صحيفة المثقف

شهادات ومذكرات

في الذكرى السادسة لرحيله 2018/4/16

هو شبيه سقراط في الكثير من الأشياء، وقريب من شخصيته كما رسمتها المدونات التأريخية الاغريقية، في أسلوب حياته وتقشفه وسخريته وتهكمه وتوليده للأجوبة من أسئلة جدلية لا نهاية لها، وصولاً الى الحقائق المغروزة في النفوس، فقد كان سقراط مؤمناً (بأن المعرفة تذكر) وإن وجود النفس سابق على وجودها الدنيوي، إنها في عالم علوي عقلي الهي تعلم كل شيء، وعندما أُهبطت الى العالم الأرضي المادي الدنيوي نسيت كل شيء، وما عملية التعلم إلاّ عملية تذكير لهذه النفس بما كانت تعلمه في عالمها العلوي. هذا التذكير هو عملية توليد، فمثلما تنتزع القابلة المولود من رحم أمه، كذلك تفعل الأسئلة الحوارية الجدلية، إنها تنتزع الحقائق من أرحام النفوس! . وهذا هو ما يفعله المطبعي تماماً، مع فروق بسيطة لا تكاد تذكر أملتها ضرورات الحياة المعاصرة، فليس من المعقول أن يتمشى المطبعي في الأسواق كما كان يفعل سقراط في أسواق أثينا، يجادل هذا الرجل البسيط المعترف بجهله لكي يساعده في توليد الأجوبة التي تدلّه على الحقيقة، ويتهكم من ذاك الرجل المتعالم الذي يتباهى بأنه عالم وهو جاهل لا يعلم شيئاً، وربما فعلها المطبعي في بعض الأسواق ودواوين الوزارات ومضايف شيوخ العشائر ومكاتب الصحف في حقبة من حياته، غير أن الكلام والجدل والحوار لابد أن يكون مطبوعاً كما يقتضيه عصر الطباعة، فكانت مجلة (الكلمة) النجفية التي صدرت بإمكانات المطبعي المتواضعة، ولفتت انتباه الأدباء والكتّاب الى اسلوبها المجدّد الجريء.

كان يمكن أن يكون شأن (الكلمة) في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، شبيها بشأن مجلة (الآداب) البيروتية لسهيل أدريس لو توفرت لها الأسباب، لكن كان من الصعوبة بمكان أن يستمر المطبعي في كلمته بلا مؤسسة تديمها، ومن دون دعم مالي ولا نشر ولا توزيع على مستوى العراق والبلدان العربية، فضلاً عن التقلبات السياسية والموجات الفكرية وصراعات الأجيال الأدبية التي كان يموج بها المجتمع العراقي والتي تركت صداها في النجف وبغداد على السواء، فلم تصمد الكلمة، ولم يقدر لها أن تستمر في حقب سياسية كان فيها لكل (كلمة) حساب وكتاب.

غير أن حميد المطبعي الذي نشأ بفطرته على الجدل الهيراقليطي، وأدرك منذ أن كان فتيّاً أن المرء لا يمكن أن يعبر النهر مرتين، وأن كل شيء في الكون في تغيّر وجريان وصيرورة مستمرة، لم يرضه أن يكون في حدود هذا الجدل البدائي العائم، فالتجأ الى الجدل الماركسي، لكنه سرعان ما انقلب على ماركس محوراً هذا الجدل من صياغاته المادية البحت، الى جدل فيه من الروح والمثالية والخيال الشيء الكثير، ولم يفكر في تكرار تجربة مجلة (الكلمة) بعد أن وجد في الصحافة الوسيلة التي ترضي نوازع نفسه في الكتابة والبحث عن الجذور، وفي الرحلات الجغرافية والفكرية، متنقلاً بين جبال العراق وسهوله، باحثاً عن فرق الدراويش والمتصوفة، متقصياً أصول العلماء وجذور الأعراق والعادات والتقاليد ليصوغها في نوع مبتكر من أدب الرحلات والأسفار والمشاهدات على نهج (ابن بطوطة) لكن على الطريقة الصحفية العراقية المطبعية في القص والتقصّي والتشويق والإثارة الصحفية .

اعتكف المطبعي قبل رحيله عن دنيانا اعتكاف الزهّاد في كهوفهم وصومعاتهم، يوهمنا دوماً أنه يعيش وفق مبدأ الحكمة الهندية الشهيرة (لا أرى، لا اسمع، لا أتكلم) غير أنه في حقيقة أمره، يرى أكثر مما يراه المبصرون الحاذقون، ويسمع أكثر مما يسمع السامعون الجوالون، ويتكلم أكثر مما يتكلم المتكلمون.

لم يكن يكل ولا يمل ولا يتوقف عن اختراع شكل جديد للكتابة مع إطلالة كل يوم جديد، يسنده خزين هائل من الأرشيف الصوري والأضابير الورقية التي تعد بمثابة سجل النفوس لكل علم من أعلام العراق على امتداد قرن من الزمان، ويلهمه عقل حيوي منظم ينافس الكومبيوتر في ذاكرته ودقته وسرعته، مع إن أصابعه لم تلامس يوماً لوحة المفاتيح، ولم تتعلم يوماً كيف تمسك بفأرة الحاسوب، أدهشني فكتبت عنه قبل أكثر من عشرين عاماً، بأن زمناً طويلاً سيمضي قبل أن تعثر الصحافة العراقية على صحفي وموثّق وأديب، منظـــــــــم ودقيق، مواظب وحريص، غزير الإنتاج مثله، لقد قدم للصحافة العراقية الكثير من الابتكارات الثقـــــــافية والصحفية المميزة، واستطاع في جهد متواصل أن يبعث الروح في فن الاستطلاعات الصحفية التي بلغت ذروتها على يديه، وأصابها الشحوب والهزال والرتابة بعده، كما عمل على بعث النور في الزوايا المظلمة، والأركان المنسية، بتقديمه آلاف المفكرين والعلماء والسياسيين والمثقفين والأدباء والفنانين والأطباء والمهندسين والزعماء القبليين، الذين لا يعرف الجيل الجديد شيئاً عنهم، ولعل ما يثير الدهشة في حرصه ودقته المتناهية، انه حين كان قادراً على التنقل بسهولة بين مقار الصحف التي كان يكتب لها، فإنه كان يتابع موضوعاته واستطلاعاته وحواراته الطويلة في مرحلة التصميم الورقي قبل عصر الكومبيوتر، وإنه كان حين يكتب، فإنه يرسم موضوعاته رسماً، ويستخدم الألوان في وضع العناوين، ويضع الملاحــــظات التفصيلية للمصمّمين والمنفذين، ويحرص على تزويدها بالصور مع شروحاتها التفصيلية.

ولكي يضفي على شخصيته بعداً أسطورياً، فإن العصا نادراً ما كانت تفارقه منذ سنوات الثمانينيات، وحين يُسأل عنها يقول إنه يتوكأ عليها، ويهش بها على غنمه، وله فيها مآرب أخرى، والله وحده يعلم ما هي مآرب حميد المطبعي! .

هذا الرجل الذي وقف في حياته على تل الزمان يراقب مرور التاريخ بعين المستطلع المستبطن البصير، فيه شطحات المتصوفة، ومزاجات الفلاسفة، وعمق المحللين النفسانيين، وهوس الباراسايكولوجيين، وأحكام المؤرخين، وفيه مزيج من العمق والبساطة، والشك واليقين، والضعف والقوة، والكآبة والانشراح، وكان آخر ابتكاراته الصحفية كتابة سلسلة من أحكام وتقويمات عن كتاب وأدباء العراق، يختصرهم بشراً ونتاجاً ومسيرةً وتاريخاً وإبداعاً بتقويم قد لا يزيد على ثلاث كلمات.

وهو منذ أن بدأ بمشروع (الكلمة) النجفية، مروراً باستطلاعاته المثيرة عن مدن الشمال وقراه وجباله والتي اضطرته أحياناً الى أن يستخدم البغال للتنقل في بعض أسفارها، ووصولاً إلى البحث عن جذور عدد من المفكرين والعلماء والفلاسفة والمثقفين، وانتهاءً بكتابة موسوعة أعلام العراق، ثم إلى أحكامه وتقويماته التي يختزلهم فيها اختزال العالم الخبير، لم يتخل يوماً عن بساطته وتواضعه ومرحه وسخريته، لقد خالط آلاف البشر في رحلاته الاستكشافية التأملية، جلس مع رجال دين وسياسيين وعسكريين لامعين، وشيوخ عشائر، وشعراء ومثقفين كبار، ومع ناس بسطاء فقراء معدمين، حاورهم وجادلهم بمنهج سقراط ومخادعة السفسطائيين، بحثاً عن الحقيقة، ليكتشف في نهاية الأمر، أنه يركض خلف وهم وسراب، فبينه وبين الحقيقة ألف حاجب وألف حجاب.

ولعلي لا أنسى يوماً شتوياً مر قبل ربع قرن، حين زارني المطبعي في بيتي برفقة الزميل الدكتور احمد عبد المجيد، وكنت في حالة نقاهة بعد وعكة صحية طويلة ألمّت بي، فاحتفيت بهما وسررت بزيارتهما الكريمة، وكان من ضمن الصور التي التقطها لنا الزميل الراحل مجيد الخالدي صورة اظهر فيها وأنا اقطّع تفاحة في صحن يضم أنواعاً من الفاكهة المتوفرة آنذاك، ولم يدع المطبعي هذه الزيارة تمر من دون توثيق، فنشر الصورة في جريدة (الرأي) التي كان يرأس تحريرها الزميل رباح آل جعفر تحت عنوان (حديث الصورة) وبأحد أسمائه المستعارة (سليم شريف) ومما كتبه بخط يديه تحت تلك الصورة التي لا امتلك أصلها للأسف الشديد: الجلسة انبساطية كما تبدو في الصورة، وأصحاب القلم ينبسطون في جلساتهم دائماً، ووفقاً لحركة أفكارهم في الحياة، وقد شاء الدكتور طه جزاع أن ينبسط أكثر فأكثر، فحرك السكين وغرسها في تفاحة جميلة ليطعم بها صديقيه حميد المطبعي وأحمد عبد المجيد، وفي لحظة اغفاءة فرح تحركت الكاميرا بين أصابع شيخ مصوري (الزوراء) مجيد الخالدي، لتوثّق ايقاع القلوب، وما أرحبها..!

ما أرحب قلبك أيها المطبعي، وما أقسى قلوب محبيك . تبقى معنا دوماً أبا الخنساء ، لن نرضخ لمنطق غيابك الأبدي .3743 رسالة المطبعي

***

د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي 

............................................ 

* مرفق صفحة من توثيق المطبعي بخط يده عن الدكتور فخري الدباغ، من مقتنياتي الشخصية.

 

يكشف بيتر مولن الأسرار الشخصية للفلاسفة.

ترجمة محمد عبد الكريم يوسف

***

كنت في ستيمنغ نيكرز في شارع مكتبة المدينة، المقهى المفضل لدي. عندما أقول "أنا"، أعني بالطبع تلك الوحدة الموضوعية للإدراك والتي هي وعي إيمانويل كانط. أسميها "الوحدة الموضوعية للإدراك" لتسهيل الفهم.

تساءل الشاب هيرمان، الذي كان يجلس مرة أخرى في الزاوية، عما إذا كان إيمانويل كانط سيحب فنجانا آخر من القهوة؟ أجبته: "بالإيجاب"، وذكَّرته: "لا تتصرف إلا وفقا للمبدأ الذي تريده أن يصبح قانونا عالميا".

فأجاب: «هذا مؤسف، فأنا أود أن أشتري لك فنجانا من القهوة؛ ولكنني الآن خائف من ذلك، لأن ذلك يعني أن كل شخص في العالم سيكون مجبرا على شراء فنجان من القهوة لك. ثم سألني: هل ترى طبق الكعك هناك؟ هل يمكنك تمريره لي من فضلك؟"

لقد اضطررت إلى توبيخه على هذا الخطأ الفلسفي الأولي: "في الواقع، أرى طبق الكعك هذا، ولكن فقط بمعناه الاستثنائي. طبق الكعك طبق اسمي نومينال - طبق الكعك في حد ذاته (سيش) - لا أراه، لأنه قد لا يراه أحد.

ضحك هيرمان  وعقد صدره الهائل وسأل: "ماذا تعرف إذن يا إيمانويل؟"

أجبت بأنني أعرف كم تبلغ تكلفة طبق الكعك، لأن الحساب هو شكل من أشكال المعرفة التي أصنفها على أنها معرفة تحليلية؛ ولكن يمكنني أن أستنتج أن طبق الكعك كان، كما نقول، "هناك" على تلك الطاولة في الساعة الحادية عشرة صباحا فقط لأن المكان والزمان ضروريان لشروط التفكير المسبقة. وعلمت أيضا أن طبق الكعك كان مخصصا لمتعتنا فقط لأن العلاقة بين السبب والنتيجة هي أيضا شرط تفكير ضروري ومسبق. وبالتالي فإن استنتاجي بأن طبق الكعك كان على الطاولة هو مثال للمعرفة التي أسميها الاصطناعية بداهة.

"يا إلهي!" أجاب هيرمان.

قلت ساخرا: "الحرية والخلود".

قال هيرمان: "أعطني كعكة من فضلك".

خرج هيرمان إلى الشارع ومعه كعكته، وبدأت أفكر في نقيضتي الحادية عشرة هذا الصباح: من الممكن أن يشرب إيمانويل كانط فنجانا آخر من القهوة؛ ومن الممكن أنه قد لا يفعل ذلك. وفي كلتا الحالتين فإن اختياره في هذا الأمر حر تماما، وكانط يعرف ذلك يقينا؛ علاوة على ذلك، فإن هذه المعرفة بداهة.

في تلك اللحظة، دخل الله في أفضل حالاته يوم الأحد، برفقة القديس توما الأكويني والقديس أنسيلم. طلب الله القهوة وشرع في التحرك بطريقة غامضة. كان القديس أنسيلم يشرب الماء فقط، بينما طلب القديس توما ربع لتر من البيرة، فشربها جرعة واحدة، وعندها طلب جرعة أخرى، وهو يصيح: "بلعة واحدة لا تصنع الخلاص!"

ثم اقترب مني القديس توما ووبخني بشدة: "ما كل هذا الحديث الذي تتحدث عنه، يا سيد كانط، والذي يفيد أنك وجدت خطأً في برهاني الإلهي الكوني؟ أنت مخطئ تماما إذا كنت تعتقد أن هذا الدليل يعتمد على أن العالم كان له بداية زمنية. إن توضيحي للحاجة إلى السبب الأول يعلن بدلا من ذلك أن جميع الأحداث مشروطة باستثناء السبب الأول، الذي يجب أن يكون ضروريا لمنح الوجود على ما كان يمكن أن يكون محتملا فقط. في هذه الأثناء، كان السبب الأول، في هدوءه، أنه باقيا يحتسي قهوته.

قال القديس أنسيلم مضيفا: “لقد رفضت بالمثل دليلي الوجودي عن الله بمجرد الإشارة إلى أن “الوجود ليس مسندا”. لقد أساء غوانيلون فهمي أيضا بعد هذه الطريقة. لكن النقطة المهمة هي بالأحرى ما يلي: لا يمكن أن يكون الله موجودا بالصدفة. الله ليس مشروطا. ولذلك فإن وجوده إما مستحيل أو ضروري. ومن الواضح أن الأمر ليس مستحيلا، لأنني أستطيع أن أؤكد وجود الله دون تناقض. لذلك، الله موجود. وهو المطلوب إثباته." وطوال الوقت، كان صانع السماء المرصعة بالنجوم في الأعلى والقانون الأخلاقي في الداخل جالسا دون تغيير.

شعرت بأن إرادتي العقلانية الحرة مقيدة ومن ثم أدركت أنني لا أعامل كغاية في نفسي، توسلت إلى السادة الثلاثة ليأذنوا لي بالانصراف ورجعت عبر الشوارع لبدء المراجعة الضرورية لكتابي "كريتيك دير راينن فيرنونفت". وبينما كنت أتجول، سمعت أحد سكان كونيجسبيرج الطيبين يهتف: "اضبطوا ساعاتكم يا أصدقائي. ها هو السيد البروفيسور كانط، تماما في يمر الوقت المحدد!».

***

...................................

* القس دكتور بيتر مولن 2024

 *بيتر مولن هو فيلسوف وكاهن أنجليكاني. آخر علاج للنفوس قبل تقاعده كان عميد كنيسة سانت مايكل، كورنهيل، في مدينة لندن.

المصدر

Philosophy Now , 4/2024

 

بقلم: إلويز ستارك

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كيف غيّر غرق سفينة في القرن الثامن عشر حديث فرنسا عن العرق عندما استولى قبطان على شحنة غير قانونية من العبيد، ولم يتوقع العواقب.

هزة مفاجئة توقظ الأسرى يتبعها صراخ وصوت أقدام تجري،إنهم ينظرون من خلال الشقوق الموجودة في البوابات. تترنح السفينة للأعلى، ثم تميل إلى أحد الجانبين. البحارة يسرعون إلى الوراء. الفئران تندفع خارج غرف التخزين. لا يتاح مثل هذا الهروب لـ 210 من العبيد المحاصرين في المخزن خلف ألواح خشبية مسمرة.

ألواح خشبية تتساقط من السقف. لقد انفجر هيكل السفينة. يتدفق الماء. لحظة رعب، ثم لحظة ارتياح: يستطيع الأسرى الآن الخروج. على السطح، يرون الدمار: انشطرت السفينة الضخمة إلى قسمين، محاطة بالحطام - جبل عائم، تحول فجأة إلى حطام.

في ضوء الفجر، يرون الجزيرة التي سقطت فيها السفينة. لا يعلمون، وهم يشقون طريقهم إلى الشاطئ عبر الأمواج والأنقاض، أن هذا سيكون موطنهم على مدار الخمسة عشر عامًا القادمة.

هذه هي قصة حطام سفينة لوتيل/ L’Utile في عام 1761، عندما تقطعت السبل بالعبيد من مدغشقر على جزيرة مع البحارة الفرنسيين. تمكن البحارة من الفرار على طوف لكنهم تركوا الملغاشيين/ Malagasy  وراءهم. وتسلط الأحداث الضوء على العنصرية العميقة التي كانت سائدة في المجتمع الفرنسي في ذلك الوقت.

ولكن كان هناك أيضًا احتجاجات من عامة الناس والمثقفين البارزين بشأن مصير العبيد. كان رد الفعل هذا بمثابة نقطة تحول في نظرة فرنسا للعبودية، عندما أدان فلاسفة التنوير علنًا معاملة البحارة البيض للعبيد السود. في السنوات الأخيرة، سمحت الأدلة المستقاة من الحفر الأثري الأول في الجزيرة، عند جمعها مع سجل السفينة وتقرير حكومي رسمي يستند إلى شهادات البحارة،مما ساعد في سرد قصة العبودية والعنصرية بطريقة تتجاوز منظور أي مراقب في القرن الثامن عشر.

في عام 1761، كانت تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي جارية قدم وساق . قامت القوى الاستعمارية بنقل الناس قسراً من أفريقيا إلى أمريكا للعمل في المزارع. أنشأت الدول الأوروبية إمبراطوريات واسعة في الأمريكتين وأفريقيا وآسيا. لقد تنافسوا مع بعضهم البعض من أجل الهيمنة الإقليمية والاقتصادية، وخاصة فرنسا وبريطانيا العظمى. ابتداءً من عام 1756، انخرطت الدولتان الإمبراطوريتان في حرب السنوات السبع، والتي كان لها تداعيات كبيرة على توازن القوى العالمي.

كان للحرب أيضًا تأثير كبير على الحياة اليومية في أراضي الجزر الفرنسية. أدت الحصارات التي فرضتها البحرية البريطانية إلى تعريض السكان لخطر المجاعة. حظرت شركة الهند الشرقية الفرنسية تجارة الرقيق في المنطقة، لذلك لن يكون هناك أي أفواه إضافية لإطعامها. لو أن قبطان سفينة L'Utile، جان دي لافارج، اتبع هذه القواعد، لما كان هناك أي عبيد على متن سفينته. لكن هذه كانت مهمته الأولى على متن سفينة جديدة، وكان حريصًا على جمع ثروته. وأثناء توقف الإمدادات في مدغشقر، قام بتهريب 160 رجلاً وامرأة وطفلاً إلى قاع السفينة. لقد خطط لبيعها في إيل دو فرانس، المعروفة اليوم باسم موريشيوس، والتي تقع على بعد 550 ميلاً فقط.

وحتى ذلك الحين، يجب أن تمر السفينة L’Utile دون أن يلاحظها أحد. ولهذا السبب أمر لافارج الطاقم باتخاذ طريق أقل ترددًا عبر جزيرة سابل الغامضة، أو جزيرة ساندي. وقد اكتشفت الشركة هذا الامتداد من الأرض قبل أربعة عقود، ولكن لم يشهده أحد منذ ذلك الحين. حتى الخريطتان الموجودتان على متن السفينة اختلفتا حول مكان وجوده. أظهر إحداهما أن L’Utile سوف تتجاوزه مباشرة.ووفقاً لحارس السجل الرسمي للسفينة، هيلاريون دوبويسون دي كيروديك، راجع القبطان الخريطة الأخرى بعناد، حتى عندما تم تحذيره من خطر جنوح السفينة. قال القبطان إنه لن يتمكن من النوم ما لم يغيروا مسارهم ليلاً، ورد أن لافارج رد عليه من خلال وصفه بالجاهل، وأمره بمواصلة الرحلة. الساعة 10:30 مساءً في 31 يوليو 1761، تم اكتشاف جزيرة إيل دو سابل للمرة الثانية، حيث اصطدمت بها لوتيل عن طريقا الخطأ.

وُصفت أحداث تلك الليلة بتفاصيل مروعة بواسطة كيروديك. ويصف كيف اندفع أفراد الطاقم إلى سطح السفينة عندما سمعوا سلسلة من الاصطدامات ثم شاهدوا السفينة وهي تميل بشكل مرعب، مما أدى إلى تمزيق جانبها الأيمن بالصخور. لم يتم العثور على القبطان في أي مكان. في غيابه، بدأ الطاقم بإلقاء الأشياء في البحر، في محاولة يائسة لتصحيح مسار السفينة. لقد كانت ليلة طويلة ومؤلمة، تردد فيها أنين الخوف، والصلوات المرتلة، وصوت الخشب المتشقق، وأمواج المحيط المتواصلة.

كتب كيروديك: "كل ثانية جعلتنا نعاني من آلاف الوفيات؛ لم نتمكن من التنفس، وكانت هزات الأمواج الغاضبة قوية جدًا".

لساعات، ناضل الطاقم لإنقاذ لوتيل. لم يكن ذلك جيدًا. بدأ سطح السفينة بالصرير تحت أقدامهم . وعندما انقسمت السفينة إلى قسمين، اصطدمت قوارب النجاة بالمخزن وتحطمت. ثم جاءت المعجزة: " الأرض " صرخ  أحدهم  عندما أضاء ضوء الصباح جزيرة إيل دو سابل. أولئك الذين يعرفون كيفية السباحة قفزوا إلى الماء وبدأوا في القتال للوصول إلى الشاطئ. وكان الملغاشيون، الذين كانوا محتجزين في المخبأ، يشقون طريقهم بالفعل إلى هناك. أولئك الذين نجوافقط. كا قد قُتل أكثر من 70 شخصًا بسبب تساقط العوارض الخشبية أو غرقوا عندما امتلأت السفينة بالمياه، كما هو مذكور في سجل السفينة.

لم تغير الكارثة المشتركة شيئًا من عنصرية الخاطفين البيض.  يكتب كيروديك في سجله،كيف تمسّك بلوح خشبي في الماء ليظل طافيًا. "في وقت ما، استولى عليه أيضًا عبد أسود كان يغرق، لكنني ركلته ركلتين، مما أدى إلى سلب قوته." ويصف جريمة القتل بشكل عرضي كما يصف الطقس في مقالاته السابقة. وبالعودة إلى السفينة، تمكن أفراد الطاقم الباقون من استخدام الحبال لصنع شيء آمن للتمسك به أثناء توجههم إلى الشاطئ. لقد أنقذت حياة معظم البحارة. حتى لافارج تم إنقاذه من مخبئه في مرحاض السفينة. وإذا كان الركض نحو الحرية بمجرد وصولهم إلى الشاطئ قد خطر في أذهان العبيد، فإن الفكرة لم تدم طويلاً. تبلغ مساحة جزيرة إيل دو سابل ثلث ميل مربع من الرمال.يمكنك عبورها  سيرا على الأقدام، في 20 دقيقة. لم يكن هناك مكان للهروب.

وتقع الجزيرة، المعروفة اليوم بجزيرة تروملين، على بعد 300 ميل شرق مدغشقر. الأرض جافة ورملية ; الشجيرات فقط تنمو هناك. إنها منخفضة جدًا لدرجة أن السفن بالكاد تستطيع رؤيتها إلا عندما تكون فوقها، ويقول الزوار إنه يبدو وكأنها على طوف أكثر منها على الأرض. ومع النسيم الدائم وتلاطم الأمواج، يمكنك أن تشعر عمليًا بالمحيط تحت قدميك. إنه مكان وحيد ومقفر.

لم يكن الأمر وحيدًا في الأول من أغسطس عام 1761، عندما وقف أكثر من 200 شخص على هذه البقعة الصغيرة من الرمال. كان لافارج هناك بالجسد فقط؛ لقد ذهب عقله إلى مكان يصعب الوصول إليه أكثر من مرحاض السفينة. لم يستطع أن يقول كلمة واحدة. تولى الملازم الأول بارتيليمي كاستيلان دو فيرنيه مسؤولية الموقف. وكانت الأولوية الأولى هي العثور على الماء. أمر كاستيلان قائد المجدفين بأخذ بعض أفراد الطاقم معه والبدء في الحفر. وتم تكليف آخرين بإنقاذ ما استطاعوا من الحطام وبناء الخيام من أشرعة السفينة. كانت تلك الأيام الأولى الخالية من الظل وحشية. نجا البحارة الفرنسيون بفضل الإمدادات التي تم انتشالها من الماء. لقد أنقذوا براميل النبيذ وعصير التفاح "الرديء للغاية"، وفقًا لكيروديك، بالإضافة إلى الكثير من الطعام. ويؤكد سجله أنهم لم يعطوا أي شيء لأسراهم.

وفي اليوم الثالث، تم القبض على اثنين من البحارة وهما يسرقان لحم الخنزير. لقد حكم عليهم بالإعدام. قام أفراد الطاقم بإعداد بندقية ورمي النرد لمعرفة من سيضغط على الزناد. ولكن في تلك اللحظة، عاد قائد المدفعي. "ملازم! لقد وجدنا الماء! كان يحمل وعاءً من سائل أبيض حليبي سميك. وطلب من الطاقم العفو عن اللصين: "على النعمة التي وهبنا إياها الله بأن وجدنا ماء للشرب، والتي بدونها كنا سنموت جميعًا". تم الاتفاق، واندفع البحارة إلى البئر للشرب. لم يُسمح للمدغشقريين بالمياه إلا بعد انتهاء الفرنسيين. وكان الكثير منهم يعانون من الجفاف الشديد لدرجة أنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى البئر. خلال تلك الأيام الأولى، مات 28 من العبيد، بينما نجا جميع البحارة، كما هو مسجل في التقرير الرسمي عن غرق السفينة.

حول كاستيلان انتباهه إلى الخروج من الجزيرة. لقد رسم مخططًا لطوف، لكنه واجه مشكلة:كان الطاقم يرفض العمل. الشمس الحارقة والجزيرة المربكة واليأس في قلوب الكثيرين سلبتهم الحماس. وافق عشرون بحارًا وضابطًا فقط على المساعدة في البناء. لجأ كاستيلان إلى الملغاشي لطلب المساعدة. لقد سبحوا إلى الحطام وأعادوا الألواح والعوارض لبناء القارب الجديد. لقد أنشأوا حدادة لصهر المعادن وإعادة تشكيلها. لقد حفروا فرنًا، حيث قاموا بطهي الدقيق المتبقي في البسكويت للرحلة القادمة. بدأوا في بناء القارب.

لم يستغرق الأمر وقتًا طويلاً حتى أدرك كاستيلان أنهم لا يستطيعون صنع سفينة كبيرة بما يكفي للجميع. يجب أن يكون طولها 45 قدمًا، وأكبر عارضة يمكنهم إنقاذها كانت 33 قدمًا. منذ تلك اللحظة، عرف كاستيلان أن العبيد لن ينضموا إليهم. وفي خيانة هادئة، لم يقل شيئًا. كان بحاجة إليهم لمواصلة العمل. استؤنف الروتين. تعود مذكرات كيروديك إلى وصف الطقس. "الجو عاصف اليوم" "الأمواج كبيرة" أنهوا الطوافة بعد 26 يومًا من غرق السفينة. تم تعميد الطوافة باسم  لا بروفيدنس/ La Providence.

يكتب كيروديك: "البحر هادئ. "لقد اكتمل القارب"

هل علم الملغاشيون أن الخيانة قادمة؟ إنهم حقًا لا يستطيعون الوثوق بالأشخاص الذين تقطعت بهم السبل معهم. أولئك الذين اشتروهم من السوق، الذين انتشلوا فقط الأشخاص البيض من تحت الأنقاض، الذين تركوا رفاقهم العبيد يموتون عندما استولوا على مؤن السفينة، الذين حملوا بنادق ولم ينتظروا استعادة النظام الاجتماعي القديم. ومع ذلك، قد يكون هؤلاء الأشخاص هم الظالمين والأعداء، لكنهم كانوا أيضًا هم الذين لديهم الإمدادات والمعرفة حول كيفية بناء مركب شراعي. وسواء تم خداع الأسرى بوعد كاستيلان أم لا، لم يكن لديهم خيار. كانت العناية الإلهية أملهم الوحيد في الخلاص. لا بد أن الأمر كان بمثابة الصدمة عندما صعد 123 بحارًا على متن السفينة، في 27 سبتمبر 1761، بعد 58 يومًا من غرق السفينة، بما في ذلك حوالي 100 بحار لم يرفعوا أيديهم من أجل بنائها. "سوف نعود"، هكذا وعد كاستيلان، آخر شخص صعد على متن سفينة "لا بروفيدانس". وساد صمت غريب بينما كان العبيد الثمانون يشهادون أملهم الأخير في الخلاص يغادر الشاطئ.

وبعد أربعة أيام "مكتظين مثل السردين" في الطوافة، وصل البحارة إلى ميناء فولبوانت في شرق مدغشقر. انطلق كاستيلان على الفور للعثور على قارب والعودة إلى الجزيرة. وكانت الرياح مواتية. لن يستغرق الأمر سوى أسبوع تقريبًا لإعادة الملغاشيين بأمان إلى وطنهم، لكن قيل لكاستيلان أنه لا يمكن إنقاذ أية قوارب. بمجرد عودته إلى بر الأمان، بدا أن كاستيلان يشعر بالمسؤولية الإنسانية تجاه الأفراد المستعبدين الذين تركهم وراءه. أبحر مع أفراد الطاقم الآخرين إلى إيل دو فرانس، على أمل أن يتمكن من إقناع حاكمها، أنطوان ماري ديفورج-باوتشر، الذي كلف برحلة لوتيل، بإرسال مهمة إنقاذ.

توفي أحد عشر بحارًا بسبب الحمى خلال الرحلة التي استغرقت شهرين، بما في ذلك لافارج. وقال ديفورج باوتشر، الذي استقبل الطاقم استقبلا باردًا في بورت لويس، إنه أمر جيد أيضًا. كان غاضبًا من لافارج لأنه اشترى العبيد ضد أوامره. وكتب في رسالة إلى رؤساء الشركة: "توفي السير لافارج في هذه الرحلة، وقد قام بعمل جيد لأننا يجب أن نعزو خسارة هذه السفينة فقط إلى عناده وسوء سلوكه".

رفض ديفورج باوتشر رفضًا قاطعًا إرسال قوة إنقاذ إلى إيل دو سابل. تسبب هذا في ضجة قصيرة بين الحكومة الاستعمارية، حيث حاول العديد من الشخصيات البارزة المحلية إقناع الحاكم بتغيير رأيه. كان ديفورج باوتشر منشغلاً بالحرب المحتملة مع البريطانيين وألقى باللوم على لافارج في الأحداث ولم يغير موقفه. شعر كاستيلان بالذنب وأبحر إلى فرنسا. وواصل كتابة الرسائل للشركة، لحثهم على تنظيم مهمة إنقاذ، ولكن دون جدوى.

من وجهة نظر حديثة، يبدو سلوك البحارة تجاه زملائهم العبيد المنبوذين متناقضًا، أو حتى منافقًا. تُظهر الأرشيفات أن كاستيلان استغل الملغاشيين ثم تخلى عنهم، وبعد ذلك  قضى أكثر من عقد من الزمن في حملة من أجل إنقاذهم. كتب كيروديك بشكل عرضي عن ركل رجل حتى الموت، لكنه أعرب أيضًا عن امتنانه الكبير تجاه الملغاشيين. وكتب: "المساعدة التي تلقيناها منذ اللحظة الأولى وحتى الأخيرة من هؤلاء العبيد البائسين، الذين اضطررنا للتخلي عنهم أمام عار الجميع، لا يمكن وصفها بالكلمات".

إن الهجر الوحشي، الذي أعقبه اهتمام إنساني مستمر تجاه الملغاشيين ، يُظهر نقطة التحول التي كانت تحدث في عقليات ذلك الوقت. كانت تجارة الرقيق مزدهرة في المستعمرات والبؤر الاستيطانية الفرنسية، وكانت العنصرية راسخة وطبيعية في جميع أنحاء المجتمع. ومع ذلك، كانت الحركات المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام آخذة في الظهور، وكان فلاسفة التنوير مثل روسو ينشرون فكرة أن "جميع الرجال يولدون متساوين وأحرارًا".

وقد طبع جان شابوي في بوردو كتيبًا يروي الأحداث بعنوان "تقرير عن الظروف الرئيسية التي رافقت وأعقبت غرق السفينة لوتيل" ، وانتشر على نطاق واسع في فرنسا من قبل الباعة المتجولين، مما أجبر الدوائر الفكرية الفرنسية على مواجهة تناقضاتها. أدى هذا إلى تحويل مدغشقر المهجورة إلى قضية مشهورة إلى حد ما، على الرغم من أنها سرعان ما تم نسيانها بسبب حرب السنوات السبع مع بريطانيا العظمى.

ربما كانت قصة لوتيل قد دُفنت بالكامل لولا أحد الشخصيات المركزية في الثورة الفرنسية، الفيلسوف نيكولا دي كوندورسيه. ففي أطروحته (تأملات حول العبودية الزنجية)، التي نُشرت عام 1781، أدان تخلي الإدارة الفرنسية عن الملغاشيين، وزعم أن ذلك كان دليلًا على "مدى ابتعاد الأوروبيين عن اعتبار السود إخوانهم من البشر". وبعد سنوات قليلة، أصبح ألكسيس ماري دي روشون، المعروف باسم آبي روشون، وهو عالم فلك في البحرية الفرنسية، أكثر مباشرة في انتقاداته. وكتب في كتابه “رحلة إلى مدغشقر وجزر الهند الشرقية”: “إن كل رجل يتمتع بحس إنساني يرتعد عندما يعلم أن هؤلاء السود الفقراء تُركوا ليموتوا بشكل بائس دون أن يغامر أحد  لمحاولة إنقاذهم”.

وبعد عقود من الزمن، وجدت محنة الملغاشيين التعاطف بين الناجين من حطام سفينة أخرى، لا ميدوسا، التي اشتهرت في لوحة تيودور جيريكو التي رسمها عام 1819 بعنوان "طوافة ميدوسا". بعد أن جنحت السفينة لا ميدوسا في عام 1810، انطلق جميع الناجين البالغ عددهم 147 شخصًا، من الأفارقة والأوروبيين، على متن طوف. أصبح التحول في العقليات بعد غرق السفينة لوتيل /L’Utile واضحًا - بالنسبة للمنبوذين في La Meduse، لم يكن من الممكن ترك أي شخص خلفها، بغض النظر عن لون بشرته. في روايتهم للمحنة، انتقد اثنان من الناجين من La Meduse طاقم L'Utile وكتبا: "من الممكن أن تجعلك لحظات الخطر الأولى تفقد عقلك وتترك السفينة، لكن الفشل في مساعدة المرء عندما يكون خارج نطاق الخطر أمر لا يمكن تصوره. "

وبعد مرور أحد عشر عامًا على غرق شركة لوتيل، انتهت الحرب مع البريطانيين، وأفلست شركة الهند الشرقية الفرنسية، وسيطرت العائلة المالكة الفرنسية على المستعمرات. وأعرب كاستيلان عن أمله في أن يكون التغيير في القيادة لصالحه. وكتب رسالة أخيرة، يتوسل فيها إلى البحرية "لاستكشاف الجزيرة لمعرفة ما إذا كان هناك أي من هؤلاء السود التعساء على قيد الحياة".

وأخيرا أُرسلت مهمة الإنقاذ. تمكنت السفينة من الرسو بالقرب من إيل دو سابل، وانطلق اثنان من البحارة في زورق. ألقى بهم الموج الذي لا يرحم على الشعاب المرجانية، فمزق القارب إلى أشلاء. عاد واحد فقط من البحارة إلى السفينة. ومن على سطح السفينة، شاهد القبطان الرجل الآخر وهو يسبح إلى الجزيرة. خرج ثلاثة عشر شخصًا لاستقباله، وهو دليل على بقاء بعض الملغاشيين المهجورين على قيد الحياة.

استغرق الأمر ثلاث محاولات أخرى وأربع سنوات أخرى قبل أن يتمكن القارب من الوصول إلى إيل دو سابل. في نهاية نوفمبر 1776، رست سفينة لا دوفين، بقيادة النقيب جاك ماري لانجوي دي تروملين، في مكان قريب وأرسلت زورقين للتجديف إلى الشاطئ. وعثروا على سبع نساء وطفل واحد، وهي مفاجأة بالنظر إلى غياب الرجال. سارت النساء إلى القارب وصعدن عليه دون أن ينبسن ببنت شفة. ولم ينظرن إلى الوراء.

انتشرت أخبار نجاتهم الملحمية بسرعة، ونُشرت رسالة من الطاقم، تتضمن المعلومات القليلة التي حصلوا عليها من النساء، في الصحف في باريس وجنيف وبروكسل. (على عكس الروايات التفصيلية عن حطام السفينة، هناك القليل جدًا من المعلومات حول 15 عامًا من البقاء على هذه الجزيرة المقفرة).

قالت النساء إن العديد من الأشخاص ماتوا خلال الأشهر القليلة الأولى في الجزيرة، بسبب الظروف القاسية واليأس من التخلف عن الركب. أولئك الذين بقوا تمكنوا من البقاء على قيد الحياة رغم كل الصعاب. البئر الذي بناه طاقم السفينة لم يجف أبدًا. أما الطعام فقد كان وفيرًا: كانت هناك سلاحف في الجزيرة وطيور مروضة لدرجة أنه يمكنك قتلها بالعصا. لقد نسجوا الملابس من الريش. وظلت النار مشتعلة لمدة 15 عاما رغم غياب الأشجار في الجزيرة. وكان الطقس السيء يصيبهم بشكل منتظم، وكان الناجون يخشون في كثير من الأحيان أن تبتلعهم المياه.

لقد أودى البحر بالعديد من الضحايا، ليس على الجزيرة ولكن أثناء محاولات مغادرة الجزيرة. وبعد سنوات قليلة من وصولهم، استقل 18 شخصًا قاربًا مؤقتًا واختفوا في الأفق. المحاولة الثانية بدأها البحار الفرنسي الذي تقطعت به السبل بعد مهمة الإنقاذ الفاشلة الأولى. لقد غادر على طوف مع الرجال الثلاثة المتبقين وثلاث نساء قبل ثلاثة أشهر فقط من وصول مهمة الإنقاذ – وهو ما يفسر وجود الطفل.

ولأكثر من قرن من الزمان، كان هذا هو كل ما عُرف عن حياة الناجين من الملغاشيين. ومع تصميمه على إخراج قصصهم من صمت دام أكثر من قرنين من الزمان، قاد عالم الآثار ماكس جيروت أعمال التنقيب في الجزيرة، والتي بدأت في عام 2006.

وأظهرت النتائج المتاحة أن المهجورين بدأوا العيش في ملاجئ مصنوعة من الخشب والقماش، لكن الرياح والأمطار سوتها بالأرض. ولم يكن أمامهم خيار سوى بناء منازل من الحجر، وهو ما كان لا بد أن يكون قرارًا صعبًا عاطفيًا، لأنه في الثقافة الملغاشية في ذلك الوقت كانت المنازل الحجرية مخصصة للموتى. كان من الممكن أن تشعر وكأنك تنام في تابوت.

استمر الطقس في تعذيب الناجين. كشفت الحفريات عن عدة مراحل من البناء، حيث دمرت الرياح كل منزل جديد. في نهاية المطاف، عاشوا في قرية مكونة من 10 مباني، متداخلة داخل بعضها البعض. كان ارتفاع الجدران 8 أقدام وعرضها 5 أقدام. لقد كانوا مستقرين بشكل لا يصدق. ومن الغريب أن إحدى الغرف الحجرية كانت مغلقة بالكامل.

من وجهة النظر الأثرية، كان موقعًا رائعًا. الأعاصير المنتظمة التي اجتاحت الجزيرة بعد إنقاذ النساء، غطت منازلهم بطبقة سميكة من الرمال، وحافظت على كل شيء كما كان. وقد أدى هذا إلى حماية الموقع عندما تم إنشاء محطة للأرصاد الجوية في عام 1954. ويصفها علماء الآثار بأنها "بومبي الصغيرة في المحيط الهندي" - وهي لحظة مجمدة في الزمن. كانت الأوعية والملاعق مهجورة على الأرض، كما لو أن النساء كن يأكلن منها عندما رأين القارب، ووضعنها على الأرض وابتعدن. ولم يلمس أحد تلك الأشياء مرة أخرى حتى أخرجتها مسحاة عالم الآثار من الرمال.

خلال أعمال التنقيب، اكتشف جيروت "مجتمعًا صغيرًا" كاملا بناه الناجون. ولم يكن مجرد مكان لليأس، بل للثقافة والتقاليد المستمرة. ويقول إن عدد القرارات التي تم اتخاذها - بدءًا من اتخاذ قرار بالعيش في منازل حجرية إلى إرسال القوارب إلى الخارج وتحديد مكان البناء - يعد علامة على وجود مجتمع منظم. علاوة على ذلك، استخدم الناجون حدادًا لصهر المعادن وصناعة الأشياء التي يحتاجون إليها: أوعية وملاعق، وأيضًا مجوهرات وتمائم. استمرت الثقافة في الازدهار، حتى في أصعب الأوقات.

ومن المثير للاهتمام أن الأعراف الاجتماعية في فرنسا ــ وقدرة البحارة على ترك العبيد للموت ــ كانت أشبه بفيلم "سيد الذباب" أكثر من كونها أفراداً يقاتلون من أجل البقاء، وينظمون ويتعاونون بدرجة مثيرة للإعجاب. كتب جيروت في كتابه "تروملين: ذكريات جزيرة"/ Tromelin: Memories of an Island.  "استخدم الناجون الموارد القليلة المتاحة للبقاء على قيد الحياة، ثم أعادوا بناء مجتمع صغير بتصميم وطريقة وقوة حيوية تستحق الإعجاب"، وبفعلهم هذا، استعادوا كرامتهم وإنسانيتهم، في تحد تقريبًا لأولئك الذين حرموهم"

بعد أن تم إنقاذهم، أعاد تروملين النساء إلى إيل دو فرانس، حيث تم الترحيب بهن من قبل وكيل الجزر الفرنسية، جاك ميلارد. أعلنهم أفرادًا أحرارًا وعرض عليهم العودة إلى مدغشقر. رفضت النساء قائلات إنهن سيُعادُن إلى العبودية. وبدلاً من ذلك، عاشوا حياتهم في إيل دو فرانس.

تعاطف ميلارد مع الطفل الصغير ووالدته التي تدعى تساسيافو. وعرض عليهما أن يأخذهما إلى منزله، مع والدة تساسيافو المسنة، والتي كانت أيضًا من بين الناجين. لقد عمد الطفل جاك مويز. عُمدت تساسيافو بإيفا ووالدتها دوفين. بينما  قدم لهم صدقته وحريتهم، جردهم ميلارد من أسمائهم وماضيهم.

ومما يزيد الأمر مأساوية أن تساسيافو كان الوحيد من بين 200 عبد الذين ساروا إلى لوتيل والذي بقي اسمه في كتب التاريخ. وفي هذه الأثناء، أصبحت الجزيرة تعرف باسم جزيرة تروملين، نسبة إلى القبطان الذي قاد مهمة الإنقاذ، وليس على اسم سكانها الشجعان والصامدين. أما إذا كان الناجون قد أطلقوا على منزلهم الجديد اسمًا فيظل لغزًا.

لحسن الحظ، يساعد ماكس جيروت وفريقه من علماء الآثار في الكشف عن ذاكرتهم من الرمال. وفي عام 2012، أقامت الحكومة الفرنسية احتفالًا صغيرًا على الجزيرة وأقامت لوحة تذكارية للمالغشيين المهجورين. وفي الوقت نفسه، فإن مرساة سفينة  L’Utile الصدئة، التي لا تزال تبرز من بين الأمواج، تذكر جميع الزوار بالمأساة التي حدثت هناك.

(انتهى)

***

.........................

الكاتبة: إلويز ستارك/ Eloise Stark صحفية مستقلة متخصصة في الأخبار الدولية والقضايا الاجتماعية. إنها شغوفة بصحة المرأة والنسوية المتقاطعة. يمكنك العثور عليها على TwitterEloStark.

رابط المقال على موقع  New Lines Magazine  بتاريخ 22 مارس 2024 :

https://newlinesmag.com/essays/how-an-18th-century-shipwreck-changed-frances-conversation-about-race/

* تكشف قصة العبيد الملغاشيين الذين تركهم البحارة الفرنسيون بعد حطام السفينة L'Utile عن العنصرية العميقة الجذور التي كانت سائدة في المجتمع الفرنسي في القرن الثامن عشر. كانت الصرخة اللاحقة، سواء من الجمهور أو من المثقفين البارزين، بمثابة نقطة تحول في وجهات النظر حول العبودية في فرنسا.

بغداد شباط 1950

جلس الشاب البالغ من العمر ثلاثة وعشرون عاما على مقعد في احدى مقاهي شارع الرشيد، وضع إلى جانبه رزمة فيها مجموعة من الكتب التي سيقرأها خلال الايام القادمة، مجموعة قصص لتشيخوف الذي طالما تترك كتاباته فيه موقفا انسانيا " ربما تشيخوف الكاتب الوحيد الذي اقرأه في عزلة، حيث اشعر بتعاطف كبير مع ابطال قصصه " – مجلة العربي 2002 -، الى جانبه كتاب "مختارات من القصص الانكليزي" ترجمة عبد القادر المازني، احدى روايات دستويفيسكي، رواية وداعا للسلاح لهمنغواي التي قرأ منها فصولا باللغة الانكليزية، كان يمني النفس أن يواصل الكتابة ويصبح قاصا شهيرا مثل همنغواي يطوف العالم ويرفس الوظيفة الحكومية بقدمه . قرأ الكثير من الروايات، البعض منها كانت ترجماتها رديئة، قرر ان يتعلم الانكليزية ليقرأ رواية تولستوي الحرب والسلم التي يصفها بأنها تقدم للقارئ تجربة انسانية فريدة . في غرفته الصغيرة في البيت تصطف روايات غوغول وبوشكين وتورجنيف ودستويفيسكي وستندال وبلزاك وجوزيف كونرد . لم يستسغ تشارلز ديكنز كان يقول لاخيه ان كتبه يخرج منها الكثير من النواح، يعترف بأن شيطانه الادبي اسمه انطوان تشيخوف انه " خيالي وواقعي " كانت قصص تشيخوف تنشر مترجمة بمجلة الرسالة المصرية التي يحرص على شرائها كل اسبوع من مكتبة المثنى . يتأمل في وجوه الجالسين يخرج من جيبه رزمة اوراق شرع يكتب جزءا من قصة خطرت له منذ ايام . لم يختر لها عنوان بعد . كان الليل، شتائيا باردا، والريح خفيفة، امضى اكثر من نصف ساعة يتمشى، فهو على موعد مع السفر إلى بعقوبة حيث مكان عمله الروتيني في المحكمة . سيترك بغداد وضجيجها والاحاسيس المرهفة، ليعود إلى بيته المحاط بسكون بساتين بعقوبة، هناك لا أنيس سوى الكتاب . لم يفكر يوما بأن يصبح كاتبا قصصيا، كان يرى في محاولاته نتاج اخرق لا جدوى منه، إلا ان اللعبة استهوته، فهو دائم القراءة، والكتب التي يقرأها تستفزه، قبل ايام كان قد انهى قراءة رواية " عشيق الليدي تشارلي " للكاتب الانكليزي د. ه. لورنس،عندما انتهى منها ظل يردد مع نفسه انها رواية مكتملة وعظيمة، تصف احاسيس الروح ومخاوفها بلا حدود، لم يكتب احد من قبل بمثل هذه الجرأة . يتذكر انه قرأ في سيرة لورنس معاناته بعد وفاته أمه، وسوف يحتاج الى اشهر حتى يستطيع كتابة سطر واحد، وفي النهاية فعلها لأن الادب لا يتوقف عند حدود الموت .كان لورتس قارئا نهماً قال لكاتب سيرته انه خليط من افكار ماركس ونيتشه وفلوبير وداروين .

كان فؤاد التكرلي في الثالثة من عمرة عندما توفي د.ه.لورنس في الثاني من آذار عام 1930، بعد سنوات سيعثر في مكتبة اخيه نهاد على نسخة من رواية لورنس " ابناء وعشاق " بالانكليزية، يقول التكرلي لم اعرف شيئا عن لورنس حتى نهاية الاربعينيات، في تلك الايام كان ينجذب الى دستويفيسكي أكثر، قال في حوار معه:" شخصيات دستويفيسكي قوية، شبه نارية وذات عواطف حادة جدا، تصل احيانا الى حد الجنون، شخصية الجريمة والعقاب شخصية فذة " – مجلة الاقلام 1986- .

كانت فترة الشباب عظيمة ظل يبحث فيها عن الحب في الكتب، كان الادب هو الطريق الى عالم المرأة . لقد اخذ يقرأ كتابات ستندال وفلوبير وفكتور هيغو، يصف تلك المرحلة بانها مرحلة " ازدهار الادب من حولنا "، في مكتبة كورنيت التي تقع في شارع السعدون يعثر على نسخ قديمة من قصص ه.ج.ويلز، في حوار اجريته معه نشر في صحيفىة العراق عام 1981، قال التكرلي انه وجد في قصص ويلز ان الإنسان يستطيع أن يحقق حياة يوتوبيا، يمكن فيها أن يقهر الجهل والفقر، فيما وجد في روايات ارنست همنغواي بطلا من نوع جديد، يعتمد على قوته الجسمانية وغرائزه " ابتكر همنغواي اسلوبا مناسبا لهذه الصورة الجديدة للانسان " صحيفة العراق 1981 . يعترف التكرلي انه لا يمارس القراءة السريعة، " يجب ان نتفحص الصفحات بأناة تمنحنا متعة خاصة، في صباي كنت التهم الصفحات، لكن فيما بعد ادركت ان الكتاب الجيد يحتاج الى رفقة هادئة " .

عندما التقيت فؤاد التكرلي اول مرة وكان ذلك اثناء عملي في مجلة الثقافة، ارتبطت صورته بذهني بملامح الرجل الانيق، عينان متألقتان، صوت خجول، متفائل وواثق، وبعد ان توثقت علاقتي به واخذت التقيه في المكتبة التي كنت اعمل فيها، كان حديثه اسراً، الافكار فيها الكثير من التشويق والجدة، وعناصر الادهاش واشياء كثيرة لم تكن مألوفة لدي، عندما سالته ذات يوم: هل يتذكر اول كتاب قرأه ؟ .

قال انه كتاب قديم اوراقه صفراء كان ضمن مجموعة كتب يضعها والده في خزنة خشبية قديمة، اراد أن يجرب حظه، لكن الحروف استعصت عليه، ثم لعبتْ الصدفة لعبتها معه في صيف سنة 1939: " كنت في الثانية عشرة من عمري وما أزال غير متماسك تماما، حين فتحت أمامي، على حين غرة، عالم القراءة القصصية الواسع والمذهل والملون. كان ذلك حين جلب أخي نهاد في أحد الأيام، عشرات الأعداد من سلسلة روايات (الجيب) المصرية، ورماها في زاوية من زوايا الغرفة التي كنا نتشارك النوم فيها" . ويضيف:" خلال هذه السنوات كنت اقرأ ما يقترحه عليً شقيقي نهاد، لكنني فيما بعد اخذت اقتني كتب خاصة بي".

في تلك السنة انتقلت عائلته الى بيت جديد في محلة رأس الساقية، في الدار الجديدة يسعى لانشاء مكتبته البيتيه الخاصة التي ضمت اعداد من سلسلة كتابي ومجموعة من روايات الجيب ونسخة من كتاب الف ليلة وليلة، قصص روسية مترجمة، الجزء الاول والثاني من الحرب والسلم التي اصدرتها دار اليقظة العربية ولم يحصل على الاجزاء الباقية، فقرأها فيما بعد باللغة الانكليزية، الاحمر والاسود لستندال، الابلة لدستويفيسكي، مجاميع قصصية، نسخة بالانكليزية من كتاب سارتر الوجودية نزعة انسانية، وقد حصل عليه من شقيقه نهاد، هل قرأ التكرلي سارتر في تلك الفترة؟ سألته ذات يوم؟، قال وهو يبتسم: " الوجودية كنت افهمها كطريقة حياة اكثر منها فلسفة، لم اقرأ الوجودية فلسفة انسانية كاملا، كان اخي نهاد مهووسا بافكار سارتر، كتب عن الوجودية الكثير من المقالات، لكنني قرأت معظم روايات سارتر وقصصه وشغفت بمسرحياته، وجدت انها تلبي طموحي في كتابة مسرحية افكار ومواقف . . لا يمكن ان ننكر ان الوجودية احدثت تغييرا ثقافيا في أواسط القرن العشرين، وأنها منحت المثقف قوة دفع هائلة بإصرارها على الحرية والأصالة".

وبتاثير من سارتر سيجرب كتابة المسرحية، فاصدر "الصخرة واوديب والملك السعيد، ولعبة الاحلام والطوف وزوج السيدة م". وقد اصر على ان يطلق على هذه المسرحيات وصف (حوارية) بدلا من مسرحية مؤكدا ان هذه ليست مسرحيات بالمعنى الحرفي والمتفق عليه للكلمة انها بالاحرى محاولات في الحوار استغلت بعض قابليات المسرح لتقديم الواقع منظورا اليه من وجهة نظرا مختلفة وغير مالوفة قلت له ان سارتر كان يقول ان كل مسرح عظيم يجب ان يقوم على الاختيار المتعلق بالحرية . صمت لدقائق ثم قال بصوت خفيض:" الابطال في نظر سارتر يمارسون حريتهم باسمهم وباسم الانسانية، اما ابطال مسرحياتي فهم يبحثون عن الحرية في مجتمع منغلق، وهم يدركون ان حريتهم مقيدة، ولهذا نجد ان شعورا بالقلق يغزوهم".

من النادر أن نسير في شارع ما، ونكون قادرين على الجزم بأن مؤلفا كان يسير هنا، وان تفاصيل الشارع قد احتفظ لنا بها، نعرف على وجه اليقين ان فؤاد التكرلي استعاد طفولته وصباه في روايته " الرجع البعيد "، ففي زقاق فرعي من ازقة شارع الكيلاني ولد فؤاد التكرلي في الثاني والعشرين من آب عام 1927، وكان اصغر الابناء لرجل تجاوز الستين من عمره:" حين كنتُ طفلا لم أجاوز السادسة من عمري، كان الجزع يتملكني باستمرار وأنا أعايش أبي الذي نيّف على السبعين ونحن نسكن دارا عتيقة جاوز عمرها المائتي عام وهي تتماسك بجدرانها كيلا تسقط على رءوسنا. كنت مسكونا إذن بجزع خفي ذي شقين، الأول خشيتي من فراق أبي الوشيك والثاني شعور بالرهبة من تهاوي دارنا العزيزة، ولم أكن أملك,، آنذاك، أي مرفأ آمن ألجأ إليه كي أتغلب على لوعة الذات هذه، فقد كنتُ على جهل تام بطاقة الإنسان العجيبة تلك المسماة المعرفة، وكنتُ هشا تعيسا" – مجلة العربي الكويتية 2004 -

في المدرسة الابندائية يحاول أن يتتبع خطى شقيقه الأكبر نهاد بقراءة كل ما تقع عليه يداه، وعن طريق نهاد سيتعرف على عالم الرواية والادب:" في سنوات مراهقتي الأولى و حين بلغتُ السادسة عشرة, متجها نحو الشباب والرجولة. كنتُ، في الواقع، مسكونا أو ممسوسا بالروايات "، يكمل دراسته الابتدائية في مدرسة باب الشيخ، وكان احد رفاقه في الصف الاول الشاعر عبد الوهاب البياتي، ينهي دراسته المتوسطة في متوسطة الرصافة وفيها يلتقي بغائب طعمة فرمان المولود عام 1927 ايضا، يكمل الدراسة الاعدادية عام 1945، في هذه المرحلة يقرأ عددا من الروايات كان ابرزها رواية " سانين او ابن الطبيعة " للكاتب الروسي ميخائيل أرتزيباشيف بترجمة ابراهيم المازني، ستلعب هذه الرواية دورا كبيرا في حياته، وسنجد صداها على لسان توفيق بطل رواية التكرلي المسرات والاوجاع حيث يتكرر ذكرها اكثر من مرة، وبرغم ان توفيق يتحدث عن روايات اخرى الى ان سانين تركت اثرا عميقا في روحه:" في شهر حزيران حين كانت تتجمع هموم الامتحان المقبل وبدايات الحر، قرأ بالصدفة رواية ضخمة مترجمة عن الادب الروسي، وجد عنوانها مكتوبا بقلم رصاص على صفحة البداية (سانين أو ابن الطبيعة) ولم يعرف أسم مؤلفها أو مترجمها بسبب تمزق غلافيها الداخلي والخارجي، استحوذت عليه النهار كله . أنهاها والليل في بدايته وأهله نيام والدار ساكنة . شعر، جالسا بذهول في فراشه .أن امرا ما، عظيما ومرعباً، تكشف له عبر هذه الصفحات التي تبعث على الجنون والهياج والتمرد والرغبة الصادقة بضرب الرأس بالحائط . كأن ناراً مقدسة تناوشت روحه فألهبتها واهاجت فيه االعواطف والغرائز، لم يعد يحتمل جدران غرفته " – المسرات والاوجاع، ونرى توفيق يعود مرة اخرى الى رواية سانين حين يكتب في دفتر مذكراته انه قرأ الغريب لألبير كامو التي لم تعجبه، ولكنه يقول أن هناك عنصراً يجمع بين سانين " الساكن في روحي " وبين " ميرسو" بطل الغريب ويضيف:" غير ان سانين أكثر حيوية وإنسانية واقدر على الاقناع من الثاني "

سألت التكرلي ذات يوم اي من شخصيات رواياته تشبهه، ابتسم وهو يقول ان القارئ دائما ما يرسم صورة للمؤلف مستمدة من احد ابطال رواياته . ولعل قرّاء الوجه الآخر والرجع البعيد والمسرات والأوجاع وخاتم الرمل وعشرات القصص، قد رسموا صورة لشخصية فؤاد التكرلي مأخوذة من بعض أبطال رواياته، فمنهم من يعتقد أن فؤاد التكرلي قريب الشبه بمحمد جعفر بطل الوجه الآخر رغم أن التكرلي قال لنا أكثر من مرة: إن بطل روايته هذه جبان ولا اخلاقي، فهو لا يواجه القيم الاجتماعية المتعارف عليها، بل ينساق معها ضمن حدود اكتساب الراحة والأمان، وآخرون يعتقدون ان ملامحه قريبة من شخصية مدحت في الرجع البعيد صاحب العاطفة الملتهبة . والبعض يقول، إنه توفيق بطل المسرات والأوجاع، فالاثنان درسا القانون في كلية الحقوق في بغداد، وتخرجا ليتم تعيينهما بدرجة ملاحظ في إحدى الوزارات .. كل القراء والنقاد يقطعون بأن فؤاد التكرلي وضع صورته في أكثر من عمل قصصي، ويخبرنا صاحب موسوعة الأدب القصصي في العراق الراحل عبد الإله أحمد أن التكرلي لغز لا يمكن حله، لأنه كتوم يحرص على ألا يكشف شيئا عن حياته الخاصة. فالكاتب الذي يمارس جرأة متناهية على الورق، نجده في الحياة لا يجيد تقديم نفسه، فهو خجول، متواضع، اذا تحدث فكأنما يهمس . قلت له لكن توفيق يشبهك في هوسك بالقراءة .قال لي:" ربما تتعجب إذا قلت لم انا قارئ انتقائي، لا يمكن ان تطلق عليّ لقب قارئ كبير، لكني قارئ، مدرك، واع " . وحين تطرق الحديث عن قراءت توفيق الزاخرة في المسرات والاوجاع، قال التكرلي:هناك اعمال روائية تاثرت بها ومنها رواية سانين التي حصلت عليها من صديقي عبد الملك نوري واتذكر انني اعدت قرائتها اكثر من مرة:" حسدت سانين، كما هي عادتي في كل مرة لإدراكه ويقينه وسيطرته على ذاته وجرأته وصفاته الأخرى التي جعلت منه انسانا عاديا واسطوريا في نفس الوقت، ولكم تحسرت ان تنهي الصفحة الاخيرة وأن اضطر الى مفارقة هذا المخلوق وهو يقفز من القطار، تاركاً هذا يمضي بدونه إلى افق مجهول " – المسرات والاوجاع -

كان مستقبل الشاب فؤاد التكرلي قد حُدد بعد حصوله على الشهادة الثانوية، فاشقائه الثلاثة دخلوا سلك القضاء واصبح اخيه الاكبر مصطفى من كبار القضاة في المحاكم العراقية، قررت العائلة ان يدخل كلية الحقوق التي تحرج منها عام 1949، ليعين موظفا عدليا في محكمة بداءة بعقوبة. عاش في هذه المدينة اربعةأعوام، قال انها تركت اثرا لا يستهان في تطوره الفكري، تفرغ فيها للقراءة، قرأ اعمال تولستوي وشغف بآنا كارنينا:" كنت وما ازال اتذكر مشهد بطلة تولستوي آنا وهي تقرأ في القطار احدى الروايات، كان هذا المشهد يستفز القارئ في داخلي ". يقول التكرلي صادفت رواية آنا كارنينا وانا في مرحلة التكوين، يتذكر انه حصل عليها من بائع للكتب القديمة في شارع الرشيد، كان تولستوي قد توصل الى استنتاج مفاده ان آنا كارنينا عرضت عليه كيف يجب ان يعيش: انه لا يريد ان يكون الشخص الذي كتب روايات مسلية ومعقدة . ولهذا نجده في سنواته الاخيرة بدلا من ان يكون سعيدا، اصبح غير سعيد . ولعل الرسالة الاخيرة التي ارادت ان توصلها لنا " آنا " انه يجب علينا البحث عن المعنى الذي تقف وراءه الحياة .. قال التكرلي ان آنا كارنينا جهاد نفس تبحث باستمرار عن حقيقة الحياة " . كان توفيق بطل رواية المسرات والاوجاع مغرما بتولستوي ودستوفسكي.. ويعترف فؤاد التكرلي في احدى حواراته ان توفيق يمثل مرحلة شغفه الاول بالقراءة، فيما بعد سيتحول اهتمامه الى مارسيل بروست ويواصل الاعجاب بفلوبير الذي يقول:" عنده كل شيء منظم بدقة "

عام 1949 يرتبط بصديق عمره عبد الملك نوري الذي سيفتح امامه افاق جديدة للقراءة، يقرأ يوليسيس فيُخبر عبد الملك نوري ان بها متاهات فنيه، وانه يفضل البحث عن الزمن المفقود عليها، يتجه لقراءة اعمال وليام فوكنر التي يشعر بنشوة غريبة معها، يشعر التكرلي باسف ان كتب قليلة فقط من فترة شبابه رحلت معه الى تونس التي عاش فيها سنواته الاخيرة، لقد تنقل ما بين بغداد وبعقوبة وباريس وتونس.

طالت إقامته في بعقوبة حوالي أربع سنوات، كانت بالنسبة له سنوات عزلة وقراءة، تفرغ خلالها لقراءة كل ما يتعلق بالفن الروائي " كنت ابحث عن وسائل مجدية للوصول إلى التعبير الأدبي الفني الصحيح " كانت بعقوبة مدينة موحشة ينتظر هو وشقيقه نهاد حلول يوم الخميس ليسافرا الى بغداد للقاء صديقي العمر عبد الملك نوري وعبد الوهاب البياتي. كان الاصدقاء الاربعة يلتقون في مقهى السويسرية بشارع الرشيد، وغالبا ما يفاجأهم عبد الملك نوري وهو يحمل كتبا جديدة:" اتذكر ان نقاشا دار بييننا حول رواية غاتسبي العظيم لفيتزجيرالد التي كان عبد الملك مغرما بها، وشجع صديقه نجيب المانع على ترجمتها " – كجريدة العراق 1981 - .

انتقل عام 1953 الى بغداد ليستقر فيها ويواصل عمله في القضاء يسافر الى باريس عام 1966 لدراسة القانون، تصدر مجموعته القصصية الاولى " الوجه الآخر عام 1960، حيث نلتقي بمحمد جعفر في الوجه الآخر شخص يكتشف اته خارج المجتمع، جبان، اناني، يحب ذاته ولا يهمه الآخرين ويعتبر نفسه قادرا على المساعدة والتعاطف، والتكرلي يطرح السؤال هل محمد جعفر اناني الى حد عدم استطاعته مساعدة زوجته، ام انه يحاول ان يختار حياته على طريقته الخاصة .. كان محمد جعفر يريد ان يعيش ويغيش فقط .

في باريس يكرس وقته لكتابة الرجع البعيد، والاطلاع على الادب الفرنسي اعاد قراءة مدام بوفاري من جديد، وتابع صرعة الرواية الجديدة التي ظهرت على يد كلود سيمون وناتالي ساروت ومارغريت دوراس، يواصل كتابة الرجع البعيد اكثر من 10 سنوات ليكملها عام 1977، تواجه الرواية برفض الرقيب في العراق الذي طالب بحذف بعض الشخصيات في الرواية وإجراء تغيير في حوادثها، فيقرر نشرها في بيروت لتصدر عام 1980.

تقدم لنا الرجع البعيد مسرحا غريبا ابتداءً من باحة البيت الذي تتجمع فيه العائلة اثناء المساء وهم يلفظون شكواهم ولعناتهم .. لكن الرواية تاخذنا ايضا الى مكان آخر يكشف لنا العبث المأساوي الذي يفتك في المجتمع، ويحدد مصائر الابطال، فمدحت الذي يحاول ان يبتعد وأن يغادر " هذه الخرائب " كما يسميها، تبقى محاولته مجرد وهم ينتهي بموت عبثي عندما يصيبه رصاص الانقلابيين .

وانت تقرأ الرجع البعيد ستسمع حتما ايقاع الصخب والعنف عند وليام فوكنر، وتستعيد هذيانات بنجي كلما قرأت ما يقوله حسين، وستجد ان مدحت يشبه كونتين فكلاهما تعذب من اجل قيم ورثها عن طبقته وبيئته الاجتماعية، وهو لا يستطيع التخلص منها .

كانت هي رؤية فؤاد التكرلي التي أتاحت له سفرا دائما نحو الحرية . وأتاحت لقرائه قدرة مواجهة العالم المحيط بهم، ولذا نجد التكرلي حين يتحدث عن الرواية في تنظيراته لها، كما لو أنه يتحدث عن عينين تبصران في الظلمة، كاشفا لنا عن تصوره للرواية وهو يتحدث بحميمية عن هذا الفن:" ملايين الصفحات من الكتابة الروائية على مدى العصور تعبر عن ذواتها وتفصح عن طويات نفوسها وتبثّ أحزانها وأفراحها وتعلن عن أفكارها ومشاريعها وشكوكها .. أي أنها تمارس عملية بوح مستمرة، عملية البوح هذه جعلت روائيا مثل وليم فوكنر يكرّس حياته ليخرج للعالم روايات عجيبة وغريبة تجيب على سؤال: من نحن؟" . بين باريس وبغداد يقضي فؤاد التكرلي سنوات الثمانينيات، يعود الى بغداد عام 1991، لينقل مكتبته الكبيرة الى بيت صديقه الروائي عيسى مهدي الصقر، فالبيت الذي ظل يسكنه لاكثر من ثلاثين عاما في المنصور معروض للبيع، يتذكر ان الكتب:" شغلت عدة غرف في دار الصديق الصقر، الذي لم ينفد صبره ولا كرمه لمدة عشر سنوات ونيف"، ينظر بأسى الى مكتبته التي جمعهاعلى مدى " 50 " عاما، يعترف ان الكتب كانت بالنسبة له افضل صدبق، وقد كانت علاقته مع الكتب " طيبة على الدوام " لكنه سيضطر عام 2003 لبيع المكتبة وتسنى له:" أن أشهد بمرارة ما جمعته طوال خمسين سنة، مرميا على أرض شارع (المتنبي)، يُباع بسعر التراب " .

قال لي ذات مرة ان العيش المتواصل مع القراءة اشبه بمغامرة تلتقي خلالها بأناس ربما لا يشاركونك همومك، لكنك تتقاسم معهم تجربة الحياة

العام 1995 يصدر روايته " خاتم الرمل " لكنه ظل مسكونا بفكرة " كيف يُداس إنسان حساس من قبل مجتمعه ومن قبل أقرب الناس إليه " . ولدت فكرة المسرات والاوجاع:" لقد ابتلعتني فكرة الرواية فانكببت أعمل فيها يوميا، على غير عادتي، وبشكل منتظم وممتع, حتى أكملتها في أقل من سنة وهو وقت قياسي بالنسبة لي"، كان يريد ان يكتب ملحمة شبيهة بملحمة مارسيل بروست البحث عن الزمن المفقود . قال لي التكرلي في الحوار المةسع الذي أجريته: هل تعرف ما معنى كتابة رواية رديئة، يقول مارسيل بروست لصديقه مورياك: " إنه الابتداء بموضوع كبير، على أمل ان ينتج هذا في النهاية المشتقات الضرورية من الشخصيات والحوار..لأن تفكيراً كهذا يؤدي إلى رواية رديئة حين يتجاهل الكاتب الأشياء الصغيرة وتوافه الحياة في سبيل ملاحقة التفاصيل المنطقية لفكرته الكبيرة "

تصدر المسرات والاوجاع عام 1998، قال انه شعر بفراغ كبير بعد الانتهاء:" حالما أنتهي من إنجاز عمل روائي كبير نسبيا، أحاول إعادة الصخب إلى نفسي عن طريق القراءة " .. يكتب فؤاد التكرلي:" الكتاب عليهم ان يصنعوا المستقبل دون انتظار لشهرة أو مال، وليس لهم أن يسألوا: ما جدوى كل هذا ؟ أن عملهم هو الثواب .اما الباقي فلتجار الحروف " – مجلة الاداب آب 1973

اربيل نهاية نيسان عام 2007

سالتقي بفؤاد التكرلي المرة الاخيرة، كانت صحته هي أول ما سألته عنها فغمغم بما جعلني أتوجس بأنه ينتظر النهاية التي حاول محبوه وأصدقاؤه الفرار من توقعاتها المقبضة .. كنت أنظر إليه وهو يكاد يجرّ قدميه، وقد هزل جسمه إلى درجة لافتة،، في ذلك اليوم ابتسم لي وهو يسألني:هل قرات "الأوجاع والمسرات "؟ . كنت قد قرأت الرواية منذ سنوات وهالني قدرة الروائي على تصوير الأحداث .. حتى أنني قلت له: في المسرات والأوجاع كنتَ تصوّر لا تكتب .. علت وجهه ابتسامة شاحبة .. سرعان ما اختفت عندما بدأنا نتحدث عن الرواية قلت له: بطل الرواية توفيق كان مغرما بتولستوي ودستوفسكي وبالادب الروسي بوجه خاص .. فيما أنا كنت أتصور أنك مغرم بفوكنر ومارسيل بروست، صمت قليلا ثم تحدث ببطء شديد قائلاً: وأنا في تونس أعدت قراءة تولستوي بشكل خاص فاكتشفت أن تخطيط الرواية عنده في الحرب والسلم غير منظم ولا متسق، قد تجد عشرات الصفحات في الرواية تنفق في وصف شخصية من الشخصيات وصفا دقيقا، في حين أنك لا تجد هذا عند مارسيل بروست أو فلوبير حيث عندهم كل شيء منظم بدقة وليس له طول، يذكرك بالسهول الروسية الواسعة

كان التكرلي يتحدث وهو يراقب ما يدور حوله.. يصمت قليلا ثم يتحدث بهمس " كنت كلما أجلس قرب والدي الشيخ ممسكا بكفه ذات العروق الزرقاء البارزة، أحس بقدوم الغياب قبل وقوعه، مما جعلني وأنا في سن الطفولة تلك أتشبث بالأشخاص والأشياء إلى النهاية .. ثم سرح وكأنه يتأمل عالما يضجّ بالأشخاص، يسألهم عن أحلامهم، يصغي إلى آلامهم وحكاياتهم، ويترفق بهمومهم وعذاباتهم، ويحضر أفراحهم.

في 11 شباط 2008،وفي غروب لا يشبه غروب بغداد التي عشقها ..وفي لحظة تتداعت فيها الأمكنة والأزمنة ينهي فؤاد التكرلي الفصل الأخير من رواية حياته، وهو على سرير المرض في مدينة عمان الاردنية، نهاية تشبه السطور الاخيرة من الرجع البعيد:" حين تبدأ الخاتمة . وكنت هادئ النفس كمن خُدر، لا أرى شيئا أمامي .شاعراً أني قد استطيع، أن أدرك معنى الانتهاء "

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

كنت، وبشكل مبكر في حياتي، شغوفاً بالقراءة. اقرأ بنهم شديد كل أنواع الكتب التي أعثر عليها. في تلك الأيام البعيدة، وأنا في الرابع الإعدادي، عثرت في أحد رفوف (المكتبة الحسينيّة) في مدينتي السماوة، على كتاب صغير الحجم بعنوان (قلعة الموت)، لا أتذكر حاليا اسم كاتبه، لكنني ظننت أنه قصة مغامرات بوليسية، فهناك (قلعة) حيث الأسرار، وأيضا (الموت) حيث التحديات والمطاردات! فمثل أبناء جيلي كنت مسكونا ـ وما زلت ـ بقصص أجاثا كريستي، وللمفارقة أن رواية لي صدرت عام 2022، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، في القاهرة، عنوانها (جريمة لم تكتبها اجاثا كريستي (!

مع قراءة أول الصفحات، من ذلك الكتاب، الذي ظننه قصة بوليسية، جعلتني أعيد قراءة العنوان من جديد لأفهم ان الناشر أرتكب خطأ إملائياً وأني قرأته وفهمته بشكل خاطئ، فالعنوان يجب ان يكون (قلعة آلموت)، يومها تعرفت على حسن الصباح وفرقة الحشاشين، كفرقة إسلامية باطنية، اشتهرت بتنفيذ عمليات اغتيالات شخصيات مرموقة في تلك المرحلة، وقادني ذلك الى البحث عن مصادر أخرى، لأتابع ليس هذه الفرقة وحدها، بل والعديد من الفرق والجماعات الإسلامية، التي عارضت الظلم والطغيان ودعت للعدالة الاجتماعية، وبعضها حمل السلاح بوجه الأنظمة القمعيّة.

قادني كتاب (قلعة آلموت) الى قراءة كتب اخرى في نقد الفكر الديني، عالقا منها في بالي كتاب (اليمين واليسار في الإسلام) للدكتور احمد عباس صالح، وايضا كتاب (الحركات السريَّة في الإسلام) تأليف الدكتور محمد إسماعيل، الذي اعتز كوني حاليا أملك في مكتبتي الشخصية، نسخة من طبعته الأولى، بورق أسمر مهترئ، صادرة عن دار القلم في بيروت، عام 1973، قدمها كهدية صديق فلسطيني عزيز بعدما لاحظ تعلقي بالكتاب الذي ـ كان ومازال ـ يثير في البال الكثير من الذكريات والشجون.بعد ذلك جاءت قراءات في كتب من تأليف حسين مروة وأيضا صادق جلال العظم وآخرين. وهكذا فإن ذلك الكتيب الصغير عن الحشاشين وقلعتهم الغامضة كان حافزا كبيرا لي، ومفتاحا لباب من المعرفة ربما ظل موصدا لولا عثوري عليه.

يعرض حالياً في عدة قنوات تلفزيونية، ضمن موسم شهر رمضان، مسلسل (الحشاشون) إنتاج الشركة المتحدة للخدمات الإعلاميّة المصريّة، من تأليف عبد الرحيم كمال وإخراج بيتر ميمي ويقوم بدور حسن الصباح الممثل المصري كريم عبد العزيز. لاقى المسلسل إقبالا كبيرا وآراء متعارضة في المدح والذم. وغصت وسائل التواصل الاجتماعي بالعشرات من الكتابات التي تبحث عن ثغرات في العمل، وكشف سقطات تاريخية وعدم دقة في الاحداث قد يكون وقع فيها. يعد العمل انتاجا ضخما متميزا في طريقة تصويره وبناء ديكوراته واختيار أماكن تصوير تاريخية في ثلاث قارات، حسب تصريحات مخرج العمل، في دول منها مصر، لبنان، سوريا، المغرب، مالطا وكازاخستان، حيث القلاع التاريخية. لام العديد من المتابعين صناع المسلسل على عدم الالتزام بالدقة التاريخية في الديكورات، فبعض القلاع التي تم التصوير فيها تعود الى العهد المملوكي وهي فترة لاحقة بقرون عديدة على الفترة الزمنية التي ظهر فيها الحشاشون. ولام آخرون إسناد المسلسل اسم الجماعة لاستخدامهم مخدر الحشيشة لتجنيد الاتباع، وطرحوا تفسيرات أخرى للاسم، منها اضطرارهم لأكل حشيش الارض، ليبقوا على قيد الحياة، حين حاصرتهم جيوش السلاجقة. وآخرين وجدوا في المسلسل، ما سموه، الربط التعسفي بين فرقة الحشاشين وجماعة الاخوان المسلمين، كما تريد جهات أمنية ترتبط بشركة الإنتاج. وهناك العديد من الآراء التي تشيد بالمسلسل من ناحية جهد الإنتاج والأسلوب المتميز في الإخراج ومستوى التمثيل وتجسيد الشخصيات.

المعروف ان هناك العديد من المؤلفات التي تناولت جماعة الحشاشين، كطائفة شيعية إسماعيلية نزارية باطنية، لكن اغلبها تستند الى روايات غير موثقة، ربما أشهرها وأكثرها عرضة للتشكيك، هي رواية الرحالة والتاجر الإيطالي ماركو بولو (1254ــ 1324م)، الذي يعتبر اول من كتب عنهم في القرن الثالث عشر الميلادي وأطلق لقب (شيخ الجبل) على حسن الصباح في كتابه (رحلات ماركو بولو)، ولكن روايته استندت الى السماع ولم يلتقهم ولم يزر قلعتهم، فروايته عنهم أساسا غير دقيقة وغير منصفة الى حد ما.  وبما ان كتب الحركات المعارضة في تاريخ الإسلام عموما أحرقت وابيدت على يد خصومهم، كما يشير الى ذلك الدكتور محمود إسماعيل، فإن أغلب ما وصلنا عن الحركات المعارضة كان مزيفا ومشوها وفيه الكثير من الافتراءات وعدم الدقة، فالتاريخ كتبه مؤرخو الملوك ـ على حد قول منسوب لابن عربي ـ، هكذا فإن كل ما وصلنا عن الخوراج، القرامطة، المرجئة ومثلهم الحشاشون، وغيرهم من الفرق والجماعات، لم يكن دقيقا وحمل وجهات نظر القوى الحاكمة. وهذا معناه ان الحكاية التي يقدمها مسلسل "الحشاشون"، استندت الى مصادر أساساً غير دقيقة، وتحتمل الكثير من الجدل. لا يغيب عن بالي كمتابع وقارئ، بأن مسلسل "الحشاشون" التلفزيوني، ليس فيلما وثائقيا، بل يقدم قصة خيالية، تحتمل اجتهاد فريق العمل، كاتب ومخرج، في خلق شخصيات درامية واحداث تنفع في خلق التشويق لجذب المشاهدين للمتابعة، لكن خطورة الامر تكمن في ان المسلسلات التلفزيونية التي تتناول أحداثا تاريخية، تسهم في إعادة كتابة التاريخ من خلال الرؤية السياسية والطائفية لمنتج العمل أساسا والذي دفع الأموال الطائلة من اجل اهداف محددة. يترافق هذا مع هبوط عام في مستوى تداول وقراءة الكتاب في عموم الوطن العربي، حيث صارت الفضائيات هي مصدر المعلومات لدى غالبية عموم الشعوب العربية التي ترتفع فيها نسبة الأميَّة بشكل مخيف، من هنا فإن ما يقدمه التلفزيون من قراءات للتاريخ تكون هي المرجع لدى الكثير من المشاهدين، ولا يخرج مسلسل "الحشاشون" عن هذا المنحى.

في البال ما حصل قبل سنوات ليست بعيدة، حين وجدت نفسي طرفا في نقاش حول شخصية صلاح الدين الايوبي. في روايتي (تحت سماء القطب) صدرت عام 2010 عن دار موكرياني في أربيل، إحدى شخصيات الرواية، وهو مدرس تاريخ، عرض صلاح الدين كونه قائدا إسلاميا، طائفيا، ورجال مخابراته (البصاصين) يحصون أنفاس معارضيه، الذين غصت بهم سجونه، وأحرق المكتبة الفاطمية في مصر، تحديداً مكتبة دار الحكمة التي تحوي أمهات الكتب وعشرات الوثائق والمخطوطات المهمة، وأيضا أمر بقتل المفكر أبو الفتوح السُّهْرَوَرْدي، بناء على مطالبة فقهاء حلب الذين وجدوه يفكر بشكل مختلف فاِتّهموه بتبني أفكار القرامطة، وكان العالم الزاهد تبنى مذهب الإشراق الذي يقوم في جملته على أن مصدر الكون هو النور، محاولاً تفسير الوجود ونشأة الكون والإنسان. يذكر أن السُّهْرَوَرْدي القتيل، إسماعيلي العقيدة، وكان في شبابه داعية للفرقة النزارية، مثل حسن الصباح، الذي فشلت محاولته لاغتيال صلاح الدين الايوبي قرب مدينة حلب وتمكن فدائيوه من قتل العديد من الأمراء، ولكن صلاح الدين نفسه لم يصب سوى بجروح بسيطة بفضل الدروع التي كان يرتديها. في ذلك النقاش، عن صلاح الدين الايوبي، اعترض على وجهات نظري أحد الحاضرين، وحين سألته عن مصدر معلوماته، قال بثقة: المسلسل التلفزيوني!

***

يوسف أبو الفوز – أديب وكاتب

بقلم : أناندي ميشرا

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لقد نشأت على رؤية اللغة الإنجليزية أكثر طموحًا وتعليمًا من اللغة الهندية، لكنني الآن أعاني من ثقل تراثها

عندما بدأت بتدوين مذكراتي في الثانية عشرة من عمري، كانت باللغة الإنجليزية. كانت الصحف اليومية التي نقرأها في المنزل باللغة الهندية، ولكن لتعزيز فهم أفضل وتعلم أسرع للغة، اشترك والدي في صحيفة تجارية  باللغة الإنجليزية يوميًا بالإضافة إلى صحيفة يومية وطنية باللغة الإنجليزية. في المدرسة، تم معاقبتنا بمبلغ ضخم قدره 5 روبيات مقابل كل كلمة يتم التحدث بها باللغة الهندية. عندما كنت في الخامسة من عمري، حصلت على جائزة الأفضل في اللغة الإنجليزية من قبل معلم صفي. وفي الاجتماع اللاحق بين أولياء الأمور والمعلمين، سُئل والدي عن الوصفة وراء نجاحي في اللغة، فأجاب والدي مازحًا: "نحن نتحدث باللغة الإنجليزية في المنزل". لم نفعل ذلك، ولكن بدا الأمر جيدًا.

بالنسبة لعائلتي وأصدقائي وأقاربي ومعلمي، كان يُنظر إلى اللغة الإنجليزية على أنها لغة الوصول. يمكن أن توفر لك وظائف أفضل، وتزيل القيود، وتفتح لك آفاقًا جديدة. كان المتحدثون باللغة الإنجليزية من المتفوقين، وغالبًا ما يتم الخلط بينهم وبين المستعمرين الذين حكمونا لمدة 200 عام تقريبًا. من المثير للسخرية أن لغة مستعمرينا كانت تعتبر طموحة، وهو الأمر الذي يمكن أن ينتشلنا من الانزعاج الذي فرضته علينا وظائف آبائنا المتوسطة. من خلال قراءة جميع المواد باللغة الإنجليزية في المدرسة، أدركنا أن اللغة الإنجليزية هي لغة الفرص. فأبناء عمومتي الذين درسوا في المدارس الهندية لم تكن لديهم كل الفرص المتاحة لي.

ممزقة بين هذين العالمين، وجدت الحب الصدفة في اللغة التي فُرضت عليّ.

ممزقة بين هذين العالمين، وجدت الحب الصدفة في اللغة التي فُرضت عليّ. منذ أن كنت في السادسة أو السابعة من عمري بدأت طوعًا، التوجه دون وعي نحو القراءة والكتابة باللغة الإنجليزية. في شهر أبريل من كل عام كنا نحصل على كتب جديدة للصف التالي. كنت أغطيها بورق بني، وأثبت الزوايا الأربع بإحكام، ثم أغوص في القصص بداخلها.

بعد امتحانات نهاية الفصل الدراسي في شهر مارس، كنا نحصل على استراحة قصيرة لمدة عشرة أيام قبل بدء الدورة الجديدة. خلال هذه الاستراحة سنقوم بشراء كتب ودفاتر جديدة وإعداد الزي المدرسي والحقائب للدورة الجديدة. بحلول نهاية الأسبوع الذي سبق إعادة فتح المدرسة، كنت قد انتهيت من قراءة جميع القصص القصيرة في الكتب الدراسية للغة الإنجليزية والهندية. كطفل انطوائي يميل إلى القراءة في أكوام دائمًا تقريبًا بمفرده، كنت أستمر بعد ذلك في الاحتفاظ بدفتر يسمى "النسخة الأولية" وأقوم بتدوين جميع الأفكار التي كانت لدي بعد قراءة تلك القصص. اخترت أن أكتبها باللغة الإنجليزية لإبقاء والدي يعتقدان أنني أفعل شيئًا ذا قيمة وأهمية ويتعلق بالمدرسة. في الواقع، كنت انجرف بشكل لا شعوري إلى ثقافة القراءة ذاتية التنظيم بلغة المستعمرين.

كان عام 2020 المليء بالتحديات أيضًا هو العام الذي بدأت فيه نشر المقالات الواقعية. عندما انتقلت من الكتابة لنفسي إلى الكتابة الاحترافية، كانت لغة النشر التي اخترتها هي الإنجليزية. لقد عملت كمراسل للعديد من الصحف اليومية الوطنية الإنجليزية من قبل، لكن هذه الكتابة كانت لنفسي وحدي. لم يكن الأمر مفاجأة بالنسبة لي. خلال السنوات الخمس الماضية حاولت إعادة بناء علاقتي مع الهندية. اشتريت كتبًا وقرأتها وإن كان ذلك ببطء شديد. كنت أكتب أحيانًا باللغة الهندية أيضًا. عندما كان المزاج يتحسن، كنت أكتب رسائل بخط الديفانجيري للأصدقاء والعائلة، وخاصة والدتي على تطبيق الواتساب. حاولت جاهدة أن أقرأ وأعيد قراءة كتاب الأدب الهندي الذين كبرت وأنا أقرأهم، لإشعال شرارة حيث كان هناك موت طويل للغاية. ورغم كل ذلك، ظللت أتخلف عن الركب. بطريقة أو بأخرى، قد أفقد صبري، أو أماطل، أو ببساطة أفقد الاهتمام وأؤجل القراءة أو الكتابة باللغة الهندية إلى يوم آخر.

كان تعلم اللغة الإنجليزية يعادل التطلعات والطموح والمحاولة الجادة.

في أبريل 2020، عندما نُشرت مقالتي الشخصية الأولى، وجدت نفسي في طريق مسدود. واجهتني معضلة: لماذا كنت أكتب باللغة الإنجليزية؟ كلما حاولت التفكير في الأمر أكثر، كلما استعصت علي الإجابة. ومرة أخرى جلست خلال فترات بعد الظهر الطويلة أشاهد مقابلات مع كتاب باللغة الهندية على موقع يوتيوب. لم يكن فهم اللغة يمثل مشكلة، لكنني نشأت على التفكير في اللغة الهندية كأداة عفا عليها الزمن. إن معرفة اللغة الهندية وحدها لم تضمن مهنة عظيمة. الوظائف الحكومية الباهتة، وفرص التدريس في قلب البلاد، ومجموعة من السبل المحدودة الأخرى ستكون متاحة للأشخاص الذين لا يعرفون اللغة الإنجليزية. كان تعلمها بمثابة الطموح والطموح والسعي. عندما كنا أطفالًا، كنت وأخي غالبًا ما يتم تقديمنا أمام الأقارب وأصدقاء العائلة لتلاوة قصيدة باللغة الإنجليزية، أو مجرد قراءة مقطع من مسرحية شكسبير. في ذلك الوقت، كان ذلك علامة على الاحترام والرقي والارتقاء. لكن على المستوى الشخصي، كانت اللغة الإنجليزية تعني الابتعاد عن حياتي اليومية، مكانًا يمكنني أن أختبئ فيه وأكون بمفردي أقرأ وأكتب وأتواجد.

وكان للغة الإنجليزية تعويذاتها الخاصة. في المستوى الخامس، أخبرتنا معلمة اللغة الإنجليزية بريانكا جولاتي، وهو فصل مليء بحوالي 47 طفلاً، أن أفضل صديق لأي طالب هو القاموس. لقد أدلت بهذه الملاحظة خصيصًا للغة الإنجليزية، مما جعلني أفكر في اللغة بطريقة جديدة أخرى. على الرغم من أنه كان لدينا قاموس من الهندية إلى الإنجليزية في المنزل، إلا أن الحصول على قاموس من الإنجليزية إلى الإنجليزية أثار اهتمامي. لقد زاد من حصيلة  مفرداتي، ومنحني المزيد من الوقت وأظهر لي الطرق التي يمكن من خلالها استخدام اللغة. كان ذلك منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، وأتذكر أن تلك الكلمات تبلورت في أعماق ذهني. ومنذ ذلك الحين، وحتى ما يقرب من خمس سنوات، كنت أشتري بين الحين والآخر قاموسًا صغيرًا للغة الإنجليزية، أحتفظ به في جيب ملابسي، أو في الحقيبة الصغيرة التي أحملها دائمًا. قلم رصاص وقاموس ودفتر ملاحظات - هذه الأشياء الثلاثة  رافقتني إلى دائما خلال تنقلاتي المهنية الثلاث الكبرى عبر سبع مدن في بلدين.

كلما جلست وفي يدي كتاب قصص باللغة الإنجليزية، أو صحيفة باللغة الإنجليزية، أقرأه، كانت تلك الأدوات - قلم رصاص، ودفتر ملاحظات، وقاموس - هي حصن حمايتي الصغير. لقد فتحت اللغة لي آفاقاً كانت جذابة. لقد كانت أماكن أكثر سعادة وأخف وزنا من الفرح والشتاء وتساقط الثلوج وأزهار النرجس البري. أصبحت القصص القصيرة لكاثرين مانسفيلد وأنطون تشيكوف وليو تولستوي وجي دي موباسان باللغة الإنجليزية، بوابة إلى مكان جديد أكثر ثراءً لم أكن أكتفي بمجرد زائر له. كانت القصة القصيرة للكاتب البنغالي رابندراناث طاغور "مدير مكتب البريد" تجذبني لأن التفاصيل باللغة الإنجليزية جعلتني منبهرة . كان من المثير اكتشاف إمكانية الكتابة عن مكان ما في الهند بلغة أجنبية (الإنجليزية) بطريقة كانت متاحة لي. وبالمثل، شعرت بالانجذاب في كل مرة أقرأ فيها شيئًا باللغة الإنجليزية، وأدركت أن تجربتي في اللغة الهندية يمكن ترجمتها وكتابتها باللغة الإنجليزية ليقرأها أي شخص.

لقد نشأت وأنا أتحدث الفرنسية، ولم أبدأ في تعلم اللغة الإنجليزية حتى بلغت السابعة من عمري تقريبًا. وحتى بعد ذلك، ظلت اللغة الفرنسية هي اللغة التي أتحدث بها في المنزل مع والدي. (ما زلت أتحدث معهم الفرنسية فقط حتى يومنا هذا). هذه الحقيقة تؤثر حتما على تذكري واستحضار طفولتي، لأنني أكتب وأفكر في المقام الأول باللغة الإنجليزية. هناك حالات ذهنية، وحتى الأشخاص والأحداث، يبدو أنه يتعذر الوصول إليها في اللغة الإنجليزية، حيث يتم تحديدها من خلال طبيعة اللغة التي أدركتها من خلالها. لقد تبين أن لغتي الثانية هي أداتي الرئيسية، وسيلتي لكسب العيش، وهي قريبة من جوهر تعريفي لذاتي. ومع ذلك، فإن لغتي الأولى ملتفة في الأسفل، وتحكم عالمًا أكثر بدائية.

هذا المقطع من مقالة لوك سانتي "العيش بألسنة" يصور بشكل صحيح جوهر علاقتي باللغتين الإنجليزية والهندية. ومع دخول التحرير والحداثة والتكنولوجيا إلى حياتنا بعد عام 1991 (عام الإصلاحات الاقتصادية الوطنية، وأيضاً العام الذي ولدت فيه)، خضعت اللغة الهندية التي كنت شديد الارتباط بها ارتباطاً وثيقاً بالتغيير أيضاً. كانت اللغة الإنجليزية تتخلل الهواء بكثافة شديدة خارج منازلنا لدرجة أننا لم ندرك حتى متى بدأت تنجرف إلى الداخل. ومع التحرير والخصخصة والعولمة، كنا كأمة نتقدم للأمام، مستخدمين اللغة الإنجليزية كعكاز للمضي قدمًا. وفي السنوات التي تلت ذلك، بدأت اللغة الإنجليزية تلعب دورًا أكبر في حياة جميع الهنود من الطبقة المتوسطة والعليا. لقد تحولت من كونها ترفاً إلى ضرورة. تحول مكتب والدتي من استخدام الآلات الكاتبة إلى أجهزة الكمبيوتر. وهذا يعني أنها تحولت إلى استخدام اللغة الإنجليزية أثناء عملها في المكتب، حيث عادت إلى المنزل ومعها كتب عن عائلة غاندي مكتوبة باللغة الإنجليزية. وبهذه الطريقة، بدأت اللغة الهندية تتلاشى مرة أخرى في حياتي باعتبارها اللغة المشتركة في حياتي اليومية مع والدي وأقاربي وأصدقائي المقربين. وارتباطًا بتاريخي الخاص، أصبحت اللغة الهندية هي البيجامة القطنية التي أرتديها في المنزل، بينما أصبحت اللغة الإنجليزية هي الزي الرسمي الذي أرتديه في وقت المدرسة.

لقد ولدت في مستعمرة بريطانية سابقة، وأدركت أن التراث يأتي مصحوبًا بعبء الصيانة.

في عام 2021، بينما لا تزال اللغة الإنجليزية تهيمن على حديثي وتفكيري، أحلم بقواعد غير لغوية أو باللغة الهندية التي كنت أحلم بها في طفولتي. عندما أتعامل مع مساعدتنا المنزلية أو بائع الخضار، أهرب إلى اللغة الهندية في مسقط رأسي. في هذا ألقي نظرة خاطفة على الطرق التي لا تعد ولا تحصى التي تهيمن بها اللغة وتتحكم في كيفية تنقلي عبر الحياة. ومن بين أوجه التشابه العديدة بين الحياة في مسقط رأسي، كانبور، ودلهي (على بعد 250 ميلاً) حيث أعمل، يعد الوجود الكلي للغة الهندية أحد أهم أوجه التشابه. في السنوات السابقة، لاحظت الطرق الصغيرة التي سيطرت بها اللغة الإنجليزية على حياتي؛ الآن ألاحظ أن اللغة الهندية تتداخل وتبرز نفسها، كما لو كانت تؤكد وجودها الضئيل على الواجهة الأكبر من الحياة التي تلقيها اللغة الإنجليزية علينا. أثناء التحدث مع صديقي، في بعض الأحيان، أتحدث باللغة الهندية دون قصد. هذا جديد، لم يكن يحدث في منتصف عام 2018 عندما بدأنا بالخروج، وهو ما يجعله غير مرتاح، لأن لغته الأولى هي البنغالية. لقد جعلته يفهم بعد ذلك أنه مع تقدمي في العمر في دلهي، بالقرب من منزلي، بدأت لغتي الإنجليزية تكتسب لمسة رقيقة من اللغة الهندية.

لقد ولدت في مستعمرة بريطانية سابقة، وأدركت أن التراث يأتي مصحوبًا بعبء الصيانة. ومن المؤكد أنه لم يكن من السهل على الهند أن ترسم طريقها الخاص بعد الاستقلال. لا تزال بعض موروثات الراج البريطاني الأكثر ديمومة تشكل جزءًا كبيرًا من هويتنا وترمز إلى الكثير مما هو صواب وما هو خطأ فيها. اللغة الإنجليزية في أعلى القائمة. أظهر التعداد السكاني لعام 2011 في الهند أن اللغة الإنجليزية هي اللغة الأساسية لـ 256.000 شخص، واللغة الثانية لـ 83 مليون شخص، واللغة الثالثة لـ 46 مليون شخص آخرين. وهذا يجعلها اللغة الثانية الأكثر انتشارًا بعد اللغة الهندية.

خلال 30 عامًا من حياتي في الهند، قطعت الطريق الطويل لفهم وتعلم اللغة الإنجليزية كتذكرة لحياة أفضل، والآن أتعامل مع اللغة الإنجليزية بطريقة روتينية تقريبًا. عندما ذهبت إلى المدرسة، أراد والداي أن أتعلم اللغة حتى أتمكن من الحصول على وظيفة أفضل. الآن، أصبحت اللغة الإنجليزية هي اللغة المستخدمة في جميع أنواع أماكن العمل. وفي أماكن العمل المتنوعة هذه، فهي لغة موحدة، ولكن الطريقة التي يتم بها استخدامها والتحدث بها تختلف بشكل كبير.

كل صباح، عندما أشتري الخضار من البائع خارج منزلي، نتحدث باللغة الهندية، لكننا دائمًا نوقع المعاملة باللغة الإنجليزية. أشكرك، ودائمًا تقريبًا، إذا لم يكن في عجلة من أمره، يرد راجو بكلمة بسيطة: "مرحبًا بك يا ديدي". لقد أكد التعداد السكاني الأخير أن اللغة الإنجليزية في الهند لم تعد لغة أجنبية، وأنا أرى ذلك في حياتي أيضًا. أصبحت اللغة الاستعمارية أيضًا وسيلة موحدة للمحادثة.

لكنها لا تزال تحمل إرثاً استعمارياً. منذ أن تعلمت اللغة من المدرسة وبطريقة منطوقة، أميل إلى استخدام كلمات طويلة ومعقدة للأشياء التي تبدو عادية، كلمات لا يستخدمها أي متحدث أصلي للغة الإنجليزية. عندما أسيء فهم كلمة ما من حيث معناها أو استخدامها، أشعر بألم فوري من الإحراج، وهو أمر من غير المرجح أن يوجد لدى أي متحدث أصلي. لا تزال الكثير من الكتابات الهندية باللغة الإنجليزية موجودة في نسخة "منمقة" من اللغة مما يجعل القراءة صعبة. لقد وجد الأصدقاء صعوبة في قراءة بعض كتاباتي السابقة دون الرجوع إلى القاموس. أدرك الآن أن هذه أعباء استعمارية، وعار حملناه دون أن ندرك طبيعته وخطورته.

حقيقة أن اللغة الإنجليزية هي لغة المستعمرين تجعلني أشعر بالقلق. لقد كانت هدية غير مقصودة، تم الحصول عليها على حساب الكثير من الأرواح.

حقيقة أن اللغة الإنجليزية هي لغة المستعمرين تجعلني أشعر بالقلق. لقد كانت هدية غير مقصودة، تم الحصول عليها على حساب الكثير من الأرواح والأموال وسنوات من القمع.كتب شاشي ثارور، عضو البرلمان لوك سابها، في كتابه الإمبراطورية الشائنة: "إن استيلاء الهنود على اللغة الإنجليزية وتحويلها إلى أداة لتحريرنا كان لصالحهم، وليس بتصميم بريطاني". لقد انتقلت اللغة الإنجليزية في الهند الآن من كونها مجرد لغة إلى أسلوب حياة، وأرضية مشتركة. لكن من المهم أن نتذكر أنها استُخدت في البداية كأداة لحكمنا وتقسيمنا وقمعنا. كانت هذه كلمات اللورد توماس بابينجتون ماكولاي عندما أراد إدخال اللغة في الهند: “يجب علينا أن نبذل قصارى جهدنا لتشكيل طبقة يمكنها أن تكون مترجمة بيننا وبين الملايين الذين نحكمهم؛ فئة من الأشخاص هنود في الدم واللون، ولكنهم إنجليز في الذوق والرأي والأخلاق والفكر."

يتمتع كتاب مثل سانتي وفلاديمير نابوكوف، الذين تعلموا أيضًا اللغة الإنجليزية كلغة ثانية عندما كان أطفلا، بقدرة تحكم تفوق سيطرة معظم المتحدثين الأصليين. إنهم يكتبون بسلاسة، وبرشاقة، ويسحبون القارئ بشكل حدسي إلى عوالمهم. على الرغم من أنني لم أتخلى بعد عن الطرق المتحذلقة التي أستخدم بها اللغة الإنجليزية، إلا أنني أواصل أيضًا القراءة وإصلاح علاقتي باللغة الهندية. في حين أنني متناغمة تمامًا مع الطرق التي تحدد بها اللغة الإنجليزية الألوان في تجربتي اليومية للحياة كما أعيشها، فإنني أتطلع أيضًا إلى أن أكون مرة أخرى قارئة وكاتبة للغة الهندية بطلاقة.

كتب لوك سانتي في مقالته Lingua Franca: "لكي أكتب عن طفولتي، عليّ أن أترجم. وكأنني أكتب عن شخص آخر. عندما كنت صبيًا، عشت باللغة الفرنسية؛ الآن، أعيش باللغة الإنجليزية. الكلمات غير مناسبة، لأن اللغتين غير متكافئتين مع بعضها البعض. وهذا يعكس جزءًا كبيرًا من حياتي عندما كنت طفلة، والتي عشت معظمها باللغة الهندية.

الآن، في الثلاثين من عمري، وبينما أواصل العثور على مكاني في عالم الكتابة، أعتقد أنني أستطيع العيش بأي من اللغتين - الهندية أو الإنجليزية - ولكنني اخترت اللغة الإنجليزية. إنه عبء، يحمل الثقل الثقيل للإرث الاستعماري إلى الأمام، ولكن من خلال القيام بذلك، وجدت أيضًا نضالًا ولغة فريدة بالنسبة لي. يخطر لي أحيانًا أنني قد لا أمتلك سلطة على أي من اللغتين، ولكن مثل سانتي، يمنحني ذلك أيضًا ميزة التنقل. في التردد بينهما، يمكن أن أكون في أي مكان أو لا مكان على الإطلاق.

***

..................................

المؤلفة: أناندي ميشرا /Anandi Mishra كاتبة وناقدة من الهند. عملت كمراسلة لصحيفة The Times of India و The Hindu. تُرجمت إحدى مقالاتها إلى اللغة الإيطالية ونشرت في مجلة إنترناسيونال. ظهرت مقالاتها ومراجعاتها في Public Books، وLos Angeles Review of Books، وVirginia Quarterly Review، وPopula، وThe Brooklyn Rail، وAl Jazeera، وغيرها.

رابط المقال على مجلة الأدب الكهربائى بتاريخ  9 مارس 2021      :

https://electricliterature.com/why-do-i-write-in-my-colonizers-language/

في سن الثالثة والثمانين فقدت بصرها لكنها رفضت التوقف عن الكتابة والاستسلام .. ظلت تمارس عاداتها اليومية تخصص فترة الصباح للتفكير في الرواية التي تكتبها، الظهيرة للاستراحة، والمساء للكتابة، في سنواتها الاخيرة اخذت تملي كتاباتها على زوجها: " إنني اكتب كل فصل في ذهني، وقد اصبحت حساسة للصوت والمعنى كفنان موسيقي، وكانت العملية دقيقة ومعقدة. لقد حاولت أن أعطي الشخص الذي كنت أمليه عليه النسخة التي كتبتها في رأسي"، قالت ان الكتابة قوة لا تستطيع مقاومتها.

ماريز كوندي التي رحلت عن عالمنا ليلة الاول من نيسان من هذا العام، أطلقت عليها صحيفة الغارديان إمبراطورة الأدب الكاريبي تعد "من بين الكتاب الذين يستحقون قراءً أوسع بكثير"، وقد انتبهت دور النشر العربية الى رواياتها بعد حصولها على جائزة نوبل البديلة عام 2018 فترجم لها خمس روايات " أنا تيتوبا" – ترجمة محمد آيت حنا - و" في انتظار الظلمات " – ترجمة معن عاقل – و" ازهار الظلمات " و"الحياة الآثمة" – ترجمة رندة بعث – و" ديزيرادا " – ترجمة معن السهوي -.

ولدت في الحادي عشر من آذار عام 1937 في جزر الغوادلوب التابعة لفرنسا، كانت الاصغر بين ثمانية اشقاء، وصفت نفسها بأنها "طفلة مدللة... غافلة عن العالم الخارجي"، ولدت ماريز ليليان أبولين بوكولون، الأصغر بين ثمانية أشقاء، عمل والدها تاجرًا ومؤسسًا لأحد البنوك، وكانت والدته، جين كويدال، أول معلمة سوداء في غوادلوب. سعى الاب والام الى تعليم اطفالهم حب الثقافة الفرنسية، كانت العائلة تسافر بانتظام إلى باريس، لا يسمح في المنزل الحديث باللهجة الغوادلوب المحلية، الام تحلم بان ابنتها تصبح ذات يوم محامية، لكن الفتاةو كانت تحلم بشيء آخر، فقد بدأت القراءة بسن مبكر جدا" كنت التهم الصفحات " جربت الكتابة وهي صغيرة:" كنت أكتب القصص القصيرة والمسرحيات لعائلتي وإخوتي وأخواتي. كتبت مسرحيتي الأولى لأمي" .في السادسة عشرة من عمرها غادرت جزر الغوادلوب لمواصلة دراستها بباريس، فحصلت على درجة الدكتوراه في الأدب من جامعة السوربون، في موضوعة "الأفكار النمطية حول الشخصيات السوداء في الأدب الكاريبي" .

بدأت حياتها الادبية بكتابة النقد وركزت على صورة المواطن الاسود في الادب الاوربي .. جربت حظها في الرواية فنشرت عام 1976 اولى اعمالها " موسم في ريهاتا " وهو عمل مستمد من تجربة العيش في افريقيا .. كانت تقترب من عامها الاربعين عندما دخلت عالم الرواية، قالت انها قبل هذا السن لم تكن مقتنعة بنفسها، ولم تجرؤ ان تقدم روايتها الى العالم:" عندما كنت طفلة، أفسدني والدي كثيرا. كنت غافلة عن العالم الخارجي. كنت مقتنعة بأنني واحدة من أجمل الفتيات في العالم وبالتأكيد واحدة من أكثر الفتيات ذكاءً، لكن عندما جئت للدراسة في فرنسا اكتشفت تحيزات الناس. كانت الناس ترى انني أقل شأنا، فقط لأن لون بشرتي كان اسود . كان علي أن أثبت لهم أنني موهوبة، وأن أظهر للجميع أن لون بشرتي لا يهم، ما يهم هو ماموجود في دماغ الانسان وفي قلبه " .

في باريس، انفتح عقلها على أسئلة الهوية عندما التقت بالكاتب والسياسي المارتينيكي إيمي سيزار، أحد مؤسسي الحركة الأدبية الزنجية التي سعت إلى استعادة التاريخ الأسود ورفض العنصرية الاستعمارية الفرنسية.وقالت في احدى حواراتها: "أفهم أنني لست فرنسية ولا أوروبية". "إنني أنتمي إلى عالم آخر، ويجب أن أتعلم تمزيق الأكاذيب واكتشاف الحقيقة عن مجتمعي ونفسي".

عاشت سنوات في اميركا حيث عملت مدرسة للنقد الادبي في جامعة كولومبيا، قبل سنوات قررت العودة الى موطنها الاصلي جزيرة " غوادلوب " حيث انشأت مركز " ذاكرة الرق " لتنفيذ القانون الذي يعتبر الرق وتجارة الرقيق جرائم ضد الإنسانية. وصلت روايتها " أطعمة وعجائب،" التي استمدتها من حياة جدتها التي كانت تتقن الطبخ الى القائمة القصيرة للمان بوكر 2015. وكانت تقول للصحفين ان وصفات جدتها تضاهي القصائد التي كتبها بودلير، والسوناتات التي وضعها شوبان، حيث تنسجم الرائحة والالوان والاصوات .

عام 2018 حصلت كوندي على جائزة نوبل للاداب البديلة عن الجائزة العالمية التي توقفت عام 2018 بسبب مشاكل وقضايا اتهم فيها بعض اعضاء اللجنة، وقد وصفت لجنة نوبل البديلة روايات ماريز كوندي بانها "تسرد ويلات الاستعمار وفوضى ما بعد الكولونيالية بلغة دقيقة وبالغة التأثير على حد سواء، وهي تستحضر في رواياتها الأموات إلى جانب الأحياء في عالم يتم فيه تناول الجندر والعرق والطبقة باستمرار في قوالب جديدة". وعلقت كوندي من جانبها على خبر فوزها بابتسامة عريضة قائلة إن أكثر ما أسعدها هو أن اسم بلادها غوادلوب لن يظهر هذه المرة في أخبار الفيضانات والكوارث بل في أخبار مفرحة لشعبها المهمّش على أجندة العالم، وتمنح صوتاً لأولئك الذين نسيهم التاريخ .. وعن دخولها عالم الرواية تقول: "كل كاتب في الدنيا يشعر بالغيرة من حكائي القصص، يوجد للكلمة المنطوقة سحر خاص وعفوية ترسمها. أردت تذكير القرّاء بأنني أنتمي إلى مجتمع لا تزال فيه التقاليد الشفهية حية، وأن كلماتي تعبّر عن قوة سحرية، وأن قصتي يمكن أن تُرى كبوابة رائعة للعواطف والمعرفة".، وتضيف: "شغفي بالرواية يأتي من معرفتي بالأدب من أماكن مختلفة من العالم ومن خلال قراءة أعمال مؤلفين معيّنين جعلوني أكثر قرباً وحساسية من الكتابة والتأثير في القرّاء. لم أدرس أبداً خلاف ذلك. القراءة بالنسبة إليّ هي أصل كل شيء".، قالت انها مغرمة جدا بمارغريت دوراس وجان بول سارتر وميشيل فوكو ولويس أراغون وسيمون دي بوفوار:" كل امرأة من جيلي قرأت كتاب سيمون دي بوفوار الجنس الاخر . عندما انتهيت من قراءة الكتاب أدركت أن تحرري كامرأة كان مختلفًا عن تحرر أصدقائي الذكور، وأنه يتطلب جهدًا أكبر" .

تبدو أعمال صاحبة "انا تييوبا "، مسكونة بالهاجس الأفريقي الأكبر تاريخا وجغراقة، مخصّصةً مشوارها الطويل بالادب لعرض قضية شعبها الذي حكم عليه التاريخ حكما قاسيا .تقول انها عندما كانت طفله كان من السهل عليها ان تفهم العالم، اما اليوم فانها كامراة عجوز تؤمن ان العالم يجب ان يتغير:" نعم، آمل أن يأتي التغيير. أعتقد أن الأمور ستتحسن لكنها ستستغرق بعض الوقت. يشتكي بعض الناس من عنف احتجاجات حركة (حياة السود مهمة ). إنها لا تحدث فقط في أمريكا، ولكن في جميع أنحاء العالم. في فرنسا، استغرق الأمر وقتًا طويلاً حتى يتم الاعتراف بالرق كجريمة ضد الإنسانية. في القرن الثامن عشر، كان بعض العلماء لا يزالون يؤيدون العبودية وادعوا أن السود أقل شأناً وأقرب إلى الحيوانات وما زلنا نكافح سوء الفهم هذا. انه ليس من السهل. سوف نتغلب. لكن الأمر سيستغرق وقتا طويلا. أنا متفائلة بالرغم من كل شيء " .

في رواية " أنا تيتوبا .. ساحرة سالم السوداء "،، تستعيد كونزي شخصية الساحرة السوداء من التاريخ المنسي لتخلق من "تيتوبا" عالم جديد لكنه متخيل، وقد استندت في احداث روايتها إلى حادثة محاكمة الساحرات في بلدة سالم الواقعة في مقاطعة دانفرز الامريكية عام 1892، وهي الحادثة التي كتب عنها الكاتب المسرحي الشهير آرثر ميلر مسرحيته " ساحرات سالم "، نجد في رواية كونزي ان " تيتوبا " تعود جذورها الى قارة أفريقيا حيث كانت مستعبدة لدى عائلة بيضاء، تتعرض للاغتصاب على اكيد احد البحارة البيض، ثم نجدها تهرب من عبودية الى عبودية جديدة وتتعرف على حبيبها " جوان " الشاب الهندي وهو ايضا مستعبد، في هذه الاثناء يتم بيعها لعائلة في بوسطن وتظل معاناتها مع العنصريين . تتهم تيتوبا بالسحر، وتنجو من محاكمة ساحرات سالم الشهيرة، في الرواية تحاول ماريز كوندي ان تسلط الضوء على ظواهر لايزال يعيشها المجتمع، منها استخدام الدين في تعزيز ثقافة العنصرية، مثلما حدث في القرن الثامن عشر حيث لعب بعض رجال الدين دورا في المشاركة في التحقيق والتعذيب، وتواطؤا مع السلطات العسكرية والدكتاتورية لتنفيذ أيديولوجيا تتيح لهم السيطرة على النفوذ والمال، ويلعب رجال الدين في رواية كوندي دورا كبيرا في تشجيع على استغلال موارد الشعوب المستعمَرة سواء كانت الطبيعية اوالبشرية لتحقيق أطماع بلدانهم، قالت كوندي انها كتبت " انا تيتونا " لتسهم في تحرير ضحايا العبودية من الظلم التاريخي الذي لحق بهم .. ولهذا نجد بطلة الرواية تظهر لنا بثوب مناضلة تحارب الظلم، وتمد يد العون إلى المستعبَدين.

عام 2008 تنشر ماريز كوندي رواية بعنوان " مرتفعات مهب الريح " حاولت من خلالها اعادة كتابة الرواية الشهيرة " مرتفعات وذيرنغ للكاتبة الانكليزية الشهيرة إميلي برونتي وهي الرواية التي قرأتها كوندي عندما كانت في العاشرة من عمرها:" أعطتني الرواية صديقة لأمي كانت تعرف أنني مولع بالقراءة. لم اسمع ابدا عن اميلي برونتي. كانت هذه هي المرة الأولى في حياتي التي يصبح فيها الكتاب قريبا من قلبي واكتشفت قوة الأدب، وان بامكاني ان اكون كاتبة "، وتتذكر انها عندما اخبرت صديقة والدتها عن مدى اعجابها بالرواية، وانها تتمنى ان تصبح في يوم من الايام كاتبة مثل اميلي برونتي، كانت اجابة المرأة صادمة عندما قالت لها بان اشخاص مثلها لايمكن ان يكتبوا مثل هذه الروايات:" هل كانت تعني السود أو النساء أو الأشخاص من الجزر الصغيرة؟ لن اعرف ابدا " ..تقول انها ارادت من خلال رواية " مرتفعات مهب الريح " ان توجه تحية لكاتبتها المفضلة، وان تخصص رواية تتحدث فيها عن مسقط راسها " جزر الغوادلوب " واحلام شعبها .

ومن خلال تجاربها الافريقية، ادركت كوندي أن افريقيا لا تعترف بها كابنة لها بل تعتبرها غريبة عنها، لكنها لم تتنازل عن كونها القلب النابض بآلام افريقيا لذا واصلت الكتابة عنها والقاء المحاضرات في جامعة كولومبيا وتعاقبت رواياتها التي تغوص في قضايا القارة السوداء، ثم تم تعيينها كرئيسة للجنة احياء ذكرى العبودية ..ومن رحم هذه الحياة، ولد عملها الأدبي الذي تم تتويجه بجائزة نوبل البديلة للأدب، وهو العمل الذي يستكشف العالم مابعد الاستعمار، فضلا عن تناول قضية الاصول الافريقية وتعدد الهويات ومحاولة النساء تحرير انفسهن من اضطهاد الرجال ومصائر اولئك الذين يفرون من الجزر الافريقية طمعا بحياة أفضل ثم معاناتهم من العنصرية والاقتلاع من الجذور.

تقول ماريز كوندي:" عندما كنت شابة، كنت اؤمن باننا سنبني عالما أفضل يتوحد فيه الناس وتختفي العنصرية وهيمنة جهة على جهة أخرى، لكني كنت مخطئة، فالبشر لا يتوحدون بسهولة ووعود الحكومات بالتقدم لم تتحقق".

روايتها الاخيرة الصادرة عام 2021 " الإنجيل وفقا للعالم الجديد " وصفتها بانها تمثل العالم المنقسم الذي عاشته بين ام مؤمنة مخلصة، واب ملحد ومنتقد للمعتقدات:" أردت أن أترجم هذا الانقسام في روايتي إلى فكاهة وسخرية، لكنني لم أتحلى بالشجاعة حتى قرأت " الإنجيل بحسب يسوع المسيح" لجوزيه ساراماغو "  .

كوندي التي رحلت عن " 90 " عاما قالت في آخر حوار معها انها لاتعرف ان تفعل أي شيء آخر غير الكتابة.:" بالنسبة لي، الكتابة هي أن تكون على قيد الحياة. عندما أتوقف عن الكتابة، أتوقف عن العيش. وفي كل عام اعتقد انني أكتب كتابي الأخير "، قالت انها تستمد الهامها الثقافي من روايات مارغريت دوراس، وكتب سيمون دي بوفوار، وجان بول سارتر، وميشيل فوكو، واشعار لويس أراغون .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

بقلم: جيمي فارون

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

أتذكر عندما كنت أكره الروتين، عندما كان الاستيقاظ قبل الساعة التاسعة صباحًا بمثابة شكل من أشكال التعذيب الذي لم أتعرض له إلا في رحلات طيران مبكرة أو تعثرت في المطبخ للحصول على الماء. عندما حلمت بالتقدم في السن - وبالطبع حلمت بذلك - فكرت في الحرية المتصورة لمرحلة البلوغ، في فكرة أنني أستطيع ويجب علي أن أفعل أي شيء وكل شيء يسعدني. كان هناك شعور سحري بأحلام اليقظة في مرحلة البلوغ ومعها احتمالات لا حصر لها لما سأنتهي إليه في نهاية المطاف وما سأفعله في نهاية المطاف ونوع الحياة التي سأجد نفسي أستمتع بها.

عندما كنت في العشرينات من عمري، سافرت وعملت كمصممة ويب، مستفيدة بشكل كامل من الحرية المذهلة المتمثلة في القدرة على كسب المال دون الحاجة إلى أي شيء أكثر من جهاز كمبيوتر محمول واتصال بالإنترنت. بعد عام في باريس واستئجار تسع شقق مختلفة عبر Airbnb، كل ما حلمت به هو منزل، وسيارة، وحياة يمكن أن أسميها حياتي. لقد أضفت طابعًا رومانسيًا على هذه النسخة البالغة من نفسي، تاركًا ورائي أسلوب حياة غجري لصالح الجذور؛ تلك الجذور الصغيرة المزعجة التي قضيت الكثير من الوقت في تجنبها كانت هي نفس الأشياء التي ظلت تعيدني إلى الوراء.

لم أكن أرغب في الحصول على أي جذور في الجزء الأكبر من العشرينيات من عمري، وبعد ذلك، يا إلهي، كانت تلك الأشياء الطويلة التي ثبتتني على الأرض هي كل ما فكرت فيه. كنت أرغب في الحصول على منزل، مكان حقيقي حيث كان الأثاث ملكًا لي ولا يخضع لفحص شامل في نهاية إقامتي. بعد العيش في أكثر من 20 شقة في أقل من عقد من الزمن، أردت شيئًا، أي شيء خاص بي.

أردت أن أنمو.

أخيراً.

لذلك فعلت ذلك. استأجرت سيارة وشقة، واشتريت أثاثًا، وأنفقت أموالي التي كسبتها بشق الأنفس لبناء أساس الحياة التي تخيلتها، النسخة الناضجة من خليط الحياة الذي كنت أتعامل معه طوال معظم حياتي. . شعرت بالمسؤولية. ناضجة. إنتاجي.

ربما شعرت وكأنني شخص بالغ.

بالغ حقيقي.

خلال ذلك الوقت، بلغت الثلاثين من عمري وشعرت بشكل خاص أنني ارتديت رسميًا سراويلي الداخلية الكبيرة. لقد فعلت ذلك. لقد نظرت وتصرفت بشكل مثالي كشخص بالغ. كان لديه أشياء خاصة بالبالغين وسيارة البالغين وشقة البالغين وديون بطاقات الائتمان الخاصة بالبالغين وديون قروض الطلاب البالغين والبالغ يرمي أكياس السبانخ التي فسدت لأنني كنت طموحًا بعض الشيء في محل البقالة ويأس الكبار والأزمة الوجودية العامة. لذا، نعم، لقد تمكنت من الوصول إلى مرحلة البلوغ مثل الرئيس اللعين.

والآن، ها أنا ذا، ناضجًا تمامًا ومع كل زخارف هذا الإنجاز. لدي خلاط. يمكنني مزج العديد من الحساء. يمكنني أن أصنع الحمص من الصفر، إذا شعرت برغبة في القيام بذلك. (أشعر بميل سلبي إلى إعداد الحمص من الصفر، لكن هذا خيار).

لكن هل تعلم ما لم يخبرني به أحد من قبل؟

مرحلة البلوغ

هو كذلك

سخيف

ممل.

هذه هي؟ هذه هي اللحظة الكبيرة، التهنئة الكبيرة، الشيء الكبير الذي كنت أنتظره خلال العشرينات من عمري؟ وهذا ما كنت أستعد له؟

صنع الحساء؟ سداد ديون القروض الطلابية؟ جعل الحد الأدنى من المدفوعات على بطاقات الائتمان؟ هل تكره ابني الأصغر لأنه يشتري الأشياء ببطاقات الائتمان؟ عندما كنت أفكر في عمر أصغر، هل كان استئجار سيارة بمثابة  عملاأحمق؟ هل أنت تتوقين  إلى  كأس من النبيذ؟ هل تتطلعين إلى تحضير الحساء في الخلاط؟

هذا هو الأسوأ.

في أحد الأيام كنت أتسكع مع صديقة وتساءلت: "ماذا تفعل من أجل المتعة؟" وحدقت بي بلا حياة، وهزت كتفيها. سألتني: "ما الذي يمكن أن يفعله شخص ما من أجل المتعة في ليلة الخميس دون أن يكون مكلفًا للغاية، ولن يسبب له مخلفات، وهو في الواقع ممتع؟" لم أستطع التفكير في أي شيء. ليس شيئا واحدا. لقد شعرت بالقلق على نفسي وعلى زميلاتي اللائى تجاوزن الثلاثين من العمر. لم أكن مستعدًة بشكل مناسب للشعور العادي المذهل لكوني في الثلاثينيات من عمري.

الآن، أعرف أن الكثير من الناس لديهم أطفال في عمري. لست متأكدة من موقفي من فكرة إنجاب الأطفال وأشعر بشكل غامض أنني يجب أن أعرف الآن ما إذا كنت أريد أن أصبح أماً. لكن إنجاب الأطفال هو أمر يفعله الناس في هذا العمر. لقد قضيت وقتًا ممتعًا مع الأطفال، فهم ليسوا مملين. إنها ليست مثيرة للاهتمام بشكل خاص، لكن عقلك لديه عدد قليل جدًا من الأماكن التي يمكنك التجول فيها عندما تكون مع طفل، ويرجع ذلك في الغالب إلى أن عقلك المتجول يمكن أن يقتل طفلًا حرفيًا. عليك أن تراقب الأطفال طوال الوقت. طوال الوقت! الأطفال ليس لديهم مفهوم البرد.

لذا، حسنًا، إذا لم يكن لديك أطفال وفي الثلاثينيات من عمرك ولا تريد أن تسكر من أجل الاستمتاع، فماذا تفعل بصراحة؟ كيف يمكنك الهروب من رتابة مرحلة البلوغ التي تسحق روحك؟ أنا خائف حقًا من أن هذا هو الأمر. هل أنجب أطفالاً فقط من أجل كسر الرتابة؟ أشعر أن هذا سبب رهيب لإنجاب طفل.

لم أكن مستعدة لهذه المعرفة - لأكتشف أن النضج ربما يكون الشيء الأكثر مللًا على الإطلاق، ولأدرك ذلك في الثلاثين من عمري، حيث من المحتمل أن يكون لدي الكثير من السنوات لأعيشها. هذا ما افعله؟ أعمل لأتمكن من دفع ثمن الأشياء وأستمر في القيام بذلك كما هو الحال دائمًا؟ ولا أستطيع حتى أن أتوقف عن الملل بكأس من النبيذ لأنني حتماً سأصاب بمخلفات الكحول؟ أليست الأمور ممتعة بعد الثلاثين؟ أرى الكثير من الأشخاص يركضون في سباقات الماراثون ويطبخون وجبات الطعام، لكن هذين الأمرين يبدوان عكس المتعة. هل أفتقد بعض الجينات الممتعة للبالغين التي تسمح لي بالتفكير في أن المشي لمسافات طويلة هو نشاط ممتع حقًا؟

أخبرني الناس أن مرحلة البلوغ كانت صعبة، لكنني لم أدرك أنها ستكون صعبة ورتيبة أيضًا. حتى أنني أقوم بعمل أستمتع به، لكن العمل يظل عملاً حتى لو كنت تحبه. لا أستطيع قبول أن تصبح الحياة مجرد عمل شاق من المسؤولية والإنتاجية والتنظيف والطهي ودفع الفواتير والقلق بشأن دفع الفواتير والغضب من المرشحين السياسيين ومحاولة زيادة الإنتاجية والنظر في بيانات القروض الطلابية والتساؤل لماذا فعلت ذلك؟ الذهاب إلى الكلية الكثير من الخير الذي تفعله هذه الدرجة بالنسبة لي الآن. من المفترض أن أصنع الحساء أو أذهب للتنزه أو أزور سوق المزارعين أو أتعلم كيف أحب إعداد الوجبات أو بعض الأشياء؟

هذه هي؟

تلك!؟

لقد غادرت مرحلة البلوغ. هذا بعض الهراء.

***

.............................

المؤلفة: جيمي فارون: كاتبة في لوس أنجلوس.

 

ينتمي الصحفي محمود الجندي لجيل رواد الصحافة العراقية، جيل أسهم في إرساء التقاليد المهنية للصحافة، في المؤتمر الأول لنقابة الصحفيين في العراق المنعقد في 23 حزيران 1959، فاز الجندي بعضوية الهيأة الادارية للنقابة التي ترأسها الجواهري، ومحمد السعدون نائباً له، وضمت الى جانب الجندي كلاً من: جلال الطالباني، عبد الرحيم شريف، لطفي بكر صدقي، فاضل مهدي، محمود شوكت، قاسم حمودي، وفائق بطي ومنعم الجادر أعضاءً في لجنة الضبط.

لم يدرس محمود الجندي في معهد متخصص في الصحافة، ولم يكمل دراسته الأولية، انما بدأ حياته عاملاً في المطابع بصفة (مرتب للحروف)، مرّن نفسه على هذه المهنة، وتفتح وعيه مبكراً، عاش مفعماً بأجواء التحولات السياسية الكبرى في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، فتأثر بأفكار اليسار، يسمعها من أؤلئك الذين يتحدثون بها في المطابع والجرائد، أو من خلال الكتابات البسيطة التي قرأها، كان يلتقط الصور المثلى فيها، ويتعلم بصبر وحذر وخوف، كان يحلم ان كنزاً غالياً يزيده اقتراباً من مبتغاه في سماء شاسعة لا تحدها حدود. فتجاوز المألوف  ليسمي نجله البكر (لينين)، وحين حكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، نهاية الأربعينات بتهمة الانتماء الى الحزب الشيوعي مع عدد من عمال المطابع، قادوه مكبلاً إليه، توقف قليلا عند باب الزنزانة، نظر الى فوق وأطلق عبارته بألم: (عساها أبّخْتَك لينين) .

عاد الجندي من جديد (بعد أن أنهى محكوميته) مستأنفاً عمله في المطابع التي يقع أغلبها في منطقة (جديد حسن باشا)، حينذاك كان يرتب جريدة (الشباب) التي يديرها الصحفيان سليم طه التكريتي وسعيد السامرائي، في إحد حكاياته التى رواها لنا، يذكر: انه كان ينصت في المقهى الى رجلٍ ما يتحدث عن علاقته بنوري السعيد، متهماً الأخير وزاعماً ان شكوكاً تكتنف سلوكه الشخصي في فترة شبابه.

سرعان ماتلقف الجندي تلك الحكاية المزعومة وصاغ منها موضوعاً عرضه على التكريتي المعارض لسياسة نوري السعيد، فدفعه الى المطبعة.

في اليوم التالي لصدور الجريدة، داهم رجال الشعبة الخاصة (الشرطة السرية) المطبعة، واقتادوا محمود الجندي بملابس العمل في سيارة جيب، عبرت الجسر القديم (الشهداء)، يتابع الجندي القول: واذا بي أمام دار نوري السعيد  في كرادة مريم، بعد ذلك، اصطحبني  شرطي الحراسة الى الصالة، جلست قليلاً، ثم نهضت للوقوف بعد دخول الباشا الى الصالة بالبيجاما، سألني: أنت اسمك محمود الجندي، أجبت نعم باشا.

- كم عمرك؟

- عشرون سنة باشا. ردّ علي ضاحكاً:

- يعني انت ما جاي للدنيا وآني صديق اللي ما عندهم أخلاق، شلون عرفت؟ وكتبت؟

- سمعتها باشا من شخص جالس في المقهى!

- لازم كنت دايخ من أول الليل!!  حاولت أن أعتذر فمدّ يده في جيبه وأعطاني ربع دينار، ثم أردفه بدرهم أجرة العودة الى العمل.

بعد أن طوى الجندي الثمانين من عمره، كان يمنّي نفسه ان يعيش حياته كلها من جديد، والاستمرار فيها، وكأنه مازال شاباً، تغمره المتعة  وهو يستعرض مسيرة الأحداث التي عاشها وقد حملته بالمزيد من التجارب، هي جزء من كيانه ووجوده، لكنها تاريخ العراق الحافل بالصراعات والانقلابات، والمفاجآت  السياسية التي أجبرته أن يتنازل عن (لينين) اسماً لنجله بعد انقلاب 8 شباط 63، ليكنى بعدها بـ(أبو فؤاد).

كنت ألتقيه بين الحين والآخر لغاية أواسط الثمانينات من القرن المنصرم، وقد وهن جسده النحيل، واجتاحته أمراض الشيخوخة، وتقوست قامته، وحفر الزمن تجاعيد عميقة في وجهه، إلا انه ظل يقاوم بالانكباب المتواصل على التدخين، وتحكي جيوب بدلته المتهدلة على الكتفين معاناة عاشها، وإن تركت آثارها واضحة في حياته إلا انها لم تشطب على أحلامه الضائعة .

لم تنتفخ جيوب الجندي بالمال قط، انما كانت جميعاً معبأة بالمقالات، يوزعها هنا وهناك، على الصحف والمجلات (حسب المقاسات)، لقد عاش أعوامه الأخيرة فقيراّ، الا انه كان يحمل من صفاء الروح والعقل، ووضوح الموقف، هي عدّته ومادّته، تفرّد بكفاحه مع الحياة، فحافظ على نقاء السريرة وخياره الحر الذي كابد ليبقى.

من المؤسف حقاً أن لا أثر لمحمود الجندي، لقد طواه النسيان، لا صورة واحدة له في هذا الفضاء الافتراضي، لا وثيقة، ولا سجل، كل تاريخك يا محمود مكتوب في لوح سماوي، فاهنأ هناك !

لكن عهدي بالأصدقاء الاساتذة باسم عبد الحميد حمودي، وزيد الحلي، وليث الحمداني، وربما علي حسين، كذلك الصديق النقابي فاضل البدراوي، أن يسعفوا ذاكرتي في التصويب أو الاضافة، هي دعوة مخلصة للأصدقاء المهتمين بالذاكرة الصحفية، الاسهام في احياء هذا التراث.

***

د. جمال العتابي

 

في نهايات شارع الرشيد من جهة الباب الشرقي تقع (مقهى السمر) احدى أهم المقاهي الماكثة في ذاكرة الثقافة العراقية، كان روادها من طراز خاص، يتحدثون بلغة لا يفهمها المخبرون السريون: إلى أية لغة من لغات العالم تنتمي؟ جمهرة من الشباب (جليل حيدر، عبد الستار ناصر، شريف الربيعي: ابراهيم زاير، منعم العظيم، عادل كاظم، وليد جمعة، حسين عجّة، فالح عبد الجبار، عبد الرحمن طهمازي: بسام فرج، فاضل عباس هادي: سرگون بولص، قتيبة التكريتي، يوسف الحيدري، عبد القادر الجنابي، طارق الدليمي وآخرون) يلتقون فيها صبح، مساء، يتجادلون: ويختلفون: تتصاعد أصواتهم وتخفت، يغنون ويقرأون …. تلك المقهى: ملتقى هؤلاء كانت في شارع سينما الخيام. قبل انتقالهم الى مقهى (المعقدين).

من المفارقات المضحكة ان رجل الأمن المكلّف بمراقبة هذه المجموعة خشية أن تكون اجتماعاتها مكرّسة للتآمر على النظام، مهددة لكيانه، ظل في حيرة دائمة: في أية خانة من خانات القوى المعادية يضع هذه المجاميع: إلى أية جهة تنتمي؟ تساءل بلا جدوى عن هويتها السياسية، فكتب تقريره الى مسؤوله الأمني: "حضرة الضابط… المحترم، المجاميع في موقع ( س 2 ): يتكلمون لغة لا أفهمها ..لا أنا ولا غيري يتمكن من فك اسرارها ".

في ليلة من صيف عام 1967، داهمت الشرطة المقهى، وحشرت (المحبطين) من الهزيمة في سيارة مخصصة للمعتقلين، قادتهم الى دائرة الأمن أمام القصر الأبيض، وقفوا أمام ضابط التحقيق، التفت الى القاص يوسف الحيدري: شنو انت بابا؟ فأجاب:

أنا عندي مجموعة قصص عنوانها: حين يجفّ البحر

انت اللاخ (الآخر)؟ أشار الى عبد الستار ناصر: فأجاب:

⁃ انا صدرت لي مجموعة قصص: الرغبة في وقت متأخر.

⁃ أنت أبو لحية؟ شنو عندك؟ يقصد الشاعر فوزي كريم، ارتبك قليلاً: وتراجع الى الوراء: ثم أجاب بصوت خافت ومتقطع: لاشيء .. لا شيء .. عندي مجموعة شعرية (هكذا تبدأ الاشياء)

والآخر: والثاني، والثالث؟ انت على شنو يسموك العظيم؟.

يقصد منعم حسن!

في هذه الاثناء نادى الضابط بصوت عالٍ على المخبر السري، شتمه أمامهم: صرخ بوجهه: جايبلي مجموعة (مخابيل) .. ياالله !! (طلعهم برّه لا أشوفك ولا اشوفهم )!

كان أبناء هذا الجيل القادمون من مدن عراقية في الشمال والوسط والجنوب، مدفوعين بنفس الحلم، متبعين الخطى نفسها، وجدوا أنفسهم في المقاهي حيث النقاش السياسي والثقافي دائر ليل نهار، تجد نفسك بينهم في معركة سحرية جميلة يشارك فيها العشرات من الشباب، كانوا هم من أدرك إن الثقافة ليس مجرد لعبة ايديولوجية كما كانت عند الرواد، انما هي حلم أكبر من ذلك، لديهم شعور بالاختلاف وامتلاك طاقات جديدة ينبغي أن تكون ثورية، بعد سلسلة من الخيبات والانكسارات السياسية التي أعقبت شباط 63، وأيضاً على خلفية هزيمة حزيران. وفشل تجربة القيادة المركزية، التي تركت بصمات قاتمة في أرواح ابناء ذلك الجيل، وشهدت انهيارات نفسية لعدد من الشعراء وكتاب القصة، يومها انضمّ هؤلاء لاجتماع عفوي في ( بار البحرين)، حضره عبد الرحمن الربيعي، أحمد فياض المفرجي، سامي مهدي، مالك المطلبي: خالد يوسف، عبد الرحمن طهمازي، جاسم الزبيدي، فايق حسين وآخرون. كان ربيع براغ حدثاً مهماً في حياة المثقفين العراقيين، اختلفوا حوله، أثناء ذلك كانت الطلائع الأولى للمقاومة الفلسطينية بدأت تتشكل بمسميات مختلفة، فاندفع البعض بحماسهم الثوري للالتحاق بها . فجأة تحولوا الى مقاتلين يرفعون السلاح: ومنهم من استشهد في جبهات المواجهة .

كانت الحركة التشكيلية قد شهدت تصاعداً على صعيد الابداع وكثرة المعارض، وبدا ثمة تقارب بين النشاط الثقافي في حيز من الحرية كان مساعداً ومواتياً للتفاعل والدأب على المعرفة، و المكتبات ازدهرت بما ترفده دور النشر اللبنانية والمصرية من كتب .

في أواخر الستينيات، ما بعد حزيران، أقدمت الكاتبة سالمة صالح زوجة الكاتب والشاعر فاضل العزاوي على قصّ شعر رأسها، وأحالته الى عنصر أساس في اللوحة، من خلال عملية اللصق والكولاج، وغامرت سالمة ان تقدم أعمالها بمعرض (تشكيلي) اعتمادا على هذه المادة، كان مفاجأة للجمهور بمولودها الحلمي هذا، ومحاولة لافتة للإنتباه، وجدت سالمة الكثير من المسوغات لتصبح أعمالها مقنعة للآخرين في فرحة الخلق، كما هو شعورها إزاء ما تفعل . تشجّع شريف الربيعي ما دام الأمر بهذه السهولة، فأسرع بشراء عدد من قناني حبر الكتابة بألوان مختلفة، سفح الحبر على ورق سميك وحرّكه يميناً وشمالاً، فكانت تكوينات من ألغاز محيّرة لايعرف أن يصفها أحد إلا بلغته الخاصة، ووجد مفرداتها تحمل ألواناً ورموزاً غريبة، عرضها بجرأة (كأعمال تشكيلية) على الجمهور في المركز الثقافي السوفييتي أنذاك.

كان جيلاً مسكوناً بهاجس التحدي، يسعى من أجل الجديد، من أجل المثير، مسحوراً بزعقات اللامعقول: وكيف كانت أصوات بيكيت ويونسكو وأداموف ودورينمات: وغيرهم: تجد صداها في ردود أفعال مشرعة لاظهار الغضب، والتمرد للتعبير عن حالة الجزع، وفساد الواقع، ولكن كم كان الستينيون إذا صحّت التسمية مخلصين لأصدقائهم، الجائع منهم يجد من يدعوه للطعام، وأكثر من مرة شهدت مقهى (المعقدين) جمع مبالغ لدفع ايجارات الاصدقاء الذين يسكنون غرفاً في شارع السعدون، ويعجزون عن سداد بدل الايجار، كان جليل حيدر وعبد القادر الجنابي قد أنقذا الكثيرين من ذلك المأزق، وموظف الضمان الشاعر وليد جمعة، يدعو الجياع في المقهى الى وجبة غداء في مطعم نزار المقابل للمقهى يوم استلام الراتب في (راس الشهر).

في الوقت ذاته شغل العديد منهم ادارات التحرير لأغلب الصحف والمجلات، فكان الشاعر فاضل العزاوي يشرف على الصفحات الثقافية في جريدة (الثورة العربية)، والشاعر خالد الحلي مشرفاً على ثقافية جريدة المنار اليومية، وبمبادرة من الكاتب مؤيد البصام صدرت جريدة (أبناء النور) عن جمعية المكفوفين العراقيين: وأوكل مهمة تحريرها للكاتب والمترجم محسن الموسوي، الى جانب سرگون بولص، وعمران القيسي، ونشر طهمازي قصيدته ( سلاطين الجحيم)، في أحد أعدادها، وكانت القصيدة الظهور الشعري الأول والمهم لطهمازي، قبل قصيدته (الحسين).

واثناء ذلك صدرت جريدة النصر التي تحولت الى ملتقى مهم للمثقفين: عمل فيها نخبة من الكتاب والشعراء والفنانين: الكاتب جليل العطية الذي برز اسمه من خلال عموده اليومي (كتابات جهين)، الى جانبه عارف علوان، مؤيد الراوي، جعفر ياسين: قيس السامرائي، ابراهيم زاير، ويشارك في التحرير جعفر علي استاذ السينما في معهد الفنون الجميلة. والعلامة الأبرز والأهم من بين المجلات كانت (العاملون في النفط) التي أشرف عليها الروائي والمترجم جبرا ابراهيم جبرا، اذ فتح الباب للكتاب الشباب وكذلك التشكيليين في نشر نتاجاتهم بمكافآت مجزية.

ثم أقدمت السلطة في محاولة منها لاحتواء الكتّاب والصحفيين، تحت ذريعة التعيين كموظفين في الحكومة، فاصدرت قرارًا بايقاف تلك الصحف، عام 1967 لتدشين مرحلة جديدة في تحويل الاعلام الى أداة بيد الحكومة، وتقييد حرية الصحافة. وكان للقرار آثاره السيئة على الثقافة والأداء الصحفي معاً، دفع الكثير من ابناء ذلك الجيل الى ترك العمل، ومغادرة الوطن نهائياً حين ضاقت فسحة الحرية.

***

د. جمال العتّابي

قبل الدخول لصُلب الموضوع لا بُدّ من تعريف موجز لحياة صاحبنا الملك غازي:

ينتمي غازي الى الأسرة الهاشمية في الحجاز، والتي يرجع نسبها الى الحسن بن علي بن أبي طالب. وُلِدَ في مكة يوم 21 / آذار / 1912 أثناء قيادة والده الأمير فيصل بن الحسين الحملة التأديبية لتأديب محمد بن علي الإدريسي الذي خرج عن طاعة الدولة العثمانية في عسير، ولهذا سُمي بهذا الإسم أي غازي، تيمّنَاً بتلك الغزوة، وقد عاش غازي طفولته الأولى تحت رعاية جده شريف مكة الحسين بن علي، وقد نشأ خجولاً متردداً بسبب دلال امه المفرط، فقد حاولت تعويضه عن غياب أبيه. وصل غازي مع الأسرة الملكية الى بغداد في 5 تشرين الأول 1924، وقد سُرّ والده الملك فيصل سروراً عظيماً عندما رأى ولده غازي1.

توفيّ الملك فيصل الأول 2 في 7 أيلول 1933 3، فأحدثت وفاته فراغاً كبيراً لم يتَمَكّن الملك غازي من سَدّه 4، ولا نريد أن نقسو على الملك غازي كما قسى غيرنا عليه 5، بل نحن مع الأستاذ عبد الرحمن البزّاز في تحليله الممتاز عن حدوث الانقلابات في عهد الملك غازي:

(لا يصح أن يتحمّل الملك الشاب إلا جزءاً يسيراً من تبعاتها، وان اقترانها بعصره كان اقتراناً زمنياً محتوماً .. وقد حتّمت الاقدار عليه ارتقاء العرش وهو بعد في فجر الشباب، لم تكتمل رجولته، ولم تنضج تجاربه)6.

أراد الملك غازي أن يتزوج الآنسة "نعمة" اصغر بنات السياسي المعروف ياسين الهاشمي، حيث كانت هناك صداقة بين بنات الهاشمي وبنات الملك فيصل، أي شقيقات غازي وربما تكون أخوات الملك قد حَبّذن لأخيهن الاقتران بإحدى بنات الهاشمي 7، وهناك من يرى أن هذا الزواج قد كان بتدبير الهاشمي والد نعمة:

فبعد أن خلق رحيل فيصل فراغاً صعب على الملك الصغير ملؤه، فإنه أوجد فرصة لم تكن موجودة من قبل لظهور شخصية لها القوة الكافية وروح المغامرة والقدرة على تولّي مقاليد القيادة، وكان الهاشمي هو الشخصية المقصودة، فإنه أول من حاول ذلك وتحرك بهدوء وثبات نحو هذا الاتجاه بالانتساب الى العائلة المالكة 8. فلماذا لم يتم هذا الزواج؟

يقول السيد ناجي شوكت وهو سياسي ملكي ورئيس وزراء سابق:

تلقيت إشارة تلفونية من ديوان الرئاسة لحضور جلسة مستعجلة فوق العادة يعقدها مجلس الوزراء، فلما حضرت وجدت نوري السعيد في حالة هياج شديد وهو يقول "هاي عايزه" يصبح ياسين عم الملك. وبعد أخذ وردّ إرتوئي اقناع الملك غازي بضرورة العدول عن ترجيحه الاقتران بكريمة الهاشمي على الاقتران بكريمة عمه، وكان غازي سهل الانقياد لمثل هذه النصائح، ولا يُستبعد أن يكون نوري السعيد وبقية افراد العائلة المالكة والمقربين منها قد اقنعوا الملك بالتخلّي عن فكرته 9.

أما الأستاذ زهير كاظم عبود فيقول:

سافر نوري السعيد الى الأردن واتصل بالملك عبد الله من أجل الإسراع بتزويج الملك غازي بالأميرة عالية ابنة عمه الملك علي. وقد ذكر مصطفى العمري ـ مدير الداخلية العام يومها ـ ما يؤيد هذه الرواية فقال: في يوم 26 أيلول 1933 زارني محمود جلبي الشابندر ومصطفى عاصم، وقد روى لي الأخير، أن الهاشمي كان يسعى الى تزويج ابنته من الملك غازي، الا أن السعيد وناجي شوكت وجعفر العسكري قد تَدَخّلوا في الأمر ووسّطوا الأمير عبد الله والملك علي فحالوا دون ذلك، وعقدوا النكاح على بنت الملك علي، على الرغم من عدم وجودها في العراق 10.

واضح الآن أن نوري السعيد قد كان الفاعل الأول في افشال زواج الملك غازي من ابنة ياسين الهاشمي ودفعه للزواج من ابنة عمه الأميرة عالية أخت الأمير عبد الإله.

والآن نسأل: ماذا لو تزوّج الملك غازي من ابنة ياسين الهاشمي؟ يقول ناجي شوكت:

كنت أُفَكّر لو كان الملك غازي قد اقترن بإحدى كريمات ياسين الهاشمي في تلك الأيام، ولم تحل العنعنات والتقاليد دون ذلك، لرأينا كيف كان قد انقلب تاريخ العراق السياسي رأساً على عقب، وسارت البلاد في اتجاه غير الاتجاه الذي سارت فيه بعدئذٍ، ولبقي الأمير عبد الإله بعيداً عن التدّخّل في رسم سياسة العراق والسيطرة على ابن اخته فيصل الثاني سيطرة تامة أفقدت البلاد عزّها وهناءها، وزجّها في أتون غروره وصلفه وطيشه ونزقه 11.

ويقول الأستاذ زهير كاظم عبود:

والحقيقة التي لا جدال فيها ان الملك غازي لو تزوّج ابنة ياسين الهاشمي لتغيّر تاريخ العراق وسارت البلاد في غير الاتجاه الذي سارت به فيما بعد، وفي تاريخ العالم كثير من الأمثلة على ان زواج الملوك يغير مجرى تاريخ أوطانهم التي يحكمونها فقد تسعد وقد تشقى نتيجة ذلك 12.

وفعلاً لو تزوّج الملك غازي من ابنة ياسين الهاشمي لتغّير مجرى تاريخ العراق، وأنصع مثال لم يُذكَر من قِبَل الأساتذة في أعلاه، هو تعامل ياسين الهاشمي رئيس الوزراء مع الملك غازي، اذ لما رأيناه يُضيّق على غازي ويحاول عزله عن الشعب ويسيطر على البلاط الملكي، ليتمكّن الهاشمي في النهاية من شَلّ تصرفات الملك وتحويله لمجرد رمز 13. اذ سيكون الهاشمي وقتها "عم الملك"! وعليه لما رأينا ـ على الأرجح ـ انقلاب بكر صدقي ضد حكومة الهاشمي! وهو أول انقلاب عسكري في المنطقة تم بعلم الملك غازي، اذ يقول غازي صراحة:

لقد طلبت من بكر ومحمد علي ان يُنهيا الوضع الشاذ والذي دفعت البلاد به وزارة ياسين وكتلته وانهاء الدور الدكتاتوري الذي تقوم به ضد شعبي العزيز .. ان بكر ومحمد علي أوعدوني خيراً وسوف يُنفذون الأوامر بشكل دقيق 14. وبكر المذكور هو الجنرال بكر صدقي، ومحمد علي هو قائد القوة الجوية محمد علي جواد.

تم حبك المسألة كما أسلفنا من قِبَلِ نوري السعيد بالدرجة الأولى، ويصف الملك غازي نوري السعيد بكلمات يجب على كل عراقي ـ برأينا ـ يميل الى النظام الملكي الاطلاع عليها وقراءتها بعمق، يقول غازي:

ان نوري هو البلاء الأكيد لهذا البلد الطيّب فلينصرنا الله على القوم الظالمين 15.

ولا بُد من التأكيد هنا على أننا نتحدّث عن "لو" مع وعينا بأنها مرفوضة تاريخياً 16.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

...............................

الحواشي:

1ـ لطفي جعفر فرج: الملك غازي ودوره في سياسة العراق في المجالين الداخلي والخارجي 1933 ـ 1939، منشورات مكتبة اليقظة العربية بغداد 1987 ص17 الى 20

2ـ نُوَجّه القارىء الكريم الى عدة دراسات رصينة تناولت حياة الملك فيصل الأول، منها:

علاء جاسم محمد: الملك فيصل الأول / حياته ودوره السياسي في الثورة العربية وسوريا والعراق 1883 ـ 1933، مكتبة اليقظة العربية بغداد ط1 1990

محمد مظفر الأدهمي: الملك فيصل الأول / حياته السياسية وظروف مماته الغامضة ـ دراسة وثائقية، الذاكرة للنشر والتوزيع بغداد ط1 2019

علي عبد الأمير علاوي: فيصل الأول ملك العراق، ترجمة: سيمون أكرم عبد العباس و غيث يوسف محفوظ، مراجعة: د. مقدام عبد الحسن فيّاض، مركز الرافدين للحوار بيروت النجف ط1 2022

3ـ الأدهمي: المصدر السابق ص221

4ـ سامي عبد الحافظ القيسي: ياسين الهاشمي وأثره في تاريخ العراق المعاصر 1922 ـ 1936، منشورات دار دجلة المملكة الأردنية الهاشمية، جمهورية العراق بغداد 2013 ص428

5ـ ولنا أن نقول، ان الملك غازي قد غُلب على أمره واستسلم لضغوط وقيود الحكومات، شاء أم أبى حتى النزع الأخير من حياته، لأنه لم يكن سياسياً مُحنّكاً، ولم تصقله التجارب أو تُدركه الحيل في مواجهة أضداده من الساسة المخضرمين آنذاك. يُنظر:

عبد الله كاظم عبد: تطور البلاط الملكي العراقي 1933 ـ 1939، مكتبة الرائد العلمية عَمّان الأردن ط1 2007 ص332

6ـ عبد الرحمن البزاز: العراق من الاحتلال حتى الاستقلال، مكتبة العاني بغداد ط3 1967 طبعة مُزيدة وفيها فصول تُنشر لأول مرة ص233 و 234، ولنا مقال أثبتنا فيه أن الملك غازي لم يكن جاهلاً بفنون السياسة، يُنظر:

معاذ محمد رمضان: الملك غازي والسياسة، صحيفة المثقف الألكترونية، بتاريخ 7 نيسان 2023

7ـ من أوراق الملك غازي، تحقيق وتعليق: زهير كاظم عبود، تقديم: د. سيّار الجميل، مراجعة: د. عبد الرضا علي، مؤسسة شرق غرب للنشر بغداد ط1 2010 ص32

8ـ القيسي: المصدر السابق ص428 و 429

9ـ ناجي شوكت "رئيس الوزراء الأسبق": سيرة وذكريات ثمانين عاماً 1894 ـ 1974، مطبعة دار الكتب بيروت ط2 1975 طبعة موَسّعة ومزيدة ص248 و 249

10ـ أوراق غازي ص32

11ـ ناجي شوكت: المصدر السابق ص249. حاول المؤرخ الدكتور سيّار الجميل ما وسعته المحاولة "إنصاف" الأمير عبد الإله، يُنظر: أوراق غازي ص48 الى 54، ولا أدري ما فائدة ذلك؟! وماذا سيُضيف الدكتور الجميل في هذا المجال؟! وإلا فقد صدرت دراسة أكاديمية جيدة عن الأمير عبد الإله، وقد ذكرها الجميل أيضاً، وهي:

عبد الهادي الخمّاسي: الأمير عبد الإله 1939 ـ 1958 دراسة تاريخية سياسية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ط1 2001 وفيها يقول الخمّاسي:

ان التصدي لدراسة شخصية بمستوى الأمير عبد الإله ليست بالأمر اليسير، لا سيما عندما يصطدم التصور المسبق بالواقع، ولهذا فقد تَطَلّب الأمر دراسة الأسباب التي حرّكت الأحداث وصاغتها وبلورت نتائجها، بتأمل مجرد يهدف الى استيعابها ومحاولة تفسيرها للوصول الى الحقيقة، ذخيرتنا في ذلك المصادر المتوفرة الرسمية وغير الرسمية على اختلاف نزعاتها، مراعين الأمانة العلمية المقترنة بالموضوعية ص17 و 18. فأين هذا من كلام الدكتور الجميل "الانشائي العاطفي" والذي اعتدنا عليه!! ولنا وقفة سابقة مطوّلة مع الدكتور الجميل في كتابه عن الملك فيصل الأول، يُنظر:

معاذ محمد رمضان: قراءة في كتاب الملك فيصل الأول، جريدة المدى العدد 5198 السنة التاسعة عشرة، الاثنين 6 حزيران 2022 ملحق ذاكرة عراقية.

12ـ أوراق غازي ص33

13ـ لطفي جعفر فرج: المصدر السابق ص113 و 119

14ـ أوراق غازي ص129

15ـ المصدر السابق ص169 ولا حاجة للتأكيد على أننا هنا لم نقصد تأييد الملك غازي في هذا الوصف بالمطلق بقدر ما نحاول تسليط الضوء على "المشكلة السعيدية".

16ـ فاروق صالح العُمر: ثورة مايس ودول الجوار في الوثائق البريطانية، بيت الحكمة بغداد ط1 2002 ص11 الحاشية.

 

إذا أردنا أن نعرف دقائق حياة الدكتور الترابي فيجب أن نحتفي بهذه الفترة الخصبة من حياته، وأن نقدر هذه المدة التي وفق فيها الشيخ المجدد أحسن توفيق، ففي هذه الحقبة من عمره، تمكن من التغلب على كل شيء إلا على أن يزيد حظه من الذكاء والنبوغ، لأنه قد بلغ الحد الذي لا مزيد عليه، وقد بدت بشائر حياة الفتى الغرير واضحة جلية، ففي كل مدرسة يرتادها أو مرحلة ينتقل إليها، يستأنف قوته، ويمضي خلف نشاطه، ويسعى لتحقيق هذا الشعور الذي بسط سلطانه عليه، والذي جعله يمقت التسويف، والكسل، وإضاعة الوقت، وتزجية أوقات الفراغ بأشياء لا يظهر تأثيرها على عقله وحصاته، لم تكن تلك الحياة العقلية التي عاشها الترابي في تلك المرحلة ممعنة بالتصوف، متأثرة بالذكر وحلقات المديح، كما لم يقف قاربه على سواحل الطرب والغناء، أو يذعن لسلطان الحضارة الغربية التي كانت متفشية في الوسط الطلابي بحكم الاستعمار القابع في بلده، ولم يخضع لأصولها المغرية ومناهجها الآسرة، كان الترابي مولع بشغف لا عهد لأترابه به، وقد ظل أثر هذا الشغف عظيماً خطيراً على سائر حياته، كان الترابي يعظم الكتب، ويتخذ من عصارتها ما يدفعه لأن يطلق لسانه في غير تحفظ، ويستفيض في كل حديث، إذن مضى الترابي مخالفاً ما دأبت عليه الناشئة التي تنفق سائر يومها في اللعب وتسرف في هذا اللعب، ملبياً ذلك الطموح الشاذ، وخاضعاً لنظمه وتقاليده، وقد ساعده على ذلك والده الذي كان يدعوه إلى التفكر، ويرغبه في القراءة، ويشحذ همته في دروس الفقه والعربية التي يدرسها إياه ماجعله قوي العارضة، متمكناً من ناصية اللغة.

لقد أسرف الترابي في القراءة، وأضنى بها نفسه، واستقبل بعدها فنوناً جديدة من اللغات وضروب المعرفة، مكنته فيما بعد أن يعارض الأنظمة المستبدة بلسانه وقلمه، وأن يخوض حرباً لا هوادة فيها ولا لين، ضد طغمة تريد أن تخرج عباد الله من أرض الله وسمائه، طغمة تريد أن تقدم العلمانية عنصراً أساسياً في الإصلاح الاجتماعي، وتجاهد لأجل تحقيق هذه الغاية، جهاداً يرضاه الغرب ويصطنع له الحيلة، على أن إطلاع الدكتور الترابي وسعة معرفته، تدلنا على شيء آخر له قيمته، فالقراءة التي مدت للدكتور الترابي أسباب الظفر، ومهدت له سبيل الغلبة، كان الدكتور الترابي يذكي نار شعورها، ويشحذ عزمها بكثرة الخلاف، فلم ينتهي هذا العصر إلى ما انتهى إليه من رقي للعقل إلا بفضل الخلاف، والدكتور الترابي كان يتعجل الخلاف، ولا يصطنع الأناة فيه، وكنا نراه مندفعاً فيه شديد الاندفاع، ولم يكن ينطلق في خلافه من فلسفة أملاها الغرور، أو صاغتها الكبرياء، ولكنه كان يطمح أن يهدم طرفاً من أباطيل ظنها الناس من الدين، وأن يقيم الحجة على خطلها وفسادها، كان الشيخ يروم أن تنقطع الأسباب بهذه الترهات، ويمضه ويحزنه إذا وجد تأثيرها ما زال غضاَ باقياً في المجتمعات المسلمة، ولعل في كل هذا ما يشرح لنا كثرة حركة الترابي وقلة استقراره.

لم يكن هدف الدكتور الترابي هو كسب المجد، ونباهة الشأن، كلا، كان هدفه هو أن تمنحه طوائف السودانيون ما تعودت أن تضن به، وهو أن تصيخ له بسمعها، حتى يصور لها حقائق الدين صورة توشك أن تطابق الأصل وتوافقه، ولعل من الخير للباحث أن يقتصد فيقول أن القضية التي شُغل بها الترابي طوال حياته هي الدعوة وتغيير المفاهيم، فالسودان القطر الذي عاش فيه الدكتور الترابي كان يذخر بثقافات وعادات لا تكاد تحصى، أخذت هذه العادات المنحرفة إلى أشد حدود الانحراف ترتبط بمرآة الدين الصافية، وتشوش عليها، وكان الترابي وغيره من العلماء لا يستطيعون أن يجلو هذه المرآة، ويطرحوا الواغش عن صفحتها إلا بجهد عنيف، رغم إقرار الدكتور الترابي أن الغاية التي كانوا ينشدونها هي المصلحة السياسية، ولكن الصفة التي لازمت جل خطابات الدكتور الترابي السياسية منها، والاجتماعية، هي الحديث عن قضايا الدين، وإزجاء النصح لمستمعيه، وتذكيرهم بالحجة القاطعة، والبرهان الساطع، بكرب تعجز النفوس عن احتماله، وتقصر الألسنة عن وصفه، وسعادة لا تضعف أو تتضاءل لمن حالفه الحظ وفاز بها.

وعن إهمال العمل الدعوي في صفوف الحركة الإسلامية يقول الدكتور الترابي: "جُل عملنا في الحركة الإسلامية كان سياسياً وليس دعوياً، وعن نفسي فأنا أتشوَّق أن يكون لي عمل دعوي، وكنا ننظم الناس لابتعاث الإسلام في صورة دولة، وهذا مشروعنا منذ دخولنا حنتوب الثانوية. ولكن القراءات والكتب التي قرأناها كلها كانت تعبوية فقط، مثل معالم في الطريق، وتفسير ظلال القرآن، وكفاح دين، والإسلام عقيدة وشريعة، وحياة محمد لمحمد حسين هيكل، والحكومة الإسلامية، وكانت لنا أشواق للدولة الإسلامية وكنا نبحث للنموذج والتجربة الإسلامية" ألا يحمل هذا الكلام بين طياته هموم نهضة الدين؟ والحركة الإسلامية الذائدة عن حوض الإسلام علاما كان يقوم مشروعها السياسي؟ أليس فكرتها تقوم على الإسلام وبالإسلام وللإسلام؟ لم يكن هم الحركة الإسلامية إذاً أن تملك الشعب السوداني وتتسلط عليه، ولكن كان هدفها أن يهيم السودانيون بالدين، ويظفر عندهم بالإكبار والإعجاب، فقد كانوا خاضعين لحكومات ظالمة متجنية، لا تتحرج من إهانة الإسلام والاستخفاف به، وقد كان يعنيها أن ينصرف الناس عنه، وتغريهم بالتخفف منه، وقد جاهد الدكتور الترابي وحركته في سبيل نهضة الدين أعنف الجهاد وأقواه، بأحاديثهم التي كانوا يديرونها في مدن وقرى السودان، دون إهمال السياسة التي يحسبون حسابها حين يكتبون أو يتحدثون، كان مظهر الحركة الإسلامية في السودان الحديثة العهد بالوجود، يوحي بأن السياسة قد استأثرت بجزء كبير من فلسفتها، فالسياسة هي التي تمدها بالذخائر والسلاح لتنفيذ مشروعها الإسلامي، فعن طريق مشروعها السياسي، يستطيع أن يذعن السودانيون لهذا التغيير الذي يرمي له الترابي وجماعته.

والدكتور الترابي كان همه الذي لا يصده عنه تراكم الأشغال، ومطلبه الذي لا يعوقه عنه تقاذف الآمال، هو الانفتاح على كل المدارس الفقهية، وإذا شئت التعبير الدقيق فقل إنه لم يحصر نفسه في أنماط فكرية بعينها ويغفل عن غيرها، بل سعى أن يستخلص العبرات والعظات من كل مصادر المعرفة، وألا يرتهن أو يتعصب لمدرسة بعينها، فهو يرى في هذا الارتهان تجميد للعقل وحصره في بؤرة واحدة، وعن التوسع في القراءة والاطلاع يقول الترابي للدكتور عبد العزيز قاسم الإعلامي السعودي الذي أجرى معه حواراً مطولاً في صحيفة عكاظ السعودية: "وينبغي أن تمضي حراً ومبدعاً، ولا أقصد أن تعربد بغير هداية، ولكن اقرأ كل الساحات وكل الكتب لكل الشيوخ، وتلك مع تجربتك مصادر للمعرفة تكمل بعضها البعض، وأنا أقول هذا ليس تعالياً على الناس ولكني لست مذهبياً ،فأنا قرأت أغلب كتب الصوفية، وأحفظ كثيراً من أناشيدهم، وأعرف ما لا يعرفه الصوفية عن أئمة طرقهم، فمثلاً كثير منهم لا يعرفون أصل عبد القادر الجيلاني، وأين ولد، وماذا كتب، وكذلك أقرأ كتب الفقه، وأسوح في كتب العلوم، فيا أخي الكريم الفردية أمامنا لله فقط `فبعد الله لا نوحّد أحداً حتى عندما أنشأنا الحركة من أول يوم كانت جماعية ولم يكن لدينا مرشد واحد كما كان للإخوان المسلمين في مصر أو كما هو لكثير من الجماعات الدينية" إذن أخذ عقل الدكتور الترابي يتعمق في المعرفة على اختلاف فروعها، فلن يرضى عنه عقله إذا اختزله في معارف بعينها، وعقله الذي يريد أن يتقصى ويتعمق، يريد أن يفهم الصلة الوثيقة التي تجمع كل هذه العلوم بالذات الإلهية التي تدبر أمره، حتى يشيع فيما بعد الإذعان الخالص لهذه الذات، أو الإذعان المدعم بالدلائل، ومن هنا نستطيع أن نفهم أسباب حديثه الدائب المتصل عن المفهوم التوحيدي الذي ينظر للأشياء كل الأشياء في صورها المختلفة، ويربطها بغايات لا تستطيع أن تتحول عنها أو تنصرف، وعقل الترابي لم يكتفي بالرسائل والمتون، والحواشي والمصنفات، والمجاميع والمجلدات، التي تم تأليفها في محيطه العربي والإسلامي، بل ذهب إلى بيئات متحضرة، وبلغ من الإجادة في إتقان لغاتها، ولعل كل المصاعب التي تلقاها الدكتور الترابي، والمشكلات التي اتسقت منها حياته، هي الحرية الفكرية التي لا يأخذها خوف، أو يتملكها ذعر في الغرب، وبين القيود والأصفاد التي تحد من انطلاق العقل وحصافته في الشرق المسلم، وقد أظهر الدكتور الترابي تململه وضيقه بهذه الأغلال التي تؤطر اندياح الفكر وتكبحه، فسعى قبل كل شيء أن يتخفف من أثقال الأوهام والتقاليد، فشنت عليه الأيدولوجيات التي تتهالك على القديم، ولا تؤمن بأن الحرية التي لا تتعارض مع جوهر الدين تضيف إليه ولا تنتقص منه شيء، فنحن مضطرون إليها بالطبع حتى نتدبر ونعي وندرك، فلا هدوء لنفس، ولا راحة لضمير، ولا قناعة لعقل، حيال أي أمر إذا حاد عن الحرية قليلاً أو كثيرا.

والترابي يحدثنا عن شغفه بالحرية، وولعه بها، منذ أن كان غضاً في حداثة سنه، يقول الدكتور الترابي محدثاً محاوره عبدالعزيز قاسم: "ومن أول يوم كانت نزعة التحرر في نفسي، فأنا أحب الحرية في حركتي في الحياة، والتي هي تعبير عما في نفسي، وقد كنت اهتم بتطوير فكري، وأحاول أن استفيد من العلماء أو العوام، فأنا لا اقتصر على العلماء فقط وإنما أيضاً أسعى للإفادة من العوام ولذلك لو سألتني: من هم الذين تأثرت بهم؟ فإني لا أكاد أحصيهم عددا، إذ استفدت من العديد من الكتاب والمفكرين بمختلف اللغات، وفي الحركة الإسلامية انفتحت على تجارب متنوعة للإسلاميين في مصر، وباكستان، والثورة الإسلامية في شمال أفريقيا، والثورة الإسلامية في إيران، والثورات الغربية، والديمقراطيات والعلوم الاجتماعية في الغرب أيضاً". لن نجد قامة فكرية تخبرنا في تواضع جم، وهي ترسم ابتسامة ساذجة على ثغرها، بأنها كانت لا تتوانى حتى من التعلم من غمار الناس وزمعهم، فالترابي كان يعني بما لا يحب أن يعنى به أحد، وقد يستنكف البعض حتى من الحديث إلى طغام القوم وغوغائهم، تكبراً أو زهداً، ولكن هناك من يستمع ويعي، ويطمح أن يجد فراغا يستطيع أن يحققه، لينقطع إلى هؤلاء، والترابي أبان في حديثه أنه سعى لتطوير فكره منذ أن كان في مقتبل عمره، وأنه اطلع على الثورة الإسلامية، ولم تشغله قضايا الاستبداد الفارسي، والحركات التحررية في الغرب، ولم تحدثه نفسه بأنها دول تناقض نفسها، فهي تنشد الحرية بينما هي تحتل البلدان المهيضة الجناح وتنكل بها، إنما انحاز الترابي إلى الرحيق الفكري لهذه الدول رغبة في علمها، وحرصاً للتعرف على معالم تفوقها.

الآن وقد انتهى الدكتور الترابي من ذكر المصادر التي اقتبس منها علمه، يذكر مصدراً آخر نهل منه العلم في غير نظام ولا اطراد، مصدر اكتسب منه الترابي معظم علومه الحية المستحدثة، وتغلب فيها على عسر تعلم اللغات ووعورتها، رغم أن هذه المدرسة ضيقة أشد الضيق، محدودة للغاية، لا تكاد تتسع إلا لفئة قليلة من الناس، ورغم أن الأجواء في هذه المدرسة متنافرة متدابرة، إلا أن شيخنا استطاع أن يتصل فيها بثقافة الغرب، ويحيط بأدبه، ويطوف بفنه، ويتقن فيها اللغة الإنجليزية والفرنسية، ويلم بالألمانية الماماً زلل له قراءتها، وإن لم يتمكن من ناصيتها تماماً، وقد درس الدكتور الترابي في دجنة السجون وغياهبها، الأخلاق، والفلسفة، والحياة القديمة التي انقضت أيامها في الدول الغربية، والمثل العليا في الحياة الغربية التي تغيرت في نفوس الشعوب تغيراً شديداً، واستعرض فيه الآداب الأوروبية الحديثة التي نشرها رهط من المؤلفين والنقاد الغربيين، كما تنقل الدكتور الترابي في مذاهب الحركات الإسلامية ومدارسها، واستعرض حياة الثائرين على أوضاع المسلمين، وكيفية مجابتهم للعاديات والخطوب، وقد تطرق الدكتور الترابي إلى تجربته في السجن وعدها من أنضر مراحل عمره، رغم ما اكتنفها من نقم ونوائب، يقول الدكتور الترابي:" إن دخول السجن كان أفضل وأمتع أيامه وتجاربه، وأضاف: كنت أبحر في الكتب متأملا ولا يشغلني شيء أو أحد، وقد زادتني هذه الأيام قوة وثقافة ولم تضعفني، قرأ الدكتور الترابي مؤلفات الأفغاني، ومحمد عبده، والمودودي، ومحمد إقبال، وغيرها من الكتب القديمة حيث أقرأها برؤية جديدة، وذكر أنه قد انتفع من كل ذلك".

هذا الترابي في محنته وشدته، فلننظر لحاله وهو ينعم بالحرية، ويحتفظ باستقلاله، نريد أن نقف على الكيفية التي ينتهجها الدكتور الترابي في تدبر الكتب وقراءتها، أما عن الكتب الأثيرة عنده، حسب إفادة ابنته "أمامه" لم يكن شيخ حسن يدون تعليقاته في حواف الكتب التي يقرأها، فالكتب التي يطلع عليها لا يطرأ عليها أي تغيير، بل يخال من يراها كأنها مازالت جديدة وفي ثوبها القشيب، وكان الكتاب الأثير عنده والذي لا يمل من كشف دقيق أغراضه، وخفي مقاصده، وبديع إشاراته، هو كتاب "لسان العرب" الذي كان شيخ حسن كثير الرجوع إليه، ويستعين به في فهم دلالات الألفاظ التي ورد كثير منها في الكتاب الخاتم، الذي خلعت الفصاحة عليه زخرفها، وهذا يقودنا للحديث عن مصحف الشيخ والذي هو برواية حفص عن عاصم، كان الشيخ رحمه الله يتلو منه ما تيسر له في كل يوم، فقد كان الدكتور حفياً بذلك المصحف، ففيه يجد طمأنينة القلب، وهدوء النفس، وصفاء الضمير، وقد أمعن الشيخ في الشروح، والحواشي، والتقارير، التي كان يدونها ليبين الاختلافات في الروايات بين قراءة الدوري وورش عن حفص والتي وجدت موجودة بخط يده".

***

د. الطيب النقر

 

شعر بالانزعاج وهو يقرأ تصريح مؤسس شركة مايكروسوفت بيل غيتس الذي قال فيه:" أنه يتوقع تحقيق حلمه الأكبر قبل أن يموت، وهو وضع حد للورق ومن ثم للكتب "، تملكته حالة من الغضب بعد ان واصل غيتس سخريته من الكتب  والتي وصفها" بأنها اشياء عفا عليها الزمن ". التفت إلى زوجته وهو يردد: هذا انسان وقح.. لا يمكن أن أذهب للشاشة لكي اقرأ رواية.. فالكتاب يوفر الاحساس بالحميمية، والتركيز العقلي والعزلة الروحية ". يذهب باتجاه مكتبه، لا بد من الرد على مثل هذه الاكاذيب، ساعات من الكتابة ، لينشر بعد ايام مقالاً بعنوان:" لماذا نقرأ الأدب ؟ " اعلن فيه انه من دون الكتاب، سيعاني العقل البشري من خسارة لا تعوض، مختتما مقالته بهذه الجملة:" إذا اردنا أن نتجنب فقر خيالنا، ونتجنب اختفاء ذلك الاستياء الثمين الذي يهذب حساسيتنا ويعلمنا التحدث ببلاغة ودقة، وأن نقاوم اي مساهمة لإضعاف حريتنا، فيجب أن نقرأ -  " داخل المكتبة ترجمة راضي النماصي -.

عندما سئل: لماذا يحب القراءة؟، فكر قليلاً ثم قال: الجواب يكمن في طفولتي.. ماريو فارغاس يوسا المولود في ليما عاصمة البيرو، في الثامن والعشرين من آذار عام 1936، يتذكر كيف انفصل ابوه عن أمه قبل أن يولد، وعندما اصطحبته الى بوليفيا اخبرته ان والده مات قبل ولادته، وبعد عشرة اعوام سيظهر هذا الأب ليتزوج امه مرة ثانية، غضب عندما علم ان ابنه يكتب الشعر، كان الاب يربط بين الادب والشرور، والحياة الشاذة، ينتمي  الى طبقة برجوازية، في الوقت نفسه كانت الام تحرص على تعليم انبنها القراءة في سن مبكرة والتي ستشكل  أهم حدث في حياته:"ما زلت أذكر بوضوح هذا السحر، سحر ترجمة كلمات الكتب إلى صور، ما أغنى وجودي، محطما حواجز الفضاء والزمن، متيحا لي أن أجتاز مع القبطان نيمو في غواصته عشرين ألف فرسخ تحت أعماق البحار، أن أناضل إلى جانب دانتانيان وأتوس وبورتوس وأراميس ضد المؤمرات التي كانت تحاك ضد الملكة زمن الداهية ريشوليو، أو أن أتنزه في أحشاء باريس، لأصبح جان فالجان، حاملا على ظهره جسد ماريوس الهامد". كانت القراءة تحول عالمه الى احلام غريبة، تضع الكون بين يديه، وتملأ طفولته بالحماسة والمغامرات.يتذكر ان أمه كانت  تدمع عيناها حين تقرا اشعار بابلو نيرودا، وتنفعل  وهي تقرأ لابنها مغامرات الصبي دايفيد كوبر فيلد، فيما بعد سيكتب يوسا ان روايات تشارلز ديكنز تسللت الى عائلته مثل أفضل الأصدقاء وأقربهم. كان ديكنز قد قرر وهو في الحادية والاربهين من عمره  أن يقرأ رواياته على الجمهور، فصعد خشبة المسرح في كانون الاول عام 1853  ليلقي أمام ألفي شخص فصول من ديفيد كوبر فيلد التي صدرت عام 1849 ، كان آنذاك  الروائي الأوسع انتشاراً وشعبية في بريطانيا، وكان قراره الصعود إلى خشبة المسرح قد أثار  اعتراضات شدة من قبل ناشر رواياته الذي حذره من خطوره هذه الخطوة  على مبيعات رواياته، لكنه قال للناشر وعائلته أنه يريد ان ينظر الى وجوه الناس وهم يتابعون احداث رواياته، ثم اضاف انه يحقق امنيته التي تمناها في صباه ان يكون حكواتيا . وقد ظل تشارلز ديكنز يصعد على خشبة المسرح لمدة سبعة عشر عاما. حاول يوسا ان يقلد ديكنز عندما كان يطلب مه ان يقرا قصة او فصلا من احدى رواياته:"  شعرت أيضاً بتلك المعجزة المحيّرة التي يولّدها تجسيد الخيال وتقمّص الشخصيات الروائية " – الكاتب وعالمه ترجمة بسمة محمد –.

يعثر في مكتبة المدرسة على نسخة من رواية ثيرفانتس " دون كيخوته "، كانت محاولاته الاولى لقراءتها باءت بالفشل:" كانت تربكني الجمل الطويلة، والعبارات القديمة التي كنت أضطر للبحث عن معانيها في المعاجم "بعد سنوات سيعيد قراءة " دون كيخوته "، وسيفلح في الانتهاء منها خلال ايانم قليلة: "متمتعاً بكل جملة وكل صفحة، بقصة تلك الشخصيتين النقيضتين، الفارس المثالي الممشوق القامة، الذي يكرس حياته لتغيير الواقع كي يتشابه مع الكتب والأحلام، ومرافقه البراغماتي صاحب البطن السخي، الذي يحاول إبقاء سيده في دائرة الواقع المرير كي لا يتيه في ضباب الخيال والأحلام ".

في شبابه يخصص عشر ساعات من القراءة اليومية، قال لأحد محاوريه انه كان يريد آنذاك ان يتحول الى " وحش قراءة ". كانت والدته تقول له ان القراءة تجعل ذهنه صافيا، ويعارف ان القراءة كانت أجمل هدية تلقيتها في حياتي.في المقابل كان الأب يسخر من الكتب، وكانت مهمته في الحياة ان يزيد من صلابة ابنه ، فقرر ان يرسله الى معهد تعليمي عسكري في ليما عاصمة البيرو، المدينة التي ولد فيها يوسا في الثامن والعشرين من آذار عام 1936. كان المعهد يتسم بالتشدد، وسيصف لنا في روايته الاولى " المدينة والكلاب " الصادرة عام 1962، الحياة في هذه المدرسة ومدى شدتها،  هناك كان الطلاب يخضعون للنظام العسكري الصارم، يطلب منهم تمجيد القيم العسكرية. يصور لنا بطل الرواية مرعوبا وخائفا من الواقع الذي يشجع على العنف:" كنت مصدوما في هذه المدرسة العسكرية " – الكاتب وعالمه ترجمة بسمة محمد - في المدرسة يجري تدريب الطلبة للعمل في عالم من العنف، يروي لنا الوحشية المتفشية التي مورست على مجموعة من الطلاب الشباب.، ليدين من خلالها فساد ذلك العالم وعنفه الدائم.

بدأ في كتابه رواية " المدينة والكلاب " في منتصف عام 1958، عندما كان يقيم في مدريد، يحمل اوراقه ويتنقل بين عدد من المقاهي، انتهى منها في شتاء عام 1961 في غرفة صغيرة أثناء إقامته في باريس. عرضها على العديد من دور النشر التي رفضتها، في النهاية قرر ان يذهب الى الناقد الفرنسي من اصل اسباني كلود كوفون، الذي تحمس للرواية  ونصحه الاشتراك في مسابقة للرواية في اسبانيا، تحدث المفاجاة وتفوز الراوية بالجائزة الاولى وسيصفها رئيس لجنة التحكيم بانها عمل ساحر وافضل ما قدمه ادب امريكا اللاتينية منذ عقود.. حصلت الرواية بعد عام على جائزة النقاد الاسبان. واعلنت عن ولادة كاتب روائي سيذهل النقاد بتقنيته الروائية وبالموضوعات الحساسة التي يطرحها، فالرواية بالرغم انها عن حياة الطلبة داخل المدرسة العسكرية، إلا انها تقدم للقارئ عالما مصغرا للمجتمع البيروني في طبقاته الاجتماعية المتباينة.تعرضت " المدينة والكلاب " للكثير من المصاعب حيث تم احراق نسخ منها في البيرو، فيما اصرت الرقابة في اسبانيا على حذف مقاطع كاملة في الطبعة الثانية، ولم تنشر كاملة إلا بعد انتهاء حكم  الجنرال فرانكو.

قبل ان يفكر بدخول عالم الرواية حاول ان يتجه الى المسرح، كتب عملاً مسرحيا في 1952، إلا انه وجد في الرواية عالما اكثر غرائبية: "الروائي يكتب عمله من تجربته الحياتية، مشيداً عالمه المتخيل على أسس الواقع، يقوم الروائي، بالنبش في تجربته الحياتية الخاصة، بحثاً عن دعائم ومرتكزات لكي يبتكر قصصاً. والكاتب لا يمتلك حرية واسعة جداً في اختياره لموضوعاته، فهذه الموضوعات هي التي تفرض نفسها عليه.. إنها رحيق تجاربه وخبراته التي يبدأ بها لكنها لا تحدد عنده نقطة الوصول، فالروائي مسؤول عن كيفية معالجته فنياً للموضوعات التي هيمنت على ذهنه، ووجّهته للكتابة عنها. إنه ينصاع لمتطلبات عمله، تحت وطأة تلك الرابطة الحميمة التي تجمعه مع صور ومشاهد وحالات بعينها من هذا العالم، فيكتب قصصه المتخيلة. والطريقة التي يجسدها بها هي ما تجعل من هذه القصص أصيلة أو مبتذلة، عميقة أو سطحية، معقدة أو بسيطة، وهي التي تمنح الشخصيات الكثافة، والغموض والاحتمالية " – الكاتب وعالمه. في سن مبكرة يحلم بالقيام بمغامرات مثيرة مثل احد ابطال تولستوي وجول فيرن والكسندر دوماس، الذين قرأ اعمالهم بشغف، لكن الاكتشاف الابرز له كان جان بول سارتر، قرأ كتبه باعجاب وحماسة عندما كان طالبا في الجامعة، كانت الوجودية آنذاك مؤثرة في العالم كله، ظل أصدقائه يسمونه سارتر الصغير:" أنا تلميذ سارتر الذي يعتبر الكلمات أفعالاً، ويؤمن أنّ الأدب يغيّر الحياة "، في تلك السنوات ينتمي الى الحزب الشيوعي، لكن افكار سارتر تظل مهيمنة عليه:" برغم من كثرة قراءاتي في الماركسية خلال فترة الجامعة، كانت لدي اختلافات مع الماركسيين بسبب سارتر، لان افكار سارتر عن الادب والعلاقة بين الادب والتاريخ كانت مقنعة جدا بالنسبة لي الى درجة انني لم استطع قط ان اقبل العقيدة الرسمية للحزب "، لم تستمر علاقته بالماركسية طويلاً، سخر من الواقعية الاشتراكية، واعجب بفكرة سارتر من ان الادب شديد الارتباط بالزمن المعاصر، وانه من غير المقبول استخدام الادب في الهروب من المشاكل المعاصرة. عندما سافر الى فرنسا في السبعينيات كان يتمنى ان يلتقي بسارتر، خاف الاقتراب منه، ظلت صورة الفيلسوف المنكب على كتبه واوراقه ترافقه، المرة الوحيدة التي شاهد فيها سارتر كانت في تظاهرة شارك فيها فيلسوف الوجود والعدم  ضد الاضطهاد العسكري في البيرو:" كنت أقف بعيدا عنه، لكني كنت مضطربا وأنا أشاهده: كان شخصا مهما جدا! وقد قرأته باحترام كليّ ".

يعترف يوسا بان بان الكتب تمثل الجانب الاكثر اشراقا في حياته، وانها ساعدته في ان يرسم طريقا لحياته.. سبب عيشي. منذ ذلك الحين وإلى اليوم، وفي جميع الظروف التي شعرت فيها بهزيمتي وبموتي وبأنني على حافة اليأس، كان انكبابي جسدا وروحا على  القراءة والكتابة  بمثابة النور الذي يشير إلى خروجي من النفق، خشبة النجاة التي ستحمل الغريق إلى الشاطئ ".

عام " 1966 " ينشر روايته الثانية " البيت الاخضر " – ترجمة رفعت عطفة - يقدم من خلالها ادانة للغزو الاسباني وللدور الاستعماري ولتدمير الحضارة الهندية، ففي الرواية نحو بمواجهة " حضارتان " واحدة غربية وحديثة وبدائية والاخرى بدائية وقديمة، تتعايشان بشكل سيء، حيث يسعى لتصوير انقسام بيرو الى ثقافتين منفصلتين ومتمايزتين. قبل عام من اصدار الرواية يتزوج ابنة خالته " باتريشا يوسا " وسينجب ثلاثة ابناء، ويتلقى عالم 1967 جائزة رومولو غايبوس عن " البيت الاخضر "، كان قد تلقى رسالة من الكاتب الارجنتيني خوليو كورتاثر الذي قرأ مخطوطة " البيت الاخضر " يقول فيها:" تركت اسبوعا يمر بعد قراءة كتابك، لاني لم أشأ الكتابة اليك تحت تاثير انخطاف الحماسة التي احدثة (البيت الاخضر " بي. اريد ان اقول، ان اعظم الساعات التي يخبئها لي المستقبل ستكون اعادة قراءة كتابك عندما يطبع.. حسنا ياماريو بارغاس يوسا، ساقول لك الآن الحقيقة كلها: " بدأت بقراءة روايتك وانا اموت خوفا نظر للاعجاب الكبير الذي قرأت به المدينة والكلاب. وكنت اشعر بخوف من ان تكون روايتك الثانية ادنى، بعد قراءة عشر صفحات وستلقيت في وضع مريح على الاريكة، وغادرني الخوف، صرت خاضعا تماما لقدرتك السردية الهائلة " –جيل البوم الادبي ترجمة صالح علماني –

"يكتب غابريل غارسيا ماركيز رسالة الى يوسا يقول فيها:" انتهيت من قراءة " البيت الاخضر " انها عمل هائل، نبهني الى اننا متفقان في هدف عدم هجر ممالك غاييغوس وريفيرا القديمة، باعتبارهما مطروقة، بل على العكس، مثلما تفعل انت ومثلما احاول ان افعل، يجب الامساك بهما من البداية من اجل اختراقهما عبر الطريق الصحيح ".

روايته الثالثة " حوار في الكاتدرائية " صدرت عام 1969 يصور فيها الجو السياسي في البيرو في اثناء حكم " مانويل اودريا، وكانت فترة حكم دكتاتورية فاسدة امتدت من عام 1948 الى عام 1956 اصبح يوسا اكثر وضوحا بموقفه حول العلاقة بين الادب والسياسة، فهو يعلن بوضوح ان على الكاتب ان يكون على اتصال دائم بالواقع، فهو يمقت فكرة الروائي المنعزل الذي يقطع علاقته بكل شيء، لان هذه القطيعة ستنتج ادبا  " لا يمكن ان يكون نقيا "، لكنه في الوقت نفسه ظل يعيب على الادب ارتباطه بالقضايا الراهنة، وفي المقال الذي نشره عن رواية " مئة عام من العزلة " يؤكد ان الادب، خلافا للسياسة، لا يمكن ان يكون مرتبطا بالراهن، إذ عليه ان يتجاوز ويصل الى مجتمعات مختلفة في امكنة وفضاءات مختلفة. اغرم بفوكنر وقد قراه عندما كان في المدرسة الثانوية حرص على اقتناء جميع كتب الكاتب الامريكي الشهير، وكان فوكنر  صلة الوصل بين يوسا وماركيز:" كنّا معاً من كبار المعجبين بفولكنر. في مراسلاتنا المتبادلة كنّا نتحدّث كثيراً عن فولكنر، عن الطريقة التي اندفعنا بها لاكتشاف الفن الحديث، بما فيه أسلوب السرد بدون احترام التسلسل الزمني، وتغيير وجهات النظر. "

يردد يوسا أن القراءة كانت سبيله لولوج عالم الأدب منذ الطفولة. ومما يتذكره بشأن والدته، أنها قالت له لاحقاً، بأن كتاباته الأولى، تمثلت في تصور تتمات للقصص التي كان يقرؤها، ذلك على أساس أسفه كون أنها انتهت، أو لأنه كان يريد لها نهاية أخرى. ويضيف: " ربما أن هذا ما فعلته طيلة حياتي، من دون معرفة ذلك، عبر إطالة زمن قصص مغامرات الطفولة، بينما كنت أكبر وأنضج وأشيخ "، وهكذا يتحول  الحلم إلى حياة، فالقراءة- برأيه- توقظ الشهيّة لعمل الخيال، وتدفع الى الخوض في منعطفات عالم الكتابة. ولا يتردد يوسا في الاعتراف من ان أفضل ذكريات طفولته في، كانت مع  القراءة”، وليس مع رفاق المدرسة.

عندما سال ما هي الكتب التي لا يزال يحتفظ بها، قال انها الكتب التي لا يزال يحبها، وعلى راس القائمة رواية مدام بوفاري  ومعظم روايات فلوبير،  يتذكر عندما كان في العشرين  من عمره وقد وصل الى باريس قادما من العاصمة الاسبانية مدريد، لم يكن يحمل الكثير من امتعة السفر باستثناء حزمة اوراق كان يحرص عليها بشدة،كانت مخطوطة روايته الاولى " المدينة والكلاب "، وجد شقة صغيرة جدا بالقرب من حدائق اللكسمبورغ، كان قد انتبه بوضوح إلى ميله ان يصبح كاتبا، لكن عليه في هذه المدينة أن يبحث عن عمل يؤمن عيشته، فوجد وظيفة في وكالة فرانس برس، واخذ يعطي دروسا في اللغة الاسبانية..يتذكر ماريو فارغاس يوسا انه ذهب ذات يوم إلى احدى مكتبات الحي اللاتيني تدعى "مكتبة متعة القراءة" ليشتري نسخة من رواية " مدام بوفاري ":" أمضيت الليل بكامله في قراءتها، أدركت عند طلوع الفجر أي نوع من الكتّاب أريد أن أكون، وأني، بفضل فلوبير، بدأت أتبين جميع أسرار فن الرواية " – يوسا جريدة الشرق الاوسط -.

بعد الانتهاء من الصفحة الاخيرة من " مدام بوفاري ادرك يوسا " ان لا أحد يرقى إلى مصاف الفرنسي الكبير غوستاف فلوبير من حيث فضله على الرواية:" فمعه وحده ولدت الرواية الحديثة، فهو الذي الذي أرسى القواعد التي تحولت، بعد سنوات، إلى الأشكال والتراكمات اللامتناهية التي تفتقت عنها عبقرية جيمس جويس ليميزها نهائياً عن الرواية الكلاسيكية"، بعد فلوبير روايات وليم فوكنر، هذا الرجل رجل الطباع  الذي كان يعيش يعيش  في أقاصي ميسيسيبي، حيث استطاع ان يعطي للرواية مرونة في الزمان والمكان مكنته من كل التجاوزات،  لقد وجد  يوسا ان أكثر ما يذهل عند فولكنر لم تكن جرأته الرائعة التي أتاحت له أن يكتب روايات مثل " الصخب والعنف" أو "بينما أرقد محتضرة"، بل:" الحيل التي كان يخدع بها الصحافيين عندما يعرّف عن نفسه بأنه مزارع يحب الخيول، ويرفض الحديث عن تقنيات الرواية "وبضيف يوسا:" يعود الفضل إلى فلوبير، وجويس، وفوكنر، وثيربانتس في انشاء مكتبتي الشخصية ". تضم المكتبة ايضا "موبي ديك "  لملفيل، و"  الحرب والسلم" لتولستوي، و" مشاهد من حياة إحدى المحظيات" لبلزاك، و "يوليسيس " لجويس ، و  " دون كيخوته  " لسرفانتس ، ومؤلفات الفيلسوف الاسباني  خوسيه اورتيجا أي غاسيت، صاحب الكتاب الشهير " موضوع زكاننا، واعمال ابلروسي برديائييف والابله لدستويفيسكي والتي كانت مهمة جدًا بالنسبة لخ لأنها أعطتني فكرة الرواية ككل، ويضيف يوسا هناك بالتاكيد مئات العناوين وعلى راسها كتب جان بول سارتر وكتابات بودلير ولا ينسلى شغفه بحوزيف كونراد.

في روايته الرابعة " حرب نهاية العالم " – ترجمة امجد حسين – والتي نشرت عام 1981 ، يعدها النقاد  اول محاولاته في كتابة الرواية التاريخية، الرواية تسلط الضوء على الكوارث التي يسببها التعصب، تفرغ لكتابتها اربعة سنوات، قال انه وجد صعوبة لان يكتب عن بلد غريب عنه " البرازيل "، وعن عصر لم يعشه، وان يعمل مع شخصيات تتحدث بلغة لم تكن هي لغته ، ستحصد الرواية شهرة كبيرة سيقول عنها انها الرواية الاكثر اهمية بالنسبة له:" هذه الرواية مثلّت تحديا مرعبا لي كنت اريد ان اتغلب عليه،في البداية كنت قلقا جدا،فكمية مواد الابحاث الضخمة جعلتني اشعر بالدوار،مسودتي الاولى كانت ضخمة،كان حجمها بقدر حجم الرواية مرتين تقريبا،وسألت نفسي كيف ساتمكن من تنسيق كل تلك المجموعة الضخمة من المشاهد،الالاف من القصص الصغيرة ".

يوسا الذي احتفل بعيد ميلاده الـ" 88 " قبل يوم – 28 آذار  قليلة قال ان معظم رواياته هي نتاج ذاكرته التي عززتها القراءة والمشاهدة والعيش مع الكتب واحداث الحياة  اعلن عن اعتزاله الكتابه بعد ان اصدر اخر رواياته "أهدي صمتي"، وفيها يروي قصة رجل حلم ببلد توحده الموسيقى، وأصيب بالجنون راغبا في كتابة كتاب مثالي يرويه. قال في حوار معه:" أودع الرواية، و لا أتصور بأن هذه الحكايات،و التي انتظرت ثلاث أو أربع سنوات لتتشكل، في مكنتها الإحاطة بكل الدقة الضرورية في هذه المرحلة من حياتي.بيد أنه في الواقع سأستمر في الكتابة إلى آخر يوم في حياتي. ففي " أهديك صمتي " وضعت كل ما يعنيه لي بلدي البيرو: انسجامه،حزنه،،هذ الموسيقى التي لديها من العواء و النواح،هكذا أفهم الفالس البيروفي  و ثقافتي. هذه ما يميزنا في العمق، ولذلك، أعتقد أن هذه الرواية من بين ما أكن لها من حب، تصلني بجذوري وهو تكريم لإبداع بيروفي والتي بواسطتها نشعر بالفخر، أو أن أقول لقرائي أن يكتبوا ويقرؤوا دائما، وأن يغتنموا ويستمتعوا بخيالهم كل ما أمكن لهم ذلك" - حاوره:دافيد لامي ترجمة محمد العربي هروشي -

عندما حصل عام 2010 يحصل على جائزة نوبل للاداب، قال لزوجته التي التي تلقت مكالمه هاتفية من الاكاديمية السويدية " مازلت لا اصدق ذلك "، بعد ذلك اخبر زوجته بألا تخبر الاولاد شيئا ربما ينتهي الامر بمزحه مثل كل عام لقد ظل يوسا ينتظر هذه الجائزة منذ اكثر من عشرين عاما، موقناً من أنه سينالها، ولكن خيبة الأمل ظلت تواجهه سنة بعد أخرى. قال يوسا لاحدى الصحف الاسبانية " سوف اسير في الشوارع لانني اشعر بالدوار، ان الجائزة سقطت علي مثل الصاعقة، ساعود الى البيت لاكتب من جديد ".

بعد انفصاله  العام الماضي عن صديقته  إيزابيل بريسلر  يعود يوسا الى منزله في شارع فلورا في قلب العاصمة الاسبنية مدريد : "لقد عدت الآن محاطًا بكتبي" التي يقول انها اصبحت جزءا من حياته الاجتماعية، فالقراءة كما يصفها هي المهنة التي  لن يتعب منها بأية حال من الاحوال.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

بقلم: تيد فارس

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كان بول تيليش اشتراكيًا متدينًا ولاهوتيًا حاذقًا للغاية، وقد وضع الشك في مركز فكره. تعود معظم ذكرياتي عن جدي إلى زيارات طفولتي إلى منزل أجدادي الصيفي في إيست هامبتون في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. أصبحت القرية، بشواطئها الأطلسية الرائعة على الشاطئ الجنوبي لجزيرة لونغ آيلاند، بالفعل مكانًا للتجمع الفكري والفني الصيفي للأكاديميين والكتاب والفنانين الأوروبيين الذين شردتهم الحرب العالمية الثانية. وكان جدي، الذي كانت لديه حياة اجتماعية نشطة، يعد الكثير منهم أصدقاء.

لقد أوضحت جدتي، هانا (أو "أوما" كما نسميها)، أن الوقت المقدس لزوجها للكتابة من الساعة 8 صباحًا حتى 11 صباحًا لا يمكن انتهاكه، وقد قامت بحمايته من الضوضاء والمشتتات الطفولية التي نقوم بها أنا وأختي الصغرى. في المساء، كان يترأس حفلات العشاء أو حفلات الكوكتيل للأصدقاء والمعارف من المجتمع الأكاديمي والفني لما يسمى الآن هامبتونز/ Hamptons. في بعض الأحيان، كان جدي يشاركني في لعبة الشطرنج التي كنت أخسرها دائمًا لسبب غير مفهوم. لم تسنح لي الفرصة أبدًا لمناقشة الفلسفة معه لأنه توفي عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري، لكن المحادثة على العشاء في منزل تيليش كانت غنية بالأفكار والأحداث السياسية وأعمال الكتاب والفنانين التي لم أتعرف عليها إلا في وقت لاحق.

كان تيليش من بين المجموعة الأولى من الأساتذة وأول أستاذ غير يهودي يطرده هتلر لمعارضته النازية. قام النازيون بقمع كتابه القرار الاشتراكي (1933)، وألقوه في النيران أثناء حرق الكتب النازية. في أواخر عام 1933، فر من ألمانيا مع عائلته إلى الولايات المتحدة، حيث أصبح مثقفًا عامًا، وشغل مناصب كأستاذ للفلسفة في مدرسة الاتحاد اللاهوتية في نيويورك ثم كأستاذ جامعي في جامعة هارفارد، وأخيرًا أستاذًا للاهوت في كلية اللاهوت بجامعة شيكاغو. خلال الحرب العالمية الثانية، تحدث تيليش عبر الراديو ضد النظام النازي لوزارة الخارجية الأمريكية وساعد المثقفين الأوروبيين على الهجرة إلى الولايات المتحدة. في الأربعينيات، شغل منصب رئيس مجلس ألمانيا الديمقراطية. ونظرًا لاهتمام قطب المجلة هنري لوس وزوجته كلير بوث لوس، ظهر تيليش على غلاف مجلة تايم في مارس 1959 وكان المتحدث المميز في حفل عشاء الذكرى الأربعين الذي حضره نجوم مجلة تايم.

نشأ بول تيليش في القرن التاسع عشر على يد أبوين محافظين في قرية مسورة من العصور الوسطى في براندنبورغ، ألمانيا. كان والده قسًا لوثريًا ومديرًا للكنيسة، ولد وتعلم في برلين. حاول والديه الصارمان غرس القيم الدينية التقليدية في الشاب بولس. ولكنهما فشلا .

عاش تيليش تغيرات اجتماعية وسياسية وتكنولوجية كبرى ناجمة عن حربين عالميتين، والحرية الجامحة لجمهورية فايمار، والبدايات المصيرية للنظام النازي. بعد فراره إلى الولايات المتحدة، عاش الحرب العالمية الثانية، وعصر مكارثي، ثم بداية حركة الحقوق المدنية الأمريكية، والاضطرابات الطلابية، وظهور المخدرات الإدمانية. رفض فرصة من تيموثي ليري ومساعده بول لي لتجربة عقار إل إس دي أثناء وجوده في جامعة هارفارد، وأخبرهما تيليش أنه ينتمي إلى العصر الخطأ لمثل هذه التجارب.

لقد اعتبر نفسه مفكرًا حدوديًا بين الفلسفة واللاهوت، بين العالم القديم والجديد

خلال الحرب العالمية الأولى، حصل تيليش على وسام الصليب الحديدي لشجاعته ومساهماته العسكرية في القتال، بعد أن أمضى أربع سنوات كقسيس في الجيش الألماني. أدت تجاربه المؤلمة في فردان وأماكن أخرى على الجبهة الغربية إلى انهيارين عصبيين. هذه التجارب، إلى جانب حياته بعد الحرب في فايمار برلين، وزواجه المفتوح من هانا تيليش، وارتباطاته السياسية والفلسفية مع زملائه من الأكاديميين والفنانين والكتاب الاشتراكيين، حطمت النظرة العالمية والمفاهيم الدينية في القرن التاسع عشر، والمفاهيم الدينية التقليدية عن الله والإيمان التي تعلمها من والديه المحافظين ودفعته إلى إعادة تعريف نظرته الفلسفية.

بول تيليش عام 1933 في برلين

أثناء مشاركته بنشاط في الأوساط الفكرية، تمكن تيليش من تكوين صداقات مع مفكرين رئيسيين آخرين. بصفته أستاذًا للفلسفة في جامعة فرانكفورت، ساعد في إنشاء كرسي للفلسفة لجلب ماكس هوركهايمر إلى الكلية. كما أشرف على رسالة الدكتوراه لثيودور أدورنو (رسالة التأهيل). على الرغم من عدم ارتباطه رسميًا بمعهد هوركهايمر وأدورنو الماركسي الجديد للأبحاث الاجتماعية، إلا أن تيليش حافظ على علاقة مدى الحياة مع كلا الرجلين. ومن بين الأصدقاء والمعارف الآخرين الذين ارتبط بهم ميرسيا إلياد، وإريك فروم، وأدولف لوي، وهانا أرندت، وجي روبرت أوبنهايمر، وإريك إريكسون، وكارين هورني، ورولو ماي.

لقد عد تيليش نفسه مفكرًا حدوديًا بين الفلسفة واللاهوت، والدين والثقافة، والعالم القديم والجديد. تراوحت محاضراته إلى ما هو أبعد من المحاضرات اللاهوتية المعتادة، وتضمنت موضوعات علمانية مثل الفن والثقافة والتحليل النفسي وعلم الاجتماع. وشمل تفكيره متعدد التخصصات التغيرات والصراعات الاجتماعية والسياسية والتكنولوجية والفكرية الكبيرة التي عاشها.لم يكن من السهل أبدا أن يتوافق مع التصنيفات الموجودة .

في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، عندما كان لا يزال في ألمانيا، اعتبر تيليش نفسه «اشتراكيًا دينيًا» ومعارضًا قويًا للنازية. قدم كتابه "القرار الاشتراكي"، الذي كتبه عام 1932، رؤية بديلة لتطرف اليمين القومي واليسار الشيوعي اللذين كانا يمزقان وطنه. لقد تصور مجتمعًا اشتراكيًا موحدًا ومتناغمًا، مستوحى من المُثُل المسيحية والعدالة والمساواة السياسية، معتقدًا، بسذاجة إلى حد ما، أن انهيار جمهورية فايمار يمكن أن يكون لحظة "كايروس" ("لحظة جيدة" للتغيير التاريخي) التي يمكن أن توفير فرصة لهذا الاختراق.

وفقا لتيليش، فإن الاستبداد القومي يقوم على أسطورة أصل مجتمع نقي ثقافيا وعنصريا في بعض الماضي المثالي والرومانسي، وهو الوصف الذي يلخص العديد من الحركات الشعبوية الحديثة. جمعت اشتراكية تيليش الدينية بين المسيحية والسياسة والثقافة، وقدمت مفهومًا إنسانيًا يساريًا للتعاليم المسيحية. وكانت هذه محاولته لتوحيد الأفكار المسيحية والديمقراطية الاجتماعية ضد النازية وأساطيرها عن الأصل والدم والتربة. كتب تيليش بحكمة:

إذا... أثبتت الرومانسية السياسية، ومعها القومية المتشددة، انتصارها، فإن صراع الشعوب الأوروبية لإبادة نفسها أمر لا مفر منه. إن خلاص المجتمع الأوروبي من العودة إلى البربرية يقع في أيدي الاشتراكية.

عندما ظهر الكتاب (القرار الاشتراكى)  في عام 1933، كان النازيون قد استولوا على السلطة بالفعل وكانوا يقضون بسرعة على كل معارضة. ولم تفشل محاولة تيليش فحسب، بل جعلته هدفا. شتم النازيون القرار الاشتراكي وصادروه بعد وقت قصير من نشره. كان تيليش محظوظاً بالهروب من ألمانيا. ذات مرة، عندما طرق الجستابو الباب بحثًا عنه، أبلغتهم زوجته أنه غير موجود . (كان في الواقع ذاهبا للنزهة).

وفي أبريل 1933، أوقفت حكومة هتلر عضوية تيليش كأستاذ في جامعة فرانكفورت. أذهل قرار الفصل تيليش، وكان بطيئًا في الرد، ولم يتمكن من مغادرة ألمانيا حتى أواخر أكتوبر 1933. حتى أنه استأنف قرار فصله أمام وزارة الثقافة الألمانية بعد وصوله إلى نيويورك. وقد رُفض الاستئناف بشكل قاطع.

كما غادر زميلاه في فرانكفورت، هوركهايمر وأدورنو، ألمانيا بعد عام. بدعوة من رينهولد نيبور، انضم تيليش إلى هيئة التدريس في مدرسة الاتحاد اللاهوتية، حيث أصبح أستاذًا للاهوت الفلسفي في سن السابعة والأربعين. على الرغم من أنه واجه صعوبة في تعلم اللغة الإنجليزية في البداية، تطور تدريجيًا إلى محاضر يتمتع بشخصية جذابة ومرغوبة.

متحديًا المفهوم التقليدي للاهوتي، عمل تيليش في مجالات الفلسفة واللاهوت والثقافة، مع التركيز على البحث الشخصي عن إجابات للأسئلة النهائية. لقد عالج بحث الإنسان عن المعنى، ولكن دون التنظير حول طبيعة الله. كان يعتقد أن الله لا يمكن مناقشته إلا بشكل رمزي وليس حرفيًا أبدًا.

كان تفكيره يعتمد على فكرة الإنسان باعتباره كائنًا بشريًا فرديًا محدودًا ومنفصلًا. على الرغم من أن الإنسان محدود بمحدوديته، إلا أنه يبحث دائمًا عن المعنى والهدف والتبرير، وهي مفاهيم تتعلق بالكون اللامتناهي الذي يتجاوز نفسه. ككائنات محدودة، لا يمكن للبشر أبدًا الوصول إلى اللانهائي أو فهمه، لكنهم يظلون مهتمين بشدة ومدفوعين بالأسئلة النهائية حول المعنى والهدف في حياتهم.

لفهم لاهوت تيليش، من المهم أن نبدأ بمفهوميه الأساسيين: الإيمان والله. لم ينظر تيليش إلى الإيمان باعتباره إيمانًا بما لا يمكن تصديقه، بل باعتباره «حالة من الانجراف إلى هموم مطلقة»؛ ولم يتخيل الله ككائن، بل باعتباره "أساس الوجود". يتوافق كلا المفهومين مع الأفكار الإنسانية والدينية العلمانية حول الكون.

"أرض الوجود" يمكن أن تعني الانفجار الكبير، أو الكون نفسه، أو إله كونى

دمج فكر تيليش بين الأفكار الأخلاقية الدينية والعلمانية من خلال رفض أي أيديولوجية أخلاقية ثابتة ورفض المفاهيم التقليدية للنهج الديني الاستبدادي من أعلى إلى أسفل المتمثل في "الله يحكم الإنسان" و"الإنسان يخدم الله". لقد رأى الحب والعدالة على أنهما يوحدان القوى الاجتماعية في مواجهة المخاوف الأساسية الناجمة عن الفناء البشري والانفصال. بالنسبة لتيليش، الدين والأخلاق والمعنى تأتي من الإنسان، وليس من الله. لقد ركز على تجارب ومشاعر الأشخاص الذين يتطلعون إلى الأعلى بحثًا عن المعنى بدلاً من البنية الفوقية الدينية للإله المتجه إلى الأسفل. وهذا نهج نفسي وديني. يعزز نهج تيليش قبول إنسانيتنا وفنائنا ووجودنا المحدود والأفكار والمعاني والأخلاق المختلفة التي يطورها كل منا لنفسه. كان انفتاحه على عدم اليقين الوجودي الذي يواجهه جميع البشر عندما يتعلق الأمر بمسائل ذات أهمية قصوى نادرًا في الدوائر اللاهوتية خلال حياته.

بول تيليش في مكتبه في جامعة هارفارد عام 1955

تعيد مصطلحاته الفلسفية الرئيسية صياغة العناصر الدينية اسميًا بطريقة توسع أهميتها إلى ما هو أبعد من المسيحية. إن مقاربة تيليش الراديكالية للإيمان كتعبير عن "اهتمام مطلق" يلغي أهمية المعتقدات الدينية الطائفية الضيقة. إن فكرته عن الله باعتباره ليس كائنًا، بل "أساس الوجود" والإنسان ككائن محدود، تعني أن الله خارج نطاق الفهم الفكري للبشر، ولا يمكن أبدًا أن تؤخذ التصريحات الدينية حول طبيعة الله حرفيًا. يجمع هذا المفهوم الواسع بين الإيمان الديني والاهتمامات العلمانية والعلمية فيما يتعلق بأصل الإنسان والكون. بالنسبة لتيليش، يمكن أن تعني «أرضية الوجود» الانفجار الكبير، أو الكون نفسه، أو إله عالمي. لقد رفض الفكرة الإيمانية التقليدية عن الله ككائن يتحرك في جميع أنحاء الكون ويفعل أشياء عظيمة ويقلق بشأن البشر ويتدخل معهم ويوبخهم. بل بالأحرى، تصور تيليش الله كموضوع رمزي للاهتمام الإنساني العالمي بالأسئلة النهائية المتعلقة بالمعنى والهدف. ومن ثم فإن الله خارج كوننا وهو رمز للإجابات على أعمق أسئلتنا، لكن الإجابات دائمًا بعيدة عن متناولنا.

أحد أصعب الجوانب في فكر تيليش هو الغموض الذي يطبع الكثير من كتاباته. من بين الأفكار الأكثر إرباكًا وتناقضًا في كتابه اللاهوت النظامي (1951) هو تأكيده على أن "الله غير موجود" وأن "القول بوجود الله هو إنكار له". ويواصل تيليش التأكيد على أنه لا ينبغي أبدًا استخدام كلمة "الوجود" جنبًا إلى جنب مع كلمة "الله". تتناسب هذه التصريحات مع فكرة أن الله كائن رمزي يمثل مستودعًا للقلق النهائي، وليس كائنًا. لقد اختلف علماء تيليش حول معنى وأهمية هذه المقاطع. هل يعني تيليش أنه بما أن الله «أبعد من الجوهر والوجود» ويوجد خارج الزمان والمكان، فإن الله ليس جزءًا من الوجود؟ أم أن تيليش يشير ضمنًا إلى أن الله غير موجود حقًا وليس مطالبًا بفعل أي شيء في الكون؟ من المؤكد أن الله في لاهوت تيليش هو مفهوم مجرد وغير فعال إلى حد ما. الفعل كله يأتي من الجانب الإنساني من خلال الإيمان. الله هو الهدف الذي لا يمكن الوصول إليه لاهتمامنا النهائي. يوضح هذا بعض الصعوبات في تفسير تأكيدات تيليش المتناقضة والغامضة عمدًا أثناء محاولته تجنب مناقشة الطبيعة الحرفية لله.

يصف تيليش الإيمان بأنه "فعل مركزي للشخصية بأكملها"، لكنه يصر على أن الإيمان يتضمن دائمًا الشك ويمكن أن يتضمن عناصر شيطانية أو وثنية لا تمثل اهتمامات نهائية. لقد كتب أن عدم اليقين متأصل في الإيمان (وأحيانًا على ما يبدو في قراءة تيليش) وأن الشجاعة البشرية ضرورية للتغلب على مخاطر عدم اليقين الحتمي والشك حول قضيتنا النهائية، "سواء كانت أمة، أو نجاح، أو إله أو "إله الكتاب المقدس." إن خطر عدم اليقين هذا هو فقدان الإيمان الذي يدمر معنى حياة المرء. لقد حدث فقدان الإيمان هذا عدة مرات مع انهيار الأيديولوجيات والدول والإمبراطوريات الطوباوية، بدءًا من الشيوعية والفاشية، وحتى الأنظمة الملكية والديمقراطيات الفاشلة.

النقطة هنا بسيطة. نحن كبشر نشترك في العديد من أنظمة الاعتقاد المختلفة، والتي قد تكون خاطئة أو قد تنهار في النهاية أو تتطور أو تختفي تمامًا. هذا هو خطر الإيمان. ومع ذلك لا يستطيع الإنسان العيش بدونها. لدينا الإيمان دائمًا، سواء اعترفنا بذلك أم لا، لأن لدينا دائمًا اهتمامات نهائية. الإيمان هو استجابة لمحدودية الوجود الإنساني.إن إيماننا بالمعنى النهائي يأخذنا إلى ما هو أبعد من محدوديتنا إلى شيء لا نهائي قد يجيب على الأسئلة النهائية المتعلقة بالمعنى والهدف، ومع ذلك فإن الإجابات تقع دائمًا خارج نطاق فهمنا. لقد قام لاهوت تيليش الإنساني والوجودي بتحليل مسار كل شخص في صراعه الفردي مع نهجه المجتمعي تجاه الإيمان والله. وكان تيليش قبل كل شيء إنسانيًا، على الرغم من أنه أدرك أن الإنسانية الليبرالية هي أيضًا شبه دين علماني.

الإيمان المبني على مُثُل سياسية طوباوية أو شعبوية من الممكن أن يتحول إلى شبه دين وثني

أدت إعادة التعريف الجذرية هذه للإيمان باعتباره اهتمامًا بالأسئلة النهائية إلى توسيع معنى الإيمان إلى ما هو أبعد من الدين ليشمل الجهد الإنساني المشترك عالميًا لمعالجة الاهتمامات الروحية والاجتماعية والسياسية والجمالية - بحث الإنسانية عن المعنى. لقد أدرك أن أي نظام دينى اعتقدى يمكن أن يكون مصدرًا لاهتمام نهائي أو على الأقل "أولي". على سبيل المثال، فإن الإيمان بالقومية المتطرفة يهدد بتحويل الأمة نفسها إلى إله استبدادي. لكن القومية كانت إلهًا كاذبًا وثنيًا وشيطانيًا. وبطبيعة الحال، كان يدور في ذهن تيليش مثال ألمانيا النازية باعتبارها تجسيداً للدولة الوطنية الشيطانية.

لقد أدرك أن الاهتمامات النهائية للبشر كثيرة ومتنوعة، وليست بالضرورة ذات طبيعة دينية. لكنه حذر أيضًا من أن الإيمان المبني على مُثُل سياسية طوباوية أو شعبوية يمكن أن يصبح شبه دين وثني  خاصة عندما يُوجه نحو اهتمامات ضيقة. إن الدولة في الأيديولوجيات الاستبدادية هي دائمًا صنم زائف يشجع الإيمان ويمتصه ويقدم مادة زائفة للعبادة؛ أيديولوجية وأسطورة طوباوية وقومية تضر البشرية بدلاً من أن تنفعها. وطبق تيليش هذا المنطق حتى على الكنيسة، فكتب أنه "لا يحق لأي كنيسة أن تضع نفسها في مكان المطلق".

كان تيليش واضحًا في أن الله لا يمكن أن يكون كائنًا في الكون، وإلا لما كان الله قد خلق الكون. كما ذكرنا، بالنسبة لتيليش، كان الله خارج الكون، وراء المكان والزمان، وراء الوجود والجوهر. هذا المفهوم الواسع وغير المكتمل إلى حد ما عن الله دفع مفكرون آخرون إلى اتهامه بالإلحاد ووحدة الوجود. لكن تيليش رفض كل هذه التسميات. وبدلاً من ذلك، استمر في التأكيد على أننا لا نستطيع أن نتحدث عن الله إلا بشكل رمزي. يفتقر البشر إلى المعرفة والقدرة على التحدث بشكل مباشر وحرفي عن ماهية الله. وبدلاً من ذلك، اهتم تيليش بالعلاقة الإنسانية بفهم الله باعتباره موضوع الاهتمام النهائي. وجهة نظره هي دائمًا وجهة نظر الإنسان المحدود الذي يتطلع نحو اللانهائي. الرموز الدينية عند تيليش هي أشياء أرضية محدودة، لكنها تشير إلى الكون اللامتناهي الذي لا يمكن الوصول إليه والذي يتجاوز الفهم البشري. إنهم لا يستطيعون تعريف الله أو وصفه، بل يشيرون إليه فقط، وبالتالي إلى اهتماماتنا الأساسية.

يتضمن الإيمان دائمًا الشك وعنصر الشجاعة للحفاظ على الإيمان في مواجهة مثل هذا الشك. تحدث تيليش عن التعبيرات الاجتماعية للإيمان كمجتمع إيماني. لكن المجتمع الديني (أي الاهتمام النهائي المشترك) يكون دائمًا عرضة للاستبداد ويجب "الدفاع عنه ضد الهجمات الاستبدادية". ومن خلال فرض "الامتثال الروحي"، تستطيع السلطات الكنسية أو الأكاديمية تحويل الإيمان إلى سلطوية. إن إدراج مذاهب العصمة في الكنيسة هو مثال على نوع الاستبداد الذي قاومه تيليش. بالنسبة له لا يوجد أحد معصوم من الخطأ، وكل المذاهب تخضع للشك وعدم اليقين  .

ولتجنب الميل شبه الحتمي نحو الاستبداد المؤسسي، يكتب تيليش أن “التعبيرات العقائدية” عن الإيمان (أي المعتقدات والطقوس والأسرار المقدسة المحددة) لا ينبغي أبدًا اعتبارها نهائية، بل يجب دائمًا إفساح المجال للنقد والشك. وعلى نحو مماثل، عرَّف تيليش الأخلاق، ليس باعتبارها نظامًا من القواعد المستوحاة من الدين، بل باعتبارها التعبير الحر من قبل الفرد الذي ينتمي إليه، كشخص. لقد رفض "الأخلاق" الصارمة باعتبارها قادمة من قواعد خارج الفرد. وبدلاً من ذلك، تصور أن الأخلاق تنشأ في كل واحد منا بناءً على مشاعر الحب والعدالة تجاه الآخرين في عالمنا. يعتقد تيليش أن الحب الممزوج بالعدالة، وليس الأيديولوجية، هو مصدر كل الأخلاق والقوة الموحدة لجسر الانفصال الوجودي الذي نختبره ككائنات فردية. وهو يرفض فكرة المحتوى الأخلاقي الملموس المجمد: فالقواعد هي مجرد مجموعة من الحكمة الاجتماعية الحالية حول كيفية العيش وليست أخلاقًا. إن الطاعة العمياء للقواعد هي مجرد خضوع لسيد استبدادي. الأخلاق تأتي من الداخل.

الصدمة من عدم وجود إله ديني تعزز معرفة قوة كيان الفرد

عندما أفكر في أعمال جدي، فإنني أعود دائمًا إلى مركزية الشك في فكره. واختتم كتاب "الشجاعة فى أن تكون"/ The Courage to Be (1952) بجملة أخيرة أسيء فهمها كثيرًا ربما مستوحاة من تجاربه المروعة في الحرب العالمية الأولى:

إن الشجاعة التي يجب أن تكون عليها متجذرة في الله الذي يظهر عندما يختفي الله في قلق الشك.

عندما يختفي إله الإيمان في قلق الشك، فإن ما يظهر هو الله فوق الله أو قوة كيان الإنسان. أنا أعتبر هذا يعني أنه عندما تواجه صدمة عدم وجود المفهوم الديني أو التوحيدي عن الله، فإنك تتقوى بمعرفة قوة كيانك، وهي قوة تسمو فوق المفاهيم الإيمانية وتتجاوزها وهي في الواقع مصدر كل تلك المفاهيم الدينية. يقود هذا التفسير تيليش إلى تجاوز خط الإيمان الديني والانتقال إلى الإيمان الوجودي بشجاعته الشخصية وقوته ككائن. وهذا، في نهاية المطاف، هو هدف وخلاصات كل الفكر الفلسفي، الذي يجب أن يعود دائمًا إلى الذات، إلى الإنسان الذي يسعى إلى فهم الكون، ولكن يجب عليه دائمًا أن يعود إلى نفسه وإلى اهتماماته الذاتية التي تخلق في النهاية العالم الوحيد الذي يمكننا العيش فيه، وهو عالم كياننا.

(النهاية)

***

...........................

المؤلف: تيد فارس/  Ted Farris شريك متقاعد في شركة Dorsey & Whitney LLP في نيويورك.

رابط المقال على أيون / AEON بتاريخ 21 مارس 2024:

https://aeon.co/essays/my-grandfather-paul-tillich-the-unbelieving-theologian

بقلم: إدموند غوردون

ترجمة: صالح الرزوق

***

حينما توفيت أنجيلا كارتر -وهي بعمر 51 عاما فقط، في 16 شباط 1992 - تبدلت سمعتها من طقس إلى ظاهرة. وحصدت نعواتها في الصحافة البريطانية في تلك السنة مساحة أكبر من أي ميت آخر، باستثناء فرانسيس بيكون وويلي براندت ومارلين ديترتش. وكانت النبرة جنائزية. مثلا "كانت أنجيلا كارتر … واحدة من أهم كتابنا باللغة الإنكليزية". "شرحت لنا معنى عصرنا بعمق لا يجارى" "كان خيالها الأكثر جمالا في هذا القرن". وبعد ثلاثة أيام من موتها، باع دار النشر فيراغو، والذي ارتبط اسمها به، جميع نسخ مؤلفاتها. وخلال العام الأكاديمي التالي تلقت الأكاديمية البريطانية 40 طلبا لتأليف رسالة دكتوراة عن أعمالها - بالمقارنة مع ثلاث طلبات على أدب القرن الثامن عشر بأجمعه.

اعتبر أصدقاؤها والمعجبون بها تيار الثناء هذا الذي انفجر بعد وفاتها دليلا على التحسس. فخلال ما يزيد على 25 عاما لم تتوقف كارتر عن كتابة الروايات والقصص القصيرة  والدراما والمقالات الصحفية. وقد واصلت عملها بمعزل عن معاصريها وبروح من التحدي.  وحينما كان الأدب الإنكليزي بشكل أساسي تحت مظلة الواقعية الاجتماعية الرصينة، كانت هي تعزف على نغمة نوع فني مغمور - الرعب القوطي والخيال العلمي والخرافات - وأرخت العنان للفانتازيا والسريالية. وكان عملها مغمورا بروح الدعابة والجنس والإرعاب والقسوة، ودائما له شكل عاطفي تتخلله النباهة والتيقظ مع جماليات أسلوبية مستفيضة. وكانت معنية بتفكيك دور الأسطورة والبنية التي أسست لوجودنا - ولا سيما أساطير هوية الجندر المختلفة - وفي نهاية رحلة عمرها كسبت جمهورا مخلصا. وحالما أخلدت للصمت احتلت مكانة مضمونة بين كبار الروائيين المناصرين للأنوثة.

وباعتبار أنني أول كاتب سيرة لكارتر، ركز جزء أساسي من واجبي على محاولة النظر لما وراء بعض المسلمات والتي أحاطت بها منذ وفاتها - وذلك لأتأملها مجددا كمشروع أبكم غير مكتمل ولا يمكنه الدفاع عن نفسه. وقد كتبت مرة تقول: "أنا وسط مشروع مضاد للأسطرة"، وحينما عملت على كتابي، أصبح هدفي على نحو مضطرد تخليصها من الأسطرة: أن أكتشف سيولة هويتها ومفاجآت ذهنها الذي يصعب توقعه، وبإنجاز هذا الواجب، أكون قد تكلمت عن الطريقة التي قادتها لتأليف كتب أصيلة وحية لم يظهر إلا القليل مثلها خلال آخر مائة عام من حياتنا.

أحد الثيمات المركزية في كتابة كارتر هو صدفة الهوية الشخصية. فهي تعتقد أن ذواتنا ليست مزيفة ولا حقيقية، ولكنها مجرد أدوار إما أن نتحكم بها أو نكون عرضة لتحكمها بنا. وأبطالها يحملون شخصياتهم كأنهم يرتدون ثيابا مفصلة. وكانت تعتبر بوضوح أن الأنوثة "سرد اجتماعي"، وجزء من أداء الذاتانية لدور مرسوم لها ثقافيا. ولم تكن أول من لاحظ هذه الفكرة - ولكن ربما كانت أول من رحب بها عن قناعة، واعتبرت أنها تبرير لاختراع ذات بلا حدود.

وحكاية حياتها تدور حول الطريقة التي اخترعت بها نفسها، وكيف تطورت من طفولة خجولة ومتواضعة إلى مرحلة صبا عصبية ومتمردة وغير تقليدية. لتنتهي إلى مرحلة تتصف بالسعادة والثقة بالذات، وذلك في منتصف عمرها. وباستمرار كانت تسخر من التوقعات النسوية، وقد صنعت بقوة الإرادة الحاسمة حياتها وظروفها بما يتناسب مع رغباتها. ولم تكن هذه التطورات مباشرة.  فقد ولدت عام 1940 - فقط قبل أن تقصف لوفتفيف بريطانيا بأول موجة من القنابل - وقد عاشت في جنوب لندن في منطقة بيلهام المتواضعة والرصينة، ومرت هناك بطفولتها الثانية، برعاية أب صحافي غريب الأطوار وأم كانت ربة منزل عصابية. كانت بنتا شابة ومدللة وبرعاية مباشرة من أبويها، وبالأخص أمها، التي كانت تضع منديلا وراء رأسها كلما جلست في مكان عمومي، وكانت تدهن لها صدرها بمادة زام-باك، ولذلك يبدو نصفها العلوي دائما أخضر اللون، وكانت تقدم لها الأطعمة الطيبة، حتى أنها حينما أنهت المدرسة الابتدائية أصبحت بوزن زائد (وهذا شيء غير متيسر في ذلك العقد لأن اللحوم والسكر والشوكولا والزبدة والجبنة وسمنة الطهي ببطاقات تموينية حصرا).

ومع الاقتراب من البلوغ، اتضح هوس أمها بها. وحتى عندما بلغت 10 او 11 عاما لم تسمح لأنجيلا أن تذهب إلى دورة المياه بمفردها. وأجبرتها على أن تغتسل وباب الحمام مفتوح. واستمر ذلك حتى بعد فترة المراهقة بوقت طويل. وكانت أمها تخاف من كارثة تهبط عليها إن غفلت عنها ولو لحظة: فقد تنزلق وتجرح نفسها، أو تغرق بالحوض.

وقررت حينما بلغت 17 عاما أن الوقت حان لتحتفظ بمسافة عاطفية تفصلها عن أمها. وطلبت نصيحة الأطباء لفقدان الوزن واتبعت حمية صارمة: في بداية عام 1958 أصبح وزنها يتراوح بين 13 و15 ستون، ومع حلول الصيف كانت حوالي 10 ستون.  وكذلك شرعت بالسباب والتدخين، وكلاهما أصاب والديها المحافظين اجتماعيا بالنفور (وقد حسبت حساب ذلك)، وبدأت باختيار ثيابها، وركزت على المقاسات الضيقة واللون الأسود وهما "علامة تدل على التمرد" في أواخر الخمسينات (النموذج الشائع يتكون من "جوارب سوداء مخرمة، وحذاء بكعب رفيع  وتنورة تبرز المؤخرة، وجاكيت بياقة من فراء الثعلب الأسود"). وكانت هذه أول مرة تواجه بها الظروف المناوئة والسلبية وتضطر للإعلان عن ميولها الشخصية.

ولكن كانت أول مرة تبذل بها أكبر قدر ممكن من الضغط: ففقدان الوزن تحول بعد أن غادرت الجامعة  إلى رهاب من الوزن المفرط. وحينها كانت تعمل بالصحافة. وهي مهنة مذكرة في نهاية الخمسينات. ثم انضمت لطاقم صحيفة في جنوب لندن، وكتبت عنها تقول إنها كانت فيها : "تعمل كأنها عيادة نهارية كئيبة، وهناك قدمت جزءا مهما من صحتي العقلية". أحد واجباتها كان الكتابة عن الموسيقا: وربما بهذه الطريقة قابلت بول كارتر، وهو صناعي يعمل بالكيمياء، ولكنه أيضا هاو ينتج ويسجل الموسيقا الفولكلورية، وتتذكره في وقت لاحق بقولها إنه كان "فنانا بسيطا متمردا من نمط سوهو في الخمسينات".  ومن خلاله دخلت لمجال إحياء الفولكلور الإنكليزي (كتبت كلمة التقديم لعدة تسجيلات قام بإنتاجها، ولدت معه أدوارا غنائية، وقامت أيضا بإدارة أحد أندية الموسيقا الشعبية) وكذلك في حملة لنزع السلاح النووي. ومثل لها منفذا للهرب من بيت والديها: بعد عيد ميلادها الـ 19، قبلت عرضه بالزواج.

وحينما عرض على بول مهمة محاضر بالكيمياء في كلية تكنولوجية أنشئت في بريستول عام 1961، تخلت كارتر عن وظيفتها، ورافقته. ولكن سرعان ما تعثر الزواج. كان بول يعاني من مرض الكآبة، وبدأ يطور ما سيبدو لكارتر أنه "مزاج انطوائي"، وكان أحيانا يستمر لعدة أيام متواصلة. وكانت هذه النوبات عسيرة عليها، على الأقل لأنها شعرت (أو اضطرت أن تشعر) أنها مسؤولة عن ذلك. وبعد أن نشرت أول رواياتها (الأولى كانت "رقصة الظل"، وهي قصة جريمة قوطية تدور أحداثها في مدينة تشبه بريستول تماما، وصدرت عام 1966)، بدأ صمته المرضي يطول: أخبرت إحدى الصديقات أنه بعد نشر أحد كتبها لم يكلمها لثلاثة أسابيع. كتبت في يومياتها بعد أقل من سنتين من الزواج  "أعترف. كان زواجي أحد تصرفاتي الفردية الموجهة لهدم كل الجسور، مثل الهرب من غرفة موصدة إلى أخرى مغلقة". وفي منتصف عشريناتها، كانت تخطط لهرب آخر من وضع منزلي قمعي.

في عام 1969 كسبت عن رواية "عدة أحاسيس" وهي ثالث رواياتها، جائزة سومرست موم. والشروط (وضعها موم نفسه) تفرض أن يتم إنفاق النقود على رحلة إلى بلد أجنبي. فقررت كارتر أن تسافر إلى اليابان. وبعد وقت قصير من الوصول إلى طوكيو (تعتقد أنها كانت "أكثر المدن تسلية في العالم")، التقت برجل ياباني يبلغ 24 عاما من العمر، وكان يأمل أن يصبح روائيا. كتبت رسالة انفصال إلى بول، وعاشت مع الرجل أفضل أيام السنة. انتهت العلاقة وعاشرت رجلا كوريا يبلغ 19 عاما من عمره، وخلالها عملت ساقية في أحد البارات. أنفقت عامين في اليابان وهي أكثر فتيات حياتها أهمية، وكانت مفصلا أساسيا انعطفت حكايتها عنده: فقد كتبت كتابين ساحرين هما "آلات الرغبة الجهنمية للدكتور هوفمان، 1972، وألعاب نارية، 1974. وقد أعطاها إحساسها الجديد بالاستقلالية تحررا فنيا بأبعاد جديدة.

عادت إلى بريطانيا عام 1972، وأقامت في لندن (استأجرت غرفة شاغرة في بيت الشاعرة فلور أدوك لفترة قصيرة)، وزاد اهتمامها أثناء ذلك على نحو مضطرد بحركة تحرير المرأة. وهي حركة ناشئة.  ودائما أسعدها "أن تتعايش مع الأطراف" وليس التسلل إلى خط الحزب. قالت في أحد اللقاءات:"أشتبه أن شقيقاتي تنظرن لي كأنني العم توم إلى حد ما. هذا على ما أعتقد فظيع. فظيع بالنسبة للجميع، وليس النساء فقط". وكتاب كارتر الذي صدر عام 1979 حول التاريخ الثقافي بعنوان "المرأة السادية" - وفيه صورت المركيز دو ساد وكأنه مثال يحتذى في "الأخلاق" البورنوغرافية - لاقى اعتراضات جادة من الناقدة الراديكالية أندريا دوركين التي أطلقت عليه اسم "نصير مزيف للأنوثة" (وصنفته أيضا فيدرالية المكتبات البديلة ضمن قائمة الأغلفة الاستفزازية: فقد كان لوحة للفنان السريالي كلوفيس ترويل ويمثل عدة نساء نصف عاريات، وبعضهن تعرضن للجلد بالسوط). ثم التقت مع كارمين كاليل واحدة من أقرب صديقاتها وأكثرهن مناصرة لها، وهي مؤسسة دار النشر فيراغو المناصرة للأنوثة.

في هذه الحقبة مرت كارتر بسلسلة من العلاقات الغرامية الكارثية، وتخلل على الأقل إحداها حالة إجهاض، وكانت تعيش بظرف فاقة وعوز من مقالاتها الصحافية بالإضافة إلى ما تكسبه من شيكات لقاء رواياتها المبكرة. وفي أعقاب علاقة عاصفة جدا انتهت بالفرار من لندن إلى باث، أقرضها والدها النقود لتشتري لنفسها بيتا صغيرا في المدينة (أما أمها فقد توفيت عام 1969).

وفي النهاية وجدت السعادة المنزلية مع زوجها الثاني، مارك بيرس. كان بناء، أصغر منها بـ  15 عاما، وتلاقيا حينما بنى ملحقا في بيت أمام مكان سكناها في باث. فقد أسرعت لتعبر الشارع وتطلب منه المساعدة بطارئ أصاب التمديدات الصحية. أخبرت صديقاتها أنه "دخل، ولم يغادر أبدا".

تعمدت كارتر أن تكون فوضوية، وغريبة، ومعقدة بسلوكها: ولم تسمح لنفسها أن تستقر لتكون بوضع ثابت لفترة طويلة الأجل أو قابلة للتوقع. وفي نفس الوقت في السبعينات وهي تكتب لمجلة أنوثية هي "سبير ريب" شاركت أيضا بمقالات ضاربة وقصص قصيرة إيروتيكية في مجلات بورنوغرافية خفيفة مثل "أونلي مين" و"أنترناشيونال كلب". واقترعت لحزب العمال وانتقدت مارغريت تاتشر، وحينما حضرت اجتماعا لكتاب ومثقفين يساريين عام 1988، وجدت نفسها خارج المكان، ولم تنطق بكلمة إلا بصعوبة. ولذلك رفضت الانتماء لأي حركة، وقاومت كل محاولات استيعاب عملها بأي جنس فني (وأنكرت دائما أنها تنتمي للواقعية السحرية، على سبيل المثال، وأعلنت أن العبارة لا معنى لها إذا ما وظفت خارج سياقها الخاص بأدب أمريكا اللاتينية). واقتنعت أن "الضم يعني تخلي الإنسان عن حريته، حيث أن وظيفة ودور الإنسان هو الذي يتحكم به".

ولكن اذا اخترعنا أنفسنا، نحن أيضا نخترع شخصا آخر - وهويات الكتاب تتصلب بسرعة في الخيال الشعبي، ولا سيما بعد أن يغيبوا ويمتنعوا عن إدهاشنا بعمل جديد. وكما كتب أودن عن موت ييتس قائلا: "لقد تخلى عن نفسه للمعجبين به". أما كارتر فقد أصبحت نفسها بطرق غالبا ما تجاهلت رغبتها أن تعرف بالدور الذي لعبته.  ولكن كل من كتب مرثية لها كان ينحو لصناعة أسطورة مقدسة.  كان هناك إلحاح على دماثتها، وحكمتها وخيالها "السحري"، وذلك على حساب ثقافتها الصارمة، وتذوقها للعنف والخيال المقلق، وحساسيتها المفرطة.

كتبت ماريانا وارنر في الإندبندنت: "لديها شيء يوحي بملكة خيالية. ما عدا أنها لم تكن أبدا تامة أو وهمية". ووجد فيها سلمان رشدي في النيويورك تايمز أنها مباشرة "ملكة خيالية". ثم أضاف: "فقد الأدب الإنكليزي مشعوذته المتألقة، وساحرته البيضاء الغامضة". وكتبت مارغريت أتوود في الأوبزرفر ما هو أبعد من ذلك قائلة: "المدهش فيها ومن وجهة نظري أنها تشبه كثيرا جدة خيالية.. ويجب أن تكون بالفعل جدة خيالية، كانت دائما على حافة أداء شيء ما - تعويذة، نمرة سحرية خارقة تحتاج للمرور منها إلى غابة كثيفة، صيغة لفظية تفيد لفتح الأبواب المسحورة".

أصبحت النسخة الأسطورية من كارتر هي الرائجة. ولكن الصورة المقابلة والمادية المسكونة بكتابات رثائها لم تعدل مع شخصيتها المركبة. طاقتها الأساسية، وعزمها، وإقدامها، كل ذلك خرج بقوة من قصة حياتها. إحساسها المتوحش وغالبا المبهج والمرح وطاقتها الجنسية القوية، كلاهما تآزرا في كتبها.  يضاف لذلك بداهتها وفتنتها الشخصية.، وهما واضحان في ما تبقى منها في برامج التلفزيون.

سمحت كارتر لشعرها، وهي في أربعينات عمرها وتتحلى باعتداد جديد بالذات، أن يشيب، وأسدلته حتى بلغ منكبيها. وأصبحت أما وحينها باتت تبدو مثل صور جدة في فيلم كرتون: ولد ابنها أليكساندر عام 1983. ومنحها متعة فائقة، وكان آخر عقد في عمرها مفرحا أيضا. فقد عادت لتعيش في جنوب لندن، ليس بعيدا عن المكان الذي كبرت فيه، وبين محطات التدريس في أستراليا والولايات المتحدة، أنتجت أفضل وأهم أعمالها، ومن بينها سيناريو فيلم كتبته لنيل جوردان بعنوان "صحبة الذئاب" 1984. وهو إعداد لإحدى قصصها القصيرة، ثم رواية "أمسيات في السيرك" 1984، و"صبايا عاقلات" 1991. وكما قالت صديقتها لورنا ساغا: "في نهاية عمرها كانت منسجمة تقريبا مع نفسها كأنها ترتدي قفازات. ولكن هذا فقط لأنها جمعت أشلاءها، بالتجريب وارتكاب الأخطاء، بالتجميع، على أن يبدو كل شيء (تقليديا) وبترتيب خاطئ".

***

........................

* صدر كتاب اختراع أنجيلا كارتر: سيرة حياة. لإدموند غوردون عن دار شاتو وويندوس في 13 تشرين الأول 2016.

* المقالة مترجمة عن الغارديان 1 تشرين الأول 2016.

* إدموند غوردون Edmund Gordon أكاديمي وكاتب يعمل في كلية كينغز الجامعية في لندن.

 

بقلم: كريستوفر هاردينج

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كان آلان واتس، على الرغم من كل أخطائه، مفكرًا واسع الخيال ومستفزًا أعاد تصور الدين في العصر العلماني.

في 16 نوفمبر 1973، تلقت جوان واتس مكالمة هاتفية بدأت بأسوأ طريقة ممكنة: "هل أنت جالسة؟" وكان والدها، الكاتب والفيلسوف الإنجليزي آلان واتس، قد توفي في الليلة السابقة، بينما ضربت عاصفة منزله. (مقاطعة مارين، كاليفورنيا). لقد توقف قلبه وهو في الثامنة والخمسين من عمره فقط. زوجة واتس الثالثة، ماري جين ييتس كينغ أو "جانو"، ألقت باللوم على تجاربه في تقنيات التنفس التي تهدف إلى تحقيق السمادهي، أو التأمل الاستيعابي: لقد غادر جسده، كما اعتقدت، دون أن يعرف كيف يعود. لم توافق جوان على هذا التفسير، اتخذت جوان وجهة نظر مختلفة. لقد ضاع والدها في العمل والكحول. وخلصت إلى أنه أخيرًا "لقد اكتفى"، و"خرج".

ويبدو من المناسب أنه حتى في طريقة وفاته، انقسمت آراء واتس. لقد فعل ذلك كثيرًا في الحياة. ولد واتس عام 1915 في تشيسلهورست، كينت، وانتقل إلى الولايات المتحدة مع زوجته الأولى قبل وقت قصير من اندلاع الحرب العالمية الثانية. عاش أولاً في نيويورك، وانتهى به الأمر إلى إنشاء منزله على الساحل الغربي، حيث انضم إلى أمثال ألين جينسبيرج وغاري سنايدر كشخصية رائدة في الثقافة المضادة في الستينيات.

سمع عدد لا يحصى من الشباب الأميركيين واتس يتحدث في الحرم الجامعي وفي الراديو، حيث أشاد بحكمة الشرق وأخبرهم، بلغة إنجليزية أرستقراطية ساخرة، أن المثل العليا التي علمها لهم آباؤهم ومعلموهم كانت فارغة بالمقارنة. لم يكن من الضروري أن تدور الحياة حول "الالتفاف حول شيء ما" أو "الذهاب إلى مكان ما"، كما لم يكن الغرض من العزف أو الاستماع إلى مقدمة لباخ هو الوصول إلى النهاية بأسرع ما يمكن وبكفاءة. ويجب أن يكون الهدف بدلاً من ذلك هو معالجة الحالة الوحشية المتمثلة في الهوية الخاطئة التي عانى منها العديد من الغربيين المعاصرين: حيث يعتقد الجميع أنهم ذات صغيرة خائفة، في حين تكمن تحتها ذات أكبر رائعة، متحدة تماماً مع بقية الواقع.

بالنسبة لمنتقديه، كان واتس هاوًا أميًا (كان يفتقر إلى شهادة جامعية) متهما ببيع مزيج من فلسفة الزن والطاوية والفيدانتا إلى السذج و الغافلين، مضيفًا العلاج النفسي والمخدرات وفيزياء الكم كإجراء جيد. كما كان يفتقر إلى الجدية الأخلاقية ويفضل أشكال الدين التي تؤكد على الحدس وعلى السلوك باعتبارهما الطريق إلى الإلهية. وكانت النتيجة تناقضًا قاتمًا بين حديث واتس العالي عن الرحمة والحب وسلسلة من العلاقات الغرامية التي، جنبًا إلى جنب مع نظرته المتدنية للأبوة - "جز العشب، ولعب البيسبول مع الأطفال" - ساعدت في تدمير عائلته.

الرجل نفسه أعطى بقدر ما أخذ. رفض واتس منتقديه الأكاديميين باعتبارهم منفصلين بشكل يائس عن الأحداث الفكرية التي تحدث خارج حدود مؤسساتهم وشبكاتهم. كتب لمحرري مجلة بلاي بوي ما يلي:

تحت غطاء الكتاكيت المفعمة بالحيوية والرشاقة (التي أوافق عليها)، والأرانب السخيفة (التي لا أوافق عليها)، حولت بلاي بوي إلى أهم دورية فلسفية في هذا البلد... وبالمقارنة، فإن مجلة الجمعية الفلسفية الأمريكية متحذلقة ومملة وغير واقعية.

ولكن إذا كان من الممكن الحكم على فلسفة الحياة من خلال ثمارها، فقد أصبح واتس إعلانًا سيئًا لأفكاره الخاصة بحلول أوائل السبعينيات. كان يائسًا ويشرب الخمر بكثرة، وكان قادرًا على البقاء واضحًا على المنصة لكنه انكشف عندما انجرف إلى النوم أثناء الأسئلة والأجوبة (أحيانًا ما كان المعجبون المخلصون يفسرون ذلك على أنه صمت أكثر حكمة من الكلمات). وفي السنوات التي تلت وفاته، تآمرت عدة اتجاهات فكرية لتقويض الكثير مما كان يدافع عنه. ساعد كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد (1978) في إطلاق عقود من الانتقادات الأكاديمية للضرر الذي حدث عندما انتقلت وجهات النظر الغربية المنحرفة والمهتمة بـ "الشرق" إلى التداول العالمي. وبعد مرور عام، جادل الناقد الاجتماعي كريستوفر لاش، الذي يتمتع بنفس القدر من التأثير، في كتابه "ثقافة النرجسية"، بأن رواج "التحسين الذاتي النفسي" و"حكمة الشرق" كان علامة على أن الأميركيين قد تخلوا عن التغيير السياسي والاجتماعي الجاد و انتقلوا بدلاً من ذلك إلى الانغماس في الذات.

كان هنا شخص، حتى عندما كان شابًا، يفهم بعمق رعب الوحدة واللامعنى.

وسرعان ما تم استبدال المشاعل وعربات التخييم ببدائل معقولة، وأصبح الهيبي المسن شخصية كوميدية، وانتشرت المحاكاة الساخرة لأقوال يودا العرفية في حرب النجوم (والتي تدين بالكثير لاهتمام جورج لوكاس بالأساطير الآسيوية والعالمية). إن أي تلميح للملاءمة الشخصية في الفلسفة التي تستمد عناصر من مناطق بعيدة كان سيجعلها دائمًا عرضة للخطر. في مرحلة ما، إلى اتهامات "بالاستيلاء الثقافي": فكرة تبدو حكيمة وغير متماسكة عند تطبيقها على تقديم السوشي في حرم الجامعات الأمريكية ولكنها تصبح قوية عندما يتم أخذ أفكار وممارسات عميقة وتحريفها دون مراعاة لمن يعتبرها مقدسة.

أولئك الذين يقدرون واتس – وما زالوا يعتزون به – شعروا بنفس القوة تجاه الرجل وإرثه. لقد كان شخصًا يفهم، بشكل عميق، عندما كان صغيرًا، الرعب من الوحدة وانعدام المعنى. بفضل الدفء والفكاهة والموهبة الاستثنائية لتوصيل الأفكار المعقدة، أظهر واتس للناس أن الخطأ الذي يشعرون به في الحياة لم يكن موجودًا في الكون.لقد كان ذلك نتيجة لتدهور أساليب الحياة الحديثة. والخبر السار، كما بشر به شخصيا، وفي برامجه الإذاعية وفي كتبه الأكثر مبيعا، هو أن هذا الوضع الكئيب يمكن علاجه. لا يمكن التقليل من قدرته بعد وفاته على إنقاذ الأرواح أو تخليصها، كما كشف تيم لوت في مقالته المؤثرة فى مجلة أيون / Aeon عن واتس منذ عدة سنوات.

من المغري الاعتقاد بأن ردة الفعل الفكرية والثقافية ضد مفكري عصر الثقافة المضادة مثل واتس قد بلغت ذروتها الآن ويتم استبدالها بما يسميه الفيلسوف والعالم المعرفي جون فيرفايكي "أزمة المعنى". من الصحة وبيض اليوني إلى جوردان بيترسون وقائمة من المتحولين المسيحيين الجدد والمحافظين اجتماعيًا في كثير من الأحيان، لا يبدو أننا أقل اهتمامًا الآن مما كان عليه واتس في أيامه حول كيفية رعاية مجتمع أكثر انسجامًا مع الحقائق الطبيعية وحتى الكونية. ويظل واتس نفسه مصدر إلهام ويستمتع بحياته الآخرة المزدحمة عبر الإنترنت بفضل تحميل محادثاته في شكل ملفات صوتية ومقاطع فيديو على YouTube. لقد تبين أن موهبته في العبارات البليغة كانت مثالية لعصر X/Twitter وInstagram. ولا تزال كتبه، مثل «حكمة انعدام الأمن» (1951)، تتمتع بمكانة الكلاسيكيات.

ونظرًا للدور غير المتوقع إلى حد ما للمسيحية في هذه اللحظة الجديدة، فقد حان الوقت لإدراج فترة واتس التي تم الاستهانة بها كثيرًا ككاهن أسقفي في تقييمنا له. إن رؤيته لإمكانات المسيحية في الغرب الحديث وتحذيراته حول الطرق التي يمكن أن تسوء بها تبدو الآن ذات صلة وذكية من الناحية النفسية أكثر من أي وقت مضى. بينما نتبادل الرؤى حول الدين في القرن الحادي والعشرين، يمكن أن يساعدنا واتس على فهم بعض التوترات الكبيرة: بين الكبرياء والنعمة، والبصيرة والأخلاق، والتجديد الروحي والحنين إلى مجتمع مسيحي مثالي في الماضي.

كانت تجربة واتس مع المسيحية عندما كان طفلاً سلبية بالكامل تقريبًا. خلال طفولته في تشيسلهيرست، أمضى العديد من الليالي وحيدًا في السرير، يقاوم النوم خوفًا من الموت وينتهي به الأمر في الجنة أو الجحيم - كما هو موضح في الترانيم الفيكتورية والإدواردية وكما هو موصوف في دروس المدرسة. يبدو أن هذه الترانيم قد أزعجت الشاب واتس، لأنه كان غير مجهز للتعامل مع أي شيء آخر غير الروايات الحرفية عن الحياة بعد الموت، مثل:

كم هو جميل الراحة

إلى الأبد في حضن مخلصي.

ثم:

اسجد أمام عرشك لاتستلقي،

وانظر وانظر إليك.

فقط بعد اكتشاف وممارسة الزن واليوجا، وذلك بفضل حفنة من الأصدقاء ومكتبات سوق كامدن في لندن، بدأ واتس يتذوق بنفسه ما أسماه فيما بعد "الهوية العليا". وقال: في مخيلتنا، نحن هنا بينما الله أو الحياة الطيبة موجودة هناك. قيل لنا أن الرحلة من هنا إلى هناك تتكون من مزيج من السعي الجاد والسلوك الجيد. بالاعتماد على كارل يونج، وزن، والطاوية، والفيدانتا، شكك واتس في حقيقة هذه الذات المنعزلة والمجاهدة. اقترح أن تتركها، وقد تلمح هوية أكثر صدقًا – وسموًا – تكمن تحتها، والتي تلتقطها الأوبنشاد في ثلاث كلمات من اللغة السنسكريتية: Tat tvam asi ("أنت ذلك"). هذه الهوية العميقة ، روح الشخص أو نفسه ( ātman)، متطابقة مع المطلق.

لقد انبهر بـ "التفاف جناح الطائر" و"قبلة الريح على قطعة خاصة من العشب".

أصر واتس دائمًا على أنه يجب على المرء تجربة هذه الحقيقة بشكل مباشر، بدلاً من مجرد النظر إليها بشكل مجرد، من أجل استخلاص أي فائدة جدية منها. ولكن عندما وجد نفسه في أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات من القرن العشرين يفكر في هذه الأفكار، شعر أن شيئًا ما كان مفقودًا. كما قال لأحد مراسليه:

نعم، نحن متحدون مع الواقع ولا نستطيع الانفصال عنه، ولكن ما الفائدة من التفكير فيه ما لم يكن هذا الواقع جيدًا وجميلًا تمامًا بمعنى عميق؟ أثار حبه لفن شرق آسيا أسئلة مماثلة. لقد كان مفتونًا بـ "التفاف جناح الطائر" و"قبلة الريح على قطعة معينة من العشب". كان يعتقد أن الحديث عن البراعة الفنية أو الصقل هنا لا علاقة له بالموضوع. كان السؤال الحقيقي هو:: كيف يمكن أن يكون لدى البشر مثل هذا الإحساس الدقيق والعميق بأهميتهم في العالم الطبيعي؟

حتى ذلك الحين، كان واتس يميل إلى تمثيل المطلق بطريقة غامضة إلى حد ما، مثل التيار الكهربائي. وبدا هذا الآن غير كاف مقارنة بما شعر بأنه مجبر على تخيله وتقديره باعتباره بُعدًا شخصيًا للواقع النهائي.لقد تأثر عندما اكتشف أن بعض أعظم المفكرين في التقليد المسيحي كانوا دائمًا يتصورون الله بهذه الطريقة: ليس ككائن داخل الكون، ولكن كمصدر لكل شيء، وطبيعته "شخصية" بمعنى أنها يكون. – على حد تعبير واتس – “حي بما لا يقاس”.

بالنسبة لأي شخص رأى أو سمع واتس في أفضل حالاته - ربما بفضل محادثاته الصوتية - فإن عبارة "حي بما لا يقاس" هي وصف جيد للرجل نفسه. من السهل أن نرى كيف أن الفهم الأساسي لله بهذه المصطلحات قد يكون له صدى لديه. واجه واتس أيضًا لحظات حيث لم تكن عجائب الحياة من حوله تبدو وكأنها حقيقة مجردة فحسب، بل كانت تتدفق بكرم غير عادي. لقد بدا الأمر "معطى"، مما أقنع واتس بأنه لا بد من وجود معطاء، وملأته بالرغبة في أن يقول "شكرًا لك". وقد وجد دعمًا لكل هذا في كتابات اللاهوتي الألماني مايستر إيكهارت في القرن الرابع عشر والمؤلف اليوناني في القرن السادس ديونيسيوس الأريوباغي. لقد كان ذلك موجودًا أيضًا في فكر «أنا - أنت» للفيلسوف اليهودي الحديث مارتن بوبر.

قبل عقد من الزمن، كان سي إس لويس قد أكمل رحلته عبر المثالية ووحدة الوجود إلى الإيمان بالله. لم يكن وحيدًا على الإطلاق: فقد وجد الكثيرون، في ذلك الوقت ومنذ ذلك الحين، أن الحدود بين هذه الرؤى - أو التجارب - للحياة يسهل اختراقها. في حالة واتس، ربما كانت هناك أسباب أخرى جعلته يجد نفسه مؤمنًا ويقرر نقل عائلته إلى إيفانستون في إلينوي حتى يتمكن من التدرب على الكهنوت الأسقفي في مدرسة سيبيري اللاهوتية الغربية. ربما كان هذا جزئيًا محاولة للتوافق مع الثقافة المسيحية المحيطة به. ادعى البعض أن "مهنته" كانت مجرد محاولة لتجنب التجنيد الإجباري، لأن الحرب التي غادر بريطانيا لتجنبها هددت بابتلاعه.

وصلت عائلة واتس إلى إيفانستون في سبتمبر 1941 وبدأ واتس صراعًا دام ما يقرب من عقد من الزمن مع الأفكار والممارسات المسيحية. مدركًا أن الطريقة التي يتعامل بها الناس مع الله تتشكل بعمق من خلال الطريقة التي ينمون بها في علاقتهم مع البشر الآخرين، وجد واتس نفسه يتساءل عن رغبته في تقديم الشكر للبعض بما لا يقل عن البعد الشخصي للواقع المطلق. كم كان من السهل حقًا فصل كلمة "شكرًا" الناتجة عن الدهشة والرغبة - والتي قد تقود الشخص، مع الحظ، إلى عمق أكبر في أسرار الحياة - عن كلمة "شكر" مشوبة بمشاعر الدونية أو الحاجة الملحة. حتى يرضى؟

أصبح الجواب واضحًا في اللحظة التي دخل فيها واتس إلى الكنيسة. في التقاليد الهندية، رقص شيفا وكريشنا يعزف على الفلوت. في المسيحية الأسقفية التي يعرفها، كانت كلمة "شكرًا" تُقدم وسط أثاث خشبي ثقيل يذكرنا ببلاط ملك في العصور الوسطى أو قاعة محكمة حديثة. كان هناك الكثير من الحديث عن "النعمة" في مثل هذه الأماكن: عطية الله المجانية الفدائية للبشرية. ولكن قِلة من الناس الذين نشأوا في مجتمعات تنافسية مثل الولايات المتحدة وجدوا أنه من المعقول أن يكون هذا الشيء الرائع متاحاً (أو ينبغي أن يكون في واقع الأمر) متاحاً بالمجان،ولا علاقة له على الإطلاق بالكسب  أو المنصب في الحياة. "تراتيل مبتذلة" مثل يا له من صديق في يسوع، توحي لواتس بفرحة مزيفة ومضطربة، تنتزع تحت أنظار الله الذي كان يجب استرضاؤه باستمرار من خلال التأكيدات على مجده ومناشدته "ألا يعذبنا".

شرع واتس في معالجة هذه المشكلات في كتب مثل "انظر إلى الروح" (1947) وفي تعامله مع خدمات الكنيسة بعد رسمه وتعيينه في عام 1944 كقسيس أسقفي في جامعة نورث وسترن. كانت بعض هذه الخدمات كنسية قدر استطاعته، وكان مقتنعًا بقدرته على أن قوة الليتورجيا تكمن في منح الناس إحساسًا بـ "الرقصة المقدسة" للكون، - كما صورها دانتي أليغييري - بالحب. كانت الخدمات الأخرى غير رسمية وحميمة، حيث كانت تمزج بين المحادثة وارتجال البيانو والنكات والترتيل الغريغوري والتدخين والشرب.

لا ينبغي لرجال الدين أن يعلموا الناس فحسب، بل يجب أن يساعدوهم على التخلص من عادات التفكير التي تعيقهم

كلا النوعين من الخدمة يكرمان الله الذي ‹الحى  بلا قياس› ولكن مع مرور الوقت، بدأ النوع الثاني الأكثر بوهيمية يبدو أكثر صدقًا بالنسبة لواتس. كانت الرغبة سمة قوية من سمات شخصيته – عندما كان شابًا، كان سعيدًا عندما وجد أنه على الرغم من أن "بوذا كان لديه نظرة قاتمة عن ممارسة الجنس وشرب الخمر ... إلا أنه لم يطلق عليها خطيئة أبدًا". كان ما زال شابًا بينما كان يعمل قسيسًا في الحرم الجامعي، يبدو أنه لم يكن قادرًا على مقاومة إمكانية عقد جلسات استشارية فردية مع الطلاب لتصبح حميمة. في النهاية، ساعدت علاقته الغرامية مع طالبة الدراسات العليا في الرياضيات، دوروثي ديويت، في إنهاء زواجه ومسيرته الكتابية. قرر واتس القفز قبل أن يتم دفعه.

على أية حال، فقد ناضل من أجل تطوير فكرة واضحة عن كيف يمكن أن يكون الله مطلقًا – "أساس الوجود" كما قال إيكهارت – وقادرًا على الدخول في علاقة مع البشر. وبعبارة أخرى، كيف يمكن للبشر أن تكون لهم هويتهم العميقة في الله وأن يكونوا منفصلين عن الله بدرجة كافية حتى تكون فكرة "العلاقة" مفهومة؟

وهنا كانت الصعوبة التي أربكت الاهتمام الغربي بالفكر الآسيوي، وخاصة الهندي، لعدة قرون. كان صامويل تايلور كوليردج قد فقد حبه للمثالية الهندية عندما بدأ يشك في أنها مجرد "إلحاد مرسوم". بالنسبة له، تكمن قيمة الطبيعة والعزلة - جزئيًا على الأقل - في قدرتها على قيادة الناس إلى ما هو أبعد من أنفسهم إلى المصدر الإلهي للجميع. لقد اقتربت مثالية الفلاسفة الهنود مثل شانكارا (القرن الثامن) بشكل خطير، من وجهة نظر كوليردج على الأقل، من تصوير الطبيعة على أنها خدعة سحرية عملاقة أو حجاب لا شيء وراءه. وكما قال كولريدج في إحدى قصائده:…

إذا كان النفس

كن الحياة نفسها، وليست مهمتها وخيمتها،

إذا كانت حتى روح مثل روح ميلتون يمكنها أن تعرف الموت؛

يا رجل! أنت سفينة بلا هدف، بلا قصد…

انبثقت هواجس كوليردج بشأن المثالية الهندية من حساسية أوروبية قديمة بشأن وحدة الوجود. وكانت هذه على وجه التحديد الهرطقة التي شكك فيها بعض زملاء واتس في المدرسة اللاهوتية.

حاول واتس أن يقترح أن الإله المطلق حقًا لن يكون ملزمًا بالمنطق الغربي، الذي يصر على افتراضات حصرية متبادلة. في آسيا، قال واتس، لا توجد أشكال المنطق "إما أو" فحسب، بل توجد أيضًا أشكال "كلاهما و". هذا لا يعني أن كل مسيحي يجب أن يصبح منطقيًا بارعًا.اعتقد واتس أن الأمر يتعلق بتدريب رجال الدين على القيام بما هو أكثر من مجرد "الخروج وقرع الأناجيل في الغابة الخلفية بين الحطابين وسكان التلال". ومثلهم كمثل أفضل نظرائهم في آسيا، ينبغي لهم أن يكونوا قادرين ليس فقط على تعليم الناس، بل ومساعدتهم على التخلص من بعض عادات الفكر والمشاعر التي كانت تعيقهم.

في النهاية، ساعدت حياة واتس الشخصية في جعل مثل هذه الأسئلة موضع نقاش. حزم حقائبه وبدأ الحياة مرة أخرى على الساحل الغربي. بالنسبة لمنتقديه، قوضت إخفاقات واتس الأخلاقية فكرته عن "الهوية العليا". لقد ادعى أن الشخص سيعيش حياة أخلاقية بشكل طبيعي عندما يتذوق ثمار تلك الهوية الحقيقية، لأن الكثير من الفجور هو نتيجة لانعدام الأمن؛ إكراه لا طائل من ورائه في نهاية المطاف لرعاية مصالح الذات الصغيرة الفانية. وفي الوقت نفسه، اعترض على القواعد الأخلاقية التقليدية التي بدت وكأنها تتوقع أن تسير الأمور في الاتجاه الآخر: افعل أ، ب، ج، وستكون هناك جائزة لك في النهاية. انظر، يمكن لمنتقديه أن يقولوا الآن، إلى أين يمكن أن تأخذك النشرة الفلسفية التي تبدأ من الرؤية بدلاً من الأخلاق.

لم يعد واتس أبدًا إلى التفكير الجاد في المسيحية، ووضع إيمانه بالزن والطاوية والهندوسية والعلاج النفسي والمحادثة الجيدة والمفتوحة للعين. ومع ذلك، استمرت فترة صراعه مع المسيحية في إثراء أعمال عدد لا يحصى من المفكرين المسيحيين بعد عصره، بما في ذلك الكاهن والكاتب الفرنسيسكاني ريتشارد رور. لديها الكثير لتقوله أيضًا عن "أزمة المعنى" الخاصة بنا. إذا تخيلنا الغريزة الدينية باعتبارها تتضمن عناصر الحاجة والرغبة والشعور بالالتزام، فإن واتس يبين لنا مدى ضرورة - ولكن مدى صعوبة - الحفاظ على التوازن أو التوتر بين هذه الأشياء الثلاثة.

إذا سمحنا للالتزام بأن يأخذ زمام الأمور بالكامل، فإننا نجازف بما وصفه فرانك ليك، أحد رواد اللاهوت السريري، بأنه "تصلب الأخلاق". بالنسبة لواتس، ظهر هذا في الأشخاص الذين يسعون جاهدين ليكونوا مطيعين أو يظهروا مبتهجين، أو يجلسون متجهمين في المقاعد عندما يرقصون في الممرات.هناك تحذير هنا لتيارات الاهتمام المتجدد بالمسيحية والتي تبدو وكأنها تركز على محاربة طرق التفكير وأساليب الحياة غير المسيحية أو "المستيقظة". إن "المسيحية الثقافية" من هذا النوع تخاطر بتحديد بداياتها ونهاياتها في مجرد التطابق، مع القليل من الفرح أو الرؤية التي قد يتوقعها المرء إذا كانت المسيحية "حقيقية" بأي معنى من المعانى.

ومن ناحية أخرى، إذا كانت الحاجة تحكمنافقد نبقى أو نصبح مسيحيين بسبب ما وصفه واتس بالحنين الجماعي أو الارتباط بالماضي. ومرة أخرى، من الصعب عدم رؤية شيء من هذا في البكاء المعاصر على تراجع المسيحية من قبل أولئك الذين يرون أنها في المقام الأول مصدرا للهوية الثقافية - سواء من النوع القديم الذي يجسّد أجراس الكنيسة والمشاعر المجتمعية أو من النوع الأحدث والأكثر استعددا للدفاع، والمخصص للاستدعاء في الحروب الثقافية..

حتى الآن، غالبًا ما تبدو محادثاتنا المعاصرة حول الثقافة والدين محكومة بـ "الواجبات".

ماذا عن الرغبة؟ كان القس والكاتب المتوفى مؤخراً تيم كيلر يقول إنه إذا كان المتدينون لا يرغبون في الله، فإن إيمانهم على الأرجح يتعلق بالحصول على شيء من الله، وهو امتياز،وحذر   قد يكون من الصعب إدراكه . قد تتوقف الرغبة بسهولة عن الوصول إلى هدفها النهائي، مما يتسبب لأشخاص مثل واتس في حدوث ذلك النوع من المشكلات التي استمتع منتقدوه بلفت الانتباه إليها. ربما يكون الدرس الأفضل من حياة واتس هو صدقه بشأن قوة الرغبة بشكل عام، والحاجة إلى تضمينها - وحتى دمجها - في أي بحث عن المعنى.

هذا هو الموضع الذي فشل فيه الأسلوب الاستقصائي للإلحاد الجديد. من خلال اختزال الدين في مجرد افتراضات واختبار المؤمنين بناءً على معرفتهم بالكتاب المقدس، كيف يمكنك أن تكون مسيحيًا إذا كان ريتشارد دوكينز يقتبس الكتاب المقدس أفضل منك؟ – أثارت الشكوك حول ما إذا كان للعواطف والحدس والرغبات أي دور مشروع في الحياة الدينية. حتى الآن، غالبًا ما تبدو محادثاتنا المعاصرة حول الثقافة والدين محكومة بـ "الواجبات" الفكرية والأخلاقية والسياسية.

نتعلم من واتس أن الرغبة يمكن أن تكون الطريق الملكي لتجربة الواقع حقًا كهدية، من النوع الأكثر سخاءً. على الرغم من كل الاختلافات في المزاج، وجد سي إس لويس أيضًا أن الرغبة هي المفتاح الذي يفتح أسرار الحياة.سيرته الذاتية، مفاجأة من الفرح (1955)، تؤرخ رحلة من شطب الرغبة باعتبارها سمة من سمات علم الأحياء وعلم النفس إلى اكتشاف أنها متأصلة في الطبيعة البشرية كدعوة من الله.

لم يكن لدى واتس مرشد في هذه القضية، ويبدو أنه عانى من فن التمييز. وكما قال المحرر المحبط لسيرته الذاتية، "بطريقتي الخاصة" (1972)، فإنه لم يكن يحب التعمق في مشاعره ودوافعه. وكانت "الهوية العليا"** مفيدة في هذا الصدد، حيث يمكن استبعاد الذات اليومية الصغيرة باعتبارها لا تستحق الكثير من الاهتمام.

ولكن متى أصبح من السهل التعرف على رغباتنا واستكشافها وتنظيمها؟ في كتاباته وفي ملامح حياته المليئة بالأحداث، ترك لنا واتس مدافعًا شغوفًا ومقنعًا عن الإمكانات الاستكشافية للرغبة. إما أن يكون كل شيء دينيًا أو لا شيء كذلك: كانت هذه رسالته، وقد تكون الأساس الوحيد الذي سيحكم الناس على أساسه على الدين الذي يستحق الاهتمام به بعد عشرينيات القرن الحالي. بالنسبة لأولئك الذين يحاولون العيش بهذه الطريقة، مع التوازن بين الاحتياجات والرغبات والشعور "بالواجب" - المسؤولية تجاه الآخرين والمسؤولية الإلهية - قد لا يكون أمرًا سيئًا أن تحوم روح آلان واتس في مكان ما فوق رؤوسنا.

(تمت)

***

........................

* المؤلف: كريستوفر هاردينج/ Christopher Harding: مؤرخ ثقافي متخصص في الهند واليابان الحديثتين. وهو محاضر كبير في التاريخ الآسيوي في جامعة إدنبره. وأحدث مؤلفاته كتاب "نور آسيا: تاريخ افتتان الغرب بالشرق" (2024).

* آلان ويلسون واتس (6 يناير 1915 - 16 نوفمبر 1973) كان كاتبًا إنجليزيًا، ومتحدثًا، و"فنانًا فلسفيًا"،   معروفًا بتفسير ونشر الفلسفة البوذية والطاوية والهندوسية للجمهور الغربي. اكتسب واتس أتباعًا أثناء عمله كمبرمج متطوع في محطة راديو KPFA في بيركلي. كتب أكثر من 25 كتابًا ومقالًا عن الدين والفلسفة، مقدمًا ثقافة الهيبيز المضادة الناشئة إلى كتاب "طريق الزن" (1957)، أحد أفضل الكتب مبيعًا عن البوذية. في كتابه العلاج النفسي بين الشرق والغرب (1961)، قال إن البوذية يمكن اعتبارها شكلاً من أشكال العلاج النفسي. واعتبر الطبيعة والرجل والمرأة (1958) "من وجهة نظر أدبية - أفضل كتاب كتبته على الإطلاق". كما استكشف الوعي البشري والمخدرات في أعمال مثل "الكيمياء الجديدة" (1958) وعلم الكونيات المبهج (1962).لاقت محاضراته شعبية بعد وفاته من خلال البث المنتظم على الإذاعة العامة، خاصة في كاليفورنيا ونيويورك، ومؤخرًا على الإنترنت، على مواقع وتطبيقات مثل YouTube[5] وSpotify. تم تسجيل الجزء الأكبر من محادثاته الصوتية المسجلة خلال الستينيات وأوائل السبعينيات.

** يؤكد واتس أن الحضارة الحديثة في حالة من الفوضى لأن قيادتها الروحية فقدت المعرفة الفعالة بطبيعة الإنسان الحقيقية. لا الفلسفة ولا الدين اليوم يمنحاننا الوعي بأن في أعمق مركز لوجودنا توجد حقيقة أبدية، والتي تسمى في الغرب الله. ومع ذلك، من هذا الإدراك فقط تأتي الصفاء والقوة الروحية اللازمة لمجتمع مستقر ومبدع.

والكتاب أحد أكثر أعمال آلان واتس المبكرة تأثيرًا، يدرس كتاب الهوية العليا واقع الحالة الروحية المتدهورة للحضارة ويقدم الحلول من خلال مناقشة لاهوتية صارمة حول الميتافيزيقا الشرقية والدين المسيحي. من خلال فحص التفاصيل الدقيقة للقضايا اللاهوتية، يتحدى واتس القراء لإعادة تقييم جوهر الأديان التي كانت تبدو مألوفة جدًا من قبل.

* الرابط  للمقال على ايون:

https://aeon.co/essays/how-alan-watts-re-imagined-religion-desire-and-life-itself

* ريتشارد رور/ Richard Rohr (من مواليد 1943) هو كاهن فرنسيسكاني أمريكي وكاتب في الروحانيةومقره في البوكيرك، نيو مكسيكو. تم ترسيمه كاهنًا في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في عام 1970، وأسس مجتمع القدس الجديد في سينسيناتي في عام 1971، ومركز العمل والتأمل في ألبوكيرك في عام 1987. وفي عام 2011، وصفه برنامج تلفزيوني بأنه "أحد مؤلفي الروحانية الأكثر شهرة". والمتكلمون في العالم».

 

في ذكرى رحيله

كان يجلس على كرسيه، يضع على ركبتيه غطاء السرير، لقد عانى في الليل من الألام، وكان متيقنا أن الصباح لن يشرق عليه ثانية، فهو منذ اسابيع طريح الفراش، كانت الأمة الالمانية تتابع بقلق صحة شاعرها الخالد، باحة البيت الكبير تمتلء بالناس الذين يريدون ان يطمئنوا على صحة كاتبهم المحبوب.

نظر حوله سأل عن تاريخ اليوم، قيل له انه الثاني والعشرين من آذار، قال بصوت خفيض: لقد بدأ الربيع. لم يعد يشعر بالألم. رفع يده وأخذ يحركها في الهواء كأنه يكتب شيئا ما، لكن سرعان ما سقطت يده بسبب الضعف، أخذ  يحرك اصابعه كأنه يتابع الكتابة. بعدها اصبحت الاصابع تتحرك بصعوبة، تغير لونها، أصبح يميل للزرقة، ثم توقفت عن الحركة، فيما عيناه اأخذتا بالإنطفاء. بعد دقائق اأعلن طبيبه الخاص " كارل فوغر "،  موت اديب المانيا الكبير " يوهان فولفغانغ فون غوته " في الساعة الخامسة من عصر يوم 22 آذار عام 1832

كان غوته قد كتب قبل رحيله بأشهر:" أن يعيش المرء طويلاً معناه أن يبلغ من العمر عتياً وأن يبقى على قيد الحياة بينما تزول اشياء كثيرة: من الناس الذين احبهم وكرههم ولم يكترث لهم، الى الممالك والعواصم، لا بل إلى الغابات والاشجار التي بذرناها وغرسناها في الصبا. نحن نعمر أكثر من انفسنا، لقد عشت طيلة حياتي مع نفسي، واشتركت فيها مع الآخرين، فتطلعت دوما صوب الأسمى في كل سعي دنيوي وعمل أرضي قمت به " – غوته من حياتي ترجمة محمد جديد –

في سنواته الأخيرة كان غوته يستقبل الكثير من الضيوف بصورة يومية، وغالباً ما كانت هذه الزيارات من أجل اطلاغ الزائرين على مجموعة من الرسوم التي انجزها، أو بقصد الاستماع الى حفلات الموسيقى أو لمناقشة البراهين على تجاربه في حقول العلم الطبيعي، أو لإجراء محاورة فلسفية. كانت مغادرته لمدينته فايمار قد قلت، فقرر فتح ابواب منزله للجميع كتاب وباحثين وعلماء فنون ورحالة ورجال سياسة، وناس من العامة يودون مشاهدة الرجل الذي اصر نابليون ان يلتقيه ليخبره انه قرأ "آلام فرتر" عدة مرات ورافقته في معظم رحلاته ومعاركه االحربية، وعندما قال له قال غوته:  يا صاحب الجلالة إنك تجاملني ". قال نابليون:" فرتر هو في الواقع عمل مليء بالأفكار الجليلة.. إنه يحتوي على آراء نبيلة للحياة، ويصور التعب والاشمئزاز الذي يجب أن تشعر به جميع الشخصيات الرقيقة الصافية الذهن عند إجبارها على ترك مجالها والتواصل مع العالم، لقد وصفت معاناة بطلك ببلاغة لا تقاوم، وربما لم يقم شاعر بعمل تحليل فني للحب أفضل مما فعلت". كان غوته يبلغ من العمر 60 عاما عندما التقى نابليون الذي قال له:" لديك مظهر شاب!، من الواضح أن التواصل الدائم مع الموسيقى قد أعطاك شبابا إضافيا".- غوته ونابليون.. لقاء تاريخي  ترجمة  خليل الشيخ.

ظل غوته طوال حياته يحارب الشهرة التي التي كان يقول عنها " جارحة للشعور بقدر ما هو سوء السمعة ". ييردد على مسامع زواره:" ان معنى كتاباتي وحياتي ومغزاهما هو انتصار العنصر الانساني " ثم يضيف:" سوف يكون من شأن الاديب بوصفة إنساناً ومواطناً أن يحب وطنه الأم، ولكن وطن طاقته الشعرية وتأثيره الشعري هو قيم الخير والنبل والجمال، وهذه لا ترتبط باقليم معين ولا ببلاد معينة، بل هي قيم يعمد إلى اعتناقها والتمسك بها وتشكيلها حيثما يجدها " – غوته أفكار وتأملات  ترجمة هاني صالح –

كتب غوته عام 1820 وهو في عقده السابع:" إن الكتابة مرض مستعص، ومن الخير أن نستسلم له. ونراه يعلن ان كتابا ما إنما يؤثر في القارئ ثم يصبح جزءا من الثقافة المحيطة بواسطة شخصيية المؤلف وجدها:" يجب ان تكون انسانا ذا شخصية لكي تخلق عملا ذا قيمة ".

بدأ اهتمامه بالقراءة والكتب  مبكراً بتعرفه لأول مرة في مكتبة والده على كتاب الجمهورية لافلاطون الذي قال عنه إنه اول كتاب يفتح عيني على العالم. ومنذ ذلك الحين صارت الكتب أكثر ما يتحدّث فيه مع رفاقه في المدرسة، يتذكر يوهان فولفانغ غوته كيف أن مجموعة من الكتب قد اجتذبته أكثر من سواها وسيكتب في سيرة حياته التي أسماها " الشعر والحقيقة " متذكراً المكتبة الكبيرة التي كانت تأخذ حيزاً كبيراً في ذلك المنزل الذي يتألف من مبنيين متجاورين:" هناك عندما كبرت، لم تكن إقامتي في جو يخيم عليه الحزن، بل سادها التوق وخالجها الشوق الى المعرفة "، يتذكر أن عمه رشح له مجموعة من الكتب، كان لمعرفة غوته الطالب الصغير بعالم الفلسفة أبرز الأثر في كتاباته فيما بعد، ففي سن العشرين بدأ يبشر بفلسفة سبينوزا، وآمن إن الشعر بحاجة الى العلم، لكنه اختلف مع أفكار نيوتن فهو يعتقد ان واجب العلم البحث عن تعابير واستعارات في الطبيعة تبرهن على الوحدة المستكنة في كل جزء من أجزائها. توقع غوته من العلم كالدين سواء بسواء تأكيد لمقولته الشهيرة " كل الأشياء تتشابك وتنسجم في كلٍ كامل ". في عام 1769 كان غوته في العشرين من عمره حين وقع في يده كتاب " مقال في إصلاح العقل " لسبينوزا حيث وجد في هذا الكتاب، أجوبة على أسئلة كانت تدور في ذهنه عن علاقة الدين بالتفكيرالعقلي والعلمي، وسيصبح إبداع غوته الشعري فيما بعد تفسيراً لفلسفة سبينوزا، فقد وجد غوته في كتاب سبينوزا مفاهيم جديدة عن الحرية وموضوعة الذاتية الفردية، كتب رساله الى شوبرت يخبره فيها إن الفلسفة وحدها ستبلغه سر الوجود : " "في البداية قرأت كتب الفلسفة بجد وإخلاص، لكن الفلسفة لم تنورني فقط. بل مارست عملية هدم وعزل، أتلقف تلك العمليات الذهنية التي كنت أؤديها بأقصى قدر من السهولة في شبابي، لكي أرى الاستخدام الصحيح لها".في العام 1784 سيصدر يوهان غوتفريد هردر،كتابه " تأملات في فلسفة تاريخ البشرية " وسيرسل نسخة الى غوته الذي سيكتب إليه يحيي فيه قدرته على وضع تاريخ كلي للحضارة.. لكنه أخذ عليه إيمانه المطلق بالجبرية، وقمعه كل فعل عقلي حر تقوم به الإرادة، فالإنسان في نظر هردر غير قادر على توجيه مصيره، لأن ما يسيطر على أفعاله ومصيره هو الطبيعة وتكوينه العضوي وبيئته الفيزيائية، ورغم اعتراضات غوته على كتاب هردر إلا إنه سيكتب ملاحظات ينشرها ضمن يومياته يؤكد فيها إن استعدادات الانسان التي تعمل على خدمة عقله، مهيئة لبلوغ أسمى درجات الكمال، إلا أنه من غير المستطاع تحقيق هذه الغاية في الفرد، فهي لن تتحقق إلا في الجنس البشري، لأن العقل يعمل في صورة محاولات تتجه الى التقدم والتراجع معاً. وستتضح هذه الفكرة فيما بعد في مقال ينشره إيمانويل كانط عام 1790 يؤكد فيه إن التحقيق الكامل لطبيعة الإنسان العقلانية لن يتيسر إلا في " المجتمع العالمي المتحضر " المرتكز على العدالة السياسية، حيث يؤكد كانط إن إقامة مثل هذا المجتمع هو أكبر مشكلات الجنس البشري. ووضع كانط كهدف سياسي إنشاء اتحاد للدول يتحقق فيه أكبر قدر مستطاع من الحرية..وسيتذكر غوته ما كتبه كانط عند لقائه مع نابليون في الثاني من تشرين الثاني عام 1808، كان غوته معجباً بالثورة الفرنسية، ويدين بالكثير من أفكاره عن الطبيعة لجان جاك روسو وعندما سأله نابليون عن رأيه في ما يجري من حوله أجاب:" كل العصور التي في انحطاط وانحلال عصور ذاتية، ومن جهة أخرى فجميع العصور التقدمية لابد أن تكون موضوعية. إن عهدنا عهد رجعة، ولذا فهو عهد ذاتي "، اعتقد غوته إن العالم سائر نحو التحقيق الكامل للحرية، فهي غايته وهدفه، لكنه هدف صعب الوصول لأنه يعني القمع الكامل للطبيعة، ولهذا ظل غوته يؤمن إن العالم يقترب في طريق غير محدد تجاه مثل أعلى، وثمة تزايد مستمر في تحقيق الحرية، وبازدياد ارتفاع العالم نحو بلوغ غاياته يتزايد اتباعه للعقل، فغاية البشر هي بلوغ حالة تترتب فيها كل علاقات الحياة وفق العقل، لا تبعاً للغريزة، وإنما بوعي كامل وتبعاً لهدف مقصود..إنها أفكار سبينوزا التي بعثت الروح التفاؤلية عند غوته، فمهما كانت التناقضات التي تسيطر على الروح الإنسانية، ومهما كانت الكوارث والانهيارات التي تهددها ومهما سمم الحزن القاتل هذا المخلوق الأرضي، فإن طاقة السعادة العامة لا تعرف النضوب، ولاتقوم خصوصية أفكار غوته على صلتها بفلسفة سبينوزا فقط، وإنما على حركتها النقدية الغنية الأصيبلة المرتبطة بمجالات الواقع والعلم المتنوعة، وقد  شكلت هذه الافكار  بدايات فلسفة التنوير التي ظهرت في المانيا التي جعلت من غوته المجرب الطبيعي والمجدد لهذا الفكر، فكان يمتلك رؤية بعيدة للمستقبل، وكان أكثر من أي كاتب آخر رائداً للرواية الفلسفية، وقد ساهم غوته مساهمة فعالة للغاية في النقاشات المعاصرة حول الحرية والمستقبل، وأشار الى الإمكانات اللا محددودة التي يتمتع بها العنصر البشري، والإدراك التاريخي للروابط القائمة بين تطور المجتمع والتقصي الفلسفي لمعنى الوجود.

ولد جوهان فولفانج غوته في فرانكفورت في الثامن والعشرين من آب عام 1749، والده محام صارم الفكر، أصرّ أن يتعلم ابنه اللاتينية والعبرية والفرنسية والإنكليزية وهو صغير، وطلب منه أن يكتب مقالات وينظم الشعر، ويقرأ كتباً في الفلسفة والفنون، هذه الحياة التي ارتبطت بالكتاب نجده صداها في شخصية فاوست الذي دائما ما يعقد مقارنة بين مغامراته مع الكتب وحكاياته مع النساء، يدرس غوته القانون في كلية ستراسبورج لكنه لايعمل في سلك القضاء مثلما تمنى والده، فقد انصرف للكتابة، ليصبح بعد سنوات واحداً من أهم أدباء المانيا، وليحظى بالتكريم خلال سني حياته التي استمرت أربع وثمانين عاماً، حيث توفى عام 1832

عام 1774 صدرت الطبعة الأولى من رواية آلام فرتر كان غوته في الخامسة والعشرين من عمره، ولم يكن يتصور أن تلك الصفحات الحزينة التي كتبها عن تجربته مع العشق يمكن أن يتخاطفها الناس، ويصبح الشاب فرتر بوجهه الحزين والكتاب بين يديه نموذجاً لجيل بأكمله، وشهيداً من شهداء الحب، كان هذا أول كتاب يصدره غوته، لكنه وضعه في المقدمة من أدباء المانيا وأصبحت آلام فرتر بداية لعصر جديد في الأدب سمي"عصر الرومانسية".

كان غوته قد فكر في بداية الأمر أن يكتب مسرحية عن آلام الشاب فرتر، لكنه في النهاية استقر على رواية، تروي بعضاً من سيرة حياته، فبطل الرواية لايتجاوز عمره الثالثة والعشرين من عمره، وبطلة الرواية لوت، هي شارلوت بوف التي تَعرّف عليها في تلك السنوات، ويخبرنا كتاب سيرة غوته إنه في تلك الفترة كان يائساً وفكر في الانتحار، وعندما عجز عن تنفيذ ذلك، نفّذه على الورق، فبطل الرواية بعد أن يفقد الأمل في الحصول على محبوبته، يكتب رسالة وداع أخيرة، يقرر فيها الانتحار، وقد حملت سيرة حياة غوته حكاية حب تقترب بشكل تام مع حكاية حب فرتر، يكتب جورج لوكاش إن غوته في هذه الرواية كان واحداً من أجرأ الكتّاب الذين سلطوا الضوء على حياتهم الخاصة – غوته وعصره ترجمة بديع عمر نظمي -، ظل غوته يصر على انه مواطن عالمي اكثر مما هو اديب الماني ونجده وهو في الثمانين من عمره يكتب وصيته السياسية:" سوف يكون من شأن الاديب ممارسه بوصفه انسانا ومواطنا ان يحب وطنه الأم، لكن وطن طاقته الشعرية وتاثيره الشعري هو قيم الخير والنبل والجمال، وهذه لاترتبط باقليم معين ولا ببلاد معينة، بل هي قيم يعمد الى اعتناقها والتمسك بها وتشكيلها حيث يجدها. انه في ذلك يشبه النسر الذي يحلق بالاعالي وفوق البلدان بنظرته الطليقة، حيث الامر سواء عنده: فيما اذا كان الارنب الذي ينقض عليه النسر ارنبا يعدو بروسيا او ساكسونيا".

هناك الكثير من الكتب التي يعثر عليها القارئ في تفسيرات جديدة ومثيرة في كل الأزمنة،  وتجد من يمنحها تأويلاً جديداً. ومن هذه الكتب "فاوست"، الذي صاغه الألماني يوهان سبيس في فرانكفورت عام 1587 وأعاد كتابته، بعد عام واحد، الانكليزي كريستوفر مارلو بعنوان: "التاريخ المأسوي للدكتور فاوست"، قبل أن تتوازعه أسماء لامعة متلاحقة، ليس آخرها توماس مان  وبول فاليري وفرناندو بيسوا. أسباب كثيرة أسهمت في أقدار " فاوست " الذي لا يشيخ كما لو كان مزيجاً قلقاً من النور والظلام. والحديث عن الموت والحياة والسياسة وآلام المعرفة، وتلك الرغبة  في الاقتراب اسرار الحياة.

بدا غوته بكتابة فاوست عام 1771، قبل أن ينشر آلام فرتر حين كان في الثانية والعشرين من عمره، لكنه لم يكملها واستمر في كتابتها بشكل متقطع حتى انجزها عام 1831، قبل عام من وفاته، لم تظهربشكل كامل إلا بعد موته بست سنوات. ولهذا اعتبر العمل اشبه بوصية فلسفية وفكرية عكس فيها غوته التحولات الجذرية التي غيّرت المجتمع الألماني والعالم بأسره، ومثلما يكتب لوكاش لم تكن فاوست مجرد تشخيص لمصير غوته الشخصي وإنما كانت:"تطويراً مستقلاً متميزاً للوعي الذاتي القومي، بل للوعي الذاتي للبشرية". ونجد هذا المعنى في نشيد البداية حيث يخبرنا فاوست:

أود أن أتمثل في أعماق قلبي

ما قدر للبشرية جمعاء

أن أدرك بعقلي أسمى الأشياء في نظرهم وأعمقها،

وأجمع في قلبي سعادتهم وشقاءهم

وبذلك أصل ما بين كياني وكيانهم

وأتحطم في النهاية كما يتحطمون.

تبدأ أحداث المسرحية باتفاق يتنازل فيه فاوست عن روحه لمفيستوفيلس مقابل أن يمنحه لحظة واحدة من الفرح والانتصار.

في بداية القسم الاول حاول إغواء فاوست للفتاة مرغريت بمساعدة مفيستوفيلس، حيث تنتهي قصة الحب هذه بكارثة شبيهة بما حدث لبطل آلام فرتر، إذ يقتل فاوست شقيقها، فتفقد مرغريت عقلها وتموت.

أما القسم الثاني فيدور حول قصة حب أخرى بين فاوست وهيلين التي يستحضرها من عالم الأموات بمساعدة مفيستوفيلس وتكون ثمرة ذلك الحب الطفل"يوفورين"الذي سرعان ما يتبخر في الهواء كالدخان، والموضوع الرئيسي في هذا الجزء هو حب فاوست وهيلين الذي يجري في جو من المغامرات، وتبلغ ذروته حين يحاول مفيستوفيلس أن يجرّ فاوست معه الى الحجيم رغم إنه لم يحصل على لحظة فرح حقيقية، ليدرك في النهاية أن الفرح الحقيقي ليس في السيطرة على الآخرين والبحث عن القوة والسلطة وإنما في مساعدة الناس، عندها يتخلص فاوست من وساوس الشيطان وينتصر عليه. وهكذا نجد غوته يؤمن بأن لولا الشر ولولا تضحية هيلين ما كان في إمكان فاوست أن يحقق حلمه النهضوي، وأن يعطي إنسان العصور الجديدة مكانته، وشكه الانساني في الخالص، بعيداً من اليقين المريح.

لقد نجحت مسرحية فاوست التي أطلق عليها اسم إلياذة العصور الحديثة أن تلخص لنا من خلال مسيرة فاوست من السقوط والبؤس الى الارتفاع والخلاص، مسيرة البشرية ذاتها وهذا ما جعل النقاد يعتبرون عمل غوته هذا عملاً أدبياً وفنياً لايقاس به أي عمل آخر تناول شخصية فاوست، وهو الأمر الذي جعل جورج لوكاش يعقد مقارنة بين فاوست غوته وظاهريات الروح لهيغل، والذي انتهى منه بنفس الوقت الذي انتهى فيه غوته من كتابة القسم الاول من فاوست، ونقرأ في سيرة الفيلسوف الالماني الشهير انه كان يحتفظ بمخطوط"ظاهريات الروح"في جيب معطفه أينما يذهب، وإنه طلب مساعدة صديقه غوته ليقنع أحد الناشرين بطباعته، لكنه لم يجد إقبالاً من القراء حيث وجدوا صعوبة في حل ألغازة، ونراه يخبر غوته أن لا أحد يريد أن يفهمه. وإذا كانت فاوست تلخص حياة الإنسان وتجارب مصير البشرية، فان ظاهريات هيغل تشرح لنا تطور الوعي الفردي خلال مراحله المختلفة منظوراً إليه كتلخيص للمراحل التي قطعها وعي الإنسان في مجرى التاريخ، واذا كان هيغل قد نظر الى التطور التاريخي بوصفه عمل الانسان نفسه وأدرك إن الانسان يخلق نفسه من خلال عمله الخاص، فان هذا على وجه التحديد هي الصيغة الفلسفية لفاوست.. الإنسان الذي يخلق مصيره من خلال عمله الخاص.

في العام 1932 يلقي الشاعر الفرنسي بول فاليري كلمة في الإحتفال الذي أقيم بمناسبة مئة عام على رحيل غوته وفي هذا الخطاب يتحدث فاليري عن فاوست وغوته إنهما شخص واحد:"وأول ما ينبغي أن تعرفه عن فاوست هو قلقه الخالص والشك الدائم، وهي الصفات التي لازمت غوته طوال حياته.

كان الفيلسوف الامريكي إمرسون قد اطلق على شكسبير لقب " اعظم الشعراء "، فيما اعطى غوته لقب " اعظم الكُتاب "

ظل غوته يكتب حتى الايام الاخيرة من حياته، وقد كان يحس بالسعادة وهو يعلن ارتباطه بالكتب

إنها مهنة غريبة وشاقة.. من ينكر ذلك ؟

إنها قضاء يمكن أن يبدو في حينه كاللعنة الحقيقية، وكالمرض لمن يحترفها ".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

تملكته  الحيرة وهو يقرأ في الكتاب الذي نصحه والده أن يتمعن فيه  جيدا. كان الأب في ذلك اليوم من عام 1917 يقف وسط مكتبته الكبيرة، حيث الكتب في كل مكان.. ناول ابنه السيرة الذاتية  للكاتب السويدي اوغست سترندبرغ، في اليوم التالي قال لوالده: هذا كتاب صعب الهضم، صاحبه يعاني من تضخم الأنا. عاش ستريندبرغ  المولود عام  1849 سنواته الاخيرة من حياته متاثرا شديد التأثر بفلسفة نيتشه حتى انه  اصيب بالجنون قبل وفاته بثلاثة اعوام – توفي عام 1912 -،  وعاش حائرا،  يصف حاله على لسان بطل ثلاثيته المسرحية " الطريق الى دمشق " حيث يقول: " لقد بدأت حياتك بقبول كل شيء ثم مضيت فأنكرت كل شئ والآن تنتهي حياتك بمحاولة استيعاب كل شيء". كان الفتى كارل بوبر يبلغ من العمر آنذام خمسة عشر عاما،عندما قال لوالده أن سترندبرغ كئيب وممل، لم يقتنع الأب الذي ظل يجادل لساعات طويلة مصرا على  أن افكار سترندبرغ تهيمن على العالم الذي دخل دوامة الحرب العالمية الاولى. اشار الى ابنه أن يهتم بقراءة كتب الفلسفة فهي وحدها التي ستكشف له الى أين تسير البشرية، قرر الصبي كارل أن يجرب حظه مع سبينوزا، قرأ صفحات من " علم الاخلاق " ثم انتقل إلى كتاب " مبادئ فلسفة ديكارت "، شعر بالفشل، لا مفر سوى الهرب من هذه الفلسفة المليئة بالهوامش والتعليقات التي تصيب القارئ  بالإحباط، سيعثر على الراحة والطمأنينة مع إيمانويل كانط وكتابه " نقد العقل المحض "، فرغم ان الكتاب صعب للغايه، إلا أنه " يتحدث عن اشكاليات حقيقية". كان والده يردد امامه ان القراءة ثورة بالنسبة للانسانية وتحدث تغييرا في عقول الناس.

كان الصبي كارل يحاول ان يقرأ وحيدا، بعيدا عن الاعين المتطفلة. اراد ان يتوحد مع الكتاب دون ضجيج، وان يجعبل من القراءة امرا حميميا وخاصا. بهذه الطريقة في القراءة يتخلص من هيمنة آراء الآخرين وخصوصا اراء والده ولطالما اعجبته عبارة غوستاف فلوبير  التي يصف فيها إيما بوفاري " إنها تؤثر ان تقضي الوقت في غرفتها تقرأ مع نفسها ".

في سيرته الذاتية نقرأ انه من مواليد الثامن والعشرين من تموز عام ١٩٠٢ في مدينة فينا، كان الابن الوحيد بين ثلاث أخوات،، الأب يعمل استاذا في القانون، مغرما بالكتب، مكتبة البيت تضم اكثر من 15000 الف كتاب: " هناك كتب في كل مكان باستثناء غرفة الطعام " – كارل بوبر بحث لم ينته ترجمة عمر فتحي -. كان الاب مغرما بالتاريخ ومهتما بالفلسفة كما كان يكتب الشعر ويترجم بعض القصائد من اليونانية الى الالمانية  وسيرث كارل المكتبه فيما بعد ونجده يصف حياته بانها كانت "  مكتبية بامتياز "، ضمت المكتبة اعمال افلاطون وبيكون وهوميروس وشكسبير وجون لوك وكانط وسبينوزا وديكارت وجون ستيوارت ميل وكيركغارد، وركن خاص وضعت فيه اعمال نيتشه، سيقرأ بوبر كتب نيتشه حيث ادهشته فكرته التي طرخها في كتابه " العلم المرح عام 1878، والتي اكد فيها نيتشه  أن العلم هو مسألة خلق وابتكار.، لكنه سيجد ان افكار نيتشه كانت جزءا لا يتجزأ من تكوين ونجاح الحزب النازي، وساعدت في تبرير المذابح الجماعية. وفي زاوية اخرى من المكتبة احتلت اعمال ماركس وانجلز حيزا مهما ومعها اعمال كاوتسكي ودعاة الاشتراكية.

اما والدته، جيني شيف فقد كانت من اصول مجرية،  مولعة بالموسيقى، تعزف مساء كل يوم مقطوعات لباخ وموزارت وبتهوفن وشوبرت، نقلت هذا الولع الى ابنها الصغير الذي قرر في بداية حياته الدراسية أن يصبح عازفا للموسيقى، وعندما لم يتمكن من ذلك اختار تاريخ الموسيقى كموضوع ثانِ الى جانب الفلسفة التي اصبحت بعد ان بلغ الثامنة عشر من عمره  تحظى باهتمامه الاول يكتب في مذكراته:" كانت الموسيقى قوة دافعه، ساعدتني كثيرا في تطوير افكاري ". قبل ان يتعلم القراءة كانت والدته تقرأ له بعض القصص، ادهشته " مغامرات نيلز العجيبة  " للكاتبة السويدية سلمى لاغرلوف التي تروي فيها هي حكاية الفتى نيلز البالغ من العمر اربعة عشر عاما، وكيف حولته تجربة الحياة ومصاعبها من صبي شرير إلى فتى مفعم بالإنسانية وحب الآخرين. قالت لاغرلوف ان الغاية من كتابتها " مغامرات نيلز " لتبيان اننا جميعا نملك بداخلنا روحا طيبة، يتغلب عليها الشر احيانا لكن التجربة ورؤية العالم تعيدنا الى وضعيتنا الطبيعية. سلمى لاغرلوف المولوده العشرين من شهر تشرين الثاني عام 1858 في قريه في الجنوب السويدي، عاشت طفولة شبيهة بطفولة كارل بوبر، حيث مكتبة والدها الضخمة ساعدتها على أن تقرا مؤلفات شكسبير وراسين وهوةميروس وهي في العاشرة من عمرها، تعلقت بحكايات كاتنبري، وكانت تحفظ قصص الدنماركي هانس كريستيان أندرسن، وفي مكتبة والدها عثرت على اجزاء من الف ليلة وليلة التي وصفتها بـ " السحر الخفي " قدمت روايتها القصيرة " مغامرات نيلز " الى النشر عام  1906 ولم تلق استجابة من الناشرين فطبعتها على نفقتها الخاصة، لتصبح اشهر قصص الاطفال المكتوبة بعد حكايات اندرسن، ترجمت مغامرات نيلز الى اكثر من 40 لغة، وتم تحويلها الى مسلسلات كارتونية في العديد من دول العالم، وبفضل نيلز تحولت سلمى لاغرلوف  الى ايقونة ادبية، ولتحصد بعد ثلاث سنوات – عام 1909 – جائزة نوبل للاداب.قالت ان مكتبة والدها جعلتها تعرف خفايا العالم:" كنت اعيش في وحدة كبيرة بعد وفاة امي وانا صغيرة، وكان علي ان اختار بين العزلة اواعيش بمفردي،، وبين ان اعيش مع الاخرين من خلال الكتب.. ويخيل الي انني عشت اكثر من حياة ".

ظل كارل بوبر لسنوات يعيد قراءة معظم مؤلفات  سلمى لاغرلوف واصفا اياها بـ " التحف الفنية ".تمارس والدته وسلمى لاغرلوف تاثيرا كبيرا على تطوره الفكري المبكر، في العاشرة من عمره  سيتعرف على آرثر ارندت الذي يكبره بعشرين عاما، وكان اشتراكيا، وجد كارل الصبي نفسه على استعداد لقراءة الفكر الاشتراكي:" شعرت أنه لاشيء يمكن أ ن يكون اكثر اهمية من انهاء الفقر " – كارل بوبر بحث لم ينته -.في ذلك الوقت كان اليوم بالنسبه له 18 ساعة يقضيها بين القراءة والدراسة تتخلل ذلك وجبات طعام سريعة، حتى أن الأم كانت تخشى على صحة ابنها الذين يقضي معظم يتنقل بين ارجاء البيت وبيده كتاب قال بعد سنوات " تتكلب القراءة عيننين مفتوحتين باستمرار، وذهناً يقظاً، وأن يكون امامك متسع من الوقت، وان تشحذ ذهنك كله من اجل الصفحات التي امامك، وان تحترم الكتاب سواء اكملته ام وضعته جانبا بعد قراءة صفحات منه ".

يقول انه خاض مع الكتب معركة حب لكنها صعبة، فالقراءة كما وصفها " نشاط ابداعي استمتع به " أحب نوعا خاصا من الكتب التي تهتم بالعلوم ونظرية المعرفة، وجد ضالته عند ارنست ماخ الذي تعرف على كتاباته من خلال آرثر ارندت، كان ارنست ماخ قد جادل باأن العلم هو " اقتصاد الفكر ". بعد سنوات سيصف كارل بوبر العلم بانه "عمل إبداعي و خيالي ".

ظلت الرواية عالما مفضلا عند بوبر الفتى الذي كان تاثير والدته كبيرا عليه قال أن قراءة الروايات تترك تأثيرا على القارئ، فاحيانا يشعر اأن حياته لا معنى لها عندما يقارنها بحياة ابطال الروايات، فيما روايات  سلمى لاغرلوف تمارس تاثيرا كبيرا عليه  حيث يخبرنا في مذكراته انه أعاد قراءة رواياتها مرات ومرات، حتى وهو يضع نظريته في البحث العلمي. فالروايات كما وصفها تمنح القارئ ثقافة كاملة، وتقك شفيرة العلاقات الإ نسانية، إن صوت والدته الرقيق وهي تقرأ له مغامرات نيلز ظل يذكره بأن الكتب تنظم له العالم، وتُقيمه له، وظلت وصية والده عن القراءة دليلا نظم به علاقته مع الكتب:" اقسم وقتي بطريقة منتظمة، بحسب المهام المتعلقة بعملي والتي انشغل بها، فقد وضعت منهاجا للكتب التي اخصص لها وقتا لثلاث مرات في اليوم ".

يعترف كارل بوبر ان تعلم القراءة هو الحدث الرئيسي للتطور الفكري للفرد " إذ لا يوجد شيء يمكن مقارنته به " – بحث لم ينته -، ولهذا فهو يشعر بالإمتنان الدائم لمعلمته الاولى " إيما غولدبرغر " التي علمته اساسيات " القراءة والكتابة والحساب "، وستوفر له والدته في البيت المناخ المناسب للتعلم من خلال القراءة والتفكير.

في السابعة عشر من عمره يقرر ان يترك البيت ومعه المدرسة ايضا ليعيش مستقلا:" حاولت ان لا أكون عبئاً على والدي الذي كان قد تجاوز الستين وفقد كل مدخراته في التضخم الجامح الذي حدث بعد الحرب ".طلب من والده ان ياخذ معه بعض الكتب لتكون نواة لمكتبته الشخصية، عمل في العديد من المهن، موظف بدون أجر  في عيادة الطبيب النفسي الفرد أدلر إذ كان يساعد في رعاية الاطفال المشردين، وقد ترك هذا العمل اثراً في فلسفته لا حقا، ويقال أنه السبب في توجهه نحو الشيوعية التي سرعان ما سيختلف مع منهجها في الدفاع عن حرية الرأي، فيعلن بعد اشهر انه اشتراكي ليبرالي. مارس العمل في إنشاء الطرق، بعدها أخذ يعطي دروس خصوصية لبعض الطلبة الاجانب، كان يجمع المال ليصرفه على متعتين: شراء الكتب وحضور الخفلات الموسيقية. إلا ان المهنة الوحيدة التي ظل يتباهى  بها هي مهنة النجارة، حيث عمل عند نجار كبير في السن في فينا اسمه " أولبرت بوش " وكان متخصصا في صنع دواليب الملابس وخزانات الكتب، وقد مارس أولبرت تاثيرا كبيرا على كارل بوبر الذي سيضعه في مصاف المعلمين الكبار:" كان يجود عليَّ من حين لآخر بشيء من فيض علمه الذي لا ينتهي، فقد اخبرني ذات يوم أنه ظل يصنع لسنوات نماذج مختلفة لاحدى الآلات التي تستطيع أن تعمل باستمرار وبحركة دائبة وبغير توقف.. ثم اضاف بعد تأمل طويل: ان الناس يشككون دائما في قدرتك بصنع الشيء ولكن حين تفعله فانهم يتكلمون عنك بطريفة اخرى مختلفة تماما. وكان له غرام شديد بطرح الاسئلة. يقول لي بكبرياء لا يخلوا من تواضع: تستطيع ان تسألني انت الآن ما تشاء فانا اعرف كل شيء "ويضيف بوبر:" اعتقد أنني تعلمت نظرية المعرفة من الاسطه النجار اولبرت، فهو مثل سقراط كان دائم السؤال، وهو الذي جعلني اشعر بمدى تفاهة معلوماتي، كما جعلني ادرك انه لا خير في أي نوع من العلم أو الحكمة، ان لم تجعل صاحبها يحس بمدى جهله وضألته معرفته ". ذات يوم سيقدم النجار اولبرت نصيحة ذهبية لكارل بوبر، عندما طلب منه أن يجد عملاً أسهل من صناعة المكاتب والدواليب، وعندما ساله عن نوع العمل ـ اجاب أولبرت: انها الفلسفة حاول أن تسال عن كل شيء.

في الجامعة التي دخل اليها طالبا خارجيا أخذ يحضر دروس في التاريخ والادب والفلسفة وعلم النفس وحتى محاضرات الطب، لكنه سرعان ما يشعر بالملل:" كان لدى الجامعة في ذلك الوقت، اكثر المعلمين البارزين، لكن قراءة كتبهم كانت تجربة امتع بكثير من الاستماع إلى محاضراتهم " – بحث لم ينته –. ظلت يحتفط بنصيحة العجوز اولبرت، فهو الآن يريد ان يدخل مجال الفلسفة الحقيقي، ولم تكن المسالة بسيطة، صحيح ان كل انسان هو فيلسوف بطريقته الخاصة،  لكن أن يكون المرء فيلسوقا محترفا وان يتخذ من الفلسفة مهنة له، فإن ذلك يقتضي قدرات ذهنية معينة، كما يتطلب اعدادا شاقا وطويلا.

في العشرين من عمره ينضم الى رابطة الطلاب الاشتراكيين، وكان قد تفرغ لقراءة كتب ماركس  ونجده في هذه الفتره شابا ماركسيا متحمسا لافكار ماركس وزميله انجلز، لكن فيما بعد سيكتشف ما هي غايات النشاطات السياسية. والتي ستقوده هذه المعرفة إلى رفض الالتزام السياسي،  ثم أصبح فيما بعد ناقداً للماركسية، بعد ماركس سيجد ضالته مع كتب  فرويد ونظرياته، لكن بعد سنوات من القراءة والنقاشات حول التحليل النفسي، نجد كارل بوبر يوجه نقدا لنظريات فرويد التي قال عنها انها لا يمكن إثباتها ولا هي بالتي يمكن دحضها.  لكن الحياة كانت تخبئ مفاجاة للشاب المغرم بالفلسفة والموسيقى والعلوم،  حيث تمكن من  اكمال دراسته  الجامعبة حيث حصل عام ١٩٢٨  على الدكتوراه  في لفلسفة، ليعمل بعدها مدرسا للرياضيات والفيزياء في المدارس الثانوية.

في تلك السنوات تشكلت حلقة فينا وكان ابرز اعضائها موريتس شليك وفيليب فرانك ورودولف كارناب و فيكتور كرافت وأوتو نويرات،  وهانز هان، وهربرت فايجل واخرون، وقد اطلق على الجماعة ايضا اسم "جماعة الوضعية المنطقية "، وقد جعلت جماعة فينا غرضها الاساسي هو مبدأ التحقيق، وهو المبدا الذي يؤكد ان معنى القضية هو طريقة تحقيقها، ومن ثم فليس هناك معنى لأي عبارة إلا إذا كان بإمكان المرء من حيث المبدأ أن يتحقق منها، ولم لم يرق هذا المبدأ،، لكارل بوبر، فقام بمحاولة نفنيده، مستبدلا مبدأ التحقيق بمبدا اطلق عليه اسم  " قابلية التكذيب "  ولخص بوبر بعبارة بسيطة خلاصتها " ماذا تكون عليه حال الأشياء لو أنها كانت كاذبة "، وقد بين وجهة نظره هذه في كتابه الاول " منطق البحث العلمي " – ترجمه محمد البغدادي - الذي صدر عام 1934، واعتبر مؤرخوا الفلسفة ان كتاب بوبر هذا قد دق ناقوس نهاية جماعة فينا، لتنتقل الوضعية المنطقية الى انكلترا وتسود لمدة عقود. عام1937  يهاجر كارل بوبر الى نيوزيلندا هربا من النازية ليمارس مهنة  التدريس  في الجامعة، وكان قرار هتلر ضم  النمسا الى المانيا عام ١٩٣٨ حافزا لكارل بوبر لأن يوجه قراءاته وكتاباته نحو السياسة وعلم الاجتماع،  عام ١٩٤٦ ينتقل الى بريطانيا التي قبلته لاجئ سياسي ثم منحته الجنسية البريطانية،  وهناك سيُدرس المنطق ومناهج العلوم  بجامعة لندن وفي عام ١٩٦٥ يمنح   لقب  " سير"، وهو أعلى لقب تمنحه  بريطانيا لمواطنيها، وتمنحه بلاده النمسا " وسام الشرف الذهبي الأكبر"، العام 1966 يتقاعد  عن العمل بجامعة لندن عام ١٩٦٩،  لكنه يظل يمارس بنشاط مهامه كمفكر وفيلسوف ويصدر العديد من الكتب المهمة ويلقي المحاضرات في جامعات العالم الى ان  يتوفى  ١٩٩٤، وقد بلغ  الثانية  والتسعين من عمره.

وصف كارل بوبر بدون كيشوت القرن العشرين، الذي لعبت الكتب بعقله، فقد كان يقرا كثيرا ويوجه النقد للكتب التي يقراها بتامل كبير، فلم يسلم منه افلاطون ولا هيغل وماركس حيث سخر من فلسفاتهم، في طريقة تتوافق مع قراءاته وفهمه، وهو يرد على منتقديه قائلا:" "من دون تواضع أو خيلاء، أنا الأخير بين فلاسفة الأنوار: لست باني أنظمة، ولا نبياً، لكني رجل ارتبطت طوال حياتي بالكتب والملاجظة وطرح الاسئلة وهذه الاركان الثلاثة ساعدتي على حل المشكلات المعرفية. إنني أعتبر نفسي منتمياً إلى تقاليد كانط وفولتير، اللذين كانا يُخضعان للتفحص العقلي والسؤال كل ما يتعلق بالحياة والفكر ".

في آخر محاضرة له قبل وفاته بعام واحد اكد بوبر ان العالم  اذا اراد الاقتراب من السلم، عليه التَّخلي عن الأيديولوجيات الَّتي تهدد فعلا السلم، وعلينا ايضا البحث عن الحقيقة بكل تواضع، وعندما سأله بعض الطلبة عن الكتب التي لاتزال تمارس تاثيرا عليه قال: انا شخص شكلت الكتب حياتي، لا يمر يوم دون ان اتحاور معها في انفع السبل لاقامة مجتمع الرفاهية والحرية، مجتمع يسمح للافراد ان يسألوا ويرفضوا أي سلطة سواء كانت متوارثة ام جاءت عبر عملية سياسية.، مجتمع يؤسس لتقاليد تقوم على الاخوة الانسانية والحرية، والمساواة، والتقييم العقلاني لمشكلات المجتمع. بعدا سيؤكد لطلبته ان القارئ لكي يصبح ندا للكتاب عليه ان لايردد المقولات مثل الببغاوات، وإنما ان يطرح الاسئلة بعد أن يطوي الصفحة الاخيرة من الكتاب الذي بين يديه.

***

علي حسين رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

عندما يسألني احد الشباب وانا اتجول في شارع المتنبي عن افضل الكتب التي عليه أن يقرأها. وهل هماك طريقة مفضلة للقراءة؟، اردد العبارة التي قراأتها في كتاب دانيال بناك " متعة القراءة " والتي يمنح فيها القارئ حقوقا غير قابلة للمساومة أبرزها:" الحق في قراءة أي شيء.الحق في القراءة في أي مكان. الحق في القراءة بصوت مرتفع. الحق في اعادة القراءة. الحق في عدم انتهاء الكتاب. كان بورخس يردد: " فليفخر الآخرون بالصفحات التي كتبوا،اما اأنا فأفخر بتلك التي قرأت ". لكن هل القراءة الزامية؟. اعتقد ان مثل هذه العبارة ستكون قاتلة لمتعة القراءة، فالقراءة لا يمكن أن تكون الزامية.. فهل نتكلم عن السعادة الإلزامية. فالقراءة يجب ان تكون شكل من اشكال السعادة الشخصية..إنها الطريقة الوحيدة للقراءة.

اختارت وهي في العشرين من عمرها طريقا اتضح لها باطراد أنه سيجلب لها الوحدة.. تعرف أنها أتت من عالم كانت النساء فيه مقيدة. كان الرجال والنساء يقطنون عالمين منفصلين بحدة. تصورت نفسها ذات يوم مثل بطلة فلوبير " مدام بوفاري " التي اصرت أن تتمتع بكل ذرة من حياتها.عندما بلغت العشرين من عمرها، قررت أن تستقل بحياتها. استاجرت غرفة من جدتها التي عاملتها مثل المستاجرين الآخرين. اشترت سيمون دي بوفوار بعض الاثاث الرخيص. طاولة وكرسيين ورفوف للكتب. ساعدتها اختها في ترتيب المكان، وضعت على الطاولة بعض الكتب وقلم حبر، فيما امتلأت الرفوف بالكتب التي كانت قد خزنتها في صناديق. نظرت بنشوة إلى المكان تفحصت الكتب جيدا ثم قالت لشقيقتها:" اخيراً بدأت حياتي الجديدة ".

في بداية رواية دون كيشوت يصف سيرفانتس بطله بأنه شخص يقرأ حتى الاوراق الممزقة المرمية في الشارع، هكذا فعلت سيمون دي بوفوار مع الكتب، انها تقرأ كل شيء. في مذكراتها " وانتهى كل شيء " – ترجمة محمد فطومي – تقول ان القراءة لم تكن بالنسبة لها ترويحا عن النفس بل " النافذة التي كنت من خلالها أرى العالم ". قالت لسارتر ذات يوم أن الكتب تضيء لها مستقبلها. في مراهقتها كانت تتعرف على نفسها من خلال الروايات. في مذكراتها تنبهنا الى الكيفية التي تستطيع بها الكتب ان تنمي ارادتنا الواضحة والصريحة، فهذه الفتاة التي اطلقت عليها في مذكراتها وصف " الرصينة " تُوضح لقراء سيرتها كيف اكتشفت استقلالها الذاتي بفضل االكتب.كانت دائما على وعي بقدرتها على تأكيد ذاتها. الفتاة التي تنتمي الى البرجوازية الصغيرة ظلت تسعى الى الانفصال عن طبقتها الاجتماعية، كانت تدرك انها اصبحت بلا مكان في هذا المجتمع ولهذا فقد " قررت بفرح ألا اتوقف بأي مكان ".. وقد ساعدها هذا الموقف ان تكون دائما على استعداد للاحتجاج وفي تكوين وعيها الاجتماعي وان حياتها تكونت: " عبر الإرادة الدائمة لاثراء المعرفة ".. لكن هذه المعرفة لم تكن متاحة دون الآخرين، وهي بذلك تقف على النقيض من سارتر الذي اطلق عبارته الشهيرة " الآخرون هم الجحيم "، حيت تعترف:" كنت قد اكتسبت المعرفة بوجود الآخرين عتدما شعرت بانقباض التاريخ علينا، فانفجرت واصبحت اشعر اني ارتبط بكل كياني بالجميع وبكل فرد " – قوة العمر -. وبسبب هذا الموقف سعت طوال حياتها ان تعبر عن رغبة عميقة في البحث عن الاتصال الانساني، رغم الصراعات والتقاليد الاجتماعية المحافظة التي كانت تحيط بها، ولعل هذا الانفتاح على الآخر هو الذي قادها لان تكتب كتابها المهم " الجنس الآخر"  والذي سمي اثناء صوره بـ " الكتاب الفضيحة ".، وأثار عاصفة من الاحتجاجات، وبسببه انهالت على سيمون دي بوفوار كتابات تصفها بأبشع الأوصاف، ووضع الفاتيكان الكتاب ضمن قائمة الكتب المحرمة، وكتب ألبير كامو مقالاً اعتبر فيه الكتاب رسالة سخرية صوّرت الرجل الفرنسي بشكل سيئ، وقال الكاتب الشهير فرانسوا مورياك:"لقد وصلنا فعلاً الى حدود الوضاعة"، كما هاجمه الحزب الشيوعي الفرنسي الذي اعتبره"إهانة للمرأة العاملة"،وكانت الاتهامات تلاحقها وستتنافس الصحف المحافظة على تحقيرها حيث وصفوها بانها " فتاة مسكينة، عصابية، مكبوتة، مسترجلة، محشوة بعقد ازاء الرجال والنساء، وكتب احد النقاد:" لقد اذلها ان تكون امرأة " وقد صرح البعض بانه لم يكن يحفق لها الحديث عن النساء لانها ليست امرأة. في حين وصفت فرانسو ساغان الكتاب الذي قرأته عندما كان عمرها 15 عاماً، بأنه واحداً من الكتب العظيمة القليلة في زمننا،، وفي عرضها للكتاب ذكرت المجلة الشهيرة اتلانتيك، إن الكتاب يتلاءم جداً مع الوجودية المثيرة للاشمئزاز، إلا أن الكتاب حقق نجاحاً هائلاً في الأسبوع الأول لصدوره حيث نفذت جميع النسخ المطبوعة والتي تجاوزت الثلاثين ألف نسخة، وعندما صدرت ترجمته الانكليزية بيعت منها مليونا نسخة، كما تصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في اليابان لمدة سنة كاملة، وأصبح الكتاب المرجع الأساسي لرائدات تحرير المرأة في أوروبا وأميركا.

تعترف بأن القراءة منحت معنى لعملها ككاتبة، فرغم الشهرة التي حصدتها والمكانة التي وجدت نفسها فيها كواحدة من ابرز فلاسفةة الوجودية إلا انها لم تتخل عن عاداتها اليومية في القراءة:" استمر في القراءة كثيراً، في الصباح، في الظهيرة، قبل الشروع في العمل أو عندما اكون مرهقة من الكتابة. اقرأ ساعات باكملها. ما من انشغال يبدو لي طبيعيا اكثر " – وانتهى كل شيء ترجمة محمد فطومي -.

في حوارها مع فرانسيس جانسون وهو يسألها عن الكتب المتناثرة في كل مكان وهل استطاعت أن تغير مصيرها؟ قالت:" دائما ما اسأل نفسي:لماذا التعلق باقراءة؟.. متعة القراءة لم تُمحَ، مازلت اندهش لتحول الرموز السوداء الى كلمة تقذف بي في قلب العالم ".

كانت كتابات سيمون دي بوفوار تثير السخط حتى بين اصدقائها، قال انها تعلمت من المركيز دي ساد كيف تجعل الآخرين يرمون بكتابها الى الجهة الاخرى " ليس امام القارئ التقليدي سوى النفور من كتبي " قالت لجان جينيه يوما أنها تمنت لو كانت قد كتبت كتابا مثل كتابه " يوميات لص " اخبرت سارتر ان كتاب جينيه " واحد من اجمل الكتب ".

ولدت سيمون دي بوفوار في التاسع من كانون الثاني عام 1908،:" كان ابي في الثلاثين من عمره، وامي في الحادية والعشرين "، كانت إبنة لعائلة ميسورة الحال، والدها حسب تعبيرها في وضع وسط بين الارستقراطية والبرجوازية، اما والدتها فامرأة كاثوليكية متدينة، أعطت لابنتها تربية جادة وصارمة وثقافة دينية وشعوراً حاداً بالواجب، لا يعرف المماطلات والتنازلات، كانت لها شقيقة واحدة، وصديقة واحدة ايضا، في البيت لم تجد حولها سوى الملل، فاشتد احساسها بالوحدة وذات يوم قالت لأمها: " هل يمكن ان تسير الحياة كما تسير الآن، ملل وراءه ملل "، بعد سنوات تقرأ الجملة المثيرة لفيلسوف الوجودية الاول كيركجارد:" علينا ان نعيش حياتنا مهما كانت تعيسة او مفرحة، لانها محسوبة علينا "، منذ تلك اللحظة قررت ان تعيش حياتها، لانها " لن تعيش سواها "، واكتشفت انها تستطيع ايضا ان تصنع حياتها بنفسها، " ان تجرب الحياة كما تنسج اي امرأة شالاً من الحرير ".

دارت اعمال سيمون دي بوفوار حول مغضلة العثور على اخلاقية وجودية ايجابية " بعيدا عن الزيف والاستسلام ". وفي القراءة حاولت أن تطبق هذا المنهج:":" انا لا اقرأ أي كتاب، إلا إذا كان لا بد من دراسة نص اجتماعي ". في حوارها مع سارتر قالت انها كانت تقرأ منذ أن كانت في التاسعة من عمرها، قصص مغامرات وكانت تسأل نفسها احيانا هل هذه القصص متخيلة ام حقيقية:" لم تكن لدي بعد فكرة الخيال المحض التي امتلكتها لا حقا بشكل سريع ".

حينما كانت سيمون دي بوفوار فتاة صغيرة لم تشرك المعرفة بالدراسة او التربية العائلية، بل قارنتها بالتهام الطعام. بالتهامها الكتب فانها تستحوذ على العالم وتجعله عالمها الخاص. في الوجود والعدم يكتب جان بول سارتر ان:" المعرفة يعني أن تأكل بعينيك ". في فترة المراهقة، اصبحت العلاقة بين سيمون ووالديها اكثر حدة، فقد شعرت وهي تنتهي من قراءة مؤلفات نيتشه بانها فتاة منفية في عالم من القيم المزيفة التي سعت للهروب منها قالت:" كانوا يحبسونني في هذا العالم الذي كلفني الهروب منه سنوات من عمري، عالم لكل شيء فيه اسمه، ومكانه، ووظيفته، عالم كل شيء فيه مصنف، ومحكوم عليه قطعيا " – مذكرات فتاة رصينة –

ظلت المقاهي بؤرة الحياة والقراءة بالنسبة لسيمون دي بوفوار.كانت افضل الاماكن بالنسبة اليها ولسارتر فيها تشعر بلذة الدفء، وبلذة القراءة او الكتابة، وغدت المقاهي ايضا اماكن للحديث والجدال الفلسفي " ولابقاء الذهن حيا منتعشا " على حد تعبير بوفوار في كتابها " المثقفون ". هكذا بدأعالم الوجودية المفعم بالاعاجيب والتجريب واعلاء سلطة حرية الفرد.تكتب بوفوار في أول مقال لها نشر في مجلة الازمنة الحديثة عام 1945:" أن البشر احرار، وأنا ملقى بي في هذا العالم بين هذه الحريات. أنني بحاجة اليها " – مغامرة الانسان ترجمة جورج طرابيشي -. كانت الوجودية بالنسبة لسيمون دي بوفار طريقة لتصور العالم، وجدت ان افكار سارتر تتفق مع رغبتها في التخلص من عالم عائلتها الخانق، واخيرا وجدت فلسفة تشجعها على المضي قدما في مشروعها الثقافي – قراءة وكتابة – اصبح سارتر مصدر الهام اساسي في حياتها، وهو تأكيد سيتكرر في الكتب التي كتبتها عن سيرتها الذاتية:" لقد تبنيت صداقة سارتر ودخلت في عالمه، ليس لأنني كما يزعم البعض امراة، بل لأنه العالم الذي تطلعت اليه منذ رمن بعيد " – قوة العمر ترجمة محمد فطومي –

كان والدها جورج دي بوفوار يكره اختيار ابنته مهنة التعليم، وذلك لأن من شأن هذه المهنة ادخالها في فئة اجتماعية يحتقر قيمها " كان ينظر إلى الاساتذة بوصفهم متحذلقين، انهم ينتمون الى تلك الطائفة الخطيرة، المثقفين ". لم يطل العمر باأب ليرى اول رواية تنشرها ابنته، كان قد فقد أي أمل برؤيتها " متزنة ". في تلك الفترة كانت عائلتها واصدقاؤها يعتبرونها عقيمه، دمرت الكتب حياتها على حد تعبير والدتها. وكان والدها ينزعج من انكبابها على هذه الصفحات اللعينة كما كان يسمي الكتب. توفي جورج دي بوفوار في الثامن من تموز عام 1941، وعند نهاية شهر أب من نفس العام كانت ابنته سيمون قد انجزت اولى رواياتها " المدعوة " التي صدرت عام 1943.

ظلت القراءة ترافق سيمون دي بوفوار حتى اللحظات الاخيرة من حياتها، في كتابها " ذكريات باريسية " تصف الكاتبة الامريكية ديردر بير شقة سيمون دي بوفوار التي دخلتها عام 1981 حيث اثار انتبهها اريكة وضعتها الفيلسوفة الفرنسية في زاوية من الصالة، عندما لاحظت ان ديردر بير تطيل النظر الى الاريكة، قالت لها انها اريكة القراءة. أنه المكان الذي تقضي فيه معظم وقتها. تصف لحظة القراءة على الاريكة بأنها لحظة ساحرة:" اسحب ستائر غرفتي، اتمدد على الاريكة، يُمحى الديكور، اتجاهل حتى نفسي، وحدها في الوجود الصفحة البيضاء المكتوبة بالاسود التي تجوس فوقها عيناي " – وانتهى كل شيء –، قالت لكاتبة سيرتها ديردر بير ان القراءة وحدها تخلق علاقة جيدة ودائمة بين الاشياء وبينها. فالكتاب جعلها تختار حياتها الحقيقية، عندما قررت ان لا تسمع سوى نفسها، واشتدت رغبتها بالمعرفة. اقنعت والدها الذي كان يتمنى لها حياة اخرى. ان مصيرها مرتبط بالفلسفة والكتاب، فما ما من تجربة تضاهي تجربة القراءة والعيش مع الكتب. تقرأ في المفهى او البيت واحيانا في السيارة " تاخذني الكتب بعيدا جدا. في حالات اقرأ للذة القراءة لا لأكون قد قرأت. انا نهمة فيما يتعلق بالقراءة " قالت لفرانسيس جانسون:" اقرا كثيرا لأعلم. كانت دائما لدي رغبة في المعرفة وفضولي لا حدود له. اردت أن اظل على درية بكل ما يثير اهتمام ابناء زمني " سيمون دي بوفوار مشروع حياة ترجمة ادوار الخراط.

عام 1929 حصلت سيمون دي بوفوار على المرتبة الثانية في امتحان الاستاذية، أي بعد سارتر مباشرة الذي حصل على المرتبة الاولى، ارتبطت بعلاقة مع الطالب المجتهد. كان قد اخبرها منذ البداية انه لا ينوي الزواج منها، لكنه لا يمانع ان تستمر علاقتهما مدى الحياة. قال لها ان الحب الذي يجمع بينهما جوهري واساسي وانهما متماثلات في الشخصية. ان اساس الفلسفة الوجودية التي اعتنقتها سيمون دي بوفوار، كانت ايضا الاساس الفلسفي لعلاقتها مع سارتر. عندما كانا يلتقيات في مقهى " الفلور " كان سارتر يقول لها " لقد توصلت الى نظرية جديدة ". وكانت بوفوار تنصت باهتمام، ثم تشير الى موضوعات اخرى، كان يقول " اعتدت ان تكوني مليئة بالافكار "، هذه الافكار التي كانت تراودها وهي تتمدد على الاريكة وبيدها كتاب يأخذها الى عالم مختلف، هكذا شعرت المرة الاولى عندما قرات مذكرات سارتر " الكلمات "، بهرتها كتب فرويد:" اعلق اهتماما كبيرا على الاعمال التي تظهر لي الانسانية تحت ضوء نهار جديد ".

ما هي الطريقة التي توصينا بها سيمون دي بوفوار ونحن نقرأ لكاتب معين حتى وان كنا نختلف مع افكاره:" القراءة لكاتب نختلف معه، امر عويص حقا، كي يتمتع نص ما بمعنى يجب ان نمنحه الحرية. ان نحسن الصمت في اعماقنا، وان نسمح لصوت الكاتب الغريب عنا بأن يصدح ".

تعترف ان القراءة بالنسبة لها ليست نشاطا لتجميع اللحظات الرائعة في كتاب، لكن في اقامة علاقة بين مختلف الكتب، علاقة تواصل وتكامل، ترى ان الكتب احيانا اكثر توهجا من الحقيقة:" إيما بوفاري حاضرة في حياتي اكثر من اشخاص عرفتهم حقيقة ". تصر على ان الكتاب الذي يجذبها هو الكتاب الذي يجيب على اسئلة طرحتها على نفسها.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

.................

* فصل من كتاب جديد بعنوان " العيش مع الكنب "

 

يذاع خلال هذا الشهر الفضيل مسلسلا بعنوان" الحشاشين"، على جميع قنوات التلفاز العربي، حيث يتصدر قائمة المسلسلات المصرية في رمضان 2024، ومنها استخدام اللهجة العامية بدلاً من الفصحى على لسان الشخصيات في سرد أحداث المسلسل التاريخي؛ المسلسل تدور أحداثه بين الأتراك والفرس، وحينما قدمه الأتراك استخدموا اللغة التركية، وكذلك النسخة الأمريكية منه كانت باللغة الإنجليزية.

وليس يهمني في هذه الورقة كل الحيثيات، يقدر ما يهمني أمر تلك الفرقة الأكثر دموية في التاريخ، والتي أرعبت العالم على مدى قرنين من الزمان، حيث اتخذوا من الموت طريقا للخلود فغيروا مجرى التاريخ باغتيال أهم الشخصيات وذلك بعد أن تخفوا في دهاليز الجبال الشاهقة، وتحصنوا في قلعة آلموت الغامضة التي تناطح السحاب، وتختفي عن الأنظار تحت قيادة أخبث حشاش عرفه التاريخ، فمن هؤلاء القتلة، وكيف غيروا مجرى التاريخ، وهل حقا ارتعد منهم حكام المسلمين.

والبداية جاءت في عام 485 هـ في بلاد فارس، حيث كان الوزير نظام الملك في رحلته من نهاوند إلى بغداد، وأثناء توقفه في إحدى القرى الهادئة، خرج من هودجه نحو خيمة زوجته، ولكنه لم يدرك أن الموت يتربص به، فظهر أمامه صبي فارسي، يرتدي زي الصوفية، ومعه خصله شعر، وعرض أن يقبل منه خصلة الشعر، فمد نظام الملك يده ليلتقطها، لكنه لم يكن يعلم أنها ستكون آخر شيء يمسه، وفي لحظة غفل، وقبل أن يفكر طعنه الصبي بسكين في قلبه، ثم فر الصبي هاربا، لكنه تعثر بحبل الخيمة، فألقى القبض عليه، وتم إعدامه على الفور. أما الوزير نظام الملك فحمل إلى خيمته وما لبث قليلا حتى مات.

انتشر الخبر بين العوام كما انتشر النار في الهشيم، ومن هنا انتشر وجود جماعته منفذة للاغتيالات، ولكن سرعان ما اختفى الخبر عنهم من جديد بعد عشر أعوام من اغتيال نظام الملك شهدت بلاد الشام ضربة أخرى، لكن هذه المرة كانت أكثر تطورا، فلم تقتصر على فرد واحد، بل على ثلاثة أفراد مع الاحتفاظ بنفس الأسلوب، كان حاكم حمص الأمير جناح الدولة متوجها من القلعة إلى الجامع ليصلي صلاة الجمعة، وكان برفقته عساكر مسلحون لتأمين وبعد فروغ جناح الدولة من الصلاة تقدم إليه ثلاثة نفر من العجم، من بينهم شيخ وكان في زي الزهاد، فراحوا يدعون له ويحدثون في بعض المسائل فوعدهم بتلبية طلباتهم، ولكن في لمح البصر اقتربوا منه كفاية وانقضوا عليه بخناجرهم فقتلوه وقتلوا معه جماعة من أصحابه.

من هنا عادت تلك الجماعة والتي عُرفت بالحشاشين للأذهان مرة أخرى،لكن كانت أكثر قوة وخطرا من ذي قبل، واتضح أنها حركة شيعية منفذة لعمليات الاغتيال تحت عباءة الدين، وقائدهم "الحسن بن الصباح" القاطن بقلعة " آلموت" الذي أعلن لأتباعه أنه يمتلك مفاتيح الجنة.

فمن هم الحشاشون؟، ومن هو قائدهم الذي يمتلك مفاتيح الجنة؟ ومنهم حشاشهم المزعوم الذي وصف نفسه بالشيطان الشيعي اللعين؟

ولد الحسن الصباح في مدينة " قم " الإيرانية عام 428 هـ والتي كانت مركزا للشيعة الاثني عشرية، ثم انتقلت عائلته إلى مدينة الري مركز نشاط الطائفة الإسماعيلية الفاطمية، فانتهج طريقتها وعمره 17 عاما، فكانت تدعو إلى التطرف والمغالاة وتأويل القرآن بشكل مبتذل، وذلك لأغراض سياسية وعنصرية بعد فترة من العمل على نشر المذهب الشيعي وإفساد عقول الآخرين، خرج ابن الصباح إلى مدينة أصفهان، وأقام فيها عامين ليكمل دعوته ثم خرج منها إلى مصر عام 471 هـ وهناك سرعان ما شمله الخليفة الفاطمي " المستنصر بالله" برضا وأغدق عليه وأمره أن يدعو الناس إلى امامته فقال له الصباح، فمن هو الإمام بعدك، فأشار إلى ابنه " نزار".

ومنذ تلك اللحظة دان ابن الصباح بالولاء لنزار ابن المستنصر، حتى جاء الحدث العظم التي تفرعت منه كل الأحداث التالية، وهو وفاة "المستنصر بالله"، فانقسم الإسماعيليون إلى جماعتين متنافستين هم: النزارية والمستعلية، نجح الوزير الفاطمي القوي " بدر الدين الجمالي" صاحب السلطة المطلقة والفعلية حين ذاك في تنصيب ابنه الأصغر ولقبه بالمستعلي بالله، حارما بذلك نزار الأبن الأكبر وولي العهد من حقه الشرعي في ولاية ابيه، ومنذ ذلك الوقت أخذ ابن الصباح يدعو لنزار أكبر أولاد المستنصر.

فبدأ ابن الصباح بالدعوة لإمامة نزار وتوجهت دعوته إلى يزد وكرمان وطبرستان ودمغ وولايات أخرى من إيران فتمرس في الدعوة، واكتسب أنصارا كُثر، ومن الملاحظ اختياره مدنا شيعية معادية لأهل السنة أو قابلة لانتشار المذهب الشيعي فيها، فلكلما كان أهل المنطقة معادين لحكام السنة كان الأمر أيسر بالتلاعب بعقولهم وتجنيدهم واستمر على ذلك لمدة ثلاث سنوات حتى أصبح خطرا داهما على وجود السلاجقة في فارس، فصدر قرار باعتقال الحسن الصياح واتباعه وتقفى أثرهم.

هنا خطرت له فكره ستغير مجرى التاريخ، إذ فكر الصباح في الحصول على حصن منيع يحميه وأنصاره، ويكون مركزا لوضع الخطط الخبيئة، تمهيدا لعملية القتل، فاتجهت عيناه نحو الشمال، حيث هضبت الديلم، وقد كان لاختياره هذا سببان: الأول: إن غالبية سكان الديلم شيعة فهم أكثر الناس استعدادا لاعتناق " الإسماعلية النزارية".

علاوة على كراهيتهم الشديدة لأهل السنة وحكامهم، والثاني، تمثل في استراتيجية السيطرة على أكبر عدد من القلاع الحصينة في المنطقة الجغرافية المحيطة بالعراق مركز الخلافة الإسلامية السنية، فمن هذه القلاع ما أخذوه بالحيلة بواسطة دعاتهم، ومنها ما أخذوه بقوة سلاح ميلشياتهم بعد ارتكاب مجاز وتصفيات دموية ضد كل من عارضهم.

هنا وجد "الحسن الصباح" ضالته في حصن منيع يحميه من مطاردات السلاجقة ويستطيع تحويله إلى قاعدة مستقرة وآمنه لنشر المذهب الشيعي تمثل ذلك الموقع في قلعة آلموت المنيعة التي تقع على صخرة عالية في منطقة وعرة وسط الجبال وارتفاعها يزيد عن 6000 متر، حيث بُنيت القلعة بطريقة شديدة الإحكام، فليس لها إلا طريق واحد للوصول إليها ويصعب على الغراة اقتحام هذه الطريق الوعرة، لكن لم يعرف بدقة من بنى تلك القلعة، إلا أنه يقال أنها بنيت بواسطة أحد ملوك الديلم القدماء، وأُطلق عليها اسم " الوه اموت"، ومعناه " عش النسر".

وهنا قرر ابن الصباح بعد دراسة متأنية للاستيلاء عليها، وكانت مملوكة لشرف شاه الجعفري، فاستخدم ابن الصباح أسلوبه الخبيث لجذب المزيد من الأنصار والتأثير في صاحب القلعة، واستمال أهلها بفضل قدرته على الإقناع وإظهاره للزهد والتقوى، ففي يوم دخل ابن الصباح إلى القلعة، وأعطى للعلوى ثمنها وطلب منه الخروج، لكنه رفض، حينها أمر ابن الصباح رجاله بإخراجه بالقوة، ومن هنا عُرف الحسن بن الصباح بشيخ الجبل، وبذلك أصبحت قلعة آلموت معقلا تاريخيا للحشاشين، ومن ستدار الخطط حول الشخصية التالية في قائمة الاغتيالات.

وهنا نستعرض أسطورة غريبة ارتبطت بالقلعة، وتناقلت الأجيال، فيقال أن القلعة بها حدائق وجداول من لبن وعسل وحسناوات هن أجمل ما يكون أعدها ابن الصباح ليوهم أتباعه أنها الجنة، وأن مفتاحها معه، وذلك باستخدام حيلة ذكية لجعلهم يصدقونه، فكان يخدره عن طريق شراب من الحشيش، ثم يأمر بإدخالهم إلى الجنة، فيمكث بها عدة أيام قبل أن يأمر ابن الصباح بتقديرهم من جديد، وإخراجهم منها، ثم يكون شرط العودة إليها هو تنفيذ عمليات الاغتيال،وذلك في حال نجاح العملية، أما إذا ما فشلت وقتل، فتحمله الملائكة إلى جنة آلموت.

بيد أن كثير من الكتاب والباحثين أنكروا ذلك بسبب شدة برود المنطقة، وتساقط الجليد طوال نصف العام، فالرأي الراجح عند أغلب المؤرخين أن ابن الصباح نصب نفسه نائبا للإمام المعصوم نزار، ولا يمكن لأحد أن يعرف الدين، إلا من الإمام المعصوم أو نائبه، فقدسوه الحشاشون ودانوا له بالطاعة العمياء.

اختلفت الآراء حول سبب تلقيب الفرقة بـ" الحشاشين"، فقيل لأنها كانت تختفي وسط الحشائش لاغتيال معارضيها، وقيل لشربها الحشيش قبل عمليات الاغتيال، حتى لا تتراجع عنها وسط تأثير هذه المادة المخدرة، واشتهرت تلك الفرقة بالدموية الشديد ة والجرأة، فقد ارتكبوا تحت ستار الدين، وعرفوا بمهارتهم الغير متوقعة في الاجهاز والقتل ومنها صارت assasain (اساسن) بالإنجليزية وتدل على الاغتيال، ويقال أيضا أنهم عُرفوا بحسسان،نسبة إلى شيخ الجبل الحسن بن الصباح، وأيضا عساس وهي مشتقة من عساسون، وهي مشتقة العسس الذين يقضون الليالي في قلاعهم وحصونها لحراستها، وكذلك عرفوا بالملاح بالملاحدة الذين لا يؤمنون بالله.

وما سنذكره الآن يكشف حجم الرعب الذي أثارته هذه الفرقة على مدى قرتين من الزمان، فجاء في تقرير إلى الإمبراطور الألماني " بارباروسا " سنة 580 ه الوصف التالي:" له سيد يلقى أشد الرعب في قولب كل الأمراء العرب القريبين والبعيدين على السواء، وكذلك يخشاه كل الحكام المسيحيين المجاورين له لأن من عادتهم أن يقتلوه بطريقة تثير الدهشة".

لقد كان يتم تدريب الحشاشين على وسائل الهجوم على وسائل الهجوم، واستخدام الخناجر والقدرة على التخفي وتقمص الشخصيات، وبعد مرحلة تكوينهم وإعداد شخصيتهم الإرهابية، كان ابن الصباح يشرح لهم خطة العملية التي سيقدمون عليها، وكانت هذه الخطة تهدف إلى اغتيال شخصية ما في مكان عام، ويمر من الناس لإثارة الرعب فيهم، مثل الجامع في يوم الجمعة كعملية اغتيال لجناح الدولة أو موكبا عظيما وسط الحرس والجنود،مثل اغتيال نظام الملك، وعلى مقربة من الهدف،وكانوا يتخفون تارة في ملابس النساء، وتارة في ملابس الجنود، لكن في الأغلب، كانوا يتخفون بزي متصوفة، أو دراويش، حتى لا يتوقع منهم الحرس أي شر أو أذية، ووصل بهم الأمر في بعض الأحيان إلى أن القاتل كان يواظب على حضور دروس عالم الدين إذا استهدفه كضحية، فيظهر نبوغا وحبا في التعلم، ويتبعه حتى ينال ثقته، ثم يجهز عليه.

وكانت الشخصيات المستهدفة تتربع على قمة المجتمع السياسي والعسكري والعلمي، فقد تمكن الحشاشون من اغتيال الخليفة العباسي " المسترشد بالله"، ومن بعده الخليفة " الراشد"، كما اغتالوا الخليفة الفاطمي " الحاكم بأمر الله"،الذي دخل في صراع في حرب عقدية وإعلامية ضد الحشاشين، وألف كتابا بعنوان " الهداية الآمرية في إبطال الدعوى النزارية "، فهاجم الحشاشين، ودافع عن إمامة أبيه " المستعلي"، فما كان من الحشاشين، إلا أن قرروا اغتياله، فتربصوا له حين دخوله لجزيرة الروضة، وأجهزوا عليه ؛ ولم يكن الحاكم بأمر الله الأخير، فقد تعددت قائمته الاغتيالات، والتي كان من بينها ملك بيت المقدس الثالث عشر " كونراد اوف مونتفيري".

بيد أن الأقدار قد شاءت أن يهلك ابن الصباح عام 518 ه في قلعة آلموت،وأُشيع عنه قتله لأبنائه، لكن المصادر نفت ذلك، فقد خلفه ابنه "بزر جميد" في قيادة الطائفة، فدعا أتباعه إلى مواصلة الدعوة حتى ظهور الإمام المستتر وفقا لمعتقدات الإسماعيلية، والجدير بالذكر الإشارة إلى أن هناك شخصيات نجحت في صد هجمات الحشاشين، وكسر شوكتهم، وعلى رأسهم السلطان الناصر " صلاح الدين الأيوبي"، الحاكم السني، وكان ذلك في عهد رئيس الحشاشين "راشد الدين سنان"، حفيد ابن الصباح، وهي شخصية لم تكن تقل خطورة عن أبائه وأجداده، حيث حاول اغتيال " صلاح الدين" مرتين، فكانت الأولى عام 570ه أثناء حصار صلاح الدين لحلب بإيعاز من وزراء الصالح بن نور الدين زنكي، فاستعان الوزراء بالحشاشين، مقابل وعود ومكافآت عدة، فنجح الحشاشون في التسلل إلى خيمة صلاح الدين، لكن تعرف عليهم " ناصح الدين " أمير أبي قبيس ودخل معهم حينها في قتال، وقتل على أيديهم، ونشب عراك بينهم وبين صلاح الدين وجنوده، حيث قتل فيه العديد من الجنود ولم يصب صلاح الدين بأي أذن. أما المحاولة الثانية لاغتيال صلاح الدين كانت أثناء حصاره لمدينة " عزاز" عام 571ه حينها تخف الحشاشون في زي جنود صلاح الدين، فتربصوا له وضربوه على رأسه، لكن بسبب خوذته الشهيرة لم يصب إلا بجروح طفيفة، ودخل معهم في قتال عنيف هو وحراسه، فقتل صلاح الدين وجنوده كل الحشاشين، وبعد هذه المحاولة عزم على سحقهم وإيادتهم قبل أن يستفحل شر الحشاشين مجددا، فهاجم صلاح الدين قلعة "مصياف" معقلهم الرئيس، فدكها وحاصرهم حصارا شديدا.

طلب سنان شيخ الجبل من حاكم حماه، وخال صلاح الدين الغفران والتفاوض، وبالفعل انتهت المفاوضات بهدنة بين صلاح الدين وسنان، ولاشك أن صلاح الدين كان موفقا في هذا الإجراء، فكان يسعى لتحييد الشيعة للتفرغ للخطر الصليبي الأكبر.

لكن ظلت فرقة الحشاشين في طليعة الحركة الإسماعيلية في ارتكاب المجازر والانتقام من خصومهم، حتى جاء هولاكو فحاصر قلعة آلموت عام 1256 م، واستمر حصارها ثمانية أشهر، وانتهى الأمر باستسلام ركن الدين خورشاه زعيم الحشاشين، واشترط عليهم هولاكو تسليم جميع قلاع الحشاشين، وقتل جميع من تجاوز عمره العاشرة، وتم بيع الباقين في أسواق الرقيق محطما موقعهم في الشرق.

بيد أنه بعد هذه المأساة حاولوا النهوض مجددا متطلعين لاستعادة نفوذهم من خلال كسب ثقة ركن الدين بيبرس حاكم مصر والشام والتعاون معه، لكنهم واجهوا قرارا قاطعا من السلطان بيبرس الذي لم يسمح ببقاء طائفة مستقلة في قلب الشام، فأمر بتحصيل الضرائب والرسوم، فلم تكن لهم القدرة على الاعتراض على هذا القرار، ومع مرور الوقت أصبح الظاهر بيبرس هو الذي يعين قادة الحشاشين بعد سقوط قلعة آلموت     ، حيث تحول رئيس الحشاشين إلى مجرد ممثل لسلطة بيبرس، وبهذا الشكل وصلت الحركة إلى نهايتها الكاملة إلى أن انتهى إلى وجود تلك الحركة تماما.

***

أ. د. محمود محمد علي – كاتب مصري.

..........................

المراجع:

1- برنارد لويس: الحشاشون فرقة ثورية.

2- الحشاشين، سر الطائفة التي أرعبت العالم!! وشيخهم الصباح..

 

قيل الكثير عن الاستشراق والمستشرقين، وتباينت الآراء بين مستنكر متطرف يشكك بكل مستشرق، بغض النظر عما قام به من خدمات وتحقيقات وترجمات لكتب التراث العربي الإسلامي، وبين منصف ينظر بإيجابية إلى عدد من المستشرقين، الذين كان عملهم خالصاً للعلم، ولم يكونوا عملاء لمخابرات دولهم وفي خدمة اطماعها الاستعمارية تحت غطاء البحث العلمي، كما كان يفعل الغالبية العظمى من المستشرقين الأوروبيين، خاصة البريطانيين. غير أن ظلال الشك تكاد تتضاءل تجاه المستشرق البريطاني الكبير آرثر جون آربري " 1905-1969 " الذي زار البلاد العربية، وعمل في الجامعة المصرية بداية الثلاثينيات من القرن الفائت، أنجز خلالها كتاب "المواقف والمخاطبات" للنفَّري، وأصبح رئيساً لقسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة كمبردج أفضل العلاقات مع تلامذته العرب والعراقيين من أمثال مدني صالح وحسام الآلوسي وكامل الشيبي وناجي التكريتي وعرفان عبد الحميد، وأشرف على العديد من الرسائل والأطاريح في الفلسفة الإسلامية والتصوف، فضلاً عن تحقيقاته وترجماته، ومنها ترجمته التفسيرية للقرآن الكريم.

يصفه عبد الرحمن بدوي في موسوعته عن المستشرقين بالقول " كان آربري هادئ الطبع، صافي الضمير، يحبه كل من عرفه. وكان مرهف الإحساس الشعري، رشيق الأسلوب، واسع الإطلاع على كل ما يتصل باهتماماته من أبحاث، أشبه ما يكون بأستاذه نيكلسون: إنتاجاً وأخلاقاً وذوقاً أدبياً وجمال أسلوب"، وهو بالطبع يعني في ذلك ضمن ما يعنيه ترجمة آربري للقرآن الكريم التي يعدها بدوي من أجلّ أعمال الاستشراق، ويرى أنها تعطي المعنى في أسلوب رقيق جميل، وهي أجمل في القراءة من أية ترجمة أخرى للقرآن إلى أية لغة. عدا ذلك فإن لآربري الكثير من الأعمال في الأدب العربي والفارسي والهندي، اشهرها ترجمته لمسرحية أحمد شوقي "مجنون ليلى" وخمسون قصيدة لحافظ الشيرازي، وعدد من قصائد محمد اقبال، تضاف إلى أعماله في التصوف الإسلامي ومنها تكملة مخطوطة كتاب اللُّمَع لأبي نصر السراج الذي حققه أستاذه رينولد نيكلسون. لكن من بين كل الآثار التي حققها آربري يبقى كتاب التَّوهُّم للحارث بن أسد المحاسبي، واحداً من أروع الأعمال الصوفية المُبتكرة المُتخيلة، فالتَّوهُّم هنا بمعنى التخيل، وقد تخيل المحاسبي وأبدع في وصف رحلة الانسان بعد الموت، ووصف شعور أهل الجنة وأهل النار وما يلقون من سعادة وشقاء ونعيم وعذاب : " فتوهّم نفسك وقد صرعت للموت صرعةً لا تقوم منها إلا إلى الحشر إلى ربّك، فتوهّم نفسك في نزع الموت وكربه وغصصه وسكراته وغمه وقلقه، وقد بدأ الملَك يجذب روحك من قدمك فوجدت ألم جذبه من أسفل قدميك، ثمَّ تدارك الجذب واستحثّ النزع وجُذبت الروح من جميع بدنك، فنشطتْ من أسفلك متصاعدة إلى أعلاك حتى إذا بلغ منك الكرب منتهاه وعمَّت آلام الموت جميع جسمك، وقلبُك وجلٌ محزون مرتقب منتظر للبشرى من الله عزَّ وجلَّ بالغضب أو الرضا ".

هكذا يمضي المحاسبي بتكرار كلمة " فتوهم " في رحلة الخوف والرجاء والترغيب والترهيب حتى يبلغ المرء منتهاه في جنة أو نار، مما يذكرنا بجحيم دانتي في الكوميديا الإلهية التي جاءت بعد كتاب المحاسبي بما يقرب من خمسمئة عام.

***

د. طه جزاع

قام رجال أعمال بخدمة الثّقافة والبحث والأدب، دون قصد الرّبح، فلو نسأل: ما الأرباح التي ابتغاها سُلطان العويس(ت: 2000) من «جائزة العويس»، التي تمنح منذ (1990)، لأدباء وشعراء ومؤلفين، ما هي أرباح عبد العزيز البابطين (ت: 2023) مِن جائزة الشّعر، التي تمنح منذ (1989)؟

أعود إلى التّاريخ، ما مصلحة مسلمة بن عبد الملك (ت: 121هجرية)، في الزَّمن الغابر، مما فعله: «أوصى... بثلث ماله لطُلاب الأدب، فقال إنَّها صناعة مجفُوٌ أهلها» (الأزرقيّ، أخبار مكة).

كذلك، ماذا جني الوزير عليّ بن الفرات(قُتل: 312 هجرية) مِن إطلاق حصة من ماله لأهل الأدب، وبعد الاستغراب قال: «لعلَّ أحدهم يبخل على نفسه بدانق(سُدس الدّرهم) فضة، ويصرفه في ثمن ورق وحِبر، وأنا أولى مَن أعاونهم على أمرهم(ابن النَّجار، ذيل تاريخ بغداد). نُكبَ ابن الفرات ثلاث مرات، وقُتل ولم يفزع له أديبٌ. فكان الجميع على قول أبي الحسن الأنباريّ(ت: 390 هجرية): «ولكني أُصبر عنك نفسي/ مخافة أنْ أعدَّ مِن الجناةِ«(ابن خِلّكان، وفيات الأعيان).

نشأت مؤسسات رصينة، مِن قِبل حكومات وشخصيات، ليس لها غير تقدم شعوبها بدعم الثّقافة وإحياء الأدب، الذي قال مسلمة، عن غير المزيفين المحسوبين: «صناعة مجفوٌ أهلها»، لأنها غير التّجارة. أقول هذا، ولا يهمني مَن أمثال مَن أخذ الجوائز، ونال التقدير، و(ثوريته) أبت إلا الإساءة لهم.

ذلك مستهل للحديث عن الأديب محمّد الشَّارخ(1942- 2024)، في وقت لم نسمع به، في العديد مِن البلدان، بجهاز الكمبيوتر، أقام مؤسسته «صخر للمبرمجيات» (1982). أقصد البلدان المتخمة بالنِّعمة والغاصة بالنّقمة. سعى إلى مغامرة جعل الجهاز العجيب طوعاً للحرف العربيّ، وكان القلق غالباً، فأنتج كمبيوتر «صخر».

كانت، خلال الإنجاز، المنافسة حادةً، فالشّركة المنتجة للكمبيوتر أوقفت التّعاون(1990)، يقابلة عدم ثقة الحكومات ولا الشّركات العربية بمغامرته، ولما أدخل نص القرآن والحديث، ذهب لإقناع رجال الدّين بمشروعه، درءاً لفتوى قد يواجهها، في زمن صوت الصّحوة الدّينيَّة كان صاخباً مهيمناً، لأنه يعرف العوائق التي حصلت أمام طباعة(1530)، وترجمة (1743) النّص القرآني، فكيف إدخاله في الكمبيوتر؟

قبل سنوات كتب لي الباحث ناصر الحُزيمي: «إنَّ أرشيفاً عظيماً، للمجلات العربيَّة، متاحٌ على الإنترنت». هذا ما كتبتُ عنه، بعد الاستفادة منه: «مجلات العقود الخوالي متاح للباحثين»(مجلة المجلة 2016).

تذكرتُ أنَّ الشّارخَ سألني، قبل سنوات، مِن هذا التّاريخ، عن مجلة «لغة العرب»(1911-1931)، وأن أذهب معه إلى مكتبة «سواس» ليسجل عناوين المجلات العربيّة، واستعار مني «لغة العرب» لعدم العثور على مجلداتها التسعة، فترددتُ في إعارتها، لأنه سيبعثها إلى مصر، وأقنعني بالقول: «ستكون مجلات القرن التاسع عشر إلى اليوم متاحة لكم» نسيتُ الموضوع، حتّى رأيت المشروعَ في عالم الإنترنت منجزاً.

تكتبُ عنوان المقال، أو اسم الكاتب، يظهر أمامك طبق الأصل، والمجلة كاملةً. كنتُ قبل وجود الأرشيف أهدر الوقت بمراجعة المكتبات والمراسلات، كي أحصل على مقالة كتبها جواد علي العام(1939)، أو ما كتبه انستاس الكرملي العام (1911)، أو رأي لإبراهيم العريَض 1942، وغيرها مِن النّوادر.

يتضمن أرشيف الشَّارخ مليوني صفحة، أكثر من ثلاثمئة وعشرين ألف مقال أو بحث، كتبها أكثر مِن اثنين وخمسين ألف ومائتي كاتب. لا يُقدر هذه الثروة، إلا مَن جحظت عينه بحثاً، وضاعت أوقاته تفتيشاً عن معلومة، فأباحها له الأرشيف، وما صارت هذه الثّروة الثّقافيّة الهائلة، في متناول الطّالبين، إلا بما بدأه الشّارخ بتعريب الكمبيوتر.

أقول: إنْ لم يفعل هذا الرّجل، مُحب الأدب والموسيقى والفنون، غير ما تقدم لكفاه، أحسبها، بلا مراء ولا مبالغة، ثورةً ليست كبقية الثّورات، التي لو عاش، بظل انتصاراتها، الشّارخ، لقاده شغفه بالمعرفة والتَّقدم إلى السُّجن، لا التَّكريم.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

بقلم: ساندرين بيرجيس

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كانت ثورية فرنسية وزوجة سياسي. لكن ينبغي أن نتذكر مانون رولاند لكتاباتها الفلسفية:

في 8 نوفمبر 1793، تم اقتياد مدام رولاند إلى المقصلة. كانت امرأة من الطبقة المتوسطة تتمتع بصحة جيدة تبلغ من العمر حوالي 30 عامًا، وكانت تبدو لطيفة وكريمة وليست درامية في السيارة التي نقلتها عبر شوارع باريس. استقبلها الجمهور وأرسل لها تحيات التشجيع: لقد كانت محبوبة جدًا.

مثل العديد من أصدقائها وأعدائها، رأت مدام رولاند أن حياتها تنتهي بنصل المقصلة السريع والفعال. بعد أربع سنوات من سقوط الباستيل، حتى أكثر الممثلين حماسة في الثورة أصبحوا أعداء للثلاثي الحاكم: ماكسيميليان روبسبير، وجورج دانتون، وجان بول مارات. والمقصلة، التي تم اختراعها بغرض جعل العقوبة أكثر إنسانية، هيمنت على الفترة المعروفة باسم الإرهاب.

كانت ماري جين ('مانون') رولاند، واسمها قبل الزواج فيليبون، تنتمي إلى المجموعة المعروفة باسم الجيرونديين، المدافعين الأوائل عن النزعة الجمهورية والذين، بعد عدد من الخلافات مع روبسبير، أصبحوا بمثابة العدو الأول للأمة. وكان زعيمهم، جاك بيير بريسو، قد أُعدم قبل ثمانية أيام، مع 21 من زملائه الجيرونديين. وقبل خمسة أيام من إعدام رولاند، أُعْدمت سيدة جيروندينية أخرى في المقصلة: أوليمب دي غوج، التي أعربت صراحة عن خلافاتها مع روبسبير، مما أدى إلى سقوطها. على حين احتفظت رولاند بانتقاداتها الخاصة لمن حولها، لكنها أيضًا كانت تعتبر خصمًا خطيرًا. وكان المدعي العام قد كتب "عاجل" على أمر إعدامها، مشيرًا إلى أنها زوجة وزير الداخلية السابق، وأنه كان لا بد من إعدامها في نفس اليوم. لماذا كان إعدام مانون رولاند عاجلاً للغاية؟

حقيقة أنها كانت زوجة شخص ما لا تساعد في تفسير ذلك. ربما سعى أنطوان كوينتين فوكييه تينفيل، المدعي العام، إلى إثارة رد فعل من نوع "أوه، تلك السيدة رولاند!" سيكون هذا منطقيًا. كانت رولاند شخصية مركزية في الجيرونديين: فقد كانت تستقبل قادتهم بانتظام في صالونها، وتناقش معهم السياسات والتعيينات عندما كان زوجها وزيرًا، لدرجة أن دانتون قال مازحًا إنها وزيرة الداخلية الحقيقية. لقد كانت رولاند نفسها  فاعلاً مهماً في الثورة ، وعلينا الآن أن نتذكرها ليس فقط لدورها في السنوات التي سبقت الإرهاب، ولكن أيضاً للكتابات السياسية التي تركتها وراءها.

خلال حياتها، لم يدرك سوى القليل أهمية رولاند ككاتبة. أشهر أعمالها، مذكراتها (1795)، مثل معظم أعمالها، نُشِرت بعد وفاتها (الترجمات التالية هي ترجمتي). القطع القليلة التي كتبتها والتي نُشرت في حياتها ظهرت بشكل مجهول. إن أسباب عدم رغبتها في النشر باسمها لا علاقة لها بما إذا كانت تشعر أنه من المناسب للنساء أن يصبحن مؤلفات -وكل ما يتعلق بالضرر الذي سيلحق بسمعتها، كانت تعلم أنها تتوقعه إذا أصبحت معروفة كمؤلفة:

لم يكن لدي أدنى إغراء لأن أصبح مؤلفة؛ وفي وقت مبكر جدًا، رأيت أن أية امرأة ستحصل على هذا اللقب خسرت أكثر بكثير مما اكتسبته. الرجال لا يحبونها، وجنسها ينتقدها: إذا كانت أعمالها سيئة، يتم الاستهزاء بها، وهذا صحيح تمامًا. فإن كانت جيدةأخذوا منها.  وإذا ما أُجبر المرء على الاعتراف بأنها أنتجت أفضل جزء منه، فسيتم تشريح شخصيتها وأخلاقها وسلوكها ومواهبها إلى الحد الذي يمكن فيه موازنة سمعة ذكائها مع الثقل المعطى لنقاط ضعفها.3546 رولاند تكتب مذكراتها في السجن

رولاند تكتب مذكراتها في السجن. رسم توضيحي من كتاب "صناع التاريخ" لجون إس. سي. أبوت: مدام رولاند، ١٩٠٤.

على الرغم من مخاوفها بشأن التأليف، نشأت مانون وهي تقرأ وتكتب. عندما كانت طفلة، كانت تدير مكتبة والدها - وهي مكتبة ليست كبيرة - وكان لديها مدرسون خاصون: وقد أدرك والداها إمكاناتها ولم يدخرا أية نفقات. لقد حفظت تعليمات دينها المسيحي عن ظهر قلب لكنها لم تكن مقتنعة بما تعلمته. وفي أيام الأحد، كانت تخبئ كتابها المفضل داخل غلاف كتابها المقدس: حياة بلوتارخ الموازية. بدأت تتمنى لو أنها ولدت رجلاً حتى تتمكن من المساعدة في تأسيس الجمهورية. كان لديها زاوية في مشغل والدها حيث كانت تختبئ وتقرأ.

عندما كانت مانون في العاشرة من عمرها، تعرضت للاعتداء الجنسى من قبل أحد المتدربين لدى والدها. لقد صدمتها التجربة بشدة، وفي هذه المرحلة لجأت إلى الدين. وافق والداها على السماح لها بمواصلة تعليمها في مدرسة دير قريبة. أخذت حجرتها الصغيرة دور زاوية القراءة في منزلها، واهتمت بالكتابة والقراءة أيضًا؛ وبحلول الوقت الذي خرجت فيه من الدير، كانت كاتبة بارعة.

إن مكانة المرأة في المنزل أمر بالغ الأهمية للتنمية الصحية للمجتمع

عندما كانت مانون في الحادية والعشرين من عمرها، توفيت والدتها، وبسبب حزنها، وجدت نفسها مسؤولة عن رعاية منزل والدها. واصلت القراءة والكتابة في أوقات فراغها. وقد وصفت عادات عملها في رسالة كتبتها إلى صديقتها في الدير صوفي كانيه في 25 ديسمبر 1776 (الساعة الواحدة صباحًا):

أقضي صباحي في أعمال المنزل. أقوم بأعمال التطريز في فترة ما بعد الظهر، وأحلم، وأبني كل ما أتخيله في ذهني، من قصائد وحجج ومشاريع وما إلى ذلك. وفي المساء، أقرأ عادة حتى وقت العشاء، وهو أمر غير مؤكد لأنه يعتمد على وقت عودة السيد [والدها]   إلى المنزل... عادةً ما يعود إلى المنزل في الساعة التاسعة والنصف، ولكن أحيانًا في الساعة العاشرة أو بعد ذلك. انتهى العشاء سريعًا... يجثم والدي على سريره، وأذهب أنا إلى غرفتي، حيث أكتب لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات.

خلال هذه السنوات، كتبت مانون مقالات، نُشر العديد منها بعد سنوات قليلة من وفاتها، بما في ذلك مقالتان على الأقل عن الفلسفة السياسية: "Rêverie Politique""الحلم السياسي" (1776) و"De la Liberté""الحرية" (1778).

في عام 1777، اقترحت أكاديمية بيزانسون مسابقة في كتابة السؤال التالي: "كيف يمكن لتعليم النساء أن يساهم في تحسين أداء الرجال؟" وكانت مثل هذه المسابقات شائعة في ذلك الوقت. انطلقت مسيرة جان جاك روسو المهنية ككاتب عندما فاز في مسابقة أكاديمية ديجون بكتابه "خطاب عن العلوم والفنون" عام 1749. دخل كتاب مشهورون آخرون في ذلك الوقت في مسابقات أكاديمية وفازوا بها، مثل بريسو ومارات وأبيه غريغوار. قدمت مانون بالكاد قطعة إلى المسابقة.

إذن ماذا كان في المقال؟ وماذا يخبرنا هذا عن مانون كفيلسوفة شابة؟ كانت الحجة التي قدمها في مقالتها الأكاديمية محافظة ومبتكرة. وتؤكد أنه في أفضل دستور، يجب أن تبقى المرأة في المنزل. لكن وضع المرأة في المنزل، كما تقول أيضًا، أمر بالغ الأهمية للتنمية الصحية للمجتمع لأن الحياة المنزلية هي أفضل بيئة ليس فقط للسعادة ولكن أيضًا للتعلم. وتقول إن المرأة تسمح بنشوء المجتمع:

ولذلك فإن المرأة، بحكم مصيرها الطبيعي، مسؤولة عن جعل الرجل أفضل؛ إنهن وحدهن يستطيعن أن يولدن العواطف التي تقربهم من بعضهم البعض... لقد رأينا في الانطباعات التي ينتجنها أصول المجتمع وكل الخيرات التي تجعله مرغوبًا، وفي ازدراء سلطتهن أو نسيان حقوقهن،مصدر الأهوال التي تمزقه وتشوهه.3548 رولاند

في عام 1780، عندما كان عمرها 25 عامًا وبعد خطوبة طويلة، تزوجت مانون من جان ماري رولاند، وهو أرستقراطي صغير من ليون. أمضت الكثير من السنوات التسع التالية في الكتابة لزوجها ومعه،وكان لديه العديد من المشاريع أثناء التنقل، بما في ذلك موسوعة صناعة المنسوجات. عندما ولدت ابنتها يودورا، قررت عدم إرسالها إلى مرضعة. بصفتها تلميذة لروسو، أرادت أن تكون هي التي ترضع ابنتها وتعلمها. تظهر رسائلها من تلك الفترة أنها استمتعت بإدارة منزلها بقدر ما استمتعت بالبحث والكتابة:

أولئك الذين يعرفون كيف ينظمون عملهم لديهم دائمًا وقت فراغ. أولئك الذين لا يفعلون شيئًا ليس لديهم الوقت لفعل أي شيء.

وتقول إن الزوجة والأم في القرن الثامن عشر يجب أن تكونا منظمتين بما فيه الكفاية حتى تتمكن من الوفاء بواجباتها المنزلية والقيام بشيء مفيد في حياتها، مثل كتابة الفلسفة. لدى مانون رولاند أفكار ثابتة حول ماهية واجبات ربة المنزل هذه:

أتوقع من المرأة أن تحافظ على بياضات أسرتها وملابسها بشكل جيد، وأن تطعم أطفالها، أو تطلب الطعام، أو تطبخ العشاء بنفسها، هذا دون التحدث عن ذلك، لكن كل هذا، كما تقول لقارئ مذكراتها، لا ينبغي أن يأخذ الكثير من وقت المرء بحيث يمنعنا من أن نكون كتابًا منتجين. هي نفسها، حتى في أوقات انشغالها، لم تقضي أبدًا أكثر من ساعتين يوميًا في القيام بالأعمال المنزلية. مع إبقاء عقلها حراً وتنظيم وقتها لتتمكن من الحديث عن شيء آخر، وأخيراً من خلال روح الدعابة التى تتمتع بها، فضلاً عن مفاتن جنسها.

"لا أستطيع البقاء في بيتي وأزور كل معارفي لإثارة حماستنا لأعظم الأعمال"

ما تزال ساعتان في اليوم وقتًا طويلاً بالنسبة للمرأة لتقضيه في الأعمال المنزلية إذا كانت تعمل أيضًا بدوام كامل. وبالنسبة للمرأة التي تتمثل وظيفتها الرئيسية في رعاية أطفالها، ما لم تكن غنية بما يكفي للتعاقد على معظم واجبات رعاية الأطفال، فإنها لن تحصل على الكثير من أوقات الفراغ. إن نصيحة رولاند قديمة للغاية، فهي تنطبق على الطبقات المتوسطة في القرن الثامن عشر. كما أنها تأتي من مكان يتمتع بامتيازات عالية - حيث تضطر النساء العاملات أو الطبقة المتوسطة الدنيا في كثير من الأحيان إلى العمل في وقت متأخر من المساء لكسب ما يكفي لإطعام أسرهن. لقد احتاجن إلى إرسال أطفالهن إلى المرضعات وتمكن  من تنظيف المنزل بمساعدة بناتهن كلما استطاعن ذلك؛ لكن وجود جدول يسمح بالدراسة الخاصة لم يكن على جدول أعمالهن.لكن الروح العامة لنصيحة رولاند كانت تتلخص في أن القليل من التنظيم والوعي بالكيفية التي يقضي بها المرء وقته ــ ما لم يعيش المرء في ظروف قاسية ــ يقطع شوطا طويلا نحو توفير مساحة للأنشطة الأكثر قيمة وأكثر إثارة للاهتمام من الأعمال المنزلية.

على الرغم من أنها أصبحت مفكرة سياسية في سن مبكرة جدًا (إذا صدقنا مذكراتها، فقد اكتشفت بلوتارخ وقررت أنها أيضًا كانت جمهورية في سن الثامنة) إلا أنها لم تصبح مهتمة بالسياسة حتى ثورة عام 1789. ويبدو أن جزءًا من السبب أنها فقدت كل الأوهام بأن العالم سيُحكم بطريقة عادلة. في عام 1783، كتبت إلى صديقتها شامبانيو:

لا توجد الفضيلة والحرية إلا في قلوب عدد قليل من الناس المحترمين؛ إلى الجحيم مع الآخرين وكل العروش في العالم! … أبتعد عن السياسة … وكل ما أستطيع أن أتحدث عنه هو الكلاب التي توقظني، والطيور التي تواسيني لعدم نومي، وأشجار الكرز التي تنمو تحت نوافذ منزلي، والأبقار التي تمضغ العشب في الفناء.

ولكن منذ بداية الثورة، عندما كانت تتعافى من الالتهاب الرئوي وتكتب رسائل قوية إلى صديقاتها في باريس، تنصحهن وتنبههن إلى ما يجب القيام به، أصبحت رولاند منخرطة بشكل كامل. كتبت رسائل ومقالات صحفية (نشرتها صديقتها وزميلتها جيروندين، بريسو) وساعدت زوجها في العثور على منصب لنفسه يسمح لهما بالمشاركة بشكل كامل. وبمجرد أن أصبح ذلك ممكنًا، أي بمجرد تفويض زوجها من قبل مدينة ليون للتحدث أمام الجمعية، انتقلت عائلة رولاند إلى باريس. في يونيو 1791، كتبت إلى صديقتها بانكال تشرح فيها تحولها:

وبينما استمر السلام، حافظت على الدور السلمي والتأثير الذي بدا لي مناسبًا لجنسي. ولكن عندما أعلن  الملك الراحل الحرب، أذهلني أنه يجب علينا جميعًا أن نكرس أنفسنا دون تحفظ؛ ذهبت وانضممت إلى الجمعيات الأخوية، مقتنعًا بأن الحماسة والتفكير الصحيح يمكن أن يكونا مفيدًا جدًا في أوقات الأزمات. لا أستطيع البقاء في منزلي وأقوم بزيارة جميع معارفي من أجل إثارة حماستنا لأعظم الأعمال.

ما الذي ساهمت به مانون رولاند على وجه التحديد في الثورة؟ تصف مذكراتها - ولا سيما ملاحظاتها وصورها التاريخية - السنوات الواقعة بين سقوط الباستيل وسقوط الجيرونديين.  ساهمت رسائلها إلى بريسو، المنشورة في صحيفة Le Patriote français، في خلق صورة لفرنسا الثورية التي لم تكن باريسية بالكامل، وأعربت عن روح وحماس الجمهوريين الذين يمكن العثور عليهم في المقاطعات، وإلغاء الأحكام المسبقة بشأن عدم انضمامهم إلى الثورة. ربما تكون الكتابة التي قامت بها نيابة عن زوجها في الوزارة، ولا سيما صياغة خطاب استقالته إلى الملك عام 1792، قد ساهمت في نهاية النظام الملكي وولادة الجمهورية. لكن في الرسائل الخاصة التي كتبتها حول صياغة الدستور وإعلان حقوق الإنسان، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل كيف يمكن للأفكار الفلسفية حول الحرية والمساواة التي طورتها مانون في شبابها أن تكون مفيدة للجمهورية الجديدة.

كتبت إلى صديقها بوسك دانتيك، الذي كان في باريس مع اثنين من المقربين الآخرين من عائلة رولاند - بريسو وفرانسوا كزافييه لانثيناس - ما يلي:

لا، أنت لست حرا؛ لا أحد بعد حرا . لقد تمت خيانة ثقة الجمهور.الرسائل تُراقب أنت تشكي من صمتي. ومع ذلك فأنا أكتب مع كل مشاركة. صحيح أنني لم أعد أعرض أخبار شؤوننا الشخصية، ولكن من هو الخائن اليوم الذي لا يملك إلا أخبار الأمة؟ لقد كتبت لك بالفعل بقوة أكبر مما اعتدت. لكن إذا لم تكونوا حذرين، فلن تفعلوا شيئًا سوى رفع دروعكم... أنتم مجرد أطفال، وحماسكم ليس سوى وميض في المقلاة.  وإذا لم تعقد الجمعية الوطنية محاكمة مناسبة لاثنين من الزعماء المشهورين، أو ما لم يقتلهما ديسيوس الكريم، فستكون اللعنة.

لقد كانت قلقة من أن الثورة سوف تخمد لأن أصدقائها لم يتصرفوا بحزم بما فيه الكفاية. لكن مخاوفها كانت محددة أيضًا، وهي أن أعضاء الجمعية قد يعبثون بالدستور وإعلان حقوق الإنسان. وكان خوفها الرئيسي هو أن يتفق الأعضاء على بضع فقرات ويتركوا الأمر عند هذا الحد. وقالت إن الدستور والحقوق لا يمكن صياغتهما إلا من قبل الجمعية. ولكن بعد ذلك لابد من تعميمه في مختلف أنحاء فرنسا، وليس فقط في الدوائر الباريسية، وقراءته والموافقة عليه من قبل الجميع، ومناقشته في النوادي الإقليمية، بما في ذلك الأندية التي ترحب بالنساء، ومراجعته قبل أن يصبح نهائيا.

لقد جاءوا لزوجها، ولكن رولاند أرسلته بعيدا بمجرد أن سمعت أنه في خطر

كانت رولاند مترددة في النشر باسمها. لكنها لم تكن راغبة في نشر أعمالها، سواء بشكل مجهول (عندما كانت  تكتب في صحيفة بريسو)، أو باسم زوجها، "لمساعدته" في عمله:      لمدة 12 عامًا من حياتي، عملت جنبًا إلى جنب مع زوجي بنفس الطريقة التي أتناول بها الطعام، وكلاهما كان طبيعيًا بالنسبة لي.إذا تم الاستشهاد بجزء من مصنفه لأنه وجد أنه مكتوب بشكل أكثر رشاقة؛ إذا قبلت إحدى الجمعيات العلمية التي كان عضوًا فيها بعض الأشياء الأكاديمية التافهة التي يحب أن يرسلها، كنت أفرح له، ولم أهتم بشكل خاص بما إذا كانت القطعة من تأليفي أم لا. وفي كثير من الأحيان، انتهى به الأمر إلى إقناع نفسه بأنه كان في حالة جيدة بشكل خاص عندما كتب هذا المقطع أو ذاك، والذي جاء في الواقع بقلمي.

عندما عُين زوجها وزيرا للداخلية، واصلت رولاند الكتابة له، وصياغة الوثائق التي ساعدت في تعريف الجمهورية الجديدة. لقد وجدت الأمر سهلاً لأنها "أحبت بلدها" وكانت "متحمسة للحرية". تقول لنا  أنها سمحت لنفسها أن تستمتع بكتابتها الخفية مرة واحدة فقط، وذلك عندما كتبت رسالة من الوزير إلى البابا، تطالب فيها بالإفراج عن مجموعة من الفنانين الفرنسيين المسجونين في روما.

عندما كانت رولاند نفسها في السجن تكتب مذكراتها، الخاصة والسياسية، قررت ألا تكشف عن هويتها فليس هذا مناسبًا لها بعد كل شيء:

لو كنت على قيد الحياة، أعتقد أنه لم يبق لي سوى إغراء واحد: وهو إغراء كتابة حوليات هذا القرن وأن أكون ماكولاي بلدي.

كتبت كاثرين ماكولاي تاريخ إنجلترا في ثمانية مجلدات. كانت خطة رولاند غير المحققة هي كتابة تاريخ جمهوري للثورة. ولكن هذا لم يكن ليكون.

قُبض عليها في منزلها في الأول من يونيو عام 1793. وجاء الضباط الذين قاموا بالاعتقال للبحث عن زوجها، لكن رولاند أرسلته بعيدًا بمجرد أن علمت أنه في خطر. وبدلاً من ذلك، أُخذت أولاً إلى سجن لاباي، حيث أمضت أربعة أسابيع، ثم أطلق سراحها ثم اعتقلت  مرة أخرى ونقلت إلى سجن سان بيلاجي. وبقيت هناك حتى نهاية أكتوبر/تشرين الأول، ثم نُقلت من هناك إلى مكتب الاستقبال، حيث نامت على سرير مؤقت لمدة ثمانية أيام لاختبارها. أخيرًا تم نقلها إلى ساحة الثورة، حيث تم سحب شفرة المقصلة إلى أعلى الإطار من أجلها.

كان لرولاند رفيق واحد في العربة التي قادتها: الجيرونديونى الخائف جدًا، سيمون فرانسوا لامارش. كان من المفترض أن يتم إعدام رولاند أولاً. لكنها أشفقت على لامارش، وعرضت  عليه أن يأخذ دورها حتى لا يضطر إلى مشاهدتها وهي مقطوعة الرأس.وعندما جاء دورها، وقفت مانون رولاند فخورة ونظرت إلى ما هو أبعد من الحشود إلى تمثال الحرية الضخم الذي تم تشييده قبل بضعة أشهر. صرخت: " أوه، أيتها الحرية!  كم من  جرائم ترتكب باسمك!"

***

.....................

الكاتبة: ساندرين بيرجي /Sandrine Bergès: أستاذة في قسم الفلسفة بجامعة بيلكنت في أنقرة، تركيا. تشمل كتبها رسائل صوفي دي غروشي عن التعاطف (2019) والحرية بأسمائها: فلاسفة الثورة الفرنسية (2022).

* الجيرونديون أعضاء حزب سياسي نشأ أثناء الثورة الفرنسية · وجاءت تسمية الحزب بهذا الاسم لأن معظم القادة المُنَظمين له ينتمون لمقاطعة جيروند · والجيرونديون جمهوريون، ويمثلون البراجوزَّية، ويؤمنون بالملكية الخاصة · ويخشون من سيطرة نوّاب باريس على فرنسا كلها، ومن أشهر أعضاء نوّاب باريس: جان بول مارا وجورج دانتون وروبسبير · ويكيبيديا

يمكن اختصار حياة عالم الفيزياء الامريكي روبرت أوبنهايمر بهذه العبارة القصيرة "إنسان طارده الشك بعد أن قدم للعالم اختراعاً غيّر تاريخ البشرية". مبتكر القنبلة الذرية يعود للواجهة من جديد بعد أن حصد الفيلم الذي انتج عن حياته ومواقفه سبعة جوائز أوسكار، وكأن هذه الجوائز تكفيراً عن الذنب الذي ارتكبته امريكا بحق هذا العبقري الذي قال عنه اينشتاين انه: "رجل يسبق زمانه وطالما تمنيت أن يكون ابني البكر".

ياخذنا الفيلم في ثلاث ساعات مليئة بالاسئلة والتشويف ليكشف لنا، اللحظات الأساسية في حياة روبرت أوبنهايمر، الفيزيائي الذي عَّجل بنهاية الحرب العالمية الثانية وادخلنا عصر الاسلحة الذرية، ثم بعدها سوف يعيش حياة مليئة بالقلق والشك والمعاناة ينتابه الشك بشأن ابتكاره الذي استحال أداة تدميرية فتاكة تهدد البشرية. الفيلم الذي حقق ايرادات تجاوزت المليار دولار وفاز مخرجه كريستوفر نولان باوسكار ايضا، اعتمد على سيرة روبرت أوبنهايمر التي اشترك بكتابتها كاي بيرد ومارتن شيروين وصدرت بعنوان " بروميثيوس الأميركي: انتصار ومأساة جي روبرت أوبنهايمر".حيث تقدم هذه السيرة شخصية جمعت بين الحلم بتطور العلم وكابوس الحروب المدمرة، وقد فازت هذه السيرة بجائزة "البوليتزر" عام 2005، وصفتها صحيفة التايمز بانها:" حكاية تمنحك إحساساً بالرجل وتعقيده وتناقضه فيما كان يفعل"، فبعد أن عرف أوبنهايمر المجد بوصفه " عراب السلاح النووي "، أصبح غارقاً في الندم على عواقب اختراعه، ومتهما خطيرا تطارده الاجهزة الامنية.

عندما سئل المخرج كريستوفر نولان عن سبب اختياره أوبنهايمر قال لأن:" حكايته لا توجد فيها إجابات واضحة لقصته، فهي تحتوي على مفارقات رائعة ومؤلمة في نفس الوقت "

تُعد قصة روبرت اوبنهايمر من أغرب القصص في تاريخ العلوم. فقد بدأ العالم يسمع باسم اوبنهايمر للمرة الاولى عام 1945 عندما القت امريكا القنبلة الذرية على هيروشيما، وسمي آنذاك " ابو القنبلة الذرية " اعترافا بقيادته لمجموعة من العلماء الذين صمموا اول قنبلة ذرية في معامل لوس الاموس تحت اسم مشروع " مانهاتن " - اصر مخرج الفيلم نولان على اعادة بناء معامل لوس ألاموس في سهول جنوب غربي الولايات المتحدة –، بعد ان حصد أوبنهايمر التكريم والاوسمة يعود اسمه من جديد وهذه المرة باعتبارة متهما لا بطلاً ، حيث بدأت في ايلول عام 1953 محاكمته بتهمة معارضته لتطوير الاسلحة الذرية وانتاج القنابل الهيدروجينية، اتهمته المحكمة بأنه يمثل خطورة على أمن الولايات المتحدة الامريكية، فيما أصر المدعي العام الامريكي على ان أوبنهايمر كان ينتمي الى منظمات يسارية وانه عضو في الحزب الشيوعي. استمرت المحاكمة ثلاثة اسابيع، وقد انتهت المحكمة الى نتيجة اعتبار اوبنهايمر يمثل خطرا على أمن البلاد لأنه عارض بقوة انتاج اسلحة نووية جديدة، فقد كان ضميره يعذبه بسبب قنبلة هوروشيما.. في المقابل اتهمه البعض بالتردد في مواجهة القضاة، وأنه فقد شجاعته، وبدت محاكمته كأنها تكرار لموقف غاليلو عندما حاكمته الكنيسة لنظريته حول دوران الارض.3553 ابونهايمر

ولد يوليوس روبرت اوبنهايمر في 22 نيسان عام 1904، لاب مهاجر الماني وصل امريكا عام 1888، عمل في بعض الاعمال التجارية في نيويورك، ليصبح بعدها احد اثرياء المدينة، والدته لإيلا ني فريدمان عرفت بعشقها للقراءة واحترافها الرسم، كان الابن الاكبر للعائلة، انتبه الاساتذه في المدرسة الابتدائية الى نبوغه، في العاشرة من عمره اصبح عضوا في جمعية ابحاث نيويورك بعد ان قدم بحثا عن المعادن. درس الفيزياء في جامعة هارفارد، بعدها درس الفلسفة الطبيعية والكيمياء في جامعة كمبردج بانكلترا. سافر الى المانيا ليدرس الذرة في جامعة غوتنجن. عام 1927 حصل على درجة الدكتوراه، عين استاذا لمادة الطبيعة في جامعة كاليفورونيا، وفي الوقت نفسه يعمل على تأسيس اول مركز متخصص للطبيعة الذرية في بيركلي. ولم يكن اهتمام أوبنهايمر مقتصرا على العلوم، فقد كان شغوفا بالفلسفة والشعر وهواية الرسم التي ورثها عن امه، اضافة الى دراسة اللغات حيث كان يجيد ثماني لغات منها الاغريقية واللاتينية لولعه بقراءة كتب ارسطو والابيقوريين اضافة الى مسرحيات سوفوكليس، في هذه الفترة استهوته الحركات اليسارية وأخذ يتقرب من الحزب الشيوعي الامريكي ليتزوج عام 1940 من ارملة احد اعضاء الحزب قتل زوجها في الحرب الاسبانية، وكانت هي ايضا عضوة فاعلة في الحركات اليسارية، ألا انه بدأ يفقد حماسه للشيوعية بعد الانباء التي كانت تنشر عن حملات التطهير التي كان يقوم بها ستالين في الاتحاد السوفيتي. عام 1941 دعته وزارة الدفاع الامريكية للعمل في مركز ابحاث الدراسات الذرية، بعد عامين يقترح أوبنهايمر تاسيس انشاء معمل لوس لآلاموس للعمل على نصنيع القنبلة الذرية.. كان قبل هذا التاريخ وبالتجديد عام 1939 عبر اينشتاين عن الخوف من امتلاك المانيا الهتلرية القنبلة الذرية، وارسل رسالة الى الرئيس الامريكي روزفلت يبلغه ان المانيا استولت على الآف الاطنان من اليورانيوم عندما اجتاحت بلجيكا، وأن هتلر ينوي بناء مفاعل نووي كبير. استمر العمل ثلاثة اعوام كان فيها أوبنهايمر قلب المشروع وروحه، فهو الذي قام باختيار العلماء الذين يساعدونه، وبعد تجارب وعمل طويل فقد خلالها اوبنهايمر اكثر من 40 كيلو غرام من وزنه أعلن عن انتاج القنبلة الذرية حيث اجريت اول تجربة صباح يوم السادس عشر من تموز عام 1945 في صحراء مكسيكو، عندما حدث الانفجار العظيم ردد أوبنهايمر عبارة كان قد حفظها " البهاغافاد" كتاب العندوس المقدس والتي تقول:" الآن أصبحت الموت، أصبحت المحطّم للعوالم ". لم تكن تمضي اسابيع على تجربة نيو مكسيكو حتى فوجئ العالم بنبأ القاء اول قنبلة على هيروشيما اليابانية. وفي دقائق معدودة فقد مئات الالاف ارواحهم. وبعد يومين تكررت الضربة وهذه المرة في ناجازاكي لتعلن اليابان استسلامها.

بعد القنبلة الذرية شعر العالم بانه يقف على عتبة عصر جديد.. يكتب المسرحي الالماني برتولد بريشت في دفتر يومياته " لقد كان نصرا.. لكنه ينطوي على هزيمة "..فيما وجد العلماء انفسهم امام مسؤولية اخلاقية كبيرة فقرروا انشاء رابطة علماء لوس آلاموس كان هدفها " الدعوة الى استخدام التقدم العلمي في صالح البشرية ". وكان رأي العلماء ان الاسلحة الذرية سوف تتطور وتزداد خطرا وتدميرا، إلا ان محاولات العلماء لم تلق صدى عند القيادة الامريكية اعلن الرئيس ترومان ان:" وجود هذه القوة التدميرية في ايدينا ثقة مقدسة لاننا نحب السلام ". كان أوبنهايمر آنذاك اكثر العلماء تعاسة، فهو يرى ان السيسة تلعب لعبتها مع الطاقة النووية، ولم تنفع تحذيرات العلماء في وقف تطور الاسلحة، واعلن ان الحرب انتهت وعلى العلماء ان يتحرروا من سطو الساسة، الامر الذي دفع بعض المسؤولين الى التشكيك بولاء اوبنهايمر للولايات المتحدة الامريكية فاصدر ايزنهاور امرا يقضي " باسدال ستار كثيف بين اوبنهايمر والاسرار الذرية " وصدرت توصية بطرده من العمل، رفض اوبنهايمر الاتهامات وابدى استعداده للمثول امام المحكمة التي تولت البحث عن ارتباطات اوبنهايمر السياسية، امام القضاة الثلاثة وقف اوبنهايمر ليعلن انه رفض المساهمة في انتاج القنبلة النتروجيمية، لا رغبة منه لمساعة الاتحاد السوفيتي، او لأنه يساري، ولكن لانه ببساطة ضد هذه القنابل. صدر الحكم بعدم منح اوبنهايمر ترخيص امن وابعاده عن الاسرار الذرية، ورات المحكمة انه يعاني من بعض العيوب في شخصيته.

عاش أوبنهايمر في الظل حيث اتجه الى تاسيس مركز للاداب والفنون، واخذ يهتم بالفلسفة، بعد توقيع معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية بين الاتحاد السوفيتي وامريكا عام 1963، قررت رابطة العلماء منحه جائزة " انريكو فيرمي " والتي تمنح لمن يسهم بجهود كبيرة في ابحاث الطبيعة الذرية، قال اوبنهايمر وهو يتسلم جائزته:" لقد ارتكب الفيزيائيون خطيئة، في معرفة لا يمكنهم أن يفقدوها "، بعد عام سيبقي محاضرة بعنوان: "آفاق في الفنون والعلوم" بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لحق الإنسان في المعرفة، حيث أوجز فلسفته وأفكاره حول دور العلم في المعرفة.

بعد محاكمته تجنب أوبنهايمر الصدام مع الاجهزة الحكومية حيث رفض التوقيع على البيان الذي اصدره برتراند رسل واينشتاين عام 1954 ضد الأسلحة النووية . عام 1955، نشر أوبنهايمر كتاب العقل المنفتح، وهو عبارة عن مجموعة من ثماني محاضرات ألقاها منذ عام 1946 حول موضوع الأسلحة النووية والثقافة الشعبية.

اواخر 1965 تم تشخيص إصابة أوبنهايمر بسرطان الحلق، فقد كان مدخنا شرها، اجريت له جراحة خضع بعدها لعلاج كيميائي وشعاعي لم ينجح في وقف السرطان. في الثامن عشر من شباط عام 1967، اعلن عن وفاته عن عمر يناهز 62 عاما.

عند مشاهدتي فيلم " اونهايمر " تذكرت مسرحية الكاتب الالماني هاينر كيبهارت " قضية روبرت اوبنهايمر " التي صدرت ضمن سلسلة المسرح التي كانت تصدرها دار الفارابي في الثمانينيات، ثم صدرت بترجمة اخرى عن سلسلة المسرح العالمي الكويتيه عام 1991. كانت المسرحية بالنسبة لي آنذاك واحدة من الكشوفات المسرحية. كان مسرحا من نوع جديد يهدف الى وصف الواقع من اجل تغييره. وكان كيبهارت ممثلا بارزا للادب الملتزم فكريا وسياسيا السبعينيات، كان كيبهارت يقول:" تقنيتي التي استخدمها دائما تتمثل في اشراك القارئ والمشاهد في القضية التي تدور في نفسي "

هاينر كيبهارت مولود في المانيا عام 1922 وتوفي عام 1982.درس الطب والفلسفة والعلوم المسرحية. بعد قيام جمهورية المانيا الديمقراطية انتقل اليها، لكنه سرعان ما سيختلف مع المسؤولين فيعود الى مدينته دوسلدوف في المانيا الغربية ثم ينتقل ليستقر في ميونخ. عام 1964 اخبر اصدقائه بانه انتهى من مسرحية تتناول قضية عالم الذرة أوبنهايمر.. قدمت المسرحية في ميونخ وقام باخراجها اشهر رجال المسرح " بيسكاتور ". في مسرحية كيبهارت تفشل محاولات اوبنهايمر للتوفيق بين ولاءه للبلاد والولاء للبشرية. قال بيسكاتور ان هذه المسرحية تسلط تالضوء على عهد مكارثي وهو وجه مقيت من وجوه جياتنا. انعدام التسامح ازاء المتفاوت وصاحب الراي المختلف، والقضاء على وجوده. والميل محو دولة الرقابة

استخدم كيبهارت وثائق المحاكمة لعرض ومعالجة الصراع الأساسي بين العلم والحكم. لا أوبنهايمر في المسرحية بطل، بل هو يعيش تضارب كامل لأفعاله المتناقضة في شخصيته ونقاط ضعفه الخاصة، ومنها الغطرسة الحادة.

الموضوع الذي يناقشه كيبهارت ا هو دور العلم، والعلاقة بين الاكتشافات العلمية والأخلاق الإنسانية. إن تردد أوبنهايمر الأخلاقي في ابتكار أسلحة الدمار الشامل هي التهمة الموجه لرجل العلم: "هل ولاؤك للإنسانية أم للحكومة الأمريكية أكثر؟"، تطرح لجنة التحقيق السؤال. وهكذا، يفرض على أوبنهايمر الفصل بين آرائه الذاتية ومهمته العلمية الوظيفية، فيرد أوبنهايمر: "هذا الفصل معناه أن يتحول العالم والمخترع إلى آلة بلا ضمير، بلا قلب، بلا قدرة ذاتية على الحكم الأخلاقي أو الجمالي".

يمكن القول أن شخصية أوبنهايمر في فيلم المخرج: كريستوفر نولان إنما هي مرآة لعالم الفيزياء صاحب الشخصية التي تعاني من المتناقضات، فهو لا يشعر بالراحة تجاه القنبلة وإرثها، ورغم أنه لا يدفع باتجاه تطويرها كما فعل آخرون، ولكن من أجل الضوابط والتعاون الدولي، تذبل "هواجسه الأخلاقية" تحت الخوف من الاستجواب والمحاكمة، وحينما اعترف للرئيس الأميركي "هاري تومان" أن "يديه ملطختان بالدم"، يعطيه الرئيس منديلاً للوجه. يتقبل أوبنهايمر بصمت السقوط من موقعه المتميز، مثيراً غضب زوجته التي تعترض قائلة: "هل تعتقد أن العالم سيسامحك إذا سمحت لهم بوصمك بالعار؟" فيرد قائلاً بهدوء: "سوف نرى".

قبل مسرحية هاينر كيبهارت قرر المسرحي الامريكي الشهير ارثر ميلر كتابة مسرحية عن محنة اوبنهايمر، لكن المشروع لم يرى النور وبقى مجرد تخطيطات احنفظ بها ميلر.. وقد روى ميلر، تفاصيل لقاء أجراه مع أوبنهايمر أوائل الستينيات،. يقول ميلر إنه وجد أوبنهايمر شديد الحزن، يائساً من كل شيء. ولم يكن ذلك بسبب اكتشافه اصابته بمرض السرطان، فقد كان يعرف أنه سيموت قريباً لا محالة، بل لأن أوبنهايمر لم يبرأ أبداً من الحزن والاكتئاب اللذين أصاباه بعد أن أسقط الأميركيون سلاحهم النووي الفتاك على مدينتي هيروشيما وناغازاكي. فأوبنهايمر، كان يشعر أنه صاحب مسؤولية في ما حدث، وكان يرى أن حالته تستدعي بحثاً معمقاً حول مسؤولية العالم إزاء النتائج التي يسفر عنها علمه. والحال أن ما كان يقلق أوبنهايمر طوال العقود الأخيرة من عمره كان يمكن تلخيصه في جملة واحدة العلم في مواجهة الاخلاق.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

هى أولى رحلاتى خارج مصر.. كنت حينها فى مقتبل حياتى الصحفية، وكان السفر لأقرب مصيف يمثل حلماً بعيد المنال فما بالك برحلة أُدعَى إليها ووسيلتى إليها طائرة هى أعلى وأجمل من أحلامى البسيطة المتواضعة!

  لهذا جاءت موافقتى غير المشروطة على الدعوة رغم التحذير الكبير من رئيس التحرير.. وكنت مدفوعاً منساقاً لفضولى الصحفى واعتدادى برأيي وحماسة الشباب التى لا تترك مجالاً للتردد؛ فكنت مصراً على الذهاب رغم نصيحة رئيسي فى العمل ألا أذهب!

لماذا حذرنى مرسي عطا الله؟

  المكان.. إقليم كردستان العراق فى بؤرة الصراع العراقى الحدودى وفى أوج عنفوان صدام حسين.

الزمان. خريف عام 2000 وبالتحديد شهر أكتوبر منه. عندما جاءتنى دعوة من إدارة مهرجان شاعر العراق الأشهر محمد مهدى الجواهرى فى دورته الأولى، ممهورة بتوقيع فخرى كريم صاحب دار المدى للنشر، وكانت تحوم حوله شائعات بأنه اختلس 9 ملايين دولار من خزانة الحزب الشيوعى العراقى الذى كان عضواً فيه، ثم انشق عنه وهرب فيمن هربوا من العراق إبان حكم صدام حسين، ولم أكن على يقين من تلك الشائعة، ولم أسعى للتحقق من صحتها فوراً ، وإنما أجلت هذا المسعى وأقنعت نفسي أنى أملك خمسة عشر يوماً كاملة هى زمن الرحلة أتحقق فيها من صحة المعلومة على مهل..

 رشحنى للسفر الصديق الشاعر أحمد الشهاوى مؤكداً أنها ستكون فرصة أتعرف من خلالها على العديد من خلاصة شعراء ومثقفي مصر والعالم العربي. قدمت الدعوة لرئيس تحرير جريدة الأهرام المسائى آنذاك مرسي عطا الله رحمه الله لكنه اعترض، وظل معى فى شد وجذب محاولاً بشتى الطرق إثنائى عن تلك الرحلة حتى رضخ لإصرارى ووافق مضطراً، ونصحني بالحذر إذ أن الأوضاع في هذا الإقليم خطيرة ، وقال إنه غير مسئول عما سيحدث لي لا قدر الله إذا وقع لي مكروه.

قبل السفر بأيام  توجهت لمكتب الطيران السوري بشارع طلعت حرب في وسط القاهرة حيث حجزت إدارة المهرجان تذاكر السفر لعدد من الكتاب والمثقفين والصحفيين المصريين للسفر عبر الطيران السوري، سارعت بتجهيز الحقائب فى سعادة لا تُوصف، منتظراً وقت السفر على أحر من الجمر.. قامت الطائرة من مطار القاهرة الدولي إلي دمشق.. وأثناء الرحلة قابلت أدباء وروائيين وشعراء لم أكن أعرف أنهم مسافرون علي نفس الطائرة وكان منهم شوقي جلال والطاهر مكي وصبري موسي وكارم يحيي وفاطمة خير و حسين عبد الرازق و جميل شفيق ورفعت سلام وآخرين سقطوا من ذاكرة أنهكتها الأيام.

يوم تم شحننا إلى شاطئ الفرات!

  ذهنى كان مشغولاً طوال الوقت بمحاولة فهم أسرار العلاقة التى جمعت بين وزارة الثقافة المصرية ممثلة فى المرحوم سمير سرحان وبين صاحب دار نشر تحوم حوله الشبهات..لكن الرحلة أخذتنى بأحداثها الفريدة الغريبة والمثيرة حقاً، فلم تترك لى مجالاً للتأمل والسؤال والتقصى إلا لمماً..

  مكثنا فى دمشق ليلة واحدة، ثم غادرناها صباح اليوم التالى فى حافلتين إلى مدينة القامشلى المتاخمة للحدود العراقية فى رحلة طويلة زمنياً قصيرة عاطفياً، قبل نزولنا لنواصل رحلتنا فى الوسيلة الثانية وهى سيارات نصف النقل!! هكذا تم شحننا فى رحلة قصيرة متعبة استغرقت نصف الساعة إلى شاطئ نهر الفرات.. وهناك استخدمنا الوسيلة الثالثة بل الرابعة بعد الطائرة والحافلة وسيارة النقل؛ إذ كانت بانتظارنا مراكب صغيرة مجهزة لتنقلنا إلي الضفة الأخرى ، وهناك فوجئنا بوفد كردي كبير استقبلنا استقبالا حافلا أنسانا متاعب الرحلة،وكنا أول مجموعة عربية تذهب إليهم بهذا العدد الكبير الذي بدا أنه يحمل لهم دلالات كثيرة..

  كان الاحتفاء بنا ودياً تعبّر عنه الكلمات والوجوه والأيدي، وكانت المسافات الطويلة على الأرض تقصر في وجدان الناس.هكذا بات العراق جغرافيا أو قل تاريخياً من الإخاء والاحتفاء العربي الكردي تستثيره أبسط الكلمات، وتبكيه أبسط المشاعر تأكيداً على وحدة أرض العراق وتعبيراً عاطفياً بالغ التأثير بقدر ما كان تعبيراً سياسياً.. ولكن أنّى لعروبي مثلي  ألا يفكّر بما يقال إلا عبر القلب!

مباريات شعرية فى دهوك

 ليلتنا الأولى فى دهوك كانت الأجمل والأشد دفئاً، ولم تعقبها ليلة فى مثل روعتها وثرائها..

كنا قد تلقينا دعوة من اتحاد الأدباء فى دهوك، أمسية ثقافية رسمية وليلة عراقية من ألف ليلة كان نجمها الأهم الشاعر والمترجم حسن سليفانى الذى لم يقدم نفسه وإنما قدم زملاءه من الشعراء الكرد من الحاضرين والغائبين، بينما كان رئيس الاتحاد فاضل عمر، الشاعر والطبيب، منزوياً في الظل، بهدوئه وتواضعه الجم..بدأ الشعراء بقراءة قصائدهم، ثم طلبوا أن يستمعوا لشعرائنا، فنهض فوزى كريم فقرأ ما قرأ، وتلا الدكتور الأعرجى أبياتاً من قريضه، ثم انبرى الدكتور رشيد الخيون، الباحث في التاريخ، ليقرأ لنا أشعاراً بالعامية المصرية سرعان ما اكتشفنا أنها أشعاره.. وتحول الأمر لمباراة مرحة ممتعة..

  مفاجآت فى أربيل

  أمسية دهوك الدافئة خير ما استهللنا به برنامج الرحلة الثرية، ثم أتبعها عدة أمسيات فى أربيل..

   تعددت الأمسيات فى أربيل وتضمنت العديد من مظاهر الفن الكردى من رقص وغناء وتمثيل وفن تشكيلي، برنامج حافل مكدس لم يدع لنا فرصة لاجترار نكهة تلك الليلة الأولى والأخيرة من نوعها تفرداً وجمالاً..مرت بنا الأيام والليالى فى أربيل سريعة ممتعة وسط أجواء فنية وليالى ثقافية استثنائية وتخللتها إزاحة الستار عن تمثال برونزي للجواهري في بارك أربيل، من صنع الفنان العراقي سليم عبد الله المقيم في السويد حالياً.

  أما مفاجأة أمسيات أربيل فهي الطفلة (كردستان إلهام)، القادمة من عقرة..صوت عبقرى صغير، قامت بأداء أغنية للسيدة أم كلثوم فأدهشت السامعين.. وكم بين العرب أصوات ومواهب تظهر ثم تختفى فجأة دون أن ينتفع بموهبتها أحد ولا يكتشفها مكتشف!

  أذكر أن من بين الأشياء التي استرعت انتباهي في أربيل الكتيب الذي أصدرته مجلة (مه لامه شهور) والذي احتوى على العديد من كاريكاتيرات رسامي المجلة المنشورة في أعدادها السابقة. تلك المجلة تتميز بجرأتها في نقد الواقع القائم، وهي واحدة من بين مطبوعات عديدة صدرت في كردستان إثر صدور قانون المطبوعات الذي أقر أن لا رقابة على المطبوعات في الإقليم وكل مواطن حر في إصدار أي مطبوع وفق أحكام هذا القانون.

 كاد الطابع شبه الرسمى للاحتفالات ينسينا الجواهري الحاضر أبداً،نجم الدعوة وصاحب المهرجان.. لولا الأمسية النقدية التي أقيمت في أربيل والتي أسهم فيها كل من: رواء الجصاني، مفيد الجزائري، فاطمة المحسن، عبد الكريم كاصد، جليل المندلاوي..ثم حدثت مفاجأة أخرى سيئة كادت تفسد أجواء الندوة المقامة على شرف نجم المهرجان ؛عندما انقطع التيار الكهربائى ولم يستطع كاصد ولا المندلاوى من قراءة المداخلة الخاصة بهما، واضطرت الزميلة فاطمة المحسن لقراءة مداخلتها على ضوء مصباح شحيح. أعقبت الأمسية النقدية أمسية أخرى أقيمت في قاعة ميديا أسهم فيها الشعراء: العراقيان فاضل العزاوي وعبد الكريم كاصد، والمصري رفعت سلام، والمغربي عدنان ياسين، والجزائرية زينب الأعوج، والشعراء العراقيون الكرد.. فوزي الأتروشي الذي يكتب باللغة العربية، وحسن سليفاني، وبيربال محمود الذي ألقى قصيدة عمودية بالمناسبة.

جمهور من رجال الفندق!

  غادرنا أربيل إلى السليمانية، ناقلين حقائبنا عند الحدود إلى سيارات أخرى، وكأننا ننتقل بين دولتين!

وقف فى مقدمة المحتفين بنا الشخصية الأدبية البارزة عز الدين رسول، المعروف بترجماته الشهيرة لقصائد كوران وملحمة (مم ألان)، ومتابعاته الصبورة لما يستجد في الأدب الكردي. ومما قرّبه إلي قلبي ملامحه الوديعة الطيبة واستقباله الودود المحتفي بي وبالشاعر فاضل العزاوي..ثم افتقدناه، فيما بعد، في زحمة انشغالاته في اليومين التاليين اللذين قضيناهما في السليمانية..

  البرنامج المكتظ لم يترك للجميع فرصة للراحة أو الاسترخاء، ففي اليوم التالي ليوم الوصول، وبعد تعاقب الخطب التي تخللتها عبارات مثل «الشاعر العالمي محمد مهدي الجواهري» أو « نقول متواضعين إن تجربتنا مثالاً يحتذي»، وغيرها من العبارات الطريفة الأخرى، وبعد مشاهدة عروض الرقص الكردية الرائعة المفعمة بالحياة بقاعة مركز شباب السليمانية، توجه الضيوف إلى إزاحة الستار عن تمثال الجواهري الآخر، وسماع الخطب ثانية. أعقب ذلك رحلة طويلة إلى مكان تناول الغداء ولقاء أطول مع الطالباني، وعودة إلى قاعة (ره زى) لسماع الشعراء وهم يلقون أشعارهم أمام الموائد المهيأة للعشاء.

ويبدو أن الشعراء لم ترضهم الأمسية، ولا هم اكتفوا بما ألقوه من قصائد، وقد تملكهم الحماس وتغشتهم النشوة؛ فآلوا على أنفسهم استكمال أمسيتهم الخاصة في بهو الفندق.. وابتدرنا الشاعر رياض النعماني، الذي لم يشارك في الأمسية الشعرية، بقصائد قصيرة جميلة من شعره الشعبي. وقرأت الشاعرة الإمارتية حمدة خميس قصيدة مثيرة لما احتوت من مفارقات ذكية، ولأول مرة أسهمت الشاعرة الجزائرية آمال بشيري التي تكتب الشعر باللغة الفرنسية في إلقاء شعرها، فقمت بترجمة ثلاث قصائد من ديوانها الذي جلبته معها، فكانت ليلة طريفة جمهورها الشعراء أنفسهم وضيوف المهرجان.. ولعل أهم وأعجب جمهور فى تلك الأمسية التلقائية هم العاملون في الفندق أنفسهم الذين استهوتهم الأمسية وأعجبتهم القصائد وجذبتهم الأجواء.

لماذا حلبجة؟

  كان المقرر طبقا للبرنامج جلستين صباحية ومسائية حول الجواهرى..فضلت أنا ورفعت سلام انتهاز فرصة تأخير موعد الجلسة الصباحية للذهاب إلى حلبجة، واستغرقت الرحلة أطول من المتوقع واكتشفنا أن الجلسة المسائية ألغيت.. هكذا قضينا ليلتنا فى حلبجة مختارين ومضطرين !

  أرهقني بؤس منازل حلبجة، وفقرها الذي لم يطرأ على بال أحد وهي المدينة الشهيدة.. المدينة الرمز.. مدينة الأطفال الموتى في أحضان أمهاتهم وآبائهم.. حلبجة القبر الكبير الذي لم تتسع له أرض.. العينان الدامعتان أبداً.. خمسة آلاف قتيل وأكثر من عشرة آلاف متشرد في يوم واحد كأنه الطامة الكبري.. تلك الأرض التي شهدت من القتلى والمدفونين أحياء عدداً ضخماً كضحايا لأكبر هجوم بالأسلحة الكيماوية عرفه التاريخ فيما سمي بحملة الأنفال باطلاً، فى مأساة تحض الوحوش لتبكي على البشر. إنه الهجوم البشع الذى حدث ضد الأكراد عام 1988 بالأسلحة الكيميائية وغاز الخردل، الجريمة التى اعتبرتها المحكمة الجنائية العراقية نوعاً من الإبادة العرقية ضد الشعب الكردى على عهد صدام حسين.

أية مغفرة اتسع لها صدر هذا الشعب الذي تآخينا معه تحت شجرة الآلام! وأية حصافة جعلته مدركاً أن المسافة نائية بين الضحية والجلاد .لم نجد غير قبرين جماعيين ونصب لم يكتمل ومقبرة حائلة، وتمثال لأب ينحني على طفله الميت. أهذه مدينة كوران العظيم الذي أمضى طفولته بين أحضانها!

هروب إلى وسط المدينة

لم نجد الوقت ولا القدرة على التحدث مع شهود المأساة من سكان حلبجة، ولا لقاء هؤلاء الذين هجروها ليأنسوا بالسكنى إلى جوار التكايا والمساجد..رجعت حزيناً وقد تملكنى الزهد فى اللقاءات والخطب والقصائد والأمسيات، فوجدتنى أفر منها إلى وسط المدينة، أسواق العراق العريقة العامرة لعلنى أجد ضالتى بين وجوه البسطاء، الأزقة بنورها الخافت وظلها الممتد، البائعين الطيبين بابتساماتهم وتلقائيتهم..وددت شراء غرض فبالغ البائع الابن فى سعرها فإذا بأبيه يستدرك عليه بخفض السعر إلى أقل مدى، ثم ترك متجره واصطحبنى إلى سوق الهرج ..بعد جولة فى السوق صادفت الشاعر فوزي كريم ومعه الشاعر الكردي الشاب كورش قادر فذهبنا إلى مقهى شعبي لتناول الشاي العراقي (السنكين).

  هكذا بدا أننى تخلصت قليلاً من غصة الأسي التى حملتها فى ضلوعى فى حلبجة..ثم جاء الليل، وعلى هامش مأدبة عشاء أقيمت في أحد الفنادق، تم عرض فيلم سينمائي لأحد الشباب هو هاوري مصطفى ..كان الفيلم جريئاً فى نقده الهادف يحكي قصة زبال يصارع أكوام الزبالة وهي تنمو باطراد في المدينة.. افتقدنا فى السليمانية دفء الليلة الأولى فى دهوك..كما افتقدت صديقي الشاعر شيركو بيكس الذي كان خارج السليمانية للعلاج.. كم أحن إلى السليمانية، إلى أسواقها ومقاهيها، إلى باعتها وسكانها، إلى أكرادها الذين لا يعرفون العربية ولكنهم يذكرونك جيداً!

وجاء يوم الوداع ..

فى يوم الرحيل كانت لنا وقفات ومواقف..

تلكأنا عند دوكان المنطقة الساحرة الخلابة لتناول الغذاء والمسامرة..مررنا فى طريقنا بكويسنجق وتعجبت من حالتها البائسة وسألت كردياً بجانبي : لماذا كويسنجق على هذه الحال من الفقر؟ فقال: إن تغييراً لم يطرأ عليها منذ الستينات، ثم أشار إلى أعمدة علق عليها أربعة أو أكثر من الشباب الكرد! وحين سألته ثانية: لماذا؟ أجاب لأن كويسنجق أنجبت خيرة المثقفين الكرد!!هكذا كان يتخلص العرب من أفذاذهم!

نقلنا الأمتعة من سيارات السليمانية إلى تلك التى ستقلنا لأربيل..لا أدرى لماذا كل هذه الحواجز والحدود؟! لكنها السلطة وحب التحكم وموروثات المستعمر القديم.

ما بين السليمانية وأربيل كان الود موصولاً من الذين ودعونا بهذه والذين استقبلونا بتلك.عدنا إلى أربيل واختلطنا بالجميع من الأصدقاء والمعارف وما أشد ما وجدناه من مشاعر ود صادق وألفة خالصة..

 قال الطالباني (رئيس العراق فيما بعد) في لقائه بالضيوف: «إننا مازلنا جاثمين على صدر الشعب الكردي» ولعله كان على حق. قالها مازحاً شكلاً جاداً في أعماقه. متى سيتاح لشعبينا العربي والكردى، مثل بقية الشعوب الأخرى، الاستمتاع بطيب الحياة ورحابتها؟  فلقد رجعت بقناعة، ربما تكون خاطئة، أن لقاء الطرفين الكرديين لن يكون سهلاً. وإذا ما تساءل القارئ لماذا؟ فإن الإجابة في غاية البساطة.. ألا وهي: حب السلطة..من سيتخلى عن السلطة؟ تلك السلطة التي سبق أن دفعت بحاكمين من أصل كردي هما عبد الكريم قاسم وأحمد حسن البكر إلى شن حملات الإبادة ضد الشعب الكردي!

  في طريق عودتنا شاء مضيفونا ألا يسلكوا الطريق التي قدمنا منها بل سلكوا طريقاً أخرى.. طريقاً أجمل.. تبدأ بشلال (كلي علي بك) بشجرته الوحيدة في أعلى قمة الجبل وإنسانه الواقف بين صخرتين، وتتوقف عند (بيخال) حيث مسارب المياه وهي تنساب عبر الشجيرات الخفيضة والصخور المائلة إلى السواد، وتمر عبر (راوندوز) بمدخلها الجميل، و(مدكسور) بأطفالها النظيفين رغم الفقر، وقرية (دوري) ببيوتها الجديدة وأطفالها العائدين من المدرسة، ثم قرية (ريزان) بنهرها الذي تتوسطه جزيرة بهيئة سمكة أو طير، ثم قرية (بللي) الوادعة والطريق المتعرجة التي تبدو فيها السيارات البيضاء وكأنها أسراب بجع تتقاطع.

لا شواهد لأنفال أو لحرب.. فقط الحياة تنبض ساخرة من الحروب وقادتها.. من الجيوش العابرة والقتلة المارين وسط ابتسامة الطبيعة الخالدة.حتى صمت الموت وسط حياة الطبيعة يبدو صاخباً تاركاً لأصداء التاريخ فسحة الانبعاث من جديد، ربما لاستقبال أمل يأتى مع كل حياة جديدة تولد.

***

عبد السلام فاروق

كان لوالدي (رحمه الله تعالى) الفضل في حب العربية وسبر اغوارها البعيدة ومعرفة اسرارها، ففي الاول المتوسط بدأت اقرأ ديوان المتنبي، والرحلة مع العربية الفصحى (أعني الجاهلية) فكسرت حواجزها وصرت اتذوق جمالياتها، حتى ترسخت في نفسي وصارت ميزانا أو (مسطرة) أقيس عليها اللغة والادب في كل العصور. وأعطتني الجامعة حب منهج البحث العلمي ووجدته السبيل الوحيد للوصول الى المعرفة الحقة، وفي رأيي انه ميدان انتصر فيه المحدثون على القدماء في كل مجالات المعرفة. وقد ألفت بناء على هاتين الركيزتين مجموعة من الكتب والبحوث المتميزة أخذت مداها فدلت على نجاحها. والبحث او الكتاب عندي يجب أن يأتي بأشياء جديدة، وغالبا ما يأتي الجديد بنتائج خلافية شديدة.

- أنا الشعر- دراسة في أساسات الشعر العربي

ذكرت أن الاسس التي وضعها الجاهليون للشعر هي التي تبقى تمثل الشعر العربي الى الابد، والابداع الحقيقي يكون في القرب منها وليس الابتعاد عنها. فتناولت تلك الاسس في هذا الكتاب وما اجرته عصور العرب التالية من تعديلات واضافات، وهي: نظام الشطرين، الاوزان، القافية الموحدة، الاغراض الشعرية ثم اهم الاساسات اللغة الشعرية.

- سلطة الشعر الجاهلي على الشعر العباسي

المثقفون العباسيون كالأصمعي وابن سلام والجاحظ تنبهوا على ان الشعر الذي اجترحه المولدون كبشار وابي العتاهية وابي نواس يختلف عن الشعر العربي قبله، وهو قطع وبداية جديدة وليس امتدادا كما يقول اكثر الدارسين غير الباحثين بجد. وهؤلاء المثقفون وضعوا اسس النقد الذي قام على مناقشة الشعر الجديد لرفضه جاعلين الشعر الجاهلي هو المقياس. وقد ظهر نقاد عرب رافضون للشعر الجديد كالأصمعي وابن سلام الذي طرد العباسيين من طبقات فحوله، وابي عمرو بن العلاء والجاحظ، ودافع عنه نقاد اكثرهم (غير عرب) مثل قدامة بن جعفر وابن قتيبة وابن الأعرابي والمرزباني والثعالبي وعبد القاهر الجرجاني وعبد القادر الجرجاني. ودافع عنه عرب قلة مثل ابن طباطبا العلوي. وارى ان النقد العباسي فشل في الموازنة بين الشعر العربي والمولدي فتعريف قدامة للشعر (كلام موزون مقفى يدل على معنى) وصف لأغلب الشعر العباسي غير المبدع، حتى نظرية عمود الشعر لم تستوعب الشعر الجاهلي الذي ظل بعيدا عن تصور كامل للنقاد العباسيين الاوائل، وللمتأخرين صار اكثر بعدا. وارى اننا نحتاج وضع (نقد النقد العباسي) وهو مشروه كتابي ينتظر من يقوم به. وفي كتابي اذكر كيف مارس النقاد والادباء وحتى بعض الخلفاء سلطة على المولدين بغية ارجاعهم عنوة الى مثابة الشعر الجاهلي. وفي كتابي (الخلاصة في الادب العباسي) تناولت بشكل مفصل الادب العباسي الجديد بشقيه الشعر والنثر.

- تفسير لقب المتنبي من خلال شعره

في هذا البحث أوضحت سبب تلقيب المتنبي بهذا اللقب وهو امر لم يوضحه قبلي احد، اذ توصلت الى انه لقب بالمتنبي لشدة ذكائه الى درجة التنبؤ بالمستقبل، وذكرت خمس نبوءات وردت في شعره: تنبأ وهي صغير بصيرورته الى العظمة والمجد فتحقق ذلك، وتنبأ بموت احد ممدوحيه (الاوراجي) وهو معافى يجلس على دست الحكم فمات في ليلته وهو يردد بيت النبوءة. وتنبأ بالأسلحة الحديث التي تقتل فورا كالشظايا والقنبلة الذرية دون ان يمر المقتول بمرحلة الالم فتحققت، وتنبأ بموته راجعا الى العراق وقتل بالفعل. وقد حقق هذا البحث صدى واخذ مدى، اخبرني الدكتور نوفل ابو رغيف انه نوقش في ندوة في لندن، واتصل بي الدكتور فاروق مواسي وهو شاعر من جيل محمود درويش وقال لم اقرأ بحثا بهذا المستوى منذ عشرين سنة. كما نشرته المجلات الالكترونية في الخليج العربي وغيره.

-  سلامة اللغة العربية في الكتب الادارية

من الكتب التي حققت انتشارا واقبالا، وقد وزع على جامعات العراق كافة، وبعد نشره قام الوزير الاسبق الدكتور حسين الشهرستاني بتشكيل لجنة لإصدار كتاب مثله من الوزارة ووضعني في اللجنة ولكن خروجه حال دون اكمال المشروع، وكان رئيس واعضاء اللجنة لا يرون ضرورة لإصدار كتاب آخر وان كتابي يفي بالغرض جدا، وقد اتصل بي اساتذة من مختلف الجامعات للحصول على نسخ منه.

-  اللغة العربية الخامسة – الفصحى الهجينة

هذا الكتاب وليد تمكني من الفصحى ورسوخها في نفسي، واطلاعي على تدرجها في العصر العباسي وبعده. كنت محتاجا الى تقوية مستوى الانجليزية، فاتيح ذلك عندما صار الدكتور هادي دويج رئيسا للجامعة وكنت امين مجلس الجامعة، فكان الدكتور هادي يذكر مصطلحات انجليزية اثناء جلسات المجلس هي اقوى عنده من مقابلاتها العربية، فكنت ابحث عن معانيها، ثم تطور الامر الى تعلم الانجليزية بسيط وسماع الاناشيد والقصص باليوتيوب, وبعد اعفائه خلفه الدكتور حسام الزويني الذي كان اكثر منه استعمالا للانجليزية، وهنا تقابلت عندي اللغة الفصحى العالية والانجليزية بمستوى معين، فصرت كلما سمعت لفظة غير فصيحة ادرك بسليقتي انها غير عربية فابحث عنها فيكون حدسي صحيحا، حتى توافرت عندي الفاظ ومعان واساليب غير فصيحة لا حصر لها نتكلمها ونكتبها ونطلق عليها خطأ (اللغة الفصحى). مثل (العفو) تقال في ابتداء الكلام، والعفو الفصيحة يقولها المذنب طالبا المغفرة، وهي ترجمة لـ(beg your pardon)، (أنا آسف) تقال عند ارتكاب خطأ بسيط غالبا وهي ترجمة لـ(sorry)، وآسف الفصيح تعني (أنا حزين) و(لا تزعجني) نقولها لشخص ليكف عن شيء نكرهه، والفصيحة تعني (لا تحملني على السفر)، وهي ترجمة لـ(don’t bother me). والقواعد مثل تقديم المضاف اليه على المضاف مثل (علي مول بدل مول علي)، واشتقاق اسم الفاعل من المصدر وليس الفعل مقل (تدريسي وفدائي)، واضافة الباء لاسم الحال مثل (بصراحة) وغيرها. والكتاب يمثل قراءة للغة المعاصرة تضعها في مكانها الصحيح، ولكن مجامع اللغة العربية في الوطن العربي والعراق صمتت ازاءه واخذتها العزة بالخطأ ولكن لم اسمع نقدا من احد، واكتفى رئيس المجمع العراقي بعد الحوار معه ومغالطاته الى انهاء الحوار بحظري على الفيس.

- العروض الرقمي والعروض العلمي

 العروض والموسيقى ميدان كان يستهويني وانا طالب في الكلية، ومنذ بدأت كتابة الشعر بعد المتوسطة. كان الطلاب يشتكون من كيفية معرفة البحر، ولماذا نضع هذه التفعيلة وليس تلك. فضلا عن ان كتب العروض وضعت للمثقفين ثم الطلبة، فوضعت ثلاثة كتب في العروض تعالج المشكلتين: عروض بمستوى الطالب المبتدئ بمعرفة هذا العلم، وكيف يتوصل الى معرفة البحر بدون أذن موسيقية، فسنة دراسية غير كافية لمنحه اذنا موسيقية. وقد وجدت بعض الطلاب ينبغ في ذلك ويستطيع بالقوانين التي يلقنها أن يصل الى معرفة البحر بسهولة. وفي بحثي (عروض البحر وعروض القصيدة) كشفت عن حقيقة لم يتناولها أحد قبلي وهي ان وزن البحر لا يكفي لصنع موسيقى شعرية ناهضة ونابضة، وان الشاعر الكبير يجب ان يكون موسيقار كبير في صنع موسيقى داخلية هي (موسيقى القصيدة) وهذه الموسيقى حققها الجاهليون أكثر مما حققوه في الموسيقى العروضية فكثرت لديهم الزحافات التي خلت او كادت من شعر العباسيين ومن تلاهم ولكن هؤلاء لم يحققوا موسيقى الجاهليين. كما تميز الشعراء الاندلسيون بتحقيق هذه الموسيقى بتفرد.

- الثورات العلوية في العصرين الاموي والعباسي

سارت الثورات العلوية في العصرين الاموي والعباسي بخطين: خط (الرضا من آل محمد) التي تدعو (الامام المعصوم) والخط الزيدي الذي يكتفي ان يكون الثائر علويا. واستمرت 266 سنة من ثورة الامام الحسين 63هـ الى الغيبة الكبرى للامام المهدي 329هـ. قاد البحث في الثورات العلوية الى نتائج جديدة وحاسمة منها: ان الكوفة كانت محور الثورات والقادرة على تحقيق النصر بوصفها عاصمة التشيع. احد اسباب اختيار العباسيين بغداد عاصمة هو لتطويق الكوفة والسيطرة على الثورات العلوية كما حدث لثورة ابراهيم بن الحسن المحض. افرزت الثورات العلوية اشعارا ثورية ذات اغراض كثيرة واساليب فنية مختلفة.

- خصصتُ الفيليين بكتابين: (قصة الفيليين العراقيين) و(تعلم الكردية الفيلية). قصة الفيليين من كتبي واسعة الانتشار، فقط طبع ست طبعات آخرها في دهوك/ كردستان، ونقلت منه (الويكيبيديا) ونقل منه وكتب عنه مثقفون كورد في مناطق شتى. وقد حسم الكتاب اختلافات كثيرة كتحديد الفهلوية بأنها لغة الفيليين الام وليست فارسية، وان كسرى كوردي والدولة الساسانية كوردية، وتحديد معنى فيلي بشكل قاطع، واطلاقه من قبل حسين خان عام 1600م بالتحديد. وتناول الكتاب الاصول والدول واللغة والادب والشخصيات الفيلية، وتهجير الفيليين بالأعداد الدقيقة، ومحاربتهم بمنعهم من التعليم العالي ووظائف: معلم، مدرس، استاذ، قاض، ضابط، ورسمت مستقبل الفيليين، ووضعت اقتراحات لانصافهم.

أما (تعلم الكوردية الفيلية) فقد بدأت تعلم الكوردية اثناء العسكرية في كلار وسرقلعة وباوه نور وكفري، وتعرفت الى الادب الكردي وشعرائهم. كنت اعرف القليل من الكوردية الفيلية مما سمعته من والديّ، والفيلية تختلف عن السورانية. فعرفت المسار التعبيري لهما، في السورانية والفيلية يقدم الفاعل على الفعل وجوبا مثل (علي هات) = (جاء علي) اسوة باللغات الهندوأوربية: الهندية والفارسية والجرمانية والانجليزية مثل (Ali is came). وفي حالة الفعل المتعدي تشيه قواعد الفيلية القواعد العربية: فعل فاعل مفعول به مثل (دووم = اعطاني) بينما السورانية بالعكس (مفعول به فاعل فعل) فالجملة السابقة يلفظونها (مني دا). وقد استحضرت كل كلام فيلي سمعته سابقا، ونقلت من والدتي رحمها الله كلاما وقصصا وقواعد كثيرة لا ازال احتفظ بتسجيلاتها، وسمعت فديوات كثيرة للفيلية، كما اطلعت على كتب تعليم الكوردية السورانية لوجود شبه قليل بين الفيلية والسورانية، وراجعت مثقفين فيليين يجيدونها أفضل مني. ولم يضع أحد الفيليين كتابا في تعليم لغتهم وفيهم من يتحدثها بطلاقة، لذا قمت بهذا الجهد، وتفضل اقليم كردستان بطباعته مشكورة الطبعة الثانية.   

-  وفي مجال الابداع اصدرت بطبعتين (منامات ابن سيا) وهي (نص مفتوح)، تشبه في قالبها العام (مقامات بديع الزمان والحريري) وتختلف في الاسلوب والهدف، فهي تروي عن شاعر جوال سجل مستجدات الحياة في العراق منذ زمن صدام الى ايامنا هذه، وقد كتب عنه أدباء كثيرون مثل الشاعر الكبير طه ياسين حافظ والدكتور فاضل التميمي والدكتور صالح الطائي. كما اصدرت مجموعتين شعريتين هما (اليها فقط) و(قصائد خيرة)، ولدي مجموعة قيد الطبع في اتحاد الادباء هي (ادخليني جنان خلدك).

- وتحت يدي كتاب (المتنبي من الكوفة الى الكوفة) مع الدكتور عيسى جعفر الحركاني. وهو الخلاصة في المتنبي، وكما قدمت فان علاقتي بالمتنبي ترجع الى الاول المتوسط، وقد عايشته وآلفته حتى كأنه كان يملي علي واكتب حيا يرزق، وصديقا يصدقني في الكلام عن نفسه. ولي فيه سابقا دراسات كثيرة.

في الختام أتمنى على النشء الاكاديمي الجديد الافادة من تجربتي في الكتابة، واشكركم شكرا جزيلا على الاصغاء.

***

الاستاذ الدكتور محمد تقي جون

 

مر الأدب الروسي بعدة مراحل تاريخية، ممكن لنا تحديد مراحله على حقبات تاريخية متسلسلة، الفترة الروسية القديمة تبتدأ من القرن العاشر الى القرن السابع عشر، والفترة الروسية الحديثة تبتدأ من القرن الثامن عشر الى عام ١٩١٧ بواقع ثورة أكتوبر . والفترة الروسية ” السوفيتية تبتدأ من عام ١٩١٧ الى ١٩٩١ إنهيار التجربة الاشتراكية . وبعد هذا التاريخ تبتدأ مرحلة جديدة من عام ١٩٩١ الى وقتنا الحاضر .

في مطلع عقد الثمانينات، كنت طالباً في كلية الأداب جامعة بغداد في ذلك المبنى الأنيق والواسع والزاخر بالمعرفة والأدب والكتاب . يعزل بموقعه حي الوزيرية عن ساحة الميدان وباب المعظم . كانت بوابة مدخله تؤدي الى كلية التربية ومن ثم كلية الصيدلة وينتهي به الطريق الى بناية قديمة وعريقه بعدة طوابق سكناً داخلياً لطالبات الكليات، طريق واسع وأنيق يتوسط الكليات الثلاث تشعر بهيبته منذ اللحظات الأولى التي تطأ قدماك به . في مبنى كلية الآداب تتلمذت على يد أساتذة كبار في الأدب والمعرفة الأستاذ ضياء نافع، محمد يونس الساعدي، حياة شرارة، جليل كمال الدين، ناشئة بهجت الكوتاني.

قراءاتي السابقة عن يوميات الأدب الروسي، ومن خلال دراستي للأدب الروسي في مطلع الثمانينيات في الآداب جامعة بغداد واطلاعي على حياة ومسيرة الكتاب الروس من شعراء وروائيين ونقاد وكتاب ورسامين. بدءاً من عصر القياصرة إلى فضاءات ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى بقيادة مفجرها لينين، وحقبة حكم ستالين بقبضته الحديدية.

كان يرهقني في الأدباء الروس مصيرهم المحتوم إلى الموت انتحاراً أو بظروف غامضة في كلا الحقبتين من تاريخ روسيا وهم بعزّ عطائهم الإنساني ومعترك حياتهم الإبداعية. وبقيت لسنوات أتساؤل مع نفسي من خلال القراءة والمعرفة في مسيرة هذا السجل عن مصيرهم المستعجل إلى الموت.

هل أن قسوة الانظمة في قمع إبداعاتهم كانت سبباً في موتهم سراً أو إنتحارهم طوعاً ؟. وهل أن إبداعهم الإنساني في لحظات التجلي والقمة دفعهم إلى هذا المصير المفجع ؟. وهل أن مفهوم الموت في النتاج الإنساني والاخلاقي بحتمية الحياة قادتهم إلى الموت الزؤام ؟. هل هذه العوامل كافية وكفيلة تدفع شاعراً أو روائياً لم يتجاوز عمره العقد الثالث وفي قمة تألقه أن ينتحر أو يُقتل غيلة مثلما وقع مع الشعراء ألكساندر بوشكين وميخائيل ليرمنتوف وفيدور دوستويفسكي إلى ماياكوفسكي وسيرغي يسينين.

الكساندر بوشكين. شاعر روسيا الأول وطنياً ووجدانياً ورمز من رموزها، نُفي مرتين من قبل قيصر روسيا نيكولاي الأول لنشاطه الثوري ضد أركان حكمه المتزمت من خلال نتاجاته الأدبية والإنسانية إلى أن رُتّبت له بدعة المبارزة السائدة آنذاك لينتهي ميتاً. ميخائيل ليرمنتوف نعاه بقصيدته ”موت شاعر ”هزت أركان روسيا من أقصاها إلى أقصاها، لينفيه القيصر إلى منطقة القوقاز. عُرف شاعراً وكاتباً مبدعاً في العديد من الروائع الأدبية التي جسد من خلالها إبداعات الإنسان ”بطل من هذا الزمان” كانت روايته الوحيدة، لكن ملحمته الشعرية التي رثى بها شاعر روسيا الأول ألكساندر بوشكين بعد موته، هي من أدخلته عالم النجومية والعالمية والشهرة، ومن ثم أدّت إلى قتله أيضاً.

كما نال الآخرون من الحيف والتهميش والنفي بدءاً من إيفان تورجينيف إلى الناقد الديمقراطي فيساريون بيلينيسكي ومروراً بليف تولستوي ونيقولاي غوغول وأنطون تشيخوف، أما فيودور دوستويفسكي فقد حُكم عليه بالإعدام لنشاطه الثوري ضد ممارسات وسياسة القيصر، وما زال سرّ موته المبكر لغزاً.

لم يكن حال الأدباء والشعراء والكتّاب الروس في ظل الوضع الجديد بقيام ثورة أكتوبر أحسن حالاً من الزمن الذي مضى، لقد مارس ستالين ونظامه سياسة الترهيب والترغيب بحقّ مبدعي روسيا وسلخهم من جلودهم الحقيقية وحولهم إلى مدّاحين وطبّالين لشخصه ونزقه، وإن من عارضه أو صمت تلقى حتفه الأبدي، ومن فضاءات ثورة أكتوبر ولدت منهجية تحزّب الفن الذي تلقفناه نحن أي بلدان الشرق وأحزابها الشيوعية. يقول أميل حبيبي :” نحن ربينا أجيالنا على مفاهيم ستالين. الشيوعيون جبلوا من طينه خاص”. وثمة من عاصر التجربة المرة واستنساخها على الوضع في العراق وسياسة البعث وصدام حول الابداع والمبدعين.

لقد ظل ستالين طيلة حقبة حكمه يعيش بهاجس الخوف من المبدعين الروس، فأغلب الذين ماتوا أو إنتحروا ظلت تدور حول قتلهم الشبهات . يقول سيرغي دوفلاتوف:” نلعن ستالين بلا إنتهاء نتيجة أعماله، ومع ذلك أريد أن أسأل من الذي كتب أكثر من أربعة ملايين تقرير ”.

الشاعرة المبدعة والكبيرة مارينا تسفيتايفا إنتحرت في ظروف غامضة بعد أن أعدم زوجها وإعتقلت أبنتها وأختها، ولم يعُر انتحارها اهتماماً في الاوساط الحكومية ولا حتى الأدبية وظلت قصائدها ممنوعة إلى أواسط الخمسينيات بما تمتاز به من ثقافة وتمرد ورفض في المعاني.

كان ستالين يتابع بنفسه جميع النتاجات الأدبية والفكرية، ويحضر شخصياً المسرحيات والأمسيات الأدبية ممن تنال إقبالاً جماهيرياً في الأوساط الشعبية، وقد حضر وشاهد مسرحية ”أيام تورين” من تأليف الروائي البارز ميخائيل بولغاكوف عدة مرات على المسرح الأوبري في موسكو، وخرج بنتيجة مفادها أن هذه المسرحية ”سخرية من النظام الشيوعي وأن بولغاكوف ليس منا ” وبسبب ما تعرّض له هذه الروائي العبقري من سطوة سياط ستالين ورفاقه، مات بعد تعاطيه جرعة كبيرة من المورفين.

وعندما قرأ ستالين مسرحية ” في المخزن” للروائي أوليغ بلاتونوف كتب عنه قائلاً : كاتب موهوب ولكنه وغد ” ووصف المسرحية بأنها حكاية عميل لأعدائنا.

في عام 1934 أنشأ ستالين ” أتحاد الكتاب السوفييت”. وأختزل بهذه الخطوة كل المنتديات الأدبية، وبدأ العمل ضمن مفهوم الواقعية الاشتراكية والالتزام ببنودها وأن من يخرج على طاعتها يتعرض إلى العزلة والقتل .

كان الروائي الكسندر فادييف ولسنوات طويلة على رأس الاتحاد ومؤمناً بالاشتراكية وشديد الإخلاص للحزب الشيوعي ولستالين شخصياً. ويبرر ويدافع عن كل خطوات ستالين المؤذية تجاه رفاقه ومبدعي شعبه.

بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي في عام 1956 ورفع السرية عن الوثائق المطمورة بما سمي حينها ذوبان الجليد وحين أتضحت الحقائق المروعة عن جرائم ستالين وسياسته الدموية حزن حزناً عميقاً، وشعر بالألم والندم، ولم يتحمل الضغط النفسي الشديد وبات دائم القلق معذب الضمير، ويتمنى الموت اليوم قبل الغد، فأطلق الرصاص على نفسه ليرتاح إلى الأبد من عذاب الضمير كما جاء في الرسالة الموجهة إلى اللجنة المركزية للحزب، والتي كتبها قبل الانتحار.

بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 هاجر عدد كبير من خيرة مثقفي روسيا من مفكرين وفلاسفة وكتاب وشعراء وفنانين خارج روسيا، أما من بقي منهم فقد تعرض إلى المضايقات والتهميش وتقيد إبداعهم بالترهيب والترغيب وتحزيب نتاجاتهم .

مات الشاعر الروسي الكبير الكساندر بلوك في عام 1920 بعد أن رفضوا بالسماح له بالسفر إلى الخارج لتلقي العلاج. ولقد كتب البروفيسور ضياء نافع في يومياته عن روسيا والسوفييت يروي قصة عيشه مع اللاجئين الروس في باريس في منتصف الستينيات، والذين غادروها بعد ثورة أكتوبر وتوقعاتهم بانهيار النظام الشيوعي في الوقت الذي تهاوى به الاتحاد السوفييتي.

أما فاجعة وسيناريو الشاعر سيرغي يسينين فهي جد مؤلمة، حيث شنق نفسه في فندق في لينينغراد عام 1925 وهو في الثلاثين من العمر في عز عطائه وشبابه، وهو الشاعر الأكثر شعبية من حيث تداول شعره في روسيا بما تتضمنه قصائده من غزل وشجن ووجدانيات، عربياً قد يكون قريباً جداً إلى شاعرنا الكبير نزار قباني من حيث دغدغة مشاعر الأنوثة والرومانسية النسوية. وقد ترك في الغرفة التي شنق فيها نفسه قصيدة مكتوبة بالدم، لأنه لم يجد حبراً، فجرح معصمه وكتب قصيدته التي يقول فيها «ليس جديداً في هذه الحياة أن نموت، وليس جديداً بالتأكيد أن نعيش».

ولشعبيته الكبيرة في روسيا بعد إنتحاره فقد أجتاحت روسيا موجه كبيرة من الإنتحارات وسط الشباب والمثقفين، مما أثار هلع السلطات للحد من هذه الظاهرة الخطيرة، وقد ترك بعد رحيله ثناء طيباً وكلاماً عميقاً من مبدعي روسيا. فقال عنه بوريس باسترناك: لم تلدُ الأرض الروسية من هو الأكثر وطنية وأفضل توقيتاً مما هو سيرغي يسينين.

أما مكسيم غوركي فقال عنه : «إن يسينين ما هو بالإنسان قدر ما هو كائن خُلق من أجل الشعر حصراً».

أما يفجيني يفتوشينكو فقال فيه : «إن يسينين لم ينظّم أشعاره، بل لفظها من أعماقه».

وقال الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي : إن موته «مأساة أخرى في تاريخ روسيا مسّت الوجدان العالمي والإنساني»، حيث كتب قصيدته الشهيرة بعد انتحار يسينين يقول فيها : «في هذه الحياة ليس صعباً أن تموت، أن تصوغ الحياة لهو أصعب بما لا يقاس»، بعدها أطلق الرصاص على رأسه من المسدس المهدى إليه من مخابرات الكرملين.

وقال عنه الأديب الروسي فيكتور شكلوفسكي: «إن ذنب الشاعر ليس في أنه أطلق الرصاص على نفسه، بل أنه أطلقها في وقت غير مناسب».

مكسيم غوركي كاتب رائعة رواية الأم مات في ظروف غامضة، ويقال إنه قد جرى تسميمه وإن ستالين شخصياً كان ضالعاً في قتله، لأن مكسيم كان مستاء وغاضباً مما يرى حوله من بؤس وظلم . وهناك العديد من الشعراء والأدباء تعرضوا إلى السجن والموت وهم في بداية شهرتهم الأدبية، لكن مواقفهم الإنسانية والوطنية هي التي حتمّت موتهم السريع والمرعب. فالشاعر كلوييف مات تحت التعذيب، أما الكاتبان المعروفان بيلنياك وإسحاق بابل فقد حُكم عليهما بالإعدام ونُفّذ فيهما الحكم سريعاً.

أمام هذه التراجيدية السوداء في تاريخ روسيا القيصرية والاشتراكية في التعاطي مع الأدب والأدباء والشعر والشعراء والحرية والإبداع، نقف عند قول فولتير: «إذا كان لي ابن، لديه ميل إلى الأدب، فأن العطف الأبوي يدفعني إلى أن ألوي عنقه». لقد مارس ستالين الإرهاب الفكري بحقّ مبدعي روسيا وقمع حرية التعبير، بل وقام بالتشهير بالمبدعين من الشعراء والروائيين ممن كانوا يكتبون بحرّية وإبداع خارج ما يسمى في حينها بالثورة الثقافية.

عندما حصل الشاعر بوريس باسترناك على جائزة نوبل للآداب ١٩٥٨ عن روايته ”دكتور زيفاكو” منعه الرئيس السوفيتي خروتشوف عن قبولها. وقد تعرض إلى حملة تشهيرية واسعة فأصيب بسرطان الرئة ومات عام١٩٦٠.

أما الشاعر جوزيف برودسكي فقد اعتقل بتهمة نشر أعماله في الخارج وتم إحتجازه بمستشفى للمجانيين، وفي عام ١٩٧٢ طردته السلطات خارج البلد وانتزعت منه الجنسية السوفيتية، وهو شاعر مبدع يخط بقلم واضح نال جاهزة نوبل للاداب عام ١٩٨٧، وكان عمره٤٧ عاماً، أي أنه أصغر أديب حاصل على هذه الجاهزة الرفيعة.

في عام ١٩٦٨  حين نشر ألكساندر سولجينيتسن روايته  ”الدائرة الأولى” في الخارج، وصفته وسائل الإعلام السوفييتية بالخائن والعميل وعلى أثر حصوله على جائزة نوبل للآداب في عام١٩٧٠، طرد من اتحاد الكتّاب السوفييت، وفي عام١٩٧٤ نزعت عنه الجنسية السوفييتية وطُرد إلى خارج البلاد.

إن أغلب الأنظمة السياسية في العالم لم تعُد تستوعب فكرة إبداع ونتاج مبدع لا يتعاطى مع مشاريعها السياسية ومصالحها . إن مفردة الديمقراطية كذبة ومؤسساتها حيلة من الحيل ضد توجهات المبدعيين الإنسانية والسياسية. في فرنسا مُنعت كتب كانت وفولتير لأنها كانت ضدّ توجهات النظام السياسي القائم في البلاد. وبعد أن استلم ستالين مقاليد الحكم والدولة والحزب والمبادئ، إثر موت رفيقه لينين عام ١٩٢٤، كانت الخطوة الأولى في برنامجه تصفية كل قادة الحزب وأعضاء المكتب السياسي بذريعة تطهير الحزب من العناصر المخربة. وينقل إنه بعد أن فاحت رائحة جريمة قتل رفاقه، هم الرسام بيكاسو برسم صورة بشعة له، فتعرض أي بيكاسو على أثر ذلك إلى العقوبة والتوبيخ من قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي.

أما في فضاءات الحضارة العربية والإسلامية وقتل علمائها ومبدعيها، فالحديث عنها مرعب ومخيف، بدءاً من الخوارزمي ومروراً ببشار بن برد، وأمرؤ القيس، وليس إنتهاء ببدر شاكر السياب الذي مات مهموماً ومعزولاً ومتروكاً، وعبد الأمير الحصيري الذي مات فقيراً رثاً في حانات بغداد.

بعد هذا العرض التراجيدي لمصير أدباء وشعراء روسيا وما لاقوه من قمع وإرهاب ومصادرة لإبداعهم الإنساني، قد يصفني بعض من المتفهمين على أنني معادٍ للفكر الماركسي. لكنني أعلن وبزهو تام عن إيماني الكامل بهذا الفكر الخلاق نهجاً وأخلاقاً وفكراً، وأن حبي له هو حافزي الأول والأخير في تعرية ونقد الأخطاء التي أدّت إلى تدمير هذه التجربة الخلاقة.

***

محمد السعدي

 

في ظهيرة السادس عشر من تشرين الأول عام 1957، بينما كان يتناول طعام الغداء في مطعم وسط باريس، اقترب منه شاب ليبلغه أن الناشر غاستون غاليمار يبحث عنه، فهناك أنباء تقول أنه فاز بجائزة نوبل. الكاتب البلغ من العمر آنذاك " 44 " عاما اعتقد أن الأمر مزحة، فهو صغير السن على هذه الجائزة التي تُمنح عادة في وقت توشك فيه حياة الكاتب على الغروب، ثم أنه لا يتمتع بالمكانة التي يتمتع بها بعض معاصريه من كتاب فرنسا، مثل اندريه مالرو أو جان بول سارتر.

امام شقته تزاحمت وكالات الانباء ومحطات التلفزيون، الجميع ينتظر قدوم صاحب " الغريب " ليسألونه عن جدوى العيش بعد الجائزة، وهل لا يزال يعتقد ان الحياة الانسانية ليست ذات اهمية، وأننا لا نزال نحمل صخرة سيزيف على ظهورنا.عندما وقف امام لجنة جائزة نوبل طالب الأدباء والكتاب أن يركزوا على الناس المهمشين الذين يخذلهم التاريخ معلنا أن " الادب يُعبر ويُدافع عن تطلعات الإنسان إلى الحرية، والانسجام، والجمال، وهذا التطلع وحده يجعل الحياة ذات قيمة "، وعندما يسأله أحد الصحفيين: هل لازلت وجودياً رغم اختلافك مع سارتر، يجيب: " لست وجودياً، مع أن الفلاسفة بالطبع مجبرون على التصنيف، حصلت على انطباعاتي الفلسفية الأولى من الاغريق، وليس من المانيا في القرن التاسع عشر والتي هي أساس الوجودية الفرنسية الحديثة " – ديفيد شيرمان البير كامي ترجمة عزة مازن -.

كانت المشكلة الفلسفية التي واجهها البير كامو هي: لماذا الحياة عبثية؟، فرغم أننا ممتلئون بـ "التوق إلى السعادة"، لكن يقابلنا في كل مكان "الصمت غير المعقول للعالم". لقد كشفت لنا الحياة عن فراغ كبير. ومثلما قال صامويل بيكيت " النور يضيء لحظة، ثم يحل الليل مرة أخرى." هذا التناقض الأساسي، بين شغفنا بالحياة وما يقدمه الواقع، هو ما يجعل الحياة عبثية. قارن كامو بين الوجود البشري ووجود سيزيف في الاسطورة اليونانية، المحكومٌ عليه من قِبل الآلهة بأداء مهمة عبثية، وهو أن يدفع إلى الأبد صخرة إلى أعلى التل، بحيث يراها تنحدر من جديد إلى أسفل في كل مرة يصل بها إلى القمة، ومع هذا يجب أن يُعتبر سيزيف،كما يخبرنا كامو، شخصا سعيدا، بمعنى أن علينا أن نعي مأزقنا، ونقبل لأقصى درجة أيًّا ما كانت الحياة التي سيتحتَّم علينا أن نعيشها على الأرض يقول كامو ان:" لا عقاب اشد من واجب لا طائل فيه ولا أمل يرجى منه " فسيزيف في نظر كامو هو بطل العبث بسبب احتدام عواطفه وشدة عذابه معا، فازدارؤه الألهة، وكرهه الموت، وعشقه الحياة، كلها سببت له العذاب الذي لايوصف ليتحول في النهاية إلى رمز:" انني الآن اترك سيزيف عند الحضيض من جبله، فالمرء دائما ما يعود إلى عبثه، إلا ان سيزيف يُعلمنا ذلك الضرب السامي من الولاء الذي لا يعترف بالألهة ويرفع الصخور.. الكفاح صعداً إلى القمة كفيل بان يملأ قلب الانسان. فعلينا أن نتخيل سيزيف سعيدا " – اسطورة سيزيف ترجمة انيس زكي حسن -

يتساءل كامو: إذا تكشف لنا عدم جدوى الحياة كعمل سيزيف، فكيف نرد او نجيب؟. ماذا نفعل إذن؟ الانتحار ليس خيارا. لأنه لن يؤدي إلا إلى مضاعفة العبثية، وكان الخيارالوحيد المتبقي هو القبول بمأزقنا. كل واحد منا مدان. كل واحد منا لديه صخرة مطلوب منه أن يدحرجها. لكن "النضال نحو المرتفعات يكفي لملء قلب الانسان "، ولهذا فان كامو يرى ان بأمكاننا جميعا إيجاد طرق لنحمل صخورنا بابتسامة حازمة ومتحدية. ان كامو ينظر الى التكرار السقيم الذي تتسم به حياتنا، على أنه الصورة الحديثة لاسطورة سيزيف. كما ان العبث يستمد وجوده من الإحساس بالانعزال في عالم مغترب، وقد ينتج عن هذا الشعور بالانعزال الإحساس باننا إنما وجدنا بمحض الصدفة وبلا سبب معقول. عندها يتواجد لدينا احساس يسميه كامو بـ (العداوة البدائية تجاه العالم ) " – جون كروكشانك كامو وادب التمرد ترجمة جلال العشري -. يقول كامو إن العبث وليد التفاوت. إنه يرتفع أمامنا عندما تقف توقعاتنا قاصرة امام الواقع.عاش البير كامو باعتباره احد احفاد سيزيف في عالم غير مبال باعمال البشر وافعالهم. ان الحياة لا معقولة، لكنها في نفس الوقت ذات قيمة لا تقدر.

عندما قدم البير كامو كتابه " اسطورة سيزيف " الى دار غاليمار، وكانت الاكثر شهرة في فرنسا، وجد الروائي اندريه مالرو ان موضوعة الانتحار التي يتناولها كامو في بداية الكتاب مجهدة فكتب اليه:" قد تكون البداية متعثرة بعض الشيء "، وكان رد كامو انه لا يتبنى مفهوم الانتحار، بل يتناول الوضع العبثي الذي يعيش فيه الانسان الذي يجد نفسه في مواجهة " صمت العالم المطبق واللامعقول "، ان العبث يسمم حياتنا اليومية ويضفي على كل تجاربنا قدراً من اللاجدوى:" أن ما يهمني هو ليس اكتشاف (السمة العبثية للحياة)، بل ناتج وقواعد العمل التي يجب ان نستخلصها منها " - اسطورة سيزيف ترجمة انيس زكي حسن -.

قبل الشروع بكتابة " اسطورة سيزيف " كان كامو يعمل محررا ادبيا في احدى الصحف المستقلة، آنذاك لفت انتباهه كتابان صدر حديثا لجان بول سارتر، رواية بعنوان " الغثيان " ومجموعة قصصية بعنوان " الجدار " وقد وصف سارتر في هذين العملين عالما غارقا في الصدفة، عالم عالق في تيار من الاحداث التي تفتقر لأي مبرر. لهذا يغالبنا شعور بالغثيان بعد أن اصبح العالم غريبا وموحشا وعبثيا. يكتب كامو في يومياته ان الغثيان كانت قريبة جدا لشيء في داخله، ويعترف في مقالته ان " سارتر استطاع أن يصور الحياة اليومية تصويرا صادقا واقعيا ملموسا حتى ان شفافيته لا تدع مجالاً للامل. وان كل تأمل من تأملات سارتر عن الزمان صوره بوضوح وقوة تفكير الفلاسفة ابتداء من كيركغارد وحتى هايدغر " – كامي وسارتر ترجمة شوقي جلال -.

يرفض البير كامو أن يوضع في خانة الفلاسفة، ويصر على ان كتاباته لا يحكمها نظام فلسفي، فقد كان يريد ان يحتفظ بلقب رجل المسرح وكاتب الروايات والجملة وظل يردد:" إن أردت أن تصبح فيلسوفاً، اكتب روايات "، فالروائيين العظماء فلاسفة عظماء، واحيانا يجد نفسه كاتب مقالات مثل مونتاني وقد شرح ذلك في مقدمة كتاب " اسطورة سيزيف " معتبرا أن هذه الصفحات:" تعالج الحساسية العبثية التي يمكن العثور عليها بشكل متفرق، على امتداد القرن، وليس فلسفة العبث التي لم يعرفها عصرنا هذا ".بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ستؤدي التغيرات الجديدة في العالم الى أان يتراجع العبث عند كامو امام فكرة جديدة اسمها التمرد، فاصدر كتابه الشهير " الانسان المتمرد " عام 1951 وفيه تحول من التركيز على عبث سيزيف الى الوقوف ضد القتل باسم الثورة والحرية معلنا أننا نعيش " عصر القتل العمد والجريمة الكاملة.. ولن نعرف شيئا حتى نعرف ما إذا كان لدينا الحق في قتل اخواننا البشر، أو الحق في السماح بقتلهم " – الانسان المتمرد ترجمة نهاد رضا -.

عاش البير كامو المولود في السابع من تشرين الثاني عام 1913 في حي للطبقة العاملة في مدينة موندوفي التابعة لمديرية القسطنطينية بالجزائر طفولة شديد القسوة ، لا يتذكر صورة والده لوسيان كامو الذي عاش فقيرا يتنقل بين المزارع يعمل اجيرا، وعندما تزوج اختار امرأ ة " كاترين سانتيز " من أصول إسبانية تعمل خادمة في البيوت، بعد عام من ولادة ابنهما الثاني " كامو " يُساق الاب للخدمة العسكرية، وبعد اشهر تستدعى والدة كامو الى المستشفى حيث يتم اخبارها أن زوجها قتلته شظية قذيفة . وجدت العائلة الصغيرة نفسها من دون مال، فقررت الأم التي كانت نصف صماء لا تعرف القراءة والكتابة مغادرة مدينة مندوفي التي ولِد فيها كامو إلى العاصمة الجزائر للعيش في شقة صغيرة، مع والدة زوجها وشقيقه الذي كان يعاني من شلل في الأطراف. في السادسة من عمره يدخل كامو المدرسة الابتدائية، وفي نفس الوقت يلتحق للعمل صبي عند احد النجارين، في المرحلة المتوسطة يلفت نظر أستاذه لوي جرمان الذي اقترح له مِنحةً تُعينه على اكمال دراسته. في عام 1930 وبينما كان لا يزال طالبا بالمدرسة العليا اصيب بالتدرن، فاضطر الى ترك المدرسة فترة طويلة من العام والانتقال الى بيت عمه وكان جزارًا ذا اهتمامات أدبية معجبا بفولتير وينادي بالافكار الفوضوية، عام ۱۹۳۳ ينضم إلى حركة المناهضة للفاشستية التي أسسها هنري باربوس ورومان رولان. عام ۱۹۳٤ يتزوج لكن الزواج ينتهي بالفشل بعد نحو عام واحد. وفي أواخر عام ١٩٣٤ ينضم إلى الحزب الشيوعي.. درس الفلسفة في جامعة الجزائر، وفي نفس الوقت كان يعمل في محل لبيع قطع غيار السيارات، العام 1935 يؤسس فرقة مسرحية كتب لها بعض المسرحيات القصيرة وفي عام ۱۹۳۸ وضع مسرحيته الأولى كاليغولا وباشر بوضع مخطط لروايته " الغريب " عام ١٩٣٩ أصدر كتابه (أعراس)، يعمل مدرسا في احدى المدارس الخاصة في وهران، تصدر عام 1942 روايته الغريب ثم كتابه " اسطورة سيزيف "، وقرب نهاية العام قابل فرانسيس كامي في مدينة ليون وتزوجا، عام 1943 يلتحق بالمقاومة الفرنسية ليصبح مشرفا على صحيفة المقاومة.في نهاية عام 1943 ينتقل الى باريس يبدأ العمل لدى دار غاليمار، يلتقي جان بول سارتر للمرة الاولى عام 1943 عند افتتاح مسرحية سارتر الشهيرة "الذباب"، تقول سيمون دي بوفوار:" اقبل علينا شاب وسيم وقدم نفسه: انا البير كامو، كنت قد قرات له باعجاب روايته الغريب، وتضيف بوفوار:" لقد وجدنا فيه شخصا جديرا بالحب " – قوة العمر ترجمة محمد فطومي -

عام ١٩٤٧ ينشر روايته " الطاعون " يتعرض الى هجوم من مجلة " الازمنة الحديثة " بعد نشر كتابه " الانسان المتمرد، وينشب النزاع الشهير بينه وبين جان بول سارتر لتحدث القطيعة بينهما. بسبب مرضه والاوضاع السياسية يقرر العزلة والصمت لمدة اعوام ، ولم يخرج عن هذا الصمت إلا بعد ان نشر روايته " السقطة" عام 1956، يهاجمه داء السل القديم من جديد .. يواصل العمل على روايته " الانسان الاول " التي لم يقدر لها الظهور اثناء حياته، في يوم الإثنين الرابع من كانون الثاني عام ١٩٦٠، وفي الساعة الثانية والربع ظهرًا، اصطدمَت سيارة تسير في سرعةٍ مجنونةٍ على طريق سانس باريس بشجرة اصطداما مُروِعا. وبين حُطام العربة عثَر الناس على امرأتَين في حالة إغماء، وسائقٍ جريحٍ مات بعد الحادث بأربعة أيام وكان هو الناشر ميشيل غاليمار ومسافرٍ رابعٍ مات للحظته، كانت عيناه قد برزَتا قليلا، والدم تناثَر على رقبته، وعلى وجهه أماراتُ الهدوء والدهشة. وحين فتشوا جيوبه وجدوا فيها تذكرة سفر بالسكة الحديدية لم يستعملها، كما قرؤوا في بطاقته هذه الكلمات: " ألبير كامي.. كاتب "

يكتب سارتر في رثاء كامو:" على من أحبوه أن يدركوا أن في أعماق كامو عبثية لا تحتمل. وعليهم كذلك معرفة أن أعماله التي تشوهت بالموت، هي في الحقيقة أعماله المكتملة".ويصر سارتر على وضع كامو في خانة الفلسفة الوجودية مؤكدا أن كامو قد شرع في عمل فلسفي وجودي مهم، وفي مراجعته لرواية الغريب يضعه الى جانب نيتشه.

في حوار اجري معه عام 1945، اكد البير كامو أن اسطورة سيزيف موجهة ضد من يسمون بفلاسفة الوجودية، معلنا بصراحة: أنا لست وجوديًا. وسخر من الذين يربطون بين اسمه واسم جان بول سارتر قائلاً:" أنا وسارتر نتفاجأ دائما برؤية اسمينا مرتبطين. لقد فكرنا في نشر بيان قصير يعلن فيه الموقعون أدناه أنه ليس لديهم أي شيء مشترك مع بعضهم البعض ويرفضون تحمل مسؤولية الديون التي قد يتكبدونها على التوالي. لقد نشرنا أنا وسارتر كتبنا دون استثناء قبل أن نلتقي. عندما تعرفنا على بعضنا البعض، كان ذلك لندرك مدى اختلافنا. سارتر وجودي، وكتاب الأفكار الوحيد الذي نشرته، أسطورة سيزيف، كان موجهًا ضد ما يسمى بالفلاسفة الوجوديين". ان كتاب اسطورة سيزيف كتبه كامو ضد بعض فلاسفة الوجودية مثل كيركغارد وكالرل ياسبرز، ورغم انه يعترف أنهم جميعًا يشهدون بطريقة ما على عبثية الحالة الإنسانية. لكنه يرفض ما يعتبره هروبهم المطلق وعدم عقلانيتهم، مدعيا أنهم "يؤلهون ما يسحقهم ويجدون سببا للأمل في ما يفقرهم. ذلك الأمل القسري الذي يتعلق بفكرة الدين التي يرفضها كامو.

وعلى الرغم من أن اسم كامو يرتبط دائما بسارتر، الذي أصبح اسمه مرادفا للوجودية، إلا أنهما كانا شخصين مختلفين. وصف سارتر الإنسان بأنه "عاطفة عديمة الفائدة". وصف كامو نفسه بأنه رجل العاطفة.تسعى الفلسفة الوجودية الى البحث عن معنى الحياة، فيما يصر كامو على ان الفلسفة يجب ان تعترف بان الحياة بطبيعتها لا معنى لها.

في خطابه امام لجنة جائزة نوبل يرفض كامو ان يوصف بالكاتب العدمي ويعلن ان على الكاتب:" أن يوفق بين فن يدعو الى الحياة وبين فن ترتعيه النكبات، كي يولدوا مرة ثانية ويقاتلوا بعدها بوجه مكشوف ضد بذرة الموت التي احتواها المؤلف في عصرنا ".

عاش كامو مثل سيزيف يعلن " ان الحياة لا معنى لها.. انه يسأل الوجود فلا يجيب، يفتش في ارجائه عن الوحدة ويطرح السؤال الذي رافقه في معظم كتاباته:" ماذا ستكون الحياة إذا كنا نعتقد انها عبثية، ولا معنى لها ؟، يؤمن كامو ان اهم مشكلة فلسفية هي: ما معنى الوجود ؟ هذا السؤال الذي طرحه في كتبه ورواياته ومسرحياته. لقد ظن كامو ان الحياة لا معنى لها، وانه لا يوجد شيء يمكن ان يكون مصدرا للمعنى، وبالتالي هنلك شيء عبثي للغاية حول السعي الانساني لايجاد المعتى.. ولهذا فان فلسفة كامو تتخذ من العبثية نقطة بداية لها، حيث نكتشف كيف يشكل النشاط البشري عالماً ذا معنى من الوجود الوحشي الذي لا معنى له. لقد بنى وجهة نظره على أساس الشعور بأن العبثية هي أمر لا يمكن تجاوزه في التجربة الإنسانية، إلا ان كامو يميل بشكل خاص الى وجودية هايدغر التي تبين ان الانسان ترك مهجورا في هذا العالم، لكن حين يقول هايدغر ان على الانسان أن يصنع معنى لنفسه، يرد سارتر ساخرا بان هذا العالم " سخيف "، فالعبث يلفي بظلاله على كل ما نقوم به، وحتى لو اخترنا أن نعيش كما لو أن الحياة لها معنى، فأن العبث سيستمر في عقولنا باعتباره شكا مزعجا. لكن برغم ذلك يجب ان نقوم بكل ما يمكننا القيام به في الحياة. علينا ان بالخلفية العبثية للوجود، كي ننتصر على اليأس:" سجب على المرء أن يتخيل سيزيف سعيداً". كان كامو ملتزما بجدية في الحياة العادية. قال أنه راى فلسفته " دعوة واضحة للعيش والابداع في خضم الصحراء " وفي من العبث، يصر كامو ان علينا أن " نصل الى درجة أكبر من التفاهم والصدق بين الناس "

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

بقلم: فيرونيكا مينالدي

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

قصة ابن طفيل عن الرجل الذي حزن على الغزالة التي ربته، ساعدتني على تقدير التواصل بين كل الأشياء.

توفيت والدتي بمرض السرطان في نوفمبر 2020، وبقدر ما قد يبدو الأمر مبتذلاً، لا يمر يوم دون أن أفكر فيها وأفتقدها. لقد أثار موتها حاجة في داخلي لمناقشة الموت والحزن. ومن خلال الحديث عنها، والتفكير فيها، ومواجهتها، ودعوة الآخرين للانضمام إلي في هذه المناقشات، تمكنت من بناء طرق للمضي قدمًا.3491 ابن طفيل

رغم أن تفاصيل خسارتي تخصني، إلا أنني أعلم أنني لست وحدي الذي يعرف الحزن. ربما يعرف الكثير منكم الذين يقرأون هذا أيضًا ثقله. باعتباري باحثًا في العصور الوسطى وباحثًا في الأدب، ليس من المستغرب أن أجد الراحة والعزاء في القصص والكلمة المكتوبة. أحد من النصوص التي يتردد صداها بشكل خاص مع رد فعلي على الحزن  الحكاية الفلسفية للعالم الأندلسي ابن طفيل في القرن الثاني عشر، "حي بن يقظان" ومن بين التفاصيل الأخرى، إنها قصة تعليم ذاتي يفكر فيها الشخصية الرئيسية في مكانه في الكون. هذه الرحلة الذاتية كانت مدفوعة بوفاة الأم الوحيدة التي عرفها على الإطلاق، وهي الغزالة التي ربته منذ الصغر. هذه الخسارة التي غيرت الحياة هي التي دفعت حي إلى استكشاف الفجوة بين الجسد والروح - أو المادي وغير المادي. إنه يتأمل كيف يجب أن تكون الروح جزءًا من طاقة خلق أعظم توحد كل شيء في الطبيعة، ويكتشف أخيرًا "الله" بدون أي نص موحي.

في "حي " رأيت جوانب من نفسي: شخص دفعه فقدان أمه إلى التشكيك في الوجود وإيجاد طريقة لتحمل العبء. هذه القصة لا "تحل" الحزن، ولا ينبغي لنا أن نريد أي شيء، لكنها تثير أسئلة وتأملات يمكن أن تساعدنا في التغلب على الضيق. ماذا يمكننا أن نفعل عندما نضطر لمواجهة الموت؟ هل نستمر في تجاهلها أم أننا ندمجها في فهمنا، وربما نخلق تقديرًا أكثر دقة لكل من زوال الحياة وطبيعتها المترابطة؟ أجد أن هذا النشاط بالذات هو الذي يمكن أن يزودنا بالأدوات اللازمة لمواصلة العيش في عالم لم يعد يضم أحبائنا جسديًا كما عرفناهم من قبل.

انتشر كتاب ابن طفيل "حي بن يقظان" على نطاق واسع في شمال إفريقيا وأيبيريا بلغته العربية الأصلية حتى القرن الرابع عشر عندما تُرجم إلى العبرية. وبحلول القرن السابع عشر، تمت ترجمته إلى اللاتينية والإنجليزية، وله العديد من الطبعات الحديثة اليوم. وبغض النظر عن اللغة، فإن الرسالة الأساسية هي كيف يمكن للمرء، من خلال الاستبطان، دون تدخل الأعراف الاجتماعية أو الدين، أن يصل إلى فهم باطني للكون. كعمل، فهو فلسفي إلى حد كبير، ولكنه قوي بشكل خاص بالنظر إلى علاقة الشخصية الرئيسية بالحزن والحب. نعم، إن رغبة حي في فهم دوره في الكون تنبع من وفاة أمه الغزالة. قامت بتربيته وبعد سنوات، بعد أن رأى جسدها الهامد، حاول إصلاحها. يفتش جسدها بحثًا عن انسداد لكنه لا يرى أي ضرر جسدي. ويخلص إلى أن هناك شيئًا مفقودًا وأن "التي رعته وأظهرت له الكثير من اللطف لا يمكن أن تكون إلا الكائن الذي رحل" وأن جسدها كان "مجرد أداة لهذا الكائن". تغير شكلها.

لقد فتح موتها عقله على تصور الوجود خارج العالم المادي ودفعه إلى رؤية الطبيعة الدورية للطاقة في العالم المتغير باستمرار. ومن خلال فهم هذه الأنماط، توصل "حي"  إلى إدراك أن "جميع الأشياء المادية، على الرغم من تنوعها في بعض النواحي، هي واحدة في الواقع". إذا كان كل شيء واحدًا، فلن يضيع شيء، بل يتغير ببساطة. وبتطبيق ذلك على الموت، كان هذا يعني أن الذين ماتوا «قد خلعوا شكلاً ولبسوا شكلاً آخر». وهذا يعني أن والدته، وبالتالي أي شخص، لا يموت حقًا بمعنى التوقف عن الوجود، بل يتخذ بدلاً من ذلك شكلاً جديدًا، متحررًا من قيود أي كيان مادي.3492 ابن طفيل

بالنسبة لي، كان هذا النوع من الاستنتاجات مريحًا جدًا. خسارتي تنبع من المظهر المادي للطاقة التي غذت أمي. سأشتاق دائمًا إلى الشكل الذي كانت تتمتع به ذات يوم، إلى طريقة الوجود هذه، لكن رؤية غير المادي كجزء من الطاقة الكونية الأكبر يهدئ كثيرًا من قلقي. ليس الأمر أنها تطفو الآن، كما كانت، بل أن الطاقة التي صنعتها تبقى قائمة، حتى مع فقدان شكلها المادي.

على الرغم من أنه مكتوب في سياق إسلامي، فإن الكثير مما يدركه حي من خلال الملاحظة والتأمل يعكس العديد من طرق التفكير الصوفية والأفلاطونية الحديثة والصوفية والمحكمية. تشترك هذه الأساليب المختلفة في موضوع مشترك وهو الوحدة. وبالفعل، فإن حي قادر على الوصول إلى بعض الاستنتاجات نفسها دون أي عقيدة رسمية. هذه العالمية هي التي لفتت انتباهي أكثر من غيرها. أحد استنتاجاته هو أن كل شيء مرتبط كونيًا من خلال الطاقة، وأن هذه الوحدة مدعومة بالحب - وهو أمر تم تعزيزه في الصفحات التمهيدية للقصة. في الواقع، تردد العديد من الرسائل السحرية في ذلك الوقت قوة الحب. يمكن أن تشكل هذه الأطروحة الدورية جزءًا من أنماط المعرفة الأكثر مؤسسية، ولكنها أيضًا في متناولنا بطبيعتها دون تعليمات مباشرة من خلال الملاحظة، كما يوضح حي. ضمن هذا الخط من التفكير، الخبر السار هو أن الحب، كشيء غير مادي، يبقى. علاوة على ذلك، فإن الطاقة التي تغذي الأحباب لا تزال باقية كجزء من الكون، وتتجلى بشكل مختلف. كل شيء متماسك معًا. في حين أن مادية الوجود تخلق الاختلاف والفردية، هناك راحة في رؤية الترابط بين كل الأشياء.

لا يتعين علينا أن نصبح متصوفين جامحين مثل حي ونعزل أنفسنا للاستفادة من التعرف على الطبقة المضافة من الوحدة داخل الاختلاف. في العديد من المجتمعات الحديثة، نادرًا ما تتم مناقشة الموت والحزن والخسارة بشكل علني. في مثل هذه المواقف، قد يكون من النادر جدًا مواجهة الميل إلى التفكير في كيفية تدمير أي شيء فعليًا، بل تحوله مع ترابطه، - في الواقع، شيء لا يواجهه كثير من الناس أبدًا - ولكنه يمكن أن يوفر أيضًا راحة ميتافيزيقية هائلة.

من الناحية العملية، ما يفعله هذا الإطار بالنسبة لي فيما يتعلق بوفاة أمي هو أنه يسمح لي بالمضي قدمًا معها في تغيير كيفية فهمي لما تعنيه "هي". أنا الآن انحرف قليلاً مع نهج أكثر علمانية تجاه اكتشافات حي وتعليق ابن طفيل على طرق معرفة "الله" أو الكون، لكنني أعتقد أن مثل هذه التأملات وغيرها من العقليات غير المزدوجة وحدة الوجود/وحدة الوجود هي ضرورية للمعرفة. احتضان الحزن في عالم غالبًا ما يخنق مثل هذه المناقشات باعتبارها من المحرمات. تمامًا كما في حالة "حي"، يمكن للخسارة العميقة أن تثير أسئلة وجودية لديها القدرة على دفع محادثات الموت والحزن إلى الأمام تدريجيًا، على الرغم من أنها أصبحت على الهامش.

طالما أنني أتماثل مع ذاتي المادية الفردية، فسوف أشتاق دائمًا لحضور أمى الجسدي كما عرفتها. إن الطبيعة الدورية للحياة والموت، وتحول الطاقات غير المادية التي تمنح الحياة للمادة، تساعدني على رؤية ما هو أبعد من نفسي، صورة للكون حقًا، مما يساعدني على التخلص ببطء من الخوف من الموت. ما زال هناك الكثير من الجهود الجارية. حتى الوعي العابر بزمنية كل ذلك يساعدني على الاستمرار في رؤيته في مشاهد الطبيعة الجميلة مثل شروق الشمس، أو انعكاس أشعة الشمس على أوراق الخريف بينما تطير الطيور، أو المراحل المختلفة للقمر في سماء الليل. هناك طاقة في كل مكان حولنا وطاقة في داخلنا. سواء واجهنا الحزن أم لا، فإن بدء هذه المحادثات يمكن أن يساعدنا في رسم المسار الذي سنسير فيه جميعًا حتمًا.

***

..............................

فيرونيكا مينالدي/ Veronica Menaldiis: أستاذة مساعدة للغة الإسبانية في جامعة ميسيسيبي. وهي مؤلفة كتاب سحر الحب والتحكم في الأدب الإيبيري ما قبل الحديث (2021). ومن استنتاجاته أن كل شيء متصل كونيًا من خلال الطاقة، وأن هذه الوحدة مدعومة بالحب.

تمهيد: صورتان تحضران كلما ورد ذكر الأديب والكاتب والصحافي الساخر والمتعدّد الانشغالات اللبناني جورج جرداق هما: الإمام علي وأم كلثوم، ولعلّ من يطّلع على سيرته يجد الجواب على هذه المفارقة، فبقدر شهرة موسوعته عن الإمام علي وذيوع صيتها، فإن أغنية أم كلثوم لقصيدة "هذه ليلتي" لا تقلّ شهرةً إن لم تزد عنها، خصوصًا وأن عشرات الملايين كانوا يستمعون إليها. وهكذا طغت هاتين الصورتين على اسمه، وربما جاءت على حساب العديد من الكتب التي ألفها وعشرات الأغاني التي كتبها لوديع الصافي وماجدة الرومي وغيرها، فضلًا عن عمله وتولّعه بإذاعة "صوت لبنان" التي كان يعتبرها بيته الثاني ويطلّ من خلالها على الناس في برنامجه المعمّر "على طريقتي" لمدة زادت عن 15 عامًا .

كنت قد تعرّفت على جورج جرداق (1931 - 2014) في النصف الثاني من تسعينيات القرن المنصرم، وكانت المحامية الصديقة هدى الخطيب شلق قد نظّمت هذا اللقاء، وتبادلتُ معه الرأي واستأنست بوجهات نظره وأفكاره بخصوص العديد من القضايا الفكرية والثقافية وشؤون الأمّة العربية بعامّة. وحين عرف موقع عائلتي الديني والروحي وخدمتها في حضرة الإمام علي لأكثر من خمسة قرون من الزمن بموجب ثلاث فرامين سلطانية من الدولة العثمانية (سرخدمة أي رؤساء الخدم / المرشدون الدينيون)، انفتحت أساريره ففاض في حديثه عن الإمام علي وكان ذلك جسر تواصل وصداقة .

سألته كيف اهتدى إلى الإمام علي؟ فروى لي ما دار بينه وبين شقيقه فؤاد الذي أهداه كتاب "نهج البلاغة" وقال له: ادرسه واحفظ ما تستطيع منه. يقول جرداق ما إن استلمت الكتاب حتى استلمني، فكنت أحيانًا أهرب من المدرسة إلى كنف الطبيعة لأجلس تحت شجرة في قريتي "مرجعيون" بقضاء النبطية في الجنوب اللبناني، لأستغرق في قراءة وحفظ نصوص من هذا السِفر الشائق والممتع والعميق والمزدان بالمعرفة والحكمة.

لم يكن ذلك الكتاب الذي طبع حياة جرداق هو الوحيد، بل كان يتأبّط معه كتاب "مجمّع البحرين" للشيخ ناصيف اليازجي الذي تتلمذ فيه على فقه اللغة العربية، كما تأثّر بأدباء وكتاب كبار مثل رئيف خوري وفؤاد افرام البستاني مؤسس الجامعة اللبنانية وميشال فريد غريب أستاذ الأدب الفرنسي، إضافة إلى "ديوان المتنبي" الذي لم يفارقه فحفظ الكثير من شعره، وغالبًا ما كان يستشهد بالأبيات الآتية:

فُؤادٌ ما تُسَلّيهِ المُدامُ

وَعُمرٌ مِثلُ ما تَهَبُ اللِئامُ

*

وَدَهرٌ ناسُهُ ناسٌ صِغارٌ

وَإِن كانَت لَهُم جُثَثٌ ضِخامُ

وتعدّدت لقاءاتي معه عند إقامتي في لبنان بعد العام 2003، وكان آخر لقاء بيننا في العام 2010، حيث أهديته كتابي عن "الجواهري جدل الشعر والحياة" الذي صدر عن دار الآداب، وبعد أن تصفّحه قال لي سألتهمه التهامًا، مبديًا إعجابه الكبير بالجواهري. وكم كان حزينًا في آخر لقاء لي معه لما حلّ بالعراق وأهله، خصوصًا بُعيد صعود الموجة الطائفية المقترنة بالاحتلال الأمريكي وتفشّي النزعات التكفيرية وشيوع مظاهر جديدة من الإرهاب ارتباطًا بتنظيمات القاعدة حينها.

مقهى الحاج داوود

أتذكّر أنني في أحد المرات دعوته على العشاء وكانت برفقته مساعدته الحسناء في مطعم "مقهى الحاج داوود " الشهير في عين المريسة في بيروت والتي تغيّر اسمه إلى "الدروندي" وهو المقهى المشهور بتقديم وجبات السمك اللذيذ، الذي كنت قد تعرّفت عليه في أوائل الستينيات مع أخوالي جليل ورؤوف وناصر شعبان، وقد فاجأني بأنه نباتي وقال أنه يستغرب ممن يأكلون لحوم الحيوانات وكيف تعطيهم أنفسهم فعل ذلك، وكان العديد من روّاد المطعم يختلسون النظر إليه وجاءت إحدى الفتيات الجميلات لتستأذن منه بالتقاط صورة معه وبعد موافقته دعت أحد المصورين الجوالين ليقوم بذلك، وقد استدعى مساعدته ليلتقط معها ومع الفتاة التي اقتحمت مائدتنا صورة أخرى.

مدرسة العشق

قلت له هل أنت عاشقٌ؟ قال العشق تولّه وهيام وصبابة، فأنا أعيش بين عشقي وكتبي ولا أستطيع التفريق بينهما، فهما متلازمان ومترابطان عضويًا، وأضاف: العشق حالة إنسانية من لم يجرّبها فهو لم يتعرّف بعد على طعم الحياة.

وهل المرأة ملهمتك؟ سألته، فقال المرأة ليست بالضرورة ملهمة للإبداع، فليس في أشعار شكسبير أي أثر لها ولا في سمفونيات بيتهوفن أو منحوتات مايكل أنجلو أو غيرهم من كبار المبدعين. قلت له أين تضع كتابك الأول "فاغنر والمرأة"، قال لي اعتبرته سيرة قصصية في بدايات كتاباتي انطلاقًا من رؤية وحدة الفن بجميع جوانبه وأشكاله. وبالمناسبة فقد عرفت من خلال متابعاتي وقراءاتي أن طه حسين أدرج هذا الكتاب ضمن لائحة الكتب المقرّر قراءتها على طلبة الدكتوراه في الأدب بدقّة وإمعان. وكانت كتبه قد تُرجمت إلى العديد من اللّغات بينها الألمانية والفرنسية والإسبانية والفارسية والأوردية.

ربما كان العشق الحقيقي لجرداق قد تملّكه بحبّ الإمام علي، بما فيه من فضائل إنسانية ومناقب شخصية ومعان سامية مثلت بالنسبة له شعاعًا للقيم ونبراسًا للمثل، فقد وقف معه عند دين الرحمة والعدالة والإنسانية والحياة وهو ما وجده بصورته الأصفى والأنقى والأبهى.

خماسيّة جرداق

وكنت قد ذكرت في أكثر من مناسبة أنني كنت مهتماً في فترة الفتوّة بمتابعة سيرة الإمام علي، مثلما هو اهتمامي بالأفكار اليسارية والتقدمية الحديثة، واطلعت حينها على "نهج البلاغة" وقرأت فصولاً منه، ولكن ما استوقفني على نحو لافت للتفكّر والتأمل والاستشراف ما كتبه جورج جرداق في موسوعته الخماسية، وذلك في أواخر ستينيات القرن الماضي، وكانت بعنوان "الإمام علي ... صوت العدالة الإنسانية"، وهي: "علي وحقوق الإنسان" و"علي والثورة الفرنسية" و"علي وسقراط" و"علي وعصره" و"علي والقومية العربية" وأضاف إليها مؤلفاً سادساً بعنوان "روائع نهج البلاغة".

وكانت حين صدورها حدثًا كبيرًا شديد الرقي منهجاً وأسلوباً وتوجّهاً، وإن اختلفت بعض وجهات النظر بشأنها، خصوصًا مقاربتها لعدد من فلاسفة الثورة الفرنسية الكبار مثل: روسو ومونتسكيو وفولتير، والفلسفة عمومًا ابتداءً من سقراط أبو الفلاسفة، ناهيك عن روح العصر واستلهاماته في تأكيد السياق التاريخي، وتسليط ضوء على اعتزاز الإمام علي بأرومته وانتمائه ولغته، ناهيك عن بعض "جواهره" التي وردت في نهج البلاغة.

والشيء بالشيء يُذكر فأودّ هنا أن أشير إلى ثلاث كتب مرجعية إشكالية مهمة تناولت فصولًا من التاريخ الإسلامي، أولهما – كتاب "اليسار واليمين في الإسلام" لأحمد عباس صالح الذي قرأت حلقات منه نشرت في مجلة الكاتب (المصرية) التي كان يرأس التحرير فيها، وذلك في أواسط ستينيات القرن الماضي، ثم صدرت لاحقًا بكتاب بالعنوان ذاته، وثانيهما – كتاب: "علي إمام المتقين" لعبد الرحمن الشرقاوي الذي قرأته في العام 1986، وثالثهما – كتاب "علي: سلطة الحق" لمؤلفة المغدور عزيز السيد جاسم (1987).

قلت لجرداق لقد اتّهمتَ بالشعوبية وهو ما قرأته، قال ولذلك كتبت "علي والقومية العربية" وهي مرافعة للدفاع عنه وعني، وهي دعوة للاعتراف بالآخر خارج دوائر العرقية والفئوية والطوائفية والدينية والأيديولوجية، فقد امتاز علي بصفات عربية وإنسانية أصيلة كحب الخير ومساعدة المظلوم والعدل والإنصاف والمروءة والشجاعة والحكمة.

وسألته عن من يحاول إطفاء صورة الصحابة الآخرين بإضفاء صفات أقرب إلى الربوبية على الإمام علي، فقال الإمام علي بشر مثل سائر خلق الله، لكن قدرته في خلق وعي عابر لما هو قائم تُعطيه بعض المزايا، وهي التي تجعل منه إنسانًا كونيًا، فحديثه عن "الفقر في الوطن غربة" يتمثّل في رؤية مستقبلية اجتماعية عميقة. كما أن في تسامحه ردّ على أولئك الذين يتّهمون العرب والمسلمين بأنهم غلاظ القلوب وقساة ومتوحشون وبرابرة ودينهم يحضّ على ذلك، فحين ضربه بالسيف عبد الرحمن بن ملجم قال كلمته الشهيرة آنذاك: إن عشت فأمره لي، وإن متّ فضربة بضربة، وهو ما دعاه لاستذكار السيد المسيح عيسى بن مريم الذي تمتم بعبارات الاستغفار والترحّم لمن يعلّقونه على الصليب قبل صعوده إلى السماء.

وقد تناول المؤرخ اللبناني الكبير حسن الأمين كتاب صديقه جورج جرداق عن الإمام علي بقوله أنه وضع جرداق في قمة أدباء العربية وهو بيان متدفق أصيل كشف عن كنوز خبيئة.

وحين سألتني قناة الفضائية العراقية لماذا لم يكتب جرداق عن الحسين؟ كان جوابي كما سمعته منه، أن الحسين كان على خطى أبيه في الدفاع عن الحق والعدل، وهو يمثل رمزية جهادية شجاعة، وبما معناه "هذا الشبل من ذاك الأسد"، فعلي كان مشكاة للفلسفة والحكمة والأخلاق. وإذا كان قد ترك لنا تراثًا زاخرًا بالفكر وفلسفة الحكم وزهد الحاكم وعدله وشجاعته، فإن الإمام الحسين ترك لنا تراثًا غنيًا في مواجهة الظلم والدفاع عن الحق والعدل.

"هذه ليلتي"

سألته عن قصيدة هذه ليلتي التي تُعدّ إحدى تحفه الرائعة والتي يقول فيها:

هذه ليلتي وَحُلْمُ حَيَاِتي

بَينَ مَاضٍ من الزّمانِ وَآتِ

*

الهَوَى أَنَتَ كُلُّه والأمَانِي 

فَاملأ الكأسَ بِالغَرامِ وَهَاتِ

*

بَعدَ حِينٍ يُبدّلُ الحُبُّ دَارَا

وَالعَصَافِيرُ تَهجُرُ الأوكَارَا

*

وَدِيارٌ كَانَت قَدِيمًا دِيارَا  

سَتَرَانَا، كَمَا نَرَاهَا، قِفَارَا

*

سَوفَ تَلهُو بِنا الحَياةُ وتَسخَر

فَتَعَالَ أُحِبُّكَ الآنَ أكثَر

قال لي كانت أم كلثوم قد أعلنت في العام 1968 عن رغبتها في أن تغنّي قصيدة لشاعر من كلّ بلد عربي، وأنها اختارت قصيدة لشاعر لبناني، لكنها لم تفصح عن الاسم، وكنت أعلم ما دار بين الموسيقار محمد عبد الوهّاب وبينها، فقد أبلغني بذلك هاتفيًا، وحين زار محمد عبد الوهاب لبنان وأقام في فندق شبرد في مصيف بحمدون التقيت به، وطلب منّي إعادة قراءة القصيدة له، ثم التقينا في أوتيل أمبسادور مع فريد الأطرش ونجاة الصغيرة وإحسان عبد القدّوس، فأخذني عبد الوهاب إلى الشرفة المطلة على وادي لامارتين لأقرأ عليه مجدّدًا بعض أبيات القصيدة، فقال هذا ما أريده لأم كلثوم، وفرحت كثيرًا وكنت تعرفت عليها العام 1965، وقد لحّن محمد عبد الوهّاب القصيدة وغنّتها أم كلثوم. ولقت استحسانًا وحماسةً كبيرةً من الجمهور الذي اعتبرها من أهم أغانيها.

وسبق ذلك اللقاء أن اجتمع عبد الوهاب وأم كلثوم وجرداق في القاهرة في منزل أم كلثوم في شارع أبو الفدا (المطل على النيل) وأبدت أم كلثوم إعجابها بالقصيدة ذات الأجراس الموسيقية كما سمّتها، ووصفها عبد الوهّاب بالسهل الممتنع وكان كثير الإعجاب بجورج جرداق.

قلت له ماذا كان شعورك وأنت تسمع القصيدة مغنّاة، فأجاب أنها مثلت ثلاثية رائعة بين الأداء والموسيقى والنص، وكما اعتبرتها الصحافة حينها نتاج لقاء "ثلاث قمم". وقد دُعيت لحضور الحفلة التي ستغنّي بها أم كلثوم في القاهرة على مسرح سينما "قصر النيل"، وحضرت أنا وزوجتي، وقد عادت أم كلثوم وغنّتها في بعلبك العام 1970، وكانت تلك آخر حفلة لها في لبنان، فقد رحلت عن دنيانا في 3 شباط / فبراير 1975.

***

د. عبد الحسين شعبان

 

تناولنا في الحلقة الأولى العقل المتعدد المواهب الراحل (جبرا ابراهيم جبرا) ونخصص هذه الحلقة للدكتور الفلسطيني المولد (علي كمال) فنقول.. ولد الطبيب النفسي الدكتور علي كمال عام 1918 بمدينة عنبتا - الواقعة بضواحي جنين في عائلة مثقفة شكلت لديه اهتماما مبكرا في الأدب اسهم في تنميتها خلال الدراسة الثانوية في القدس زميله الأديب الكبير جبرا ابراهيم جبرا. ويعدّ هو واثنان آخران اشهر ثلاثة اسماء بميدان علم النفس اسهموا بتأسيس وعي سيكولوجي مبكر في العراق بالامراض العقلية والأضطرابات النفسية، الأول هو الطبيب النمساوي هانز هوف.. احد تلاميذ فرويد، هاجر من النمسا الى العراق عام 1938 وعمل استاذا في الكلية الطبية الملكية ببغداد. والثاني هو الدكتور جاك عبود، طبيب يهودي عراقي شهير من اوائل الدارسين في الكلية الطبية الملكية ببغداد ومؤسس مستشفى الشماعية.

اما الثالث فهو الدكتور علي كمال، المتخصص بعلاج الأمراض النفسية والعقلية الذي دعي من بريطانيا عام 1951 للعمل ببغداد، وتم تعيينه بتوصية من تحسين قدري رئيس تشريفات القصر الملكي في الكلية الطبية الملكية، عمل ﻓﻲ ﻣﺮاﻛﺰ ﺗﺪرﻳﺴﻴﺔ وإدارﻳﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ، وعاش وعمل في العراق استاذاً ورئيساً لقسم الصحة النفسية في جامعة بغداد طوال اكثر من خمسة وثلاثين عاما.

اللقاء الأول

كنت طالبا بالمرحلة الأخيرة بقسم علم النفس ودخل الدكتورعلي كمال ليلقي علينا محاضرة في الصحة النفسية استهلها بتبيان اهمية الصحة النفسية ووصل الى القول بأن هناك علاقة بين قوية بين علم النفس والأدب بكل فنونه لا سيما الرواية والشعر. وتوجه لنا نحن الطلبة بالسؤال: من فيكم مهتم بالأدب ويكتب في الصحف؟

كنت جالسا في الخط الأول، التفت الى الوراء فلم ار يدا ترفع، فرفعت يدي.

كنا نحن جيل الستينات نحب القراءة ولدينا شغف كبيرة بالأدب.. وكانت مقهى (البرازيلية) ملتقى المثقفين تشبه تماما مقهى هافانا في دمشق الذي التقيت فيه بالراحل مظفر النواب واجريت معه حوارا.ودار نقاش بيني وبين الدكتور علي.. ادهشني انه ليس طبيبا نفسيا فقط بل وأديبا ايضا. ولحظة انتهى وقت المحاضرة ونهض .. مد يده لي واخذني الى غرفة الأساتذة، وكنت أرى اعجابه بي من تعابير وجهه. فدعاني الى زيارته بمركز الصحة النفسية الذي اسسه بجامعة بغداد وعرض عليّ اوائل السبعينات ان اكون معه عصرا في عيادته بشارع الرشيد وكنت في غاية الفرح أن يخصني بهذا التميّز.

كنت اجلس بنفس المكتب الذي يستقبل فيه المراجعين، واصغي الى طريقة حواره مع المريض ونوعية الأسئلة التي يوجهها له.وكان احيانا يصفن وينظر لوجه المريض عرفت بعدها انها (لغة الجسد) التي يستعين بها في فهم حالة المريض.

ومن المفارقات التي ما تزال مشفرة في الذاكرة، ان مريضا دخل عليه، وبعد ان وجّه له عددا من الأسئلة، نهض ومدّ يده لي وأخذني الى الباب يسألني (شلونك بالدراسة.. ولازم تكمل دراستك) وترك المريض يحكي لحاله.ولأنني لم اطق صبرا، سألته: دكتور.. اشو تركت المراجع يحكي لوحده، فاجاب: (عوفه.. هس يخلص).. والتفت الى المريض وقال له: (ها.. خلصت؟.. يلله تعال).فاخذه الى غرفة اخرى وأنا معهما ومدده على سرير وربط برأسه اسلاكا واعطاه رجة كهربائية وارتجفت بداخلي!. وحين عدنا الى مكتبه.. شرح لي حالة المريض بأنه مصاب بشيزوفرينيا وأن علاجه هو الرجّة الكهربائية التي اعتدت عليها بعد سنوات في عملي بمستشفى الشماعية (الرشاد حاليا).

طبيب نفسي.. غزير الأنتاج بجودة عالية

أغنى الدكتور علي كمال المكتبة العربية بعشرة مجلدات في مجال تخصصه، اهمها:

 النفس، انفعالالتها وأمراضها وعلاجها

 النفس والجنس

 أبواب العقل الموصدة - باب النوم والأحلام

 فصام العقل (الشيزوفرينيا)

 العلاج النفسي قديماً وحديثاً

 باب العبث بالعقل

ويعدّ كتابه (النفس.. أنفعالاتها وأمراضها وعلاجها) اهمها، او لنقل اقربها الى علم النفس والناس بشكل عام لأنه كتب بلغة عربية رشيقة سلسة مفهومة، مهد له بمقولة للشاعر الأنكليزي تي اس اليوت:

(كيف أستطيع أن أفسر لكم؟.. ستفهمون الأقل بعد تفسيرها.. كل ما يمكن أن ارجو أفهامه لكم.. هي الحوادث فقط، وليس الذي حدث). وختمها بتساؤلات ما هو المريض نفسيا؟ من هو المريض عقليا؟ ما هي الأمراض النفسية؟ وما مدى أنتشارها.

ولأنني كنت ادّرس بقسم علم النفس بكلية الآداب جامعة بغداد مادة علم نفس الشخصية، ورغم انني مؤلف كتابا منهجيا عنها فانني كنت ادعو طلبتي الى قراءة كتاب الدكتور علي (النفس.. .)ويركزوا على فصلين الآول الخاص بالأضطرابات النفسية والثاني الخاص بالشخصية.

خدمات علمية جليلة

بدءا من خمسينيات القرن الماضي الى تسعينياته، قدّم الدكتور علي كمال خدمات جليلة في ميدان تخصصه نوجز أهمها بالآتي:

 عالج عشرات الالاف من المرضى العراقيين بكل تفاني واخلاص،

 حث الدولة العراقية على ارسال الخريجين للتخصص في الجامعات العالمية،

 اشرف على تدريب الطلبة والاطباء حديثي التخرج مشجعا اياهم على الانضمام لهذا الاختصاص الذي لايشهد اقبالا كبيرا،

 له الفضل في ارساء نظام الابتعاث الحكومي للاطباء العراقيين من اجل نيل اعلى شهادة الاختصاص والتدريب في المملكة المتحدة، واستطاع بمكانته العلمية والاجتماعية المميزة كسب تاييد الدولة في الاهتمام بالطب النفسي.

 و تأسيسه للوحدة النفسية في مستشفى اليرموك التعليمي عام 1978 بدعم من الرئاسة العراقية انذاك وكانت تعد وحدة نموذجية من حيث المعمار والتنظيم والتجهيز"

يحب الحب والمرأة والفن وألأدب

في تسعينيات القرن الماضي كانت تصدر اشهر مجلة في العراق هي (الف باء) فحرصت على ان اجري حوارا معه نشر في العدد (15 آب 1990) بدأ هكذا:

(ان يعمل انسان لاربعين سنة طبيبا نفسيا فإن هذا وحده يكفي لان يجعله مشهورا فكيف اذا كان ايضا استاذا جامعيا وكاتبا مقروءا.لقد امتلك الدكتور علي كمال وسائل الشهرة الثلاث :العيادة الطبية والجامعة والكتاب فأصبح بين المعدودين الذين يحظون بشهرة واسعة) .

ودار الحوار حول موضوعات متنوعة.. الحب، الفن العراقي، المرأة، الكتابة.. وحين سألته عما يميز نفسه عن الأطباء النفسيين أجاب:

 انا على خلاف الاطباء، وجهت اهتماماتي منذ البداية الى محاولة اقامة حالة من التوازن في الحياة.فلسفتي ان اترك جزءا من مشاكلي للزمن كي يحلها، فترك المشكلة ولو لفترة سيسهل تناولها.

وعن الحب والمرأة .. أجاب:

 انا لم اتوقف عن الحب يوما فالحب لي وبمعانيه وعناصره الواسعة هو بمثابة الوسيلة التي اتحسس بها بالحياة، وأنه يقدّرالمرأة ويحترمها ويشعر ان الاهم في حياة الانسان هي أمه.ولابد ان يكون بين الزوج والزوجة حالة من السكن والايقاع النفسي الواحد والانسجام وأضاف:"تأكد ان 90% من الحياة الزواجية في مجتمعنا لايعيشون حياة مستقرة بسبب انعدام الايقاع النفسي فيها وما عاد الواحد منهما " يسكن للآخر ".

وعن رأيه بالفن كطبيب نفسي.. أجاب:

 الفن تسامي يؤدي الى الطاقة ويحول الطاقة الى نشاطات فيها الكثير من الابداع، والحركة التشكيلية العراقية حركة رائدة سبقت مثيلاتها في الوطن العربي زمنا وفاقتها زخما وابداعا وهو واقع تقر به البلدان العربية .وما يميز المبدع العراقي انه حريص وجاد ومثابر لكن باكورة نتاجه افضل من نهاياتها.

سألته عن مزاجه عند الكتابة فقال:

 " انا لا اعمل شيئا لا ارغب فيه، لا اكتب لمجاملة الكتابة .انا اكتب فقط عندما اشعر برغبة في الكتابة.. اجد فيها ما يشبه عملية الولادة عند المرأة. قد يسبق ذلك ان اقرأ لمدة اسبوع .. اسبوعين ثم اتوقف عن القراءة .. الكتابة هي ان اطاوع شيئا في نفسي .. لا اخط لكلمة واحدة الا ويكون لها معنى وسياق، وليس عندي مزاج خاص كمزاج ديستوفسكي مثلا في ان ترتب له زوجته مكتبه وتخلق له جوا خاصا .. الجو بالنسبة لي داخلي وليس خارجيا "

وفاجأني انه اعتبر القلق فضيلة بين الأدب وعلم النفس!

عليك .. بدستويوفسكي!

كنت أعرف ان الدكتور علي كمال أديبا، تجرأ وهو في بدايات شبابه بنشر مقالة بمجلة (الرسالة) قال فيها ان ترجمات العقاد عن اللغات الأخرى غير دقيقة، وأنه التقى العقاد في القاهرة وصارا اصدقاء. وقابل توفيق الحكيم، وذكر عنه معلومة غير معروفه ان "الحكيم طلب لي فنجان قهوة على حسابه وتلك من النوادر ان تحصل لأي كان لما عرف عنه من البخل!".

وذات يوم أدهشني الدكتور علي كمال لحظة قال لي: تريد تفتهم علم النفس زين وتحبه.. اقرأ روايات دستويفسكي! . فرحت اعيد قراءة رواية (الجريمة والعقاب) وشخصية بطل الرواية (راسكولنكوف) فوجدته يعاني عقدة الشعور بالذنب بعد ارتكابه جريمة القتل. ورحت اٌقرأ ما كتبه فرويد عن دستويفسكي فادهشني انه وصف دستويفسكي بانه معلم كبير في علم النفس وقال بالنص ( لا اكاد انتهي من بحث في مجال النفس الانسانية حتى اجد دستويفسكسي قد تناوله قبلي في مؤلفاته). لكن فرويد اعتبر رواية (الأخوة كارامزوف ) أعظم رواية كتبت على الاطلاق. ورحت اقرا الأبله والمقامر فوجدت ان معظم شخصياته تعاني من امراض نفسية: اكتئاب، قلق، شعور بالذنب.. .وان فرويد اعتمد على روايات دستويفسكي للعديد من الاستنتاجات التي تتعلق بمرض الصرع والقمار الذي اعتبره طريقة نفسية لمعاقبة الذات .

ترى كم من الأطباء النفسيين والأستشاريين العرب والعراقيين يجمع هاتين الصفتين الجميلتين في الدكتور علي كمال: الأهتمام بالأدب، ورعاية الطالب الذي ينبؤه حدسه العلمي بأنه سيكون متميزا؟ فضلا عن اثرائه المكتبة العربية بمؤلفات اصيلة تشيع ثقافة التفاؤل وحب الحياة بين الذين يتملكهم الشعور باليأس.

الذكر الطيب للعالم والطبيب والأديب.. النقي الوفي (علي كمال) الذي قال:

(فلسطين امي والعراق خالتي التي ربتني)

وشكرا لمؤسسة المدى التي استذكرته في امسية جميلة من أمسيات معرض العراق الدولي للكتاب كان لنا شرف التحدث فيها.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

والفلسطنيان هما (الدكتور علي كمال وجبرا ابراهيم جبرا) هاجرا الى العراق وخدماها ..علما وثقافة لأكثر من أربعين سنة. والمفارقة ان كليهما ولدا متقاربين (علي 1918 وجبرا 1919) وتوفيا متقاربين (علي 1996 وجبرا 1994) بعمرين متقاربين ايضا !( 78 و 75) سنة.

سنخصص هذه الحلقة للتعريف بجبرا فنقول انه ولد في بيت لحم بفلسطين (28 آب 1919) وتلقى علومه الابتدائية في "مدرسة السريان الأرثوذكس"، ثم انتقل مع عائلته سنة 1932 إلى مدينة القدس، حيث تابع دراسته في "المدرسة الرشيدية"، ودرس فيها اللغة العربية، انتقل بعدها إلى "الكلية العربية" ودرس فيها قرابة أربع سنوات.

وفي عام 1939أوفدته دائرة المعارف الفلسطينية في بعثة إلى إنكلترا، ودرس لبضعة أشهر في جامعة أكستر، ومنها انتقل إلى جامعة كامبردج لدراسة الأدب الإنكليزي، ونال فيها سنة 1943 شهادة بكالوريوس في الأدب الإنكليزي، وعاد إلى القدس ليعُيّن أستاذاً للأدب الإنكليزي في "الكلية الرشيدية"، ويترأس "نادي الفنون" (The Art club) الذي أسسه في "جمعية الشبان المسيحية في القدس" وتابع دراسته بالمراسلة ونال شهادة الماجستير في الأدب الإنكليزي من جامعة كامبردج سنة 1948.

هجرته الى العراق

في العام 1948 نسفت القوات الصهيونية عدداً من المنازل في حي "البقعة" العربي بالقدس الذي كان يسكنه فلجأ مع والدته وأخوته إلى بيت لحم ومنها هاجر بنفس السنة الى بغداد، وتم تعينه أستاذاً محاضراً في "الكلية التوجيهية"، ثم في "كلية الآداب والعلوم" التي أُنشئت في العام 1949 . وأسس في العام نفسه مع زميل بريطاني له قسم الأدب الإنكليزي في هذه الكلية، وكان يحاضر في " دار المعلمين العالية"، وفيها تعرف على الآنسة لميعة (ابنة الزعيم العراقي جعفر باشا العسكري) التي كانت تحاضر معه بنفس الدار لتصبح شريكة حياته عام 1952، وليصبح هو مسلما!

عقل متعدد المواهب

في العام 1951، شارك جبرا مع النحات والرسام العراقي جواد سليم في تأسيس "جمعية بغداد للفن الحديث". وبعد عودته من زمالة في في النقد الأدبي بجامعة هارفرد عام 1954، عيُّن في دائرة العلاقات العامة في شركة نفط العراق (IPC) ثم مديراً لدائرة مواصلات الإدارة والمستخدمين، ثم دائرة المنشورات في الشركة نفسها. واستمر في إعطاء المحاضرات في "كلية الآداب والعلوم" بجامعة بغداد حتى سنة 1964، لينقل في سنة تاميم النفط العراقي( 1972) إلى شركة النفط الوطنية العراقية رئيساً لمكتب الإعلام والنشر والترجمة، وفيها أنشأ مجلة "النفط والعالم"، و ترأس بين سنتي 1980 و1983 هيئة تحرير مجلة "فنون عربية"، التي أصدرتها "دار واسط" في لندن، و"رابطة نقاد الفن في العراق" لتكون محطته الأخيرة.. مستشاراً ثقافياً في وزارة الثقافة والإعلام عام 1977،  حتى تاريخ تقاعده عام 1984.

ليس هذا فقط بل ان جبرا كتب القصة، والرواية، والشعر، والمقالة، والمسرحية، وانشغل بالنقد الأدبي، وأتقن الرسم، وأبدع في الترجمة عن الإنكليزية في حقول الرواية والشعر والمسرحية والنقد بشكل خاص. وتُعد ترجماته لبعض أعمال وليام شكسبير من أروع الترجمات إلى العربية وأدقها، وقد تُرجم عدد من كتاباته إلى اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية، وحاز على العديد من الجوائز والأوسمة، من بينها: جائزة "تارغا يوروبا" للثقافة (Targa Europa Award for Culture) من إيطاليا سنة 1983؛ جائزة الآداب والفنون من "مؤسسة الكويت للتقدم العلمي" سنة 1987؛ جائزة الإبداع في الرواية من بغداد سنة 1988؛ وسام القدس للثقافة والفنون والآداب من منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1990؛ وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى من رئيس الجمهورية التونسية سنة 1991، وجائزة " ثورنتون وايلدر" (Thornton Wilder) للترجمة من جامعة كولومبيا الأميركية سنة 1991.

اللقاء بجبرا

في ثمانينات القرن الماضي، كانت تصدر مجلة عراقية رصينة يكتب فيها النخبة من العراقيين والعرب هي (آفاق عربية). وكنت يومها جالسا بمكتب سكرترير تحرير المجلة الشاعر بلند الحيدري (توفي في لندن عام 1996).. وجاء جبرا فقال له بلند: كنت قد سألتني عن كاتب المقالين (الأبداع في الفن عند فرويد وأثره في السريالية، وغوغان.. تحليل سيكولوجي لشخصيته واعماله) ..أعرفك به.. استاذ قاسم.

كانت من اروع لحظات حياة شبابي ان يصافحني جبرا الكبير.. وكان له تاثير كبير في ان تصدر لي وزارة الثقافة اول كتاب لي بعنوان (الأبداع في الفن) الذي تعددت طبعاته وما يزال مطلوبا بعد اربعين سنة على صدوره.

جبرا ابراهيم جبرا .. العقل الأستثنائي في تعدد المواهب ..عشق العراق ومات فيه (12 كانون اول 1994).. ودفن فيه بقبر مجهول يفترض فيه ان يكون مزارا للمثقفين ..وتلك مهمة وزارة الثقافة، فهل ستستجيب؟!.

الشكر والتقدير لمؤسسة المدى التي استذكرته في امسية جميلة من امسيات معرض العراق الدولي للكتاب، وكان لنا شرف المشاركة فيها.

يتبع

***

أ.د. قاسم حسين صالح

كتابة وترجمة: أورنيلا سكر

***

المقدمة

إن الهمجية والعنف والاستكبار الذي يخاطب بها الغرب الإمبريالي، وما يرتكبه من جرائم بحق الإنسانية، والإبادة الجماعية والتهجير القسري الذي يحدث في غزة الآن أوجدت أسئلة عمقيقة حول طبيعة الاستقواء الغربي الكولونيالي. وخلفيات العنف الممأسس الذي تمارسه منذ ثلاثة قرون من الاستعمار والهيمنة والمركزية، يجعلنا نبحث اليوم في سراديب هذه الورقة، حيث رمزية النضال ضد الإستعمار في إفريقيا وفي عالم الأدب الفرانكوفوني المقاوم ضد الإستعمار الفرنسي عبر تسليط الضوء على هذا الكاتب وأهميته، ودوره، وأثره على الادب الاستعماري؛ بهدف تعزيز ثقافة الانتماء والقومية والوطنية من خلال الادب في التصدي لكافة أوجه الإستعمار المغالي في سيطرته، والذي يكابر في الإعتذار عن ما ارتكبه من جرائم حرب بحق الانسانية والتاريخ والحضارة البشرية ، فمن هو أيميه سيزار؟

أيميه سيزار :السيرة والمسيرة

أيميه سيزار، الشاعر والسياسي المارتيني، كان له دوراً بارزاً في تشكيل الفكر الثقافي والسياسي للعديد من الاجيال. ولد سيزار في 26 يونيو عام 1913، وانطلقت حياته باتجاه الكتابة والنضال من أجل الحرية والحقوق والكرامة الإنسانية. لقد كان سيزار شاهداً على عصر استعماري ثقيل، وهو ما دفعه إلى النضال ضد الاستعباد والعنصرية التي كانت تمارس ضد الجماعات ذات البشرة السوداء أو ما يعرف بالحركة أو ملامح النيجريتود؛ أي الحركة التي تعارض التمييز العنصري والاستبداد، والتي كانت تسعى إلى إعادة تشكيل صورة الإنسان الإفريقي بعيداً عن الصور النمطية السلبية التي رسختها الثقافة الغربية؛ بهدف التأكيد على الهوية الإفريقية، والاحتفاء بالتراث الثقافي للقارة الإفريقية، سواء اللغة أو الفن أو التقاليد، عبر التأثير الأدبي والفني. حيث كان للنيجريتود تأثير كبير على الأدب والفن في العالم الفرنكوفوني، حيث ساهمت أعمال كتاب وشعراء مرتبطين بهم في تشكيل الفكر الإفريقي[1].

لقد كانت الحركة عاملاً هاماً في توحيد كتاب وفنانين من مختلف أنحاء العالم الفرنكوفوني، حيث جمعتهم قضايا مشتركة حول الهوية والحرية. إن هذا النضال لم ينفصل كذلك من أن يكون له تأثير سياسي ساهمت فيها حركة النيجريتود عبر أفكارها في تعزيز الوعي الوطني والسعي للاستقلال في بعض البلدان الإفريقية. ومن رموز تلك الحركة أيميه سيزار الذي يعتبر واحداً من مؤسسي النيجريتود، حيث كانت كتبه الشعرية والنثرية ذات تأثير هائل على الحركة، كذلك ليوبولد سيدار سنغور رئيس السنغال الأول والشاعر الكبير الذي كان له دور كبير في تشكيل فكر النيجريتود، وليون داما الشاعر الفرنسي الذي شارك في تأسيس الحركة وكتب قصائد تعبر عن هويته الإفريقية[2].

لقد استمرت فكرة النيجريتود في إلهام الأجيال اللاحقة من الكتاب والفنانين الأفارقة، وأثرت الحركة على الفكر الثقافي والأدبي في العديد من البلدان خارج العالم الفرنكوفوني، بحيث أسهمت الأفكار المطروحة في الحركة في إثراء الحوار الأدبي العالمي حول الهوية والتمييز ومفهوم الثقافة الأصلية أو المحلية، وتشكيل الوعي الإفريقي المقاوم ضد الاستعمار الغربي والفرنسي بشكل خاص[3].

أهمية أيميه سيزار وأهم أعماله

سيزار لم يقتصر على كتابة الشعر والأدب فقط، بل كان شاهداً وفاعلاً في النضال ضد الاستعمار. كان سيزار يؤمن بأن الكلمة ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل هي أيضاً سلاح قوي في مواجهة الظلم والتمييز، وأن رسالته تعكس رغبته وإصراره على إعادة تشكيل الصورة الذهنية للشعوب الإفريقية. ففي أوائل الثلاثينات من القرن العشرين، شكل سيزار مع زملاؤه فخر الهوية الإفريقية ومقاومة التمييز العنصري، كمحاولة لتجاوز الصورة النمطية والسلبية التي ترسخت حول الثقافة الإفريقية. ومن أهم أعماله: "حجر العودة إلى بلد الأم" عام 1939. في هذا العمل الذي يعد محطة هامة في مسيرة سيزار، قدم تعبيراً شديد العاطفة عن مشاعره تجاه بلده الأم أي مارتينيكا. ويقدم فيه رؤية حول التحولات الاجتماعية والثقافية في موطنه. وفي كتاب آخر بعنوان "خطاب حول الاستعمار" الذي كتبه عام 1950، في هذا الخطاب الذي ألقاه في السوربون، قام سيزار بمهاجمة حادة للتمييز العنصري والأستعمار الاوروبي، وكشف فيه عن تأثير هذا النظام على الثقافة والشعوب الإفريقية. وفي كتاب آخر له عام 1966 بعنوان: "فصل في الكونغو"، وهي قصة مسرحية تركز على فترة الاستقلال في الكونغو بقيادة باتريس لومومبا، يتناول فيها سيزار قضايا الحكم والاستبداد والتحديات التي واجهت الكونغو قبل وبعد الإستعمار[4] .

ففي القرون الوسطى، كانت مملكة الكونغو واحدة من الممالك القوية في المنطقة، وقد قامت بتجارة العبيد والموارد مع التجار الأوروبيين على ساحل الكونغو. وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، احتلت بلجيكا الكونغو، وأصبحت تديرها كمستعمرة. وكانت فترة استعمار بلجيكا آنذاك مأساوية للغاية، حيث تعرض السكان المحليين للعبودية والاستغلال الاقتصادي والتجارب البشرية القاتلة واللا إنسانية. وبعد استقلال الكونغو عن الاستعمار البلجيكي عام 1960، أصبحت جمهورية الكونغو الديمقراطية. ولكن سرعان ما اندلعت صراعات داخلية وتأثرت البلاد بالتدخلات الأجنبية، وبخاصة في عهد رئاسة جوزيف ديسيريه موبوتو عام 1965 الذي دام حكمه أربعة عقود من الفساد وانتهاكات حقوق الانسان. ثم جاءت الفترة الحديثة للكونغو حين تسلم جوزيف كابيلا الحكم عام 2001، والتي شهدت فيها فترات من عدم الاستقرار والنزاعات الداخلية وتدخلات خارجية، مما أدى إلى آثار خطيرة على أمن البلاد ووحدته مثل الإستعباد والتشرد للسكان الأصليين خلال فترة الاستعمار والتعرض لسياسات التفرقة والتمييز العنصري، ما أسفر عنها انقسامات طائفية وعرقية في المجتمع الكونغولي، وتشكلت فيها هويات اصطناعية، فضلاً عن الاستغلال الاقتصادي عبر استنزاف الموارد الطبيعية للبلاد دون مراعاة لاحتياجات السكان المحليين، مما أدى إلى فقر وتخلف اقتصادي في البلاد، إضافة إلى النزاعات الداخلية والتدخلات الأجنبية في استقرار الكونغو وتطورها الاقتصادي كما هو الحال اليوم في الشرق الأوسط أي لبنان وسوريا وفلسطين والسودان والعراق وليبيا. وساهمت الأوضاع الصعبة هناك في دفع الكثير إلى الهجرة والتشرد مما زاد من صعوبة التحديات الاجتماعية [5].

إن هذا الواقع، لا يختلف كثيراً عما يعانيه العالم العربي اليوم نتيجة الاستكبار والإمبريالية الغربية. إن استحضار هذه التجربة التاريخية الهدف منه إحياء ذكرى شخصيات أمثال أيميه سيزار ورفاقه من رموز الحركة الوطنية، كتعبير عن النضال الوطني المقاوم ضد الاستعمار لمنع تكرار التجربة الكولونيالية والاستفادة منها في علاقة الشعوب المضطهدة والمستعبدة في صراعها ضد الاستعمار الأجنبي. لقد كانت التجربة الإفريقية خير دليل على هذا الإرث النضالي التراكمي ضد الإستعمار الفرنسي والبلجيكي والأوروبي والتأكيد على أهمية هذا النضال من الناحية الفكرية والسياسية والقانونية؛ من أجل أن يتعلم العالم أن للاستعمار نهاية. وأن الشعوب يجب أن تؤمن بذاتها وبنضالها العنيد ضد الإستعمار والإمبريالية، وأن للتحرر مفهوم يقوم على فكرة التراكمات وعدم اليأس حتى ولو طال زمانه، برغم جميع الأدوات الشيطانية والخبيثة التي تغزوها، والتي تحاول اقتلاع وممارسة كل أشكال الاقتلاع من الجذور الثقافية والحضارية والفنية واللغوية؛ بهدف توطين ثقافة الحداثة الوثنية الجديدة والعلم المزيف والمأجور الذي هدفه القضاء على أصالة هذه الشعوب وهويتها المتجذرة منذ آلآف السنين عبر تصدير ثقافة الإلغاء والتطهير العرقي والإبادة وكافة أنواع الجرائم اللا إنسانية التي تهدف إلى تدمير المجتمعات وتقنينها من أجل أن تصبح عبارة عن سلاسل ترويض واحدة يتم إخضاعها والسيطرة والهيمنة عليها، وتحويل الإنسان إلى كائن مادي يحي عبادة الصنم من جديد، ويقوم على عبادة وتمكين الفردانية التي تستهدف الفكر المؤسساتي والعمل الجماعي وبناء المجتمعات وفق مفهوم التضامن الجماعي[6].

إن هذه الممارسات من قبل الدول المستَعمِرة لمستعمراتها، والتي تقوم على سياسات الإذلال والتخريب وإخضاع الشعوب وصولاً إلى يأسها واستسلامها عبر القوة الناعمة والسياسة الخارجية والعسكرية والدراسات الاستشراقية وعلوم الأنثروبولوجيا أدت إلى تفكيك تلك المجتمعات وتناحرها ودخولها في صراعات لا متناهية، وتقوم على تأييد الانقلابات والعنف المتوارث من أجل إبقاء هذه الدول المستضعفة والمتهالكة في أتون الفقر والانكسار واليأس وإشغالها بهموم طارئة بهدف إلهائها عن القضايا الوجودية والمصيرية؛ لتصبح غير قادرة على المواجهة والتصدي عبر نشر ثقافة الحداثة وما يعتريها من قيم ليبرالية ورأسمالية أغرقت الناس في المجاعة والفقر والتدمير المنهجي عبر صناعة الإنسان المتعالي والرجل الاقوى الذي يتحدى الله ويتحدى كل المعايير والقيم الأخلاقية على اعتبار أن إرادة البقاء هي للأقوياء. وهذا ما ابدعت الحضارة الغربية بنشره وتمكينه في العالم. والتعالي على جميع المقدسات والحرم القانونية والأخلاقية والحضارة الإنسانية لنصبح في ذلك عبارة أرقام. والإنسان الذي تم تشييئه أي سلعنته لا قيمة له سوى رقم يفيد بها الشركات العملاقة من أجل تحقيق الأرباح الخيالية وزيادة الفجوة الطبقية والاجتماعية بين الناس عبر تمكين ثقافة التفاهة والقطيع[7] .

الأدب كتعبير مقاوم

عندما فشل الخطاب الحداثوي في الهيمنة على الثقافات الأخرى وطمسها؛ بسبب أزماته وأخطائه المنهجية، انتقلت تلك الثقافات إلى المقاومة منتجة بذلك حركات تحرر وطني ألقت بمشروع التحديث والتحضير الغربي في أزمة جديدة، جعلته يعيد مراجعة تياراته الفكرية ومنهجياته البحثية، وفتحت النوافذ لتفكير جديد ينظر إلى العوامل الوطنية الذاتية بجدية على اعتبار أن دحض نظريات الفلاسفة الفرنسيين هي مراجعة ثقافية وسياسية واجتماعية باعتبار أن الفلسفة التي تقوم عليها فرنسا، تأتي نتيجة احتكاكها بالثورة التحررية الجزائرية ومعاينة معاناة المغتربين الأجانب في فرنسا، كمحاولة للعودة إلى الذات بالبحث عن مفهوم التماهي للكائن البشري في الثقافة الغربية، على اعتبار أن الذات مرتبطة بمجموعة آليات السلطة المختلفة داخل الحضارة الغربية التي لا تقوم فقط حول البحث عن المجال العلمي للأركيولوجيا، بل تتجاوز ذلك لتصبح فلسفة المقاومة، وحافزاً لفهم العلاقات السلطوية وتوضيحها. حيث تقول فريال غزول مواليد عام 1939، وهي أستاذة جامعية مرموقة متخصصة في الأدب العربي ولها إسهامات عديدة مهمة في المجال الأدبي، وقد ساهمت في اتاحة فهم اعمق للثقافة العربية للجمهور العالمي حيث تقول: "إن تخريب الاستعمار الثقافات التي يهيمن عليها وتشويهها دفع مثقفي الدول المستعمَرة إلى إحياء ثقافتهم وتمجيدها كرد فعل وكنهج مقاوم".

وتأتي هذه المحاولة من أجل تعرية الخطاب الغربي وحمولته الثقافية والمعرفية، حيث جاء في دراسة لأباراجينا ساغار "دراسات ما بعد الكولونيالية"، وهو بحث متعلق باللغة وثنائية المستعمرين اللغوية ونقد مشروعهم عبر كتابات وروايات عديدة باللغة الإنكليزية، كمحاولة لهجرها والسعي إلى التعبير الإبداعي بلغته الإفريقية، على اعتبار أن الأديب لا يكون مبدعاً إلا من خلال تبنيه للغته الأم، أي "أفرقة اللغة" كتعبير عن الهوية والمقاومة التي تقوم بها الثقافة المحلية حتى تنقرض. وقد أسس عالم الإجتماع الفرنسي إميل دوركايم (1858-1917) مفهوم الانقسامية في ميدان علم الاجتماع، حيث يبين أن المجتمعات الإنسانية تنتقل بالتدريج خلال صيرورتها التاريخية من أشكال التضامن الميكانيكي إلى أشكال التضامن العضوي. إن هذا البحث يحمل في طياته خلفية سياسية، الهدف منها تعبيد الشعوب من قبل الدول الغربية عن طريق السيطرة عليها وذلك عبر التركيز على ظاهرة السلطة في هذه المجتمعات. وهذا ما عبر عنه تجربة الانثروبولوجيا الإنجلوسكسونية والفرانكوفونية في إفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط بعد الحرب العالمية الثانية[8].

بالختام

إن تفكيك هذه الرواية الغربية تثير جدلاً واسعاً في الغرب وتحديدًا فرنسا التي ترفض الإعتراف بدراسات ما بعد الكولونيالية والإعتذار عنها على اعتبار أنها تغالي في نزعتها الإمبريالية والإمبراطورية كونها مؤسسة الأنوار ومهندسةً لفلسفة هذا التيار وصاحبة الثورة الفرنسية. الأمر الذي يجعل من الصعب عليها فتح تاريخها في الجزائر، خوفاً من إمكانية فتح ملف المحاكمات منعاً لنبش ماضيها الاستعماري وخوفاً على امتيازاتها الحالية في مستعمراتها القديمة، بالرغم من محاولات طرد الأفارقة لها من إفريقيا ومطالبتها بمخاطبتهم بلغة الكرامة بعيداً عن لغة الأمس. إن هذه الازدواجية التي تعتري فرنسا وباقي الدول الغربية، وبشكل خاص إسرائيل التي تقاسم الغرب النزعة الاستعلائية نفسها، تتحول إلى خطاب متأسسٍ على الانغلاق الذاتي، يرفض الاعتراف بجرائمه وإدانتها. فجاءت تلك الخطابات الإفريقية في محاولة لتفكيك السردية الغربية للمنظومة الكولونيالية، بدافع إثبات الذات والتعبير عن الكينونة، في مقابل الغيرية الكولونيالية وصناعة صورة الآخر بموضوعية ذات مواصفات علمية، تراعي ظروف الذاكرة الجماعية وتنصفها، بهدف تحقيق العدالة والحرية والمصالحة مع الآخر، والتأكيد على الهوية المحلية التي سلخت وتم تغريبها، ودعماً للتعددية والحوار والتسامح، وتصحيح الرواية الغربية تجاه العلاقات الأوروبية - الإفريقية[9].

***

.................

[1] الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق، ادوارد سعيد، ترجمة :د. محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة، 2006م.

[2] إيميه سيزار، خطاب الاستشراق، دار الفرابي،بيروت، ترجمة وتحقيق عبد الجبار خمسة-رواند نكد، الطبعة الاولى، 2013، ص127

[3] Dominique combe, le texte postcoloniale n existe pas , theorie postecoloniale, etudes francophones et cretigue , Genisis, vol 33. (2001).

[4] Johannes angermuller, qu est ce que le post structuralisme francais ? a propos de la notion de discours d’un pays a l’autre, language et societe.vol.2, no.120, 2007,p.17

[5] صدر كتاب الشرخ الاستعماري: المجتمع الفرنسي مِن مِنظور الموروث الكولونيالي سنة 2005، وهو عمل جماعي يقع في 322 صفحة مِن الحجم المتوسّط تتوزّع على مقدّمة مشتركة بعنوان «الشرخ الاستعماري أزمة فرنسيّة»، أوضحوا فيها سبب تأليف الكتاب، الذي يعود إلى المِناخ الفرنسي العام؛ إذ «لم تتوقّف في السنوات الأخيرة المناقشات حول الماضي الاستعماري لفرنسا في الفضاء العمومي، وجاء هذا الانبثاق مِن أماكن متعدّدة وجمعيّات متنوّعة، منها المتّصل بالتاريخ الاستعماري، مثل المرحلين والحركي وقدماء محاربي ثورة الجزائر، ومنها ما يتصل بالدولة حين تشرع في التصويت على نصوص بناء الذاكرة الرسميّة، م.س، ص9؛ أنظر أيضًا: الأكاديميّون الجامعيّون الذين ينشرون بحوثًا تتعلّق بالفترة الاستعماريّة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ثم تليها أربعة وعشرون بحثًا وملحقان في منهجيّة دراسة الذاكرات، الثالث، الكولونياليّة، الهجرة والحضريّة. وتناولت المقالات جميعها علاقة الاستعمار الفرنسي بمستعمراته المستقلّة، وانعكاس الوعي الوطني على الجمهوريّة مع ظهور الإسلام السياسي، إضافة إلى إشكاليّات الهجرة مِن حيث الاندماج والانقسام بين أرض الاستقبال وأرض الأجداد والأصول

[6] Bessone, Magali & Daniel Sabbagh. Race, Racisme, Discriminations: Anthologie de textes fondamentaux. Paris: Hermann, 2015. Blanchard, Pascal, Nicolas Bancel & Sandrine Lemaire (dir.). La fracture coloniale: La société française au prisme de l’héritage colonial. Paris: La Découverte, 2005. Boehmer, Elleke. «Écriture postcoloniale et terreur».Littérature. vol. 2, no. 154, (2009). Capucine, Boidin. «Etudes décoloniales et postcoloniales dans les débats Français.» Cahiers des Amériques Latines. vol. 3, no. 62 (Janvier 2009).

[7] Bessone, , meme reference,

[8] Bessone, Magali & Daniel Sabbagh. Race, Racisme, Discriminations: Anthologie de textes fondamentaux. Paris: Hermann, 2015. Blanchard, Pascal, Nicolas Bancel & Sandrine Lemaire (dir.). La fracture coloniale: La société française au prisme de l’héritage colonial. Paris: La Découverte, 2005. Boehmer, Elleke. «Écriture postcoloniale et terreur».Littérature. vol. 2, no. 154, (2009). Capucine, Boidin. «Etudes décoloniales et postcoloniales dans les débats Français.» Cahiers des Amériques Latines. vol. 3, no. 62 (Janvier 2009).

[9] "الحضارة باعتبارها أيديولوجيّة أوروبيّة"، في: الحضارة ومضامينها، تأليف: بروس مازليش، ترجمة: عبد النور خراقي، سلسلة عالم المعرفة 42 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2014)، ص61.

 

بعد السابع من أكتوبر، وبعد طوفان الاقًصى وما صاحبها من احداث، سلطت الصحافة في الغرب  الضوء على احد ابرز المناصرين للحرية في العالم وهو المناضل فرانز فانون مؤلف كتاب "معذبو الأرض" واحد الثوار الذين التحقوا بالثورة الجزائرية.  يعزى هذا الاهتمام الى تبني افكاره من القوى اليسارية والديمقراطية وخاصة بين صفوف الطلاب المناصرين للقضية الفلسطينية في الجامعات الامريكية.

السيرة الشخصية

ولد فرانز فانون في 20 من يوليو عام 1925 في جزر المارتينيك، من عائلة ميسورة الحال نسبيا. والده كازميرا فانون، كان مفتشا في الجمارك، ووالدته، الينور ميدليس كانت تملك محلا لبيع ألمعدات في مدينة فورت دي فرانس عاصمة المارتينيك. عادة يسعى افراد هذ الطبقة الى التعرف والاندماج في ثقافة الفرنسين البيض. نشأ فانون في هذه البيئة، وتعلم تاريخ فرنسا باعتباره تاريخه، حتى في سنوات دراسته الثانوية، عندما واجه لأول مرة فلسفة الزنوجه ( (Negritude، التي تعلمها من ايمي سيزير، الناقد الشهير الاخر للاستعمار الأوروبي في المارتينيك. كان فانون حائرا بين الاندماج بالثقافة الفرنسية مع الطبقة المتوسطة وبين الانشغال بالهوية العرقية التي تروج لها الزنوجه، غادر فانون المستعمرة في عام ,1943 وهو في الثامنة عشرة من عمره، للقتال مع القوات الفرنسية الحرة في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية.

بعد الحرب، بقي في فرنسا لدراسة علم النفس والطب في جامعة ليون. هنا، واجه عنصرية تبسيطية محيرة ضد السود، تختلف تماما عن التمييز المعقد المتخلل للطبقات من الوان الجلد الفاتح الى الداكن التي يجدها المرء في الكاريبي. هذا التمييز البسيط كان سبب لغضبه الشديد الذي دفعه لكتابة "مقال لتحرير السود". الذي اصبح فيما بعد عملا أساسيا   "بشرة سوداء، اقنعة بيضاء" (1952). وهنا بدأ في استكشاف أفكار الماركسية والوجودية التي ستؤثر في تحوله الجذري عن ثنائية الاندماج والزنوجه التي افتتحتها بيو نوار المناهضة للعنصرية.

على الرغم من عودة قصيرة الى الكاريبي بعد انتهاء دراسته، الا انه لم يعد يشعر بالراحة هناك. وفي عام 1953، بعد فترة في باريس، قبل منصبا كرئيس للخدمة في قسم الطب النفسي لمستشفى بليدا- جوانفيل في الجزائر. شهد العام التالي، 1954، اندلاع حرب الاستقلال الجزائرية ضد فرنسا، وهي انتفاضة قادتها جبهة التحرير الوطني (FLN) وقمعتها القوات المسلحة الفرنسية بوحشية. وبينما كان يعمل في مستشفى فرنسي، كان فانون مسؤولا بشكل متزايد عن علاج الضغوطات النفسية للجنود والضباط في الجيش الفرنسي الذين كانوا مسؤولين عن تعذيب وقمع المقاومة المناهضة للاستعمار، وكذلك لضحايا التعذيب الجزائريين الذين عانو من الصدمات النفسية. وبالفعل، ادرك فانون بحلول عام 1956 انه لا يمكنه مواصلة مساعدة الجهود الفرنسية لقمع الحركة المناهضة للاستعمار والتي كانت تحظى بتعاطفه السياسي، فاستقال من منصبه.

بمجرد استقالته رسميا من العمل لصالح الحكومة الفرنسية في الجزائر، اصبح فانون حرا في تفانيه لقضية استقلال الجزائر. كان خلال هذه الفترة يقيم في تونس حيث قام بتدريب الممرضات لصالح جبهة التحرير الوطني، بالإضافة كان يحرر صحيفة " المجاهد" الناطق الرسمي باسم الجبهة، كما انه ساهم في كتابة مقالات حول الحركة في منشورات متعاطفة، بما في ذلك كتاباته في "برزنس افريكان " ومجلة جان بول سارتر " الأزمنة الحديثة". نشرت بعض كتابات فانون من هذه الفترة بعد وفاته عام 1964 تحت عنوان " نحو الثورة الافريقية". في عام 1959 نشر فانون سلسلة من المقالات " العام الخامس من الثورة الجزائرية"، والتي تفصل كيف نظم المستضعفون الاصليون في الجزائر انفسهم في قوة ثورية. في نفس العام، تولى منصب دبلوماسي في الحكومة الجزائرية المؤقتة كسفير لدى غانا. واستخدم هذا المنصب للمساعدة في فتح طرق الامداد للجيش الجزائري. هناك في غانا تم تشخيص فانون بمرض اللوكيميا الذي كان سببا في موته. على الرغم من تدهور صحته بسرعة، قضى فانون عشرة اشهر من اخر عام في حياته في كتابة اشهر كتبه  "معذبو الأرض". وهو صحيفة اتهام للعنف والوحشية الاستعمارية الذي يختمها بنداء مشوق لتاريخ جديد للإنسانية يجب ان يبدأ من قبل العالم الثالث المنكوب بالاستعمار. في أكتوبر 1961، تم نقل فانون الى الولايات المتحدة حتي يتمكن من العلاج في مرفق المعاهد الوطنية للصحة في بشيدا، ميريلاند. توفى بعد شهرين، في 6 ديسمبر، .1961، حيث كان لا زال منشغلا بقضية الحرية والعدالة لشعوب العالم الثالث. بناء على طلب جبهة التحرير الوطني، تمت إعادة جثمانه الى تونس، حيث تم نقل جثمانه ودفن في الجزائر التي كافح من اجلها بتفان خلال السنوات  الخمس الأخيرة من حياته.

الظواهرية الافريقية

مساهمة فانون في علم الظواهر، والتي تم تسليط الضوء عليها كخطاب عرقي نقدي (تحليل لغوي لا واعي، تشكل الذات التي تنظم نفسها حول العرق كفئة مؤسسة). على الأخص استكشافه للتحديات الوجودية التي يواجهها  ذوي البشرة السوداء في عالم اجتماعي تم تشكيله للبشر البيض. هذا الموضوع يتم تناوله بالتفصيل وبالوضوح في Pea Noire Masques Blanc. الاستعارة المركزية لهذا الكتاب، هي ان السود يجب عليهم ان يرتدو "قناعا ابيض" حتى يتمكنوا من العيش في عالم ابيض، مذكرا بما كتبه W.E.B Du Bois بان الأمريكيين من اصل افريقي عليهم بتطوير وعيا مزدوجا لكي يعيشوا في ظل هيكل السلطة البيضاء. واحد  يتعايش مع هذا الهيكل (او ما شابه) ووعي اخر يتعايش فيه مع الامريكان من اصل اسود. ان تحليل فانون للطرق التي يستجيب بها السود للسياق الاجتماعي الذي يميزهم عنصريا على حساب انسانيتنا المشتركة تمتد ثقافيا عبر نطاق أوسع من مقارنة دي بويس. فانون يدرس كيف يشكل العرق (يشوه) حياة كل من الرجال والنساء في منطقة البحر الكاريبي الفرنسية، وفي فرنسا، وفي مناطق الصراع الاستعماري في افريقيا. عالم الاجتماع الافريقي باغيت هنري، يصف العلاقة بين فانون ودي بويس  في مجال الظواهرية كعلاقة امتداد وتوضيح، حيث يقدم فانون تحقيقا اكثر تفصيلا حول كيف تواجه الذات صدمة التصنيف من قبل الاخرين كذات اقل إنسانية، بسبب هوية عنصرية مفروضة، وكيف يمكن لتلك الذات ان تستعيد شعورا بالهوية وانتماء ثقافي مستقل عن المشروع العنصري لثقافة الهيمنة الاستعمارية.

فانون، يشرح في جميع اعماله الرئيسية المشروع العنصري والاستعماري للثقافة الأوروبية البيضاء، أي الرؤية العالمية الهرمية الشاملة التي تحتاج الى تصنيف الانسان الأسود باعتباره "زنجيا"، بحيث يكون لديه "اخر" يمكن تعريفه على أساسه. في حين يقدم كتاب " Peau Noire " نقاشا مستمرا حول الابعاد النفسية لهذا التصنيف "للإنسان الأسود" وامكانيات المقاومة لهذا التصنيف. بينما الابعاد السياسية تم تناولها في كتابيه "السنة الخامسة من الثورة الجزائرية" و"معذبو الأرض"  يتم فيهما تشخيص للأبعاد النفسية للعنف الظاهري ضد الزنوج، حيث يوثق الاثار المدمرة والمؤلمة للعنصرية : أولا، يعزز التعصب والمواقف السلبية تجاه السود الاخرين وافريقيا. ثانيا، انه يعمل على تطبيع مواقف الرغبة والانحطاط تجاه أوروبا، والبيض، والثقافة البيضاء بشكل عام.  وأخيرا، تقدم  نفسها على انها طريقة شاملة للوجود في العالم بحيث لا يبدو ان هناك بديلا اخرا ممكنا. ان صعوبة التغلب على الشعور بالاغتراب الذي يجعل "الزنجوه "مسالة ضرورية للإنسان الأسود تكمن في رؤيته لنفسه ليس كما يتصورها  ويقدرها (تقلل من قيمتها) من قبل الثقافة البيضاء المهيمنة ولكن في نفس الوقت من خلال منظور مبني على معارضة التيار الرئيسي العنصري، ومن منظور مواز حيث لا تكون الاحكام القيمية للرجل الأسود او المرأة السوداء -على نفسه وعلى الاخرين من مجموعته العرقية – من خلال المعايير والقيم البيضاء. يرى فانون انه فقط من خلال هذا المنظور الأخير يستطيع الرجل او المرأة السوداء التخلص من الاستعمار النفسي الذي تفرضه الظواهر العنصرية.

نظرية التخلص من الاستعمار

الابعاد السياسية للزنجوه والتي تدعو الى التحرر من الاستعمار تتصل بكتابيه "السنة الخامسة" و"معذبو الأرض". ولكن فانون لا يقوم فقط بتشخيص الاعراض السياسية للرؤية السياسية العالمية التي يتم فيها تجريم الرجال والنساء السود، بل يضع تشخيصه ضمن التزام أخلاقي واضح بالحق المتساوي لكل انسان في ان تكون كرامته الإنسانية معترف بها من قبل الاخرين. هذا التأكيد، اننا جميعا مستحقون للاعتبار الأخلاقي وان لا احد يمكن الإستغناء عنه، هو الجوهر المبدئي لنظريته المتعلقة للتحرر من الاستعمار، التي مازالت تلهم العلماء والنشطاء الملتزمين بحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية.

كما يوحى العنوان الفرنسي، L’A Cinq الاستعمار يحتضر، وهو سرد شخصي لفانون عن كيفية تعبئة الشعب الجزائري لنفسه في ثورة مقاتلة، والنضال المسلح ضد الحكومة الفرنسية الاستعمارية.  يعرض فانون الدروس التي يمكن للثورات الأخرى ان تتعلمها من تكتيكات واستراتيجيات  جبهة التحرير الوطني، والتي تعبر عن الوضع الجزائري الخاص، ولكن أيضا من الممكن للثوار الاخرين الاستفادة منها.  بينما تقدم "السنة الخامسة" الأفكار التي يتوقعها الشخص من وثيقة تاريخية،  ُفإن "معذبو الأرض" هو تحليل اكثر تجريدا للاستعمار والثورة. وقد وصف بانه انجيل للثورة السوداء. يعبر الكتاب عن الدور الضروري الذي  يعتقد فانون ان العنف يجب ان يؤديه في نضالات انهاء الاستعمار، والمسارات الزائفة التي تسلكها الدول التي تريد ان تنهي الاستعمار عندما تعهد بحريتها النهائية الى المفاوضات بين الطبقة المحلية والمستعمرين، في حين فانون لا يري بديلا من تعبئة الجماهير كقوة مقاتلة شعبية. ويؤكد الى الحاجة في إعادة انشاء ثقافة وطنية من خلال حركة الفنون والأدب الثوري. وهذا ما يرفضه التقليديون في موقف فانون. كما يتطرق فانون الى المشاكلات النفسية التي يفرزها القمع الاستعماري. جزء من روعة الكتاب هو عمقه الفلسفي الذي أشار اليه جان بول سارتر في المقدمة، حيث انه يتحدث بلغة فلسفية وينشر نوع من الحجج الماركسية والهيجيلية التي  يتوقعها المرء في فلسفة التحرير، لكنه لا يتحدث الى الغرب. ان فانون يتحدث مع زملائه من العالم الثالث ويقدم لهم النصائح.

***

علي حمدان

.................................

ترجم بتصرف من:

Franz Fanon: Internet Encyclopedia of Philosophy

من يريد أن يدخل عتبة روسيا القيصرية، تاريخها الموغل في القدم من يوم حكم القياصرة المتعاقب عليها ونظام القنانة السائد آنذاك، ومهاجمة نابليون وجيشه لها عام 1812وبحكم التاريخ والحروب، إنها حرباً وطنية. عندما هاجم نابليون موسكو، كان أهلها قد دمروها عن بكرة أبيها، تحوطاً ضد أي فرصة قد يتنفس من خلالها المحتل، مما تحمل هو وجيشه عبئاً كبيراً من الجوع والامراض والاوبئة، فتكبد خسائر بالارواح بحدود ٢٥ الف شخص، مما تركها مذعوراً مهزوماً والى الابد. وزحف الجيش الروسي الى أوربا وسقطت العاصمة باريس والقي القبض على نابليون ونفيه. عرفت روسيا تاريخياً من نافذة أدباؤها الروس.

سأل نابليون في منفاه عن سر هزيمته قال بألم: ”الاستهزاء بقوة عدوي روسيا القيصرية ”.

وقد أثرت تلك الاحداث التاريخية على الشاعر بوشكين في رسم ملامح شخصيته وتحديد مواقفه السياسية كشاعر ومواطن وأنسان، هنا تنبأ مشواره الشعري والنثري ” السياسي ”. قائلاً …

سيطوف ذكرتي في أرجاء روسيا العظيمة

ويلهج بأسمي كل مخلوق قد بلغته

ولد بوشكين عام ١٧٩٩ في موسكو في أسرة من النبلاء تعيش حياة ترف وأريحية، كان والده شاعر بارز فساهم في تكوينه الادبي والفكري. ترجع جذور الشاعر بوشكين الى أصول أفريقية، جده من أمه من الضباط المقربيين الى القيصر بطرس الاول من هنا ورث الملامح الافريقية في هيئته حيث تميز بشعر أجعد وشفتين غليظتين، أمه حفيدة إبرام غنيبال الامير الحبشي الذي أختطفه الاتراك وأرسلوه هدية الى القيصر الروسي بطرس الاول. كان بوشكين يفخر بجد أمه، الذي كان قائداً مشهوراً في عهد البطرس، وقد وصفه في روايته التاريخية ”زنجي بطرس الاكبر ”. يعتبر بوشكين شاعر روسيا العظيم وأمير شعراء روسيا وروائي وشاعر وكاتب مسرحي. قال في خضم مواقفه بالشعر والكلمة والوطنية معتزاً بأرثه.

وطويلا سيظل قومي يحبونني

فقد هززت بقيثارتي المشاعر الخيرة

وغنيت ممجداً الحرية في عصري العاتي

وناديت الرحمة على المقهورين

كتب ” نيقولاي غوغول ”الكاتب الروسي وصديق بوشكين قائلاً : عندما تذكر أسم بوشكين تتحلى الطبيعة الروسية بأبهى صورها، إنه النفس الروسية. أتسمت أشعاره السياسية برفض الاستبداد والتسلط حاملاً شعلته المضيئة في دروب الناس المقهورة للتطلع والحرية، ولم يخفي أو يهادن السلطة القيصرية في أشعاره ونثره، مما دعا القيصر شخصيا أن يشرف على كتاباته قبل نشرها ويحذف ما يطيب له، ولم يهدأ عقل القيصر الا أن يطرده من وظيفته وينفيه الى جنوب روسيا بسبب أشعاره الثورية، وقد أتهمه بالخيانة الوطنية، لكن مواقفه أزدادت عناداً وهو في منفاه من خلال كتاباته بالتحريض على حكم القياصرة. فأجبر السلطات الى أعادته الى موسكو وقربه القيصر منه ليجعله شاعر البلاط المتمرد داخل البلاط القيصري.

بوشكين.. من رواد االمدرسة الواقعية في الادب الروسي جسد بأعماله الادبية والشعرية كل طبقات المجتمع الروسي، فمسرحيته التاريخية التراجيدية ” بوريس جودونوف ” نقل من خلالها العلاقة بين الشعب والسلطة ودورهما في بناء المجتمع، وأن السلطة لم تكون مهيأة، إذا لم تعتمد على الرأي العام الواعي.

أما رواية ” يفغيني أونيغين ” فتعتبر أول رواية شعرية واقعية في تاريخ الادب الروسي، وقد عبر بوشكين عبر كتاباته أنتقاده الحاد الى الثقافة الغربية والتي تغوص بمستنقع الجشع والاستبداد، وقد صور حياة المجتمع الغربي على أساس تجربة أمريكيا في ذلك الوقت. ” أذهلتني رؤية الديمقراطية بوقاحتها البشعة وتحاملها الساخر وطغيانها الذي لايطاق، ووقف ضد إستعباد الزنوج في ظل الحرية وأنتشار الثقافة والضمير ”.

وفي موقف آخر يذكر له هاجم سطوة الدولة العثمانية لطغيانها في التعدي على سيادة الشعوب بقصيدة سميت ” أسطنبول ”.

ولم يغفل في نتاجاته الابداعية ومواقفه الانسانية سيرة النبي محمد في قصائده والاشاره الى مواقفه وعبقريته في الدفاع عن رسالته المحمدية.

في عام ١٨٣٧ توفى بوشكين مقتولا عن عمر يناهز ٣٨ عاماً، وذلك في مبارزة سخيفة إستجابة لعقلية المجتمع آنذاك ، كما كان هو سائد مع أحد النبلاء الفرنسيين المقيمين في موسكو، أغرم بزوجته وحاول مغازلتها وشيع حول علاقة زوجته بالفرنسي أم لاربعة أطفال هي ناتالي. وأعتبر بوشكين هذا الموقف أهانه له ولموقعه وأنتقاماً لشرفه فتحداه وطلب منه المبارزة، وقد تمت المبارزة بالمسدسات لا بالسيوف، وتمكن الفرنسي بأصابته ومات بعد أيام معدودة، وراح بعض النقاد في تحليلاتهم، أن تلك المبارزة كانت من تخطيط بلاط القيصر الذي راح يحيك المؤامرات ضد الشاعر بوشكين للإنتقام من مواقفه ضده بعد أن عجز البلاط من أستمالة موقفه لوقعها النفسي على أهالي روسيا بما تحمله من قيم وطنية ومعاني ثورية وتحريض ضد سلطة القيصر.

بعد أن شاع خبر موته عم الاستياء والاستنكار والهجوم على القيصر وبلاطه. فهزت روسيا من أقصاها الى أقصاها قصيدة الشاعر ميخائيل ليرمنتوف بعنوان موت شاعر.

سقط الشاعر عبدأ للشرف

سقط وكان مفتريء عليه

بافتراءات خبيثة.

ودفع الشاعر ليرمنتوف ثمن موقفه وحجم تأثير قصيدته في أنحاء روسيا والعالم، والذي عرف من خلالها كشاعر ومناضل، فوزعت كمنشور حزبي بين الناس ضد سلطة البلاط القيصري، مما أغضب السلطات وقررت إعتقاله ونفيه الى القوقاز وأجريت تحقيقاً مطولاً معه حول قصيدته وسمي شاعر القوقاز ويعتبر أهم شاعر بعد بوشكين. فقتل على أثر ذلك بعمر ٢٧ عاماً وله رواية واحدة ” بطل من هذا الزمان ”.

بوشكين والقيصر

يحاول القوميون الأوكران في حربهم ضد الثقافة الروسية هذه الأيام، تصوير أمير الشعراء الروس الكسندر بوشكين شاعراً يحمل الفكر الإمبراطوري ومؤيداً للنظام القيصري، في حين ان القيصر كان يخشى ان يثير نشر قصائد الشاعر غضب الجماهير، ولهذا نصب نفسه رقيبا على كل ما يود بوشكين نشره من قصائد وأعمال أدبية آخرى.

في ٢٦ يناير عام ١٨٣٧، عشية المبارزة المميتة. كتب بوشكين رسالة الى الكونت كارل تول يقول فيها : " العبقري يكتشف الحقيقة في لمحة واحدة والحقيقة أكبر من القيصر، ولهذا السبب لا يمكن للديكتاتوريين ان يسامحوا الشعراء على تفوقهم الأخلاقي، وادراكهم الثمين لما هو صائب. ان الكل مهتم بالتحقق من نفسه من خلال التجربة، وافراد السلطة فرحون بخرافة معصوميتهم، وهم بكل الوسائل يبتعدون عن الحقيقة. السياسة بدمها الثقيل لا تقول لي شيئاً، وانا لا أحب الذين لا يهتمون بالحقيقة”. تلك بدعة المبارزة كانت سائدة في تقاليد وأعراف المجتمع الروسي، مما أودت بحياة العديد من أدباء ومشاهير روسيا، ولم تكن بعيده من دوافعها السياسية.

نبوءة فيدور دوستويفسكي.

رغم أن الأدب الروسي الكلاسيكي زاخر بأسماء عدد كبير من الأدباء العباقرة، من ذوي الشهرة المدوية، إلا أن الشاعر الروسي العظيم الكسندر بوشكين – مؤسس اللغة الأدبية الروسية – هو الذي يحتل أسمى مكانة في قلوب الروس جميعا. وفي الوقت الذي يختلف القرّاء الروس حول مدى إعجابهم بأعمال تولستوي أو دوستويفسكي، إلا أنهم جميعا يعشقون شعر بوشكين و أعماله السردية أكثر من أي أديب آخر.

أبدى تولستوي في رسالة إلى صديق مشترك بينه وبين دوستويفسكي إعجابه الشديد بإحدى روايات دوستويفسكي حتى أكثر من أعمال بوشكين، وطلب إبلاع ذلك إلى دوستويفسكي.وعندما سمع دوستويفسكي هذا الكلام من الصديق المشترك لم يفرح، بل أصيب بصدمة، لأن تولستوي وضعه فوق بوشكين. قال دوستويفسكي:"  أن لا أحد يعلو على بوشكين في الأدب الروسي ". وخطاب دوستويفسكي الشهير في حفل إزاحة الستار عن تمثال بوشكين في وسط موسكو في أوائل ١٨٨٠ معروف، حيث هز هذا الخطاب المؤثر مشاعرالجماهير الروسية.

ثمة مقولة شهيرة لدوستويفسكي تتردد على مر الأجيال على ألسنة الروس جميعاً:

" بوشكين هو كل شيء لدينا". وقد تنبأ بوشكين نفسه قبيل وفاته بمجده الأدبي قائلاً ". سيتردد إسمي في جميع أنحاء روسيا العظمى، وفي لغات جميع شعوبها”

يعتبر الشاعر بوشكين من أهم أعمدة الأدب الروسي الكلاسيكي، وقد شهدت حياته القصيرة قصص ومغامرات حب جريئة دفع حياته ثمناً لها، وقد تميزت كتاباته بالنفس العميق في مكونات النفس البشرية وداخل الكيان الاجتماعي، ويعتبر رمز ثقافي وأدبي كبير لبلده روسيا وله الفضل الكبير في تطوير لغة الأدب والرواية الروسية ضمن أطر المفاهيم الحديثة، وتعتبر روايته ” يفغيني أونيغين ” تحولا كبيراً في العمل الروائي الروسي بما حملته من مضامين أجتماعية في اللغة والادب والأسلوب والمضمون. وتاريخ الأدب الروسي بدأ بالعمالقة ألكسندر بوشكين وميخائيل ليرمنتوف. ويعتبر بوشكين واضع الاساسيات اللغة الروسية وأدبها في الشكل والمضمون. وكان بوشكين من المهتمين بأدب الشرق وفي نهاية القرن الثامن عشر، عندما ترجمت حكاية ” ألف ليلة وليلة ”. أطلع بوشكن عليها وتركت أثرها على نتاجاته المستقبلية. فكتب ” روسلان ولودميلا ”. ” وليال مصرية ” نتاج تأثره بهذه الروائع وبلغة القرآن وكانت هذه واضحة في أشعاره وقصائده.

***

محمد السعدي

..........................

* من كتاب سيرى النور لاحقاً "مأساة الأدباء الروس بين الحقبتين القيصرية والشيوعية".

كلما أنوي الاتصال بأولادي وبناتي الموزّعين في أقاصي الأرض وشتاتها ألجأ لملاذي الذي اعتدت عليه في الهاتف الذكيّ وأنتخب نظام الاتصال "واتساب" ليوصلني إلى من أحبّ فيهدأ بالي وتطيب سريرتي .

في العام /  1992 رحل  شاب قرويّ، وحيد أمه وأبيه؛ طبعُه ساذج، ليس له مران في التعامل مع الثورة الالكترونية وعالم التقنية والميديا الاّ النزر اليسير؛ فتىً قليل الخبرة هاربٌ من الاضطرابات السياسية في بلاده الأم ّ، ضعيف الدربة  اسمه "جان كوم" مع أمّه القرويّة الساذجة ربّة البيت الأوكرانية مهاجراً الى الولايات المتحدة بعد ضنك عيشٍ في بلادها الأم  وتركا الأب  في أوكرانيا اذ كان هذا الأب  معاندا ولم يرغب في الهجرة وبقي في بلاده كمدير لمشروع إسكان الفقراء وبناء بيوت شعبية لهم وتشييد المدارس والمستوصفات الصحية لمواطنيه وأطفالهم  في قريته .

 كان عمر هذا القرويّ الوحيد لعائلته وقتذاك أربعة عشر عاما حينما حطّ رحاله في بلاد " اليانكي " واستقر في قصبة نائية ضمن ولاية كاليفورنيا اسمها " ماونتن فيو " هربا من النزعة المعادية للسامية وكراهية الأجانب النازحين الى الولايات المتحدة والتي كانت قائمة بين بعض سكّانها في تلك الولاية .

عاش مع أمّه في شقة صغيرة تحوي غرفتَي نوم حصلا عليها ضمن المساعدات الحكومية التي تمنح للمهاجرين  قبل ان تصاب والدته بالسرطان وتنتقل الى العالم الآخر سنة /  2000 .

 وقبل هذا التاريخ رحل والده ايضا سنة /  1997 ودفن في وطنه الأوكراني  الذي لم يغادره .

عملت أمّه في ردح حياتها الاميركية أوّل مرةٍ مربية وجليسة أطفال لدى إحدى العوائل الغنية رغم اشتداد أسقامها، كما حصل " جان كوم " على عمل رثّ في دكان بقالة متواضع ويقوم بنفسه في ترتيب البضائع وغسل أرضية البقالة وتنظيفها يوميا  وبعدها انتقل الى عمل آخر حارسا ليليا بإحدى الشركات حينما تم قبوله طالبا دارسا في جامعة سان خوزيه ستيت اذ كان يدرس نهارا في الجامعة ويعمل في الحراسة ليلا .

قبيل وصوله الى العالم الجديد؛ عاش الفتى قبلا مع والدته في قرية صغيرة خارج العاصمة كييف في أوكرانيا معيشة فيها من الضنك الكثير إذ كان مسكنه يخلو من الماء الساخن والكهرباء وأجهزة الهاتف، وبالكاد أكمل دراسته الابتدائية في تلك القرية وعُرف بشغبه وشراسته مع زملائه الطلبة ولم تظهر عليه علامات الفطنة والذكاء أيام التعليم الأساسي في بلاده ومحتده أوكرانيا .

وطوال إقامته في الولايات المتحدة  بدأت سمات الذكاء تظهر عليه خاصةً بعد ان فاز بعملٍ مهندس إلكتروني في شركة " ياهو " وتكليفه بتفقّد أنظمة الدعاية، وكان يجمع بين الدراسة وبين العمل والكدح المضني، وبسبب خلو جيبه فقد كان يستعير الكتب من المكتبة العامة ومن زملائه وأصدقائه ليلتهمها في اقصر وقت ويعيدها الى أصحابها  إذ صمم على تغذية عقله بتقنيات التكنولوجيا الرقمية وعلوم الحاسبات وعالم السوشيال ميديا وجهدَ على المثابرة لإغناء عقله باعتباره طريقا سالكا باتجاه إثراء جيبه وزيادة أرصدته المالية، وهو الذي عاش الفقر المدقع والحاجة القصوى للمال يوم كانت أمّه المريضة بأمسّ الحاجة الى الدواء والعلاج المكلف خاصة وانها لم تكن وقتذاك تمتلك تأمينا صحيا يتيح لها العناية بصحتها ومواصلة العلاج .

ولأن الحاجة أم الابتكار والاختراع  كما يقال في أمثالنا ؛ ففي عام 2009، قام مع شريكهِ  "بريان أكتون" بتأسيس برنامج التراسل للهاتف الجوال "واتس آب" والذي يعني ويترجم تساؤلاً في العربية: ما الجديد؟، والذي اشترتها في فبراير/ 2014 شركة فيسبوك التي سبق ان طردتْه عام / 2007 عندما قدّم على وظيفة تُعينه وصديقه على تحمّل أعباء الحياة وتدعم مشروعه  المجاني في عالم الاتصالات مثلما رفضت تعيينه شركة (تويتر) ايضا، ولكن بإصراره وقوة عزيمته حقق ثروة لا تخطر حتى في خيالات الأحلام وأوسع من حدود الأماني (19 مليار دولار) استلم دفعته الأولى البالغة أكثر من ستة ونصف مليار  وهو الذي كان يُمنّي نفسه بأن يملأ جيبه ببضع مئات من الدولارات ليسدّ رمقه ويقيم أوَده .

والمدهش ان الصفقة التي تمت بينه وبين مؤسس الفيسبوك قد حصلت في نفس البناية البيضاء التي كانت مركزا لاستقبال أمثاله المعوزين اللاجئين وكثيرا ما كان يستلم منها المعونات البخسة بين حين وآخر (بضع مئات من الدولارات وقليل من المساعدات العينية) وكوبونات الحكومة المدعمة لأقرانه المغتربين الفقراء باعتباره لاجئا هو وأمّه وقت شبابه وفتوته  ليقيم أودَه ويسدّ رمق أمه المعوزة المريضة .

تحدّث جان كوم بعد استلامه الدفعة الأولى البالغة اكثر من ستة مليار دولار: كنت في صباي ادخل مكاتب البريد لأتصل بوالدي في اوكرانيا وأبقى ساعات انتظر دوري في مكتب البريد وحالما انتهي عليّ ان ادفع أجرة الخدمات الهاتفية مما يرهق جيبي، ولا اخفي فان هذا الحال المدقع ودفع الدولارات من اجل مكالمة تُريحني كانت سبباً لابتكار الخدمة الهاتفية المجانية في الواتساب؛ لهذا عزمت مساعدة مستخدمي الواتساب بصورة مجانية وسعيِي ونجاحي في تحميل ما ابتكرت في جهاز (الآيفون) الذي امتلكته عام / 2009 بشقّ الأنفس، وهذه ضمن شروطي على إدارة الفيسبوك على إبقائه مجانيا وبدون دعايات إعلانية مفرطة بعد عقد الصفقة عسى ان أوفق في خدمة المعوزين وأخفف عنهم؛ وها أنا حققت ما أريد وكم أسعد حينما أرى مئات الملايين يستفيدون من خدماتي الهاتفية بلا مقابل مادي، فأنا الآن رغم ثرائي ما زلت اعشق الحياة البسيطة التي كنتها في بلادي قبل رحيلي الى الولايات المتحدة؛ وهل أنسى أمّي التي ملأت حقيبتي أقلاما وقرطاسية ودفاتر من مكتبات أوكرانيا حتى لا أضطر الى شرائها بسعر غالٍ في مهجري العالم الجديد .

كثيرا ما تختلج في رأسي فكرة ان المبدع – فنانا كان او أديبا، مخترعا او مكتشفا في أيّ حقل من حقول العلم – لا يصل الى قمة الإبداع والابتكار إلاّ إذا عاش الفقر وتذوّق مرارة الفاقة وقد يصل الى ذلك الفردوس الإبداعي والاكتشاف الذي يصبو إليه؛ لأن الفقر والعوز يعطي العالِم المخترع والأديب والفنان دفعا وزخما أعلى بكثير ممن لا يعيشون معاناة الفاقة وهذا هو حال السيد الأوكراني " جان كوم " مثار حديثنا الذي أقدّم له وافر الشكر والامتنان  كلما سمعت صوت نسلي وأحفادي وأروني شكلهم وجها لوجه عبر اللوح الالكتروني وهم كلّ ذخيرتي في الحياة  ولو استقروا في أقاصي الأرض.

***

جواد غلوم

 

(كي لا ننسى وللتذكير بتلك الأيام السود)*

كلما مر بي أو مررت به لسبب ما، يذكرني شاعر اسبانيا الكبير فيدريركو غارسيا لوركا في بعض من مفاصل شخصيته الرئيسية بالشاعر العراقي خليل المعاضيدي، الذي غيبته الاجهزة القمعية، قبل أكثر من ربع قرن من الآن. فكلاهما غادرا الحياة رغما عنهما وهما في منتصف الثلاثينات من عمرهما، وكلاهما كتبا ضد السلطة الفاشية الحاكمة، وكلاهما انتميا الى جبهة اليسار رغم اختلاف التسميات، وكلاهما قارعا ديكتاتورية الحكم والحاكم بأدوات ووسائل بعيدة كل البعد عن عقلية المراوغة والتستر أو المناورة، فأساليب التعبير عندهما كانت معلنة وواضحة ولا تقبل التأويل ولم تثنيهما عن ذلك او تحد من اندفاعهما أو حماستهما، سياسة البطش والقسوة التي اتبعت وقتذاك، فكانا من الشجاعة ما لا يمكن لأي متابع أو مراقب، نكرانها أو التغاضي عنها وبأي شكل من الاشكال.

قد يرى البعض في تلك المقاربة بأنها غير عادلة وغير متكافئة بسبب من اختلال واختلاف المكانة الشعرية والمساحة الشعرية التي يشغلها كل منهما على انفراد، ولهم في ذلك الحق والعذرا وانه لأمر مفروغ منه، وذلك صحيح الى حد كبير، رغم اني مازلت مقتنعا بأن شاعرية المعاضيدي وهو ابن بلد حافظته الشعر، لو قدر له الاستمرار على الحياة، لكان له شأن آخر، وان كان إفتراض كهذا غير واقعي ومبني على ضرب من المستحيل ولا يخلو من رجما بالتمني، وليكن كذلك مادام هناك انحياز مسبق، بُني كما أرى على معطيات ومؤشرات غيبها الموت المبكر.

ولكي لا نمضي بعيدا في عالم الفنتازيا والتي لا تخلو من بعض من المشروعية، فأن ما نويته من تلك المقاربة وهنا بيت القصيد، هو ذلك الظلم الذي وقع عليهما من ذوي القربى، وبالتالي سنصل بالنتيجة الى فتح موضوع ربما يُعدٌ الاهم حسب ما أراه في تلك المقاربة، الا وهو شكل العلاقة المفترضة والتي ينبغي لها ان تكون مجالا للبحث مستقبلا بين الفنان وانتمائه السياسي، ولا أظنهما أي لوركا والمعاضيدي سيعترضان على الخوض والغوص في رصد حقيقة تلك العلاقة، والتي فتحت فيما بعد الكثير من التساؤلات وأشَّرت كذلك في جوانب هامة منها الى الحيف الكبير الذي لحق بهما وهما في نومتهم الابدية.

ومن خلال تجارب الكثير من الاحزاب السياسية المناهضة للديكتاتورية، خاصة في بلدان العالم الثالث، فأنها ومع أي انتكاسة تتعرض لها وتهدد سلطاتها وبالتالي سطوتها على الشارع فتراها تقوم بجملة من الاجراءات التي تهدف من خلالها الى فرض قبضتها، ليس اقلها العمل على اسكات الآخر، مستخدمة كل الاساليب المتوفرة لديها.

ولأن المثقف المنتمي الى تلك الاحزاب المعارضة يشكل خطورة استثنائية عليها، فتجدها اي السلطات وقد ضاعفت من جهدها ونشاطها القمعي اتجاه هذه الفئة من المعارضين، خوفا من الدور الذي من الممكن أن تؤديه في تهييج وتثوير الشارع وبث روح التصدي والمقاومة ضد هذه السلطات. وتجربة فيكتور جارا في تشيلي وغيرها من التجارب الشبيهة لماثلة للعيان رغم مرور عقود عديدة عليها.

ودورة التأريخ يمكنها أن تعود كما قال الاولون، أما على شكل مهزلة وأما على شكل مأساة. وإستشهاد خليل المعاضيدي يذكرنا بتلك الطريقة البشعة التي صفي بها من قبله شاعر اسبانيا الكبير لوركا، حين جرى إعدامه في عام 1936 بإطلاق الرصاص عليه من قبل مجموعة وصفت حين ذاك بالمجهولة. ونفس الصورة والمشهد سيتكرران في النصف الاول من ثمانينات القرن المنصرم، حين تم خطف وتصفية الشاعر المعاضيدي ومن قبل نفس العصابة والجهة، مع اختلاف البعدين الزماني والمكاني بين الحالتين. ولا بأس من التوقف هنا لنقول، إنَّ ما جمع بين الجريمتين وما إشتركا فيه هي ذات التهمة التي وُجهت لهما من قبل جلاّدي السلطة الحاكمة:( انهما مثقفان .. صنعا بكتبهما ما لم تصنعه المسدسات). اعتقد ان اعترافا بهذه الوقاحة والصراحة، ربما يُعد الوحيد الذي سَيُسجل لصالح القتلة.

إذأً كما النبوءة، اختار مصيره مبكرا وبلغة لاتخلو من اليقين. وكما العارف أيضا بالطريقة التي سيرحل بها الى عالم الخلود ( عرفت انني قُتلت، وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس، فتحوا البراميل والخزائن وسرقوا ثلاث جثث ونزعوا أسنانها الذهبية ولكنهم لم يجدوني قط ). بهذا النص كان لوركا يَشبه المعاضيدي في وداعه الاخير والعكس صحيح أيضا.

لذا بات من المؤكد وعلى ضوء ما مررنا به من تجارب وما سمعنا وقرأنا ونُقِلَ لنا، فإن هناك أعدادا كبيرة غيرهما قد لاقت ذات الحتف وذات المصير. وعن تلك النهايات المأساوية التي رافقت هذا النوع النادر من البشر فلا بأس من التذكير ثانية بأن طلقة واحدة كانت كافية لوضع حد نهائي لحياة الشاعر الاسباني العذبة. وبذات الخسة والنذالة، فإن القتلة وحسب الاخبار التي تسربت آنذاك فأن عملية تغييب خليل لسنوات عديدة يبدو انها لم تشف غليلهم، مما اضطرهم الى الاعلان عن تصفيته أخيرا، وذلك من خلال تسريب خبر خاطف، مخافة ردات الفعل والفضيحة، لم يراعوا فيه ولا ينسجم وجلال الموت مع شاعر بقامة المعاضيدي وما سيشغله في ذاكرة القادمين من بعده.

لَكَمْ كان التقارب شديدا مُذهلاً بين الشاعرين، فمن عاشر وصادق والتقى خليلا، سيجد كم هو مرهف، ناسك وأنيق، في ساعة الخمر أو دونها. سَيّان عنده الأمر بين ساعة السحر ونشوة المدام الاخير، وبين قصيدة يُلقيها بصحبة العاشقين للشعر وللحرية وللأحلام المشروعة البعيدة. لقد كان مُحقا ودقيقا روفائيل البيرتي في وصفه( كان لوركا يتدفق بشحنة من الرقة الكهربائية والفتنة، ويلف مستمعيه بجو أخاذ من السحر، فيأسرهم حين يتحدث أو ينشد الشعر ..). لا أعتقد ان البيرتي سيكون له رأيا آخر لو أسقطنا ما قاله بحق لوركا على شاعرنا خليل أو شعراء آخرين يشبهونه، سيأتون تباعا.

وفي العودة الى تلك الأيام وإذا كنّا قد نسينا فلا بأس من إعادة التذكير بها، والحديث هنا عن أواخر السبعينات المنصرمة وما تلاها. فشوارع وحارات العاصمة قد ضاقت بشاعرنا وسيد هذا المقال وكذلك مَنْ كان بصحبته من الحالمين، وعسس الليل تراهم يتجولون حتى في ساعات النهار بغطرسة وإستهتار وبغير حدود. هذا هو حال بغداد آنذاك وشقيقاتها من مدن العراق الأخرى، وهذا هو حال كل الرافضين للديكتاتورية، لذا ضاقت عليهم النوافذ ومخارج الخلاص والدروب الأمينة.

لقد غادر الرفاق قبل الاصدقاء وأول الهاربين كان كبير القوم، فإنفرط العقد الرابط بين الحق وخائنيه. تلَفَّتَ شاعرنا شمالا ويمينا فلم يجد غير جسده الذي لم يقو على التحمل، فأخذ معه بضع قصائد وجسد متهالك بانت عليه علامات التعب والهوان من طول فترة الانتظار، كذلك من كظم ضيم كان على سدنته حمله قبل الآخرين، ولم يبق له من وسيلة للنجاة وبعد أن إستنفذ كل الطرق الممكنة سوى العودة من جديد الى مدينته رغم كل الجراح وما يمكن أن يلحق به.

وهناك وما كاد يشم عبق البرتقال ورائحة الطلع، تم إلقاء القبض عليه وفي أول نقطة تفتيش، وليتوراى من بعدها جسده الطاهر عن الانظار وعلى يد حراس الضمائر ولم يعثر له على أثر حتى هذه اللحظة. تبارى على تخليده وإستحضار سجاياه ثلة من الحرس القديم، وراحوا يستعيدون عبق عطره وهو في الابدية وبعد فوات الاوان، بينما لاحقته التهم والكبائر ولم تُذكر محاسنه يوم ولد ويوم كان حيا ويوم غنّى لمدينته الفاضلة وانتمائه السياسي. إنه النفاق بعينه.

***

حاتم جعفر - السويد / مالمو

........................

* خليل المعاضيدي شاعر عراقي من ولادة مدينة بعقوبة. استشهد عام 1984.

** لقد كُتِبَ هذا المقال ونُشرَ في وقته على نطاق محدود وذلك قبل قرابة الأربعة عشر عاما، ولأهميته وبمناسبة يوم الشهيد، إرتأيت إعادة نشره مع إجراء بعض التعديلات عليه.

بقلم: حبيب البدوي

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

إن ملحمة المؤلف النرويجي جون فوس الأدبية هي شهادة على القدرة الهائلة للغة على استكشاف أعمق فترات الاستراحة في الوجود الإنساني. منذ بدايته الميمونة في عام 1983، نسج فوس نسيجًا معقدًا من المسرحيات والروايات والمجموعات الشعرية والمقالات وكتب الأطفال. يمتد نطاقه الإبداعي إلى الأنواع الموسيقية، ويسلط الضوء على التنوع النادر الذي لا يحققه سوى القليل من صانعي الكلمات في حياتهم. تلقى أعمال فوس صدى على نطاق عالمي، وفي عام 2023، منحته الأكاديمية السويدية جائزة نوبل في الأدب، مما يمجد قدرته الاستثنائية على التعبير عما لا يمكن وصفه.

تتعمق روايات فوس في المشاعر الخام الصريحة التي تكمن في جوهر التجربة الإنسانية. إنه يواجه القلق وانعدام الأمن والارتباك ببراعة فنية تتحدث إلى القراء على مستوى شخصي عميق، وحتى حميمي. وتشير الأكاديمية السويدية على نحو مناسب إلى أن أعمال فوس "تعطي صوتاً لما لا يمكن قوله"، معترفة بمهارته التي لا مثيل لها في التقاط أدق الفروق الدقيقة في المشاعر الإنسانية.

بمنح جائزة نوبل في الأدب لجون فوس، يشيد عالم الأدب بشخصية بارزة يتجاوز تأثيرها الحدود. تُرجمت كتابات فوس إلى العديد من اللغات، مما مكّن الجمهور العالمي من المشاركة في استكشافه لجوانب الحياة الأساسية: الولادة، والوفاة، والإيمان، وضعف الإنسان. إن موضوعاته العالمية لها صدى عميق، وتقدم للقراء مرآة مؤثرة لتجاربهم الخاصة.

أستاذ أدب متعدد المواهب:

لوحة فوس الأدبية عبارة عن بانوراما لسرد القصص. تشكل الروايات والقصص القصيرة والشعر وأدب الأطفال والمقالات والمسرحيات والنصوص النسيج الغني لإنتاجه الإبداعي. يشهد هذا التنوع على إتقانه لتقنيات السرد، مما يسمح له بالتنقل بين البنيات الدبية المتنوعة بسهولة تامة. في هذه الرقصة المعقدة بين الأنواع، يعكس فوس تعقيد الوجود الإنساني ويتأمل أبعاد الحياة التي لا تعد ولا تحصى بدقة ملحوظة.

صوت ما لا يوصف:

ما يميز فوس هو قدرته على التعبير عما هو غير معلن، وهي ميزة تكمن في جوهر توقيعه الأدبي.إن اعتراف لجنة نوبل بقدرته على إعطاء "صوت لما لا يمكن قوله" يتجسد في أعمال مثل "Septology VI-VII". في هذه الأوديسة المتسامية، يجتاز القراء الحالة الإنسانية من خلال عينى رسام نرويجي مسن. إن نثر فوس، الذي يتميز بإيقاعه الواثق والتأملي، يدعو إلى التأمل العميق. في إيقاعه الهادئ، يمزج بين الذاكرة والروحانية والتأمل الفني، مما يخلق قصة آسرة ومؤثرة بعمق في نفس الوقت.

أهمية نينورسك

إن تفاني فوس في كتابة أعماله في نينورسك يمثل بمثابة تكريم للتقاليد الريفية في غرب النرويج. تعد هذه النسخة المكتوبة من اللغة الإسكندنافية جزءًا لا يتجزأ من التراث النرويجي، الذي يعتز به جزء متواضع من السكان. إن الاعتراف العالمي الذي تحظى به  كتابات فوس يرفع من شأن نينورسك، ويؤكد على أهميتها الثقافية المتميزة. من خلال اختيار نينورسك كوسيلة له، لا يحافظ فوس على تراث لغوي فحسب، بل يشيد أيضًا بالنسيج الغني للثقافة النرويجية.

الاعتراف والإرث

تعد جائزة نوبل التي حصل عليها فوس علامة فارقة في الأدب النرويجي ولغة النينورسك. وهو ينضم إلى كادر حصري من صانعي الكلمات النرويجيين الذين تم تكريمهم بهذه الجائزة المرموقة، مما عزز مكانته كرائد في المشهد الأدبي في البلاد. يعد هذا الاعتراف تأكيدًا واضحًا على التزام فوس الذي لا يتزعزع بالقيمة الجوهرية للأدب، الذي لا تحجبه دوافع خفية أو اعتبارات خارجية.

الإرث والتأثير:

من المقدر أن يتردد صدى إرث جون فوس الأدبي عبر العصور. إن أعظم ما أبدعه يقف بمثابة شهادة على القوة الدائمة للغة وسرد القصص. لقد تركت قدرة فوس على إلقاء الضوء على الحالة الإنسانية وقشرة طبقات الوجود بصمة لا تمحى في عالم الأدب. وستظل أعماله منبعًا للتأمل والإلهام للأجيال القادمة، حيث تقدم شهادة خالدة على قدرة الأدب على الوصول إلى أعماق التجربة الإنسانية.

البصمة الدائمة للحائز على جائزة نوبل:

بمنح جائزة نوبل في الأدب لجون فوس لعام 2023، العالم يعترف بإسهاماته التي لا مثيل لها في الأدب العالمي.إن قدرته على اجتياز أشكال سردية متنوعة وإضفاء الحياة على ما لا يوصف تدفعه إلى مجمع المؤلفين الاستثنائيين. من خلال ولائه للغة النينورسك ورحلته نحو موضوعات عالمية، ترك فوس علامة لا تمحى على الكون الأدبي. يقف إرثه بمثابة تذكير بليغ لقدرة الأدب المتسامية على فهم تعقيدات الوجود الإنساني، مما يترك بصمة دائمة في قلوب وعقول القراء في جميع أنحاء العالم .وأخيراً "دعونا نحلم حتى نحقق".

***

.....................

المؤلف: حبيب البدوى، حصل البروفسور حبيب البدوي على دكتوراه في الفلسفة في التاريخ من الجامعة اللبنانية. وكانت أطروحته عن التاريخ الياباني الحديث. في الجامعة اللبنانية، يشغل البروفيسور البدوي منصب منسق الدراسات الأمريكية ومستشار أكاديمي مطلوب. وقد حصل البروفيسور البدوي على جائزة "الشخصية الأكاديمية لعام 2018" من قبل "المركز الثقافي الآسيوي" لجهوده المتواصلة في تعزيز الدراسات اليابانية في جميع أنحاء العالم. نشر الدكتور حبيب البدوي العديد من الكتب والأوراق البحثية حول موضوعات معاصرة تتعلق بالعلاقات الدولية والجغرافيا السياسية.

 

(1902 – 1998) Theodore Schultz

هو استاذ الاقتصاد في جامعتي آيوا وشيكاغو لاكثر من أربعة عقود، بضمنها ترؤسه لقسم الاقتصاد في جامعة شيكاغو لخمسة عشرعاما، جعل فيها القسم يرتقي لمرتبة متقدمة من بين اقسام الاقتصاد في عموم الولايات المتحدة الامريكية وكندا. وهو الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1979 عن مساهماته الهامة في علم الاقتصاد، وخاصة في حقل الاقتصاد الزراعي وتنمية الريف في البلدان الفقيرة والنامية، ولريادته في دراسة دور التعليم في النمو الاقتصادي ونظرية رأس المال البشري.

في كتابه المعنون "اعظم الاقتصاديين بعد كـَنز"، يقول مارك بلوگ: كان شُلتز في الحقيقة الأب الأول لنظرية رأس المال البشري. كما قالت البروفسورة بَومَن في مقالها المكثف حول مساهمات شُلتز في النظرية الاقتصادية، المنشور عام 1980: منذ مطلع الثلاثينات، كان لشُلتز دورا رائدا في نقل فرع الاقتصاد الزراعي نقلة نوعية اعتمدت النظرية الاقتصادية في التحليل وتبنت الاختبار بالبحث التطبيقي والتدريب والتأثير على السياسة الاقتصادية. أما گـَيل جونسن فقد كتبت في مقالها المنشور بعد وفاة شُلتز: لقد كان بروفسور شُلتز باحثا مبدعا ومعلما متفانيا واداريا ناجحا ومدافعا عنيدا عن الحرية الاكاديمية، وكان في بحثه الاقتصادي لايكتفي بمراجعة المصادر النظرية بل يحرص ان يرى بعينه ويلمس بيده ويسمع من الآخرين. وكان مؤمنا ان هذا المنهج هو الملائم في دراسة القطاع الزراعي، حيث حرص على زيارة مواقع البحث من اجل ان يلتقي بالمزارعين ليرى حالهم ويسمع مشاكلهم. ولهذا فقد تميز عمله الاكاديمي بالقيام بزيارات متكررة في داخل البلاد وخارجها، الى بلدان فقيرة ونامية عديدة.

ولد ثيودور شُلتز عام 1902 في حقل زراعي في قرية قريبة من مدينة آرلنگتن في ولاية دكوتا الجنوبية. کان متفوقا فی المدرسة ومثابرا على الذهاب اليها كل يوم وهي التي تبعد 2.5 ميلا عن بيته، يقطعها مشيا على الاقدام، في الاجواء المطيرة وقارسة البرد والعاصفة بالثلوج! وحين قامت الحرب العالمية الاولى (1914-1918) وتجند اغلب العمال الزراعيين، أقدم والده على اخراجه من المدرسة وهو في المرحلة المتوسطة من أجل أن يساعده في الحقل، وهو الذي واجه الأمر الواقع إذ لايستطيع لوحده انجاز مايتطلبه الحقل من مهمات شاقة. كان ذلك عام 1917 عندما قررت أمريكا دخول الحرب لمجابهة حليف ألمانيا النمسا-هنگاري.

بعد نهاية الحرب وعودة الامور الى مجاريها الطبيعية، واصل ثيودور دراسته ولو بشكل متأخر، الا انه أكمل كل متطلبات الدراسة ودخل كلية الولاية الحكومية عام 1924 واكمل البكالوريوس بثلاث سنوات ليتخرج عام 1927، ويُقبل في قسم الدراسات العليا في جامعة وسكنسن ويحصل على الدكتوراه في الاقتصاد عام 1930. كانت اطروحته بعنوان "التعريفة الگمرگية على علف الحبوب". وفي نفس العام تزوج من احدى زميلاته التي انحدرت من عائلة فلاحية ألمانية الأصل. وقد شاركته فيما بعد اهتماماته في بحوث الاقتصاد الزراعي وعملت على تحرير وتصحيح مسودات بحوثه اثناء تهيئتها للنشر.

مباشرة بعد حصوله على الدكتوراه اصبح استاذا مساعدا في قسم الاقتصاد في جامعة آيوا. وخلال ثلاثة عشر عاما، لغاية 1943، كان استاذا جادا وباحثا مثابرا استطاع ان يرسخ تقليد البحوث الاقتصادية الزراعية على المنهج العلمي التطبيقي. ولأنه ابن عائلة فلاحية، ولد ونشأ في حقل والديه، فقد تجذرت قدماه في الارض وأدرك أهمية ما يزرعه الفلاح ويحصده من أجل نفسه ومن أجل الآخرين، وعرف اهمية العمل في الانتاج والمعرفة في العمل، وضرورة معالجة الفقر وتنمية الريف وتطويره. وهذا هو منشأ اهتمامه العلمي، ليس فقط بالاقتصاد الزراعي بل بالتعليم وقيمته واحوال المجتمعات الزراعية وتأثير الحكومات والقوانين المحلية والفدرالية على القطاع الزراعي. فمنذ البداية كان منشغلا بايجاد الجواب على السؤال: " لماذا يصبح المرء فقيرا؟ والاهم من ذلك لماذا تصبح مجتمعات ومناطق وبلدان كاملة في قائمة الفقر؟ وكيف يمكن تشخيص ذلك؟ وعند تقصي الامر بالبحث وصل شُلتز الى ثلاثة مؤشرات تدل على حالة الفقر:

- نسبة الدخل التي تنفق على الطعام، والقاعدة هي انه كلما ازدادت هذه النسبة كلما اشارت بوضوح الى حالة الفقر. والمعيار الكمي العام هو ان مؤشر الفقر يعني انفاق نصف الدخل أو أكثر على الطعام.

- معدل عمر الفرد المتوقع Life Expectancy

- حالة المعرفة ومستوى المهارات التي يمتلكها الافراد

وهذا يعني انه كلما تحسن المستوى الصحي العام للناس كلما ازداد معدل العمر، وكلما تحسن التعليم واتسعت دائرة المعارف وتقدمت المهارات كلما زادت الانتاجية وتسارع النمو وتحسن مستوى المعيشة. فالصحة والتعليم هي العجلات الاساسية التي تمكن القطار من مغادرة عالم الفقر والبؤس.

في السنوات الاخيرة من خدمته في جامعة آيوا، دخل شلتز في موجة من الصراعات الادارية والجدال الاكاديمي حول قضية اعتبرها مبدأية لايمكن ان يحيد عنها، وهي قضية التناقض بين دور العلم والجامعة من ناحية ودورالسياسة والشركات الخاصة من ناحية اخرى، وأيهما سيخدم مصالح المزارعين والمستهلكين في نهاية المطاف؟ واين الحرية الاكاديمية من كل ذلك؟ تصاعدت هذه الموجة من الصراعات بسبب كراس اشرف على تحريره شُلتز واعتبرته الشركات الخاصة بالصناعات الغذائية ضد مصالحها، وألّبت عليه المزارعين واقنعتهم بأن ما تنشره الجامعة عبارة عن دعوة لقطع ارزاقهم. وشيئا فشيئا دخلت اطراف أخرى فنشبت ما سمي بحرب الزبد والمارجرين.

حرب الزبد والمارجرين

إبان الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وبالذات في عام 1942، طلب وزير الزراعة الامريكي من شُلتز، الاستاذ في جامعة آيوا، وبمساعدة سلطات الولاية وادارة الجامعة، ان يقود نخبة من الاقتصاديين والخبراء الزراعيين لصياغة السياسة الغذائية لولاية آيوا في وقت الحرب، على ان تُعد وتنشر على شكل مطبوعات وتعمم على الدوائر المختصة. وبعد ان انهى شُلتز ولجنته اعداد الدراسة وحصل على موافقة رئاسة الجامعة وحكومة الولاية، حصل على منحة من مؤسسة روكفلر لانتاج وتوزيع الدراسة التي قسمت الى 15 كراسة تتضمن شروح وتعليمات ونصائح وتوصيات حول كل ما يتعلق بانتاج وتوزيع واستهلاك المواد الغذائية في ظروف الحرب. وكان قد استقبل مواطنوالولاية ومزارعيها واصحاب الصناعات الغذائية الكراسات الاربعة الاولى بحرارة وحماس، الا ان الكراسة رقم 5 جاءت كقنبلة موقوتة في بحيرة الرضا والوئام.

كان الهدف الاساسي من هذه الكراسة ترشيد استهلاك الحليب ومنتجاته، وخاصة الزبد الذي كان يتمتع بطلب عالي آنذاك، وتوفير مايمكن توفيره من المستهلكين وتحويله الى جبهات القتال. وقد أقترحت التوصيات ان يصار الى تعويض الاستهلاك المحلي من الزبد بمنتج بديل وهو المارجرين. وكان المارجرين آنذاك قد اجيز انتاجه قبل سنوات ونجح في الاسواق كبديل صحي ويشابه الزبد في صفاته وطعمه إلا انه ارخص بكثير من الزبد. كان ذلك الكراس بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير! فقد ثارت ثائرة اصحاب حقول تربية الابقار واصحاب صناعات منتجات الحليب والمزارعين واصبح الخبر يتردد في وسائل الاعلام مما حفز المواطنين ان يركبوا موجة السخط على لجنة شُلتز فاتسع الامر وتعقد وتحول الى ضغط على الجامعة من قبل دوائر الحكومة والشركات الخاصة، وكلاهما يساهم مساهمات مالية كبيرة في تمويل الجامعة. وابتدأت الجامعة تحول الضغط المسلط على دوائرها الى ضغط على فريق البحث ومحاولة اقناع شُلتز العدول عن تلك التوصيات واعادة النظر في الكراس الخامس، لكن شُلتز وفريقه رفضوا ذلك رفضا قاطعا. ثم حاولت الجامعة تشكيل لجان اخرى لتنقيح ماجاء في الكراسة الخامسة، الا ان هذه اللجان لم تنته بنتيجة مقبولة. وهنا تحول الامر عند شُلتز وفريقه من قضية الزبد والمارجرين الى قضية اكبر بكثير وهي الحرية الاكاديمية التي ينبغي ان تصونها الجامعة وحكومة الولاية، وقضية استقلال العلم عن السياسة التي ينبغي ان يحرص عليها كل مواطن يعيش في ظل النظام الديمقراطي الدستوري. وحين وصل الامر الى مفترق طرق ولم تسفر النتيجة عن اي حل يرضي الطرفين، قدم شُلتز استقالته الى الجامعة، وقد استقال معه 19 اقتصاديا. فكان ذلك الحدث قد هز الاوساط الاكاديمية في الولاية وفي عموم البلاد. وعلى أثر استقالة شُلتز من جامعة آيوا دعته جامعة شيكاغو لان يكون عضوا في الهيئة التدريسية لقسم الاقتصاد. فحقب حقائبه وذهب الى شيكاغو عام 1943 ليتسلم مهامه كاستاذ في الاقتصاد. وفي عام 1946 اُنتخب رئيسا لقسم الاقتصاد وبقي يعاد انتخابه لغاية 1961. بقي في جامعة شيكاغو لحين تقاعده من العمل الجامعي عام 1972، لكنه لم يتقاعد من العمل الاكاديمي فقد استمر يزاول نشاطه في البحث والدراسة حتى بعد التسعين من عمره.

الانتاج الزراعي واوضاع الريف

منذ الثلاثينات كان الاقتصاد الزراعي هو اهتمام شُلتز الاول في البحث، وحين عمل في جامعة آيوا واصل بحثه في هذا المجال فكان من المتحمسين الاوائل لادخال تحليل النظرية الاقتصادية لهذا الفرع من الاقتصاد الذي كان قبل ذلك عبارة عن خليط من الادارة والتسويق ومالية القروض. وحين ذهب الى جامعة شيكاغو وتمكن من الحصول على منح تمويل لمشاريع اقتصادية من قبل مؤسسات خاصة اهمها مؤسسة روكفلر، تمكن من السفر الميداني داخل وخارج البلاد ونشر مجموعة من الكتب الرائدة الهامة في الاقصاد الزراعي منها: النظام الاقتصادي في الزراعة (1953)، التحول في الزراعة التقليدية (1964)، الازمات الاقتصادية في القطاع الزراعي (1965)، النمو الاقتصادي في القطاع الزراعي (1968)، و الاختلال في الحوافز الزراعية (1978).  وعبر هذه الدراسات المستفيضة كان صوت شُلتز واضحا يقول ان تخلف القطاعات الزراعية وتفشي الفقر والاجحاف في الارياف هو قبل كل شئ بسبب عدم اعطاء هذا العالم الزراعي مايستحقه من اهتمام من قبل مخططي السياسات والحكومات المختلفة وتحويل كل القدرات التنموية الى القطاعات الحضرية. وفي كتابه "التحول في الزراعة التقليدية" الذي اُعتبر فيما بعد من الاصول في هذا المجال، رفض شُلتز بشدة الاعتقاد الذي ساد لدى الاقتصاديين آنذاك بأن تخلف القطاع الزراعي في البلدان الفقيرة والنامية ناشئ عن سوء القرارات الانتاجية التي يتخذها المزارعون المحليون والتي تتسم بعدم العقلانية والدراية والحصافة حيث توارثو رفض التوسع والتطوير وخشية الابتكار وادخال التكنولوجيا في حرث وري الاراضي وزراعة وحصاد المحاصيل الزراعية. وقد صرح شُلتز ان من يعرف اولئك المزارعين عن كثب سيرى عقلانيتهم ودرايتهم بالزراعة وان رفضهم التوسع والتطوير وادخال التكنولوجيا يأتي لاسباب حقيقية منها انتهاز الفرصة لزيادة الضرائب على اراضيهم ومحاصيلهم وتسيد الحكومة على تسعير اغلب منتجاتهم بما لايكفي لتعويض اتعابهم وتحفيزهم لمزيد من الانتاج وتطويره. والمعالجة المنطقية هي تقليل التدخل الحكومي واعطائهم الاعتبار المعنوي قبل المادي والفضاء الشخصي وحرية التصرف التي تمكنهم من اتخاذ قراراتهم بما تمليه ضرورات الانتاج ومايسمح به سوق المخاصيل الزراعية. عندذاك سنراهم يسعون لتبني التكنولوجيا ووسائل التحديث التي تقلل من الكلف وتزيد من ايراداتهم.

كما وقد كشف شُلتز بأن المساعدات الانسانية التي تقدمها البلدان المتقدمة للبلدان الفقيرة والنامية على شكل مواد غذائية او اموال لاتسهم في مساعدة تلك المجتمعات كما يجب بل تضرها في الغالب، ذلك ان المزارعين ومنتجي الغذاء لايستطيعون منافسة الاغذية الجاهزة التي توزع مجانا. ولذلك يصبح الانتاج المحلي متراجعا بمرور الزمن. ولهذا السبب كان شُلتز من أوائل من حثوا الولايات المتحدة على تغيير شكل المساعدات الى وسائل ومواد تعليمية وكوادر تدريب وارشاد زراعي ودعم البحوث والتجارب وتقديم المكائن والالآت والاسمدة والمبيدات التي تحفز الانتاج المحلي وتقلل من كلفته فيستطيع المزارعون من بيعه بربح ويتشجعوا لاعادة الانتاج والتوسع فيه وتطويره. وهذا هو الاستثمار الحقيقي الذي يمكن المجتمعات الفقيرة من ان تعتمد على نفسها وتقف على ارجلها بعزة وفخر بدلا من اغداق العطايا والصدقات.

رأس المال البشري

بموجب مراجعة البروفسور بَومَن للمساهمات النظرية لشُلتز المنشورة في المجلة الاقتصادية الاسكندنافية عام 1980، فإن أول منشور حول رأس المال البشري بمعناه المعاصر كان عام 1958 في الدراسة التي نشرتها جامعة شيكاغو بعنوان "الوضع الاقتصادي والتعليم المدرسي". كانت هذه الدراسة المتأنية بمثابة البذرة الأولى لنشوء وتطور مفهوم رأس المال البشري عند شُلتز ومن تبعه من اقتصاديي مدرسة شيكاغو علما ان جيكب منسر قد طرق الموضوع بشكل مستقل. وقد طور شُلتز الدراسة الى بحث أوسع ألقاه في مؤتمر جمعية الاقتصاديين عند انتخابه رئيسا لها عام 1960، ثم نشره في مجلة AER عام 1961 بعنوان "الاستثمار في رأس المال البشري" فاصبح المذهب والمصدر الاساسي في هذا المجال. لكن الدراسة التنويرية الاولى بقيت في الظل مدة طويلة، علما ان شُلتز قد أكد فيها على نقطتين أساسيتين:

- ان النمو الاقتصادي يرفع من قيمة الوقت الانساني

- ان نوعية الوقت الانساني المبذول في اي نشاط مرهون بمعرفة ومهارة المرء التي ينميها ويصقلها التعليم والتدريب والمراس والخبرة.

جاءت هذه النقطة الثانية اجابة على تساؤله عن ما لذي يفسر ماتبقى من الزيادة في النمو الاقتصادي التي عزتها بعض الدراسات الحديثة المنشورة آنذاك: (Ambramovitz, 1956; Kendrick, 1956; Solow, 1957 )، والتي جاءت بما يلي:

- تعزى 1\2 الزيادة في الناتج المحلي الصافي الى زيادة وقت العمال المبذول في العمل اضافة الى دور رأس المال المادي.

- يعزى 1\8 الزيادة في الدخل الاجمالي لكل ساعة عمل الى زيادة كمية رأس المال المادي

وبذلك تساءل شُلتز لمن يعزى، إذاً، الباقي من الزيادة في نمو الناتج او الدخل؟ فكان جوابه ان الباقي لابد ان تفسره التحسينات في نوعية الموارد، وأول هذه الموارد هو نوعية الانسان المحكومة بمعرفته ومهارته وخبرته.

كما جاء شُلتز بطريقة لتقدير القيمة الاجمالية لرأس المال البشري بحساب مكونين هما:

- كلفة رأس المال البشري الاستثمارية

- ومعدل العائد لتلك الكلفة الاستثمارية

وقد اضيفت بعدئذ تقديرات لقيمة كلفة الفرصة او الكلفة الفائتة Opportunity Cost.

هناك ملاحظتان استوقفتا شُلتز، وعلى اثرهما بدأ بالتفكير حول موضوع رأس المال البشري:

1. عندما كان رئيسا لقسم الاقتصاد في جامعة شيكاغو، قاد مشروعا يتمحور على الاجابة عن السؤال: لماذا استطاعت ألمانيا واليابان أن تعيد الحياة لاقتصاداتها بسرعة مذهلة بعد التدمير الشامل الذي حدث لهما خلال سني الحرب العالمية الثانية، بينما لم تستطع بريطانيا أن تحذو حذوهما فقد اصاب الاقتصاد البريطاني كساد قاس طويل اعتمد سكانها خلاله على العيش على الحصص التموينية الغذائية التي اقرتها الحكومة؟ والجواب يكمن في ان ألمانيا واليابان حظيتا بوجود نسبة عالية من السكان المتعلم تعليما جيدا والمنضبط والذي يتمتع بصحة افضل. وقد ثبت بالدليل العملي ان التعليم والصحة يرفعان من انتاجية العمل ومن معدلات الاجور وبالتالي يسرعان وتيرة النمو الاقتصادي. ومن هنا اتجهت الانظار الى الاهتمام بالاستثمار في رأس المال البشري، تماما كما يجري الاستثمار في رأس المال المادي من أجل رفع معدلات العائد الاقتصادي.

2. الحكاية التي صادفت شُلتز خلال احدى زياراته الميدانية للحقول الزراعية الذي كان بادارة زوجين مسنين. تعجب شُلتز على حالة التناقض الواضح بين فقر حالهما وبين علائم القناعة والرضا، ان لم نقل السعادة التي كانت تشرق على محياهما. أثار ذلك التناقض فضول شُلتز فبادر بالسؤال: ما سر هذه القناعة الطاغية وانتما في حال لاتُحسدان عليه؟ أجاب الزوجان بثقة عالية: نحن لا نشعر بالحيف او فقر الحال لاننا بعملنا الدؤوب في هذا الحقل المتواضع استطعنا ارسال اربعة اولاد الى افضل جامعات البلاد! سيتخرجون ويعملون من اجل منفعتهم الشخصية ومن اجل خدمة بلدهم، وهذا هو انتصارنا الاكبر على أية صعوبة.

معيار رأس المال البشري Human Capital Index (HCI)

هو المؤشر الذي يقيس كمية رأس المال البشري من ميلاد الطفل لحين بلوغه الثامنة عشر من اجل معاينة سير الحالة الصحية والتعليمية وتأثيرهما على العمل لدى الفرد، وما تفرزه من تأثيرات على الاجيال القادمة. يقوم البنك الدولي بتقدير هذا المعيار سنويا من اجل المقارنة بين البلدان.

تتراوح قيمة هذا المعيار بين واحد وصفر.  يعني الواحد ان البلد حقق ما يستطيع من تقدم في مجالي الصحة والتعليم قياسا بما هو مخطط له، فيما يعني الصفر انه لم يتمكن من ان يصل الى ما خطط الوصول اليه. وبينهما درجات متعددة من نسب التنفيذ. علما ان حساب هذا المعيار يقوم على ثلاثة مؤشرات:

- مؤشر البقاء الذي يقاس بنسبة الاطفال الذين يبقون أحياءً بعد سن الخامسة

- مؤشر التعليم ويقاس بـ:

1. عدد سنوات الدراسة المتوقع اجتيازها لحين بلوغ الطفل سن الثامنة عشر

2. نوعية التعليم التي يحددها أداء الاطفال عبر اختبارات معينة

- مؤشر الصحة ويقاس بـ:

- 1. عدد الافراد البالغين الذين يعمرون الى عمر 60 وأكثر

2. الحالة الصحية للاطفال مقاسة بالنمو الجسدي السليم ومدى حسن أو سوء التغذية والتعرض للامراض الشائعة

عندما تأكد شُلتز من ان تطور رأس المال البشري المتمثل بازدياد المعرفة والخبرة وتقدم مستويات التعليم والتدريب والصحة عوامل تعمل مجتمعة على زيادة الانتاجية وزيادة الدخل وبالتالي تنوع مصادر العيش والرفاه للمجتمع ككل، كان لابد من ملاحظة التأثير العكسي على ذلك المعزز بالبيانات المسجلة التي تفيد بانه كلما زاد دخل العوائل كلما ازداد الميل الى تقليل الانجاب والاكتفاء بعدد اقل من الاطفال قياسا بحجم العائلة الكبير المطلوب في المجتمعات الزراعية التقليدية. فاضافة الى السبب المتمثل بانتشار الصناعات الصغيرة والحرف والمتاجر التي قللت من الاعتماد الكلي على العمل في الزراعة، فان السبب الاهم هو ادراك الغالبية من العوائل ان عددا اقل من الاطفال سيتيح توفير مستويات اعلى من الرعاية لهم، أي ان نوعية الاطفال ستزداد متمثلة بقدرة العوائل على توفير التعليم الافضل لهم وتوفير كل ما يحتاجونه من وسائل المعرفة اضافة الى الاهتمام الافضل بالرعاية الصحية لهم. وهذا ما اصطلح عليه بالعلاقة العكسية بين كمية الاطفال ونوعياتهم الذي درسه بعمق وطوره زملاء وطلاب شُلتز من مدرسة شيكاغو وعلى رأسهم گـَري بَكَر الذي تخصص باقتصاد العائلة وحاز على جائزة نوبل في هذا المجال.

واخيرا فان الاستنتاج الاخير هو ان مستقبل الانسانية الزاهر لاتحدده مساحة الارض الصالحة للزراعة ولا عدد السكان ولا كمية الموارد الجاهزة للاستغلال كما كان الاعتقاد سائدا من قبل، انما الثورة العلمية والانفجار المعلوماتي وتوسع المعارف وتطور التكنولوجيا، اضافة الى تنقية سريرة الانسان وتخلصه من الشرور ونبذه النزوع الى الصراعات والحروب والتمسك باشاعة السلام والمحبة بين الناس هو السر لتأمين مستقبل افضل للانسانية جمعاء.

وفي الختام لابد ان نذكر أن ثيودور شُلتز فاز بعضوية الاكاديمية الامريكية للعلوم والفنون وجمعية الفلسفة الامريكية عام 1958، وعضوية اكاديمية العلوم الوطنية عام 1974. كما انتخب رئيسا لجمعية الاقتصاديين الاومريكيين عام 1960، وحصل على ثمان شهادات دكتوراه فخرية من جامعات مختلفة. وفي عام 1972 منحته جمعية الاقتصاديين أعلى وسام بإسم Francis Walker Medal. كما قامت حكومة ولاية دكوتا الجنوبية بتشييد مجمعا من الاقسام الداخلية للطلاب الذين يتخصصون بالدراسات الزراعية واطلقت عليه اسمه T.W. Schultz Residence Halls

تـُوفي في إيفانستن – إلينوي عام 1998 ودُفن في مسقط رأسه في قرية باجر- آرلنگتن في ولاية دكوتا الجنوبية.

***

ا. د. مصدق الحبيب

طفلة، وجدتُ نفسي أحمل شموع الشعانين وأرتل مع المرتلين، ممسكة بفستان أمي المسيحية، بعد أن أكون قد استيقظتُ على صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد يقرأ ما تيسر له من القرآن الكريم، وهي القراءة التي عودتنا أمي المسيحية أن نبدأ يومنا بها، كلّ يوم تتجادل مع ابي المسلم الشيعي لتغيير محطة صوت العرب من القاهرة وتعليقات احمد سعيد.

هكذا تربيتُ على تعدد الأديان وممارسة طقوسها بمقاييس مختلفة، امي المسيحية تعتنق مذهب الروم الارثودوكس كانت قد قدمت من منطقة وادي النصارى في سوريا، من قرية صغيرة محافظة اسمها الجويخات - جنة الله على الارض- كانت امي المسيحية تضع منديلًا على رأسها، كانت تتحجب حسب التعبير الاسلامي، هكذا جاءت من سوريا من مجتمع مسيحي محافظ، والتقت في طرابلس بوالدي المسلم الشيعي القادم من الجنوب، مع كل ما في شخصيته من عروبة وثورة ونضال. هو لم يطلب من والدتي ان تتحجب ولكن اهله طبعًا كانوا مسرورين لمنظر أمي المسيحية المتحجبة، على فكرة الديانة المسيحية تدعو الى "السترة" ووضع الحجاب على الرأس، هذه التوصية ذابت مع الزمن واصبح الخوري يناضل من اجل وضع الحجاب فقط داخل الكنيسة، هذا الحجاب الذي تحول الى قطعة من الدانتيلا الشفافة الأنيقة المغرية. وهكذا اصبحت هذه الدانتيلا رمزا للمسيحية كما اصبح الحجاب السميك رمزًا للاسلام! لعلنا نسينا ان هذا الزي كان وقاءً لشمس الصحراء المحرقة التي كانت تلسع رأس اليهودي والمسيحي والمسلم، نساءً ورجالًا على حدّ سواء، ولعلّ غطرة الرجل في الخليج شاهد على كلامي؟

مع الأيام دخلتْ الى عائلتي ديانات اخرى، فأختي الوسطى تزوجت علويًا وانا تزوجت مسلمًا سنيّا، وبطبيعة الحال اولادي هم مسلمون سنيون، وابن اختي تزوج مسيحية مارونية وابنتي تزوجت مسيحي انجيلي. فقط الطائفة الدرزية استعصت على عائلتي وعلى فهمي فرحتُ أبحث في الكتب النادرة عن الاصول ما خفي منها وما ظهر.

هذه الحياة التي عشتها بين مسجد وكنيسة، وتعدد الاقارب من مشارب مختلفة جعلتني انظر الى الامور بمنظور مختلف واحيانًا محيير: فعند اعمامي الدين الحق، وعند اخوالي الدين الصحيح، وعند نسيبي الدين الاصح، وهكذا وجدتُ نفسي اجادل وادافع عن كلّ الاديان، كلّ يوم اتقمص  دينًا، البسه ويلبسني، واستبسل بالدفاع عنه، فكيف سيدخل اعمامي الى النار؟ وكيف سيحرق اخوالي بها الى ابد الآبدين؟ واحفادي كيف سيحرمون جنة الخلد؟ اذ أن كل فرد كان يعتقد، بكل ما أعطي من قوة ورجاحة فكر بان الجنة لطائفته فقط، وللطوائف الاخرى "جهنم وبئس المصير".

طفلة ضعتُ، انبهرتُ بالشموع وموسيقى القداديس، صبية ابتعدتُ عن الحجاب الذي سيخفي شعري الجميل، وجدت نفسي الجأ الى الفلسفة وعلم الأديان واخترت موضوع دبلوم الدراسات العليا: الاديان المقارنة، عندها غرقت في طوفان الأديان، فدخلتْ عليّ البوذية ومدارسها المتعددة، والشنتية والبابوية والبهائية والمورمونية والكثير الكثير من الملل والمعتقدات السماوية وغير السماوية.

وبعدَ التعمق والتبحرّ والتبصرّ، وتعلقي بحبال الموضوعية وتحكيم العقل، انتهيتُ الى حقيقة نسفتْ عندي كلّ ما تعلقت به من ستائر المقدّسات: الأديان هي واحدة، مصدرها واحد، تبدأ من أشور وآمون وتنتهي الى ما لا نهاية، مرورًا بالأنبياء بموسى وعيسى وخاتم الانبياء. فالعقل والدين خطان متوازيان لا يلتقيان مهما حاولتَ أن تضعف شطط العقل او أن توقدَ ومضات القلب، الدماغ للعقل والقلب للدين.

وبعد حياة امضيتُها بالجدال والدفاع، والاخذ والردّ والتنازع على الجنان، خلصتُ الى هذه الحكمة - لو سمحتُ لنفسي أن أسميها حكمة - : دعْ كلّ انسان على معتقده، لا تجادل ولا تحاول الاقناع، الاقناع بماذا؟ فكلّ الطرق تؤدي الى إحياء الانسانية في قلب البشرية.

الانتماء للانسانية هو الحلّ.

وما زلتُ حتى اليوم استيقظ على صوت الشيخ عبد الباسط وأذهب الى الكنيسة ايام الشعانين!

***

بقلم د. أميرة عيسى

الصفحة 1 من 7

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم