ طاقة لا ينتهي، استمدّت منهما أجسادُنا ونفوسُنا ذرّاتها وجُزَيْئاتها، الصّحة والقوّة والنّور والمَحبّة "(ص7).

ومن السّطور الأولى لبداية السّرد نجد الراوي يعود بذاكرته إلى ذلك اليوم الذي استقلّ فيه سيارة أجرة للوصول إلى المشفى ليزور والدَه الذي تدهورت صحّتُه وأنهكه المرض، ويستعيد حالة القلق والخوف من أنْ تكون أيام والده الباقية في الحياة قليلة. ولاحظ عندما اقترب منه أنه ليس على ما يُرام فجسمُه كان يرتجف. فسارع واستدعى الطبيب الذي جاء وفحصه، ثم شرح له أنّ والده "يُعاني من مرض نادر، يؤدّي إلى تآكل الخلايا العَصبيّة، وأنّ وضعه يزداد سوءا يوما بعد يوم، وإذا استمرّ الوضع على ما هو عليه، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى وفاته خلال فترة قصيرة" (ص14) ونصحه بالحديث معه قَدْر المستطاع لتقوية جهازه العصبيّ، ويُعزّز الحالة العامّة للجسم.

وكانت كلمات الطبيب الحافز لتلك الجلسات المُتتالية والطويلة التي قضاها الراوي مع والده. وقد استبق هذه الجلسات بتعريفنا على والده أنه "كان أستاذا جامعيّا في موضوع الكيمياء الحيويّة، ودرس خصائص البروتينات في سياق أمراض مختلفة كالسرطان والباركنسون. كذلك أبدى اهتماما كبيرا في تاريخ العلوم الكيميائيّة والطبيّة، والاكتشافات التي غيّرت مجرى التاريخ، وأثّرت وما زالت تؤثّر على حياتنا في شتّى جوانبها. وكان يؤمن بأنّ المثقف الحقيقي يجب أنْ يكون ذا معرفة علميّة، ومعرفة الخلفيّة التي تكمن وراء الاكتشافات العظيمة التي جعلت حياتنا أفضل، حتى لو كانت معرفة متواضعة، وإنّ ثقافة الفرد السياسيّة والاقتصاديّة والفلسفيّة والتاريخيّة وغيرها من المواضيع الإنسانيّة وما شابهها، تبقى ناقصة، ما لم تكمّلها المعرفة العلميّة" (ص16)

وهكذا أخذ الراوي يُهيئ نفسَه، ويستحضر شهرزاد في "ألف ليلة وليلة" وإشغالها للملك شهريار وصَرْفها له عن التفكير بالقَتل بقصصها الجميلة التي كانت تقصُّها عليه. واجتهد بانتقاء المواضيع التي سيُثيرها مع والده باختياره العلمية منها والقريبة من الكيمياء مَجال تخصّص وبَحْث والده.

وكانت الجلسة الأولى بسؤاله لوالده حول تركيبة الأشياء وصفاتها وتشابهها واختلافاتها وعن أهم مكوّنات هذا الكون؟ (ص18)

وحدث الذي لم يكن مُتوقَعا، فقد "اتّسعت عينا والده، وازداد بريقها، شدّ جسدَه وحرّك رأسَه وأخذ نفسا عميقا وبدا وكأنّ السؤال قد أثاره" (ص19) وشرع في جوابه وشَرْحه وتحليله، وكأنّ المرضَ زال عنه، والألمَ فارقه، وذكرَ كبارَ العلماء والمفكرين والمُخترعين.

وتوالت الأسئلة وطُرحَت المواضيع المختلفة والوالد في قمّة تألقه واندفاعه وتناوله لمختلف القضايا العلمية المُعَقّدة والاختراعات الكبيرة التي غيّرت حياة الناس.

وظلّت هذه الجلساتُ تتوالى إلى أنْ كانت الأخيرة عندما "سمع تنهيدةَ والده وشعوره بالضّيق وازدياد تنفّسه ثم اختفائه فجأة والظلام يحيط بالمكان ولا يرى شيئا، يبحث عن والده ولا يجدُه. فقد فارق الحياة.

هذا النصّ الجميل

هو استمرار لنصوصه الجميلة التي قدّمها في كتابه السابق "نوتات الكيميائي"، لكنّه يختلف عنه بأنّه كتبه وهو على يقين ممّا يكتب، وبقصد مُسبَق، وهدف نبيل يبغي نَقْل ما عنده من معرفة وعلم لقارئه ليزوّده بكلّ ما يُمكّنه من مواجهة الغرائب والمجاهيل والمتغيّرات التي قد يُصادفُها في مسيرة حياته مُبتدئا بالسّؤال الأول الذي يطرحه الإنسان عند مواجهته الأولى للكون الذي يجد نفسَه فيه مُستَغْربا من تركيبة الأشياء وصفاتها وتشابهها واختلافاتها، مُعترفا بعدَم إدراكه ما وراء كلّ ذلك:

- ما هي أهمّ مُكوّنات هذا الكون؟

وهكذا من خلال الحوار الممتدّ على العديد من الجلسات بين الراوي ووالده العالم في علم الكيمياء تتفتّح الكُوّات والنّوافذ والأبواب لينكشفَ لنا هذا العالم الغريب الذي نوجدُ فيه فنتآلف معه، ونحسّ بأنّنا جزء منه فنتصالح معه، ونُصبح من مُكوّناته وعناصره المُتجانسة.

كان بإمكان الكاتب أنْ يُقدّمَ هذه المعلومات والمَعارف في كتاب علميّ يكون مساعدا لطلاب فرع الكيمياء في المرحلة الثانوية، ومفيدا لكل قارئ له، ولكنه اختار هذا الأسلوب الحواري مُطعِّما إيّاه بالاقتباسات من القصص والطُرَف والشعر والسّيَر الذاتيّة للعديد من العلماء والنوابغ الذين اشتهروا بما قدّموه من إنجازات واختراعات كان لها، ولا يزال، أثرها على حياة البشرية، وحتى استعان بالآيات القرآنية ممّا يُحبّبه للقارئ ويُسَهّل عليه فَهْمَ المادة وقبولها. أضف إلى ذلك أنّه كان يطرح بعض الآراء والمواقف في العديد من المواضيع مثل المرأة ومَكانتها مُتّخذا من أمّه المثال الأسمى، والحرّيات الاجتماعية، والمَظالم الطبقيّة والسلطويّة، ويُطعِّمها بمواقفَ عاطفية وإشارات لافتة، وإنْ كانت سريعة عابرة غير مُكَرّرة كما رأينا في اهتمامه بالممرّضة التي انجذب إليها. كما اهتمّ بالمريض الذي كان في الغرفة مع والده وابنه الذي اعتنى به، والحديث مع الأطباء.

ويظلّ نصّا جميلا

وأقربَ إلى النصّ العلميّ الذي يُقدّم المعلومات ويشرحها ويُحلّلها ويُبسّطها ويُبيّن أهميتَها وتأثيرَها مُعَرِّفا بأسماء العلماء الذين يعود لهم الفضل في الاختراعات والاكتشافات التي عرّفتنا على هذا الكون وموجوداته. ولكنّه يظلُّ بعيدا عن النصّ الأدبي والروائي بشكل خاص، رغم تَعريف الكاتب له برواية، فالكاتب نفسه من حيث قصد أو لم يقصد أشار إلى النموذج الذي اتّبعه وقلّده في نصّه هذا وهو أسلوب ونَهج أبي حيّان التّوحيدي في كتابه "الامتاع والمؤانسة" الذي اعتمد فيه الحوار مع الوزير الذي كان يُقدّم له اقتراحَه في الموضوع الذي يُريدُه أنْ يتكلّم فيه، وأبو حيان يستجيب ويتوسّع في كلامه مُضمّنا الكثير من الشعر والقصص والأمثال والمعلومات والأفكار وطرح قضايا مختلفة تهمّ الوزير وتُفيد الناس.

ووجود بعض العناصر التي تكون في الرواية مثل "السّرد والحوار والشخصيّات" لا تُعطي للنصّ صفة الرواية، ففي كلّ نص قد نجد هذه العناصر أو بعضها. وحتى يكون العمل الروائي ناجحا ومتكاملا يجب أنْ تتآلف فيه الأفكار مع الخيال ليتعالى هذا النص الروائي على النص السّردي العاديّ. والنصّ الروائي كما يقول الروائي واسيني الأعرج "هو إعادة صياغة لعالم ماديّ مُتحوّل إلى سلسلة من الافتراضات التي لا وجود لها عمَلياً في الواقع الموضوعي، إلا داخل النص."(القدس العربي 5.3.2024).

ومن كَوْن الرواية جنسا إبداعيا يُمكن أنْ تحتوي معظم الأنواع الأدبية أخذتنا الصفحات الأولى من النصّ مُتقبّلين تعريفَ الكاتب لنصّه بالرواية حتى ابتدأت الجلسات بين الراوي ووالده وانقطاعهما الكلّي عمّا يحيط بهما، وحتى عن الزمان والمكان فتقطّعت أواصرُ العلاقة بين النصّ والفن الروائي، وانحصر في كونه مادّة علمية تعليميّة تُقَدّم الكثيرَ من المعلومات لكل راغب في المعرفة، وخاصّة لطلاب موضوع الكيمياء. وحتى لو تجاهلنا هذا التحوّل في مجرى الأحداث وخروج النص عن مساره الروائي، وبقينا راضين عن تعريف الكاتب لنصّه بالرواية لواجهتنا الكثير من المُعوّقات التي تحول دون ذلك. وكان على الكاتب، حتى لا يُفقِدَ نصَّه صفتَه الروائيّة، أنْ يُخرجَه من جموده باندماج الشخصيّات بالعالم التّخييلي الذي كان عليه استحضاره.

وتجدر الإشارة أنّ الكثير من الروايات التي طرَحَت مواضيعَ علميّة أو تاريخيّة أو دينيّة وفلسفيّة، وكانت هذه المواضيع محور الرواية وبؤرتها، استطاع الكاتب الروائي انهاء جمودها وتحجّرها بانغماس الشخصيّات فيها بالعالم التّخييلي الذي خلقَه الروائي، وأنْ يُقدّم عملا روائيّا متميّزا. ومن الروايات الرائعة التي قرأتها وشاهدتها في فيلم سينمائي "ذهب مع الريح" لمرغريت ميتشل عن الحرب الأهلية في أميركا و "الحرب والسلام" لتولستوي عن غزو نابليون بونابرت لروسيا، و "الطاعون" لألبير كامو وأخيرا رواية "لا تزال أليس still Alice" للكاتبة الأميركية ليزا جينوفا وترجمة أفنان سعد الدين التي دارت حول إصابة البطلة بمرض ألزهايمر. وغيرها الكثير.

المكان والزمان والشخصيّات

الحالة الصّحيّة الصّعبة للوالد فرضت عليه نوعا من الحَجْر القَسْري في غرفة داخل المشفى حيث لا يستطيع تَرْك سريره، وهذا استدعى ملازمة الابن الراوي لوالده طوال الأيام التي قضاها في المَشفى، فأخذت حركة الزمن الأفقية تضغط بثقلها مع محدوديّة المكان وضيقه على تصرّف الشخصيات فيبدو وكأنّ كلّ شيء تَعطّلَ وتحدّد في ما يدور بين الابن الراوي الذي يطرح الأسئلة والوالد المريض الذي يُجيب عليها بحماس ورغبة وإسهاب دون الالتفات لحالته الصحيّة الصّعبة التي لا تتحمّل هذا الجهدَ الكبير.

هذه الجلسات الطويلة والمُرهقة بما تُقدّم من معلومات، وتُحدّد حركة الشخصيّات المُتواجدة كانت السبب الرئيسي وراء الجمود والتحجّر الذي سيطر على الشخصيّات وأوقفَ الزمن وجمّد المكان وعَطّل الأحداث، حيث كان الرّاوي والوالد مُنهمكين في طرْح مختلف المعلومات العلمية الدّقيقة غير مُلتفتين لمَن بقربهما ومدى الضّيق أو الازعاج الذي قد يُسبّبانه للآخرين. بينما المريض الثاني وابنه في الغرفة مُضطرين على متابعة ما يجري أمامهما، يستمعان بصمت، وضيق وغضب مكتوم. وأيضا المُمرضة التي كان من الممكن أنْ تكون نقطة انطلاق في خلق قصّة حبّ أو توافق واستلطاف مع الراوي ممّا قد يدفع بالأحداث والشخصيّات وحتى اللغة للحركة والحيويّة والتّنامي.

وقد تكون رغبة الراوي في نَقْل كلّ المعلومات التي يعرفها في علم الكيمياء للقارئ ولكلّ الناس هي التي كانت توجِّهُه، فألبَس والدَه قناعَ العالم الكيميائي بينما اكتفى هو بدور الوسيط الذي يطرح الأسئلة لتتدفّق المعلومات كلّها بأجوبة الوالد على الأسئلة، فجاء النّص على شكل حوارات بين الراوي الذي يطرح السؤال ووالده الذي يعطي الجواب. فلا خيال ولا قصص جانبيّة ولا شخصيّات أخرى تُخرج النص من محدوديّته العلمية فانسحب الجميع من المشهد: المريض وابنه والطبيب والممرّضة، وتوقف الزمن، وانحصر المكان وضاق، ولم يبق غير الراوي ووالده في حوارهما الطويل إلى أن بدأ صوت الوالد المريض المُتعَب في التّراجع والخُفوت حتى كان الصّمت الثقيل الطويل.

النهاية والمُلحَق

كانت النهاية متوقعة بموت الوالد، حيث كان الطبيب قد أخبر الابن الراوي بحالة والده الخطيرة، وأنّه قد يُفارق الحياة خلال أيام. فهو يُعاني من مرض نادر، يؤدّي إلى تآكل الخلايا العصبيّة. ورغم حالته الصعبة أرهقته الأجوبة الطويلة التي نطق بها جوابا على أسئلة ابنه الراوي، والتي لا شكّ ساهمت في تَسْريع موته.

وقد أراد الكاتب أنْ يُفاجئ القارئ في الصفحات الأخيرة المُلحَقَة بأنّ كلّ ما رواه كان تسجيلا لجلسة تجريبية قام بها صديقُه وزميله العالِم في علم الدّماغ من أيام الدراسة في الولايات المتحدة، الذي زاره في بيته وشارك في تشييع جثمان والده واستمع لرثائه له وتأثر جدا، ومن ثمّ دعاه لزيارته في بيته في مدينة جنيف في  سويسرا، وهناك أخبره باكتشافه جهاز يقوم بحَثِّ الدّماغ ليمنحنا شعورا مُطوّلا نعيش في أعقابه لحظات كنّا نتمنّاها، وأقنعه بدخول التجربة ليستحضر والدَه، ويقضي معه فترة سعيدة يتمنّاها ولو في المُخيّلة . وهكذا كان.

أخيرا

كل التحيات للصديق الكاتب البروفيسور أشرف إبريق على نصّه الجميل والمميّز الذي سيكون له الأثر الكبير على كل مَن يقرأه، ومساعدا لطلاب فرع الكيمياء في المرحلة الثانوية وكل طالب معرفة علمية جاد.

***

د. نبيه القاسم - الرامة فلسطين

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم