المثقف - قضايا
سليم الحسني: العراق: وهْمُ الدولة (3): جذور المشكلة الوطنية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. سليم الحسني
أبدأ هذه الحلقة بالشكر الجزيل، للقراء والمتابعين الكرام، وخصوصاً كل من شارك في كتابة تعليقه، فقد عكست بقسميها المؤيد والمعارض، درجة عالية من الرغبة المسؤولة في البحث عن المشكلة باتجاه ايجاد الحل. وهذه هي المهمة التي يجب ان نشترك فيها من أجل هذا الشعب المسكين الذي أرهقته حقب الظلم الطويلة المتتالية عبر التاريخ.
لقد كان الفرد العراقي لقرون عديدة يفتح عينيه على الحياة، فيجد المسؤول الإداري والضابط العسكري والحاكم، غرباء ليسوا من هذه الأرض ولا يتكلمون لغتها، لكنهم يتحكمون بحياة عائلته وعشيرته ومنطقته. ويكتشف بالتجربة أن جهده وتعبه يذهب للأجانب الذين يحكمونه ويتحكمون به. أي أنه أجير ولد في هذه الأرض.
فمنذ القرن الخامس عشر، وحتى العقد الثاني من القرن العشرين كان العراق خاضعاً لحكم القبائل والعوائل التركية، بدأت بالخروف الأسود ثم الخروف الأبيض التي سقطت على يد الصفويين الأتراك، ثم جاء احتلال العثمانيين الأتراك، واستعاده الصفويون ثم استقر للعثمانيين حتى أواخر الحرب العالمية الأولى.
وطوال هذه الحقب من الخضوع للدول المحتلة، لا يمكن الحديث عن شعور وطني، بالمعنى الدقيق لمفهوم الوطن، فالحاكم تركي والادارة تركية والقادة العسكريون وكبار الموظفين أتراك. فكان الانتماء لوطن اسمه العراق، هو انتماء نظري الى حد كبير. ولا يمكن طوال تلك الفترة إخضاع الشعب العراقي لمعايير الوطنية.
ومع أن الحكم العثماني المتواصل بدأ عام 1638 وانتهى عام 1917 حين سقطت بغداد بيد الانكليز، إلا أن المواطن ظل يحتاج الى تأكيد انتمائه العثماني طبقاً لقانون الدولة لكي يثبت اصالته العراقية من خلال شهادة الجنسية بحقل (التبعية العثمانية)، فهذه العبارة هي وثيقته الرسمية في تحديد هويته وإنتمائه للعراق. إنها حقاً مفارقة غريبة، أن يكون الإحتلال الخارجي بنداً قانونياً يحدد الانتماء للوطن، في زمن الدولة العراقية المستقلة.
ربما لم يفكر اصحاب القانون في شؤون الجنسية والأحوال الشخصية، أن صياغة هذه العبارة، لها أثر سلبي على الشعور الوطني، وأن بالامكان اختيار عبارة أخرى تدعم هذا الشعور وتنميه لدى المواطن.
...
في قرون الاحتلال العثماني، كان الشاب العراقي مجبراً على الانخراط في الجيش ليقاتل تحت قيادة ضباط لا يتكلمون لغته، في أرض لا ينتمي اليها ولا يرتبط بها، فيقاتل في قفقاسيا حيث مات عام 1877 آلاف من الشباب العراقيين المجندين في الجيش العثماني بسبب البرد والجوع والمرض. كما مات الالاف ايضاً منهم بسبب الجوع والعطش اوائل القرن العشرين حين خاضت الدولة العثمانية حرباً في صحراء نجد.
كان الحكم العثماني، ينتهج التدمير الاجتماعي، فقد قام بتفكيك العشائر العراقية، من خلال تعيين شيوخ عليها يضمن الولاة طاعتهم، ويحصل منهم على الضريبة المفروضة، وهي جهود الفلاح الفقير وتعبه طوال السنة. كما كان الولاة يعمدون الى إثارة العشائر بعضها على بعض، لمنع أي وحدة اجتماعية قد تقوم بينها. واذا ما أبدت احدى العشائر الممانعة، جردت لها الحكومة حملة عسكرية تدمر مزارعهم وبيوتهم وتستولي على مواشيهم، فتضطرهم الى الرحيل عن أرضهم. ويروي المؤرخ الشهير عباس العزاوي في كتابه الضخم (العراق بين احتلالين) وقائع مؤلمة عن حال العشائر العراقية في الزمن العثماني. كما تناول الدكتور علي الوردي السياسة العثمانية في العراق والحملات العسكرية والقسوة المفرطة التي مارسها العثمانيون مع العشائر.
وتعامل العثمانيون مع المسألة المذهبية بشكل طائفي مدروس، فقد عاملوا الشيعة بظلم كبير، وضيقوا عليهم أكثر من السنة، لدرجة أنهم كانوا يُبعدون الجندي الشيعي عن المناطق الآمنة والقريبة، ويزجون به في أماكن حدودية نائية.
...
لا يمكن الحديث عن تلك الحقبة وفق المقياس الوطني، لأن عناصره مفقودة تماماً من الواقع. فطبقاً لأبسط التعريفات حول الوطنية، هي (ان يحب الفرد بلاده)، فأين هي البلاد التي كان يعيش فيها العراقي وهو يتعرض للتشريد والظلم من قبل الولاة العثمانيين الذين يعملون في حكومة السلطان في اسطنبول؟.
وكيف يمكنه ان يحب بلاداً يحكمها رجال لا يتكلمون لغته وتذهب خيراتها لهم، وعليه أن يفني حياته محروماً من أبسط الحقوق؟
وإذا تتبعنا التعريفات والمفاهيم الخاصة بمصطلح الوطنية، فاننا من الناحية العلمية لا يمكن ان نتعامل مع الشعب العراقي في فترات الحكم العثماني، وفق مفهوم الوطنية. لقد أخرجته الظروف القاسية وشكل الحكم وهويته الأجنبية، من هذه الدائرة، فكان مجموعة بشرية مضطهدة تعيش مستعبدة على رقعة أرض تسمى العراق.
يجب إنصاف اجدادنا بابعادهم عن هذه المناقشة. لقد كان (جان جاك روسو) منطقياً وواقعياً عندما اعتبر أن الوطنية لا تنفصل عن الحرية، وقال باستحالتها في مجتمع مستعبد.
...
ليس لأجدادنا دخل في هذا الموضوع، لقد كانوا ضحية الظلم العثماني على مدى قرون من الزمن، وهذا يعني أن علينا ان نناقش وطنية الانسان العراقي، في مرحلة الدولة العراقية بعد عام 1920، ثم في مرحلتها بعد العام 2003 ودور الطبقة الحاكمة فيها.
لها تتمة
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها.