تجديد وتنوير

شهدتْ مساحةُ المُقدّس بعد 2003 امتداداً هائلاً، يكاد يوازي - إن لم يكنْ قد  تجاوزَ- مساحات التقديس طوال القرون السابقة، ليشكّل منظومة شُبه متكاملة لسبغِ مفاهيم ذاتِ حمولاتٍ دلالية بعينها وتوظيفها بعيداً عن الحقولِ الِبكرِ التي صيّرتها واستمدت حقلها المعرفي من ينابيعها التأسيسية الاولى . يستندُ -عادةً- الوصف بالمقدس إلى سردياتٍ رمزيةٍ سابقة تُبرر استعمال هذا التكثيف الدلالي بوصفه يمتلك طابعاً استبعادياً لما سواه، هذه السرديات بطبيعتها تستضمر بُعداً ايديولوجيا تحاول بثّه وتسويغه وحمايته بكتلة دلالية من الألفاظ المُنتزَعة من سياقها الاستعمالي، وبعبارة لسانية: ما تَسِميهُ اللسانيات ب(أثر المعنى)، فاللسانيون ما انفكّوا من الإلحاح على فكرة أن معنى الكلمة يجب أن يسْمحَ بفهم الآثار التي ينتجها توظيفه السياقي، والتتبع التاريخي لجذر (المقدس) المزواج بين اللغة والدلالة، يجد أن اللحظة القرآنية الحاسمة في طبيعة الارتباط الدلالي وأثره في بلورة اللغة العربية بصيغتها المعطاة يرصد أن لفظَ المقدّس قد اُستعمل لوصفِ أرضٍ مخصوصة (3) مرات جاءت في خطاب من الباري لموسى (ع) في خطاب سياقي ديني بحت، ما أحاول قوله هنا، أنّ ترحيل هذا المفهوم بكلّ حمولاته الدلالية خارج سياقه الاستعمالي للحظة القرآنية بلا ضابط معرفي أدى إلى إعادة صياغة بشريّة لهذا المفهوم حملت طابعاً نفعياً احتكارياً، وهذا الاستعمال هو أقرب إلى حقل العلمانية منه إلى الأصل الديني القائم على التعبّد والعلاقة بالمقدس بوصفه المتعالي والطاهر، فالشعور بالمقدس تعرّض للتوظيف في مجالات سياسية بمعطيات دينية وهو توظيف نفعي دنيوي يرتدي جلباب الدين بمطالب مُعلْمَنة، يتبلور هذا المُشْكل في سياق التدافع الحاص في الفضاء السياسي الذي تشهده المنطقة والعراق على وجه خاص، فالدولة لا يمكن أن تُعيدَ إنتاج نفسها تحت فضاء التنافس مع المُقدّس البشري، وفي قدرتها على تسويق معنى للحياة في ظلّ اتساع الشعور بالخواء عبر توظيف المُقدّس وتكاثره من قبل فاعليين عملوا على اختراع مقدّسات لا - مكانية بوصفها أدوات تُستعمل للحصول على مطالب ترتبط ومفهوم العلمنة على نحوٍ لا شكّ فيه، هذا الاستعمال يجعل من خضوعهم للمساءلة أمراً في غاية الصعوبة وإن كان على المستوى التساؤل الذي يهدفُ للفهمٍ لا غير، فضلاً عن شيوع نزوع احتكاري لإطلاق هذا التوصيف من قبل جماعات الإسلام السياسي ونُدرته في أدبياّت الاتجاهات الإسلامية الأخرى، ليغدو هذا المفهوم المرتبط بالُطهرانية وسيلة من وسائل التنافس السياسي في ضوء التداخل الشديد الحاصل بين ما هو ديني وما هو سياسي، إذ يجري استعمال الدلالات بقصدٍ معاكس لاستعمالها التداولي الذي يرتبط بإدخال المقام مرتكزاً أساسياً للتوظيف المعرفي الذي يحاولُ حصرَ المعاني وفق ضوابط مُحدِّدة بعيدا عن الذاتية والاستعمال المخاتل، هذا الاستعمال الذي لا يُصرّح بغايته الحقيقية في علْمنةِ مفهوم المقدّس ونقله من حقل إلى حقلٍ آخر مع الاحتفاظ بحمولاته الدلالية وتوظيفها في الفضاء الدنيوي العام والسياسي على نحوٍ خاص .

***

د. مؤيد عبد صوينت

 

يبدو للتتبع التاريخي الرائز للمقولات الشيعية إمكانية الكشف عن نسق مضمر من المضامين المنغرسة في الهيكل البنيوي للأدبيات الشيعية، وهو ما يفسر على نحو واضح طبيعة الثنائيات الحاكمة للفاعلية الشيعية ولاسيما في عراق ما بعد 2003، وإذا كانت الثنائيات متعالقة بشكل منهجي مع المقولات البنيوية، فإن طبيعة الثنائيات الشيعية هي أقرب إلى البناء الموازي منه إلى المقولات المنهجية للبنيوية، هذا البناء يقوم على ثنائية المركز- البناء وما يساوقها من اجتراح شيعي مواز، ففي حين يوسم القران الكريم بمركزية محورية في المعتقدات الإسلامية قدّم الشيعة الدعاء بوصفه مساراً موازياً كجانب تعبدي مع القران الكريم، فمن النادر أن تجد بيتاً شيعياً لا يحتفظ بكتاب أدعية –مهما كان سنده وصحة ما ورد فيه- بجانب القران الكريم، ومع أن القران الكريم ذكر الزكاة في عشرات الآيات إلا أن البناء الموازي قدّم الخُمس المذكور في آية واحدة مُختلف في تفسيرها كسلوك تعبدي يوازي الزكاة بل لعله أكثر أهمية في الادبيات الشيعية، ورغم أن الحج من فروع الدين عند الشيعة الا انهم قدموا الزيارة بوصفها البناء الموازي لفريضة الحج، وسطروا عشرات الروايات في فضل الزيارة رغم أن الحج مذكور في القران الكريم لا الزيارة، ويمكن تعميم هذا المعطى على ثنائية عيد الغدير بإزاء عيد الفطر والأضحى، والقسم بأبي الفضل العباس إزاء القسم بالله، هذا الإرث التاريخي انعكس على السلوك الشيعي تجاه الأسئلة الجوهرية التي واجهت التجربة الشيعية عند تعاطيها مع الواقع العملي وليس التعبدي فقط، فقدمت الأدبيات الشيعية الحوزة بوصفها بناءًا معرفيا موازيا للجامعة، وقدمت المرجعية بوصفها بناءًا موازيا للسلطة، وقدمت مدير مكتب الوزير بوصفه بناءًا موازيا للوزير، وقدمت الهيئات الاقتصادية بوصفها بناءًا موازيا للمالية -الدولة، وقدمت الفصائل المسلحة بوصفها بناءًا موازياً للجيش النظامي، وهذا البناء الموازي يمكن تتبع تمفصلاته حتى في ثنائية المسجد- الحسينية، ولعله يفسر الى حدّ ما قيام العشوائيات في المناطق الشيعية بدلا من بناء مدن حقيقية جديدة رغم أن مساحة الأرض المستغلة واحدة! فضلا عن تقديم الفاعل الشيعي لكل ما هو رثّ من أشخاص –سياسيين وإعلاميين – كبناء مواز للنخب والمؤسسات.

***

د. مؤيد ال صوينت

في المفهوم: ينصرف مفهوم التنوير من حيث المبدأ برأيي، إلى ضرورة اعتبار أن العقل الإنساني وحريّة الإرادة الإنسانيّة، هما المنطلق أو المصدر الرئيس لكل النشاط الفكري والعملي لحياة الإنسان، وبالتالي تأكيد ذات الإنسان واستقلاليتها، هذا إضافة إلى ضرورة الإقرار أيضا، بأن الظواهر بعمومها الطبيعيّة والاجتماعيّة المحيطة بالإنسان أو التي ينشط فيها لإنتاج خيراته الماديّة والفكريّة، هي ظواهر لا تقوم على الثبات والإطلاق، بل تقوم على الحركة والنسبية.

والتنوير وفقا لهذا المعطى، موقفا إشكاليّاً من حيث تحديد بدايته الزمانيّة والمكانيّة، وبالتالي تحديد مصدره الحضاري، بالرغم من كونه كشروع حضاري قد نمى وترعرع وتبلور في الغرب، وشكل فيما بعد أحد المكونات أو المقومات الرئيسة للحضارة الغربيّة في شقيها المادي والفكري معا .

من هذه المعطيات الأوليّة يمكننا القول: إن إرهاصات التنوير الفكريّة الأوليّة نجدها في الشرق، مثلما نجدها في الغرب أيضا، غير أن القطع الحضاري الذي حصل في السياق العام لسيرورة وصيرورة تاريخ شعوب الشرق استطاع أن يشكل فواصل واضحة المعالم ما بين معطيات حضارتي الشرق والغرب الفكريّة والعمليّة معا، ونظرا للظروف التاريخيّة الكثيرة التي منحت الغرب استقراره، ثم نموه وتطوره، فقد أعطي لحضارة الغرب بناء على هذا النمو والتطور سبقاً حضارياً كبيراً على  حضارة الشرق لازلنا نعيشه حتى هذا التاريخ، بالرغم من إيماننا بمسألة التلاقح الحضاري الذي تم بين الشرق والغرب عبر تاريخ التفاعل والصراع بين الحضارتين. لذلك بالعودة إلى بواكير الفكر العربي قبل الميلاد، نجد في الحقيقة ما يؤكد على أن الشرق قدم بعض البدايات الفكريّة التنويريّة، وهذا ما نجده مثلا في ملحمة "جلجاميش"، وهو الذي تعب من البحث عن سر الخلود ولم يحققه، فلجأ بعد عجزه إلى " نوتابتشم" يشكو همه، فرد عليه " نوتابتشم" قائلا:

متى بنينا بيتا يقوم إلى الأبد ؟ .

متى ختمنا عقدا يقوم إلى الأبد؟.

لم يكن هناك دوام وخلود منذ القدم !(1).

كما نجد مثل هذه البدايات التنويريّة في الوقت ذاته في الحضارة الغربية، وفي فترة ما قبل الميلاد أيضا، فهذا هيراقليطس يقول: (كما أنك لا تستطيع أن تستحم في مياه النهر مرتين فكذلك هي الحياة) .

عبر كل هذه المقولات وغيرها الكثير، نجد إشارات فكريّة عقلانيّة واضحة كل الوضوح قد تضمنتها هذه المقولات، وما يؤكد تلك  الملامح الفكريّة التنويريّة في هذه المقولات، هو ذاك التوجه العقلاني فيها الذي يؤكد على وعي الإنسان لواقعه عبر تجربته ومحاكمته العقليّة وتعامله مع المحيط المادي والفكري الذي أوجده بنفسه بعيدا عن أي اتكاء على فكر ديني، أو امتثال لقوى خارج نطاق وعي ومعرفة الإنسان بمحيطه وتجربته الحياتيّة الخالصة .

أما في القرون الوسطى فقد وجد في الشرق الكثير من الفلاسفة العقلانيين التنويريين ويأتي على رأسهم " ابن رشد" و"ابن حزم"، والفارابي، والكندي، وابن خلدون، مثلما وجد في الغرب توماس "الايكويني" و" المدرسيين"، الذين تأثروا بفلسفة " ابن رشد"، وهؤلاء جميعا وقفوا ضد القوانين والنصوص الجامدة في الفكر الديني، إيمانا منهم بالحركة والتطور ودور العقل الطبيعي لدى الإنسان.(2).  وفيما بعد جاءت الحركة الإنسيّة في أوربا التي جعلت الإيمان بالله قائماً على العقل الذي يدفع بدوره إلى ضرورة الإيمان بأهم خلق الله، وهو الإنسان وقدرته المبدعة على تشكيل هذه الحياة وإعمارها. وهذا الموقف للحركة الإنسيّة شكل فيما بعد فكريّا وعمليّا، حالة القطع مع الحضارة الشرقيّة من جهة، ووضع الأسس الثابتة لعصر التنوير في أوربا، الذي تبلور تماما مع القرن الثامن عشر الذي عرف بعصر التنوير من جهة ثانية .

عموما، لقد اشتمل مشروع التنوير في أوربا وفي إطاره العام على مجمل مفردات ما سمي بالحداثة والعقلانيّة والعلمانيّة والمجتمع المدني. أو بتعبير أخر، نستطيع القول: لقد خرج من عباءة التنوير الأوربي كل تلك الرؤى والمواقف الفكريّة والسياسيّة ممثلة، بالحريّة والعدالة والمساوة ودولة القانون والمواطنة والحق الطبيعي والدستور وحق الانتخاب والترشيح وتحرير المرأة والتعليم وسيادة واستقلال العقل والإيمان بالسببيّة والتجريبيّة والحسيّة وحرية الإرادة ورفض الوساطة الكهنوتية بين الله والإنسان وتأكيد الفردانيّة، وغير ذلك من رؤى وأفكار وقوانين راحت تعبر عن طموحات تلك القوى الاجتماعيّة المقهورة التي خضعت مئات السنين للسلطة الاستبداديّة التقليديّة، ممثلة بسلطة (النبلاء والكنيسة والملك). والتي أفرزتها – أي الرؤى والأفكار - تلك التحولات التاريخيّة العميقة التي انتابت أوربا منذ بدء انطلاقة الثورة الصناعيّة في القرن السابع عشر، هذه الثورة التي تمثلت بتطور الصناعة المانيفاكتوريّة وتحسن التجارة، وحصول حراك اجتماعي في بنية المجتمع الأوربي، مثله الفلاحون اللذين راحوا يهجرون الأرض ليلتحقوا بالمدينة وصناعاتها، الأمر الذي ساعد على تشكل الثروة المنقولة على حساب الثروة الثابتة (الأرض)، وبالتالي تشكل طبقتي العمال والرأسماليّة، اللتين راحتا تنافسان القوى الاجتماعيّة التقليديّة (النبلاء ورجال الدين والملك) على السلطة والمكانة الاجتماعيّة، هذه المنافسة التي توجت بثورات اجتماعية عديدة كان أهمها (الثورة الفرنسيّة)، التي مثلت عمليا انتصار الطبقة البرجوازيّة وحليفتها الطبقة الرابعة (العماليّة) على السلطة الاستبدادية ودحر القوى التقليدية، منتجة بذلك مرحلة تاريخيّة جديدة هي المرحلة الرأسماليّة التي لم تزل قائمة حتى هذا التاريخ.

بيد أن الملفت للنظر هو أن هذه الرؤى والأفكار التنويريّة لم تستطع أن تصمد عمليّا أمام مصالح الطبقة الرأسماليّة الضيقة والأنانيّة، هذه الطبقة التي راحت تفرغ هذه الرؤى والمواقف التنويريّة من مضامينها العمليّة، لتدفع بها باتجاه الشعاريّة، وبما يخدم مصالحها هي فقط دون النظر إلى مصالح القوى الاجتماعيّة المسحوقة التي زاد سحقها وقهرها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي واغترابها وتشيؤها واستلابها أكثر بكثير مما كانت عليه في المراحل التاريخيّة السابقة للرأسماليّة.

على العموم، لقد قلنا قي موقع سابق، إن ما قدمته الحركة الإنسيّة ثم عصر التنوير في أوربا من رؤى وأفكار تنويريّة، ومبادئ وتطبيقات عمليّة نهضويّة في مجال الاقتصاد والمجتمع والسياسة والثقافة، ساهم في خلق حالة من القطع المعرفي والعملي معا بين حضارتي الشرق والغرب، كان من أهم نتائجه، هو تمايز الحضارة الغربيّة فيما بعد عن الشرقيّة،  وكانت أهم ملامح هذا التمايز هي:

في الجانب الثقافي (الفلسفي): كانت دعوة إلى العقلانيّة والوضعيّة. وفي الجانب السياسي: كانت دعوة إلى الديمقراطيّة والسلطة الدستوريّة ودولة القانون. وفي الجانب الاقتصادي: كانت دعوة إلى الحريّة الاقتصاديّة ومبدأ المنافسة الحرة. وفي الجانب الأخلاقي: كانت دعوة إلى التركيز على الفرد والمنفعة الدنيويّة. أو بتعبير آخر، إن ما امتاز به الغرب عن الشرق هو العمل على دعوة الفرد كي يأخذ مصيره بيده، ويتسلط على قدره بدلا من تسلط قدره عليه، أي أن يقوم بانتزاع الخير من الطبيعة، وإخضاع هذه الطبيعة لمشيئته من أجل تحقيق حريته وسعادته.

إذا كانت هذه هي معطيات التنوير في الغرب، فما هي  إذن معطياته وتجلياته في الشرق عموما ومنه وطننا العربي على وجه الخصوص؟.

معطيات وتجليات التنوير في عالمنا العربي:

يبدو أن سؤال النهضة والتنوير في وطننا العربي لم يزل هو ذاته السؤال الذي طرحه "الطهطاوي" عام /1834/ في كتابه (تخليص الإبريز..)، وهو ذاته السؤال الذي طرحته مجلة (الجنان) عام/1870/ (من نحن؟)، أو "سليم البستاني" (لماذا نحن في تأخر؟)، وكذلك أسئلة كل من " أديب اسحق، الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، قاسم أمين، شبلي شميل، أنطون فرح، ألقاسمي، الريحاني، رفيق العظم، سلامة موسى، التيزيني، الجابري، العروي، ياسين الحافظ، وغيرهم الكثير من المفكرين العرب، منذ بداية القرن التاسع عشر وصولا إلى بداية القرن الواحد والعشرين.

نقول: إذا كانت أسئلة النهضة والتنوير ظلت هي ذاتها تُطرح منذ أن بدأ العرب عبر كتابهم ومفكريهم يحسون بحالات التخلف المزري الذي يعيشونه، مقارنة بالغرب الذي أخذوا يلمسون حالات تطوره وتقدمه عبر مشاهداتهم المباشرة واطلاعهم على أدبياته الفلسفيّة والأخلاقيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، فإن الإجابات عن هذه الأسئلة كانت مختلفة ومتفاوتة في طبيعتها وإدراكها لعمق أزمة التخلف التي تعيشها أمتنا العربيّة عند هذا الكاتب أو المفكر أو ذاك. وعلى الرغم من أن طبيعة الإجابة وتحديد مكامن الأزمة، قد ارتبطت بالمواقف الفكريّة أو الأيديولوجيّة للكتاب العرب ومفكريهم الذين انقسموا ما بين أصولي ديني متطرف، وجد العلة في الابتعاد عن الأصول الدينيّة، والرافض في الوقت نفسه لأي انفتاح على الغرب الكافر حسب رأيه. أو رجل دين معتدل آمن بضرورة الوقوف عند معطيات الحضارة الغربيّة والأخذ منها ما هو نافع لهذه الأمّة وغير ضار بدينها وأخلاقها. وبين كاتب ومفكر علماني آمن بالفكر القومي واليساري وضرورة الانفتاح على الآخر والاستفادة من تجاربه فيما يخدم نهضة هذه الأمة وتقدمها.

نقول: بالرغم من هذا التفاوت بين حضارة الشرق والغرب، إلا أن هناك قناعة مشتركة لدى الكثير منهم بأن هذه الأمّة مأزومة بتخلفها الشمولي، هذا التخلف الذي عبر عن جانبه الفكري والاجتماعي والسياسي الشيخ "رشيد رضا" عام /1898/ بقوله: (.. حتى أصبح الجبر توحيدا، وإنكار الأسباب إيمانا، وترك الأعمال المفيدة توكلا، ومعرفة الحقائق كفرا وإلحادا، وإبداء المخالفة في المبدأ دينا، والجهل بالفنون والتسليم بالخرافة صلاحا، واختبال العقل وسفاهة الرأي ولاية، والذل والمهانة تواضعا، والخنوع للذل والاستسلام للظلم رضا وتسليما، والتقليد الأعمى لكل متقدم علما وايقانا.)(3). أما عن جانبه الاقتصادي فقد عبر عنه المفكر النهضوي "فتحي زغلول" عام/ 1899/ بقوله ": (.. نحن ضعفاء في كل شيء تقوم به حياة الأمم، متأخرون في كل شيء عليه مدار السعادة.. ضعفاء ي الزراعة، ضعفاء ي الصناعة، وليس منا إلا الفعلة والعتالون ومنفذو إرادة الأجنبي، ليبقى هو، ونموت نحن ليحيى، هذه المعامل الفسيحة والمصانع العظيمة التي أقيمت بين بيوتنا كلها للأجنبي.. – ثم يتابع – نحن ضعفاء في التجارة، ضعفاء في العلم، اللهم إلا علم مداره جهل حقائق الأشياء في الوجود، أما المفيد فيه فقد اقتصرنا على ما يختص بعلاقة الإنسان بربه، والباقي حكمنا عليه كله بالإعدام) (4).

هذا في الوقت الذي أبصر فيه الكثير من هؤلاء الكتاب والمفكرين النهضويين العرب الأسباب الحقيقية الكامنة وراء أزمة التخلف هذه، فكانوا بدورهم يقترحون الحلول المناسبة لتجاوزها، ولكن كلاً من موقعه الفكري والطبقي ودرجة ونوعيّة ومرجعيّة ثقافته. الأمر الذي جعلنا نعمل على اصطياد هذه الأسباب والحلول اصطيادا في تلك المواقف الفكريّة النهضويّة التنويريّة التي جاءت متفرقة هنا وهناك عند هؤلاء الكتاب لنصل إلى نتيجة في هذا السياق تشير، إلى أن أهم أسباب الأزمة مجتمعة هي: التخلف الاقتصادي عموما – زراعة وصناعة وتجارة- لا سيما سيادة أنموذج الاقتصاد الريعي والأبوي، وضعف التطور التكنولوجي والعلمي، وغياب الأنظمة الدستوريّة ودولة القانون، وسيادة الطبيعة الاستبداديّة لأنظمة الحكم القائمة على مفاهيم "الدولة المملوكيّة"، والأميريّة الإقطاعيّة العسكريّة ومرجعياتها التقليديّة - العشيرة والقبيلة والطائفة –، إضافة لسيطرة الغرب بشكل مباشر أوغير مباشر على الأنظمة السياسيّة العربيّة ومقدرات الشعوب وربطها بالمتروبول، وعدم امتلاك هذه الأمّة للكثير من العلوم البرانيّة التي يقوم عليها مدار حياة الأمم على حد تعبير" الطهطاوي"، وقد حددها آنذاك بـ/14/ علما نذكر منها،علوم التربية والحقوق الطبيعيّة والوضعيّة والعلوم العسكريّة وعلم الميكانيك وعلم الكيمياء..الخ، وهناك أيضا غياب القوى الاجتماعية الواعية لذاتها المناط بها العبء النهضوي والتنويري (الطبقة الواعية لذاتها)، واقتصار هذا العبء على شرائح الانتلجنسيا التي غالبا ما دخلت وتدخل في حالات صراع مع السلطات السياسيّة القائمة، وهناك غياب دور المرأة واضطهادها تحت ظل سيادة المجتمع الذكوري، وانتشار الأميّة بكل دلالاتها ويأتي على رأسها أميّة الحرف، وغياب الحريات في كل اتجاهاتها بدءا من حريّة الرأي، مرورا بالحريّة السياسيّة وصولا إلى الحريات الإبداعيّة في الأدب والفن، وغياب التفكير العقلاني والنسبي، وانتشار التفكير الجبري ولامتثالي والاطلاقي، إضافة إلى انتشار الفقر والظلم والاستبداد، وغياب الرأي والرأي الآخر ومقومات الحوار الإبداعي المثمر، وغير ذلك الكثير من الرؤى والأفكار التي حددت معوقات التنوير والنهضة العربيّة .

أمام هذه المعطيات التي حددت أساب أزمة التخلف العربي، نجد في المقابل تلك الرؤى والأفكار النهضوية التنويرية التي راحت تطرحها النخب المثقفة ذاتها من كتاب ومفكرين عرب، وفي الفترة ذاتها أيضا كما أشرنا في موقع سابق، والتي نستطيع تحديد أهمها بالتالي:

الدعوة إلى تطبيق شعارات الحريّة والعدالة والمساواة، ووضع دساتير وضعيّة للبلاد تتناسب وتطلعات الشعوب في تحقيق حالة المواطنة، والتخلص من الأميّة، وتعميم المدارس لنشر التربية والتعليم بين أفراد الشعب، إضافة إلى تطوير الاقتصاد من خلال تنمية الزراعة والصناعة والتجارة، والمطالبة بحريّة الرأي والصحافة، والتأكيد على حريّة المرأة ومساواتها بالرجل، ومحاربة الاستعمار بكل أشكاله وأساليبه، والدعوة إلى العلمانيّة والحد من نفوذ القوى التقليديّة في المجتمع العربي من عشائريّة وطائفيّة وقبليّة ومذهبيّة، ونشر وتعميق الممارسة الديموقراطيّة السياسيّة والاجتماعيّة، والتصدي للفكر الرجعي ولامتثالي بكل أشكاله وأصوله، والعمل على نشر وتعميق الفكر العقلاني والعلماني، والتمسك بالقيم الدينيّة العقلانيّة السمحة، وكذلك الدعوة إلى الوحدة العربيّة ومحاربة التجزئة والاستغلال الاجتماعي والاقتصادي وتطبيق العدالة، وغير ذلك من القضايا التي شكلت المعطيات الفكريّة للمشروع التنويري النهضوي العربي.

على العموم، إذا كانت هذه هي معطيات التنوير في الفكر العربي ممثلة في حواملها الاجتماعيّة النخبويّة وشعاراتها أو رؤاها وأفكارها، وبالتالي ظروفها الموضوعيّة، فإن إشكالاتها تكمن كما يبدو لنا في طبيعة هذه المعطيات ذاتها، وبخاصة على مستوى حواملها الاجتماعيّة، التي لم تستطع أن تقدم مشروعاً فكريّاً متكاملاً ومتجانساً بل ومنسجماً مع ذاته ومع الظروف الموضوعيّة المحيطة بهذا الحامل، كون هذه الحوامل لم تنشأ عن خلفية أيديولوجية أو عقيدة أو ولاءات سياسيّة وطبقية واحدة، أو حتى تحقيق تصور منسجم تجاه جملة الظروف التي كانت ولم تزل تعيشها البلاد العربيّة.

إن فقدان هذا الانسجام في التصور والهدف والعقيدة الفكريّة والطبقيّة لدى هذه الحوامل الاجتماعيّة، جعلها في واقع أمرها تلهث وراء الحدث السياسي، وبالتالي التقلب في رؤاها ومواقفها الفكريّة بما يتفق وطبيعة هذا الحدث السياسي القائم أو ذاك، لذلك غالبا ما نجدها تميل تارة إلى العقلانيّة والعلمانيّة في حالات الانفراج السياسي وتطبيق الدستور من قبل السلطات القائمة، و نجدها تارة أخرى تميل إلى القوميّة والوطنيّة في حالة المد القومي، أو تميل إلى النزعة العثمانية / التركية عندما تفرض سياسة التتريك، أوهي مع الاستبداد المستنير في حال سيادة الحكم المطلق، وغير ذلك. هذا ولا بد لنا هنا من الإشارة إلى مسألة مهمة بالنسبة للفكر التنويري النهضوي العربي، التي تشكل أيضا أحد إشكالات هذا الفكر ولم تزل، وهي أن معظم هذه الأفكار التنويريّة لم تكن نتاجا طبيعيّاً للواقع العربي، وإنما هي في معظمها رؤى وأفكار التنوير الغربي التي تأثر بها الكتاب والمتنورون العرب الذين درسوا في الغرب، وعملوا على نقل وترجمة  قسم كبير منها بشكل ميكانيكي إلى الساحة الثقافيّة والسياسيّة العربيّة، لذلك ظل في الواقع قسم كبير منها مفارقا لظروف الواقع العربي الموضوعيّة والذاتيّة معا، الأمر الذي يجعلنا نجد أن قسماً كبيراً من هذه الرؤى والأفكار الذي طُرح منذ بداية القرن التاسع عشر، لم يزل هو ذاته يُطرح حتى هذا التاريخ من القرن الواحد والعشرين، وهذا بالذات ما طبع المشروع التنويري النهضوي العربي بطابع الشكلانيّة، وَحَوَلَ الكثير من شعاراته العقلانيّة إلى شعارات وصفية لا أكثر.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

.................................

الهوامش:

1- عويد . عدنان - (التبشير بين الأصولية المسيحية وسلطة التغريب). إصدار دار التكوين، دمشق، 2011.   ص6 .

2- الافـكار والمفـكرون في فـترة العصور الوسطى، المرجع الالكتروني للمعلوماتية –

https://almerja.com › readin

3- المصدر ذاته، ص11.

4- المصدر ذاته، ص12

لاستزادة في هذه الدراسة، يراجع كتابنا: (التبشير بين الأصولية المسيحية وسلطة التغريب). إصدار دار التكوين – دمشق – 2011.

قد لا اكون مبالغا اذا قلت ان عصر التنوير في التاريخ العربي الاسلامي قد بدأ مع واصل بن عطاء، (700 – 748م)، حين حاول الموازنة بين طرفين متعارضين، معتمدا التفسير العقلي للظواهر، فلقد شاع حينذاك كلام كثير حول مرتكب الكبيرة (القتل، الزنا ..) هل هو مؤمن ام كافر، اذ ذهب فريق الى ايمانه وذهب اخر الى كفره، وكلاهما اخذ بأحد طرفي المعادلة التي ترى الاشياء بيضاء بياضا تاما أو سوداء سوادا تاما، في اطار مثالية مطلقة، وحين جاء رجل يسأل الحسن البصري في مجلسه في البصرة، وكان واصل في حينها تلميذا لدى الحسن البصري، هل مرتكب الكبيرة مؤمن ام كافر؟ تصدى له واصل بن عطاء فقال : ليس يؤمن وليس بكافر، ولكنه في منزلة بين المنزلتين، اي بين منزلتي الكفر والايمان .

ومن هنا بدأ العصر الفعلي لزمن التنوير العربي / الاسلامي، لان واصل بن عطاء ارتكز الى العقل في تحديد الملامح لمرتكب الكبيرة . ان المنزلة بين المنزلتين مقولة عقلية تتوسط بين طرفين متعارضين،ولعلها تذكرنا بمفهوم الاوساط اليونانية، بان الفضيلة تقع بين رذيلتين، فالكرم يقع وسطا بين رذيلة البخل ورذيلة الاسراف .

وهذا موقف اشاده مفكر تجاسر على موقف استاذه الفكري، الامر الذي يقتضي الانفصال عن مجلس استاذه وحلقته العلمية، لان سلوك الانسان وليد تفكيره، ومن ثم اشاد واصل بن عطاء مجلسا خاصا به، وتبعه على الفور عمرو بن عبيد، وبذلك تأسست المعتزلة حول نواة (المنزلة بين المنزلتين) .

كان فكر المعتزلة يوافق العلم والعقل، بخلاف الفكر السلفي المتدهور الذي يحاول ابقاء الامور كما هي عليه باعتماد الثبات على النقل دون تحليل أو تفكيك .

واذا كان التنوير الغربي قد نشأ انطلاقا من معرفة الذات، اي البدء بالذات الى الاخر، والى العالم، مرورا بالكوجيتو الديكارتي (انا افكر اذن انا موجود) فان التنوير العربي / الاسلامي نشأ حول مقولة (المنزلة بين المنزلتين) التي تخفي وراءها موقفا خاصا لمفكر يشبه ربما الكوجيتو الديكارتي.

***

الدكتور كريم الوائلي

ترجمة عن الألمانية: رضوان ضاوي

تركزّ الفيلسوفة الإسبانية مارينا غارسيس Marina Garcés 1 في أعمالها على التفكير النقدي المعاصر، فكرّست له أيضاً عملها الجديد الذي تُرجم إلى اللغة الألمانية في 2019 بعنوان "التنوير الراديكالي الجديد"2. وتمارس غارسيس في هذا البحث نقدها للتفسير الأيديولوجي للعقل ضمن تقليد مدرسة فرانكفورت، وتلوم هذا التفسير الإديولوجي للعقل بأنه هو الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم: إلى نقطة تاريخية للمعرفة العامّة بالدمار الذي يعرفه العالم. في مدخل هذا الكتاب، تقتبس المؤلفة الإسبانية من العمل الأساسي لثيودور فـ. أدورنو / ماكس هوركهايمر "جدلية التنوير" النص التالي: "لقد سعى التنوير بمعناه الأوسع للفكر التقدمي دائمًا إلى هدف إزالة الخوف من الناس واستخدامهم بوصفهم سادة. لكن الأرض الكاملة المستنيرة تضيء في ظل علامة شرور غالبة"2. كل المعرفة المتاحة لنا كافية لإبطاء العمليات التي بدأت. ولهذا تقترح المؤلّفة تنويرها الراديكالي الجديد: "أنا أؤيد استئناف الكفاح ضد السذاجة وسرعة التصديق والإيمان بحرية وكرامة التجربة الإنسانية؛ أي أن الإنسان قادر على أن يتعلم الدروس من نفسه".(Garcés S.14)

يتنبأ هذا العمل بانقضاء زماننا الصالح للعيش، وبمعرفة ذلك نعاني من أكبر عجز: ألا وهو عدم القدرة على التدخل في ظروفنا المعيشية. نحن الأشخاص الذين وقعوا هنا في نوع جديد من العبودية من خلال مجتمع المعرفة والمعلومات، لم يعد بإمكاننا مواكبة التعقيد الذي نخلقه بأنفسنا. الشيء الوحيد الذي يمكن أن يحررنا من هذا العجز "... هو صراع الفكر ضد المعرفة الراسخة وسلطاتها، صراع الفكر الذي يبلّغ القناعة التالية: يمكننا أن نصبح أفضل من خلال التفكير، وأن ما هو جدير حقاً بالتفكير هو ما يساعد عليه بطريقة أو بأخرى". (Ebd., S.48)

بالنسبة لغارسيس، محاربة السذاجة تعني محاربة المطالبة بالسلطة. وللقيام بذلك، وفقًا لتقليد أدورنو/ هوركهايمر، يجب أن يتعرض العقل نفسه للنقد. في هذا السياق، من المهم التشكيك في تعريفنا للمعرفة، وفهم وتحسين علاقتنا بالبيئة؛ هذه هي المعرفة. (Ebd., nach S.61). تصف الناقدة الإسبانية ما يولده علمنا من معرفة، وما يؤدي إلى الشعور بالعجز عندنا، بـ"الأمية المستنيرة". (Ebd., S.72) يجب أن نعيد الاتصال بالعالم الذي سمحنا لأنفسنا بالانفصال عنه. وفقًا لغارسيس، فإن الآليات التي تمر دون أن يلاحظها أحد لتحييد النقد هي: "الاهتمام المشبع، وتقسيم الجمهور، وإقرار وتثبيت اللغات التقنية، وسيادة تحليل البيانات من أجل تحسين العالم. " (Ebd., S.79) الانتباه المتخم يدل على التشبع الزائد. مرشحاتنا لم تعد تعمل. نحن غارقون في بحر المعلومات. العجز والارتباك وفقدان البوصلة والاكتئاب هي ظواهر العصر. تفتيت المعرفة، وتبني الآراء الجاهزة نتجت عن هذا الحمل الزائد. وإذا ظهر ما يسمى بـ "الفقاعات"، حيث يتحرك المرء بينما يؤكد باستمرار نفس المحتوى، فإن هذا يمكن مقارنته بالتغاير الكانطي، وهو تعريف الأجنبي الذي نختاره بأنفسنا. كل هذا يسير جنبًا إلى جنب مع تثبيت اللغات التقنية وتوحيدها في المجالات العلمية، مما يجعل كل علم على حدة يفقد إمكانية التواصل مع باقي العلوم.

الحل إذن في المدينة الفاضلة من وادي السيليكون. هنا يتم تفويض الذكاء إلى ذكاء اصطناعي، الذي يجب أن يكون أقل عرضة للفشل من الذكاء الإنساني. ومع ذلك، وفقًا لغارسيس، هناك شيء واحد لا يستطيع هذه الذكاء فعله: التشكيك في ذاته بشكل نقدي. وإذا كان هناك اقتراح تطلعي، فإنه يعتمد على حقيقة أن الإنسان - بغض النظر عن مدى محدودية استخدامه - قادر على الأقل على الحكم على نفسه بشكل تأملي ونقدي ذاتي، وإجراء تحولات في النموذج، وتقديم تفسيرات أخرى للإنسان والعالم. لذلك فهو مطالب بإعادة التفكير، والتفكير التقدمي بوصفه نقداً؛ أي التنوير الراديكالي الجديد.

في هذا الكتيب تم سرد الكثير من الأمثلة: العصور القديمة، والنهضة، والعصر الحديث؛ والشعارات، والطاوية، والعلم؛ وروسو، وأدورنو، وهوركهايمر وغيرها. يعتبر هذا الكتيّب ممتعًا للغاية ومحفزًا للغاية، ويحاول في 120 صفحة استخدام نظرية العلم ونظرية المعرفة بأكملها بوصفها نموذجاً لانتقاد المواقف الراهنة، وهو طموح مشروع رغم الحيّز القليل المكرّس لهذا المشروع النقدي. ومع ذلك: "العلوم الإنسانية التي تمر بمرحلة انتقالية، بدلاً من العلوم الإنسانية المحتضرة." (المرجع نفسه، ص. 95). هذا يعني أن هناك حاجة إلى نقلة نوعية. وربما يمكننا أن نتطلع إلى المزيد من المنشورات لهذه الفيلسوفة الإسبانية. فرضيتها الرابعة حول العلوم الإنسانية المتغيرة تقول: "إن أهم حقيقة معرفية في عصرنا -من أجل المصير المشترك للبشرية- هي إعادة اكتشاف استمرارية الطبيعة - الثقافة". (Ebd., S.116, Hervorh. Im Original).

***

.................

مصدر النص:

https://literaturimfenster.blog/2020/01/12/marina-garces-neue-radikale-aufklaerung/

هوامش:

1- الفيلسوفة الإسبانية مارينا غارسيس أستاذة الفلسفة المعاصرة في جامعة سرقسطة.

2- Marina Garcés: Neue radikale Aufklärung. Verlag Turia + Kant, Wien, 2019. Originalausgabe: Nova il lustració radicale, Barcelona 2017.

3- Theodor W. Adorno/Max Horkheimer: Gesammelte Schriften, Band 3, Suhrkamp, 1997, S.19.

 

طبيعة الإنسان وحدوده لا تمكنه " أن يعربد مع الله دائمًا" كما يقول حافظ الشيرازي، ولا يمكنه أن يعيش التعارض والتصادم المستمر مع الحياة وتساؤلاتها الحرجة وقضاياها وهو يتسلح بمدونات ومعارف لبت طموحات عصرها، ولكنها تضخمت بالتدريج وتجاوزت حدودها في اللامعقول وصلاحيتها في البقاء، فينبغي لها أن تنحسر وتطوق، ليكتشف الإنسان مجاله الدينيَّ وحدوده وإيمانه مرة أخرى، بلغة التفكير العقلاني ومناهج البحث العلمي.

يشتغل الباحث المعاصر في مجال العلوم الدينيَّة بحقول ومنهجيات متنوعة، يستهدف غايات عدّة أبرزها تجديد الإيمان، وبالمجمل يعمل بمسارين: الأول: ينغمس في التراث ليعيد إظهاره من جديد، وكل ما يتطلبه هذا الأمر هو التوغل في وسط الركام الهائل للمدونات- الكلامية والفقهية والتفسيرية وو- والغرف منها بوصفها الإطار المرجعي في التفكير والحياة، من دون أن يسمح لنفسه باختبار قدرتها على الوفاء بوعودها باستيعاب متطلبات الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية في سياقات الحاضر واشتراطاته. والبحث في زوايا هذه المدونات وتأثيرها على صناعة التوحش والكراهة أو الاغتراب أو هشاشة التفكير وأنساقه المضمرة. فتجده مفتشًا ومنقبًا في الأرشيفات والمخطوطات القديمة، ومعلقًا عليها بالأسماء والالماحات والأماكن والأحداث، ومحققًا لبعضها على الطريقة الفيلولوجية القديمة، وبذلك يُعيد رسم اللوحة نفسها التي رسمها التراث مع توضيحات وترميمات هنا وهناك. فتستزف الطاقات ويجف النص بالتكرار المزمن لمعاني مطوقة مسحوبة من الماضي.

وأما المسار الثاني: فهو الذي يرى في الدين ضرورة لاعتبارات مختلفة إِلَّا أنّه يدرك أن الدين وقع في التباسات التاريخ واللغة والفكر والتجربة، وتفاعل معها، فانصهرت فيه الآفاق المعرفية والأزمان معًا على حد تعبير غادامير. وبذلك يشتغل على ترجمة لغة التراث ومنهجياته ومدوناته إلى لغة المرء الخاصة أو لغة الواقع الخاص. فيميل إلى إحياء التراث بلغة ثانية ومنهج مختلف، فيختار التأليف النقدي مستخرجًا من ملفات التاريخ ووثائقه الأسس الفكرية والنظريات والأصول والمسالك ويخضعها للبحث الدلالي واللالسني وللتحقيب التاريخي لفك جدلية النص والواقع فيها. وهذا يستوجب منه الاطلاع على الإنتاج الدخلي، والإنتاج الخارجي. فيمارس اجتهاده الداخلي بمتابعة ما هندسه القدماء من نظريات واصطلاحات ومناهج. واجتهاد خارجي يتتبع فيه الإنتاج الهائل في العلوم المتداخلة من ألسُنية وانثروبولوجية وسوسيولوجية وعلم النفس والنقد الأدبي والتاريخ وو. ليدخل بذلك المتخيل وتأثيراته، والأسطورة وسلطانها في الجوانب الانفعالية وتداخلها في المعتقد الديني، أو الحقائق السوسيولوجية الكبيرة والتي عاشت مهملة منسية في الدراسات. وهذا يعني أن الباحث المعاصر انتقل من المدونات المكرسة للايديولوجية ولو بمستوى ضمني إلى المدونات الخاضعة للتفهم والنقد والقطيعة. ومن ثَّم، فان الاطلاع على الآخر وما قدمه أصبح ضرورة من ضروريات الدين وفهمه.

والمسار الثاني في خطوته الأولى يتحتم عليه تجاوز الأحكام المسبقة على الآخر، وزحزحة النموذج الجاهز، والسلبية الموروثة في الحكم، بفتح المسارات والآفاق القائمة على الدراسات العلمية المقارنة لتجاوز روافد المعنى – الدينيَّة والعلمانيَّة- للدخول في معطيات المعرفة التكامليّة المتنوعة برؤية تاريخيّة نَقْديّة. عندها يمكن أن نجد الباحث الجاد يدافع عن العلمانيَّة وينقدها أيضًا، ويدافع عن النموذج الإسلاميَّ وأنسنتة وتجربته الروحية الكبيرة، مع تركه لمسافة نقدية يسمح من خلالها للنظر في قيمته وبنيته وأدواته وحجم التوظيف الأيديولوجي في تراثه. وهذا يساعد على تقريب المسافة بين علوم الدين ومعارفه وبين معارف الإنسان المختلفة، بوصف الأخيرة تدرس الظواهر الدينيّة وتمثلاتها في النصّ والتجربة.

والمحزن- في ثقافتنا الحالية- أن هناك الكثير من الارتياب بفعالية هذا النوع من الدراسات، وتعرضها وأصحابها لأحكام التَشنيع والعيب، والتشكك في مشروعيتها، قد يبلغ حدّ التكفير أحيانًا، لأن حجم الممنوع التفكير فيه غير قليل فلا زالت جامعاتنا ومكتباتنا ومؤتمراتها تعيش تحت وطأة الكتابات التشريفية والتفخيمية والتجبيلية التي تقوم على الأجر والثواب. نعم قد تبدو بعض الآراء غريبة وغير مألوفة على القراء الذين ينتسبون إلى حضارة مغايرة، وإلى فكر ديني مخالف، ومع ذلك فهي تمثل اجتهادات البشر اعتمادًا على الأديان السماوية، أو استقلالًا عنها. قد تخطئ، وقد تصيب، لأنها تصورات إنسانية تعكس أوضاع الإنسان وأنماط حياته وطبائع العمران. ألم يلمح ابن خلدون إلى أن أنماط الفقه ترتبط تارة بالحضارة وتتلون بها، وتارة بالصحراء والبداوة، ولا بد من التفريق بينهما.

مؤشر الدراسات يؤكد أن أبرز عوامل تهافت الدول والحضارات هو انعزالها وعدم اتصالها مع حضارات أخرى والانتفاع بتجاربها الفكرية والعلمية. فديمومتها بمقدار اتصالها وإفادتها من الآخر دون التموضع والسكون في بيئة ثقافية محدودة. يقول الدكتور محمد عابد الجابري:" كان من الممكن في العصور الماضية, أن تقوم حضارة وتنمو بفعل تطورها الداخلي ثم تتوقف وتنقرض. قد تدخل في اتصال مع حضارات أخرى ولكن اتصال محدود كما هو شأن حضارات الشرق القديم."(1)

نمط الحياة اليوم يختلف عن السابق، لم يعد الإنسان كما عرفته الفلسفات القديمة، كائنًا عاقلًا يلبث حيث هو، لا يكون جزءًا من شيء، أو يكون جزءًا لشيء، بل صار الإنسان في المفهوم الحديث كأنه جزءٌ من كل. أنه سندبادي، يتلقى مختلف الثقافات في الآن نفسه، من دون أن يغادر موطنه. أنه يعيش جغرافيا جديدة، تضاريسها هلامية، حدودها واهية، أمكنتُها متداخلة، ثقافاتها ملونة، هويتها تركيبية(2).

ولذلك يقول طه حسين- في مقدمته لرواية آلام فارتر لجان غوته- وهو يتحدث عن أهمية الترجمة: " لعل حاجتنا إلى النقل والترجمة لم تبلغ قط من الشدة ما بلغته اليوم، فنحن في عصر انتقال من طور إلى طور. وأخص ما يميز عصور الانتقال الظمأ إلى العلم بكل شيء، والرغبة في تعرف كل شيء. يسأم الشعب في هذا العصر ما ألف قراءته من كتب.. وقد كان يحسب نفسه كل شيء فإذا هو يشعر بأن على الأرض شعوبًا أخرى تقاسمه الحياة وتشاطره ما اشتملت عليه من لذة وألم، ومن سعادة وشقاء، وأن هذه الشعوب قد اتخذت لنفسها من نظم والسياسة والاجتماع، ومن مناهج البحث والتفكير، ما لم يألفه ولم يهتدي إليه(3)."

فلا مفر للإنسان من معرفة الآخر، وفهم تجربته ووعيها والإفادة منها، بل وتقييم تجربته بالنسبة لتجارب الآخرين، يقول السيد محمد حسين الطباطبائي متسائلًا: " يقول بعضهم: " إن جميع ما تحتاج إليه النفوس الإنسانية مخزونة في الكتاب العزيز، مودعة في أخبار أهل العصمة (عليه السلام) فما الحاجة إلى أسار الكفار والملاحدة ؟ "فيجيب في بعض أجوبته اللذيذة: أن الحق حق أينما كان وكيفما أصيب وعن أي محل أخذ، ولا يؤثر فيه إيمان حامله وكفره، ولا تقواه وفسقه، والإعراض عن الحق بغضًا لحامله ليس إلَّا تعلقًا بعصبية الجاهلية التي ذمها الله سبحانه وذم أهلها في كتابه العزيز وبلسان رسله عليهم السلام.(4)" إن هذا النص الذي يحرر فيه الإنسان من التصورات الضيقة والموروثة ليصبح أكثر قدرة على مواجهة مشاكل الحياة ومفارقاتها جدير بالتأمل والتعزيز، "فمن يعرف لغةً واحدةً لا يعرف أي لغةً." كما قال غوته (شاعر ألمانيا وفيلسوفها). نعم من يعرف ثقافة وحضارة ودين ونمط حياة واحد لا يعرف أي دين أو تجربة حقيقية. وهذه المعرفة التواصلية ليست لتسجيل النقاط والإدانة كما يجري في المناوشات الكلامية التي يحترفها البعض كمهنة، بل البحث عن إنسانية إيمانية متدفقة بالجمال والقبول بالآخر وعبور التراث المحنط والغليان الأيديولوجي الذي تعيشه مجتمعاتنا، ليُهيئ بذلك البناء التحتي للتعدد والكثرة وللتعايش والحوار في أكثر من مجال وصعيد.

في السابق كانت اتجاهات التسامح تدعو إلى تحمل الآخرين والصبر على وجودهم وقناعاتهم الفكرية والسياسية، أما اليوم فالعالم يتقدم خطوة إلى الإمام ليتجه- وبسرعة- نحو الاعتراف بواقع الافتراق والاختلاف، ويريد فهمه وتحليله على ما هو عليه، ليتسع التعدد فيه إلى ما هو أوسع من دائرة النجاة والعقوبة ليشمل الحقيقة نفسها. ومن أبرز مباني ومرتكزات هذه القراءة هو في تنوع الفهم الديني فيها وتكثره. " ففهم النص الديني وشروحه متنوع ومتعدد بالضرورة، والتنوع والتعدد لا يقبلان الاختزال إلى فهم واحد، وليس هذا الفهم متنوعًا ومتعددًا فحسب بل سيالًا أيضًا، والسرّ في ذلك أنّ النصّ صامت ونحن نسعى باستمرار لفهم النصوص الدينية وتفسيرها سواءً بالفقه أو الحديث أو القرآن الكريم من خلال الاستعانة بمسبوقاتنا الفكرية وتوقعاتنا من النصّ والأسئلة التي تدور في أذهاننا في مرحلة سابقة، وبما أنه لا يوجد تفسير من دون الاعتماد على التوقعات والأسئلة والفروضات المسبقة، وبما أن الفضاء المعرفي خارج الدين متغير سيّال، كما أنّ العلوم البشرية والفلسفة ومعطيات الحضارة الإنسانية تزداد وتتراكم وتتغيّر باستمرار، فلهذا كله كانت التفاسير المترتبة على هذه الأسئلة والتوقعات والفروضات المسبقة متنوعة ومتغيرة (5)."

فهذه أوربا لم تخرج من مسلماتها التراثية وتستفيق إِلَّا بعد أنّ فجرتهُ من الداخل بالتنقيح والنقد والإفادة من الآخرين وعلومهم، والاعتراف بشجاعة عن انتهاكاتها الدينيّة." فالحركة المتواترة لتاريخ الغرب وقوتها تكمن في قدرتها على الخروج من الأزمات ليتقدم كثيرًا حتى يواجه عائقًا جديدًا. على عكس العقل الدوغمائي الذي يبدو وكأنه يستغل لحظات تأزم القيم والإيديولوجيات من أجل إعادة التأكيد على صحة مبادئه وعدم المساس بتعاليمه التي تشمل كل ثوابت الوضعية الإنسانية مثل الحياة والحب والعدالة والأمل وأنساق اللامساواة والنفوذ والعنف والإيمان والموت وو. هذا ما يسمى بـ "عودة الديني" بأشكال مختلفة حسب الظروف التاريخية والأوساط الاجتماعية الثقافية (6)."

من يقرأ الفكر الدينيّ الغربيّ ومراحل تطوره وإصلاحه يدرك حجم الانفتاح على الآخر وتجاوزه بالنقد والقطيعة. وبلمحة سريعة ترجمة الفكر الديني الغربي أجزاءًا من كتاب الشفاء لابن سينا من المنطق والطبيعيات والإلهيات وإحصاء العلوم للفارابي، وينبوع الحياة لابن جبرول، ورسالة العقل والمعقول للكندي، ورسالة قسطا ابن لوقا في الفرق بين النفس والروح، ومقاصد الفلاسفة للغزالي، وكتب الفلك لمحمد البتاني، وأحمد بن كثير الفرغاني، وأبي معشر وغيرهم، بل ورأى أساتذة أكسفورد(1352) في كتاب "المناظر" لأبن الهيثم نموذج العلم الذي فاق طبيعيات أرسطو. وأصبحت الفلسفة الأوربية في القرن الثالث عشر هي مواقف متنوعة من أرسطو وابن سينا وابن رشد. وحركة الإصلاح الديني في الوعي الأوربي لم تكن بعيدة عن النموذج الإسلامي الذي انتشر في الفلسفة المدرسية المتأخرة، ومنذ الاتصال بالمسلمين عبر الحروب الصليبية ونقل العلوم الإسلامية، فقد تعلم لوثر العربية، وظل النموذج الإسلامي القائم على العلمانية وغياب الكهنوت أحد نماذج الإصلاح المسيحي واليهودي(7).

هذه المسيرة الطويلة من التأثر والإفادة تجاوزتها أوربا بالاجتهاد والنقد والنقاش ونحن لا زلنا لم نتجاوز الغزالي والمفيد والعلامة الحلي وابن تيمية، لنضعهم على محك النقد التاريخي الصارم لنتبين التركيبات التيولوجية بكل أنواعها (علم الكلام، والفقه، والحديث، والتفسير وو).

والمؤسف أنّ ثمة قطيعةً معرفيةً ساكنة فينا تعيشها قراءاتنا ومؤسساتنا الدينيّة مع الآخر ومنتجه الفكري فما زلنا نعتقد- توهمًا- أن علومنا تمتلك مفتاح المغاليق لكل شيء، فيما العالم مستغرق في بحوثه العلمية ومنهجياته التي قطع فيها أشواطًا للعمل والاشتغال على إعادة الاعتبار للإنسان والمجتمع بكلا بعديه المادي والروحي لتعينه على مفارقات الحياة.

ومثال صغير للتدليل على قطيعتنا مع الآخر ومنجزه ما سمعته قبل أيام من أحد الاخوة (من الوسط الحوزوي) يقول: أن أحد زملائي سأل أحد الأساتذة المرموقين في المجال الفلسفي (وهو الشيخ جوادي آملي) سأله عن نظرية جون لوك في مجال نظرية المعرفة. ما رأيها فيها ؟ فقال له: بأنه لا يملك اطلاعًا عن واقع عصر النهضة الأوربية، وعليك بالذهاب إلى الشيخ مصباح اليزدي."

إن هذا الحدث يمكن عدّه ظاهرة متوفرة تحكي مقدار القطيعة التي تعيشها الأوساط العلمية مع الآخر وحداثته ومكتسباته وفكره وتجربته. وتعكس حجم المطالبة بخصوصيّة إسلاميّة وأصالة عقلية مطلقة يتجنب فيها ما أبدعه التفكير الغربي والبحث العلمي الحاصل خارج دائرة المعارف الإسلاميَّة. إن هذا الرفض لا يخرج عن محددات الرؤية الأيديولوجية ولا علاقة لها بالواقع التاريخي والفكري، لأن المفكرين القدماء كالغزالي وابن رشد وابن سينا والخواجة الطوسي وو أقبلوا على تكشيف علوم الأوائل ولا سيَّما الفلسفية اليونانية مع علومهم الدينية، وتفحصوها جيدًا، ولم يعيبوا على الذين تبنوا هذه العلوم إِلَّا فيما يتعلق بالقضايا الحرجة كالسببية أو خلق العالم وبعث النفوس ونحوها.

ومن المفارقة أن منطق أرسطو المستعار من الغرب (اليوناني) في الماضي، والذي مازلنا نتعامل مع منطقه بوصفه مسلمات نهائية، نجد أشدّ المدافعين عنه في عالم الإسلام هم أنفسهم أشدّ المناهضين للمنطق والفلسفة والمعارف الغربية الحديثة والمعاصرة. وكأن معطيات العقل التي استوردها الآباء من أوروبا أمس يحرّم على الأبناء التعاطي معها في صيغتها المتطورة اليوم بعد مرور أكثر من 2300 عام على تأليف أرسطو ( 384 ق.م  - 322 ق.م) لمنطقه في أثينا. لو صحّ توصيف كلّ توظيف للمعرفة المنتجة في الغرب بأنه ضرب من التغريب، فذلك يعني أن كلّ الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم من مفكري الإسلام أمس، يمكننا نعتهم بالتغريبين، ذلك أن منطق أرسطو اليوناني وفلسفة أفلاطون، والأفلاطونية الجديدة، أفاد منها ووظّف مقولاتها الكلّ، كلّ على وفق متطلبات ونوع كتاباته، أي ستندرج تحت هذا التوصيف مؤلفات الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وملا صدرا، وحتى الغزالي المناهض للفلسفة والفلاسفة، وغيرهم(8).

وأيضًا يمكن أنّ نسجل معاناة أخرى أصيب بها الفكر الإسلاميَّ وهي عدم القطيعة مع أُطُر التفكير القديمة المحنطة في تراثه وجهازها المفاهيمي " فما زال أغلب الفكر الديني الإسلامي يتحرك في دائرة الأحكام الموروثة عن الأدب البدعوي والقصصي التاريخي. لذا فإن الحدود الاجتماعية والسياسية والطقوسية والقانونية التي رسمها القرآن الكريم، ولا سيَّما في السور المدنية، بين المؤمنين والمشركين وبين المسلمين وأهل الكتاب، وبين المؤمنين الصادقين والمنافقين، وبين المجاهدين في سبيل الله والقاعدين عن الجهاد من الرجال والنساء، لا تزال مطلوبة لتؤمن للناس مكانة قانونية ودينية تتلاءم مع تعريف القانون الذي ساد خلال القرون الثلاثة الأولى للهجرة. إن الصرعات الجارية منذ السبعينات بين مؤيدي التطبيق الحرفي للنص وقوانينه من دون النظر إلى تاريخيته وبين الذين يريدون الخروج من الانغلاق العقائدي تهدف إلى الوصول إلى الحكم أكثر من السعي إلى تحقيق روحانية دينية(9)."

بموازاة تخندق التفكير الكلامي وقوالبه تحرر تفكير التصوف الفلسفي من تلك القوالب الجاهزة منذ زمن وصار يفكر فيها من الخارج لا بمنهج التفكيك التاريخي ومجالاته واشتراطاته وآفاقه التي تتخطى الفهم الحرفي، بل من خلال محاولة التواصل مع " مصدر المعرفة" بدلًا من الانشغال بنصوص الشريعة التي رأى فيها تعبيرات لغوية تتسم بالغموض والإجمال في حالات كثيرة، ولا سبيل لجلاء غموضها وإزالة إبهامها وتفصيل مجملها إلا بمعانقة مصدرها من خلال تجربة تترسم خطى التجربة النبوية التي هي أصل "الوحي" المعبر عنه بالنصوص. ومن الضروري لفهم ذلك الانشغال الصوفي بمعانقة المصدر بدلا من الانشغال بتأويل التعبير، أن نتأمل ما آلت إليه عمليات التأويل من اختلافات وصراعات من شأنها أن تشوش على المؤمن البسيط صفاء المعنى الديني الذي لا غنى عنه له(10).

وكلامنا هنا عن التصوف الفلسفي الذي يختلف عن "التصوف السني" الذي هو تصوف طُرُقي ينشغل بالعبادة والزهد، ولا يمكن أن نصفه بالخط المثقف أو الفكري، لأنه عبارة عن استعادة، بل وحتى تكرار لما هو موجود في الكتب المدرسية، وكتب الموجزات والخلاصات الشائعة. إنه عبارة عن شروحات وحواشي تدرس للطلاب في الطريقة أو الطرق الصوفية. وهذه التعاليم لا تحتوي في الحقيقة على أي تفكير شخصي ناهيك بالفكر النقدي(11).

ومن ثَّم، فان من شروط التنقيب المعاصر هو البحث عن استراتيجيات تفادي الانغلاق في أنماط إيمانية لها مدلولها الاجتماعي وتجاربها التاريخية، فلا بد من استئناف التفتيش عن منابع المعنى العميقة للدين نتجاوز فيها سياج التأويل ومتاهاته الذي صنعته رؤية المدونات التراثية التي كفت ولبت حاجات عصرها ومفارقاته. ويبقى السؤال الأهم عن المراحل الفكرية والتاريخية والثقافية للتشكل البشري التي ينبغي على العقل الإسلامي أن يستوفيها بالوعي والنقد والتخطي حتى يكتسب المؤهلات والوسائل الملائمة في بناء مشروعه العقلانيّ المعاصر لإدارة الحياة الإنسانيّة بكل أبعادها الروحيّة والأخلاقيّة التي تضفي على الحياة معنى؟

لقد تحررت أوربا من تاريخها المسيحي وتجاربه ومساراته نحو الحداثة، وصولًا إلى ظهور "لاهوت للحداثة" يحاول التكييف مع العالم المعاصر من خلال اللاهوت المسيحي نفسه. في حين أن أبحاثنا في هذا الحقل ضعيفة وقاصرة عن تلبية الانتقال بالمراجعة والاحتواء.

***

أ. م. د. حيدر شوكان

جامعة بابل - كلية العلوم الإسلاميَّة

..................

(1) إشكاليات الفكر العربي المعاصرة ,الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت، الطبعة الأولى، 185 .

(2) عبد الجبار الرفاعي، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، الناشر: مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد، الطبعة الثانية- 2019م، 65.

(3) غوته، آلام فارتر، ترجمة: أحمد حسن الزيات، الناشر: دار الرافدين- بيروت، الطبعة الأولى- 2019م، 9.

(4) الميزان في تفسير القرآن، 5/ 258.

(5) ينظر: عبد الكريم سروش، القبض والبسط في الشريعة، الناشر: دار الجديد- بيروت، الطبعة الثانية- 2010م، 32-33، والصراطات المستقيمة، الناشر: دار الانتشار العربي، الطبعة الأولى -2009م، 17.

(6) محمد أركون، الأنسَنةُ والإسلام- مدخل تاريخي نقدي، ترجمة: محمود عزب، الناشر: دار الطليعة- بيروت، الطبعة الأولى- 2010م، 163.

(7) د. حسن حنفي، تطور الفكر الديني الغربي، 70.

(8) عبد الجبار الرفاعي، مقدمة في علم الكلام الجديد، دار المصورات، الخرطوم، ص 47 – 48.

(9) محمد أركون، الأنسنة والإسلام، 163-164.

(10) نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلَّم ابن عربي، الناشر: مؤمنون بلا حدود- الرباط، الطبعة الأولى- 2017م، 25.

(11) ينظر محمد أركون، التشكيل البشري للإسلام، ترجمة: هاشم صالح، الناشر: المركز الثقافي العربي- الرباط، الطبعة الأولى- 2014م، 126- 127.

يقع التسامح الدينيَّ في منطقة مستبعدة من التفكير وغير منظر لها بشكل نقدي إِلَّا مؤخرًا، تحت تأثير العقل الحديث المشتغل على التحليل المكثف لهيبة النصوص التأسيسية وإعادة النظر في قراءتها بعيدًا عن البنية الدامجة التي شكلت محددات العقل الديني وأحاطته بسياج دوغمائي، بواسطة "مديري أمور التقديس" بتعبير ماكس فيبر مع ان التسامح الديني قضية معاشة في الواقع بصورة ضمنية. وهذا ما يستوجب التفريق بين العقل الديني الذي خضع للتراث وسيطر عليه، وبين العقل الحديث ورهاناته والحدود الفاصلة بينهما، وما يمكن تلمسه في قضية التسامح والإسقاطات التاريخية فيه.

التسامح أنواع: فمنه دينيّ، ومنه سياسيّ، ومنه اجتماعيّ، ومنه أخلاقيّ، وغير ذلك. وما يعنيا هنا في هذه المقالة هو التسامح الدينيَّ، ولذلك لا بد من بيان المراد منه وفقًا لبعض النظريات أو الاتجاهات وموقفها من التسامح الدينيَّ، وبالمجمل ثمة اتجاهات، ومنها:

الاتجاه الأول: الانحصاري "التطويقي" لا يرى موضوعًا للتسامح من الأساس، وهذا هو السائد فعلًا على مستوى أديان العالم، والذي كانت له الكلمة الفصل في الألفيات الماضية. فهو يرى أن الحقيقة والنجاة والخلاص والسعادة في الدنيا والآخرة موجودة في دين واحد ومحدد. ولعل تمثلاته تأتي بكلمات من قبيل قوله تعالى: " ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين". أو كما جاء في المسيحية: " لا أحد يمكنه أن يصل إلى الرب إلَّا عن طريقي أنا " أو "لا صلاح خارج الكنيسة".

الاتجاه الثاني: النسبية الدينيَّة، وهو الاتجاه الذي يقر بأن كل دين يكشف عن جانب من جوانب الحقيقة، ولهذا كانت الأديان كلها ضرورية من أجل تحصيل الحق بأكمله. فالأديان جميعها مآلها ومرجعها إلى أمر واحد، أما الاختلافات البارزة على السطح فليست سوى مجرد مظاهر وظواهر سطحية لا تعبر عن أي افتراق في العمق، وهذا معناه أن الأديان جميعًا قابلة بل هي فعلًا منصهرة في بوتقة واحدة ولا تحكي بالتالي إلا عن أمرٍ واحدٍ. وهذا المعنى يمكن تلمسه عند محيي الدين بن عربي.

الاتجاه الثالث: القائلون بتساوي الأديان يؤكدون التسامح الدينيَّ، لأن كل دين حَسَن وحق. فكل دين حسن من حيث إنه يرضي نزعات أتباعه. ولا يوجد في نظرهم دين واحد يحتوي على كل الحق. وحتى لو وجد فليس من الممكن تمييزه بقين قاطع. وهذا ما ذهب إليه عدد من فلاسفة الغرب ومنهم الفيلسوف والمتكلم المسيحي المعاصر "جون هيك". ومن الساحة الإسلاميَّة الدكتور عبد الكريم سروش في كتابه " الصراطات المستقيمة.

الاتجاه الرابع: السماح السلبي للشر. يؤكد أن ما يتسامح فيه ليس خيرًا و فضيلة، ولهذا فإنه لا ينطوي على استحسان، كما أنه ليس شرًا مطلقًا، ولهذا لا ينطوي هذا السماح على استنكار مطلق. ولما كان السماح سلبيًا، فإنه ينطوي مع ذلك على إقرار بالاستهجان، وإن كان في الباطن لا في الظاهر. ولهذا كان التسامح في الكنيسة أمرًا تمليه الظروف، وليس عقيدة. فإن اقتضت الظروف- السياسية غالبًا- أن يتسامح مع المذاهب والأديان الأخرى، لأن عدم التسامح سيؤدي إلى شرور أكبر. فإن من المستحب وليس من الواجب التسامح (1).

ولهذا قال القديس توما الأكويني: " إن الحكومات الإنسانية يجب عليها أن تتوافق مع الحكومة الإلهية التي هي صادرة عنها. لكن على الرغم من أن قدرة الله ورحمته لا نهاية لهما، فإنه أبقى على وجود بعض الشرور في العالم، وكان في قدرته أن يمنعها، لأن منعها سيؤدي إلى فقدان خيرات أكبر أو إحداث شرور أكبر. "

ويذكر مثالًا لذلك أن الكنيسة الكاثوليكية تستفيد فائدة حقيقة من ترك اليهود يمارسون شعائرهم، لأن هذه الشعائر في نظره هي بمثابة شهادة حية على حقيقة الدين المسيحي.

بناءً على هذه الاتجاهات يمكن القول أن ثمة تسامح شكلي، وتسامح موضوعي. فالتسامح الشكلي هو أن تترك الأديان الأخرى وشأنها. ونقيضه هو إرغامها على الخضوع لهيئة دينية معينة. أما التسامح الموضوعي: فلا يقتصر على مجرد احتمال وجود الأديان الأخرى وشعائرها، بل هو أساسًا الاعتراف الايجابي بالأديان الأخرى على أنها مذاهب ممكنة لعبادة الله.

أما من حيث من يتجه إليهم التسامح فينقسمون إلى فريقين: أ- أتباع الأديان الأخرى. ب- أتباع الفرق المختلفة داخل الدين الواحد.

في السابق كانت اتجاهات التسامح تدعو إلى تحمل الآخرين والصبر على وجودهم وقناعاتهم الفكرية والسياسية، أما اليوم فالعالم يتقدم خطوة إلى الإمام ليتجه- وبسرعة- نحو الاعتراف بواقع الافتراق والاختلاف، ويريد فهمه وتحليله على ما هو عليه، ليتسع التعدد فيه إلى ما هو أوسع من دائرة النجاة والعقوبة ليشمل الحقانية نفسها.

ولا بأس ببيان أجمالي وتوضيحي عن أبرز مباني هذه الحقانية (وهي الاتجاه الثالث)، ثم نفرد الملاحظات والمناقشات التي صوبت اتجاهها لمقالة أخرى تتبعها.

يعتمد توزع الحقانية وعدم تطويقها في دين أو مذهب معين على جملة من المرتكزات، وفي الأصل تقوم على دعامتين: الأولى: التنوع في الأفهام والتفاسير بالنسبة للمتون الدينية. والثانية: التنوع في تفسيرنا للتجارب الدينية. وهذا التكشييف عن المتون لا يكون على شكل واحد بل يتميز بالتنوع والتعدد.

فيما يخص ببيان المبنى الأول يوضحه د. عبد الكريم سروش فيقول: " فهم النص الديني وشروحه متنوع ومتعدد بالضرورة، والتنوع والتعدد لا يقبلان الاختزال إلى فهم واحد، وليس هذا الفهم متنوعًا ومتعددًا فحسب بل سيالًا أيضًا، والسرّ في ذلك أنّ النصّ صامت ونحن نسعى باستمرار لفهم النصوص الدينية وتفسيرها سواءً بالفقه أو الحديث أو القرآن الكريم من خلال الاستعانة بمسبوقاتنا الفكرية وتوقعاتنا من النصّ والأسئلة التي تدور في أذهاننا في مرحلة سابقة، وبما أنه لا يوجد تفسير من دون الاعتماد على التوقعات والأسئلة والفروضات المسبقة، وبما أن الفضاء المعرفي خارج الدين متغير سيّال، كما أنّ العلوم البشرية والفلسفة ومعطيات الحضارة الإنسانية تزداد وتتراكم وتتغيّر باستمرار، فلهذا كله كانت التفاسير المترتبة على هذه الأسئلة والتوقعات والفروضات المسبقة متنوعة ومتغيرة (2)."

ولا يوجد أي دين طيلة تاريخه من دون هذه الكثرة والتنوع في افهام أتباعه، والشاهد على ذلك تاريخ الملل والنحل وعقائها. فكل فرقة ترى لنفسها الحق والصواب من دون غيرها، ولم يتبادر إلى ذهن أحدهم أن لهذا التعدد والتنوع غير قابل للاجتناب في التفاسير والافهام معنى ومدلولا آخر أيضًا، فلا يمكن قبول مفهوم أننا ولحسن الحظ على حقّ وأننا من أهل الهداية والنجاة، ومن سوء حظ الآخرين أنهم على باطل ومن أهل الضلال وأنهم لم يفهموا الدين الحق وبذلك انحرفوا عن جادة الصواب (3).

وأما المبنى الثاني: وهو تعدد تفاسير التجارب الدينية: يقول د. عبد الجبار الرفاعي حول التجربة الدينية وبيانها: "التجربة الدينية تعني مواجهة الله وإدراك حضوره، والمثول في حضرته، وتحسس هذا الحضور وتذوقه روحيًا. هي نحو تجلّ وجودي للإلهي في البشري. وبتعبير المتصوف الهندوس رادهكر شنان: "أقوى برهان على وجود الله هو إمكان تجربته وإدراك حضوره. فالله مُعطي تجريبي، ومضمون محسوس للتجربة، وحالة روحانية". التجارب الدينية متنوعة، كتجربة الانجذاب والهيبة، تجربة الاعتماد، تجربة الأمل، تجربة الحب، و...الخ. الإيمان الدينيَّ يرتكز إلى هذه التجارب، والنوع الأعمق والأشدّ لهذه التجارب ماعاشه الأنبياء والأولياء والمتصوفة والقديسون؛ إذ كانت لهم تجارب عميقة جدًا، وقريبة غاية القرب من الألوهية. التجارب الدينية أعمق من مستويات الأديان، فهي النواة المركزية للأديان (4)."

وأوّل من غرس بذور التعددية في العالم هو الله تعالى الذي أرسل رسلًا وأنبياء مختلفين وتجلّى لكل واحد منهم بمظهر خاص وبعث كل واحد منهم إلى مجتمع خاص ورسم تفسيرًا للحقيقة المطلقة في ذهن كل واحد منهم يختلف عن الآخر. وبذلك فُعَّلت ظاهرة تعدد الحقانية. وعلى الرغم أن الأنبياء كانوا يعيشون في مراتب مختلفة. وهكذا كل شخص يرى الحقيقة وتتجلى له من زاوية معينة وبمقدار استعداده، يمثل جلال الدين الرومي لهذا المعنى بقوله:

إن صوت الناي الذي ينفخ فيه العازف.

إنما يخرج الصوت بمقدار الناي لا بمقدار العازف.

فكل واحد منا كالناي جالس على مشرعة الحقيقة، وهذه الحقيقة تروي قصتها من خلال ألستنا وأفواهنا، فلو كانت أفواهنا بمقدار عرض الفلك فانها مع ذلك تضيق عن بيان الحقيقة كاملة.

والسر في اختلاف الأديان لا يكمن في اختلاف الظروف الاجتماعية أو التحريف الذي طرأ على الأديان واستلزم ظهور دين آخر، بل بسبب التجليات المختلفة لله تعالى في عالم الوجود، فكما أن عالم التكوين متنوع فكذلك عالم التشريع متنوع أيضًا (5).

يستوحي الفيلسوف المسيحي المعاصر " جون هيك" هذا المبنى من تفكيك " عمانوئيل كانت" واستلهمه لشرح هذه النظرية من خلال التفريق بين الواقع والظاهر، ووفقا لذلك فالمتدين إنما يتكلم عن الشيء في مرحلة ظهوره في أفق الإدراك، أي في الأفق المفاهيمي الحكائي، لكن حكاية ذلك بالمطابقة عن الشيء في أفق نفسه أمر آخر، ولا يقصد هنا النسبية بل المقصود أن رتبة الفهم العقلي أو الإدراكي متورطة وملتبسة باعتبارات خاصة بها.

ومن هنا يعتقد بعض المفكرين الغربيين كالفيلسوف الانكليزي والتر استيس بأنَّ البوذية دينٌ ألهيٌ، بمعنى اعتقادها بالله، كل ما في الأمر أنها لا تعرف تفسير تجربتها الدينية في قالب مفهومي بالقدر الذي وفقت فيه الأديان الأخرى نظرًا لمحدودية موقعها، فهي كافرةٌ نظريًا مؤمنةٌ عمليًا، كأي فرد منا هو جاهل بالأوكسجين قبل اكتشافه لأنّه لم يفسره نظريًا ومفهوميًا لكنه يلامس الهواء يوميا ويستنشقه.

وثمة مبنى ثالث لهذه النظرية لا ضير من عرضه: وهذا المبنى يمكن بيانه من خلال الاستناد إلى اسم " الهادي" لله تعالى، فهنا لو نسأل: قلنا إن الشيعة هم المهتدون فقط من بين جميع الطوائف والأقوام المتدينة" مع إخراج غير المتدينين" الذين يبلغ عددهم مليارات الأفراد، واعتبرنا أتباع هذا المذهب (الشيعة) هم الأقلية، وقد نالوا الهداية الإلهية وسائر الناس سلكوا طريق الظلال والكفر (في نظر الشيعة)؛ أو قلنا إن الأقلية من اليهود، وهم (12) مليون يهودي، هم المهتدون، والآخرين ليس لهم حظ من الهداية والنجاة، ففي هذه الصورة كيف نتصور معالم الهداية متجسدة على أرض الواقع؟ وأين يتجلى اسم الهادي على مستوى الخارج؟ وكيف يمكن نصدّق أنّ نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) بمجرد أن وضع رأسه على وسادة الوفاة فإن العصاة والغاصبين نجحوا في سرقة دينه من الناس وحرموا عامة المسلمين من فيض الهداية الإلهية وأهدروا بذلك جميع أتعاب النبي الأكرم. إن هذه الرؤية لا تعني أن يتخلى أتباع الأديان والمذاهب المختلفة عن العمل بمعتقداتهم وشعائرهم الدينية وفرض نمط من الأعمال الدينية على الجميع من دون مبرر، بل في لزوم النظر إلى الكثرة واختلاف الشعائر والعقائد من زاوية أخرى، فلا نحصر جوهر الهداية الإلهية في التعاليم الكلامية أو الفقهية. ولا يعني هذا المبنى سوى الإذعان برحمة الله الواسعة والاعتراف بنجاح الأنبياء في مهمتهم الرسالية وضعف كيد الشيطان، ورؤية رحمة الله الواسعة منبسطة في جميع أرجاء عالم الوجود (6).

إلَّا أن هذه الرؤية في مبانيها قد نقدت وصوبت اتجاهها ملاحظات هامة وصارمة وجديرة بالتأمل. نعرض لها في مقالة أخرى إن شاء الله تعالى.

***

أ. م. د. حيدر شوكان

جامعة بابل/ كلية العلوم الإسلاميَّة.

..................

 (1) مقدمة عبد الرحمن بدوي، جون لوك، رسالة في التسامح، الناشر: مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد، الطبعة الأولى- 2006م، 8.

 (2) ينظر: عبد الكريم سروش، القبض والبسط في الشريعة، الناشر: دار الجديد- بيروت، الطبعة الثانية- 2010م، 32-33.

 (3) عبد الكريم سروش، الصراطات المستقيمة، 19.

 (4) الإيمان والتجربة الدينية، الناشر: مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد، الطبعة الأولى- 2015م ،9.

 (5) ينظر: عبد الكريم سروش، الصراطات المستقيمة، 28- 33.

 (6) ينظر: المصدر نفسه، 47- 50.

إذا كانت مهمة المثقف الدينيَّ هي معرفة التراث ومقولاته وأدوات الاجتهاد فيه وألا يخدش الروح الإيمانية ويتعامل معها باحتقار ودونية ويقفز عليها بأسلوب متسرع وفج، فإن المهمة المقابلة التي تقع على عاتق المؤسسة الدينيّة ورجالها أنَّ يبرهنوا على إيمانهم ببراهين توازي متانة الالتزام المطلوب من المكلفين، ومعززًا بالانفتاح على مكتسبات العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة التي تكشف مناطق مهملة ومهمة في الاجتهاد، وتدخل التساؤلات الضرورية بخصوص الإنسان والمجتمع والتاريخ والمعنى.

ان القبول بالتراث الدينيّ من دون فحص وتفتيش وتحقيب تاريخي قبول مذموم، لأن هذا التراث ببيانه وعرفانه وبرهانه- بتعبير محمد عابد الجابري- نشأ بتموضعات زمنية لها ظروفها وثقافتها، بعبارة أخرى: نشأ تراثنا الدينيّ في التاريخ ولبس لباس اللغة التي تحمل هوية تاريخية، ومن ثَّم، فإن على الباحث والمفكر ان يلقي عن هذا التراث لباس التاريخ، ليكشف روح المعنى اللاتاريخي فيه، وهذا ما يمكن تسميته بالإيمان الجديد.

كمثال لذلك العقائد الإسلاميَّة هل نشأت جملة واحدة ناجزة وكاملة ونهائية أم صيغة على التدريج والترقي؟ ومن المسؤول عن هندسة العقائد الإسلاميَّة؟ وما أثر الجدل المذهبيّ والدينيّ مع الآخر في نشأتها وتطورها إلى القرن السابع الهجري؟.

وما علاقة العقائد باجتماع الناس؟ وكيف آلت العقائد إلى الجمود والتوقف عن النمو؟ وكيف تحول علم الكلام من أداة للحوار والسجال مع الآخر الدينيّ إلى علم معبأ بسجالات مذهبية ومدرسية شكلتها الأطر الثقافية والسياسية للجماعة الإسلامية الأولى، وعبرت بها عن نفسها واشتغلت على بسطها ونقلها إلى البلدان، وخلفتها ميراثا للأمم. وثمة عدد غير قليل من الأسئلة المهمة في نشأت العقائد وتطورها.

عندما تأتي وتكتشف ان عدد من الأمور الإيمانية فرضيات لم تنشأ بصيغة تأبيدية وفعل ناجز من لحظته، وإنما تبلورت واتخذت شكلها المحدد بفعل الواقع ودلالاته ماذا نصنع هل نرجع عقولنا إلى الله (بگريزها) ؟

ولذا ينبغي أن نعيد تراثنا الديني إلى معترك الحياة الاجتماعية ونخلع عنه جلباب التقليد والتقادم ونختبره بأسئلة العصر وقضاياه من غير حرج. فما الضير ان يتطور إيمان الناس كما جاز ذلك لأسلافهم؟

يقول السيد المرتضى (ت436هجري ): " ونقسم بالله تعالى على من تأمله ان لا يقلدنا في شيء من مذهبه أو أدلته ويحسن الظن بنا، فيلقي النظر والتصفح والتأمل تعويلًا على أنا قد كفيناه ذلك وأرحناه بما تكلفناه من تعبه ونصبه، بل ينظر في كل شيء نظر المستفتح المبتدئ1 ."

ونصّ السيد المرتضى يمكن أن نبني عليه فكرة التراكم والترميم في تحقيبات الفكر الدينيّ المفضي إلى التعويض. فالانتقال من زمن الاجتهادات القديمة وأدواتها المدرسية التي لبت متطلبات وجود الإنسان في تلك العصور إلى مرحلة المناهج الحديثة القائمة على إعادة النظر في مضامين الأدلة الدينية من الأساس ونقدها وتحليلها بعمق وامتحانها بالتساؤلات الضرورية التي تشتغل على تكشيف الانحرافات الأيديولوجية التي رافقت صناعة المعرفة الدينية وهندستها، يعدّ مرحلة مستمرة تقوم على القطيعة والاتصال. قطيعة مع الميت والمتيبس منها أو القاتل، واتصال مع النشط والمنشط فيها. وبذلك هي مرحلة امتدادية للاجتهادات القديمة المستنيرة وإنضاج لها، وليس قطيعة تامة معها كما سعت بعض الدراسات الحديثة التي لم تدخل معترك التراث بأحداثه وتفاصيله ومذاقاته بدقة، ولم تجوس في تجربته التي امتدت منذ الدعوة في عهودها الأولى وانتهاء بسقوط الخلافة العثمانية 1923م.

وقد شخص محمد أركون أن من كبوات العقل الإسلامي ولاهوته القروسطي أنه عاش قطيعتين ولا زال يعاني منهما حتى اليوم. القطيعة الأولى: داخلية، والثانية خارجية. لقد انقطع الفكر الإسلامي في المرحلة العثمانية عن أفضل ما أنتجه الفكر الإسلامي ذاته في القرون الهجرية الستة الأولى من تاريخ الإسلام (حتى وفاة ابن رشد). ومن المعلوم أن هذه المرحلة قد تميّزت- بالجملة- بالتعددية العقائدية، والنزعة الإنسانية الحرة، والكوسمبوليتية العرقية- الثقافية.. وكلها أشياء ساهمت في خصوبة الفترة الكلاسيكية وازدهارها، وكلها أشياء أُهملت، أو نُسيت تمامًا بعد دخول المرحلة السلجوقية أولًا ثم العثمانية ثانيًا.

وأما القطيعة الثانية فكانت مع الخارج، أي مع أوربا. فقد نام الفكر العربي- الإسلامي وجمد ولم يعد يعرف ماذا يحصل حوله من اكتشافات علمية وتطورات فلسفية. وهكذا تشكلت الحداثة المادية والفكرية بمنأى عنه2 .

وهذه الانتقالة (من الاجتهادات القديمة إلى المناهج الحديثة) شرطية في المعرفة الحديثة، وأعني أن المعرفة الحديثة لا تتم إلَّا بالنظر وإعادة النظر، والتحليل ونقد النقد، والانفصال والاتصال مرة أخرى. وهي حق مشروع لكل شخص بعد أن يتقن أدوات المعرفة.

والنظر والنقد ينبغي أن يدخل في عمق المباني والأصول والقبليات وتحقيبها ومواجهتها، لا كما يحاول أن يصور بعضهم أن النقد متوفر في الأوساط الدينيّة من خلال ما يتجاذبه الفقهاء أو طلاب المؤسسات الدينية في مباحثاتهم للفروع ونقاشهم لها، مع أنهم يشتركون ويجمعون على آلاف الفرضيات الإيمانية وتقديسها، من دون مراجعة لتموضعاتها التي لعبت دورًا فيها.

ومسيرة التحديث الديني لا ترى سلطة لأحد في تقرير العقائد والإيمان والهداية، فهذا الإمام محمد عبده (ت1905م) في معرض حديثه عن نفي القتال لأجل الاعتقاد يقول: " يقولون: ان لم يكن للخليفة ذلك السلطان الدينيّ أفلا يكون للقاضي أو المفتي أو شيخ الإسلام ؟ وأقول: ان الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنيَّة قررها الشرع الإسلامي، ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربه، أو ينازعه في طريق نظره3 ."

يقرَّ الفقهاء ان اجتهاداتهم قد يصيبها الخطأ والتقصير، ولا سيَّما في مسائل السياسة وقضايا المجتمع المعقدة، ولكن الدور الذي لعبته المقولات الكلامية وعلم أصول الفقه في تأصيل دور الفقيه ومساحة تداخلاته قد اضطلع بمهمة صناعة مخيال فعال ومحرك للعقل الديني وتاريخه دفع بتنحية هذا الإقرار، وتحويل نصوصهم وقناعاتهم إلى نصوص قانونية، وكل ما يقع خارجها جهالة وضلالًا.

نكمل تحليل ذلك- إن شاء الله- في الحلقة الثالثة.

***

أ. م. د. حيدر شوكان

جامعة بابل/ كلية العلوم الإسلاميَّة

.....................

الذخيرة في علم الكلام، تحقيق: أحمد الحسيني، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي، 1411هـ ، 607.

قضايا في نقد العقل الديني، ترجمة: هاشم صالح، دار الطليعة،195- 196.

الإسلام والنصرانية، الطبعة الثالثة، القاهرة - ١٩٢٢م، ٥٩.

 

"هناك سحر حقيقي في الحماس. يوضح الفرق بين الرداءة والإنجاز".*

هل هناك متسع من النقد داخل واقعنا العربي؟؟ نقد أنيق وحر ونزيه، ليس ذلك النقد الذي يبعث التشاؤم أو يربك الحرية أو يشكك في كل فكرة خارج الصندوق، نقد يرتب الوعي في إدراك الضروريات وإزاحة العشوائيات وتحقيق النباهة في المجتمع ويصنع واقع الإنجاز الحضاري الأمثل..

إن مجتمعا لا يناقش ماهية النقد البناء داخل الأسرة وفي المدرسة وفي دور العبادة والجامعة والإعلام والمؤسسات العمومية هو مجتمع تسيطر عليه الرداءة!!

ردُؤَ (في معجم اللغة العربية المعاصر)

ردُؤَ يَردُؤ ،رداءةً، فهو رديء•

 رَدُؤ الطَّقسُ فسَد :-ردُؤ خطُّه، - اشتكى من رداءة البضاعة.

* ردُؤ الرَّجُلُ: صار وضيعًا خسيسًا :- فلانٌ رديء السُّمعة/ الطّبعِ.

إذن بلحاظ الحال هناك رداءة شاملة لكل مناحي الواقع وبنسب عالية بين واقع عربي ومسلم وآخر، والمجتمع الذي أفراده يستغرقون في الماضي ويعتاشون بثقافة الشطارة أو الأسطرة واللصوصية المصادق عليها ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، هو مجتمع تائه وخارج العصر بكل معنى العصر، لا تغني عنه شيئا الناطحات والتكنولوجيات والمؤتمرات والشعارات والوزارات والفعاليات الاقتصادية وغيرها، لأن الوعي الاجتماعي مخدر بالماديات ومعطل بالكماليات ومبرمج بالايديولوجيات، هناك بعض المعاملات المهمة في مقاربة الوعي السليم لدى أي مجتمع من المجتمعات:

أولا: التربية على الحوار الموضوعي البناء

ثانيا: الاعتراف بالنقائص والعمل على تجاوزها بإدارة عقلانية واستراتيجية

ثالثا: احترام التخصص والاستفادة من الآخر

رابعا: وهو الأهم تقديس القيم الإنسانية لا الاوهام القبلية والطائفية وتضخيم الأشخاص والأطلال بخطاب شعبوي يستخف بالعقول والحقائق..

هذه بعض الركائز التي تبعث لدى الفرد مستوى راق من التفكر بغض النظر عن خصوصياته وهويته ومتبنياته، الأهم أنها تشكل مربعا لمرآة النظر في المجتمع الذي يعيش فيه وتؤسس لديه رحلة السؤال المصيري في معادلة السباحة في محيط الحقيقة بوسائل متطورة ومعاصرة من أجل تجديد المعنى والمبنى والمنهج في حياته..

بالكاد هناك عدة ظواهر تقزز في واقع كل منا، تندرج ضمن إشكال تاريخي عربي: لماذا تمدن غيرنا وتخلفنا نحن؟ هذا السؤال الذي اتفق عليه بعض علماء الدين التجديديين ومفكرو ما سمي بالنهضة، هذه الظواهر هي بمثابة شوائب طفت على السطح، وجذورها سرطانية في نظام الرداءة الذي يتحكم في كل مباني الفكر والتعليم والتربية والإعلام والتحزب والتمذهب والتطرف، هذا النظام الذي اول من صنعه هم أدعياء الوعي الثقافي والديني والحضاري ووووو، عندما تكون السلوكيات الفاسدة مستشرية فلا حياة للمجتمع، يكفي أن تناقش واحدا من أدعياء الأكاديمية عربيا أو أشباه الفقهاء في مسائل الوعي والضميرو الكرامة، إلا وتجد نفسك مغضوبا عليك ومن الضالين، هناك افتراق تاريخي بين الفكر والأخلاق أو القيم، أعني انفصام في نظام النظر في واقعنا العام، مثقف ينافق وفقيه يفتي بالتكفير وطبيب يتاجر ومعلم عنصري وبقال غشاش وإعلامي كذاب وموظف خائن وتاجر جشع، هذه الرداءة محلها من الإعراب نظام تفكير فاسد، يحافظ على التخلف الاجتماعي بحيث يبقى سلم القيم هو المصالح الذاتية والفئوية والحزبية والطائفية والتجارية بدلا عن مقاصد الأخلاق كما رسم معالمها القرآن في إدارة الرقي لدى المجتمعات واختصرها بقيمة التقوى..

مجتمع الرداءة متحور كالفيروسات والسرطانات الخبيثة، قد يعطي سعة في الثقافة لكنه يحددها بقائمة مخرجات لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها، أي الإبداع ضمن سلطته الفلسفية وقيمه النفعية..

مجتمع الرداءة لا يقبل الحوارات الاجتماعية العادلة، لأنها موضوعية وواقعية ومنصفة وتهدف للتعاون المجتمعي لدى كل مكوناته، لا أتحدث هنا عن الديمقراطية أو الشورى بمفهومها التراثي، وإنما عن كرامة الأفراد الإنسانية وحرمتهم الوجودية والفعلية في المجتمع، هذه الفكرة لا تدرس أو تعلم أو تقرأ وإنما تعاش ويتعبد بها بين الناس، فعندما تنظر لكل الوجودات الإنسانية داخل مجتمعك على أنها ذات كرامة وخصوصية تاريخية، حينها ستنتبه أن الرداءة هي جذر ما نراه يوميا من جرائم العنف والظلم والتكفير والاقصاء والإفساد والخيانة والتبعية وتقديس غير المقدس وتحطيم مشاريع الإصلاح وقطع الطريق أمام الأحرار واحتكار حقيقة الوطن والدين وتوحيد الله والإخلاص له، هنا نلتقي بفكرة التواضع والتعارف والتسامح لنكتشف نور التعاون الإبداعي في مجتمع النزاهة والصلاح والإحسان..

قد تكون هناك بقع ضوء داخل ظلام الرداءة لكنها هافتة وتقنية أو ترقيعية حتى لا نقول اشهارية من قبيل العمل التطوعي أو النشاط الرياضي أو المهرجانات والمعارض للتسوق الثقافي والاقتصادي، لكن روح الحياة في المجتمع مخنوقة، هناك كبت واكتئاب ونكوص وامراض نفسية تجاوزت الطبقات الهشة أو المتوسطة والجماعات المنغلقة والأحزاب المهووسة بالمال العام ، لتستقر في مراكز الإجتماع العام، من خلال الأمراض الأخلاقية التي تنتشر في دوائر التأثير الاجتماعي من قبيل مؤسسات الصحة والتربية والتجارة والإعلام والدين وهلم جرا، الضوء الخافت لا يكاد يرى في ظل انتشار سواد الرداءة في المجتمع..

مجتمع الرداءة بالمختصر هو نتيجة من معادلة "لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" إسمها التغيير السلوكي المعرفي للجماعات سواءا في الحياة العامة أو الطوائف أو الأمم، لأن الرداءة أنانية وتشاؤم ونرجسية ، بينما الوطن يكون قويا بالتعاون والتكافل والتفاؤل والتسامح والتعاطف والتكريم التفاعلي في كل مناحي الفعل الاجتماعي...

مجتمع الرداءة مغلوب على أمره لأن عقله بيد سماسرة الأديان والأيديولوجيات والتاريخ والرياضات اللا اخلاقية والمولات التجارية والقنوات الإعلامية ..

مجتمع الرداءة خشبة مسرح على سطح محيط من المظالم، إنه مجتمع ألف الاوساخ النفسية والفساد الأخلاقي حتى ضاق ذرعا بقيم التقوى والإحسان والنزاهة والكرامة والعفة والأمانة، مجتمع محركه الوحشية المتغلفة بأغلفة التدين المغشوش والحداثة المنسوخة، مجتمع يتوهم أنه يتطور في العمران والخدمات والثقافة والإعلام والفن والرياضة ويكرم من يحمده ويبجله لكنه في الحقيقة هو كما وصفه القرآن: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران : 188]

في مجتمع الرداءة الفرد يتدين ويتفقه عجبا وكسبا للوجاهة ويتثقف لينصت له الناس في المجالس ويتوظف ليتحكم في معاملات البشر، ويتزين لغة وهنداما ومعرفة لينخدع الموظفين والطلبة والبسطاء بمظهره بينما واقعا أصفار وراء بعضها تزيد المجتمع تيها واغترابا عن فرصة نهوضه الحضاري، هنا في هكذا مجتمعات أخلاقيات المهنة والنظام العام والمواطنة وحقوق الإنسان والتأليف والنشر وبراءات الاختراع والأعراف كل هذا لا اعتبار له واقعيا، إنه منطق"غاية الرداءة تبرر ترويج خطاب الشكليات.."

هذا المجتمع هو كل تلك الحركة الاجتماعية المتهافتة والمدافعات العبثية والإدعاءات الوهمية للقوة والإدارة والتنمية والإنتاج العلمي والوجاهة الدولية بينما الإنسان نواته الأساسية سلعة للترويج والبرمجة والمزايدة، إنه مجتمع الاستعباد الجديد، مجتمع الرداءة مجتمع مهدد في كل لحظة مجتمع ضحية بأعطاب محركاته العملية التي قتلت القيم الإنسانية في تعاملاتها واستبدلتها بالتمويه والتشويه والتسقيط والتسفيه لكل من يفكر في الإصلاح والتجديد والتنوير بعقل عملي أخلاقي..

يبقى أن مجتمع الرداءة هو أساس ثقافة التغيير عندما ينظر إليه نظرة وفق نظام إدارة الكوارث وتنمية الجودة واقتصاد المعرفة وتربية الضمير الحقوقي لدى الأجيال القادمة قبل الضمير الفقهي الفارغ من منهج لأتمم مكارم الأخلاق وتطوير العدالة التنظيمية واخلاقيات المواطنة في الادارة والشارع...

مجتمع الرداءة لا ينقلب الى الصلاح بمجرد الضبط الاجتماعي والقهر الإداري ومكافحة النتائج ولكن عندما تستقل السلطة التربوية عن التلقين وترسخ لدى الأجيال منهج التعليم النفسي السلوكي، عندها تتضح الآفاق ويصبح النظر لسنغافورة وكوريا الجنوبية واليابان والنرويج واسبانيا ونيوزيلندا، شيء عادي لأن الحكمة هناك حكمت كل الوطن وأكرمت إنسانها، ولابد للحكمة عندنا أن يعود نورها ليملأ أركان كل شيء فينجلي ليل الرداءة والتفاهة والاستحمار..!!

اما بعد مجتمع الرداءة هو أكثر المجتمعات قابلية للاستعمار والاستدمار، مالم يتجاوز مأزق النفاق الاجتماعي الذي هو بالأساس مشكل سيكولوجي معرفي سلوكي يمكن تقليص تأثيراته من خلال تأكيد الذات لدى الفرد وتنمية إرادته في الإنجاز الاجتماعي عبر قنوات التعليم والتربية والإعلام والفن والحوارات والنقاشات الفكرية وعبر الأنشطة الثقافية للناشئة بمشاركة أولياء أمورهم وفي كل هذا لابد من صحة المبتغى وفعالية المنهج تنظيرا وتطبيقا كما حددها المفكر مالك بن نبي رحمه الله في شروط النهضة...

بكلمة الرداءة ظاهرة مرضية ككل الأمراض التي تصاب بها المجتمعات، فقط هي بحاجة لجد وإجتهاد ثقافي معرفي لاكتشاف الأدوية المناسبة لتطهير المجتمعات العربية من سلوكيات النفاق التي دمرت كل مشاريع الإنجاز والنهوض والتقدم..

***

أ‌. مراد غريبي

.................

* نورمان فنسنت بيل:كاتب أمريكي معروف بتخصصه في حقل التفكير الايجابي

أنا ممَّن يدَّعي أنَّ النهوض الاجتماعي يتطلَّب تجديداً في فهمنا لمعنى وفلسفة الحياة والدين والثقافة. وأعلم أنَّ التأثير العميق للموروث الديني في الحياة والثقافة، يستدعي على الدوام جدلاً حول التجديد في الدين، وما إذا كان في الأصل، قابلاً للتجديد أم لا، وما إذا كان التجديد يتناول الأصول أم الفروع أم الأدوات والمظاهر.

ومن هنا، فإنّي أدعو القارئ العزيز إلى تقبل نقطتين، أوجز الأولى في «أنَّ لكل جيلٍ من أجيال المسلمين حقاً ثابتاً في إعادة صياغة مفهوم الحياة الدينية، وإنتاج نموذج التدين المناسب لزمنه، من دون التزام ما أنتجته الأجيال السابقة». أما النقطة الأخرى، فخلاصتها أنَّنا في حاجة إلى التمييز بين دائرتين في حياتنا: دائرة يمكن أنْ نسميَها دينية، وهي مجال اشتغال أحكام الشريعة، ودائرة خارج الدين، فهي مجال لأحكام العقل النظرية والعملية والأخلاقية.

كلتا النقطتين مورد جدل بين التيار الديني التقليدي ونظيره الإصلاحي. يقول التقليديون بأنَّ كل ما عرفه البشر في العصور الحديثة، موجودٌ على شكل حكم مفصل أو قاعدة مجملة في التراث الإسلامي. وبالتالي فلا مبرر لقيام الجيل الجديد بأي دور أو تصرف في المنظومة الشرعية.

وأصل هذه الفكرة هو القول بأنَّ الشريعة الإسلامية تحوي كل شيء في الحياة، أو أنَّها قادرة على تنظيم أي جانب من جوانب الحياة. ويتعامل الناس مع هذه الفكرة كأمر بديهي لا يقبل الجدل. ولعلَّ بعض القراء الأعزاء قد صادف كتباً تحمل عنواناً مثل «البديل الإسلامي»، «قال الإسلام قبل ذلك»، «هذا الدين للقرن الواحد والعشرين»... إلخ.

يعتقد أكثر الناس أنَّ هذه حقيقة ثابتة. فإذا قلت لهم إنَّ هذا غير صحيح، حسبوك تتَّهم الإسلام بالنقص والعيب، وجادلوك دفاعاً عن الدين، وليس نقاشاً في الفكرة.

وكنت فيما مضى أذهب المذهبَ نفسه. ثم اكتشفت أنَّ بعض العلوم لم تكن موجودة أصلاً في زمن التشريع ولا الأزمان المقاربة له. فكيف تضع أحكاماً لشيء لا يمكن تصوره، فضلاً عن معرفته. وخلال بحثي عن الموضوع طرحت هذا السؤال على فقيه بارز، فأجابني بالجواب المعروف، وهو أنَّ ما لم يرد حكمُه في الكتاب والسنة، فإنَّ حكمه يستمدُّ من أقرب القواعد العامة المتعلقة بموضوعه. فسألته عن حكم لبس الساعة، فلاحظ في لهجتي شيئاً من السخرية، فتمالك نفسه وأجاب أنَّها مباحة، فجادلته بأنَّ الإباحة ليست حكماً؛ لأنَّ القول بأنَّ الإباحة حكم، تكلف من غير داع، ولا طائل تحته، وأنَّ القول الصحيح هو أنَّ لبس الساعة ليس من قضايا الشريعة، فإن وافقتني، فإنَّ القول بشمولية الشريعة لا يصحُّ.

وفي وقت لاحق وقعت على نقاش بين اثنين من الفقهاء البارزين، أولهما الشيخ يوسف البحراني الذي قال بأنَّ آيات مثل «... مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ» و«... تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ»... وأمثالها تدلُّ على أنَّ كلَّ شيء في الحياة له حكم في الكتاب أو السنّة، حتى أرش الخدش (التعويض عن الجرح الطفيف). وقد ردَّ عليه الشيخ أحمد النراقي قائلاً، إنَّ سياق الآيات يدلُّ على أنَّ في الكتاب تبييناً لكل شيء يجب بيانُه ولا يصحُّ السكوت عنه، لا أنَّه يبين كل شيء على الإطلاق. والدليل هو ما نراه فعلاً من آلاف الموضوعات والمسائل التي لم يخبرنا الشارع عن حكمها، وهي تتزايد يوماً بعد يوم. وإلى هذه الناحية أشار أبو الفتح الشهرستاني في «الملل والنحل» حين قال، إنَّ النصَّ محدودٌ والحوادثَ غيرُ محدودة، فكيف يستوعبُ المحدود ما لا حد له ولا حصر؟

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

معظم الذين يرفضون الحرية، يبالغون في تضخيم الاستثناءات، حتى تنكمش القاعدة أو تتلاشى. وعلى العكس من ذلك، يركز دعاة الحرية والمؤمنون بها على حقيقة كونها الأصل والقاعدة، وأن أي تقييد ينبغي أن يتفرع من الأصل ويأتي كاستثناء من القاعدة، فلا يتضخم إلى القدر الذي يجعل القاعدة معدومة الأثر، أو يجعل الأصل أضعف أثراً من الفرع.

لا بد - على أي حال - من التأكيد على أن منكري الحرية، مثل دعاتها، ينطلقون من موقف فكري أو اجتماعي سابق على طرح الفكرة للنقاش. ولهم بالتأكيد مبررات ترضيهم، وإنْ لم يقبلها الفريق المقابل.

وقد أشرت في مقال سابق إلى أن الشرائح المحافظة في مختلف المجتمعات، تنظر للحرية كحاجة ثانوية للمجتمع الإنساني، لا أنها ضرورية للتقدم كما يدعي الليبراليون. ونعلم مثلاً أن الماركسية الكلاسيكية اعتبرت الحرية لعبة برجوازية، وأن حاجة المجتمع الحقيقية، هي ضمان القواعد المادية الأساسية للعيش الكريم، حتى تحقيق المساواة بين الناس. أما المجتمعات المتدينة (على اختلاف الأديان والمذاهب) فتعد الحرية أداة سخّرها أنصار الشيطان للتغرير بالأجيال الجديدة، كي يتمردوا على النظام الاجتماعي الفاضل. وأحدث الأمثلة على هذا، الحادث الذي انتهى بمقتل الشابة مهسا أميني على يد «دوريات الأخلاق» في العاصمة الإيرانية طهران. وقد برر ما جرى بعد ذلك بأنه مؤامرة أجنبية، بينما كان المؤمل أن تعتذر الحكومة عن هذا الخطأ الكارثي.

كتبت سابقاً أنك لن تجد بين السياسيين والمثقفين أو الزعماء الدينيين من يعلن صراحة أنه ضد الحرية. لكن الذي يحصل عادة، هو التركيز على الاستثناءات والحواشي وإكثار الكلام فيها، حتى تتضاءل القاعدة الأصلية وتضيع في الزحمة. حين تتحدث عن الحرية أو فوائدها، ستأتيك عشرات الردود، من كل طرف، حتى ليخيل إليك أنها دفاع منسق.

الواقع أنها ليست منسقة، لكن المجتمعات المحافظة جاهزة دائماً للتعبير عن رفضها للتغيير وكل مداخله ومؤدياته، بل كل ما يرتبط به من قيم وأفكار. ستجد مثلاً:

أ- ردوداً تقول إن الحرية طيبة، لكنها مستحيلة. لا توجد حرية في العالم الواقعي. الرسالة الداخلية لهذا الموقف هي: الكلام عن الحرية عبث لا طائل تحته.

ب- ردوداً تقول إن الحرية طيبة، لكن تطبيقها مشروط ومحدد بالحدود التي يضعها المجتمع أو الدين. فحوى هذا الموقف أننا لا نريد حرية تأتي بفكرة مختلفة أو تدعو لعلاقات اجتماعية جديدة.

ت- ردوداً تركز على مخاطر الحرية المطلقة، فلو ترك الناس من دون ضابط لارتكبوا كبائر الآثام. فحوى هذا الموقف أن الإنسان بطبعه فاسد، وأن ما يمنعه عن الفساد هو خشية العقاب، وأن الحرية تحرره من هذا الخوف.

ث- ردوداً تركز على تجارب البلدان التي قبلت بالحرية، لا سيما السلوكيات التي يعدها عامة الناس نموذجاً لسقوط الأخلاق، مثل اللباس غير المحتشم، والعلاقات غير المتناسبة مع التقاليد التي نعرفها، وتمرد الأبناء على الآباء... إلخ. فحوى هذا الموقف أن الإنسان سيخسر أبناءه لو قبل بمبدأ الحرية.

كل من هذه المواقف تقول ببساطة: نحن نريد الحرية، لكن الحرية لا تريدنا، فهي لا تأتي دون أن ترافقها الشرور. الأفضل إذن التخلي عن هذه المغامرة مجهولة العواقب.

هذا يوضح المخادعة التي يقوم بها العقل التقليدي، حين يدفع الاستثناء كي يزيح القاعدة، ويستولي الشرح على المتن، «الاستحواذ على النص الأصلي المشع، بعد تغطيته بنصوص الهامش المعتمة»، حسب تعبير أخي د. معجب الزهراني.

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

 

من طبائع الأمور ان يكون "علم الدين" اكبر حجما من النص الديني. لأن الشرح والتفسير اوسع دائما من النص المراد شرحه وتفسيره.

هذ الأمر جار في كافة العلوم والفنون. انظر مثلا الى "المعلقات السبع" التي اشتهرت في الجاهلية. انها سبع قصائد، تحويها ثلاثون صفحة على الأكثر. لكن شروحاتها والابحاث التي كتبت حولها تتجاوز – حسب ما قرأت - ثلاثين كتابا. ولعلها تزيد عن ذلك. انظر ايضا الى كتاب جون رولز "نظرية في العدالة" الذي ضم نظريته المشهورة في بضع صفحات، لكن مبرراتها وأدلتها جاوزت الخمسمائة صفحة. اما ما كتبه باحثون آخرون حولها او تحت تأثيرها، فقد تجاوز 100 كتاب، فضلا عن مئات المقالات.

من هنا فليس غريبا ان تجد 300 تفسير للقرآن في اكثر من الف مجلد. اما كتب الفقه فعددها بالآلاف. وقد اطلعت على تطبيق الكتروني، جمع ما يزيد عن الف مجلد لفقهاء من مذهب واحد، فكيف بكتب الفقه كلها.

يوما ما، في القرن السادس الميلادي، كان علم الدين محصورا في الكتاب والسنة، اي ما يعادل خمسة مجلدات (بمعايير اليوم). اما الآن، فالمنشور في هذا الحقل يجاوز آلاف المجلدات.

ذكرت هذه المعلومات كتمهيد للقول بأن غالب النقاشات في الحقل الديني، تتناول آيات الأحكام وأحاديث الأحكام، اي الآيات والروايات التي تدل مباشرة على حكم شرعي. والمشهور ان الآيات المقصودة تبلغ 500 آية، أي نحو 8 بالمائة من مجموع آيات القرآن. اما أحاديث الأحكام فقد نقل ابو يعلى الفراء عن الامام احمد بن حنبل انها 1200  أي نحو 15 بالمائة من مجموع ما يصنف ضمن الاحاديث الصحيحة.

معنى هذا الكلام ان تسعة أعشار ما يقال او يكتب في أمور الدين ينتمي الى دائرة "علم" الدين وليس الى الدين نفسه. انها بعبارة أدق حواش وشروحات وتفسيرات واجتهادات حول النص الديني، وهي جهد بشري يتأثر بالمستوى العلمي لكاتبه او قائله، وظرفه الزماني والمكاني، وبمقدار ما يتوفر له من مراجع، فضلا عن همومه وانشغالاته الذهنية. انها علم البشر وليست علم الله ولا هي عين الدين.

اما التوسع المستمر في علم الدين، فمرجعه هو التحول المستمر في مجتمع الانسان، في ثقافته واقتصاده ومنظوماته القيمية وسلوكياته. كل تحول يطرح أسئلة جديدة، تستدعي اجتهادا جديدا، فتضاف شروحات وتفسيرات ونقاشات جديدة.. وهكذا. ولعل ما كتب ونشر في حقل العلوم الدينية، خلال الخمسين عاما الأخيرة، يعادل جميع ما كتب منذ القرن السادس الميلادي حتى بداية القرن العشرين.

هذا المجموع الضخم ليس جزء من الدين ولا هو امتداد لمقدسات الدين، بل هو علم انتجه البشر في سياق سعيهم لادراك الحقيقة او الاقتراب منها. والعجيب في الأمر ان بعض العامة يظن ان كتاب التفسير وكتاب الفقه وكتاب الحديث وكتاب العقيدة، يظنها مقدسات، ويغضب اذا انتقدها الناقدون او خطأوها. اما العلماء انفسهم، سيما المتبحرين منهم، فيرون النقد حياة للعلم وسببا في ازدهاره. وكم من النظريات الهامة في الحقل الديني اغفلت وكادت ان تموت، لولا اقلام الناقدين التي كشفت عن تميزها ودقة مقولاتها.

ان تقديس العلماء وكتبهم يوشك ان يجمد علم الدين، بل ربما يميته. بينما النقد يجدد حياته ويكشف عن زوايا فيه لم يطرقها السابقون. وعلى كل حال، فان علم اليوم مثل علم الامس، ليس دينا ولا هو امتداد للدين، بل هو انعكاس لتجربة البشر الدينية، وهي مجرد تعبير عن حياتهم وعصرهم، لا اكثر ولا أقل.

***

توفيق السيف

 

أي حديث عن الحرية في مثل مجتمعنا يستدعي التذكير بأنَّها حق أصلي لكل إنسان بما هو إنسان؛ أي قبل أن يكون عضواً في جماعة، أو مؤمناً بدين، أو خاضعاً لقانون. لا بد من التذكير أيضاً بأننا لا نتحدث في فراغ؛ بل عن الحرية في مجتمع يحترم نفسه ويحكمه القانون. مقصودنا إذن هو الحرية التي يضمنها القانون، وليس الحرية المضادة للقانون.

ما الحاجة للتذكير بهذا، مع أنه من قبيل البديهيات؟

واقع الأمر أن «الحرية» ليست من الأمور البديهية في المجتمعات المسلمة، بل في عامة المجتمعات التقليدية. من المفهوم طبعاً أن الحرية قيمة عُليا، وهي من المسلّمات التي لا يجادل العقلاء في ضرورتها وحاجة الإنسان والجماعة إليها، وفي كونها من أسباب التقدم والقوة. هذا كله أمر مفهوم؛ لكنني -مع ذلك- أدّعي دون حرج، أن مجتمعاتنا لا تعتبر الحرية قيمة عليا، ولا تصنفها بين المسلّمات. وهي تقول ذلك صراحة، أو تقوله مداورة، حين تدّعي أنه لا يوجد معنى دقيق للحرية، أو حين تشدّد على الربط بين الحرية والانفلات السلوكي أو انتشار الفساد الأخلاقي.

هذا يظهر غالباً حين يعيق المجتمع رغبة الأفراد في التعبير عن أنفسهم بطريقة غير مألوفة، الأمر الذي يكشف عن ارتباط عضوي بين الحرية والتمرد على حدود المجتمع وتقاليده.

التصادم بين الرغبة في الاستمرار التي يعبر عنها العرف الاجتماعي، وإرادة التغيير التي تعبر عنها محاولات الأفراد للتحرر من ذلك العرف، يكشف عن منهجين مختلفين للتفكير في الحرية:

المنهج المحافظ: وينطلق من فرضية أن النظام الاجتماعي هو الأصل، وأن سعادة الإنسان رهن بالمحافظة عليه. وينصرف هذا إلى معنى احترام الأعراف والهوية المشتركة والتعريف الاجتماعي للمصلحة العامة. وفقاً لهذه الرؤية فإن للفرد حقوقاً يستمدها من عضويته في الجماعة، ولذا فإن تمتعه بها، ومن بينها ممارسته لحريته، يجب ألا يُعارِض -بأي شكل- العرفَ الاجتماعي أو إرادة المجتمع.

أما المنهج الليبرالي: فينطلق من فرضية معاكسة، فحواها أن الحرية حق أصلي للإنسان، وهي من لوازم إنسانيته وعقلانيته. في الوضع الأصلي كانت حرية الإنسان مطلقة، لكن حاجة الفرد للعيش في المجتمع أوجبت تحديدها؛ كي يستطيع كافة أعضاء المجتمع ممارسة حريتهم، من دون تزاحم. هذا التحديد استثناء من القاعدة أو خروج عن الأصل، فيجب تقييده بقدر الضرورة؛ كي لا يتحول إلى قاعدة بذاته.

فكرة التزاحم، لا سيما تبريرها لتقييد الحرية الفردية، بدت في أول الأمر بسيطة ومعقولة؛ لكن تطبيقاتها العديدة كشفت عن تعقيد غير متوقع. كان جون ستيوارت ميل بين أوائل الفلاسفة الذين تنبهوا للحاجة إلى معيار للفصل في تنازع الإرادات بين الأفراد، أو بينها وبين أعراف المجتمع ومصالحه، فوضع قاعدة اشتهرت فيما بعد باسم «مبدأ ميل» أو «مبدأ الضرر».

صنف ستيوارت ميل الأفعال إلى نوعين: فعل يتعلَّق أثره بالفاعل دون غيره، مثل التدين أو الإلحاد، والعمل أو ترك العمل، فهذه وأمثالها أفعال لا ترضي بعض الناس؛ لكنها لا تضر أحداً غير الفاعل. أما النوع الثاني فهو الأفعال التي تترك ضرراً جسيماً على الآخرين، كالدعوة لكراهية الملونين أو أتباع الأديان الأخرى. رأى ميل أن الحالة الأولى لا تبرر للمجتمع ردع الفاعل، حتى لو كان فعله مناقضاً لأعراف الجماعة أو إرادتها، بخلاف الحالة الثانية التي يعتبر فعل الفرد فيها (التحريض على الكراهية) نوعاً من العدوان، فلا يمكن تبريره بحرية التعبير.

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

 

في كل نقاش حول علاقة الدين بالعقل/ العلم، ستواجه أشخاصاً يكتبون عبارة مثل «العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح» ثم يمضون غير عابئين، وكأن المسألة قد حلت وانتهت. أصحاب هذه العبارة لا يستهدفون التأكيد على قيمة العقل. هذه مناورة بسيطة تؤدي - موضوعياً - إلى تأكيد أولوية النص، وكونه معياراً حاكماً على عمل العقل. ولهذا أيضاً؛ فإنَّ أكثر من يستعملها في النقاش، هم الإخباريون، الذين ينكرون – من حيث المبدأ – أي دور للعقل في التشريع.

واقع الأمر، أن النص قد يخالف العقل/ العلم في مواضع عديدة: مخالفة في الحقيقة، بمعنى أن جوهر مراد النص معارض للثابت علمياً أو منطقياً، أو مخالفة في الواقع، بمعنى انتماء كل من مضمون النص والعلم، إلى أفق تاريخي أو نسق ثقافي مختلف.

وقد ضربت مثالاً في مقال سابق، بالرواية القائلة بأنَّ الأرض مستقرة فوق بحر، تحمله صخرة على قرن ثور. ونعرف أنَّ هذا يتناقض مع ثابت علمي، بلغ الآن مرتبة الحقيقة. أمَّا الاختلاف بحسب الواقع، فنراه في تحديد قيمة الأفعال، مثل استعباد البشر الذي كان في زمن النص فعلاً عادلاً/ حقاً، فبات اليوم فعلاً ظالماً/ باطلاً، في عرف أهل الشريعة وعند عقلاء العالم كافة. إنَّ التعارض الواقعي – مثل التعارض الحقيقي – يستدعي تهميش أحد الطرفين واستبعاده، والا تحولت عقولنا إلى صندوق المتناقضات.

والذي أراه، أنَّ القول بعدم التعارض بين العقل/العلم وبين النص، مجرد تسويغ للرؤية الداعية إلى تأويل التعارض، بتصنيفه كفهم خاطئ (لأنَّ عقلَ الإنسان ناقصٌ وعاجزٌ عن إدراك الحقائق). أو لعلَّها تمهيد لإلزام العقل اتّباعَ النقل على أي حال، كما هو الجاري بين أهل الفقه التقليدي. فإذا أثبت العلم شيئاً يخالف ما دلَّ عليه النقل، تركنا العلم وتمسَّكنا بمفهوم النقل/ الرواية، نظيرَ مثال قرن الثور السابق الذكر.

ومن هنا، فإنَّ جدل العلاقة بين النقل والعقل/ العلم، لن يصل إلى قرار، ما لم نرجع به لبداية مختلفة، تعالج ما أظنّه عاملاً خفياً وراء تعقيد المسألة، وأعني به إشكالية موقع الإنسان في الدين. تتلخَّص هذه الإشكالية في موقف الدين من ثلاثة أسئلة:

أولها: هل الفطرة الأولية للإنسان صالحة أم فاسدة. أي: هل يميل – بطبعه - إلى الشر والفساد أم يميل للخير، بمعنى: لو تُرك الناس وشأنهم، فهل سيتقاتلون ويهلكون الحرث والنسل، أم يتعاونون لدرء الشَّر وتنظيم علاقتهم ببعضهم.

الثانية: هل ينظر الدين للإنسان كفاعل عاقل ذي إرادة واختيار، وهل هو حر في الفعل كي يتحمَّل مسؤولية أفعاله وقراراته، هل هو قادر على الاختيار العقلائي والأخلاقي. وإذا توصل بعقله إلى فهم شيء أو قرَّر شيئاً، فهل لهذا الفهم والقرار قيمة واعتبار في الشرع، أم هو لغوٌ لا قيمة له. الاختيار العقلائي يعني الفهم المسبق لمحتوى الأفعال التي سيقدم عليها، وحساب نتائجها، ثم اختيار الفعل المؤدي إلى نتائج قابلة للتبرير الأخلاقي، أي نافعة له وغير ضارة لمن حوله وما حوله.

الثالثة: هل يتساوى الناس كافة في الصفتين السابقتين، أي في طبعهم الأولي وفي قدرتهم على تشخيص الخير، واتخاذ قرار بناءً عليه، أم أنَّهم يولدون بصفات متفاوتة؟.

معالجة هذه الأسئلة هي المدخل الصحيح في رأيي، للنقاش حول علاقة الدين بالعلم وعلاقة النقل بالعقل. آمل أن أعودَ لتوضيح هذا المسار في كتابة آتية.

***

كاتب ومفكر سعودي

محمد زكاريلا بد لنا ونحن نفكر في مشروع إصلاحي حقيقي، أن نعيد الاعتبار لما أسسه، وقعّد له جهابذة الإصلاح والمشروع النهضوي، منذ القرن التاسع عشر، في غرب العالم الإسلامي ومشرقه. ولعلنا لا نجانب الصواب حين نؤكد على هذا المطلب الأساس الذي لا نزال نعيش وطأة تجاهله، ومن يدعي أن بوسع العرب والمسلمين اليوم تحقيق نهضتهم من دون إحداث إصلاح جوهري في مستويات كبرى، كمن يسلم بإمكان تحقيق الحرية والديمقراطية من غير نضال ضد الاستبداد. هي تركيبة كليَّة تفرض نفسها على الإنسان والاجتماع، ولا حِوَل عنها. كان الفكر الإصلاحي، منذ نشأته، على دراية بالرهانات الكبرى التي هو مدفوع إلى تحقيقها، ومن غير شك؛ فإنه لخّص، على مدًى طويل، على من هم في دواليب القرار حلولاً لمعضلات قلما انتبهوا إلى أثرها. ولربّما كان للتاريخ دوره الحاسم في تحديد أشكال حضور الفكر الإصلاح في الوطن العربي، إلا أن آثاره لا يمكن نفيها أو تغييبها، مع فارق ملحوظ في شكل الإصلاح لدى كل مشروع على حدة، أ ينبغي أن يكون تربويا أفقيا أم رأسيا سياسيا. وهو ما يدفعنا إلى التفكير في مجموعة من الأسئلة الجوهرية: إلى أي حدّ يمكن اعتبار الإصلاح مشروعا لم يكتمل بعد؟ وما هي مستويات التفكير فيه؟ وهل الإصلاح ذو منظور واحد أم أنه متعدّد الأصوات؟

يُتَداولُ مفهُوم “الإصلاح” – في اللُّغة العربيَّة – أكثر من غيره من المفاهيم، ولربَّما فاق بريقهُ فيها ما عاداه كالحريَّة، والديمقراطية، والإنصاف، والعدالة الاجتماعيَّة. ترجعُ الرغبَةُ في الإصلاح، إلى فهمٍ تكوَّن لدى الإنسان العربي المعاصر، عن واقعه، ومصيره؛ حيثُ لا يكادُ أن يتجاوز معضلةً حتى تواجههُ أخرى، وهو في حاله تلك غير قادر على الحراك، فتتساوى عندهُ مستوياتُ الإصلاح، ويصيرُ “إصلاحُ النفس” عينهُ إصلاحاً للمجتمع، والاقتصادِ، والسياسية. لم يحملِ الإصلاحُ في معناه التداولي العربيّ معنى التَّغيير الجذري الذي يهدفُ إلى اقتلاع مكامن الخللِ، بقدر ما كان الهدفُ منه “التقويم“، وفي أفضل الأحوال استبدال الأجزاء المعطوبة داخل آلة باليَة.

ليس الاصلاحُ رغبةً متمخِّضةً عن ترفٍ لدى المجتمعات العربية، ولا هو بالفضلة التي تزيدُ عن حاجته، وإنَّما والحالُ هذه أضحى من المسائل التي لا غنى عنها. لكنَّ “الإصلاح” لا يصيرُ فعلاً واقعيًّا إلا متى حرَّكتهُ إرادةٌ مجتمعيَّةٌ، يشاركُ فيها الفاعلون السياسيّون بالقدر نفسه الذي يشاركُ به أفرادُ الشعب، متجاوزين الوضع الصوريّ الذي أنتجته “الديمقراطيَّات المعطوبة”. وبه تصيرُ العمليَّة الإصلاحيَّة جزءاً من مشروعٍ، شاملٍ، هدفُهُ الوحيدُ هو النهوضُ بالمجتمع من دواليب التَّخلُّف والبحث عن سبُل التَّقدُّم، ومن أجلِ تحقيقِ تلك الغاية، كان لزاماً البحثُ عن الأسبابِ الذاتية للتَّقدُّم، وهي – في الغالب – أسبابٌ ذاتيَّة؛ فبالقدر نفسه الذي تكونُ به الأسبابُ الذاتيَّةُ عاملاً من عواملِ التَّخلُّف، فإنَّ فيها ما يتيحُ إمكانيات التَّقدُّم وسبل الإصلاح.

ما من نموذجٍ يمكنُ اتِّخاذهُ معياراً في الإصلاح، حتَّى وإن كان رائداً في الوقت الرَّاهن؛ لإنَّ شروط الإصلاح ينبغي أن تستنبت داخل المجتمع الذي يعنيه التَّغيير، وإن طُبِّقت عليه نماذجُ برَّانيَّةٌ فإنَّها ستقابلُ بالرَّفض، وإنْ قبلت، فإنَّ قبولها ظاهريٌّ لا يغيِّر من الجوهر شيئاً. تبيئةُ المضامين الإصلاحية، إذن، ضرورةٌ لا محيد عنها حتى وإن بدى لنا المجتمع مُتَهيِّئاً لقبولها. ما تخوضُه المجتمعات العربيَّة، اليوم، من تخبُّطاتٍ في المسألة الإصلاحيَّة مردُّه إلى عدمِ الحسمِ في مقولات الإصلاح ونماذجه؛ حيثُ استبدلت تلك المجتمعاتُ أطراً مؤسساتيةً تقليدية، بأطر مؤسساتية عصرانية، من دون أن تُتجاوزَ المُعضلاتُ الكبرى التي تواجهُ العربَ منذ مراحل ما بعد الاستعمار، وعلى رأسها، الوحدة، والتخلف، والحرب، والنزوح، والطائفية. إلخ.

تجاوز المسألة الإصلاحية نحو أفق التَّحديث، مصادرةٌ على المطلوب؛ حيثُ تطلبُ النتائجُ من دون مقدِّمات، ولكن أيُّ إصلاح هذا الذي ينبغي التفكيرُ فيه، أو التفكير من خلاله؟ لا بدَّ أن يطلب الإصلاحُ في مستوياتٍ؛ أوَّلها، وجوديٌّ محضٌ يرتبطُ بإدراكِ الفرد العربي لانتمائه التاريخي والهوياتي الممتدِّ، وتجاوزُ مجملِ الصراعات التي تُدخلهُ في نفق أيديولوجيٍّ ضيق؛ فالمتأمِّل في حال العرب اليومُ سيجدُ أنَّهم يملكون مقوماتِ الوحدة الوجودية والثقافية التي لم تكن متوفرةً لدى نظرائهم الأوروبيين حين فكّروا في إنشاء اتحادهم؛ وثانيها، معرفيّ تقاني، ألا ترى معي أنَّ النهضة الصناعية التي حدثت في مصر الحديثة، كان مردُّها إلى دافع معرفي وإقبال على تطوير التقنيات، وكذلك هو الشأن بالنسبة إلى اليابان، وغيرها من الدُّول الآسيوية، وعليه فلا وجود لإصلاح حقيقي من غير معرفة؛ وثالثها، استشرافيّ، يدفعُ بتلك المجتمعات الساعية إلى الإصلاح إلى وضع خطط استراتيجية تمكنها من توقع المستقبل والعمل على بنائه.

لا تقاس تجاربُ الأمم على بعضها البعض قياس مماثلة، ولا ينبغي أن يُتخذ من تاريخ الأمم معيارا لتحديد سبل التّقدم والتقهقر. غير أن للفكر زمنه الخاص الذي يحدّد من خلاله آفاق التجربة الإنسانية، ويؤطر به حركة الوعي في اتجاه التطوّر الذي تُلحظ نتائجه ماديًا ومعنوياً. فالحداثة على المنوال الغربي نتيجة لمجموعة من العوامل التي، تظافرت مع بعضها البعض، أو لنقل إن الحداثة هي اللحظة التي تم فيها الوعي (مع التّشديد على معنى الوعي) بما أنتجه العقل الغربي خلال مراحل نهضته، أي أنه لم يجر التحوّل نحو الحداثة إلا بإعلان، تحقق بضرورة استيعاب اللحظة النهضوية، المتصلة بإصلاح المنظومة الدينية، هذا الرهان الكبير مثل، لوحده، غايةً لدى فلاسفة الحداثة والأنوار بعدهم. لكن الحداثة على المنوال الغربي ليست معياراً، ولا ينبغي أن يؤخذ هذا الكلام حجة لدى التيارات المحافظة التي تهوي بالغرب إلى مستوى الشيطانية، وإنما غايتنا هنا موضوعية تفكر في الظاهرة كما هي، فإذا تبين بالبرهان أن طريق الحداثة لا يشق إلا بالإصلاح، فقد تبين أيضا أن الحداثة هي الطريق نحو التقدم؛ إذ الطريق هو نحو التقدم هو ما يحدد أشكال التفاوت بين المجتمعات. لكن هل نحنُ، اليوم، قادرون على فتح الورش الحداثي في أوطاننا العربية؟ وهل استنفذنا إمكانيات الإصلاح؟

قد يبدو الجواب عن السؤال أعلاه محبطاً؛ لأن الوقائع تخبرنا بأننا لم نستنفذ بعد ممكنات الإصلاح، أو لعلنا أحوج الناس إليه اليوم. لم يتحقّق المشروع الإصلاحيّ لأسباب ذاتية وأخرى موضوعيّة، وأما الذاتيّ فما اتصل بعدم قدرة العرب والمسلمين اليوم على مجابهة الإشكاليات الهوياتية الكبرى، وعدم قدرتهم على إعادة الاعتبار للمقومات الحضارية والروحية في ابتعاث وعي جديد يمكنهم من مواكبة واقع يتغير، أضف إلى ذلك أن ثمة غيابا للعامل المعياري والقيمي من معادلة الإصلاح. وأما الموضوعي فيتصل بطبيعة التحوّلات التي شهدتها الدول العربية والإسلامية في ظل الحربين العالميتين ومسائل الاستعمار وقضايا التحرّر، إلى درجة غاب معها أي انخراط في واقع الأمة وصارت كل دولة منشغلة بمشاكلها القطرية، وعضد ذلك كله استنبات الكيان الصهيوني في منطقة تعطلُ إمكانيات الوحدة. تلك عوامل ساهمت بشكل مباشر، أو غير مباشر، في تحديد معالم الإصلاح والمشروع النهضوي، ولم يعد ممكنا التفكير في تطويره، بل أمسينا، والحال تلك، أصحاب سياسات الغالب عليها ردود الأفعال، وليست مشاريع ذات نفس إصلاحي يخترق العقود، وعابر للأوطان.

كان الإصلاحُ، وما يزال، مطلباً رئيساً، منذ أواخر القرن الثامن عشر، ولكن توقَّفت عجلتهُ – في العالم العربي – نتاجاً لمتغيرات سياسية عاشتها المنطقة، ولا تزال، لكن ألا يزال بإمكان العرب اليوم استنهاض الهمم من أجل خوض غمار التجربة الإصلاحية؟ هل من الممكن التفكير في أفق جديد للتجربة السياسية؟ هل مطلب الدَّولة الحديثة يمكن استدماجه ضمن منظور الإصلاح؟ كيف يمكن أن يكون الإصلاح مقدّمة لنهضة حقيقية في الوطن العربي؟ هل بوسع الإصلاح أن يكون ممهداً لرؤية وحدويَّةٍ قوامها التغيير نحو الأفضل؟

تلك الأسئلة هي بمثابة إحراجات تضعُ نفسها أمام، المواطن العربي، بوصفه إنساناً له تاريخٌ حافل بالإنجازات، وله ما يؤهله لكي ينهض في وجه التحدِّيات الدّاخلية، والخارجية.

***

زكاري محمد

 

جعفر نجم نصرلا يمكن أن تستقيم العبادة من دون معرفة لدى العابد ازاء معبوده، فالاديان تأسست على العقائد ومعانيها ودلالاتها ثم جاءت الشعائر أو الطقوس بعد ذلك، فمعرفة الحق سبحانه هي ما يبتنى عليها جوهر الاسلام برمته، ولهذا قال أمير المؤمنين علي بن ابي طالب في خطبة محورية له: (أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الاخلاص له...)، وفي السياق ذاته يرد الحديث القدسي: كنتُ كنزاً مخفياً لم أعرف فأحببتُ ان اعرف فخلقت الخلق فتعرفتُ إليهم فعرفوني).

فالمعرفة أصل العبادة، ولا يمكن أن تصح العبادة وتدرك معانيها وفلسفتها الخاصة بكل ركن من أركانها من دون مقدمات وأسس تقوم عليها تمنحها التفسير والمغزى أو المعنى أو الغاية، فضلاً عن دقة التأدية الباطنية والروحية قبل الاداء الجسدي.

والأجيال الشبابية هي بين امرين في سبيل تحصيل هذه المعرفة الدينية المعمقة، فبين جهد ذاتي وسعي خاص لمعرفة ذلك، وهذا الأمر مما يؤسف له محدود للغاية جداً، اما الامر الآخر هو عبر وجود مرتكز مؤسسي يؤسس لخطاب معرفي/ ديني، وبذلك يسهم في اعداد وعي ديني خاص.

ولقد كانت هنالك تجربة مهمة وثرية للغاية قامت بالأمر الثاني في أحلك الظروف وأشدها آنذاك، وهي تجربة حسينية الإرشاد التي تم انشائها في مدينة (طهران) في أواخر خريف 1963م، والتي أسست بدعم مالي من احد التجار الكبار (محمد همايون) وبالتعاون مع المفكر الإسلامي البارز المرحوم الشيخ مرتضى مطهري، وهي جاءت بعد تطور جهود معرفية لشخصيات اكاديمية وحوزوية أرادت تقديم الإسلام بنحوٍ عصري جديد عبر المحاضرات والندوات والمباحثات الفكرية المتقدمة.

وهي خلاصة نهضة معرفية جديدة انطلقت بداية عام 1960 عبر انشاء (مركز نشر الحقائق) في مدينة مشهد، و(جمعية المحاضرات الشهرية لتبيان الطريق الصحيحة للدين) وكانت بدعم من متبرعين من رجال البازار الاثرياء.4090 حسينية ارشاد

كانت حسينية الإرشاد تضم شخصيات فكرية مرموقة أمثال (أبو الفضل موسوي الزنجاني، ومحمود الطالقاني، ومحمد تقي جعفري، ومحمد البهشتي) والذين تحالفوا مع مثقفين اسلاميين ذوي تعليم اكاديمي عال، إذ سعوا لتقديم نسخة تأويلية جديدة للإسلام ازاء النسخة الكلاسيكية السائدة آنذاك، بعبارة أدق: كان مرتضى مطهري يواجه بعض الشخصيات الحوزوية التقليدية التي لم تكن تواجه التحديات الفكرية والاجتماعية التي عصفت بالعالم الاسلامي بعد تمدد الليبرالية المتوحشة، والمد الالحادي الجارف وغيرها من التحديات المتعددة.

نجحت حسينية الإرشاد بكسب الجيل الشبابي الذي يحمل تصورات خاطئة وتقليدية عن الاسلام وعن المباحث الدينية بوجه عام، واستطاعت ان تضم شخصيات معرفية لكي تحاضر على منصتها، وكان في طليعتهم آنذاك علي شريعتي الذي استطاع تقديم سلسلة محاضرات دينية مهمة.

وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي واجهت حسينية الإرشاد من جهة مراقبة جهاز السافاك ابان عصر الشاه، فضلاً عن الاختلافات الادارية الداخلية، وما أثارته محاضرات علي شريعتي من خطاب معرفي جديد ازداد حوله سوء الفهم واللغط ، إلا ان حسينية الإرشاد ظلت إحدى المصادر المعرفية الدينية التنويرية آنذاك، والتي استطاعت تقديم الاسلام بلون عصري جديد يواجه كافة التحديات الاجتماعية والفكرية.4091 حسينية ارشاد

السؤال الذي يطرح الآن: هل يمكن استدعاء وإحياء هذه التجربة في العراق راهناً؟ وما هي السبل في تحقيق ذلك؟ ان الاجابة عن هذين السؤالين صعبة ومركبة للغاية، ولكن نحاول ان نقدم تصوراً أولياً عن ذلك:

أولاً: إن تحول المساجد والحسينيات إلى منصات معرفية ممكن عبر مبادرة الحوزة لذلك، بشرط منحها الاستقلالية وفتح قنوات تواصل مع الجامعات لأختيار الانسب والاكفأ لهذه المهمة الصعبة.

ثانياً: إن الاجيال الشبابية في حالة بحث عن لون معرفي عصري للإسلام، وان الخطابات التقليدية لم تعد تنسجم مع تحولات الذهنية، فاللغة الوعظية لم تعد نافعة أبداً بالنسبة له، ويريد لغة التفسير لما يجري على المستوى الاجتماعي والفكري والاخلاقي، وهذا لا يمكن ان يقدمه الا خطاب معرفي عصري جديد يعتمد الموجهات الفكرية المنهجية العصرية من جهة، والموجهات النصية (القدسية) من جهة أخرى عبر استدماجها بنحو عقلي وموضوعي.

ثالثاً: إن الموارد المالية التي يقدمها التجار العراقيين في المناسبات الدينية ولتأدية الحقوق الشرعية، ممكن أن تصرف في سبيل دعم هكذا أنموذج معرفي جديد، وهذا الأمر لا يتم من دون توجيهات حوزوية مباشرة.

رابعاً: إن مراكز الابحاث والدراسات الحوزوية هي نخبوية للغاية ولا تصل إلى الجيل الشبابية ابداً بنحو ميسر من جهة خطابها ومادتها العلمية، أما المراكز العلمية التابعة للاحزاب فهي مؤدلجة ومصلحية ولا غاية لها سوى تلميع قادتها وكسب الاتباع ولا هم معرفي حقيقي لها أبداً وهي مراكز لذر الرماد في العيون لأجل ايصال فكرة مؤداها: نحن مع المسيرة المعرفية العالمية ولدينا منطقنا العلمي الرصين كذلك!!؟.

اعتقد ان المرحلة الراهنة مرحلة حساسة وخطيرة على مستويات متعددة وهذا الأمر تجلى في فتن دينية وانحرافات اخلاقية وفوضى سلوكية وحتى معرفية لدى عددا كبيرا من الشباب، ومن ثم فأن استدعاء تجربة حسينية الإرشاد مسألة مهمة. صحيح لا يوجد تاجر بعقلية محمد همايون الذي تبرع بأموال طائلة لشراء قطع أرض وبناء الحسينية واستمرارية الدعم والإدارة، وصحيح لا يوجد لدينا أمثال شخصية المرحوم مرتضى مطهري أو المرحوم علي شريعتي، وبالتأكيد ان شبابنا ليس بمستوى حماس ورغبة الجيل الذي التف حول خطابات حسينية الإرشاد، ولكن إلا يمكن ان نصنع هكذا نماذج؟ أليس الأمر منوط على تجسير العلاقة بين الجامعة والحوزة والمجتمع؟ أليس الامر يحتاج إلى خطابا معرفيا جديدا لدى الوعاظ وخطباء المنابر؟ وذلك لأن الاسلام ليس هو تجربة دينية مرت في حركة التاريخ وانتهت كما أفهم بل هو حركة مستمرة-متدفقة-ومتجددة ومن ثمّ فأن الامر يتطلب تجديدا للقوالب المعرفية لثوابت الاسلام، واقصد رؤية تأويلية عصرية ..وهذا الامر مرتكز على تجديد الخطاب.

***

ا. د. جعفر نجم نصر

 

يعدّ الدين وتمظهراته من أهم العناصر والمقومات التي بقيت حاضرة من العصور القديمة ولا زالت لابثة في هذا العصر المتدفق بالحداثة والسرعة. فكل شيء يكاد اليوم أن يكون جديدًا، إِلَّا الدين الذي بقي ممسكًا بروابط الاتصال في المجتمع ومحدداته، إذ لا زالت تأثيراته حاسمة في قلوب الناس وقناعتهم الإيمانية، ولا يطوق هذا الأمر بالتجربة الإسلاميَّة ومجتمعاتها. فكل المجتمعات لعب الدين فيها الدور الفاعل في صياغة نظم العقائد والقوانين وتبريرها. إِلَّا أنّ الإشكالية المعاصرة بدأت عندما اصطدمت الرؤية الدينيَّة- التي تشكلت بتجارب تاريخيّة- مع عناصر من الحداثة لا يمكن اجتنابها.

والتي عُبر عنها بصدمة الحداثة التي تعدّ إحدى لحظات الفكر الإنساني التأسيسي، واللحظة هنا بمعناها الفلسفي الهيغلي، أي المرحلة الفاصلة والأساسية، وليست العابرة.

وقد بلورت هذه اللحظة معالجات تراوحت بين القطيعة مع هذا الطرف أو ذاك، أو تأويلات تارة للرؤية الدينيَّة، وتارة لعناصر الحداثة.

وعلى حد تعبير " وايد هيت" الفيلسوف الإنكليزي فإن العالم الجديد قد مثل كارثة بالنسبة إلى المتدينين والعلماء، ولكنه في ذات الوقت وفر فرصة كبيرة لمزيد من التمعن في طروحات كل منهما وإعادة النظر في مقولاتهما.

نعم فهو فائدة من جهة اختبار قدرة التراث الديني في حل المشاكل وتحريك عجلة الإيمان والتنمية ودفع الوجود البشري نحو الخيار الأفضل. وكارثة من جهة أخرى وذلك عندما زحزحت الحداثة واشتغلت على اسقط عدد من المقولات الإيمانية بل ودعت لمسح الطاولة، والتحرر من أوهام المعابد. وهو ما دفع البعض- ولا سيَّما في أوروبا ونزاعها مع المسيحية وتحت نشوة الانتصارات المعرفية المتتالية ضد الرؤية الدينيَّة الكنسية- إلى الظن بأنهم قد حسموا النزاع  وان تجريد الغيبي الميتافيزيقي من أذهان البشر وعقولهم أصبح هينًا. غير ان للحداثة سلبيات ومخالب تحت كفوف من حرير وفي شتى المجالات، والتي لعبت دورها في عرقلة هذا المشروع. وهي كثيرة بعضها يتعلق بأصالة الوجود الدينيّ في أعماق الإنسان واستحالة الالتفاف عليه، وبعضها يتعلق بمعالجات تركت تداعياتها في التشكل البشري، فمثلًا المبادئ الدينية التقليدية المتعلقة بالموت والحياة ، والجنس، والنسل، والزواج، والحرية الجنسية، ومكانة المرأة في المجتمع وو، قد أصبحت مُنتهكة، أو ملغاة تمامًا من قبل التحديدات البيولوجية الجديدة (1).

ولهذا دعا المفكر الفرنسي مارسيل غوشيه إلى ضرورة تنشيط مصطلح فيبر الشهير:" خيبة العالم" بمعنى أن العالم الأوربي قد أصبح خاويًا أو خائبًا بعد انحسار التقديس عنه، أي بعد انحسار المسيحية وصعود الوضعية والعلمانية. فالشخص الدينيّ الذي تربى منغمسًا في أحضان العاطفة الدينية أصبح بعد الثورة الحديثة مواطنًا مستقلًا محميًا من قبل القانون. وهذه نقلة نوعية كبرى. وأصبح بمقدوره أن يوجه أعماله باتجاه خدمة مصالحه الشخصية فقط دون التفكير بأي شيء يتعالى عليه أو يتجاوزه. بل وأصبح قادرًا على التخلي عن جميع تضامناته العائلية. ولهذا تجد الدراسات والمراكز الحديثة صعوبة في بلورة أخلاق جديدة متلائمة مع المجتمعات الحديثة وحاجاتها ومتطلباتها. نعم لم تنتهي مدة من الزمان في أوربا حتى تبين لها أن القطيعة التامة مع التراث الدينيّ ومسح كل شيء مقالة نرجسية ولا مقوم علمي لها.

ومن إفرازات الحداثة التي لا تقل سلبيتها عن القطيعة التامة، هو ما عاشته الشعوب العربية- الإسلامية وهي ظاهرة فرض الحداثة وتصديرها بعناوين وسبل إكراهية لتحقيق أغراض سياسية واقتصادية وو، وقد ساهمت بشكل فج في توليد خط مضاد أصولي بدءًا من الإخوان المسلمين وانتهاء بالحركات الأكثر هيجانًا وعنفًا وتكفيرًا كالقاعدة وأخواتها، كما في باكستان ومصر والجزائر والعراق وو. والتي عبر عنها بتعسف برنارد لويس عندما وسمها بـ (عودة الإسلام). وكأن المعبر عن الإسلام- بنزعاته الروحية والإنسانية- هذه الحركات المسكونة في العنف والقتل الجوال.

أما ثمار الحداثة الفكرية وخدماتها في وجهها الآخر المحدث في حقل التراثيات الدينية وتغذية الإيمان فهي غير قليلة، إذ تسعى إلى تكشيف المناطق المستبعدة من التفكير أو "المستحيل التفكير فيه"، أو "اللا مفكر فيه" بتعبير محمد أركون. لتعمل على سد بعض الثغرات في التراث الديني والكشف عن بعض الحلقات الضائعة فيه، وغربلته وتجديده، لينعكس ذلك على تجديد الإيمان وتوسعته، من دون التنكر للرمزية الدينية التي لا تزال تعيش عليها التشكيلات البشري للمجتمعات سواء كانت هذه الرمزية جيدة أم سيئة، الأهم أن توجه الدراسات والبحوث إلى المعقولية الانثروبولوجية من الرمزية الدينية لنمسك بالجانب المتنور من التدين.

ومن هنا يأتي السؤال: هل لنا أن نلتزم بأي فهم للدين وتراثه في هذا العالم المتسارع الذي يتجه بنا إلى ما هو أحدث وأفضل من مناهج التفكير والحياة ؟ الجواب العلمي سيكون بالنفي المطلق، لأن الإنسان المعاصر لا يمكن له أن يتلقى الدين على غرار ما كان يتلقاه الإنسان القديم ويفهمه. وإذا لم تسعفه القراءة التبجيلية الوعظية التقليدية للدين فأمامه طريقان لا ثالث لهما:

الأول : أن يتخلى عن الدين نهائيًا، وبالتالي يخسر الخصائص والمزايا الايجابية التي يتوفر عليها الدين على صعيد الفرد (وهو المقدار المتيقن). فتخلي الإنسان عن الدين يغلبه على الأقل شعور بالفراغ الروحي والقلق والتوتر.

الثانية: أن يقبل الدين بهيئة جديدة وفهم جديد قادر على الصمود والاستجابة للمعطيات الحديثة. نعم الفهم التقليدي كانت له في حينه معطيات إيجابية وحسنة، ولكنه اليوم غير جدير بالانحياز له. لعدم توفر المصلحة والحقانية فيه (2).

ومن أبرز شروط الفهم الجديد، أو التحديث الجديد، أو الإيمان الجديد الذي يراد له أن يبقى حيًا وأن يستمر في الإشعاع هو في قدرته على نقد التراث الديني وزحزحته وتفكيكه بقوة وصرامة للخروج منه باضاءات إنسانية وروحية بعيدًا عن الأوهام والتخيلات.

والنقد- باشتراطاته العلمية الصارمة- وهاجس الإبداع هما الفضاء المناسب لولادة أفكار مدهشة وفائقة ومختلفة عن السائد. وبغير هذا الفضاء لا يمكن إجراء تعقيلات منظومية لقوانين الفهم الدينيّ وتحديثها.

أما الكتابات التبجيلية والوعظية الرائجة في المكتبات والجامعات وحلقات التدريس والمجالس الدوغمائية قد أغلقت كل ما كان مفتوحًا ومنفتحًا فخنقت هذا الفضاء وضيقته، وهو ما انعكس على سرعة التحديث الإيماني وعمقه وحضوره.

المعادلة كالآتي: نقد + هاجس الإبداع= تحديثات واستطلاعات واكتشافات تستوعب المفارقات المعاصرة. وتقدم صورة واقعية وموضوعية عن الدين وتراثه، فهي تعطي الأولوية إلى التحليل والانفصال والاتصال والنظر وإعادة النظر وو.

مع بيان أن النقد المنبثق من داخل التراث الديني بعد الخروج عليه وإعادة النظر فيه، يكون إدراكه للحقائق أكبر وأعمق من النقد المسلط من الخارج أو الدخل. فهضم التراث بتاريخه وقوانينه وآثاره وفنونه وتحسهها تأتي كخطوة أولى، والخروج على هذا التراث وفحصه وتحقيبه وتفتيح التباساته وما علق به من محددات ليست من صميمه وجوهره تعد المرحلة الثانية، وهي أهم من الأولى.

***

أ. م. د. حيدر شوكان

جامعة بابل/ كلية العلوم الإسلامية

...................

(1) ينظر: محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، ترجمة: هاشم صالح، دار الطليعة- بيروت، 218.

(2) ينظر: مصطفى ملكيان، التدين العقلاني، مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد، 34- 35.

 

عبد الجبار الرفاعييتكلم المستبدّ كثيرًا بالسياسة والدولة والقانون والوطنية، ويشغل الناسَ بالشعارات الصاخبة، لكنه عمليًّا يعبثُ بالحياة السياسية فيهشّمها، ويبدّد مواردَ الوطن بالنهب والحروب العبثية، ويفكّك الأسسَ المركزية للدولة.

المستبدّ غيرُ واقعي، المستبدّ لا يعرف منطقَ التسويات، المستبدّ لا يلجأ للحوارِ والتفاوض إلا في حالةِ الهزيمة والسقوط في مأزقٍ قاتل، بعد أن يخسر كلَّ شيء لحظةَ انسداد كل آفاق الحل الدبلوماسي العملي للأزمة، كما حدث في خيمِة صفوان عند هزيمةِ صدام حسين في حرب الخليج الثانية، وتوقيعه صك الاستسلام، ورضوخِه للتنازل عن كلِّ شيء. تم توقيع وثيقة استسلام صدام حسين بعد تدمير العراق، بعد مغامرته الطائشة في احتلال الكويت وهزيمته الشنعاء أمام قوات التحالف في 3 مارس "آذار" 1991، في اجتماع خيمة صفوان بين ممثلي صدام حسين وقائد قوات التحالف الجنرال شوارتزكوف.

السياسي الذكي هو الواقعي الذي يمتلكُ حكمةً وبصيرةً تمكنّه من حلِّ أزماتِ ومشكلات بلده في محيطه الإقليمي وفي علاقاته الدولية بدبلوماسية هادئة، وتجفيفِ منابع الحرب وحماية السلام، وتوظيف طاقاتِ المواطنين وموارد الدولة في البناء والتنمية المستدامة.

السياسةُ في الاستبداد مهنةُ من لا مهنةَ له. أما العلماءُ والخبراءُ المختصون في الدولة، والنظم السياسية والمالية، والإدارة، والاقتصاد ومختلفِ العلوم والمعارف الحديثة ذات الصلة، فلا حضورَ لهم في بناءِ الدولة وإدارتها، وإن حضروا لا يمتلكون سلطةَ اتخاذِ قرار، ويظلّ دورُهم هامشيًا، يضعهم المستبدّ حيثما يشاء فيما يشبه الديكور لسلطته.

المستبدّ يستثمرُ التراثَ والهوياتِ العرقية والمعتقداتِ الدينية وكلَّ ما يرسّخ تسلَّطه بدهاء، فيثير فزعَ الجماعات والطوائف ويستعدي بعضَها ضدَّ البعض في الوطن الواحد، بإذكاءِ الضغائن والأحقادِ الراقدةِ في الذاكرة العتيقة، وتفجيرِها بصخبٍ دعائي يثير غرائزَ الثأر والانتقام، ويزجّ الطوائفَ والإثنياتِ في نزاعاتٍ لا تنتهي، يجيّش فيها الكلَّ في مواجهة الكلِّ.

قوةُ الدولة في عالَم اليوم تعكسها قدرتُها على: تحييدِ الأعداء، واكتساب الأصدقاء، والاستثمارِ في العلوم والمعارف والتكنولوجيات الجديدة والذكاء الصناعي والأمن السيبراني، واستيعابِ الخبراء المتخصّصين في مختلف العلوم والمعارف الحديثة وتوظيف خبراتهم في التنمية الشاملة، وصياغةِ وتنفيذ الخطط الاستراتيجية والبرامج التربوية والتعليمية والاقتصادية، وكلِّ ما تتطلبه عمليةُ التنمية.كما تعكسها قدرتُها على: تدبيرِ الاختلاف، وإدارةِ التعدّد، وحمايةِ التنوع، واعتمادِ المصالح المتنوعة في العلاقات الدولية، وحسمِ النزاعات المحلية والاقليمية بشكلٍ سلمي.

سرُّ التخلف في وطننا العراق يكمن في تواصل الاستبداد، وتمويهه في التعبير عن نفسه بأنماط وأقنعة ودرجات مختلفة، الاستبداد يضرب كلَّ مفاصل الحياة ويحدث شللًا في كلِّ المؤسسات العامة والخاصة، ويحدث اختلالاتٍ في حياة الفرد والعائلة، تتسبّب في خلق شخصية مأزومة. الاستبداد يتغلغلُ في النفس البشرية ويلبث قابعًا في أعماقها، ويترسب في البنية اللاشعورية للمجتمع، ويعيد إنتاجَ العلاقات وكلَّ شيء على وفق ما يرمي إليه، بنحوٍ يجعل الناسَ مستعدين للاستعباد، ومذعنين للاستبداد بشكلٍ طوعي حتى بعد موت المستبد.

الاستبدادُ يبرعُ في الترويضِ والتدجين ولا يكترثُ بالتربية. في التربيةِ يكون الكائنُ البشري فاعلًا، في الترويضِ يكون الكائنُ البشري منفعلًا. التربيةُ تبتني على مسلّمةٍ ترى كلَّ إنسانٍ نسخةً ذاتَ تميّزٍ وفرادة، تمتلكُ طاقةً جوانيةً ينبغي أن تنبعث، كي تتشكّلَ شخصيتُه المستقلة. الترويضُ يبتني على مسلّمةٍ ترى الناسَ أشياءَ تأخذ شكلَ القالبِ الذي تنسكب فيه، لذلك ينبغي أن يصير الكلُّ نسخةً واحدةً، تتماثل ملامحُها، تتشابه مواصفاتُها، تحاكي خصائصُها غيرَها.

الترويضُ عمليةُ تدجين تنقضُ فلسفةَ التربية وأهدافَها في بناءِ الإنسان وتأمينِ سلامته النفسية، وتكريسِ سكينته الروحية، وإحياءِ ضميره الأخلاقي، وتحطيمِ أغلال عقله وفك قيود تفكيره. تنشدُ التربيةُ إيقاظَ الطاقة الكامنة في روح وقلب وعقل هذا الكائن، فيما ينشدُ الترويضُ تنميطَ شخصيته وسكبَها على شكلِ قالبٍ متحجّر لا يتبدل.

تعمل السلطةُ في الاستبدادِ على أن تعتمد التربيةُ في العائلة والمدرسة والمجتمع التلقينَ والتدجين. يشلّ التلقينُ العقلَ ويعطِّلُ التفكيرَ، ويطفئ الروحَ ويميتُ الإيمانَ الحرّ. بالتلقينِ والتكرار تظهر الأوهامُ والخرافات والأكاذيب كأنها حقائق. الحقيقةُ هي ما يظهره التكرارُ على أنه حقيقة، وما يحسبه الذهنُ حقيقة، وإن لم تكن كذلك في الواقع. معظمُ الصراعات والحروب والمجازر البشرية سبّبتها أوهامٌ وأكاذيب وسيناريوهات ومعتقدات افتعلتها أذهانٌ محترفة.

لا تنشدُ التربيةُ والتعليمُ في الاستبدادِ تعليمَ التفكير، وترسيخَ مبادئ الحقِّ في الاختلاف، والحقِّ في الخطأ، والحقِّ في الاعتذار عن الخطأ، بل تنشدُ تكريسَ الطاعةِ العمياءِ والإذعانِ والرضوخِ والعبوديةِ الطوعية، عبر تنميطِ شخصية التلميذ، وإنتاجِ نسخٍ بشرية متماثلة، تفتقد ملامحَها الشخصية وبصمتَها الخاصة، فيتوالد الاستبدادُ بوصفه نتيجةً طبيعيةً لكلِّ ذلك.

تشدّد كلُّ برامج وتعليمات وقرارات المستبدّ على ترويضِ الكائن البشري وتدجينِه على التكيّفِ الاجتماعي بالإكراه، ويعتمد في ذلك أداتين: التلقينَ الرتيب المتشابه المُمِل حدّ الضجر، والتخويفَ والعقاب الأليم والبطش على أية مخالفة مهما كانت صغيرة، وأحيانًا يتمادى المستبدّ في ذلك فيحاسب ويعاقب حتى على ما يخمنه من نوايا مضمرة.

الأخلاقُ في الاستبدادِ استبداديةٌ، إنها أخلاقٌ يتوارى فيها الضميرُ الأخلاقي، بعد أن يخضعَ سلوكُ الإنسان لإكراهٍ يفرض عليه مواقفَ وسلوكًا مضادّا يحجب ما يخفيه من قناعات. يشيع في الاستبدادِ النفاقُ السلوكي، الظاهرُ في شخصية الإنسان يُكذِّب الباطن، والباطنُ في الشخصية يُكذِّب الظاهر. الاستبدادُ من أخبث خطايا السلطة، لأنه يفسد كلَّ شيء يستحوذ عليه، وهو بطبيعته لا يبقي شيئًا في حياة الفرد والمجتمع من دون أن يستحوذَ عليه.

تشيعُ في فضاءِ الاستبدادِ حياةٌ دينيةٌ مسجونةٌ بمعتقداتٍ ومفاهيمَ مغلقة، تتغلغل في الوعي واللاوعي الفردي والجمعي، وثقافةٌ دينيةٌ لا تعرف معانيَ الحرياتِ والحقوق. الإنسان الذي يعيش في نظامٍ مستبدّ يعيش قلِقًا خائفًا مذعورًا، وبدلًا من أن يكونَ الدينُ في حياته مُلهِمًا لطمأنينة القلب وسكينة الروح، ومصدرًا لإيقاظِ الضميِر الأخلاقي، يتحول الدينُ إلى مصدرٍ للتخويف والقهر والإذعان والتركيع والاكتئاب.

السياسةُ في الاستبدادِ إلغاءٌ للسياسة. السياسةُ فعلٌ مجتمعي، الاستبدادُ يختزل المجتمعَ كلَّه بفردٍ واحد، يحتكرُ كلَّ شيء بيده. يحيك المستبدّ نسيجًا متشابكًا متشعّبًا وعرًا مركبًا معقدًا للسلطة، يبدأ فيها كلُّ شيء منه وينتهي كلُّ شيء فيه، بل يختزل المستبدّ المجتمعَ كلَّه بشخصه، بنحوٍ يفضي فيه نحرُ المستبدّ إلى نحرِ المجتمع.

المستبدّ يحتكر الفضاء العام، يحتكر كلَّ شيء في شخصه، يختصر الدين والثقافة والقيم والسياسة وكلَّ شيء فيه. الاستبداد حكم الفرد، يختصر هذا الفرد كلَّ شيء في حياة الناس بتفكيره ومعتقداته ورؤيته للعالَم وثقافته وقراراته، لا تفكيرَ خارجَ تفكيره، لا معتقدَ خارجَ معتقداته، لا رؤيةَ خارجَ رؤيته للعالَم، لا ذوقَ خارجَ ذوقه، لا ثقافةَ خارجَ ثقافته، لا قرارَ خارجَ قراراته. للسلطة المستبدّة بنية هرمية خاصة، تنتج نمطَ علاقات تسلطية في العائلة والقبيلة والحزب والجماعة والمؤسسة مثلما تنتجه هي أيضًا.

يتحول الماضي في الاستبداد إلى ماضي المستبدّ، الحاضرُ حاضرُ المستبدّ، المستقبُل مستقبلُ المستبدّ، الأيامُ أيامُ المستبدّ، الفرحُ فرحُ المستبدّ، الحزنُ حزنُ المستبدّ، الثقافةُ ثقافةُ المستبدّ، الآدابُ آدابُ المستبدّ، الفنونُ فنونُ المستبدّ. في الاستبداد تسودُ الرتابةُ والتشابهُ والتكرار، يغدو الزمنُ تكراريًا، الحاضرُ فيه يستأنفُ أسوأَ ما في الماضي، المستقبلُ فيه يستأنفُ أسوأَ ما في الحاضر. يبدأ كلُّ شيء من حيث انتهى، ينتهي كلُّ شيء من حيث بدأ، البداياتُ تكرّر النهاياتِ، النهاياتُ تكرّر البداياتِ. في الاستبدادِ كلُّ شيء يتكرّر، وتتوقف حركةُ التطور، لأن قوانينَ التطور ينفيها الزمنُ التكراري. التكرارُ يبدّد الشغفَ في الحياة، وتندثر معه قدرةُ الكائن البشري على الخلق والإبداع. في الاستبدادِ يكون كلُّ شيء كفيلم يكرّر نفسَه آلافَ المرات، يتوقف الزمنُ الشخصي، ويمسي الإنسان كائنًا محنطًا.

السياسةُ فنُ إدارة التسويات، لا سياسةَ بلا تسويات، السياسي الواقعي يلتقط لحظةَ التسوية، الواقعيةُ السياسيةُ تعني البراعة في إدارة التسويات. منطقُ التسويات غائبٌ لدى المستبدّ، فهو إما أن يربحَ كلَّ شيء أو أن يخسرَ كلَّ شيء. غيابُ التسويات يعني غيابَ المضمون العقلاني للسياسة. السياسيُ الواقعي هو من يلتقط اللحظةَ المناسبةَ للتسوية. منطقُ التسويات غائبٌ لدى أغلب السياسيين في بلدنا، فهو إما أن يربحَ كلَّ شيء، أو أن يخسرَ كلَّ شيء.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

مجتمعاتنا وشعوبنا كبقية المجتمعات والشعوب، التي تبرز فيها ظواهر ومشكلات عديدة، وعلى المستوى الواقعي فإن جميع الأمم تعاني من ظواه ر سلبية تعيشها أو تعانيها، لأن هذا من طبع الأمور، وذلك لوجود إرادات كثيرة ومصالح متنوعة، وميولات وأهواء متباينة، كل هذا يفضي إلى وجود مشاكل وأزمات، وهذا ليس خاصا بمجتمع من المجتمعات.. وإنما هي حالة عامة وشاملة، تشمل جميع الأمم والمجتمعات، بصرف النظر عن الأيديولوجيا التي تحملها هذه المجتمعات والأمم.. 

فالمجتمعات الإنسانية، ليست مجتمعات من الملائكة بدون أهواء وغرائز، وإنما هي مجتمعات تتزاحم فيها الإرادات والمصالح، وبعض أطرافها بفعل غريزة حب الأنا والأنانية المفرطة، يلجأ إلى أساليب ملتوية لضمان مصالحه أو تحقيقها في الوجود الخارجي، مما يضر بشرائح اجتماعية أخرى..

والأيديولوجيا والمنظومات العقدية والأخلاقية، مهما كان تأثيرها على المجتمع وأفراده، إلا أن أقصى ما تقوم به، هو إدارة هذه الإرادات والمصالح على نحو تقل أو تتضاءل فيه المشاكل والأزمات، إلا أنه ليس بمقدورها إنهاء كل المشاكل والأزمات.. 

وإنما هي تضبط سلوك الإنسان، وتعمل على تهذيبه، وتعلي من شأن الاعتبارات الدينية والأخلاقية.. ولكن البشر بطبعهم يتفاوتون في مدى التزامهم بهذه الاعتبارات والمقتضيات الدينية والأخلاقية.. ونحن هنا لا نبرر لأحد عدم التزامه بحقوق الآخرين، وإنما نعمل على تفسير هذا السلوك الاجتماعي، دون إعطاء أحكام قيمة عليه.. لأننا نعتقد أن التفسير السليم والدقيق للظواهر الاجتماعية المختلفة، هو الذي يفضي إلى اتخاذ مواقف أو تبني آراء ورؤية صحيحة تجاه هذه الظواهر الاجتماعية.. وثمة مسافة من الضروري إدراكها بين التبرير والتفسير، فالأول يسعى بكل ترسانته النظرية والعقلية لتصحيح أي تصرف أو موقف يقوم به هذا الفرد أو تلك الشريحة أو الجماعة بدون أية صفة معيارية تحدد أو تنظم عملية صناعة الرأي أو اتخاذ الموقف..

أما التفسير فهو ينطلق من رؤية متكاملة، تستهدف ليس إدانة هذ االتصرف أو رفض هذا الموقف، وإنما تستهدف تفسير وتحليل هذا الرأي أو الموقف.. 

 فالتفسير يتجه إلى معرفة ما يجري، بينما التبرير يتجه إلى توفير غطاء ديني أو معرفي أو اجتماعي لما يجري..

لهذا فإننا تجاه ظواهرنا الاجتماعية والإنسانية، ليس أولويتنا تحديد موقف منها، وإنما هو البحث عن تفسير علمي ودقيق لها، حتى ولو كان هذا التفسير، لا ينسجم وميولاتنا النفسية والفكرية.. فقناعاتنا وأفكارنا، ينبغي أن لا تتحول إلى حجاب يحول دون فهم ما يجري من أحداث وتطورات وظواهر مجتمعية.. وانطلاقا من هذه الرؤية، نود الاقتراب من بناء تفسير مواقف بعض علماء الدين ورجاله تجاه الظواهر البشرية المختلفة التي تجري في مجتمعهم.. 

فالمجتمع الإنساني كما قلنا آنفا، مليء بالإرادات والتناقضات والمصالح، والمجتمع الإنساني هو أشبه ما يكون بالبحر والمحيط العميق، فلو نظرنا إلى سطحها نجده هادئا ويدفع نحو التأمل الهادئ، ولكن في جوفه ثمة صراعات متعددة بين الأسماك الكبيرة والصغيرة وما أشبه ذلك.. 

فمجتمعنا كالبحر فلو نظرنا إليه نظرة سطحية، نجده هادئا ورتيبا ،وكأنه يعيش ويسير وفق خط مستقيم لا يحيد عنه قيد أنملة.. ولكن حين التعمق في قضايا المجتمع المختلفةنجده كيفية المجتمعات الإنسانية، مليئا بالآراء والطموحات والإرادات المت باينة والمصالح المتناقضة والقوي يسعى بدون وجه حق وبالالتواء على القوانين والإجراءات المتبعة لتوسعة مصالحه، وإخضاع إرادة ومصالح غيره إلى إرادته ومصالحه.. ولكن المشكلة الحقيقية على هذا الصعيد، تبرز حينما تنبري بعض الشخصيات للتعبير عن رفضها للتحليل الاجتماعي لهذا الواقع، بدعوى أن مجتمعنا ليس كبقية المجتمعات، وأن خصوصيتنا التاريخية والدينية، ترفض هذه النزعة ف التحليل، كما أنها شكل من أشكال تشويه هذا المجتمع سواء في أخلاقه أو مدى التزامه بالضوابط الشرعية والأخلاقية والقانونية.. ومن جراء هذه المقولات والتبريرات، لا ينمو لدينا حقل الدراسات الاجتماعية، وذلك لأن الخطاب السائد على هذا الصعيد هو ان مجتمعنا نموذج تاريخي، لا يمكن أن يقع في هذه الأخطاء التي تقع فيها المجتمعات الإنسانية قاطبة.. 

وثمة أطراف عديدة، تشترك في صناعة هذا الخطاب التبريري، الذي يريد اقناعنا بطريقة أو أخرى، أن ما يجري في بقية المجتمعات الإنسانية من تحولات وتطورات وتدافعات، لا يمكن أن تجري في مجتمعنا بدعوى خصوصية هذا المجتمع الدينية والتاريخية والاجتماعية.. وبعيدا عن الدوافع التي تدفع جميغ تلك الاطراف، للإلتزام المطلق بمقتضى الغيرية المطلقة بين مجتمعنا وبقية المجتمعات، ما نود أن نقوله: كيف نفسر موقف هذه الأطراف، مع تنوع مواقعهم الإجتماعية والاقتصادية، وتعدد ميولاتها الفكرية.. حي التأمل  في هذه الظاهرة نجد وبشكل مكثف، أن عقدة الحراسة، هي التي تجمع بي جميع هذه الأطراف، وهي أي عقدة الحراسة، هي التي تدفع الجميع إلى تبني هذا الرأي والموقف.. فشعور الإنسان بأنه المسئول عن حراسة هذا الشيء أو تلك القضية، هو الذي يدفعه إلى حراسة هذا الشيء، دون الالتفات إلى طبيعة التطورات والتحولات والعناصر الإيجابية فيها.. ويبدو أن الرافضي لمشروع التجديد والتطوير في مجتمعاتهم، يعود  أحد أسباب رفضهم إلى شعورهم بدور الحراسة، وأن هذا التجديد والتطوير يهدد ما أوكلوا أنفسهم بحراسته.. لذلك لا يمكن إطلاق فعل الإبداع والتجديد ف أي بيئة اجتماعية، إلا بإنهاء عقدة الحراسة لدى مختلف شرائح المجتمع.. فالمجتمع لا يبحث عن حراس له، بل يبحث عن شركاء متفاعلون مع قضاياه المختلفة.. 

وعلى المستوى الديني فإن عقدة الحراسة، تساهم مساهمة كبرى في زيادة الخوف والتوجس من أي نزعة تجديدية أو مشروع إصلاحي، كما أنها هي التي تدفع البعض لتبني مواقف عدائية ومتطرفة من الآخر المختلف والمغاير.. 

لذلك فإننا نعتقد أن هذه العقدة، تتجمع فيها الكثير من الخيوط الرافضة لحركة التطور والتقدم، والكابحة لفعل الإصلاح والتجديد في المجتمع.. 

فالتحرر من عقدة الحراسة هو السبيل، لإطلاق طاقة المجتمع بكل فئاته وشرائحه صوب الإبداع والتجديد والقبض الحقيقي على أسباب التقدم في مختلف مجالات الحياة..

***

أ‌. محمد محفوظ

المثقف العراقي (أنموذجا)

لعل الذي تستهويه منهجية المقارنة والمضاهاة، وهو يتابع معطيات الحراك الثقافي والنشاط الفكري، لدى كل من بلدان المشرق العربي ونظيرها بلدان المغرب العربي، لابد له أن يلاحظ وجود ظاهرة لا تفتأ تتعمق على مستوى بنى الوعي وتترسخ على صعيد انساق الثقافة، تنبئ بوقوع تفاوت في تمثل الأفكار الجديدة، وحصول اختلاف في استيعاب المنهجيات المستحدثة. ليس فقط فيما يتعلق بالتوجهات الثقافية العامة للنخب الفاعلة على جبهتي الفالق الجغرافي، لاسيما لجهة التعاطي مع الموضوعات المرشحة للبحث والدراسة فحسب، بل وفيما يتصل بمستويات التطور المعرفي لتلك النخب من جهة، وتنوع مقاربات خيارها المنهجي من جهة أخرى أيضا". ففيما تبقى المواضيع ذات المنزع السياسي / الإيديولوجي، تتصدر اهتمامات المثقفين المشرقيين بشكل عام، فان المواضيع ذات الطابع الثقافي / السوسيولوجي، تحتل الصدارة في أجندة نظرائهم من المثقفين المغاربيين على نحو خاص. وذلك لأسباب ذاتية ودواعي موضوعية، نعتقد أنها تشكل – بتضافرها وتفاعلها – العوامل الأساسية في تبلور تلك الاتجاهات والمعطيات، المؤثرة في أشكال توزعها وأنماط انتشارها. ومن ثم تعطينا المسوغات الواقعية والمبررات العقلانية، التي من خلالها ننسب للمثقف المغاربي أفضلية معرفية على نظيره المشرقي، الذي لم يبرح يعاني لوثة سحر الايديولوجيا وخطابها السجالي، سواء بنسختها القوموية الفجة، أو بطبعتها الماركسوية الكاريكاتورية، أو بواجهتها الاسلاموية المؤسطرة. ولعل هذه الوضعية الإشكالية هي ما سوّغ للباحث العربي (عاطف عصيبات) نفي إمكانية وجود (انتلجنسيا) عربية بالقول (ليست هناك انتلجنسيا في العالم العربي، على الرغم من وجود وفرة من المثقفين العرب. وأقصد بالانتلجنسيا هنا تلك الفئة الاجتماعية المنظمة، التي تقوم بين أفرادها نسيج فكري وثقافي يربط فيما بينهم، ويساعدهم على صياغة رؤية شمولية لواقع مجتمعهم وطموحاته. فبدلا"من وجود انتلجنسيا عربية، كمجموعة مثقفة اجتماعية منظمة ومتجددة في التاريخ والثقافة العربية، توجد في حقيقة الأمر فرديات مثقفة).

الظاهرة الكولونيالية والانتلجنسيا الوطنية 

يكاد أغلب الكتاب والباحثين من العرب والغرب، يجمعون على حقيقة تاريخية مفادها؛ إن مجتمعات العالم العربي بشقيه المشرقي والمغربي – ناهيك بالطبع عن بقية مجتمعات العالم الثالث – كانت في غالبيتها المطلقة، قبل أن تتعرض لصدمات الظاهرة الكولونيالية المتعددة، وتعاني اختراقات أفانينها المتنوعة، مجتمعات راكدة تاريخيا"ومتأخرة حضاريا"ومتخلفة اجتماعيا". لاسيما وان رواسب قرون العثمنة ومخلفات قيمها التقليدية، كانت قد خلعت عليها نوعا"من التجانس الاستاتيكي، لا في مجال علاقاتها وعاداتها وسلوكياتها فحسب، بل وفي مجال ذهنياتها وفكرياتها وذاكراتها أيضا"، وبالتالي فان قاعها السوسيولوجي (= البنية التحتية) أضحى  نوعما واحدا"،  وان إيقاعها الابستمولوجي (= البنية الفوقية) بات إلى حدّ ما متشابها". لاسيما وان (العرب – كما لاحظ رائد الفكر القومي العروبي (ساطع الحصري) – اعتبروا حكم السلاطين العثمانيين استمرارا"مباشرا"للخلافة الإسلامية، وإنهم لم يشعروا بأنهم شعب مستعمر تابع لسلطة أجنبية). بحيث لم تأخذ إجراءات الهيمنة الاستعمارية في حينها، إلاّ القليل من الوقت والشحيح من الجهد، حتى تغدو السيطرة تبعا"لذلك شاملة أفقيا"وتامة عموديا"، بعد أن كانت تلك الشعوب والمجتمعات المستهدفة، لا تزال في طور الذهول جراء صدمة القوة العسكرية الساحقة، وفي مرحلة الانبهار بالتفوق التكنولوجي الكاسح. بيد انه وان تشابهت تجارب مجتمعات المشرق والمغرب العربيين، من حيث وقوعهما ضمن دائرة نفوذ القوى العظمى في القرنين التاسع عشر والعشرين المنصرمين، فضلا"عن تساوي حظوظهما لجهة الخضوع لهيمنة الظاهرة الكولونيالية، وما تمخض عنها من تبعات سياسية بعيدة المدى وتداعيات اجتماعية عميقة الأثر. فان مظاهر الاختلاف ومعالم التباين بينهما، سرعان ما تطفو على السطح وتغدو من سماتها الغالبة، حين نعتزم التوغل في تدقيق التفاصيل والتعمق بفحص المعطيات، المترتبة عن تلك الظاهرة في كلا الشطرين. ولعل من أبرز تلك الاختلافات والتباينات، الطبيعة النوعية للإستراتيجية السياسية الفرنسية، مقارنة بنظيرها الإستراتيجية السياسية البريطانية، من حيث نمط الثقافة الفرانكفونية التي جسدتها الأولى في بلدان المغرب العربي، وما يقابلها من نمط الثقافة الانكلوسكسونية التي بلورتها الثانية في بلدان المشرق العربي. ففي الوقت الذي مارست فيه الكولونيالية البريطانية، وهي تجتاح مناطق حصتها في مجتمعات الشرق، الغافية على أمجاد ماضيها المعفر بالأساطير؛ أنشطة تفكيك البنى السوسيولوجية المتكلسة، وتفتيت المكونات الانثروبولوجية المتحجرة، وتشطير المنظومات السيكولوجية المتصلبة، عبر سياسات (فرق تسد) سيئة الصيت والذكر، للحيلولة دون أن تفيق هذه المجتمعات من سباتها، وتستطيع التغلب على كبوتها، ويكون بمقدورها التخلص من خرافاتها. هذا من جهة، وعمدت، من جهة أخرى، إلى  إبقاء مظاهر التخلف الاجتماعي قائمة، وترك معالم التأخر الحضاري سائدة، والحفاظ على بؤر الجهل الثقافي رائجة. باستثناء ما كانت الحاجة اللوجستية تضطرها للقيام بتدريب البعض هنا وتعليم البعض الآخر هناك، ضمن حدود مرسومة وضوابط مدروسة، بحيث يتسنى  لها  تحقيق أكبر عائد مصلحي ومردود اقتصادي بأقل كلفة سياسية وعسكرية ممكنة، كما وبلوغ أعلى مستوى هيمنة إستراتيجية وجيوبولتيكية بأدنى قياس زمني متاح. ولهذا فقد استخلص أحد الباحثين في شؤون الشرق الأوسط  (دريير)، وهو يتحدث عن التجربة المصرية في هذا المضمار، ملاحظة مفادها إن (المستعمرون الانجليز وحفائهم الطبقيون من الملاك العقاريين والرأسماليين المصريين، لم يعتنوا بتطوير التعليم العام. كان جزء كبير من الاعتمادات المخصصة من ميزانية الدولة، يصرف على إعالة الجيش والبوليس والمحاكم وما شابهها من مصروفات). ولعل هذه السياسة البرغماتية قصيرة النظر وبعيدة الأثر، قد ساهمت باكرا"لا في إحياء النزعات القبلية / العشائرية، وترسيخ الولاءات الدينية / الطائفية، وتكريس الانتماءات المناطقية / الجهوية فحسب، وإنما لعبت دورا"مسرّعا"في تشكيل الأحزاب الطفيلية، ونمو الإيديولوجيات الخلاصية، وانبعاث التطلعات العسكرية. مما حدا بتلك القبائل والفصائل والطوائف والأقوام كلا"على شاكلته، لاستثمار رصيد نخبها السياسية والثقافية والفكرية؛ لا من أجل قمع تلك النزعات البدائية وردع تلك التطلعات التعصبية، وبالتالي تذليل الخلافات وتعقيل الاختلافات،  التي كانت – ولا زالت – تعزل هذه الجماعة عن تلك، وتنأى بهذا الطرف عن ذاك. وإنما للاستعانة بها لتفعيل عواقب الأولى وتهويل مثالب الثانية، ومن ثم زيادة التصدع في الكيان الاجتماعي، ومضاعفة التشرذم في المدماك الثقافي، وتعميق الهوة في السستام النفسي، وتأبيد القطيعة في المتخيل الجمعي. من هنا فان بواكير نشأة المثقف المشرقي، كانت مصممة بالأساس لأغراض الحجاج الإيديولوجي، بدلا"من الاحتجاج المعرفي. ومنذورة بالأصل لغايات التجهيل السياسي، بدلا"من التحليل السوسيولوجي. ومجيرة بالفطرة لمصالح الأقوام والقبائل والطوائف، بدلا"من مصالح الوطن الواحد والتاريخ المشترك والثقافة الجامعة. ولعل العالم الانثروبولوجي (جيرار ليكلرك)، لا يجانب الصواب حين أشار في بحثه عن (سوسيولوجيا المثقفين)، إلى أن:  (ثمة خصوصية لا يمكن التنازع فيها، أنها خصوصية المثقفين الأوروبيين (الغربيين) مقارنة بخصوصية المثقفين (المشرقيين)، أو مثقفي العالم الثالث كما كان يقال سنوات 1960 – 1970، آسيا، أفريقيا، والإسلام. إذ كانت ولادتهم نتيجة تطور بطئ ومسار علمنة محلية داخل أوروبا. أما ولادة المثقفين غير الغربيين،  فقد حصلت نتيجة القطيعة المفاجئة مع الثقافة المحلية (التقليدية)، ونتيجة علمنة آتية من الخارج، وغالبا"ما أخذت طابعا"صداميا"). هذا في حين سعت الكولونيالية الفرنسية وبشكل محموم، ليس فقط إلى احتلال البلدان المغاربية احتلالا"عسكريا"مباشرا"، بقصد استغلال مواقعها الجيوبولتيكية ونهب ثرواتها الطبيعية واستثمار طاقاتها الديموغرافية فحسب – كما ديدن القوى الاستعمارية في كل زمان ومكان – وإنما عمدت، علاوة على ذلك، إلى إلحاقها ثقافيا"ودمجها لغويا"، عبر نسخ ثقافاتها المحلية، ومسخ شخصياتها الوطنية، وإقصاء لغاتها القومية، وطمس هوياتها الدينية، للحد الذي اعتبرتها – بالنسبة للحكومة الفرنسية وقتذاك - بمثابة جزء من مقومات سيادتها الوطنية، وعنصر من مكونات مجالها الحيوي. ولهذا فقد جعلت من اللغة الفرنسية (لغة المحتل)، اللغة الرسمية في التعامل السياسي والتواصل الاجتماعي، فضلا"عن اتخاذها معيارا"إلزاميا"وشرطا"إجباريا"، لمن كان يرغب في اعتلاء سلم الترقي الوظيفي والتقدم العلمي. كما حاولت توطين قيم الثقافة الفرانكفونية الموسومة بالطابع اللائيكي الحاد، والتي لم تلبث أن حفرت لها أخاديد في بنية الوعي الجمعي الفضفاضة، لاسيما بعد أن وجدت لها صدى لدى معظم قادة الحركات الوطنية، والذي تمثل بسعيها لامتلاك ناصية تلك اللغة والعوم وسط تياراتها، وذلك من خلال هضم الطروحات التنويرية التي تنطوي عليها، واستيعاب الدلالات العقلانية التي تحتكم إليها، لكي يصار إلى استخدامها في مقارعة سلطات الاحتلال بسلاحها ذاته، جنبا"إلى جنب مع بقية الوسائل النضالية الأخرى. وهو الأمر الذي أوجد – لاحقا"- رهطا"من المثقفين المغاربيين، الذين سيشايعون مذاك تيارات الثقافة الفرنسية، ويستمرأوا التتلمذ على أفكار فلاسفتها الكبار، ويتشربوا بصرعاتها ما قبل وما بعد الحداثية، ويستأنسوا بزخم منهجياتها البنيوية والألسنية والتفكيكية والتأويلية وسواها. ولذلك فقد لاحظ المؤرخ العربي الدكتور (ألبرت حوراني) من خلال كتابه (تاريخ الشعوب العربية)، إن هذا الأمر أفضى إلى (تطور جيل جديد تعوّد على القراءة، كثير منهم كانوا يقرأون بلغات أجنبية. وفي حاولي منتصف القرن التاسع عشر كانت اللغة الفرنسية قد حلت محل الايطالية كلغة مشتركة للتجارة في المدن. الإلمام بالانكليزية بالكاد كان موجودا"في بلاد المغرب وكان أقل انشارا"من الفرنسية). وحيث إن اللغة – أية لغة – ليست مجرد عبارات يتلفظ بها المرء للتعبير عن نفسه، أو جمل يفصح من  خلالها عن لواعج ذاته، إنما هي – بالأساس – أفكار يتفاعل معها، وقيم يتشرب بها، ورموز يندمج فيها، وثقافة يعتمد عليها، وحضارة ينتسب إليها.  فانه مع اتساع رقعة اللغة الفرنسية داخل رحاب الجغرافيا المغاربية، فضلا"عن ازدياد عدد المتعاطين لها والمنخرطين بها، سواء أكان عن طريق المخاطبة / المشافهة، أو من خلال المفاكرة / المكاتبة، فقد بدأت تتآكل – عند النخبة المثقفة والمتعلمة تحديدا"- أسس الدعوات الطوباوية والخطابات الإيديولوجية، التي كانت تحتل المسرح السياسي المعروف، وتغطي المشهد الثقافي المألوف، لتحل مكانها أنماط جديدة من التفكير المنطقي والتحليل العلمي، القائمة على أساليب الاستقراء والاستنتاج والتحليل والتأويل. (ففي الجزائر وتونس والمغرب – كما يؤكد الباحث المغاربي الدكتور (محمود الذوادي) – كان من وظائف اللغة الفرنسية (وما زال) بث القيم والتقاليد والفلسفات الغربية بين فئات هذه الشعوب خاصة المتفرنسة منها). وهو الأمر الذي عزز لاحقا"، ليس فقط مكانة اللغة الفرنسية بين الشرائح المتعلمة والمثقفة، لكي تصبح الوسيلة المعرفية المعتمدة لولوج عالم الفكر الغربي الشاسع، والسياحة بين تضاريسه المتعرجة والنهل من معينه الثر فسحب، وإنما لتوطين سساتيمه الفلسفية بكل جذريتها، وتمكين نظرياته الاجتماعية بكل جرأتها، وتجذير صرعاته المنهجية بكل جسارتها أيضا". وهو الأمر الذي سوف يسوق المثقف (المغاربي) – خلافا"لقرينه (المشرقي)، الذي رانت على تفكيره مظاهر الدعة والعطالة والترهل - إلى الميل بنشاطه الفكري وإبداعه الثقافي؛ نحو استلهام الأحداث الفعلية بدلا"من الاستسلام للأضغاث الوهمية، والركون إلى السوسيولوجيا الواقعية بدلا"من الافتتان بالايديولوجيا الطوباوية، والانتحاء صوب المنهجيات التفكيكية والتأويلية والجينالوجية، بدلا"من الانكفاء نحو التنطعات الترقيعية والانتقائية والتلفيقية، والتطلع نحو تحليل المعطيات الواقعية بدلا"من التموضع خلف التصورات الافتراضية، والسعي لتفكيك الأنماط الذهنية بدلا"من تسليك الأوهام الخرافية، والمثابرة على نقد الأصوليات والعصبيات المتحجرة بدلا"من تمجيد الحركات الراديكالية والجماهيريات العدوانية، والتماهي بالقيم العقلانية والعلمانية والحداثية بدلا"من التعاطي بالنزعات الأسطورية والغيبية والرجعية. وفي هذا السياق، فقد أدلى المفكر المغربي الدكتور (عبد الإله بلقزيز) بملاحظة مفادها انه (كان الباحثون المغاربة، ثم الجزائريون والتونسيون، أبكر من شغل ميدان نظرية المعرفة وفلسفة العلوم والايبيستمولوجيا في نطاق الدرس الفلسفي الجامعي – في البلدان العربية – قبل أن ينتقل هذا الانشغال إلى ميدان البحث والتأليف.  وليس من شك في إن الانجذاب إلى هذا الميدان المعرفي إنما كان بأثر من الدراسات الايبيستمولوجية المزدهرة، لحظتئذ، في أوروبا، وفي فرنسا على نحو خاص : التي قرئت في المغرب العربي على نطاق واسع ودرست في أقسام الفلسفة في الجامعة، بل وانتشر تأثيرها خراج الجامعة، فامتد إلى الدرس الفلسفي للبكالوريا، قبل أن يبدأ الاهتمام بها في الاضمحلال والخفوت في نهاية الثمانينات). هذا في حين قننت أنماط الثقافة الانكلوسكسونية توجهات المثقف العراقي – باعتباره الممثل الأبرز للانتلجنسيا المشرقية – وأطرت وعيه، ضمن دائرة ضيقة من الاهتمامات الفكرية والمعرفية، بحيث لم يتعدى حقل التاريخ المؤسطر والتراث المؤمثل، التي لم يلبث صداها وقد انداح  في أروقة تجمعاته الثقافة وتنظيماته الحزبية على شكل إيديولوجيات؛ ليبرالية ممسوخة وموجهة، أو قومية رومانسية متعصبة، أو دينية ارتدادية مجاهدة، أو شيوعية طفولية مغامرة. بعبارة أخرى سيق للتموضع في أطر من التفكير والتنظير، لم ترقى به إلى مستوى من النضج المعرفي والتطور المنهجي، بحيث يتمكن من إدراك طبيعة الواقع الاجتماعي كما هو، لا كما يعتقده أو يتمناه، فضلا"عن اكتناه الأواليات التي تتحكم بسيروراته، واستشراف الآفاق التي ستئول إليه تفاعلاته. ولهذا فقد أحسن المؤرخ العراقي الدكتور (سيار الجميل) الوصف حين كتب يقول (إن انتلجنسيا العراق المخضرمة، بنية فكرية ذات نظام شبه معرفي ومؤدلج، تتوافر فيه الشروط الكاملة لتفكيك خطابه المتنوع على نحو ابستمولوجي، يسعى لفهم الواقع الذي دفع بتلك النخبة كي تعمل من وراء الستر، أو بشكل علني على تحقيق الحلم القومي للأمة العربية قبيل الحرب العالمية الأولى، ثم السعي إلى تكوين العراق، نظرا"لما حدث في مداخلات الحرب، وما أعقبها).  

ابتلاء المشرق باعتلاء العسكر للسلطة

لسنا هنا بصدد إلقاء اللوم على مجتمعات المشرق العربي، كونها شكلت تأريخيا"(الحاضنة) السياسية والاجتماعية، لتوالد وتناسل الظاهرة العسكرية على مدى عقود ما بعد الاستقلال، والسعي، من ثم، لمحاولة تبرئة مجتمعات المغرب العربي من مساوئ تلك الظاهرة، التي تسللت، في غفلة من الزمن، إلى حقل السياسية لتحكم قبضتها على عناصر السلطة التي فيه، وتتحكم بمصادر الامتيازات المترتبة عليه، والإيحاء، تبعا"لذلك، بانفراد بلدان المشرق بهذا الضرب من الأنظمة الطغيانية. لا مشاحة من القول إن مجتمعات المغرب العربي، كانت قد عرفت خلال تاريخها السياسي لفترة ما بعد الاستقلال، هذا النمط من الأنظمة وخبرت طبيعتها التعسفية، وهو الأمر الذي ما انفكت آثاره شاخصة لحدن، لاسيما بالاحتكام إلى تجارب كل من تونس وليبيا والجزائر، على سبيل المثال لا الحصر. إلاّ إن مجتمعات المشرق العربي لم تكن فقط السبّاقة باختبار هذا النوع من الحكم فحسب، وإنما كانت من حيث تواتر حصول هذه التجربة واستمرار معطياتها، تحتل الصدارة في هذا المضمار. ولعل الباحث العربي (منذر سليمان) يلامس الحقيقة عندما يقول (وربما ساعد ارث الانتداب الفرنسي والبريطاني العسكري وقبله الحكم العثماني العسكري، في ترسيخ حفر صورة مبهرة للبذلة العسكرية والنجوم اللامعة التي ترافقها. وتدافعت هذه الصورة عبر الأجيال المتعاقبة تمنح مرتدي البذلة مكانة خاصة تستوجب الاحترام والمهابة، وترمز إلى السلطة والنفوذ والامتيازات، وتنتزع الإعجاب والاعتزاز. وليس مستغربا"في هذه الحالة أن يكون مفهوم النخبة أو الصفوة في المخيلة الشعبية العربية،  منذ أواسط القرن العشرين قد انحصر بمرتدي البذلة العسكرية، أكثر من أقرانه من  نخب الفكر والثقافة والآداب والعلوم والطب والهندسة. وجاءت الانقلابات العسكرية على أيدي الضباط لتزيد من ترسيخ هذه المخيلة). وللوقوف على أسباب حصول هذه الحالة ومعرفة دوافع اتخاذها هذا المنحى، فان عودة إلى طبيعة الظاهرة الكولونيالية وما تمخض عنها كفيل بإعطائنا تفسيرا"معقولا"لذلك. فبينما عقدت الكولونيالية الفرنسية العزم على إلحاق بلدان المغرب العربي ضمن إطار ممتلكاتها لما وراء البحار، وبالتالي التخطيط للبقاء في هذه البلدان إلى مشاء الله، فإنها عمدت إلى التقليل من شأن الجيوش الوطنية الفتية، واستمرت مواظبة على سياسة تهميش دورها وإضعاف سلطتها وتقليص نفوذها. وبالتالي فقد راهنت على طبيعة النخب التي أبصرت نور السياسية حديثا"، في ظل قوانين الاحتلال وشروطه الاجتماعية والثقافية، لاسيما وان هذه الأخيرة نجحت نسبيا"في التعامل مع ما يطرحه الواقع الجديد، من تحديات سياسية وإشكاليات اجتماعية وتهديدات ثقافية، على خلفية ما تحصل لها من وعي وما تراكم لديها من معارف، نتيجة لاحتكاكها المباشر وغير المباشر بأنماط الفكر الغربي وأشواط الحضارة الأوروبية، ناهيك بالطبع عما تبلور لديها من سياقات تاريخية وأنظمة معرفية، ساهمت بهذا القدر أو ذاك على إضفاء الطابع العقلاني على العلاقات والفكريات، مثلما المدني على السياسات والمؤسسات، للحد الذي قلما تقاطعت توجهات السياسة الوطنية واعتبارات السلطة المحلية، مع تطلعات الثقافة الإنسانية وإرهاصات الفكر العالمي  وتشوفات الوعي الكوني. هذا إذا لم تحاول تلك السلطات من استمالة نخبها الثقافية الصاعدة وكوادرها الفكرية الواعدة، للاستفادة من خبراتها والاستئناس برأيها والاستقواء بعطائها، وذلك لزيادة الانطباع لدى الرأي العام الداخلي والخارجي، من أن حكومات ما بعد الاحتلال أضحت مهتمة بتطوير الثقافة وتشجيع المثقفين، ليس فقط على ارتياد مجلات معرفية متنوعة والتحليق بفضاءات فكرية متعددة فحسب، وإنما لأجل أن يتاح لأرباب الفكر والثقافة، توسيع مداركهم وتنويع معلوماتهم. وهو الأمر الذي أفضى باكرا"إلى تقديم خيارات الجماعات المدينية المتعلمة لاستلام دفة السلطة وإدارة شؤون المجتمع عقب الاستقلال من جهة، والى تحجيم تطلعات المؤسسات العسكرية من التدخل في أمور السياسية والتأثير على توجهات المجتمع من جهة أخرى. (وهكذا يتبين – كما أوضح أستاذ علم الاجتماع الدكتور (عبد الصمد الديالمي) – إن السوسيولوجيا في بداياتها في المغرب كانت مؤسسة إدارية سياسية في خدمة الحماية. فالعلاقة بين السياسة (الاستعمارية) والسوسيولوجيا علاقة جدلية، علاقة أخذ وعطاء، علاقة يؤثر داخلها كل طرف على الآخر : السياسة تحدد خطوط البحث السوسيولوجي، والسوسيولوجيا تزكي، معرفيا"القرارات السياسية). هذا في حين إن الأمور ستأخذ منحا"آخر تماما"، فيما لو نظرنا إلى الشطر المشرقي من هذه المسألة، حيث إن الإستراتيجية البريطانية التي حكمت شعوب المشرق العربي، بوحي من ثقافتها الانكلوسكسونية الرامية ليس فقط إلى؛ تأبيد التخلف الاجتماعي، وتجنيد التوتر السياسي، وتوطيد التأخر الاقتصادي فحسب، بل وإلى تجميد الحراك الثقافي، وتخليد السكون المعرفي، وتسييد الجهل الفكري أيضا". بمعنى أنها حسمت أمرها واتخذت تدابيرها حيال الشرائح المثقفة والفئات المتعلمة، لجهة تهميش دورها رغم ضعفه، وتقليص نفوذها رغم هزاله، وتحجيم تأثيرها رغم ضحالته من جهة، ومحولة وجهة اهتمامها، من جهة أخرى، نحو استقطاب العناصر العسكرية التي لفضتها جبهات القتال ضد الدولة العثمانية، على أمل تعزيز مراكز المؤسسة العسكرية وبناء نواة الجيش الوطني. بيد أن هذا الأمر لم يكن بدافع الحرص على مصالح البلاد ومطامح العباد، وإنما لتكليف تلك المؤسسة للقيام بدور الوكيل التابع، لكي تمارس ضبط الحراك السياسي، ولجم الاحتقان الاجتماعي، وكبح الغليان الديني. الذي كان في أطوار التفاقم ومراحل التأزم، على خلفية إحياء النزعات المذهبية والفزعات القبلية والنعرات العشائرية، التي برعت سلطات الاحتلال البريطاني في توظيفها على أسوأ ما يكون،  فضلا"عن استثمار خلفياتها المؤسطرة ورموزها المؤمثلة، في السيكولوجيا الاجتماعية العراقية المتشظية أصلا". وهكذا فقد كان (اتجاه الاستعمار البريطاني في العراق – كما استخلص الباحث المصري الدكتور (مجدي حماد) – إلى تركيز الأمور حول شخص الملك فيصل، وعرقلة قيام منظمات سياسية فعالة. وكان الجيش العراقي هو القوة الوحيدة المنظمة. ولذلك فحينما مات فيصل، قفز الجيش إلى مقدمة العوامل المؤثرة في تطور الحياة السياسية في  العراق). وإذا ما عمدنا إلى المقارنة الموضوعية بين الموقف الذي اتخذته كلآ"من السلطات العثمانية السابقة ونظيرها السلطات البريطانية اللاحقة، إزاء السياسات المصاغة للتعامل مع ظواهر من مثل؛ القومية / العنصرية، والدينية / الطائفية، والفبلية / والعشائرية، والجهوية / المناطقية، فان أفضليات الأولى تكاد تتغلب على الثانية بأشواط. ففي الوقت الذي حاولت فيه السلطات العثمانية القضاء على نفوذ القبائل وتقليص سيطرتها الجغرافية، ناهيك عن مغامرة إشراكها بأمور السياسة وقضايا السلطة، فان سلطات الاحتلال البريطاني عمدت ليس فقط إلى إبقائها ناشطة في محيطها وفاعلة في علاقاتها فحسب، وإنما بادرت إلى تشجيعها على مزاولة العمل السياسي وحثها على ولوج عرين السلطة، لا بل أنها أقدمت على مأسسة كيانها عبر التشريعات التي وضعتها والقرارات التي اتخذتها. ولعل كل ذلك كان بدافع تسهيل مهمتها الاستعمارية، وتقوية سلطتها السياسية، وتأمين أطماعها الاقتصادية من جهة، وإضعاف المقاومة المحلية، وتفكيك العلاقات الاجتماعية، وقمع التطلعات الإصلاحية، ووئد التوجهات الفكرية من جهة أخرى.  وهو الأمر الذي سيفضي – من جملة ما أفضى – إلى استحالت العلاقات الإقطاعية، القائمة على الاقتصاد الريعي المحلي والروابط الأبوية، التي كانت سائدة في أغلب مناطق العراق  لفترة ما قبل الاحتلال، إلى العلاقات (شبه الرأسمالية) القائمة على اقتصاد السوق العالمي والصلات السلعية، بحيث تحول شيخ القبلية أو العشيرة من مالك زراعي (إقطاعي) يحتكم لأعرف القبلية وعادات العشيرة، إلى تاجر عقاري (برجوازي) يخضع لقوانين السوق وعلاقاته البضاعية. وبالتالي هيأت الظروف الذاتية والموضوعية لاستشراء ظاهرة الهجرة المتفاقمة من الريف إلى المدن، تلك الظاهرة التي عمت مدن بلدان المشرق بصورة عامة، ومدن العراق على وجه الخصوص، لاسيما العاصمة بغداد التي تضاعفت أعداد الوافدين إليها بمتوالية هندسية على مرّ الأيام والسنين. ولأن التوجه المركزي لسلطات الاحتلال السابقة، فضلا"عن سلطات الاستقلال اللاحقة، كان يرمي إلى تعزيز مكانة الجيش في المجتمع لضبط حالات الفوضى ولجم مظاهر التفكك من جانب، وتقوية نفوذه في السياسة لتدارك ميل الدولة إلى الضعف في الأداء والعجز في المواجهة من جانب ثان. وعليه فقد سمح هذا الإجراء باستقطاب المزيد من الراغبين للانخراط بهذا المسلك الجاذب ماديا"والمغري معنويا"، بحيث حصل تحول نوعي في التركيبة الطبقية والبنية الثقافية للمؤسسة العسكرية العراقية، قاد في نهاية المطاف إلى مضاعفة حصة العناصر المتريفة إلى نظيرها المتمدينة. وهو الأمر الذي جعل من المؤسسة العسكرية منذ البداية، لا تحتل الصدارة في اهتمامات المجتمع السياسي فحسب، وإنما تلعب الدور الرئيسي في أنشطة المجتمع المدني أيضا". ويمكن القول مع المدير العام لمركز دراسات الوحدة العربية الدكتور (خير الدين حسيب) انه (إلى حدود عام 1941 كان الجيش هو مطمح أنظار الشباب. الذهاب إلى الكلية العسكرية كان مصدرا"للفخر والاعتزاز، وكان يستقطب كفاءات عالية. لكن الوضع تغير بعد عام 1941. وبشكل خاص بدأت تأتي في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، ونتيجة انتشار التعليم في العراق، أعداد متزايدة من خريجي الثانويات من المناطق الريفية، إمكانياتها المادية محدودة جدا"ومستواها العلمي محدود كذلك. والذي لا يستطيع منها الالتحاق بكلية أخرى فيها أقسام داخلية، يأتي إلى الجيش للالتحاق به. فالكلية العسكرية استقطبت مجموعة من  التلاميذ أغلبهم من الريف ومستواهم دون الوسط. لذلك كان تكوينهم الثقافي محدودا"، وعندما أتت ثورة 1958، جاءت مجموعة من الضباط وبينهم عدد غير قليل من أبناء الريف. هؤلاء جاء معهم تدريجيا"آخرون وزادت العملية بالانقلابات وزادت نسبة العسكريين. وحصل بذلك ترييف واسع نسبيا"للسلطة... وفي هذه الفترة بات في وسع الضابط أن يصير وزير خارجية، وزيرا"للداخلية، أو للصحة أو المواصلات أو الزراعة.. الخ. وفي هذه الفترة كلها كان الرؤساء عسكريين). وهكذا فقد أسهمت الظروف الذاتية والموضوعية المحيطة بالمجتمع العراقي، في عسكرة الحياة السياسية (أحزاب سياسية وقوى اجتماعية ومنظمات مهنية)، لا بمعنى أنها لم تحابي العناصر العسكرية وتتملقها للانخراط ضمن تنظيماتها فحسب – وهذا ما سيفعله الجميع بلا استثناء – وإنما بمعنى عسكرة الفكر السياسي في تعاطيه مع الواقع الاجتماعي من جهة، وجعل الايديويولوجيا، من جهة أخرى، مدججة بقيم التغالب في العلاقات والتكالب في الامتيازات والتصالب في التوجهات، بحيث أصبحت الكراهية المتبادلة والعنف البيني هي من السمات الغالبة على الحوار بين الفرقاء. كما أنها (ردكلة) – أي جعلها راديكالية – البيئة الثقافية (بنى الوعي وأنماط الفكر وأنساق الثقافة)، لا بمعنى ترويجها لمظاهر التعصب والتطرف على المستوى الاجتماعي، كما لو أنها من خصائص الطبيعة الإنسانية وشفرة جبلتها. ولكن بمعنى حضها على ممارسة هذا الضرب من التصور البدائي والسلوك العدواني، واعتباره صفة معيارية لتجسيد قيم  الشجاعة السياسية والرجولة القبلية والفحولة الذكورية. ولعل هذه الخلفية المركبة من شظايا السوسيولوجيا وبقايا الانثروبولوجيا وخفايا السيكولوجيا، تفسر لنا أسباب ابتلاء بلدان المشرق عامة والعراق خاصة، بظاهرة تكرار الانقلابات العسكرية واستمرار تحكم العسكر بمقاليد السلطة وتقاليد السياسة. ولذلك فقد (أثبتت التجربة – كما شخّص الأكاديمي والباحث المصري الدكتور (جميل مطر) – إن المجندين أو المرشحين لوظائف الضباط من (المواطن الريفي المنتقل حديثا"إلى المدينة) و(المواطن المديني المنتقل حديثا"إلى الطبقة الوسطى)، هم بين الأكثر احتمالا"أن يكونوا من الانقلابيين، أو الضباط المسيسيين). ولأن أصولها رثة  وتطلعاتها راديكالية وقيمها تفاضلية، فان العقلية العسكرية المتريفة تمقت الثقافة وتزدري الانتلجنسيا، من منطلق إن الأولى تحاول علمنة الدولة التي تتزعم سلطتها، وان الثانية تتوخى عقلنة المجتمع الذي تتحكم بمصيره. ولهذا فقد شخص المفكر (عبد الإله بلقزيز) طبيعة العلاقة بين السياسة والثقافة بالقول (لا تنظر السياسة بعين الرضا للثقافة على خلفية الشعور -  الذي لا يخلو من صحة – بأنها تمثل سلطة موازية تضاهي قوتها ماديا"ورمزيا". وهو ما يتضافر مع وعيها إن مشروع سلطة السياسة جديدة يبدأ دائما"من  مدخل ثقافي). وإذا كان لابد من اللجوء إلى الثقافة لتلميع صورتها وتسليع موقفها، فينبغي حينئذ أن تنطلق من منظور إيديولوجيا السلطة وإلاّ فلا. وإذا كانت الضرورة تستلزم الاستعانة (بالانتلجنسيا) لتزويق سياستها وتسويق خطابها، فالمفروض أن تكون ضمن طاقم النظام وتحت وصايته وطليعة ديماغوجيه وإلاّ فبدونها. وهكذا يكون المثقف المشرقي قد وضع بين شقي رحى؛ إما إن يكون بوق للسلطة ومهرج للنظام، يلهج باسمه يؤدلج بفكره ويحاجج بمنطقه، وإما إن يقع تحت طائلة المحضور السياسي والإيديولوجي، وبالتالي الاختيار بين انغلاق المحجر أو انعتاق المهجر. وفي ضوء التجربة السياسية لبلدان المشرق العربي، فان الغلبة كانت ولا تزال للخيار الأول للأسف، بحيث اقترنت صفة (الإيديولوجي) بالمثقف المشرقي أكثر من نظيره المثقف المغربي، وهو ما شكل المثقف العراقي مثاله البارز ونموذجه الصارخ !!.

إيديولوجيا من غير إيديولوجيين 

لعل الانطباع الذي يرجّح تكوّنه لدى القارئ سيكون مؤداه؛ إن الموضوع يرشح بمظاهر الاستنكار للايديولوجيا  والاستهجان للإيديولوجيين. وهو في حقيقة الأمر انطباع مغاير بالكامل لوجهة النظر التي نتبناها، ليس فقط ضمن إطار هذا الحيز المتواضع من الكتاب، وإنما نشايعها باستمرار كقناعة راسخة وموقف ثابت، تتمحور حول ضرورة الفصل والتمييز ما بين الايديولوجيا كنظام معرفي يحايث الواقع الموضوعي ويستبطن الوعي الاجتماعي من جهة، وبين الإيديولوجيين كجماعة سوسيولوجية تتعاطى هذا الضرب من النشاط الفكري والانخراط السياسي من جهة أخرى. فبقدر ما يحافظ المثقف على المسافة الافتراضية التي ينبغي عدم تجاوزها، والفاصل المتخيل الذي يتوجب عدم إهماله، بقدر ما تكون الايديولوجيا حقل أفكار نسبية قابلة للنقد والمساءلة، وتصورات مؤقتة مرشحة للجرح والتعديل، ورؤى آنية مباحة  للتفكيك والنقض، وقيم مطاوعة معرضة للتشريح والتنقيح. وبقدر ما يستحيل الإيديولوجيين إلى شريحة مثقفة (انتلجنسيا)، تتعامل بالأفكار العلمية على سبيل التفاعل، وتتعاطى بالمعرفة العقلانية على سبيل التواصل، وتنخرط بالمنهجيات النقدية على سبيل التداول، واضعة نصب عينها بديهية / مسلمة، صاغها المفكر الجزائري الدكتور (عبد الله العروي) مفادها؛ إن (الثقافة لا يمكن أن تتقلص إلى الايديولوجيا)، وإلاّ انقلبت الموازين واختلت المعايير وانتفت الحقائق. فالايديولوجيا وفق هذا المنظور الذي نعتمده هنا، لا تعد شي نافل لا قيمة له ولا جدوى منه، بل تمسي ضرورة لا غنى عنها؛ لفهم تناقضات الواقع، وإدراك تخندقات المجتمع، واستشراف إرهاصات الوعي، واستيعاب ارتكاسات السيكولوجيا. أنها وكما جادل الأكاديمي والباحث الفرنسي (فرناند دومون) (انجازات لا تلخص العلاقات الاجتماعية التي تتعهدها ولا تستنفدها، بل على العكس، تقتبس العلاقات الاجتماعية عناصر انبعاثها الخاص من الايديولوجيا. فالايديولوجيا عمل تأليفي، لا لأنها تكشف عن نمط مجرد يحلل كلية معينة كما تدعي النظرية أنها تفعله، وإنما لأنها وظيفة إنشاء الكلية). وعليه فمن الخطل أن يناهض المرء الايديولوجيا بصفتها تلك، وإلاّ فانه سيساق للوقوع في حبائل الايديولوجيا ذاتها، من حيث كونه يؤدلج مواقفه منها وتصوراته عنها وإسقاطاته عليها. كما انه من الخطأ الاعتقاد بأن  الايديولوجيا (وعي زائف) – كما حاول البعض توظيف هذه المقولة الماركسية في غير سياقها التاريخي وخارج إطارها السوسيولوجي – يحيد بالمرء عن وضوح الرؤية وسلامة التفكير وسداد الرأي، حين يتعلق الأمر بترسيم الوقائع على حقيقتها وتقييم الأحداث وفقا"لماهيتها. فالايديولوجيا وان اتشحت بالرموز وتجلت عبر المجرد، فهي – أولا"وأخيرا"- تعبير عن وجود قائم وإشارة إلى واقع حي ودلالة على  كينونة فاعلة. ولطالما اخفق الباحثين والمعنيين في الكشف عن سرّ العلاقة القائمة بين أنظمة الحكم  التسلطية في بلدان المشرق، وبين الولع باحتضان شتى أصناف الايديويولوجيات التوتاليتارية؛ الليبرالية / البرجوازية، والقومية / الوحدوية، والشيوعية / الأممية، والإسلامية / الطوباوية، ليس من منطلق الاعتناق لمبادئها والإيمان بفلسفتها والدعوة لقيمها والانخراط ببرامجها، ولكن من باب التوظيف لرصيدها والاستثمار لتأثيرها والاستغلال لخلافاتها. على خلفية إدراك تلك الأنظمة افتقارها للشرعية الوطنية والمشروعية الدستورية، التي تضفي على سياساتها العشوائية طابع الواقعية، وعلى مواقفها المرتجلة سمة العقلانية، وعلى علاقاتها الانتقائية صفة الإنسانية، لاسيما وان معظمها دلف إلى رواق السلطة عن طريق (الثورة) المتحالفة مع العسكر، أو الاستعانة (بالانقلاب) العسكري المباشر والصريح. ولذلك فهي بحاجة ماسة دائما"؛ إلى ما يستر عيوبها ويخفي حماقاتها ويطمطم انحرافاتها ويبرر مظالمها، طالما أنها تحتضن أقليات قرابية، وتمثل جماعات قبلية، وتناصر توجهات تعصبية، وتشايع أحزاب فئوية، وتتبنى تطلعات عدوانية. ولذلك فليس (كالمثقف المؤدلج) من يمكنه أن يقوم بهذه المهمة ويجيد هذا الدور، خصوصا"وان الأرضية التي يقف عليها وينطلق منها، لا تمثل القاعدة الشاملة للمجتمع الذي حافظت السلطة على تصدع كيانه، ولا تعبر عن إرهاصات الوعي الجمعي الذي ثابرت الايديولوجيا على إبقاءه شعثا". من حيث إن طبيعة الفكر الذي يحمله ينطوي على تناقض بين حقائق الواقع والافتراضات المتكونة عنه، وان ماهية الثقافة التي يختزنها تعكس القطيعة بين وقائع المجتمع والتصورات المترتبة عليه، وان خاصية الوعي التي يضمره يجسّد الشقاق بين السياق التاريخي والتوقعات المؤملة فيه. ولما كانت الأنظمة السياسية المتريفة محكومة بجملة من القيود الذهنية الصدئة، والضوابط العرفية المتخلفة، والمسبقات الرمزية المؤسطرة، فهي لا تحتاج بالعادة إلى مفكرين عقلانيين بقدر ما تحتاج إلى ديماغوجيين مضللين، مثلما لا يعنبها إنتاج مثقفين نقديين بقدر ما تفبرك دعاة ايديولوجين، فان الانتلجنسيا المشرقية التي تبرعمت تحت ظلال تلك الأنظمة وتشكلت بين جناح رعايتها، نادرا"ما يجتذبها العمل على نقد الأفكار البالية التي تتغذى عليها، بقدر ما ترغب في تكريس أنماطها وتقديس قيمها، وقلما تستدعيها الحاجة إلى مساءلة الوعي الشقي الذي تقتات منه، بقدر ما تسهم في ترسيخ أشباحه وتعميق أوهامه. وإذا ما أخذنا هذه الحيثيات والمعطيات بنظر الاعتبار، وحاولنا وضعها في إطار مقارن بواقع المجتمع العراقي – موطن المثقف المشرقي بامتياز – فإننا سنلاحظ من جهة، وجود فرط في الإيديولوجيات؛ الدينية والقومية والماركسية والليبرالية والاشتراكية، وفائض في الإيديولوجيين من  كل صنف؛ المتأسلمين / الطائفيين، والقومجيين / الشوفينيين، والمتعلمنين / المتعولمين، هذا بالإضافة إلى الجاهزين عند الإشارة والموضوعين تحت  الطلب. كل ذلك مقابل إصرار واضح على التفريط بالايديولوجيا الوطنية، التي تجعل من الثقافة العراقية الشاملة وعاء تصب فيه جميع تيارات الثقافة العراقية، بكل ألوانها وأنواعها وأشكالها وأنماطها وأنساقها وقيمها. وبما إن (انتقال المثقف – كما يؤكد المفكر (عبد الإله بلقزيز) – من لحظة المعرفة الخالصة إلى لحظة المعرفة المجنّدة، (يمثل) انتقال من الوضعانية – ذات الإيحاء الأكاديمي الكثيف – إلى الايديولوجيا)، فان المثقف المشرقي / العراقي سيبقى - بصرف النظر عن مستواه العلمي /الأكاديمي، وغناه المعرفي / الثقافي وانتسابه الحزبي / السياسي، وانخراطه المهني / الوظيفي – رهين سحر الايديولوجيا وفتنة إغوائها، أكثر مما سيكون قرين أطر السوسيولوجيا ومحنة ضرورتها، طالما يحاجج بالأولى ويحتج بالثانية، ويلهج بالأولى ويضج بالثانية، وينهج بالأولى ويلج بالثانية !!!. ولأنه سليل ملاحم السرديات الأسطورية، ووريث أجيال الحاضنات الإيديولوجية، وربيب أنظمة السلطنات التوتاليتارية، فقد لبث المثقف العراقي / المشرقي – رغم كل أنواع المصائب وأشكال النوائب – يؤدلج الواقع ويؤمثل الوقائع، خشية افتضاح خوائه الفكري وجدب مخزونه المعرفي، وتهرؤ عدته المنهجية، إذا ما لامس خشونة معطيات الأول  واصطدم بقساوة تداعيات الثانية. ولهذا فليس من المستغرب إن يوصف – في بعض الأحيان – بكونه (مثقف) مخضرم، للدلالة على خاصية السيولة التي يتمتع بها، حيال التبدلات السياسية والتحولات الاجتماعية والانزياحات القيمية، لا بالمعنى الزمني /  التاريخي، وإنما بالمعنى الثقافي / الفكري. وهو الأمر الذي قيض له ليس فقط النأي عن مخاطر الاحتكاك بمحارم السلطة أو الاقتراب من نواهيها فحسب، بل والاستفادة من إعراضها عن مطارته والتضييق عليه في أسوأ الأحوال، أو استقطابه وإدراجه ضمن أجهزتها الإيديولوجية والإعلامية ومن ثم الإغداق عليه في أحسنها. ولذلك يبدو إن هناك عقد (غير معلن) بين المثقف العراقي / المشرقي من جهة، وبين الأنظمة السياسية المتريفة، تمتنع هذه الأخيرة، وفقا"لبنود هذا العقد الافتراضي، من التعرض لهذا النمط من المثقفين المشايعين (المؤدلجين) – حتى وان لم ينتموا لفكر السلطة -  مقابل التزام الطرف الآخر (المثقف) عدم (دس أنفه فيما لا يعنيه)، والإشاحة عما لا يرضيه، والإعراض عما لا يغنيه. وبالتالي البقاء ضمن حدود الحكمة التي تقول؛ لأعيش أنا وليكن من بعدي الطوفان !!.

 

ثامر عباس

 

عبد الجبار الرفاعيكرّس الشيخ جودت سعيد حياتَه لمناهضة كلّ أشكال العنف. وظل يتحدثُ ويكتبُ عن أن اللاعنفَ ضرورةٌ تسبقُ كلَّ عملية بناء للإنسان والعيش المشترك وسلام المجتمعات والأوطان. كان مصرًا على مواقفه يكرّرها بلا ملل في مختلف المناسبات، وهو يستضيء بقول محمد إقبال: "ولحرفٍ واحد ألف مقال"، ويؤسّس عليه ليقول: "وكذلك الفكرة الواحدة كي تستوي على قدميها تحتاج إلى ألف مقال"[1].

تطور موقفُ جودت سعيد فرأى اللاعنفَ أساسًا ينبغي اعتمادُه في مختلف المواقف، واتخاذُه مبدأ شاملًا في الحياة، وكرّس جهودَه في الكتابة والخطابة من أجل توضيح ما يرمي إليه. يلخص جودت سعيد دعوتَه للاعنف في بعض كتاباته الأخيرة بـكلمتين، هما: "موت الحرب"، وهذا شعار رومانسي متخيل نتمناه جميعًا، ومازالت البشريةُ وستظل تحلم فيه حتى آخر إنسان يعيش على الأرض. لا يدلّل عيشُ الإنسان وصراعاتُه وحروبُه منذ أول عائلة في الأرض على واقعية شعار: "موت الحرب"، بدأ القتلُ بابن آدم الأول وسيبقى القتلُ إلى أن يموت أو يُقتل ابنُ آدم الأخير.

"موت الحرب" يُذكِّر القراءَ بمقولات: موت الله، موت الميتافيزيقا، نهاية التاريخ، وغير ذلك. الواقع يتنكّر لهذه الدعاوى، التاريخ يمضي عبر صيرورة متواصلة ولن يقف عند نهايٍة مادام هناك إنسانٌ في الأرض، الميتافيزيقا لن تموت مادام هناك عقلٌ يتسائل عن معنى الوجود والمبدأ والمصير، "اللهُ حيٌّ لا يموت" ما يموتُ هو صورُ الله المشتقة من الظلم والاضطهاد والاستبداد والطغيان. لن تموتَ الحربُ ولن يختفي العنفُ مادام هناك إنسانٌ يعيشُ في الأرض. "موتُ الحرب" بشرى سارة، لكن هذه البشرى تقفز للنتائج دون المرور بالمقدّمات. إثباتُها يتطلب أن نكتشف ما يختبئ في أعماق الإنسان أولًا، وندرس تاريخَ العنف والحروب في مختلف مراحل تاريخ الإنسان ثانيًا. ونختبر ما تستبطنه النفسُ الإنسانية من استعدادات ودوافع كامنة للتعصب والكراهية والشرّ، وتأثيرَ نمط عيش الإنسان، ونوعَ ثقافته، ومستوى تطوره الحضاري في إنتاج العنف. الإنسانُ هو الكائنُ الأكثر غموضًا والأعقدُ والأغربُ، والأشدُّ شعورًا بالألم في العالَم.كلّما اكتشف الإنسانُ سرًا وحلَّ لغزًا في طبيعته، وظنّ بأنه أدرك حقيقتهَ بتمامها، رأى سرًا خفيًا لم يكن يعرفه من قبل، فيعود ليعلن عن جهله بالمعرفة الكاملة للإنسان[2]. لم يتحدث جودت سعيد عن الخوف والقلق والألم الذي يستعر في باطن أكثر الناس، ولم يتنبه في كتاباته لبواعث العنف المستترة في النفس الإنسانية، وما تثيره الغيرةُ والتنافسُ والشعورُ بالإحباط عندما تستفزّ الإنسانَ نجاحاتُ غيره وتفوقُهم ومنجزاتُهم. ولم يتحدث عن التمثلات الرمزية للعنف وتعبيراته اللفظية وغيرها، وحضوره بأشكال مختلفة تتنوع بتنوع الأديان والثقافات والحضارات.

3369 جودت سعيدعندما نتأمل النفس الإنسانية نرى بواعث العنف كامنة فيها، منها الحاجة للتملّكِ في حياة الإنسان، وهي ضروريةٌ لاستمرار الحياة، ومواصلة العمل والمثابرة والانجاز. التملّك يشعر معه الإنسان بنوع من الأمان والثقة والسلطة. هذه الحاجة إذا لم تخضع لقوانين عادلة لا تقف عند حد نهائي، بل تنقلبُ الحاجةُ للتملّكِ إلى مشكلة لحظةَ تتضخم ليصبح موضوعُها امتلاك البشر بدلًا من امتلاك الأشياء، ومصادرة حرياتهم وحقوقهم، والتسلط عليهم والتحكم بمصائرهم. الشغف بالسلطة المطلقة ناتج عن حاجة الإنسان للخلود، لذلك عندما يستحوذُ شخصٌ على مثل هذه السلطة يستعبد كلَّ مَنْ يتسلط عليه، ويمارس كلَّ أشكال العنف ضده حين يشاء، وذلك يجعله يعيش حالة زهو واحساس هائل بالمتعة لا يجدها في غير السلطة.

وإن كان شعارُ "موت الحرب" ليس واقعيًا، غير أنه يكشف عن تشبّع روح جودت سعيد بالسلام في باطنه وظاهره، ويعبّر عن أمانيه الإنسانية المتفائلة، أكثر مما يتكشف فيه الواقعُ المركّب المتشابك، وما يباغت الإنسانَ فيه من عنف ينبعث من شتى العوامل، وما يهدّد الأمنَ البشري من حروب مريرة،كانت ومازالت وستظل تواكب تاريخَ الإنسان. العنف بما هو ظاهرةٌ مجتمعية بدأت بظهور الإنسان في الأرض. مادام هناك إنسانٌ هناك تنافسٌ ونزاعٌ وصراعٌ على الاستئثار بالسلطة والثروة واحتكار المعرفة وغير ذلك، ذلك هو وقودُ العنف والحرب. لا تخمد الحربُ إلا بتسويات واقعية تحسم النزاعاتِ سلميًا في بعض الحالات.

"موتُ الحرب" أمنيةٌ مستحيلة التحقّق مادام الإنسانُ إنسانًا. الحربُ ليست طارئةً في التاريخ، قوةُ العنف واستمرارُ الحروب قاد فلاسفةَ التاريخ للقول بأنها عاملٌ أساسي في نشأة الحضارات وازدهارها وانهيارها. ‏لولا حروبُ أوروبا الاستعمارية وإخضاعُ ‏مساحات شاسعة من الأرض لهيمنتها ونهبُ ثروات أهلها في أفريقيا وآسيا والأمريكتين، ‏لم تحدث الثورةُ الصناعية ولا التقدّم الذي وصلت إليه أوروبا ‏في العصر الحديث. لولا الفتوحاتُ الإسلامية ما ساد الإسلامُ في العالم القديم من الأندلس إلى حدود الصين.

في كتابات جودت لم يتميز بوضوح العنفُ الذي تعتقد الجماعات الدينية المقاتلة بأنه أحدُ أهداف الدين المحورية، عن العنفِ بدوافع غير دينية، الناتجِ عن بواعث الغيرة والتعصّب العميقة في شخصية الإنسان، والصراعاتِ على السلطة والثروة وشبكات المصالح المختلفة. عقائدُ القتل مشتقةٌ في الأديان من طريقةِ تعريفها للدين، وفهمِها لوظيفته في الحياة، وكيفيةِ تفسيرها لنصوصه، ونظامِ إنتاجها للمتخيَّل، وطريقة تعريفها لنفسها في فضاء المتخيَّل. قبضةُ المتخيَّل شديدةُ الوطأة، يفرضُ المتخيَّلُ حضورَ الماضي بشدّة، وإذا طغى الماضي يحجبُ الحاضرَ والمستقبل. ‏النزاعاتُ والكراهيات والعنف والحروب تعيشُ على كراهيات وإكراهات المتخيَّل.

مَنْ يريدُ تحريرَ التديّن من العنف عليه أن يحدّد أولًا تعريفَه للدين، وكيفيةَ تفسيره لنصوصه في ضوء ما ينشده من الدين ثانيًا، والتخلّص من تعليم المقولات الكلامية للتكفير والفرقة الناجية والفرق الهالكة في معاهد التعليم الديني التقليدية والجامعات الإسلامية الحديثة، وما يبتني عليها من فتاوى الارتداد والتكفير. لا يمكن تحريرُ التديّن من العنف مالم يتأسّس ذلك على: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"[3]، وما ينطق بمضمونها في القرآن الكريم، بشرط وضع أسس لكيفية التعامل مع الآيات المعارضة لمضمونها. وتوظيف آراء وفتاوى المجتهدين المواكبة للحياة في التعليم الديني، مثل قول الشيخ محمد عبده: "إذا صدر قولٌ من قائلٍ يحتملُ الكفرَ من مائة وجه ويحتملُ الإيمانَ من وجهٍ واحد حُمِل على الإيمان، ولا يجوزُ حملُه على الكفر"[4].

كلُّ مَنْ يحاولُ أن يؤسّسَ للسلام في الدين عليه أن يُعيدَ تعريفَ الدين، ويكتشفَ رسالتَه في حياة الإنسان، وأفقَ انتظار الإنسان منه. بلا إعادةِ تعريف الدين، وعدمِ بيان حدود وظيفته في الأرض بشكلٍ واضح، تظلّ دعواتُ السلام يلفّها الغموضُ واللاواقعية، ولا تخرج عن كونها شعاراتٍ حالمةً في واقعٍ يتكلمُ لغةً ويخضعُ لمعاييرَ ترفض لغةَ السلام ومعاييرَه. الدينُ -كما أفهمه – حياةٌ في أُفق المعنى، يوقظ المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي الذي يحتاجه الإنسانُ كي يشعر بالأمن والسكينة. في ضوء هذا التعريف لن يجدَ العنفُ موضعًا بما هو مقوّم للدين، ولا يكون العنفُ مكونًا أساسيًا له، بل ينقضُ العنفُ تعريفَ الدين، ويُعطِّل المعنى الذي يُلهِمُه لحياة الإنسان[5].

النوايا الطيبة والقناعاتُ والتفكيرُ الرغبوي لا تغيِّر الواقعَ المرير. النصوصُ الدينية المنتقاة وحدَها لا تكفي لتغيير الواقع.كان جودت سعيد كغيره انتقائيًا، يلتقط آيةً من القرآن الكريم أو حديثًا من مصنفات السُنة النبوية الشريفة، ويغضّ النظرَ عما يعارض الآيةَ أو الحديث الذي يستدلّ به. ركزَّ جودت على حديث جاء فيه: "قلت يارسول الله أرأيت إن دخل عليّ بيتي، وبسط يده ليقتلني؟! قال: فقال رسول الله: كن كابن آدم"[6]. في الوقت الذي يلتقط جودت هذا الحديث، لا يضع قاعدةً تعالج أحاديثَ شهيرة تدعو للقتال والجهاد في مصنفات الحديث، وهكذا أمثالها في آيات القرآن، ولا ينظر لأحكام الجهاد المتوارثة في مدونة الفقه. اتخذ جودت: "كن كابن آدم" شعارًا استند إليه في أحاديثه وكتاباته، ولم ينشغل بإعادةِ تعريف الدين، وبناءِ قاعدة تحلّ التعارضَ بين هذا الحديث والأحاديث الأخرى العديدة المخالفة له في دلالتها، ولم يؤسّس قاعدةً ترجّح دلالتَه وتتخذها أصلًا ينفي دلالةَ كلّ ما يعارضه.

الثغرةُ المنهجية في هذه الكتابات وأمثالها أنها لم تنشغل ببناءِ رؤيةٍ منهجية شاملة لكيفيةِ تفسير آيات الجهاد والقتال والحرب في القرآن الكريم وبيانِ موقف المسلم اليوم منها. لم تتأسّس هذه القناعاتُ على رؤيةٍ نظرية ومنهجٍ واضح للتعامل مع آيات القرآن الكريم والسُنة الشريفة التي تتحدث عن الجهاد وحمل السيف، ولم تنشغل ببيان كيفية التعامل مع الأحاديث المتنوعة في هذه الأبواب من مصنفات الحديث، لذلك تظلّ المواقفُ في كتابات جودت سعيد وغيره انتقائية، تفتقر لبناء رؤيةٍ شاملة يمكن اعتمادُها أداةً محورية لتفسيرِ مثل تلك الآيات في القرآن وفهمِ تلك الأحاديث في السُّنة.

 

د. عبد الجبار الرفاعي

.......................

[1] سعيد، جودت، مذهب ابن آدم الأول: مشكلة العنف في العمل الإسلامي، ص 16.

[2] الرفاعي، عبد الجبار، الدين والكرامة الإنسانية، مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، ودار التنوير ببيروت.

[3] البقرة، 256.

[4] عبده، محمد، الإسلام بين العلم والمدنية، ص76 ــ 77، دار المصري للثقافة والنشر، دمشق.

[5] الرفاعي، عبدالجبار، الدين والكرامة الإنسانية، مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، ودار التنوير ببيروت.

[6] سعيد، جودت، مصدر سابق، ص 234.

 

عبد الجبار الرفاعي

أكثرُ الكلماتِ والمصطلحات المتداولة في الكتابات العربية تبدو بنظرة سطحية عاجلة ‏واضحةً جدًا، لكن بنظرة تغور في الأعماق ترى هذه الكلماتِ والمصطلحات غامضةً مبهمة. عدمُ التحديد الدقيق للمعنى والفوضى في الاستعمال تتسبب في كثير من الاختلافات والنزاعات والمعارك. أحيانًا بعد أن يتصالحَ الخصمان يكتشفان أن الالتباسَ والغموض في بيان المعاني المتداولة للكلمات والمصطلحات هو الذي ورّطهما في نزاع تتفق فيه الكلماتُ والمصطلحات لفظًا، لكنهما لم يتنبها إلى أنها تتغاير دلالة. التعريفُ الواضح والكشفُ عن المضمون بدقة يرسمُ خارطةً لحدود المعنى المقصود، ويخلّص الكلماتِ والمصطلحات من الاضطراب والتشويش والخلط بغيرها.

ورد التجديدُ في المعاجم العربية بمعنى: "الإتيان بما ليس مألوفًا أو شائعًا، كابتكار موضوعاتٍ أو أساليبَ تخرج عن النمط المعروف والمتفق عليه جماعيًّا، أو إعادة النظر في الموضوعات الرائجة، وإدخال تعديل عليها بحيث تبدو مُبْتَكَرةً لدى المتلقِّي".

أعني بالتجديد إعادةَ فهم الدين وتحديد وظيفته المحورية في الحياة، وإعادةَ بناء مناهج تفسير القرآن الكريم والنصوص الدينية، وبناءَ علوم الدين ومعارفه في ضوء الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع ومختلف المعارف الحديثة.

منطلقُ التجديد هو الوعي بأن متطلباتِ العيش في عصرنا وتحديات الواقع لا يمكن أن نستجيب لها بما نطق به المتكلمون والمفسرون والفقهاء والمتصوفة في عصور سابقة.كلُّ عصر ينطق بفهمه الخاص للنصوص المقدّسة، وكثيرٌ من الفهم التراثي يفتقر لتلبية احتياجات عقل وروح وقلب المسلم اليوم، ويعجز عن تأمين مصالحة بينه وبين ما يتطلع إليه الواقع الذي يعيش فيه، وإنتاج رؤية روحية وأخلاقية وجمالية للعالَم، تواكب متغيرات الحياة المتواصلة وإيقاعها السريع، وتستجيب لأشواق عقل وقلب وروح الإنسان.

يتحقّق التجديدُ بإعادةِ النظر في البنية العميقة للتراث، وكشفِ ما هو حيّ ومحيي فيه، وعبورِ ما سواه، وإنتاجِ فهمٍ للدين ونصوصه يحرّره من إكراهات التاريخ ويحرّر المسلم من غربته عن عصره.

مناهجُ التفكير ونظريةُ المعرفة وأدواتُ النظر هي المكوِّنُ العميق لبنية التراث التحتية، وهي ما يتحكّم بصناعة رؤيته للعالَم، لذلك فإن إعادة بناء علوم ومعارف الدين لابد أن تنطلق من هنا.

3057 جمال الدين الافغانيالتجديد يتطلّب اكتشافَ نظرية المعرفة في الإسلام التي تشكّلت في ضوئها علومُ الدين. علم الكلام في رأيي يمثل نظريةَ المعرفة المؤسِّسة للبنى اللاشعورية في التراث، وفي ضوئها تشكّل كل من علم أصول الفقه وعلوم القرآن والتفسير وعلوم الحديث وعلوم اللغة العربية ومعاجمها، وحتى التصوّف تحكّمت في رؤيته للعالَم لاحقًا المقولاتُ الاعتقادية للكلام الأشعري وغيرها من مقولات الكلام القديم، الذي اصطلحت عليه "تصوّف الاستعباد" مقابل "تصوّف الحرية" الذي أعني به التصوّف المعرفي الخارج على الرؤية المغلقة للكلام القديم، الذي صنع رؤيته الروحية والأخلاقية والجمالية للعالَم. تصوّفُ الاستعباد تشبّع بتقاليد الاسترقاق في الزوايا والتكايا والخانقاهات، وكان يصطاد الأرواح المهشّمة والقلوب المنكسرة، وقد تفشى في عصور متأخرة لدى الطرق الصوفية. تصوّفُ الاستعباد يُدجَّن فيه المتصوف على الاستسلام والرضوخ والطاعة العمياء لشيخ الطريقة.

علمُ الكلام القديم، وأصولُ الفقه، وعلومُ القرآن والحديث وقواعدُ تفسير القرآن الكريم والنصوص الدينية، وقواعدُ السير والسلوك في التصوف، هي التي تفرض علينا نمطَ الفهم الذي تنتجه، وفي ضوئها تتشكّل رؤيتُنا للعالَم، ويعود إليها أثرٌ ليس بالقليل في توجيهِ سلوكنا، وتحديدِ مواقفنا من الماضي والحاضر والمستقبل، والتحكّم بطريقة تعاملنا مع الغير. وكلُّ هذه العلوم أنتجها مجتهدون أذكياء نطقوا بما واكبَ زمانهم والمجتمع الذي عاشوا فيه، وبرعوا بتوظيف المنطق والفلسفة والعلوم والمعارف المتاحة لهم.

أستعملُ مصطلح "التجديد"، ولا أستعملُ مصطلحات: "الإحياء أو الإصلاح أو السلفية". البعض لا يميز بين هذه المعاني الثلاثة و"التجديد" فيخلط بينها ويستعملها كلَّها بمعنى واحد وكأنها متردافات.

لا يدعو التجديدُ الذي أعنيه إلى استئناف التراث حيث هو كما يشي بذلك معنى "الإحياء"، ولا بترميم معارف الدين شكليًا والاحتفاظ بمناهج التفكير وأدوات النظر حيث هي كما يشي بذلك معنى "الإصلاح"، ولا يدعو التجديد لقبول القديم من دون غربلة وتمحيص والحذر والتحسّس من كلِّ جديد مهما كان كما يشي بذلك معنى "السلفية".

التجديد في رأيي يتأسّس على هذه الأركان:

الركن الأول: دراسةُ وفهم واستيعاب ونقد علوم ومعارف الدين في التراث، واستكشافُ مداراتها ومدياتها وآفاقها المتنوعة، والاهتمامُ بالميراث العقلي في المنطق والفلسفة وعلم الكلام، والميراث الروحي والأخلاقي والجمالي في التصوّف المعرفي، والتقاط ما هو حيّ ومحيٌ في التراث، والتحرّرُ من المواقف التبسيطية الساذجة في التعاطي معه، والنظر إليه بوصفه كمية من النصوص التي يجب استظهارُها وحفظُها وتكرارُها، وتوقّف التفكير عند تنظيمها وترتيبها وتصنيفها، بلا تدبّر وتحليل وتأويل ومراجعة وغربلة وتمحيص.

الركن الثاني: الاستيعابُ النقدي للعلوم والمعارف البشرية الحديثة، مثل: الفلسفة، علم النفس، الاجتماع، الأنثروبولوجيا، الألسنيات، والهرمنيوطيقا، وغيرها من مكاسب العصر الحديث، وتوظيفُ ما يصلح منها كأدوات في قراءةِ النصّ الديني وتحليلِه، والإفادة منها في تفسيرِ تمثّلات الدين في حياة الفرد والمجتمع، واكتشافِ أنماط التجارب الروحية الفردية.

الركن الثالث: تجديدُ فهمِ الدين يتطلبُ مقارنةَ الأديان ونصوصها المقدّسة، ومعرفةَ كيفية تشكل مؤسّساتها الدينية، وصلة السلطة بتشكل التراث الديني وتنوع العلوم والمعارف الدينية.

الركن الرابع: تجديدُ فهم الدين يحتاجُ دراسةَ مساراتِ الدين عبر التاريخ، والكشفَ عن اختلاف وتنوّع تمثلاته وأنماط التدين في مختلف العصور والمجتمعات، واكتشافَ تعبيرات التديّن وأشكاله في حياة الأفراد والجماعات، وصلةِ ذلك بتشكل علوم ومعارف التراث ووسائل إنتاجها للمعنى الديني.

الركن الخامس: يبدأ التجديدُ بإعادة بناء أدوات إنتاج المعرفة في الإسلام، بمعنى ان تجديد فهم الدين لا يتحقّق إلا بتجديد مناهج الاجتهاد في الدين، وذلك يتوقف على الذهابِ عميقًا إلى البنية التحتية المنتِجة لعلوم ومعارف الدين، وغربلتها وتمحيصها وتفكيكها، وإنتاج مناهج اجتهاد لمختلف علوم ومعارف الدين مواكبةٍ لإيقاع الحياة المتسارع.

الركن السادس: بوصلةُ التجديد اعادةُ تعريف الدين، واعادةُ تحديد وظيفته في حياة الفرد والمجتمع، وما يمكن أن يقدّمَه الدينُ للإنسان من معانٍ روحية وأخلاقية وجمالية، وما يترقبه الإنسانُ من رفقٍ وشفقة ورحمة يمنحها الدينُ للحياة، وما يلهمه للروح من سكينة وللقلب من طمأنينة.

الركن السابع: لا ينجز التجديدُ وعودَه إلا بالتحرّر من التفسيرات الحرفية المغلقة لآيات القرآن الكريم والنصوص الدينية، والانفتاحِ في التفسير على المناهج الحديثة في علوم التأويل والألسنيات، وعلى كلِّ ما يمكن الإفادة منها من معطيات الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع.

الركن الثامن: دراسةُ المتخيّل الديني وتحليل ُكيفية تشكله وروافد تغذيته ومديات حضوره في انتاج المعنى الديني ضرورةٌ تفرضها عملية التجديد، فمَنْ يمتلكُ وسائلَ انتاج هذا المتخيّل يمتلكُ السلطةَ ويمتلكُ التحكُّمَ بحاضر الناس ومستقبلهم في مجتمعاتنا. المتخيلُ الديني يُستثمَر لترسيخ السلطة الروحية وتمدّدها، ويُستغَل لإضفاء المشروعية على السلطة السياسية ويعمل على تضخُّمِ هيمنتها وتغوّلها. حضورُ المتخيّل الديني كبيرٌ في تكوين المقدس واتساعه، وانعكاسِه المباشر على حياة الإنسان وسلوكه، وهو عاملٌ مؤثر في بناء ثقافة الأفراد والمجتمعات، وتجذّرِ البنى اللاشعورية في الوعي، وتوجيه بوصلة مصائر المجتمعات المسلمة وأقدارها التاريخية. للمتخيّل الديني سلطةٌ واسعة على العقل في مجتمعاتنا، ربما ينتهي تمدّدُ سلطته إلى تغييب العقل وتعطيله. لا يسترد سلطةَ العقل إلا التفكيرُ النقدي الذي يضعُ المتخيلَ الديني في حدوده، ويعملُ على توظيفه بشكل فاعل في البناء والتنمية.

الركن التاسع: لا يبدأ التجديد بالتراث لينتهي بالتراث كما يفعل بعض من يكتبون ويتحدثون عن التجديد، ‏ولا يبدأ بالواقع ويصور لنا التراثَ وكأنه يستجيب لكلِّ ما يتطلبه الواقع من دون اكتراث بأن أكثر ما في التراث يتنكر له الواقع،كما يدلّل على ذلك نحوُ قرنين من إخفاق هذه الدعوة وتهافتها. مَنْ يدعو للانطلاق من التراث والعودة إليه، وبتعبيره "إعادة بناء التراث"، لبث حائرًا يكرّر نفسَه، لم يستطع الغوصَ في التراث والتقاط كنوزه، ولم يتبصر أفقًا مضيئًا يغادر فيه ما هو ميتٌ ومميتٌ من التراث.

إعادة بناء التراث كما قرأتها في بعض المشاريع الفكرية لم تكن بناء جديدًا يستلهم العقلاني والروحي والأخلاقي والجمالي الحيّ والمحيي في التراث، ويقوم بتركيبه وسكبه في مركب بديل في ضوء متطلبات الواقع، معتمدًا على معطيات الفلسفة والعلوم والمعارف الحديثة، بل كان أحيانًا مجردَ عملية استئناف للتراث بكلماته ومصطلحاته وعباراته ومضمونه كما هو، وإن كان يجري وضعُه تحت عناوين جذّابة ولافتات برّاقة. تحدثت عن ذلك بتفصيل أوسع في مقالة نقدية لمشروع الصديق الدكتور حسن حنفي تنشر قريبًا.

قلما نجد من يفكّر بنظام بديل لإنتاج المعنى الديني من النصوص المقدسة خارج فضاء أدوات النظر ومناهج الاجتهاد في التراث. ما يصدر من الأزهر وغيره من معاهد التعليم الديني التقليدية كثيرٌ منه كلام تكراري عن الإحياء والإصلاح، ‏لا يجد مَنْ يصغي إليه خارج معاهد التعليم الديني. وأكثر تلك الكتابات يتكدّس فيها لفظٌ على لفظ، ويتراكم فيها فائضُ القول، وكلماتٌ من دون مضمون أحيانًا، يشعر القارئ اليقظ بالضجر منها.

‌  نحتاج إلى مراجعة نقدية عميقة لمسار الإصلاح الديني التكراري في الإسلام منذ جمال الدين الأفغاني إلى اليوم، الذي مازال ‏يصادر كلَّ دعوة للتجديد تحت لافتته. ‏النقد العميق للتراث واكتشاف بنيته التحتية ونظم إنتاج المعنى الديني فيه يصدر أحيانًا من خارج هذه المعاهد، لكن مازال التفاعل معه هامشيًا، وأكثر الناس لا يصغون إليه مالم يصدر عن المؤسسة الدينية المكرسة.

‏ كي يحقّق الدينُ وظيفتَه في الحياة اليوم لابدّ أن نفهمه بوصفه حياةً في أُفق المعنى. ‏في ضوء هذا الفهم للدين ووظيفته في الحياة ينبغي أن يتأسسَ المنهجُ الذي نعتمده في تفسير القرآن الكريم والنصوص الدينية، والكشف عن المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي في القرآن وهذه النصوص، الذي تحتاجه حياةُ الإنسان في الأرض.كلُّ ما هو خارج ذلك يستمدّه الإنسانُ مما يقوله العقلُ والعلوم والمعارف البشرية، وما أنجزه تراكمُ خبرات الإنسان ‏عبر عشرات الآلاف من السنين.

 

د. عبد الجبار الرفاعي

 

محمد محفوظالتجديد ومسألة المنهج:

من البديهي القول، أنه كلما كثر التطور وتعددت أشكال التحول والتغير في حياة الإنسان الفرد والجماعة، كانت الحاجة إلى التجديد والاجتهاد أكثر إلحاحا.

وذلك لأن المستجدات الحياتية بحاجة إلى فهم ومعرفة وتحديد شرعي وعقلي لطريقة التعامل معها أو الاستفادة منها. فالحقائق الجديدة التي تجري في واقع المجتمعات الإنسانية، وعلى الصعد كافة. بحاجة إلى عملية تجديد فكري وثقافي لبلورة الموقف والرؤية المطلوبة تجاه هذه الحقائق. فتطور الحياة وتموجاتها المتعددة، بحاجة دائما إلى صناعة رؤية وبصيرة تجاهها. حتى يتسنى لنا كأفراد ومجتمعات من التكيف الإيجابي مع تطورات الحياة. فالتطور في الحياة يؤسس لأسئلة وتحديات جديدة، والإجابة عليها يحتاج إلى عملية اجتهاد وتجديد.. وهكذا فالعملية متداخلة مع بعضها البعض.. فالتطور يؤسس لضرورة التجديد والاجتهاد، كما أن التجديد في الرؤية والفكر يفضي إلى التطور النوعي في الحياة.

من خلال هذه المفارقة أو الحقيقة الوجودية، تنبع أهمية التجديد والاجتهاد في كل العصور وفي مختلف المواقع والظروف. والاجتهاد والتجديد وفق هذا المنظور المنضبط بضوابط المعرفة والاستنباط، هو وسيلة الحفاظ على مصالح الإنسان فردا وجماعة. إذ أن قصور الأطر التشريعية عن مواكبة متغيرات الحياة وتطوراتها، يجعل الكثير من المصالح والمنافع الخاصة والعامة عرضة للتلف والنهب والتعدي. والاجتهاد والتجديد وفق منهج واضح ومشروع، هو الذي يوفر ا‎لأحكام التشريعية التي تستوعب متغيرات الحياة ومستجداتها. وذلك لأن موضوع الحكم الشرعي في كل الأزمنة والأمكنة هو الإنسان. والباري عز وجل لا يكلف الإنسان ما لا يطيق ومالا يسعه العمل به. قال تعالى [لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به وأعف عنا وأغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين] (1)

والتجديد هو عملية عقلية ـ فكرية مستمرة، يتواصل من خلالها اليوم والأمس، وتتقاطع عندها جملة الخيارات الفكرية والإستراتيجية المطروحة في حوارات دائمة وحركة دوؤبة تتجه إلى اختيار الأنسب والأصلح من هذه الخيارات.

وبهذا المنظور فإننا ننظر إلى عملية التجديد، باعتبارها عملية شاملة، وتتطلب جهود الجميع في مواقعهم المتميزة وإمكاناتهم الواضحة.. فالتجديد ليس عملية ذهنية محضة، بل هو عملية حياتية ـ شاملة، وتستوعب كل الطاقات والقدرات، وتحتاج إلى كل الامكانات الإنسانية المتوفرة.

والتجديد الذي نقصده، لا يقع خارج الأدلة الشرعية والمقاصد الكبرى. وإنما هو من داخل هذه الأدلة والمقاصد. كما أن التجديد لا يعني التكييف التعسفي بين وقائع العصر والنصوص الشرعية، وذلك لأن عملية التكييف التعسفي لا تفضي إلى تجديد ثقافي ومجتمعي، وإنما تؤدي إلى بتر المسلمات العقدية والفكرية عن وقائع الراهن. فالتجديد كما يعبر عن ذلك أحد المفكرين المعاصرين بأنه استمرار متطور للتاريخ، وحركة رعاية دائبة للنتاج الإنساني بين البداية والغاية، تقتضي التصحيح والتصويب حينا، والخلق والإبداع حينا آخر؟ وبالتالي فإن عملية التجديد من الضروري، أن تخضع لمعادلة متوازنة وواعية بين الزمني واللازمني، بين التاريخ والغيب، تحفظ للفكر الإنساني دوره في كونه امتدادا للحكمة الإلهية، وللتاريخ الإنساني موقعيته في كونه صلة بين حقائق التكوين والهدف من التكوين في حركة التطور الحضاري. لذلك فإن عملية التجديد بكل مستوياتها ومجالاتها في صيرورة مستمرة، تتعامل مع حياة الإنسان وتقلباتها وتحولاتها على هدى الكتاب والسنة. ويخطأ من يتصور أو يتعامل مع التجديد باعتباره مشروعا متحررا من كل الضوابط المعرفية والعقدية.

فالتجديد ليس تفلتا من الضوابط والقيم، بل هو قراءة عميقة للنص والواقع تفضي هذه القراءة الواعية إلى خلق فضاءات معرفية جديدة على قاعدة النص، وليس بعيدا عن مضامين النص المفتوح على كل المبادرات والإبداعات الإنسانية. لذلك من المهم التفريق بين مصطلحي التجديد والاستلاب.. فالاستلاب هو في أحد جوانبه التطور البعيد عن فهم النص وقاعدته المتينة وضوابطه الحضارية.. بينما التجديد الذي ندعو إليه، ونعتبره ضرورة من ضرورات الحياة في كمل عصر، فهو التطور الإنساني المستند على النص فهما وروحا وتجليا.. لذلك كلما تعمقنا في فهم النصوص الدينية الخالدة، توفرت لنا ممكنات إنسانية للتطور والتقدم والتجديد.

لذلك فإننا نعتقد أن التطور القانوني والفقهي في الدائرة الإسلامية، كان نتيجة في أحد جوانبه إلى المتغيرات الثقافية والاجتماعية والسياسية والحضارية، وما استحدثته هذه المتغيرات من وسائل وامكانات لفهم ووعي الأسس والمرتكزات التي تستند عليها عملية التجديد في التجربة الإسلامية. فعملية التجديد مفتوحة على الواقع بكل إمكاناته وتفاصيله، كما أنها في ذات الوقت تتواصل بشكل علمي مع النص لاستنطاقه والبحث في آفاقه وأحكامه ضمن الضوابط الشرعية لهذه العملية. فالنص متحرك في مضمونه وآفاقه، لأنه يتحدث عن فكرة وتشريع بل ومنهج، ومن الطبيعي أن الفكرة والتشريع والمنهج لا يمكن أن يحكم عليهم بالتجمد، لأن كلا من الفكرة والتشريع والمنهج يمكن له أن يتحرك بأفق واسع وفي إطار رحب. وعليه فإن ملاحقة الواقع بمتغيراته ومكتسباته يرافق عملية الاجتهاد والتجديد من حيث حركته في الموضوعات المتغيرة والجديدة، أو من حيث حركته في المجالات والحقول المتعددة. واستمرت هذه الحاجة عبر العصور المختلفة، وناقشها الكثير من العلماء والفقهاء لتكييف الواقع مع الشرع أو بتعبير آخر لجعل التشريع الإسلامي مواكبا لقضايا العصر المستجدة والمتطورة. أضف إلى ذلك فإن الفقه في جوهره ومفرداته، هو استجابة للبيئة والظروف والتطورات التي حدثت في ذلك أو هذا العصر.

 

وعليه كما يقول أحد المفكرين المعاصرين، فإن مقولة ثبات النص لا تحول أبدا دون مواكبته لحركة الإنسان في الزمن، ولا فرق بين (ادفع بالتي هي أحسن) و(وجادلهم بالتي هي أحسن) بلحاظ حركيتهما، وبين أية قاعدة أو مقولة فقهية من قبيل (لاضرر ولا ضرار) و(ما جعل عليكم في الدين من حرج) بما تختزنان من حركية ومرونة تشريعية ـ اجتماعية. لأن الضرر لا يمكن له أن يتجمد في عنوان دون آخر، وصورة دون صورة أخرى، وكذلك الحرج فإنه يختلف بحسب اختلاف الأزمان والأشخاص والأوضاع والحيثيات. ولاشك أن حيوية مضمون النصوص، وعدم وقوفها عند حد من حدود الزمان والمكان، يفتح لنا الكثير من إمكانات التجديد وملاحقة الوقائع المعاصرة من داخل دائرة النص وضوابطه التفسيرية والاجتهادية. لذلك فإننا نستطيع القولك أن التجديد استنادا على النص وبالتقنية الاجتهادية المشروعة يفتح الكثير من الآفاق، بحيث لا تبقى واقعة بعيدة عن النظام الفكري والاجتهادي العام.

وإننا نرى أن التجديد من خارج هذه الدائرة، يؤدي إلى الكثير من التداعيات والآثار السلبية الخطيرة، وفي ذات الوقت يمنعنا من الاستفادة من الثروة المعرفية والقانونية التي توفرها النصوص الثابتة في الشريعة، والتي هي تتجاوز حدود الزمان والمكان. بمعنى أن مهمة المجتهد والمجدد هي في فهم النص بلحاظ الزمان والمكان ومتغيراتهما، دون حبس النص في هذه الظرفية التاريخية. وبهذا فإن عملية التجديد من داخل دائرة النص لا يمكن أن نعنونها بأنها عملية العقل المستريح أو المستقيل، وذلك لأن الدين الإسلامي لا يأبى استقبال المفردات والوقائع الجديدة، لأن الدين مثلا عندما يأمر بالعدل، ويأمر بالإحسان، فإنه يتحدث عن مفهوم يتحرك حسب المعروف والعدل والإحسان في حياة الناس المتحركة وفقا لتطور الحياة. فالمجدد وفق هذا المنظور يتعامل مع التاريخ العلمي بمراحل الزمن المختلفة، دون أن تأسره هذه الإنجازات أو تجمد عقله أو قدرته على التفكير والإبداع الفكري. والجمود الذي يلف حياتنا ويكتنف حقول أعمالنا وممارساتنا، ليس من جراء قصور النصوص من استيعاب متغيرات الحياة كما يتوهم البعض، وإنما هي من جراء عدم خلق علاقة سليمة مع النصوص. لأن هذه النصوص تتضمن قواعد وكليات قادرة على الإجابة على كل الأسئلة والمتغيرات. فحينما يقول تبارك وتعالى [ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل] فإن هذه الآية الكريمة تؤسس لقاعدة أساسية للتعامل في عملية نقل المال وتملكه والتصرف فيه، وهي قاعدة تمتلك من المرونة ما يجعلها متحركة وفاعلة ومنفتحة على المستقبل كما هي منفتحة على الحاضر والماضي.

و" ضوابط الاجتهاد هواد لا كوابح تعيق الحركة وهي موجهات لمن يعالج الفقه أن يتأهل لذلك وللمخاطبين أن يقوموا المجتهدين حسب كسبهم من العلم والتقوى ـ وليست حدودا شكلية منضبطة يظل المتعلم مقلدا حتى يبلغ حرفها ويظل المجتمع متميزا بها بين عامة معزولة عن تكاليف التفكر في الدين ". (2)

لذلك فإن استنطاق النصوص والقواعد الكلية للشريعة، كفيل بتزويدنا بالإجابات والبصائر التي نحتاج إليها في حياتنا المعاصرة. والدور المنهجي المطلوب في هذا الصدد، الانفتاح على كل الأدوات والآليات المعرفية التي تساهم بشكل أو بآخر في عملية الاجتهاد والتجديد. ولا ريب أن البحث عن التجديد وأشكال الاجتهاد المختلفة من خارج النص والسياق الحضاري للأمة، يقبر ويقتل جوهر عملية الاجتهاد والتجديد. إذ أن هذا الخروج يعد وفق المقاييس والمعايير المعرفية والحضارية تجاوزا تعسفيا للروح العلمية والموضوعية، وذلك لأنها تخضع النص لمسبقات فكرية ويقينيات سابقة، مما يدفعنا إلى القول والجزم أن هذه العملية أقرب إلى الخضوع إلى المزاج والهوى والميول منها إلى البحث الموضوعي الذي ينشد الحقيقة بصرف النظر عن المسبقات والقناعات السابقة.

وفي إطار الصيغة المنهجية لعملية الاجتهاد والتجديد في الإطار الفكري والمعرفي نؤكد على نقطتين أساسيتين وهماك

(1) ضرورة الاعتماد على الحجة والبرهانك

 فهو المنهج العلمي والموضوعي الذي ينبغي الاستناد إليه في عملية التجديد. ولقد استفاضت آيات من القرآن الحكيم في مقام الاعتماد على مقتضى العقول وحجيته. قال تعالى [وفي الأرض قطعا متجــاورات وجنــات من أعناب وزرع ونخيـــل صنوان وغير صنوان يسقــى بمــاء واحد ونفضل بعضــها علــى بعض في الأُكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون] (3) وذم قوما لم يعملوا بمقتضى عقولهم فقال عز ذكره [يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون] (4).

فما تبتت حجيته بدليل قطعي من شرع أو عقل أخذ به، وما لم تثبت حجيته أي لم يقم على اعتباره دليل لا يؤخذ بالاعتبار في عملية الاستنباط والتجديد. وقال تعالى [وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون] (5).

ولما كان الظن اتباعا لغير العلم والحجة لم يأذن به الله عز وجل، ولم يكن ليغني عن الحق. لهذا فإننا نرى أن من المسائل المنهجية الكبرى، التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار في عملية التجديد، هو استناد هذه العملية في كل مراحلها ومستوياتها إلى منهج الحجة والاتكاء الدائم على العلم الذي هو طريق انكشاف المعلوم ورؤية الواقع المقطوع به.

(2) العلاقة بين النص والواقعك:

تعددت نظريات العلاقة بين النص والواقع، وازدحمت في هذا الإطار الأيدلوجيات والأطر الفكرية التي تُنظر لهذه المسألة. وبعيدا عن المضاربات الفكرية والأيدلوجية حول هذه القضية، نوضح رأينا وقناعتنا في طبيعة العلاقة بين النص والواقع في الآتي.

إن تبدل الأحكام الشرعية الثابتة للموضوع المحدد، ليس نابعا من متغيرات العصر، وإنما نتيجة لطروء عناوين ثانوية على الحكم أو أحد متعلقاته. والواقع الذي هو العنصر الآخر في المعادلة هو الوعاء الذي يحتضن أو يستوعب العناوين الثانوية. وهي كثيرة في الشريعة الإسلامية من قبيل الضرر والضرورة والحرج والعسر والعجز والإكراه والجهل واختلاف أحوال الموضوعات بفعل الزمان والمكان (التاريخ والجغرافيا) وتبعية الأحكام للموضوعات. فبفعل هذه العناوين وأشباهها تتحول الأحكام من حال إلى حال على حد تعبير العلماء، فيصير المباح واجبا أو حراما، وقد يتحول الواجب إلى حرام أو الحرام إلى واجب. فهذه العناوين الثانوية، تمنح الرؤية التشريعية مرونة كبيرة في مجال الابتلاء والتطبيق. ووفق هذه الرؤية يتم استيعاب مساحة الواقع المتحركة بالنصوص الشرعية الثابتة. بمعنى أن النصوص الشرعية في هذا الإطار تنقسم إلى قسمينك القسم الأول النصوص التي تتولى البعد الثابت في الواقع الإنساني من قبيل علاقة الإنسان بالله وعلاقته بالمجتمع والآخرين وعلاقته بنفسه وأسرته وبالأشياء من حوله. والقسم الثاني طائفة من النصوص تتولى استيعاب الواقع الإنساني المتغير وإعطاء المرونة في الحكم الشرعي في مجال التنفيذ والممارسة بمقتضى متطلبات الواقع. بشرط أن تكون العوامل والعناوين التي تكون سببا في تبدل الحكم الشرعي ومرونته في الظروف الواقعية المختلفة معرّفة ومحددة من قبل المشرع نفسه.

 وبما أن الحياة والواقع هي مادة الأحكام الشرعية، لذلك فإن أي قطيعة بين الفقه والواقع ستكون على حساب ثراء الفقه وجدواه. لذلك نجد أن القرآن الحكيم نزل منجما حتى تتحد فيه النصوص مع الحياة. وبهذا لا يتورط الفقيه أو المجدد في منهجه بألفاظ النصوص فقط ولا في الوضعية الذرائعية التي تخلد إلى الواقع. لأنه يريد أن ينزل المثال على الواقع ويضبط الواقع على حكم المثال.

لذلك كله فنحن بحاجة دائما إلى الإتكاء في مواقفنا وأحكامنا على الحجة والبرهان، ونبتعد كل البعد عن تلك الآراء التي لا تستند على دليل عميق بحيث تكون جميع قناعاتنا ومسلماتنا مستمدة من العلم والمعرفة والوعي العميق بوقائع الأمور.

والمسلم المعاصر أحوج ما يكون اليوم، إلى تطوير نمط علاقته بالنصوص، حتى تصبح علاقة حيوية وفاعلة وبعيدة عن كل أشكال الحرفية والجمود. فالعلاقة الواعية مع النصوص، هي وسيلتنا لإزالة كل أشكال الغبش الذي حجب عنا الرؤية السليمة، وأدخلنا في متاهات ودهاليز، عمقت الفهم القشري لتعاليم الدين، وأخرجتنا من صميم الحركة التاريخية.

فلا مناص لنا اليوم إلا تجديد وعينا بالإسلام، فهو وسيلتنا للتمكن في الأرض والدخول النوعي في مسيرة الحضارة المعاصرة. فالتجديد ليس خضوعا لضغوطات الواقع وليس توفيقا تعسفيا مع حاجات العصر، وإنما استنطاق أصيل بثوابت النص لاستيعاب المتغيرات وتقديم الحلول والإجابات وفق القواعد العامة والأصيلة.

والدين بالمفهوم العام هو محاولة توحيد بين المثال الأعلى المنزل من السماء وواقع الابتلاء الظرفي القائم في الأرض. فالمثال والواقع ينطويان على مفارقة هي صميم الابتلاء. والتدين هو محاولة توحيدهما، حتى تدار الحياة بصروفها المتقلبة بوجه يلتزم الحق الواحد في كل حال.

 ومن المؤكد ومع انتشار حركة الصحوة الإسلامية، يتطلع اليوم الكثير من أبناء الأمة الإسلامية إلى إقامة حياة إسلامية تتوحد فيها مصالح دنياهم بصلاح آخرتهم. لذا فإن الانتقال إلى فقه المجتمع يتطلب بيان مناهج الإسلام وتشريعاته إنطلاقا من الواقع والحياة لا الفرضيات والمجردات. ويقول العلامة الفرنسي في الفقه المقارن (إدوارد لامبير) " أن في الفقه الإسلامي كنزا مخبوءا ينتظر من يجلوه لعالمنا المعاصر، ليهتدي بهديه ويسترشد بمنطقة في الحيرة المدلهمة التي أعجزت عالمنا الآن عن التمييز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر وصرفة عن التوفيق الحكيم بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع " (6).

فالاجتهاد والتجديد والفهم المقاصدي للدين، لا يعني بأي حال من الأحوال الاندماج في البنى المعرفية والمنهجية الحديثة، بل يعني تطوير نظام الفهم والمعرفة لقيم الدين ومبادئ الإسلام.

فالتجديد عملية تواصل عميق بين النص والواقع، إذ لا تجديد حقيقي في الدائرة الإسلامية، إلا على قاعدة الإسلام، ولكي يتم تجسيد قيم الإسلام في الحياة، يحتاج أن نتعرف بعمق على حركة الواقع بكل مجالاته وآفاقه،وهكذا تجمع عملية التجديد فقه النص وفقه الواقع، ومن خلال التفاعل الحيوي بينما تنتج الرؤى الجديدة والبصائر الرسالية التي تفضي إلى إقامة القسط والعدل في المجتمع والحياة. ومن خلال الأصول والقواعد والمقاصد العامة للدين، تتم الاستجابة للمتغيرات، وتتبلور الحلول الواقعية للمشكلات الخاصة والعامة. فالجمود الفكري والمعرفي لا يمتلك إمكانية إستنطاق النص ولا التفاعل مع الواقع مما يؤدي إلى غربة مزدوجة.. غربة عن النص بآفاقه ومضامينه الحيوية والمتحركة، والواقع بتياراته واندفعاته وممكناته وتموجاته. وهذه الغربة المزدوجة، هي تعمق خيار الجمود واليباس الفكري والمنهجي.. لذلك فإن إرساء معالم التجديد الفكري والمنهجي في الواقع الإسلامي المعاصر، يتطلب بإستمرار العمل على طرد كل عوامل الجمود واليباس من واقعنا وفضائنا المعرفي والاجتماعي.. فالجمود بمتوالياته النفسية والمجتمعية، هو العدو الأول للتجديد.. لذلك فإن العمل على نقد أسس الجمود، هو الخطوة الأولى في مشروع التجديد الفكري والمنهجي. وهذا بطبيعة الحال، لا يعني نفي صفة التراكم في عمليات الاجتهاد والتجديد، ولكنه لتحرير المجدد من سلطة المسبقات التي قد لا تنسجم وروح النصوص الإسلامية.. وبالتالي فإن التجديد يتطلب رؤية مفتوحة وعميقة على المنجزات العلمية والفقهية السابقة لاستيعابها وفهم نظامها وروحها الداخلية، دون الانحباس فيها.. بمعنى أن استمرار التراكم العلمي والفقهي، يتطلب التواصل العميق من هذه المنجزات، دون الوقوف عندها، وإنما العمل على الإضافة عليها وتطوير حركتها العلمية والتاريخية.

فالتجديد لا يساوي القطيعة وعدم التواصل مع المنجزات العلمية السابقة، بل يعني التواصل الواعي معها، وامتلاك القدرة العلمية والإمكانية المنهجية للإضافة عليها.

لهذا فإن التعمق في الدرس الفقهي، يعد ضرورة ماسة لكي يتمكن المجدد من إنجاز مفهوم التواصل العلمي والمنهجي.. التعمق الذي يبتعد عن أشكال التكديس والتوصيف، ويذهب إلى روح العلم والقيم الأساسية التي تقف ورائه، والعدة المنهجية التي تم الاستناد عليها في عملية الاجتهاد والاستنباط.

وبالتالي فإن مواكبة العصر، وخلق إطارات فكرية ومعرفية جديدة، والشهود والحضور الدائم في كل مساحات الحياة، هي الوظائف والمهام المتوخاة من عملية التجديد والاجتهاد.

فالتجديد ليس سجالا أو مماحكة بلا أفق، وإنما هو استنطاق النص وخلق الإجابات على هداه في موضوعات الحياة المختلفة لذلك فإن " أي عمل على إسقاط جدوائية العقل الإنساني ـ المدعو في النص الشرعي المعتبر بحجة الله الباطنة ـ في تحمله لدوره الذي يستحق سينتهي في النهاية إلى استمرار العجز التنظيري في المساهمة الحضارية، وبقاء الفشل في صياغة مناهج وأنظمة كفوءة في ساحات الاقتصاد، والسياسة، وما إلى ذلك من مفاصل الحضارة المعاصرة. هذا وأن إلغاء الإنسان العاقل من طريق الاجتهاد الديني تحت ذريعة أن النص الديني يغنينا عن ذلك، يتنافى مع أوليات الفهم الصحيح لمدلول الوحي، وما أحتل العقل فيه من هامش كبير وموقع متميز يمكننا في ظله استنباط واستنطاق النص المتمثل في الوحي، والحديث الشريف " (7)

والاجتهاد المقاصدي، لا يمارس اعتباطا أو بعيدا عن مقتضيات النصوص، وإنما هو بحاجة إلى دراسة عميقة للنصوص الشرعية (الكتاب والسنة) مع إطلاع وتواصل معرفي مع المتون الفقهية، واستيعاب لملاكات الشريعة، وإطلالة دائمة على الواقع بتحولاته وتطوراته.

 والقرآن الحكيم هو المرجعية العليا، التي تحدد مقاصد الدين والشرع، لذلك فإن الاجتهاد والفهم المقاصدي للدين، يتطلب علاقة حيوية ودائمة مع القرآن الحكيم، حتى يتسنى لنا من خلال آيات الذكر الحكيم من تحديد المقاصد ونظام أولياتها. والمفردات القرآنية كما هو معلوم، تستوعب كل لحظات الزمن، وتحتضن كل الظروف، لذلك فإننا نستطيع من خلال التدبر في آيات الكتاب العزيز من بلورة منهج الفهم والاجتهاد المقاصدي للدين وقال تعالى [وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون] (8).

وإن متغيرات الحياة المتلاحقة، ينبغي أن لا تدفعنا بعيدا عن مرجعيتنا الفكرية والعقدية، لأن هذا الابتعاد لا يؤهلنا على المستويين الذاتي والموضوعي لفهم واستيعاب هذه المتغيرات. إن القبض على تطورات الحياة، لا يتم إلا بتفعيل وتطوير العلاقة مع النص الشرعي والعمل على استنطاقه بعيدا عن أرضية الجمود والركود ومنظومات الاستلاب والارتداد.

 وجماع القولك إن عقولنا ينبغي أن تنفتح وتتواصل مع كل المنجزات المعرفية والعلمية، وتستمع إلى كل النظريات والمقولات، وتتبع أحسنها وما ينسجم والمضمون الحضاري للإسلام. قال تعالى [الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب] (9)

 فالمطلوب هو أن نمارس التفكير ونوظف كل طاقاتنا وإمكاناتنا لفهم واستيعاب منجزات العصر والإنسان، دون شعور بدونية أو مركب نقص، وننخرط بعلم ووعي في مجريات الحياة المعاصرة.

 

محمد محفوظ

........................

الهوامش:

1- القرآن الحكيم ـ سورة البقرة آية (286).

2- منهجية الفقه والتشريع الإسلامي ـ حسن الترابي، ص 5 ـ دار أقرأ للنشر والتوزيع ـ الخرطوم.

3- القرآن الحكيم ـ سورة الرعد آية (4).

4- القرآن الحكيم ـ سورة آل عمران آية (65).

5- القرآن الحكيم ـ سورة يونس آية (36).

6- الاجتهاد والمنطق الفقهي في الإسلام ـ مهدي فضل الله ـ ص 5، دار الطليعة، بيروت 1987م.

7- مطارحات في منهجية الإصلاح والتغيير ـ رؤية إسلامية، نجف علي الميرزائي، ص 66، المجمع العلمي للتربية والثقافة المعاصرة، الطبعة الأولى، بيروت 2002م.

8- القرآن الحكيم ـ سورة الأنعام آية (97).

9- القرآن الحكيم ـ سورة الزمر آية (18).

 

 

مراد غريبيمدخل: مفهوم التعايش كأغلب المفاهيم السوسيوثقافية التي تتحدد وتتنوع حسب السياقات والحقول التي تم تناوله فيها. ورغم تعدد المعنى إلا أن المعاني تلتقي في دوائر ومستويات عدة، وتجتمع في مجال التداول الفلسفي، حيث فلسفة التعايش تعكس صور إلغاء سطوة التعصب والتسقيط والقسر والإكراه والتهميش والإستضعاف وحجر الحقيقة وملكيتها هذا من جهة، ومن أخرى توفير مناخ التواصل والحوار والاعتراف بالتنوع والتعدد والاختلاف وتأسيس لتطور حركة التعارف..

 يفهم من التعايش انه التفاعل بين الناس بغض النظر عن أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم، كما أنه مطلوب موضوعيًا واجتماعيًا، حتى لو تقاطعت الأفكار والقيم والمبادئ والمقدسات، التعايش ينعقد على قبول الآخر واحترام خصوصياته والتعامل مع الاختلاف كمعامل غنى وتطور وتقدم وواقع طبيعي لا يجوز السعي لرفضه أو اجتثاته، بل موضوعية الواقع الإنساني والطبيعي أنه جملة من الاختلافات العديدة، في الالوان والامزجة ووجهات النظر والعقائد والمفاهيم والتطلعات، وهذا الفهم يستدعي التعارف التواصلي أي معرفة الآخر بالتواصل معه وليس بما يقال أو يوصف به أي طلب المعلومة من اهلها..

و يذهب المؤرخ الفرنسي فرانسوا جان دي شاتليه الى ان التعايش السلمي لا يقوم بين الدول فقط وانما بين الشعوب، فمحرك السلم كمحرك الحرب تماما وهنا تكمن الاهمية والضرورة معا ايضا، ليس علاقة دولة بدولة، وانما بصورة اعمق، معناه علاقة الشعوب بعضها البعض (اديولوجيات الحرب والسلم: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ترجمة جوزيف عبد الله، بيروت ١٩٨١)

في حين احد اهم المقاربات لمفهوم التعايش عربيا وإسلاميا، هي المقاربة التي طرحها الأستاذ المفكر محمد المحفوظ والتي مفادها: أن التعايش هو الشراكة في المصير والاعتراف بحق الاختلاف مع ضرورة المساواة، ولذلك لا يمكن أن نحقّق التعايش إلّا بإعلاء قيمة المواطنة فوق الانقسام الديني والمذهبي."، ورغم وضوح هكذا مقاربة وفهم معتدل وواقعي واستشرافي لأفق التمدن بثقافة حياة على ضوء المشترك الا ان العديد في مجالنا العربي لا يزال يفتقر لوعي راق بماهية المواطنة كأفضل صيغة للشراكة في الحق والحقيقة، وعلى حد تعبير الأستاذ زكي الميلاد في احد حواراته " نحن اليوم بحاجة لاستعادة مفهوم المواطنة، وتحويله إلى مفهوم مركزي ومرجعي في خطابنا الثقافي والديني، ليكون مفهوما مشعا وخلاقا وثريا بحقله الدلالي، بعد أن ظل مفهوما غائبا أو مغيبا ومتنازعا عليه في الخطاب الديني التقليدي."، ومفهوم التعايش بمعنى روح المواطنة، لا يمكنه أن يستوعب اجتماعيا، بل لا أبالغ في القول حتى فكريا وثقافيا، الا من خلال وعي التعارف كأفق تواصلي مفتوح، يغني الوعي والمعرفة قيمة ووزنًا، ويضع الأفكار الميتة والقاتلة أمام خبرة معرفية ونقدية فعالة ومعمقة خصوصا في ظل راهن المجال الفكري العربي والإسلامي المعاصر، كما يسهم في تفعيل نسق ومسار التمكين لفعل التعايش في الأفقين القريب والمتوسط..

و مما لاشك فيه تنمية واقع التعايش بالأساس هو حركة تعارف مستمر ومتطور واستراتجي، تركيزا للوعي والشراكة والسلم الأهلي، اي السعي الحثيث للتعاون الابداعي بين فلسفة الذات وفلسفة الآخر لفقه العمران، فلا بد من التعرف على الآخر حتى نحيا التعايش..

نحو ممارسة التعايش على ضوء نظرية التعارف الإنساني:

 في خضم عبقريات التنظير المنتشرة على طول الجغرافية العربية لمفهوم التعايش ضمن أطر ما أسماه الدكتور علي أسعد وطفة ثقافة التخلف، لا يمكننا بين جرة قلم ونبرة صوت نرسي معالم التعايش، هذا المفهوم ينتمي إلى دائرة العلوم الإنسانية والاجتماعية وليس فوضى الأفكار في الاعلام المأزوم، يشتغل عليه في الفلسفة والأخلاق والسياسة والقانون وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلوم الاتصال وعلوم التربية واقتصاد المعرفة وعلم الاناسة وما هنالك، ولابد أن لا يتوقف النقاش العلمي عن الاهتمام به كمحور أساسي من محاور التغيير والتجديد، ويظل يتطور الفهم والتطبيق ويتجدد حتى يتبلور في شكل قضية صحيحة بتعبير المناطقة في الواقع العربي والإسلامي المعاصر بالتوازي مع إسهامات ونقاشات "المواطنة على أساس التعارف" أو "أنسنة المواطنة" التي تجمع في قالب استراتيجي بين الانسانية، الدين، الوطن ضمن ثقافة عقلانية تطبيقية.

بالقياس على ما أنجزه عالم الإجتماع الألماني يورغن هابرماس، لابد من الأخذ في الحسبان الأسس الأخلاقية قصد إضفاء صفة الأخلاقية على التعارف وقبل هابرماس هناك تأصيل قرآني لماهية التعارف التي ترتكز على فاعلية الكرامة الإنسانية والتقوى الإيمانية، ليكون التعارف جدي ومنفتح ومتسامح ومتطلع بوعي وضمير لمشروع التعايش فكرة وممارسة، متجاوزا لسلوكيات التعصب والتحقير والتسقيط والعجب الذاتي وما هنالك من صور التخلف الحضاري بإسم الدين والقومية والأيديولوجية والتاريخ والسلف وكل ذلك منه براء..

خطاب التعايش على أساس ثقافة التخلف:

من مآزق التعايش هو الخطاب النابع من ثقافة التخلف، حيث ضاعت القضية ضمن مسارات التقاطية واسقاطية تفتقر للمنهج والنسق والمسار والمقصد سوى الذاتية والترقيع الأيديولوجي، ولقد تأثر خطاب التعايش عربيا وإسلاميا، بخمسة معاملات متشابكة أسهمت في تشكيل ضبابية حول مفهومه، واستثماره غير الأخلاقي في تعطيل مشاريع الإصلاح والتجديد والنهوض والتمدن، هذه المعاملات هي:

أولا: المعامل الفكري والثقافي: الفكر والثقافة عربيا يشهد منذ قرون ظاهرة ازمة معقدة وعميقة عمق إشكالات قيم العقلانية والمناهج التربوية والتعليمية وأدبيات وفنون التنمية البشرية، ولعل الاحصائيات تغني عن الكلام، لما تجد شخصا بدرجة دكتوراه يمارس دور التحوير لمفهوم التعايش بدل تطويره وتريسخه، تتساءل هل الابداع الانساني لاكاديمي وباحث في التعليم العالي يتمثل في شرعنة التطرف والاقصاء والخراب والصراعات والصدامات دينيا وعلميا بلي عنق النصوص الدينية واسقاط النظريات العلمية خبط عشواء أو عن قصد في نفس صاحبه ومن خلفه ؟

أم أن الابداع أن نعلم الناس التسامح والحوار والتعارف واللقاء والتعايش من أجل عمران يلهمنا السلام وحقائق الكرامة الإنسانية والتدين الحضاري.. ؟؟!!

 هذا عن الأمية الثقافية والتخلف الفكري المستشري بصورة مذهلة في عمارات التربية والتعليم العالي بأبنيته والإعلام المؤدلج ومجاميع الفقه المستنسخ في مجتمعات العالم العربي، ولهذا يصبح السواد الأعظم من النخبة في العالم العربي والإسلامي مغشوشا- مقايسة على حديث المفكر الإسلامي محمد الغزالي رحمه الله عن التدين المغشوش- تفسد خطاب التعايش كما يفسد الخل العسل..

ثانياً: المعامل النفسي والتربوي: في هذا المجال أيضاً لم يشهد العالم العربي أي تطور في ميادين التربية والتعليم والدراسات النفسية والسوسيولوحية التطبيقية الهامة والمؤثرة في تعزيز الاهتمام الشامل باستحقاقات التعايش والتسامح والتعارف، مما يجعلنا في مأزق أمام تحديات العنف والطائفية والعنصرية التي تحتاج مواجهتها لمعرفة دقيقة للجذور ومستويات الآثار النفسية والثقافية مجتمعيا مما ينعكس في خطابات مأزومة وضيقة تبشر بحروب وصراعات وفتن..

ثالثا:المعامل الحقوقي:

 راهن الحقوق في المجال العربي للاسف مخزي، حيث أصبحت الأنظمة العربية تسعى لتلميع صورها أمام منظمات حقوق الإنسان والمفوضيات الحقوقية في الغرب واستدراك عدم نشر تقارير تبرز مستوى التدني الحقوقي وانعدام الديمقراطية والمواطنة الحقيقية، والتعايش لا يمكنه ان ينمو أو يبرز ولو للحظة في مجتمع مريض حقوقيا او الحقوق فيه وفق قانون الغاب او بالتبعية او على أسس عرقية ودينية ومذهبية وأيديولوجية وهذا عمق الأزمات السياسية في الاوطان العربية، حيث دولة القانون هي دولة الأقوى وليست التي تحمي الحريات وتصون حقوق الإنسان. التخلف الحقوقي يولد الاستبداد والصراعات ويقلل من إمكانية تقدم وصعود مؤشرات التعايش ويعرقل حركة التعارف بين أبناء الوطن الواحد والأمة الواحدة والدين الواحد، ويفسح المجال في المقابل أمام تقدم وصعود الاتجاهات المتطرفة والمتشددة والدموية والعنصرية، مستفيدة من حالات الانسداد الحقوقي والسياسي وترجمة ذلك في خطابات عنصرية لا تخشى العقوبة أو الردع لأن القانون في صالحها أو من صياغتها.

رابعا: المعامل المصلحي والإقتصادي:

جدلية المصالح غالبا ما تتسبب في ارتفاع الجدران بين التنوعات وإنفجار الكراهيات المنفلتة -كما عبر عنها الدكتور نادر كاظم-مما يخلق صراع ارادات وتغليب النزعات الضيقة والضد انسانية مما يصور مصلحة الذات في إلغاء الآخر والتضييق عليه ومواجهته لامتلاك الواقع وهذا الصراع المصلحي هو نتاج ثقافة التخلف الغالبة على تصورات كل الأطراف حول مصالحهم وجهلهم بمعادلة التعاون الابداعي التي يرسم معالمها التعايش وفق روح التسامح وثقافة التعارف الدائم وما يصاحب هذه الوضعيات من شعور بمهدد للمنفعة والمتعة والهوية يقرب الشرائح الكبيرة من الناس إلى التطرف والتشدد، ويكرس في المقابل قدراً من القطيعة والانفصال عن قبول الآخر والعيش المشترك معه، وتتضح هذه الحقيقة من خلال التفاوت الإقتصادي في المجتمعات المتعددة عرقيا ودينيا حيث تفرض حساسيات من مشكلات الفقر وتفاوت فرص استغلال الثروة وما هنالك من إنعدام المساواة، كما أن البعد الإقتصادي في مشكلة التعايش ناظر للشق المادي على المدى القريب ويتصل أساسا بالبعد الثقافي لمأزق خطاب التعايش.

خامسا: المعامل الإعلامي والمعلوماتي:

المتعارف عليه أن الإعلام المترجم الأبرز للقيم، لكنه مع تطور وسائله ووسائطه وأنماطه أصبح هو المتحكم في تغليب قيم على أخرى بحسب اجنداته الإدارية وخلفيته الثقافية وأهدافه الإستراتيجية التي تعكس رغبات القائمين على السوق الإعلامية، والملاحظ أن واقع التعايش وثقافته ظلت تتأثر هبوطاً وارتفاعاً بالترويج الإعلامي لقيم التمدن أو قيم التخلف، حيث يلاحظ أن وتيرة التعايش ترتفع كلما كانت حركة الحوار والتعارف حاضرة وجادة، وتكون أقل ارتفاعاً كلما كانت هذه السبل باهتة وصورية فارغة او غائبة تماما في ظل لغات التطرف والتهميش والإقصاء وخطابات العنصرية والتعالي والاحاديات الفكرية..

حاجتنا إلى التعارف:

فكرة التعارف لماذا لا تزدهر عربيا وإسلاميا؟

من الظواهر العجيبة، ظاهرة رفض التعارف بشدة جملة وتفصيلا بين فصيل عريض أبناء الأمة، ولعلنا الأمة الأكثر حاجة إلى فكر وروح وأدب التعارف، لكن هناك منا، لم يدرك بعد هذه الحاجة، ويظهر أحيانا البعض الآخر، أنه كافر بحاجته للتعارف، وأن فكرة التعارف رجس من عمل الشيطان، وهذا مركز أزمة التعايش في الأمة العربية والإسلامية !

معضلة السواد الأعظم من أهل التعالم الثقافي خاصة الديني منه، أنه عالق في سجن ملكية الحقيقة المطلقة، لدرجة لا يستطيع الإعتراف بالتعارف، حيث فهمه وأثاثه الفكري ومقدساته التاريخية الموروثة هي كل الحق، أما الآخر فمرفوض جملة وتفصيلا ولابد له ان يحتكم الجميع لحقه المطلق، وهكذا إلغاء التعارف من المشهد الثقافي للأمة يوفر لهم الطمأنينة والسطوة على الواقع .

من زاوية أخرى التعارف الذي يعنيه القرآن في آية سورة الحجرات متوقف لدى هذا الفصيل أو بحكم المتوقف من دون تدبر وبلا نقاش، فزمن الآية بالنسبة لهؤولاء ما زال في الماضي ويقصد الآخر غير المسلم لأن داخل الإسلام هناك مسلم واحد نسخة طبق أصل حقهم المطلق.

في ظل هذا التيار التخلفي الجارف، أصبح الحوار معقد وبزنطي، عبر المبالغة والإسراف في تعقيد الأمور وتمويه مقاصد آيات القرآن، والمدهش في الأمر أن يجري التركيز على قضايا الخلاف وتعظيمها، ولا يجري الالتفات إلى قضايا اللقاء، وإذا جرى الالتفات إلى الأفكار الحية فإنها تحور وتشوه وتضيق، ويجري طرحها بخطاب مؤدلج تفقد معه صحتها ومصداقيتها وحيويتها ومركزيتها في بناء الثقة بين أبناء الأمة كمدخل نحو التعارف.

وبتأثير هذا التيار التخلفي كذلك، الذي يعتمد الرجعية فنا والتقدم عدوا، من آثاره تفشي عقلية التقليد، تقليد تمثلات التعامل تاريخيا بكل تفاصيلها وشخصياتها وقضاياها ضمن سياج من القداسة المعطلة للعقلانية والتجديد.

هذا الوضع ترتب عليه أن يكون مبلغ العلم تسفيه نهج التعارف، وتبني منهج الشك فقط في مواجهة آفاق مشاريع التسامح والتعايش والتقارب والوحدة!!

أما الأخطر والأشد لدى هذا التيار التخلفي، يتمثل في توظيف نزاعات وصراعات التاريخ، لشرعنة الصدام والتطرف والتكفير بدلا عن انوار التسامح والتعايش وخيارات الحوار والتعارف..

إجابة عن السؤال السابق، نجد أنفسنا أمام عدة عوالم معرفية تعكس عدم إزدهار فكرة التعارف في المجال العربي والاسلامي، وهي:

عالم المعرفة:

كما سبق وأشرت لتأثير التيار التخلفي في حركة فكرة التعارف، لاتزال الفكرة لا أقول مجهولة وإنما لم تنل قسطها الوافر من التداول والرجاحة والتباحث، ولعل الوحيد بين المعاصرين الذي درس وناقش وسبر أغوار فكرة التعارف بين الحضارات هو المثقف الديني والمفكر الإسلامي الدكتور زكي الميلاد، ولاقت أبحاثه في هذا الخصوص استحسانا خارج العالم العربي أكثر من داخله الا بعض الدول العربية التي دمجت نظريته حول تعارف الحضارات ضمن مقرراتها التعليمية أو بعض الدراسات الأكاديمية التي تمت حول نظريته هذه في عدة جامعات عربية، لكن عموما لا تزال فكرة التعارف محجوبة عن التفكر التجديدي، ولم تناقش في الفضاءات المعرفية العربية والإسلامية بالمستوى المطلوب والمزدهر.

عالم إقتصاد المعرفة:

فكرة التعارف عدا نظرية الدكتور الميلاد، لا أعرف شخصيات فكرية أو جهات رسمية أو مؤسسات علمية أو حواضر ثقافية جعلت منها مشروعا وهدفا إستراتيجيا على المدى المتوسط، أغلب الاستثمارات في المعرفة ذات طابع مادي بحت، ليس هناك اهتمام بتمكين الأفكار الحية من الانتعاش في واقع العرب والمسلمين، وهذا راجع لغياب ثقافة إقتصاد المعرفة هذا المجال العلمي الحيوي في الغرب والشرق إلا في جغرافيا العرب والمسلمين لأسباب ترتبط بغياب سياسات ثقافية معاصرة وجادة في تحرير الإنسان والمجتمع من ثقافة التخلف.

عالم مجتمع المعرفة:

 فكرة التعارف بحاجة لأرض خصبة قابلة لنمو بذور الحوار والتسامح والتعاون والتكافل والتعايش، ومجتمعاتنا العربية والاسلامية ليست فاقدة لخصائص قابلية ازدهار فكرة التعارف وكل قيم التمدن والتحضر، كل ما هنالك هي مجتمعات عانت ولا تزال تعاني كالاراضي المهملة من فضلات الفكر التقليدي الفاسد ومن أمراض ثقافة التخلف وآثار التطرف والاقصاء والاستبداد بشتى صورها، إذن مجتمعاتنا بحاجة لاستصلاح ثقافي جديد من قبل صفوة مؤمنة وحرة وجادة ومتمكنة من معارف وعلوم التجديد الثقافي للمجتمعات بإحصاء الأفكار الحية والمؤسسات الفاعلة والطاقات الفكرية الخلاقة المهمة في تهيئة المجتمع لإستقبال فكرة التعارف وجل الأفكار الحية التي من شأنها إنعاش روح التغيير وإرادة الإصلاح والتجديد..

التعارف أساس الوعي الناضج للتعايش:

كلما حاولنا الإجابة عن سؤال: كيف يستعيد التعايش بريقه في مجتمعاتنا العربية والاسلامية؟

كان للتربية والتعليم السبق والصدارة، لأنه مركز صناعة الوعي، وما دمنا نرنو لوعي ناضج وخلاق للتمدن لابد لحقل التربية والتعليم أن يكون مميزا وخاصا وقويا في موارده الثلاثة: المنهجية، البشرية، التقنية، ومنبثقا من عمق النقد المعرفي التجديدي فكرة ووجهة ومسارا..

ومن يمعن النظر في الموارد الثلاثة، يجد أنها قضايا ذات علاقة بنيوية ووظيفية وبقوة مع فكرة التعارف في صياغة سياسة ثقافية جديدة لإصلاح المجتمع وإنعاش ثقافة التعايش، خصوصا في ظل تعدد الآفاق..

نحو إبداع التعارف:

ملخص هذا المقال: لماذا غابت فكرة التعارف عن مشاريع رواد الإصلاح والنهضة؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال، هناك تجارب عديدة ومتنوعة في العالم الحديث والمعاصر، اتخذت من التعارف أساسا لترسيخ التعايش في مجتمعاتها تأسيسا لأرضية النهوض والتقدم، منها جنوب افريقيا وماليزيا وروواندا وقبلهم أمريكا الشمالية التي اختصر الدكتور ستيفن آل كوفي في العديد من مؤلفاته الخاصة بالتنمية البشرية والقيادة على أساس المبادئ، أن جذور التعايش المجتمعي في أمريكا تعود لفكرة العصا الناطقة والتي أسماها لاحقا فكرة التعاون الابداعي، هذه الفكرة تتقاطع كثيرا مع فكرة التعارف المؤسس للتعايش والتسامح والتعاون والنهوض الحضاري والتي أرسى خطوطها العريضة القرآن الكريم عبر وعي حقيقة التدين السليم ضمن تحقق الكرامة الإنسانية التي لا تزدهر إلا في بيئة التعايش النابع من التعارف الإنساني..

لعل غياب فكرة التعارف في مشاريع الإصلاح والنهضة عربيا وإسلاميا يرجع لعاملين:

1- نمط الرؤية

- هاجس التخلف

نستعرضها في مقال قادم بإذن الله..

 

بقلم: مراد غريبي

كاتب وباحث في الفكر

 

سالم الشمريتزايدت الاسئلة القلقة في راهن الجماعات الدينية المتطرفة حول امكانية اعادة قراءة النص الديني قراءة عقلانية خارج الاطر التقليدية التي اختزلت الدين من وسطيته المرنة المتسامحة الحاثة على التفكير والتدبر والتامل والتساؤل الى غلو متطرف حافل بالتحريم والترهيب وقمع الرأي وتكفير الأخر وتحويله الى وثن.. خارج الاطر التي صيرت القبلي والطائفي والسياسي والتاريخي، واحيانا الفوضوي دينا اثناء اتساع رقعة المنظومة الفقهية الحربية الصدامية واختصار الدين بالجهاد الدموي التكفيري وتجريد الاسلام من دعوة الانماء والتغيير بالسبل الاصلاحية السلمية الحضارية، ماساهم في ضخ المزيد من حركات التطرف الديني والدفع بها نحو المشهد السياسي وتنامي ظاهرة الارهاب محليا ودوليا.

ان هذا قد ولد اعتقادا متزايدا بتضاد المنظومة الفكرية المتوارثة مع قيم الاعتدال والتسامح في الدلالة والاستحقاق، بحيث تبدو عملية اعادة نقل الموروث الديني وخاصة بشكله التفسيري مطابقة لخصوصية كل فرقة او مشرعنة لها على ضوء انقسام الاسلام الى مذاهب وتشظي المذاهب الى تيارات واحزاب وجماعات. واذا كانت الخصوصية في معناها الطائفي الضيق تتطلب ثقافة ضغائنية قائمة على التجميع بدلا من ثقافة الابتكار والتجديد، فمن الطبيعي ان يتجه التفكير بهذه الفرق والجماعات الى التفتيش والبحث عن اصول مطابقة لخصوصيتها حتى لو اقتضى الامر اختراعها او تلفيقها.

ثقافة التجميع والنقل والمطابقة، هي نقيض ثقافة الاختلاف الناهضة بالمسائلة والتمحيص، واذا كانت الاولى تقوم على الاقتباس والنقل الاعمى، فأن ذلك قد ادى الى الامتثال السالب لماضي حافل بالانقسامات مما اوجد بدوره انساق تفكير في حياتنا لايمكن تجاوزها او التحرر منها فضلا عن التنبه لها.

يمكن القول ان الصراعات الدينية، بما فيها تلك التي داخل المذهب الواحد ذاته، قد دفعت بالشذاذ الظلاميين المملوئين حقدا وبغضا وجهلا والفارغين فكرا وثقافة ورحمة ليكونوا في صدارة المشهد الديني يقودون عريدة الكراهية يساندهم في ذلك ظلامية مجتمعات جاثمة على ركبتيها في احقاد الماضي السحيق ومشبعة حد التقيؤ بتقاليد وطقوس طائفية ساهمت في تجفيف الوعي الديني وصناعة اجيال من الرعاع بأمتياز.. مجتمعات امة ترفض التواجد في السياق الثقافي الحضاري المنفتح، وتصر على التواجد في السياق التاريخي الضغائني المنغلق، ما جعل الخلافات المذهبية تهبط بهذه المجتمعات الى الحضيض، فتحول التاريخ والواقع معا الى عبث ولكن بأسى شديد.

ثمة في تاريخ الاديان - كل الاديان – ما يجعل الفارق واسعا بين مضمون الدين ومظاهر الدين، حيث يلعب السياقان الزمكاني والاركيولوجي دورا في بلورة وانتاج المفاهيم التي من شأنها اشتقاق عدة اديان من دين واحد، ومن خلال هذا الاشتقاق تتنامى المفاهيم الصراعية والانتقامية التي تتكفل من جهة بنحت الخصوصية والمضي بالتمايز الى تخوم وهم التفوق ومن ثم الانكفاء الشديد على هذه الخصوصية عن طريق تضييق الدين واعادة انتاج الموروث وفق مايمليه وهم التمايز وتدعيم الخصوصية او حفظها. ومن جهة اخرى يجري تطويع هذا الموروث ليكون مطابقا مع التمايز الذي يوازي بدوره بين التعالي بهذه الخصوصية وبين الاخلاص لها عبر الانسياق وراء انحيازات ضيقة غالبا ماتتسم بأحاديتها وتماسكها وانغلاقها وتيبسها، وقد اسس هذا الانغلاق ويؤسس علائقيا لاّلية لاواعية وسلوكية تعملان على منع الاختلاف والتنوع والمغايرة، وبالتالي عدم الانفتاح رغم التغيرات والتحولات الجذرية في الحياة.

هذه الوظيفة اللاواعية التي يغذيها النقل الجماعي الموصد للتراث، اوجد وضعا مختلطا للدين تداخل فيه التاريخي بالسياسي والاسطوري بالخرافي والقبلي بالضغائني والتكفيري بالاستئصالي، حتى مهد ذلك لاستبدال السماوي بالارضي، الامر الذي رهن التفكير بما يمليه هذا التداخل،بحيث تمت الاطاحة بالعقل تحت شعار العقل فتسيد وعي التسليم وتهمش وعي التقويم  وتحولت مسألة العقل والنص الى شعار، واحيانا هراوة اذا تطلب الامر ذلك في خضم الجدل الذي لايتوقف حول الثابت والمتغير.

خذ مثلا.. تعدد التصورات العقدية داخل الدين الواحد، فهي لم تتأسس على التجديد، ولاهي نتاجا لتحديث قراءة النص، فضلا عن انها ليست تصورات مؤسسة ولاناظرة لاولوية العقل وما تستدعيه هذه الاولوية بدورها من تحول في النص، اي تحول في فهم النص، بقدر ماكانت هذه التصورات تنظيرا لمشاريع تجزيئية عن طريق تسييس الدين وتديين التاريخ يقودها في ذلك ضرب من العصاب الذي لايعبر عن البعد الانتمائي بقدر مايعبر عن البعد القيمي التعصبي السائد الذي يقدم الانا على الحق والسيف على الكلمة والصراع على الحوار، حتى صار التوسل بالعنف عبر تطويع التصوص رغم انف الدين.. وسيلة لترسيخ الوجود الطائفي او السلطوي والتعالي بالخصوصية المذهبية والتماهي مع مشاعر التفوق والادعاء بنقاء الفرقة او الطائفة. واذا كان العنف كمدلول تاريخي يشكل اساسا لتكوين الاثنيات، فأن العنف السائد في الشرق الاسلامي يندرج في اطار استغلال المعطى الديني لصالح المعطى السياسي، ولاجل تبرير العنف وتديينه وجعله عبادة جهادية فقد تكفلت نصوص لاتدعو للقتل فحسب بل للابادة الجماعية احيانا وهي نصوص دموية متوثبة وكثيرة في الفقه والتراث عموما، وفي هذا السياق لعب حديث الثلاث وسبعين فرقة (الفرقة الناجية) دورا اساسيا في تعميق التمذهب والطائفية وسفك الدماء، وقد فعل هذا الحديث التناحري فعله عبر التاريخ ودونك ضحاياه وهم  بالملايين مع انه حديث ملفق اساسا بشهادة اهل الخبرة والاختصاص وبأتفاق علماء الدين العقلاء الاصلاحيين من مختلف المذاهب.. انه حديث حافل بالهلاك وهو ابعد مايكون عن النجاة والناجية والناجين.

ان ادعاء كل جماعة بوصفها الفرقة الناجية، قد ساهم في شرعنة الضدية الضغائنية ورفع اسها الى مرتبة الالغاء والتكفير وحتى الابادة.. اي الغاء المجتمع العام (الامة) لصالح المجتمع الخاص (المذهب او الفرقة) وترتب على الحديث المشبوه الملفق السابق ان كل جماعة لاترى في الاخرى سوى زنادقة او عاصين ومرتدين، وقالوا روافض ونواصب، ماتسبب في سلسلة من جرائم الابادة الجماعية على طول تاريخ الامة التي تزعم الوسطية وتدعي الاعتدال.

ان شقاء الوعي الديني يدفعني الى التساؤل عما يمكن ان تؤديه البنية الفكرية المتوارثة في ظل التشويه الواسع للدين من على منابره وخلال فتاويه ووعاظه. واكاد ان اجزم ان هذا السؤال هو في صميم وعي المثقفين والمفكرين المتنورين وفي ضمير المتدينين الصادقين، وذلك لاستحالة تحقيق وعي وانفتاح اجتماعي ايجابي متسامح دون تغيير ثقافي اساسي يطال الدين مضمونا وموقعا. واذا كان هناك ثمة ما يمنع تداول هذا السؤال على النطاق العام، فأن طرحنا العلني له هنا تستدعيه الحاجة الملحة لوقف المجازر التي ترتكب باسم الدين وادعيائه، وتستدعيه ايضا  الحاجة للاحتجاج ضد الوعاظ الفارغين من الثقافة ولربما الدين ايضا الذين يتربصون باي كلمة واعية لحشد ماامكن من رعاع يساندهم في ذلك ظلامية مجتمعات ترتع تحت سذاجة قاتلة قوامها الطاعة العمياء لوعاظ تسيدوا من خلال التطفل على الدين والمتاجره به والعزف على وتر الصراع وتعميق الشقاق.

سوف لن تكون (داعش) و(بوكو حرام) اخر الشضايا...

 

سالم مقبل الشمري - كاتب وباحث 

ميشغان - أمريكا

 

 

عصمت نصارلقد فطن محمد عبده ومدرسته، بأنه لا سبيل لتفعيل المشروع النهضوي - الذي خطط له وشرع في تنفيذه - إلا بإحياء العلوم العقلية وإدراجها في المعارف التعليمية والترويج لها في الصحف وعقد الحلقات النقاشية لتبسيطها للجمهور وإقناعهم بأنها خير سلاح يمكن للمسلمين الزود به عن دينهم أمام هجمة غلاة المستشرقين الشرسة التي أعدت العدّة للتشكيك في أصول الدين وسنة النبي والتاريخ الحضاري للأمة الإسلامية ونشر الإلحاد بين شبيبة هذا العصر.

وقد أرادوا بذلك استكمال الطريق الذي مهّد له حسن العطار في حديثه عن التجديد وتلميذه رفاعة الطهطاوي وما كان يكتبه من الأبحاث الفلسفية في (مجلة روضة المدارس 1870م) وجهود على مبارك في إصلاح التعليم وإنشاء دار الكتب 1870م ودار العلوم 1872م .

ومن أهم القضايا التي كانت تناقش في مجلس محمد عبده قضية ضرورة تبرأة الحكمة العقلية والمصنفات الفلسفية من تهمة الإلحاد التي ذاعت بين الأزهريين إلى درجة تحريمها والارتياب في عقيدة كل من يتحدث عن الفرق الكلامية، ولا سيما المعتزلة والكتابات العقلية مثل فلسفة ابن رشد وابن خلدون وذلك حتى عام 1871م. لم يدرس الأزهريون من العلوم الفلسفية سوى علم التوحيد والتصوف وأصول الفقه والمنطق والحكمة بكثير من التحفظ والريبة في مؤلفات الجاحظ (ت868م) والحلاج (ت922م) وأبن سينا (ت1037م).

وعلى الرغم من جهود الأفغاني ثم محمد عبده عام 1895م، لم يستجب الأزهريون لدعوة محمد عبده لتجديد المعارف الدينية وتطويرها وإدخال العلوم العقلية إلى ميدان البحث والدرس والتساجل في المقررات الدراسية حتى يتسنى للأزهريين تجديد الخطاب الدعوي وتحديث ضروب المحاججة والتناظر وشرح المقاصد الإسلامية وحمايتها من الضلالات والخرافات التي كانت تلصق بها من قبل المجترأين تارة والجامدين تارة أخرى، وقد ظل الأزهر على هذه الحال حتى عام 1933م. ومن أكثر دعاة التفكير العقلي في دراسة الفقه الإسلامي الشيخ محمد مصطفى المراغي (1881م-1945م) وهو من أخلص تلاميذ الأستاذ الإمام محمد عبده، وأحرصهم على تطبيق مشروعه الإصلاحي؛ إذ ذهب إلى أن الجمود والعزوف عن التفكير الناقد والمنهج المقارن في الفقه لانتخاب الأصلح لصالح الأمة من أخطر المعوقات التي تحول بين الناس والوقوف على مقاصد الشريعة الغرّاء ومن أقواله في ذلك (إنّ الشريعة الإسلامية فيها من السماحة والتوسعة ما يجعلنا نجد في تفريعاتها وأحكامها في القضايا المدنية والجنائية كل ما يفيدنا وينفعنا في كل وقت، وما يوافق رغائبنا وحاجاتنا وتقدّمنا في كل حين، ونحن في ذلك كله ملازمون لحدود شريعتنا).

ولم تقف دعوته الإصلاحية عند هذا الحد؛ بل فتح باب الاجتهاد متخذاً من المنطق والقياس العقلي منهجاً في الاستنباط، ونادى للتوفيق بين المذاهب الطائفية والفقهية والكلامية، وفرّق بين الحكمة العقلية والنظريات الفلسفية من جهة والنظر العقلي وآراء المتفلسفة من جهة أخرى، ومج التعصب بكل أشكاله، وكره أن يوصف بالكفر من يبوح برأيه حتى لو كان مخالفاً للمألوف أو المتفق على صحته، والأصوب في رأيه مجابهة الكتابات الجانحة والمعتقدات الشاذة بالمثاقفات العقلية والحجج العلمية والمنطقية والشرعية من قبل العلماء، وليس من فيهم المتعالمين والأدعياء، ولم يوافق كذلك على مصادرة الكتب أو معاقبة المجترأين؛ بل كان يرى أن الحوار والمحاججة أيسر السبُل لإثبات بطلان ادعاءات الخصوم أو كذب المدلّسين.

كما دعا لتشكيل مجلس أعلى للعلوم الإسلامية للحد من خلافات الأقطار الإسلامية من جهة، والصراع الملّي من جهة ثانية، وتجديد فقه المعاملات والأحوال الشخصية تبعاً لثقافة العصر ومقتضيات الواقع من جهة ثالثة؛ ذلك فضلاً عن حثه لأول مرة ضرورة إدراج علم مقارنة الأديان، وتاريخ المذاهب الفلسفية، وكتابات المستشرقين والرد عليها، والفلسفات قديمها وحديثها، والأخلاق والمنطق، والتوسع في علم الكلام، ضمن المناهج الدراسية العالية، ولاسيما للطلاب المتخصصين في علوم الدعوة. 

والجدير بالإشارة أن الشيخ الأحمدي الظواهري (1878م-1943م) الذي خلف الشيخ المراغي في رئاسة الأزهر فترة قد حقق له ما أراد، وذلك لأن كليهما من أخلص تلاميذ الشيخ محمد عبده، وأقواهم عزيمة لتحقيق رسالته الإصلاحية. فقد أنشأ الظواهري كلية أصول الدين وأرسل البعثات إلى أوروبا وأصدر مجلة نور الإسلام عام 1931م، لتعبّر عن رأي الأزهر في القضايا المطروحة، وقد حرص على إثراء العقول العلمية الأزهرية بالعلوم العقلية. 

وفي عام 1930م أصدر قانوناً بإصلاح التعليم في الأزهر، وشرع في تحرير موسوعة إسلامية شاملة للفكر الإسلامي. ومن أشهر المواد الدراسية التي أضافها على لائحة الأزهر في كلية أصول الدين (التوحيد والرد على مطاعن الأغيار والشُّبَه، الخطاب الدعوي والمناظرة، الملل والنحل، المذاهب الفقهية وتاريخها، والبدع والعادات والأخلاق، الفلسفة، المنطق)؛ وبذلك أضحت مادة الفلسفة تدرس في الأزهر وتحرر في موضوعاتها الأبحاث العلمية والمقالات النقدية والدراسات السردية التحليلية، وذلك منذ عام 1933م.

وفي عام 1935م واصل الشيخ المراغي ما بدأه بالإصلاحات؛ فشكل لجنة للفتوى تضم نخبة من شيوخ المذاهب الإسلامية، وذلك لانتخاب النافع للمجتمع والمعبر عن المقاصد الشرعية في آنٍ واحد مع عدم التقيد للتراث الفقهي والجمود على ما انتهى إليه، وحجته في ذلك دعوة الأئمة الفقهاء أنفسهم للتجديد وعدم التقيد برأي مادام هناك أفضل منه لصالح حال المسلمين. كما شكل لجنة أخرى لنشر الثقافة الوسطية بين الجمهور وأطلق عليها لجنة الوعظ والإرشاد، وذلك لمحاربة البدع والجماعات الضالة وتفسير ما غمض من أصل الدين ومناظرة المرتابين والرد على الملحدين، مخافة أن يتصدّى لهذا الأمر نفرٌ من المغرضين أو غير المؤهلين لذلك العمل الخطير. وقد نجحت هذه اللجنة في الحد من نفوذ جماعة الإخوان المسلمين، وما تنشره من آراء - وكان من أشهر أعضائها الشيخ يوسف الدجوي (1870م-1946م) الذي فضح تهافت دعوة حسن البنا (1906م-1949م) - وقد تصدّت كذلك للفرق الصوفية الضالة وشطحاتها المشوهة للإسلام. وكذا ما تسلل من أفكار (فرقة البهائية، والقضيانية، والمعتقدات المهدية، والفتوى الوهابية).

كما حدّث المراغي هيئة كبار العلماء واشترط في أعضاءها الحرص على تجديد معارفهم وتأهيل أذهانهم للاجتهاد والإيمان برسالة الأمة الإسلامية وحملتها على الجهل والجمود والتعصب. وشكل لجنة من كبار المفسرين الذين يجيدون اللغات الأجنبية لوضع ترجمة دقيقة لمعاني القرآن، عوضاً عن الترجمات الشاغلة بالأخطاء الاصطلاحية واللغوية التي تجنح عن مقصد الشرعية في الكثير من المواضع، وذلك للحدّ من جهالات عشرات المستشرقين والمبشرين الأوروبيين عن حقيقة القرآن.

كما دعا لإنشاء مجمع للبحوث الإسلامية تضم كبار علماء العالم الإسلامي ومن مهامه انتخاب شيخ الإسلام الذي يقوم بالإشراف على كل المنابر العلمية مثل جامع الزيتونة والقيروان والجامع النبوي في شتى أنحاء العالم الإسلامي؛ وذلك للحدّ من الخلافات العقيدة وتحزبات الفرق المذهبية، ومحاربة كل أشكال الجنوح عن أصول العقيدة، والرد الجميل على الطاعنين والمشككين والمخالفين بالحجة والبرهان والمنطق العقلي والعلوم الحديثة بمعزل عن كل أشكال التعصب والعنف والعداء والتكفير. أي أن الأزهر في هذه الحقبة شارك بقدر موفور في حركة التنوير التي كان يقودها تلاميذ الشيخ "محمد عبده" في شتى مرافق البلاد لتنفيذ مشروعه النهضوي.

وليس أدلّ على ذلك من الجهود المتواصلة من تلاميذه داخل الأزهر الذين شاركوا في المؤتمرات الدولية؛ لشرح العقيدة الوسطية وللتأكيد على دعوة الأزهر للسلام بين الأديان ودعوتهم لوحدة تجمع بينها حب الخير للناس كافة في ظل طاعتها للمقاصد التي أرشد إليها الرسل والأنبياء والأولياء والمصلحين والحيلولة بين صراع الأديان والكتابات العدائية التي تثير العوام وتدفعهم للعنف انتصاراً لما يعتقدون. ومن أقوال المراغي في ذلك: (من الواجب أن يتعاون أهل الأديان على تقوية الشعور الديني وإعادته ليغمر القلوب ويملأ النفوس هيبة ورهبة من الله، ورحمة ورفقاً بعباد الله، وعلى إعزاز مركز الأديان أمام العلم وأمام الفلسفة).

 وتتحقق رسالة "محمد عبده" شيئاً فشيئاً بجهود تلاميذه الذين ربط بينهم الإصرار على تطبيق المشروع، وتحقيق مرامي هذا الاتجاه الذي جابه الكثير من السلطات المعادية والكارهة والمعطلة للمشروع الفلسفي من جهة، وتجديد الخطاب الديني من جهة أخرى.

وها هو الشيخ مصطفى عبدالرازق (1885م-1947م) الذي نجح في إكمال ما بدأه المراغي والظواهري وجمع حوله عشرات التلاميذ من شبيبة الأزهر المؤمنين برسالة الإمام "محمد عبده"، ومشروع النهضة والاستنارة مثل محمد فريد وجدي (1878م-1954م) الذي أثرى الثقافة الإسلامية بمناظراته العلمية حول قضايا الفكر الإسلامي وذلك منذ توليه تحرير مجلة الأزهر عام 1935م.

ومحمد يوسف موسى (1899-1963م) الذي كشف عن أثر فلسفة ابن رشد في الثقافة الأوروبية والفلسفة المسيحية، ونبّه على بعض الأغاليط التي أُلصقت بفكر ابن تيمية، وبين وجهته العقلية في نقد المنطق الأرسطي واجتهاده في ميدان الفتوى وانتصاره للعقل في معالجة الكثير من القضايا. ذلك فضلاً عن مقابلة محمد يوسف موسى بين القوانين الوضعية للشريعة الإسلامية وتبيان حكمة الباري في دستوره والفلسفة الكامنة وراء آيات القرآن الكريم،

ومحمد غلاب (1899م-1970م) الذي راح يشرح القضايا الرئيسة في الفلسفة قديمها وحديثها ويبرز أصالة الفلسفة الإسلامية ونقاء التصوف من البدع والخرافات التي حاقت به.

ومحمود شلتوت (1893م-1963م) الذي برهن على أن الشريعة الإسلامية تعد مصدراً أصيلاً من مصادر التشريع الحديث.

وعبد المتعال الصعيدي (1894م-1966م) الذي أحيا خطاب التجديد، ووضع شروطاً للداعية المجدد، وحدّد المفهوم الحقيقي للأصولية الإسلامية، وفعّل منهج الشيخ "محمد عبده" في تجديد علم أصول الفقه وعلم التوحيد، وناقش العديد من القضايا المعاصرة للمنهج العقلي البرهاني.

ومحمد البهي (1905-1982م) الذي أخذ على عاتقه رد الهجمة المنظمة على المنهج العقلي والكتابات النقديّة للأزهر، وتوسع في البعثات العلمية للخارج وكشف زيف كتابات التغريبيين الطاعنين في مشروع الأستاذ الإمام محمد عبده.

وعبد الحليم محمود (1910م-1978م) الذي عكف على دراسة التصوف الإسلامي للكشف عن أصالته وطرافة مباحثه، وغيرهم من الذين حملوا راية التجديد في الأزهر في النصف الأول من القرن العشرين.

أمّا جهود الشيخ مصطفى عبدالرازق في ميدان الفلسفة؛ فيرد إليه وضع المباحث الرئيسة في دراسة الفلسفة الإسلاميّة، مُوضحاً أن علم أصول الفقه، وعلم الكلام، والتصوف السّني، وعلم مقارنة الأديان، ومباحث المسلمين العلمية الطبيعية والفلكية، ومناهج فلاسفة الإسلام في التأليف بين المنقول والمعقول، والحكمة والشريعة، والكشف عن تأثرهم بالفلسفة اليونانية في بعض النظريات التي صاغوها في السياسة والاجتماع، وتبيان أصالة فلسفاتهم في مناقشتهم لقضايا النبوة، وحرية الإرادة، وخلق العالم، وفلسفة التربية والأخلاق، ذلك فضلاً عن ردّه على المعترضين على دراسة الفلسفة، وبيان أن الحكمة العقلية ومحبة الحكمة والبحث عن الحقيقة لا يخالف الشرع ولا يشكك في الدين ولا يزعزع الإيمان؛ بل التعصب والجمود والجهل هو الذي يدفع بعضنا إلى التكفير ورمي المخالفين بأبشع التهم؛ الأمر الذي يحرض الجمهور على حرق كتب المشتغلين بالفلسفة مثل الغزالي ثم ابن رشد ثم ابن حزم ثم ابن تيمية، فجميعهم اتهم في دينه، وصدق إيمانه. وحجة المتهمين والأدعياء هو الجمود والتقليد والتعصب. 

(وللحديث بقية)

 

بقلم : د. عصمت نصّار

 

محمد محفوظالوقائع والظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية، ليست وليدة الصدفة، وإنما هي نتاج عوامل وأسباب متداخلة ومركبة مع بعضها أنتجت جميع الظواهر التي نشهدها.. ويخطأ من يتصور أن هذه الظواهر، فاقدة الصلة بجذورها الفكرية والمجتمعية.. وإنما هي وليد طبيعي لتلك الجذور سواء كانت فكرية أو مجتمعية أو هما معا.. ومن يبحث عن تفسير علمي – موضوعي ودقيق لمجموع الظواهر المجتمعية، هو بحاجة أن يتعرف على الجذور الفكرية التي تحرك مجموع الفاعلين في النشاط العام.. لأن حركتهم السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية، هي وليدة خياراتهم الاستراتيجية، وهذه الخيارات نتاج طبيعة الفكر الذي يحملونه ويدعون إليه.. لهذا فإن فهم الظواهر العامة، مرتبط بطريقة مباشرة، بطبيعة الفكر الذي يقف وراء هذه الظواهر.. ونحن نعتقد أن المشهد العربي سواء في الحقل السياسي أو الحقل الثقافي أو الحقل الاجتماعي هو على المستوى الفكري، نتاج ثلاث أفكار رئيسية تتحكم في المسار العربي وتدير مختلف ظواهره العامة.. وهذه الأفكار هي كالتالي:

1-الأفكار الميتة:

ثمة أفكار تعمل على تأبيد السائد، وتتعامل معه، بوصفه حالة طبيعية، ولا ترى عيوبه، بل تبررها وتسوغها، وترى أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان..

ولا شك أن هذه الأفكار مهما كان عنوانها وسياقها الاجتماعي والمعرفي، هي أفكار ميتة، لا تدفع إلى صياغة الحاضر واستشراف المستقبل، ولا تلتفت أو تحترم إرادة الإنسان وقدرته على اجتراح المعجزات.. فكل فكرة تسوغ الواقع، ولا تحمل الإنسان مسؤولية هي فكرة ميتة، سواء انتمت هذه الفكرة إلى أيدلوجيا دينية أو انتمت إلى أيدلوجيات وضعية..

فالفكرة الميتة تنظر إلى الدين من خلال مسالك الرجال وأحوالهم، بحيث يكون هؤلاء هم المقياس والمعيار، ولا ريب أن الفكرة التي تجعل معيارها الرجال الذي يخضعون بطبيعتهم إلى ظروف زمانهم ومكانهم، فإنها ستتحول إلى فكرة مهمتها الأساسية تسويغ ما يقوم به هؤلاء الرجال، مع غياب أو تغييب معايير عليا متجاوزة لظروف الزمان والمكان..

والفكرة الميتة هي التي تشجع على الأوهام والخرافات، وتلغي نواميس الخالق من الوجود الاجتماعي.. وهي (أي الفكرة الميتة) التي تبرر للإنسان سواء كان فردا أو مجتمعا تقاعسه وهروبه من مسؤوليات الرسالة والوطن والواقع.. وهي أيضا التي لا تستخدم عقلها (أي عقل صاحبها وحاملها) في شؤونها المختلفة.. بينما القرآن الكريم يربط كل الخصال الحميدة بأولي الألباب.. إذ قال تعالى (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يأولي الألباب) (البقرة، 197) وقال تعالى (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يأولي الألباب) (المائدة، 100)..

وحين التأمل في السمات المذكورة أعلاه للأفكار الميتة، نرى أنها مسؤولة بشكل مباشر عن الكثير من الأمراض المزمنة التي يعاني منها الواقع العربي..

2-الأفكار القاتلة:

وفي مقابل الأفكار التي تسوغ السائد وتغطي فعل العطالة والاستقالة من المسؤولية، ثمة أفكار أخرى يمكن أن نطلق عليها أنها أفكار قاتلة، لأنها تحول الإنسان إلى طاقة عنفية – تدميرية – عدمية في آن.. وترى أن الوصول إلى أهدافها وغاياتها في الحياة، لا يمكن أن يتم إلا باستخدام العنف وكنس كل العقبات والعراقيل بالقوة المادية العارية..

فهي أفكار تمارس الاغتيال المعنوي للناس، كما تمارس القتل المادي.. بمعنى أن المختلفين معها، تخرجهم وفق رؤيتهم الأيدلوجية الضيقة من ربقة الدين للتحرر من مقتضيات عصمة الدم والعرض والمال، وبعد ذلك تسقطهم اجتماعيا وتغتالهم معنويا واجتماعيا، ولا تكتفي بذلك بل تمارس عمليات القتل المادي بحقهم.. ولو تأملنا في الواقع العربي اليوم، لوجدنا الكثير من الجماعات والوجودات التي تحمل أفكارا قاتلة، لأنها تمارس العنف والقتل والتفجير بسبب الاختلافات الدينية والسياسية.. وتبرر لذاتها قتل الأبرياء تحت مبررات واهية.. فباسم الإسلام يتم قتل الأبرياء من المسلمين، وباسم الجهاد في سبيل الله، يتغنون في الذبح والتفجير وتخريب البنى التحتية للبلاد الإسلامية.. وباسم الذود عن المقدسات والثوابت، يتجاوزون كل الحدود الدينية والأخلاقية تجاه المختلف والمغاير.. إنها أفكار قاتلة، وهي الوجه الآخر للأفكار الميتة. فالأولى تقتل باسم الإسلام، والثانية ترمي الإنسان في زوايا الدروشة باسم الإسلام.. واحدة تدعوه إلى الاقتحام بكل ما يملك من قوة وتحوله إلى قوة انتحارية والثانية تسوغ له هروبه وانكفاءه وعدم تبريره وتكالب المشكلات عليه.. فالأفكار القاتلة هي مع قيم الدين بوصفها منظومة لممارسة العنف وتبريره في آن.. وهي التي تستسهل سفك دماء الناس.. وهي التي لا ترحب بحق الاختلاف وتعمل بوسائل قسرية لإنهاء حقيقة التنوع في الوجود الإنساني..

وهي التي تتعامل مع قناعاتها بوصفها الحق والحقيقة، وقناعات غيرها هي الباطل والضلال، هي التي تستند في المجال الفقهي عل ثنائية الحق والباطل بدل ثنائية الخطأ والصواب، وهي التي تفتقد إلى فقه الواقع وفقه الأولويات، لذلك تحاول بالعنف العاري أن ترغم الجميع على مسلكها ونهجها..

ولا شك أن الواقع العربي اليوم، يعاني الويلات والمخاطر الكبرى من جراء شيوع الأفكار القاتلة في أرجاء العالم العربي..

3-الأفكار الحية:

وهي في تقديرنا القادرة على تحرير الإنسان المسلم من ربقة الأفكار الميتة والأفكار القاتلة، وهي التي تساءل الواقع، وتعمل على خلق الإرادة الإنسانية لممارسة الإصلاح والتغيير دون التوسل بوسائل القتل والعنف.. وهي التي تتعامل مع الإنسان بوصفه هو المسؤول عن واقعه، ومهمته الأساسية ليس تبرير الواقع، وإنما العمل على إصلاحه وتطويره.. فالأفكار الحية هي التي حولت أهل الإسلام الأوائل من حفاة، رعاة، إلى بناة حضارة.. وهي التي صاغت العلاقة بين المؤمنين بدون رواسب جاهلية ترفضها قيم الدين الحنيف.. وهي التي دفعت المؤمنين للتعاون على البر والتقوى، وحررت المدينة المنورة آنذاك من سيطرة اليهود وذلك عبر المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين وبناء المسجد وإنهاء المشاكل والتباينات التي يغذيها اليهود بين الأوس والخزرج..

فالأفكار الحية مهمتها خلق الحقائق الاجتماعية الجديدة المنسجمة ومشروع النهضة للوطن والأمة، ورفض الانخراط في مشاكل جانبية أو معارك عبثية تدمر المكاسب وتفتت النسيج الاجتماعي للعرب والمسلمين..

فالأفكار الحية هي التي تجعل باطن الإنسان خير من ظاهره، لأنها تخلص الإنسان المسلم من حالة النفاق وكل أمراض القلب والنفس.. وهي التي تكافح من أجل النجاح في ميادين الحياة، فالدين ليس شعارا وشعائر فحسب، بل علم وعمل وإبداع..

لذلك فإن الفكرة الحية، هي التي تدفعنا على بناء دنيانا على قاعدة الإيمان والعلم والتقدم.. وما أحوج الواقع العربي اليوم، إلى تلك الأفكار الحية، التي تحرره من أفكار القتل وأفكار التبرير والاستقالة من الحياة..

ولا خروج للعالم العربي من أزمته الحالية، إلا بإنهاء مفاعيل الأفكار القاتلة والأفكار الميتة من الجسم العربي.. ولا سبيل إلى ذلك إلا بتبني مشروع الأفكار الحية، التي تدير حقائق التنوع الاجتماعي على قاعدة التعاون على البر والتقوى، وتشحذ جميع الهمم والطاقات صوب المشاكل الرئيسية في الأمة..

بعيدا عن مهاوي الانزلاق صوب المعارك العبثية، التي تؤبد أزمات الواقع العربي، وتضعف قدرات العرب الموجهة صوب الانعتاق من أزماتهم المستفحلة.. فهذه الأفكار عبارة عن مشروعات ثلاثة، تتنافس وتتصارع على إدارة العالم العربي.. مشروع تقليدي لا ينتمي إلى قيم الإسلام الأصيلة، ويبرر واقع الوهن والتخلف.. ومشروع عنفي – إرهابي، يمارس القتل والتفجير وأفقه الوحيد أفق القتل والتدمير.. ومشروع يستهدف بناء حياة العرب على أساس قيمهم الأصيلة دون مخاصمة مكاسب العصر والحضارة الحديثة.. ولا ريب أن اتساع دائرة المؤمنين بالأفكار الحية، هو سبيل العرب المعاصر للخروج من أتون موجات العنف والقتل والتي تطال الجميع، إلى رحاب البناء والتنمية والعمران..

 

محمد محفوظ

 

مراد غريبيمفتتح: لاشك أن راهن المشهد الثقافي العربي يعكس العديد من مظاهر التخلف الشاملة لكل مناحي الفعل الثقافي وضمور العقلانية وحركية التجديد وخطاب التنوير وما هنالك من أساسيات التمدن الثقافي، وهذا الواقع يبرز ويتحدد في أشكال ثقافة التخلف في الفضاءات السوسيوثقافية والتي يمكن التقاطها في صور المثقف ضمن هذا التخلف والمساهم فيه بصفة مركزية وإجرائية في أغلب الصور مما جعل التخلف ظاهرة ملازمة للاجتماع الثقافي العربي والإسلامي المعاصر، ونظرا لارتباط مشكلة الثقافة عموما ومسؤولية المثقف تحديدا بأي أزمة أو مأزق سوسيوثقافي، يتوجب علينا تسليط الضوء على صور مثقف التخلف لمحاربة دوره في تعطيل أي تقدم أو تفكيك وتشخيص لأزمات الواقع العربي والإسلامي العام، كما أن الحاجة لتعرية المثقف المزيف تعد ملحة وأساسية في مسارات الإصلاح والتجديد والتغيير وفتح المآزق وحلحلة الأزمات، لأنه أي ظاهرة ترتبط بصور زائفة وتمويهية يكون تحليلها وتجاوزها عصيا بدون تمحيص بنيتها ونظامها وآلياتها وانساق نتائجها، وبالتالي لابد من تحديد صور مثقف ظاهرة التخلف حتى لا تلتبس علينا الامور ولا تستحكم فينا مطارحات واشعار مثقف التخلف وأفكاره الميتة والقاتلة التي لا تزال ترسخ قيم الرجعية والاستبداد والتمويه والتسقيط وبرمجة العقول على موجات التبعية والطائفية والتكفير والاحاديات الأيديولوجية وتلميع صور الطغاة والظالمين والعابثين بالأديان والمذاهب والاوطان والإنسان في عالمنا العربي والإسلامي..

معنى التخلف:

التخلف ليس ظاهرة اجتماعية فقط وإنما ذات علاقة بماهية الثقافة والآخر وصراع الهويات والإرادات فكما جاء في قراءة تحليلية نقدية للاستاذ محمد المحفوظ لظاهرة التخلف الثقافي بصحيفة الرياض

التخلف يعني لغويا: القعود أو العجز عن مسايرة الركب، وفي المعنى الاصطلاحي، هو التأخر الزمني والقيمي والسلوكي عن ركب الحضارة. فالإنسان أو الجماعة، حينما تكون القيم السائدة في حياتهما، تدعوهما إلى التكلس والجمود والرتابة، ويبرر لهما واقعهما المتأخر والسيئ يطلق على هذه الحالة مصطلح التخلف.

نكتفي بهذا القدر من قراءة الأستاذ المحفوظ، حيث المستفاد من مفهوم التخلف في دلالته الإصطلاحية في بعدها الثقافي، هو كل مظهر من مظاهر الرجعية والتأخر والعجز عن التقدم في مجالات التمدن والتحضر أو إعاقة وتعطيل وتشويه وتسقيط مشاريع الإصلاح والتجديد، مما يعني أن التخلف يكون شاملا وشموليا فيصبح المجتمع تابعا وقابلا للاستحمار (مصطلح للدكتورعلي شريعتي) والاستدمار(مصطلح للدكتور الجزائري مولود قاسم نايت بلقاسم) وللاستعمار (كما نظر لذلك المفكر مالك بن نبي في تحليله لمشكلات الثقافة والحضارة)، اي أنه كل مثقف يعمل على تكريس ظاهرة من ظواهر التخلف أو تبريرها أو محاولة تزكيتها وتغليفها بغلاف التحضر والوعي والإصلاح أو تقديسها عبر تحوير وتوجيه عكسي لمقاصد ومعاني النصوص الدينية، يصنف ضمن نادي مثقفي التخلف..

التمييز بين ثقافتي التخلف والإختلاف:

يجب التمييز بين ثقافة التخلف كتركيبة سلبية تكرس الخلاف بكل أشكاله، وثقافة الاختلاف تفاعل إيجابي يهدف إلى تنمية الوعي والتعاون والنهوض والابداع والتكامل، لذلك فإن المجتمعات العربية والإسلامية، لا يمكنها النهوض والتطور والتقدم اذا استمرت بالخضوع إلى تأثيرات ومفاعيل التخلف الثقافي ولم تنتبه وتكتشف مقومات التغيير وأدبيات الاختلاف واستراتيجيته في مشوار التجديد والتنمية الثقافية..

نشأة مثقف التخلف:

من الطبيعي أن تعرف المجتمعات القابعة في أوحال التخلف الثقافي على جميع المستويات أنماط من مثقفي خدمة هذا التخلف، بحيث تشهد تدني وإعاقة في قيمة النمو بشتى تمثلاتها في الفكر والأدب والعلوم والصحة والقانون والإقتصاد والرياضة والفهم الديني والفنون وما هنالك من ميادين الحياة، نظرة وممارسة، أشكال من المثقفين على منوال هذا التردي وضمن خط طول مسار التخلف وليس عكسه، خدمة لمصالح ذاتية وخاصة، تستفيد من هذا الانسداد في حركة التغيير والتجديد والتنوير والتحرير والعقلانية، عبر ترسانة أفكار وخطابات وعلاقات وصحف ومقالات وكتب وإعلام ومنابر مأجورة دينية وسياسية، لا تعرف سوى تلميع العفن وشيطنة التجديد والإصلاح والتنوير وتبرير أشكال الهيمنة والتمويه والتعطيل لعجلات الوعي والنهوض والمدنية والمعاصرة..

ومثقف التخلف ينشأ ضمن أطر منظومة ثقافية فاسدة جذورها تعود : إما لخلل تربوي بالأساس، أو صدمة اجتماعية او رهاب سياسي او سمسرة أيديولوجية او تبعية ثقافية، وهذه الحالة تتعاظم مع تضخم شخصيته بحيث تصبح تلازمه في إدارته لمصالحه وعلاقاته وتتطور الحالة بأن يصبح هذا المثقف عميلا تحت الطلب لدى رواد أسواق الرداءة والأسطرة والخرافة والادلجة والاستبداد..

صور مثقف التخلف:

بادئ ذي بدء لابد من القول أنه ليست هناك مفارقة بين الثقافة وصور المثقف، بل هناك حالة تطبع حيث تمثلات المثقف هي انعكاس في جوهرها لمقتضيات ثقافته الحقيقية. وحينما تبرز المطابقة بين ثقافة ما ومروجها، تتشكل طاقة تسويقية للمادة الثقافية تتوقف على مدى فاعلية مثقفيها في الترويج ودرجة الاستثمار لهذه الثقافة ومن خلال هذه المقاربة نحاول التقاط صورا لمثقف التخلف مع العلم ان مثقف التخلف في أغلب صوره انتهازي ونفعي وإيديولوجي وتحيزي يتقلب حسب الطلبات والرهانات والمصالح:

المثقف الهيجموني**: هذا أخطر مثقفي التخلف لأنه يؤسس أنظمة التخلف وخبير في فلسفة التخلف وكل الصور الأخرى بشكل أو بآخر تتحرك ضمن ثقافته الفاسدة واللااخلاقية والأقرب إليه هو المثقف الطائفي إما عن إدراك أو دونه، علما ان التخلف كثقافة مبرمج ضمن أنساق ثقافية محددة وخيارات ووسائل ومؤسسات تم توظيفها ضمن تقنيات دقيقة لنشر ظاهرة التخلف وقيادتها..

المثقف المهني: تعج به المؤسسات التعليمية والجامعات العربية أكادميين بدرجة أساتذة وباحثين، هم والبحث العلمي اثنان، حيث بيع النقاط والمناصب ورسائل التخرج وأطروحات الدكتوراه والمقالات العلمية وملاحقة الدرجات دون ادنى نتاج او فعل ثقافي مؤثر وللعديد منهم سرقات كلية او جزئية عبر الترجمة او مباشرة واستيلاءات على بحوث ودراسات لطلبة تحت إشرافهم، هؤلاء يصنعون ضمن ثقافة التخلف مساحة واسعة لأننا نجد حضورهم ليس في أماكن الوظيفة والعمل فقط ولكن حيثما وجد السخاء التخلفي ويبررون الواقع بحيادهم الممنهج ويتشدقون بالقيم والمبادئ ..

المثقف التبجيلي: وهذا ثقافته تلميع العفن وتزيين الشناعة وتضخيم الأقزام وتبييض السواد وقلب المفاهيم وتزييف الحقائق، يتمركز في دوائر الإعلام ومنابرالسياسة والتدين..

المثقف الخرافي: هذا ميدانه الخصب هو الديماغوجية سواءا في فضاءات التدين أو مجالات الأيديولوجية، يجتهد في عقلنة الأساطير، إضفاء القداسة عليها وتأصيل الخرافة وتمكينها اجتماعيا في سبيل تجفيف منابع الوعي السليم واستمرار الاستحمار وفي الغالب هذا المثقف يكون متمكن من أساسيات سيكولوجية الجماهير ونظم قيادة القطيع..

المثقف الطائفي أو العدواني: ثقافته الأساسية تجميع السلبيات والزلات والانحرافات الشخصية والفئوية وخاصة التاريخية، يمتاز بالنزق وقلة الحياء والتجلبب بمظاهر التدين أو الاوسمة المبتاعة من أروقة الجامعات والمنظمات والمجاميع والحوزات وما هنالك، كثير البروز في الاعلام الفتنوي، يستخدم في بعض الأحيان الخطاب الحداثي وفنون الاقناع التمويهي، مادته الدسمة تشويه الآخر المغاير وأخطر تمثلاته، العقائدي الذي ينافح في تبرير الإرهاب وتسقيط الآخرين دينيا عرقيا ومذهبيا وسياسيا..

جماع المقال: دون الخوض في هرطقات -بحسب تعبير المرحوم جورج الطرابيشي- التمويه التي يتقنها مثقف التخلف حول جدلية فردية التخلف او جماعيته، المثقف او الشعب، هذه لعلها أبرز صور مثقف التخلف التي تحرض على محاربة خطابات الإصلاح والتجديد والتمدن وقيم التسامح والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية في المجال العربي المعاصر.

والمفترض أساساً أن تفكيك ظاهرة مثقف التخلف ومواجهته هو من أولويات المثقف المهتم بحاجات شعبه وأمته العادلة والحضارية، لأن المحرك الأساسي لثقافة التخلف إجتماعيا هو المؤطر لهذه الثقافة والقائم على حيويتها وتفشيها، فلا يمكن اختراق ظاهرة التخلف قبل تحييد القائمين عليها والعاملين من أجل استمرارها، هذه بعض التصورات الأولية في تحديد أنماط مثقف التخلف. وأهم ما كشفت عنه هذه التصورات هو انتظام مثقف التخلف إما في أنظمة الاستبداد كلها والسباحة وفق تياراتها، أو الحيادية السلبية، أو القابلية للاستحمار.

 

مراد غريبي: كاتب وباحث في الفكر

.........................

(**) نسبة للهيجمونيا، أي أنظمة الاستبداد والغَلَبة بحسب ابن خلدون، ونماذج مثقفين واجهوا الهيجمونيا (فرانز فانون وألبير كامو وإدوارد سعيد وإيمانويل تود).

 

 

في هذه المقالة هناك محاولة للإجابة عن الأسئلة التالية:

1) هل تُعتبر فلسفة الأنوار حركة فكرية تختص بالبلدان الغربية أم أنها تُعنى بالوضع الإنساني ككل وأن مفاهيمها وانشغالاتها لها علاقة بمختلف المجتمعات الإنسانية، بما في ذلك البلدان العربية والإسلامية؟

2) هل الأوضاع الفكرية والسياسية والاجتماعية في العالم الإسلامي تستوجب طرح سؤال الأنوار؟

3) هل تُعتبر العلمانية الثقافية شرطا من شروط تحقق الأنوار؟

٤) هل توجد في المصادر الإسلامية الأساسية مفاهيم ومبادئ تنفتح على قراءة تحبّذ الانعتاق المعنوي وتحقيق الرشد، واللذان يختصران فلسفة الأنوار؟

ما الأنوار؟

تُعتبر فلسفة الأنوار حركة فكرية بدأت مع عصر النهضة في أوروبا في منتصف القرن الخامس عشر وبلغت سؤددها الفلسفي في القرن الثامن عشر على أيدي فلاسفة أوروبيين أبرزهم إيمانويل كانت (وليس كانط حسب تعريف الإخوة المغاربة). وفقا لتوصيف كانت لفلسفة الأنوار فإنها تهدف الى رفع الوصاية المعنوية عن فكر الإنسان وعدم إعطاء الآخرين حق التفكير بالنيابة عن الفرد. فالناس تعرف الحقيقة ولكن تخاف من إتخاذ موقف أخلاقي تأسيساً على ما عرفته من حقائق بسبب تخويف رجال الكنيسة لهم من أن التفكير الحر، خصوصا ذلك الذي يحرّر الإرادة، يؤدي بالإنسان الى الهرطقة والضلال والنار. وهكذا كان آباء الكنيسة يمارسون سلطة معنوية على عقل الإنسان الأوروبي تمنعه من السيادة على عقله لأهداف جلّها دنيوي وسلطوي. وبسبب ذلك كانت اوروبا في القرون الوسطى تسبح في الظلمات حيث تنتشر الخرافات التي تروّج بإسم الدين وتتعطّل الطاقات والإمكانيات المودعة في فطرة الناس بسبب هذا الكبح الداخلي والتخويف الباطني من إنعتاق الإنسان وسيادته على عقله.

يُطلِق كانت على حالة الانعتاق المعنوي من سلطة الآخرين مصطلح "الرشد" والذي يختصر فلسفة الأنوار. فإنسان ما قبل "الرشد" يعيش حالة من الطفولة المعنوية إذ يشعر داخليا أنه بحاجة لإذنٍ من الآخرين لتوجيه تفكيره لكي يكون آمنا، ووفقا لاصطلاحنا "مبرئ الذمة": إذن الأب على صعيد العائلة وإذن رجل الدين على صعيد المجتمع وإذن الحاكم على صعيد الدولة. وأكثر من حالة الطفولة المعنوية فإننا لو اعتبرنا أن حقيقة الإنسان تتمثّل في حرية الإرادة واستقلالية العقل والسيادة على الوجدان فإن انسان ما قبل الأنوار لم يولد بعد بسبب تعطل المزايا التي تحدّد إنسانيته وتميّزه عن باقي المخلوقات. (ولنا أن نقارن هذا التوصيف للرشد مع الطرح القرآني للحياة الحقيقية التي يمنع من تحققها التقليد وإطاعة "ساداتنا وكبراءنا". وقد يشكّل ذلك مدخلا مهما لفهم إسلامي لفلسفة الأنوار، بل للتصالح معها وتبنّيها).

هذا الانعتاق التدريجي من سلطة رجال الدين سوف يؤدي لاحقا الى بروز ظاهرة من أبرز سمات الحداثة ألا وهي ظاهرة التمايز (differentiation) حيث تمتاز الحقول الاجتماعية عن بعضها البعض وتصبح قائمة بذاتها وتبني علاقة مستقلة مع الحقول الاجتماعية الأخرى وتتوّج هذه العملية بفصل الدين عن الدولة.

إن مفهوم الرشد يسير جنبا الى جنب مع فلسفة الذات (subjectivity) والتي تعني إتّساع إشراف الذات الإنسانية على ذاتها وعلى ما حولها بحيث يصبح الأنسان حرّا، ناقدا، فاعلا في المجتمع، هادفا الى تغيير محيطه لصالحه ولصالح مجتمعه، مهتما بحقوقه أكثر من إهتمامه بواجباته. إن حرية الفكر وحرية النقد وحرية الفعل هي المبادئ التي سوف تؤسس عليها لاحقا حقوق المواطنة وبزوغ فجر العصر الحديث.

ان مبدأي الرشد ونموّ الذات الإنسانية يمثلان روح الحضارة الحديثة وأساس نهضة الغرب واللذان سمحا للدول الغربية بتحقيق هذا التقدم الهائل في شتى الميادين والتسيّد على العالم بحيث أضحت الحضارة الغربية هي الحضارة الرائدة والمهيمنة في شتى الميادين. ولذا يُعتبر تجاهل هذين المبدأين المهمّين بمثابة العيش خارج حركة الحياة والترجّل من قطار العصر. ولقد بدأ بعض المثقفين الجادين في العالم الإسلامي بالتنبه الى أهمية هذين المبدأين وموقعهما في المنظومة الفكرية الإسلامية وما إذا كانت القراءات الجديدة للمصادر الإسلامية الأساسية تنفتح على فهم يستسيغ الحوار معهما وتوظيفهما في عملية النهوض المنشودة في العالم الإسلامي. ولعل المفكر المرحوم محمد إقبال هو أبرز من تنبّه إلى أن فلسفة الذات تمثّل روح الحضارة الحديثة وأساس نهضتها فراح يأصلها في المصادر الإسلامية أو بالأحرى راح يستحضر المبادئ والمفاهيم الإسلامية التي تؤيد فلسفة نهوض الذات، أو (خودي) بالتعبير الفارسي، زاعما أن التأصيل الحقيقي لفلسفة الذات في الواقع الإسلامي لن يؤدي الى النهضة المنشودة فحسب بل الى تلافي المخاطر والانتهاكات التي نتجت عن نمو الذات الغربية التي أدّت، إضافة الى التقدم العلمي والتقني والفكري... أدّت الى استغلال الأمم الأخرى وتدمير البيئة في حين أن المبادئ الإسلامية كالعدل والرحمة والائتمان تجعل الإنسان المسلم لا ينمّي ذاته على حساب الآخرين.

واقع الحال في العالم الإسلامي

ونحن إذا ما نظرنا إلى أوضاع العالم الإسلامي نجد أن سمة التأخّر والانحطاط هي أكثر ما يميّز تلك المجتمعات. فنحن نقع في أسفل السلّم وفقا لكل مؤشرات التنمية والأرقام في هذا المجال مرعبة. فإذا أخذنا من باب المثال بلدا مثل إسبانيا، والذي يُعتبر متأخّرا نسبيا وفقيرا نسبيا إذا ما قيس ببلدان أوروبية اخرى أمثال بريطانيا وألمانيا وفرنسا، نجد أن الناتج القومي الاجمالي (GDP) لإسبانيا أعلى من الناتج القومي الإجمالي للبلدان العربية مجتمعة بما في ذلك البلدان المصدّرة للنفط. من جانب آخر نجد أن "إسرائيل" تنفق على البحث العلمي أكثر مما تنفقه دول العالم العربي مجتمعة، وأن بلدا مثل بلجيكا، والذي يبلغ تعداد سكانه حوالي أربعة عشر مليون نسمة، يترجم كتبا من وإلى لغته الأم اكثر مما يترجمه العالم العربي مجتمعا. هذا بالإضافة الى تفشّي الظلم والدوس على حقوق البشر وسرقة أموال الناس من قِبل أنظمة صنعناها نحن استنادا لأيديولوجيات قومية أو يسارية أو دينية.

هذه الأوضاع والأرقام المبيّنة أعلاه لم تأت من فراغ بل إن أسبابها تقبع في بنية العقل العربي-الإسلامي الذي عجز عن الانتاج والابتكار والمساهمة في الحضارة العالمية منذ قرون واكتفى إما باجترار ما تركه الاقدمون أو نقل ثمرات الفكر الغربي وتسويقها على أنها ابتكارات محلية أو القيام بمحاولات هجينة للجمع بينهما تُنتج ما يُطلق عليه داريوش شايغان "الانفصام الثقافي للشخصية".

ويبدو أن مشكلة العقل الإسلامي تكمن في التالي:

معوّقات العقل الإسلامي

1) غياب الرشد وغلبة الوصاية على عقل الإنسان المسلم من قِبل الأب على صعيد العائلة والزعيم أو رجل الدين على صعيد المجتمع والحاكم على صعيد الدولة، فالأب يخوفنا من العقوق إذا ما استعملنا عقولنا بطريقة مستقلة خصوصا إذا كانت تحُدّ من سلطته شبه المطلقة على افراد العائلة، والمعمم يخوّفنا من الوقوع في الضلال إذا ما حاولنا أن نفهم ديننا ونطبقه وفقا لفهمنا الخاص، والحاكم يخوّفنا من الوقوع في الفتنة والفوضى إذا ما ثرنا على ظلمه وطغيانه. وهكذا تُنتج أمّةٌ مشلولة، منزوعة الإرادة، تعيش حالة من الطفولة المعنوية، يقرّر مصيرها أفراد عوضا عن اشتراك كافة قطاعات المجتمع في البت في الشؤون المهمة والمصيرية. هذه الوصاية المعنوية على العقل هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن غياب التفكير النقدي في مجتمعاتنا، والتي تعتبر من السمات الرئيسية للدول المتقدمة.

2) عدم التّحلي بالشجاعة العلمية في عملية البحث العلمي والتي تتطلب الإذعان للحقيقة حتى ولو كانت تخالف المسلّمات الفكرية والعقدية. فنحن عندما نبدأ بعملية البحث العلمي تكون الأجوبة معدّة سلفا في أذهاننا وتُختصر عملية البحث بمحاولة إيجاد مصاديق لها في الواقع الخارجي وأحياناً كثيرة تطويع الواقع لكي ينسجم معها. ولذلك يكثر في أبحاثنا وفي ثقافتنا بشكل عام التمويه والازدواجية والتقية والمصادرة ولي عنق الحقيقة. وهذا من اكثر الأمور التي تعيق البحث العلمي والابتكار والاكتشاف. فإذا كان الانسان يعتبر أنه قابض على الحقيقة فما هو الشئ الجديد الذي يمكن أن يكتشفه أو يضيفه إلى صرح المعرفة؟

3) الخوف من اقتحام الأماكن المبهمة والمشكلة في تراثنا خشية أن تُفضي الى نتائج لا تنسجم مع المسلّمات الفكرية، وإعتماد التاريخ الأسطوري عوضا عن التاريخ الموضوعي والعلمي. وهكذا تُنفى هذه الأمور المبهمة والمظلمة في فكر الإنسان المسلم الى مستوى اللاوعي وتصبح من "اللامفكّر فيه" أو "ما يستحيل التفكير فيه".

4) غلبة الاهتمام البياني والبلاغي في الخطاب الفكري بحيث أن الخطاب ينبغي أن ينسجم إما مع قوالب لغويّة تضفي عليه محسّنات بديعيّة وأحيانا سجعيّة على حساب الحقيقة، أو أن ينتهي إلى قوالب فكرية محددة سلفا.

هذه العوامل المذكورة أعلاه لا بدّ أن تنتج أمّة خاملة، متثائبة، قليلة الإنتاجية، تلقي بأزماتها ومشاكلها على عاتق الغيب. ولكن، وبالرغم من هذه الأوضاع التي يمرُّ بها العالم الإسلامي، والتي أقل ما يقال عنها أنه لو أتيح للغالبية من أهله أن يتركوا بلدانهم ويهاجروا الى بلدان لا تُداس فيها حقوقهم وكراماتهم لفرُغ العالم الاسلامي من أهله أو كاد، بالرغم من هذا كله، هل توجد في القرآن مفاهيم ومبادئ يمكن استثمارها لصالح خروج الانسان المسلم من حالة الخضوع والوصاية وتحقيق الانعتاق المعنوي والرشد الفكري اللذان يعتبران الاساس الناجع للنهضة الحقيقية، لأن مشكلتنا لا تكمن في عدم وجود المؤسسات والقوانين لأنه يوجد لدينا مؤسسات حديثة لا تسري فيها روح الحداثة ودساتير وقوانين وبرلمانات لا تسري فيها روح الديمقراطية؟

في رأي كاتب هذه السطور أن هناك مفاهيم في القرآن تنفتح على قراءة تحبذ الرشد المعنوي بشكل لا لبس فيه والتي يمكن أن تتلخص بالأمور التالية:

مصادر التنوير في القرآن

1) خلافة الإنسان

من المفاهيم المهمة التي يطرحها القرآن مفهوم خلافة الإنسان وأن المشروع الإلهي يهدف إلى جعل الإنسان ممثلا لله على الأرض وحاملا لهذا المشروع مما يمنحه مسؤولية كبيرة ويعطيه دفعا كبيرا ويزوده بطاقة معنوية هائلة إذ يعتبر نفسه سفيرا لله في الأرض، ساعيا إلى تحقيق الأهداف الكبرى التي تتمحور حول إقامة العدل وتهيئة الظروف الملائمة لاستثارة الطاقات الكامنة والاستعدادات الكبيرة المودعة في فطرته. وربما لا يلتفت الكثيرون أنه وفقا للفهم القرآني فإن الإنسان هو الذي يُعتبر خليفة الله في الأرض وليس النبي أو الإمام أو المرجع، فاءن هذه الفئات الثلاث قد تتبؤ مقام الخلافة بشكل مؤقت، إعدادي، ريثما يحقق الإنسان سيادته على نفسه ويخرج من حالة الحضانة المعنوية. ووفقا لهذا الفهم صيغ كتاب الشهيد محمد باقر الصدر (خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء).

٢) ختم النبوة

يمثّل موضوع ختم النبوة حدثا فريدا في تاريخ البشرية والذي يؤذن بخروج الإنسان من حالة الوصاية، فبعد إنقطاع. الوحي لا يحق لبشر أن يحكي عن الله وأن يعتبر أن كلامه صادر عن الله، وفقا لمحمد إقبال. وهذا يعطي دفعا كبيرا للإنسان لأخذ زمام المبادرة وإعمال عقله ومحاولة تحقيق المشروع الإلهي وفقا لما يستجدّ من أمور ويتغير من ظروف.

وحتى في حياة النبي، وفقا للمرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين، يمكن للإنسان المسلم أن يتصرّف وفقا لإرادته دون حاجة لإذن النبي في أمور ثلاثة مهمة وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والشورى والواجب الكفائي.

٣) غلبة المنهج الاستقرائي على المنهج الاستدلالي

من الأمور الغريبة والبالغة الأهمية في القرآن غلبة المنهج الاستقرائي على المنهج الاستدلالي في موضوع المعرفة. فمن  معالم المنهج الاستدلالي أن ينطلق الانسان من فكرة ما أو نظرية ما في ذهنه ثم يفتّش لها عن أدلة في الخارج. وهذا المنهج المعرفي لا يخلو من لوثة الايديولوجيا ومحاولة تطويع الواقع لينسجم مع القناعات المسبقة. وخلافا لذلك فإن المنهج المعرفي في القرآن يدعو، وفي آيات عديدة، الى التأمّل والمقارنة والتجربة والاستنتاج أو أخذ العبرة، وهذه الأمور تُعدّ من مقومات المنهج الاستقرائي. ومن الغريب ايضا أن علماء الغرب في ما مضى من قرون أخذوا هذا المنهج العلمي عن علماء المسلمين وأسّسوا عليه حضارتهم حيث تمكنوا من إحراز تقدّم علمي هائل سيطروا على العالم من خلاله. ويبدو أننا نحن المسلمون أهملنا هذا المنهج وحاربنا رديفه على الصعيد الفلسفي المتمثّل بالفلسفة الرشدية التي تحاول أن تُعلي من شأن العقل وجعله يقوم على قدميه دون الحاجة الى عكّازة ميتافيزيقية، فحصل عندنا هذا التأخر والانحطاط.

٤) غلبة فلسفة الصيرورة على فلسفة الوجود:

من الآثار السلبية للفلسفة الاغريقية، الأفلاطونية بشكل خاص، على مجمل تجليات الفكر الاسلامي فلسفة الوجود التي تعتبر أن العالم الحقيقي والواقعي هو في مكان آخر غير العالم الظاهري الذي نعيش فيه وأن هذا الأخير ليس إلا انعكاسا وصدىً لذلك العالم الواقعي والذي يسمونه تارة بعالم المثال وأخرى بعالم الملكوت. فإذا كان الانسان يعتقد أن الأمور المهمة والمصيرية قُررت في عالم آخر سابق على العالم الذي نعيش فيه، أو موازٍ له بطريقة ما، فإن هذا يدع إلى الخمول والتواكل وعدم الانتاجية وإلقاء الأمور على عاتق الغيب. وهذه المفاهيم تسرّبت الى المنظومة الفكرية الإسلامية، خصوصا العرفان، حيث يصرّح أحد أساطين هذا الفن " إن الناس تخاف من خاتمة هذا الأمر ونحن نخاف من بادءته. هذا في حين أن المفهوم الصحيح ينبغي أن يكون أن الانسان يصبح قريبا من الله أكثر من خلال التحول والتبدل والنمو والتطور بحيث أنه يخرج من قشرة التبعية والقصور ويصبح لائقا بحمل المشروع الالهي. ومن الأمور المفيد استحضارها في هذا المجال أن العالم المسيحي في القرون الوسطى كان متأثرا ايضا بهذا المفهوم وأنه لم يحقق نهضته وحداثته لاحقا إلا بعد أن تخلىّ عن هذا النظام الفلسفي واصبح ينظر الى العالم الذي نعيش فيه على أنه العالم الحقيقي والواقعي.

خاتمه

يعيش العالم الاسلامي اليوم فترة انتقالية تنشد فيها شعوبه التغيير في شتى الميادين. ولقد قامت مشاريع نهضوية مختلفة في العالم الاسلامي من أجل التغيير ذات خلفيات قومية واشتراكية ودينية لم تفلح في إيجاد النظام السياسي العادل، مع أنه يُسجّل للحركات الاسلامية غير التفكيرية أنها كانت الأنجع في مقاومة العدو الخارجي وأن الدولة الدينية في إيران لحد الآن هي الأنجح في مقاومة المشروع الغربي الاستعلائي، مع عدم قدرتها على إيجاد النظام الداخلي العادل الذي يمثّل طموحات الشعب. وينبغي عدم التقليل من الإنجاز المتمثل بالوقوف في وجه المشروع السلطوي الغربي لأربعة عقود إذا أخذنا بالاعتبار أن الإتحاد السوفيتي الذي كان يمتلك إمكانيات هائلة عسكرية واقتصادية وجيواستراتيجية، والذي كان يمتلك جهازا أمنيا واستخباراتيا يسخر من الأجهزة الأمنية الغربية مجتمعة، لم يستطع الصمود أمام النظام الغربي وتهاوى في النهاية وتلاشى.

ونحن إذا نظرنا الى خلفيات النهضة الغربية التي بدأت قبل حوالي خمسة قرون نجد أن العوامل التي كانت مسؤولة عن تأخر الغرب والمتمثلة بالقصور المعنوي والوصاية وخضوع الذات الغربية للتوجيه من خارج ذاتها نجد أن هذه العوامل تمثل حالة تعتري كافة المجتمعات البشرية ولا تختص بالانسان الغربي فحسب وأن ما يقابلها من رشد معنوي وتسيّد على الذات والتي شكّلت أساس نهضته هي ايضا تُعنى بالوضع الانساني ككل وأن الأخذ بها قد يعتبر بداية الطريق باتجاه التحرر والانعتاق اللذان يؤديان في نهاية المطاف الى النهوض بالمجتمعات والخروج من حالة التأخر والتبعية. ولقد حاول كاتب هذا المقال أن يشير فيما تقدم الى أن القرآن يحتوي على المصادر الروحية والفكرية التي تحبّذ الخروج من حالة الطفولة المعنوية وأخذ زمام المبادرة والاضطلاع بمسؤولية حمل المشروع الالهي الذي يعطي دفعا هائلا لنمو الذات وتحقيق الرشد.

ولعل الطرح القرآني في ما يتعلق بالحياة الحقيقية والذي من بعض تجلياته عدم إطاعة "السادات والكبراء" وتحطيم الأصنام التراثية والسلطوية على أنواعها والتي تحول بين الانسان والحقيقة يلتقي في أوجه كثيرة مع مفهوم الرشد الذي يعتبر بمثابة البنية التحتية لنهوض الغرب (وهذه المسألة بحاجة الى بحث وتأصيل أكثر).

إن كل كلام عن دولة القانون وحقوق المواطنة واستقلالية القضاء والتي تُختصر بالنظام الديمقراطي دون البحث في المسائل السابقة الذكر والمتمثلة بالرشد ونمو الذات وتأصيلهما ضمن المصادر الدينية الرئيسية هو بمثابة النقش على الماء أو الكتابة على الرمال التي سرعان ما تتلاشى وتنمحي. وبناءً عليه، ينبغي العمل على إقامة ورشة فكرية كبيرة لتبيان ماهية سؤال الأنوار وموقعنا منه.

 

د. عماد بزي

 

 

سامي عبد العالنتيجة أنَّ التنوير ليس ذا سياقٍ في شرقنا العربي الإسلامي (وهذا يسبب إساءة الفهم المُزْمِن للظروف التاريخية)، فقد أفرزَ الواقعُ ظواهر زائفةً. ليس أقلُها وضوحاً وجود شخصيات (غير مستنيرةٍ) تتكلم وتلهج (بعبارات التنوير) طوال الوقت. والمفارقة تقول على طريقة المثل الشعبي: (القرعة تتباهي بشعر بنت أختها). فبفضل شيوع التخلف والفقر الفكري (الصلّع الثقافي)، يرفع هؤلاء السطحيون (لافتات براقة) لمواكبة المُودّة، وإحراز الحُظوة لدى أصحاب الأموال والصولجان. هم شخصيات زلقة (مُخاطيّة) ومتسلّقة وجدت في مقولات التنوير (وأفكارها الرمزية في الغرب: الحرية والنقد والتفكير العلمي والعقلانية والحداثة والتقدم ومحاربة الخرافة) نوعاً من الإكسيسوارات والأقنعة. إكسيسوارات يتم ارتداؤها في حفلات ومؤتمرات (المثقفين والكتاب) المتربحين بالكلمات الحداثية وسط محيط من (رمال الجهل) الوثير والناعم.

هؤلاء أخطر على الثقافة من (المتطرفين والإرهابيين)، على الأقل قد نستطيع معرفة مرجعية الإرهابي، وقد ندرك أين يكمُن الخلل في جهازه الفكري والأيديولوجي، أمَّا (التنويريون المزيفون)، فليس لهم كيانٌ ثقافيٌّ ولا مرجعية واضحة ولا قيم معيارية ولا قوام فكري متماسك، فضلاً عن كونّهم (كائنات سرابية) تخاتل في حضور الشمس وتتلاشي مع غيابها، وعند حلول (ظلام المجتمعات) ينطلقون إلى (العربدة الثقافية المُتلفزة) على شرف كل القيم والمعايير التي يفترضها العقل والفكر الحر. والقانون التاريخي يقول: طالما أنَّ واقعاً قد أفرز أشخاصاً في صيغ كليةٍ (أي عَمّمَ الجزئي ورسّخ الخاص)، فليست هناك من إضافاتٍ حقيقية وخصبة لبنية الثقافة وأن النتاج والحصاد سيكونان من جنس ما زَرَعَ.

لقد بدا فضاء الثقافة العربية كـ (حفلة تنكُّرية) واسعة الأرجاء ومترامية الأطراف من المحيط إلى الخليج، ومن عصر التدوين الكتابي في القرن الثاني الهجري إلى عصر التدوين الإفتراضي الديجيتال بعد القرن العشرين. وبفضل هذا الكم الهائل من (المثقفين المزيفين)، اختلطت الوجوه، وغابت الأصالة، وانحطت المعايير، وبات مدّعو التنوير صانعي (أحذية وأقنعة) بالوقت نفسه. أي غامت واختلطت معالم الرؤوس والأقدام، فهم صانعو أحذية لكونهم يدفعوا الناس لإرتياد أرض يرونها الأنسب للمآرب والمصالح، وهم صانعو أقنعة لكونهم يبدلونها بين ليلة وضحاها بحسب الرائج منها والقابل لحصد الألقاب والأوسمة والأموال.

الوضع يثيرُ أسئلةً أكثر عمقاً بشكل عام: متي يكون التنوير مزّيفاً في بعض المجتمعات؟ ولماذا لا يرى (هؤلاء التنويريون) واقعاً أكثر تدهوراً مما نتصور؟ بصورة مقلوبة: كيف يمكن لتفكيرنا الفاعل أن يمت إلى الواقع بصلة مؤثرّة؟ وما طبيعة هؤلاء التنويرين المزيفين في حياتنا المعاصرة؟ وإلى أي مدى أسهموا في (حالة الانحطاط) الجاثمة فوق أنفاس العرب والمسلمين؟!

أولاً: لم يطّلع (هؤلاء المزيفون) على أصول التنوير الغربي من مؤلفات الفلاسفة والتنويرين الكبار وتاريخ المجتمعات الغربية والنظريات العلمية الحديثة وتحولات الفكر الديني الموازي. لم يقرأوا النصوص والأفكار والنظريات المؤسسة للحداثة وتطوراتها. فقط هم يلتقطون مصطلحات حداثية ويرددونها كأنَّها (علكة) غير قابلة للذوبان. ببغاوات تنادي على بعضها البعض معتقدةً أن العالم كله كامن في أصواتها المكررة، ويلقونها بحرفيّة بإلتواء اللسان تحت أسماع المتلقين، كأنهم يتلون كلاماً مقدساً هم وحدهم الممسكون بأسراره. كما أنَّ ضعف قدراتهم الفكرية جعلهم تقليديين في ثوب حداثي مفارق!!

ثانياً: قي المقابل لم يعِ التنويريون المزيفون مشكلات الثقافة العربية الإسلامية ولا المتغيرات الطارئة عليها ولا كيف أنتجت تاريخها العميق والممتدد. لأنّ مواقفهم مبنيةٌ على اهتبال الفرص تلو الفرص نحو التربح. واللصوص دائما ينظرون إلى أية نافذة مفتوحةٍ للتسلل إلى داخل القصر لخطف ما يقع تحت أيديهم، ولا يعنيهم من قريب أو من بعيد هندسة المكان وقواعده وزواياه العميقة والشامخة وكيف تتأسس. فليست تلك القضايا هي الأهم، القضية كيف يتم هذا النهب الثقافي المنظم لرأسمال رمزي (مثل التراث والفكر والحضارة والأدب والفلسفة والتصوف) ليسوا هم إلاَّ أحد مبددي ثرائه وإبداعاته مقابل مكاسب عاجلة.

ثالثاً: انخرط هؤلاء المزيفون في تجمعات مدنية وعلمانية وصداقات عمل وصفقات مع مؤسسات دعاية وصحافة وإعلام، في خطوة يعرفونها جيداً (هم ونحن) كحلقات خاصة بديلة لجماعات الإرهاب. وكأنّهم يؤسسون نحلةً أومذهباً أو لاهوتاً جديداً في أسواق الحياة العامة. ولهذا هم حريصون دوماً على (التجمعات الذبابية) فوق (العُري الثقافي) الذي تعيشه مجتمعاتنا التعيسة.

رابعاً: تدريجياً يتحول التنويريون المزيفون إلى (شِلل وعصابات وأرتال وأرْهاط وظيفية)، وهم المجموعات أقرب إلى التكوين البرجماتي المرتبط بالتربح والمنافع وممارسة الخداع الفكري. يدافعون عن المصالح دفاعاً مستميتاً حتى الرمق الأخير. ويمكن أنْ (يفتكوا) بأي شخص يحول بينهم وبين قطف الثمار.

خامساً: التنويريون المزيفون يدمنون السلطة ويدّعون عكس ذلك. يتعاملون مع تجليات السلطة كحقائق بينما كل شيء آخر لا قيمة له. فقد يكون أحدهم متظاهراً بالإنسانية والتسامح وقبول الآخر، لكنه في واقع الأمر مشبع بفكرة التسلط والاستعلاء الخفي إلى أبعد درجةٍ. وحين يواجه موقفاً كاشفاً، ينحطُّ من عليائه الوهمي كأنه حجر ملق من السماء إلى الأرض.

سادساً: العيش المستمر في (فقاعات ثقافية) تشعرهم بالخيلاء والنرجسية. أحدهم أو آخر قد يحيط نفسه بأتباع وحواريين وأمشاج وأخلاط من الناس أشبه بالعبيد، على الرغم من كون التنوير لا يعترف بإستعباد أي شخص مهما يكن، فلا تنوير حقيقي دون إرادة تحرر ودون عقل مستقل (للمستنبر وللقابل للاستنارة).

سابعاً: مكانة هؤلاء المزيفون من السلطة مثل مكانة (الفطريات) من مواضع (العفن والتحلل)، هم عادة لُّصقاء بالأعلى، عالقين بالأهداب، منتظرين لقيمات في شكل مناصب أو توقيعات مرابحة أو تمرير فعالية براقة حول العلمانية أو المدنية أو برامج التنمية أو نقد الأصوليات لجنى المقابل المادي منها أو نهب فرص الظهور المتكرر في وسائل الإعلام.

ثامناً: هؤلاء المزيفون ليسوا أصحاب (مواقف ومشاريع أصيلة)، بل هم (ظواهر أزمة)، هم (أعراض لأمراض مزمنة)، هم أبناء (كوارث تاريخية) طافحة على سطح الحياة المشتركة. بمعنى كلما حدثت (أزمة) في دولة أو أخرى من دول العرب مثل الإرهاب وتنظيماته، يقفز أصحاب التنوير المزيف لتسّيد المشهد منددين بالارهاب والتطرف. فيصيحون من فورهم بأعلى الأصوات منافحين عن الحرية والدولة المدنية وحماية العصرنة والحداثة دون أن تكون لهم أية (صفات حميدة) من هذه المعاني. والأمر نفسه حدث مع ظواهر (الربيع العربي)، حين خرج التنويريون المزيفون من الشقوق والحفر الإجتماعية، ليغرقوا أرض السياسة وشاشات التلفاز بلعابهم السائل. ونحن نعرف أنّ (ظواهر الانحطاط) تكمل بعضها البعض، فقد يلتقط صحفي أو إعلامي متسلق أحد هؤلاء المزيفين في هذه الحفلة التنكرية أو تلك مُنّصباً إياه مفكراً كبيراً أو مثقفاً عملاقاً!!

تاسعاً: يظهر هؤلاء التنويريون المزيفون كـ (باعة جائلين) في أزقة وحواري السياسة والأنظمة والمؤسسات الحاكمة العربية. والباعة الجائلوين يحرصون على رفع الأصوات إعلاناً عن بضائعهم، كذلك (التنويريون الجائلون) يروجون لبضائعهم أمام السلطة بأعلى الأصوات الفارغة عائدين إلى تصوراتهم وخطاباتهم المرقعة باعتبارها (تحت الطلب). وقد اعتادت الأنظمة السياسية العربية في استعمالهم (كالأحذية) من مرحلة لأخرى، لكن للأسف استخدمتهم لدهس الوعي الحُر وتلويث الأفكار المستنيرة وتعطيل مسارات المجتمع المفتوح ودولة المواطنة والحقوق والعدالة.

عاشراً: هناك (درجات) لهؤلاء التنويرين المزيفين وهناك كذلك مراتب يقفون لديها، فمنهم من يفتح بالتزلف والمرابحة طريقاً واسعاً إلى الشهرة العابرة للدول والمجتمعات ومازلنا نراهم أصحاب حظوة واستشارات وأصحاب مواقع ثقافية وإعلامية مرموقة. وهناك من يشغل مساحتة الإقليمية مرتبطاً بمنابع المصالح والتمرن اليومي على التسلق الخفي. وهناك تنويري مزيف محلي (بلدي وشعبي) يحاكي في سره النماذج الناجحة في قنص المكاسب وابتلاعها وهضمها بسرعة طالباً المزيد. وهذا الأخير قد أُعطي عادة من (السماجة والجمود) ما لم يعط غيره، لكنه يتنصل مما يفعله أقرانه، رغم أنه يسير ضمن الطريق نفسه. وهذا هو السبب في أنه سيظل محلياً سائراً بوقود سري (كان نفسي كذا..) في وجود أرصدته الوافرة من الوقاحة التي تكفل له قفز المراحل قفزاً. وهناك (نصف تنويري مزيف) يمزج عقله ببعض الوقاحات والخرافات المحلية همّه الأساسي أنْ يكون (فتوة الحِتّة أو الحارة) بلغة نجيب محفوظ في رواية الحرافيش. وهناك آخر يشغل موقع (صبي التنويري المزيف) حيث يلتصق به خادماً إياه في سلسلة صاعدة من الأسفل إلى الأعلى، حيث يجثو أصحاب السلطة المباشرة فوق الرؤوس على ركبهم كالكلاب الشرسة.

 (باعة التنوير الجائلون) أصبحوا مشكلة ثقافية حقيقية فوق مشكلاتنا المتوارثة، نظراً لنصب أسواق المزايدات والتنظيرات الراكدة حول أحوال الدول والمجتمعات العربية وحول المعالجات المناسبة لظرفها التاريخي وكيف تعيش عصرها الكوني الراهن، وهم كذلك نظراً في الوقت عينه لتفريغ فضاء الثقافة من المبدعين وأصحاب الأقلام الحرة والأصيلة وملاحقة كتاب الرأي العميق واستأصال شأفتهم. إنَّ الأنظمة الديكتاتورية لا تريد تنويراً حقيقياً ولا أصحاب رأي حر ولا قيماً فكرية جديدة. ولذلك ستجد أن الأقنعة الزائفة تتواتر مع تغير الأنظمة، فقد يركب أحدهم الموجه بوصفه علمانياً متخذا من العلمانية طريقاً دعائياً بينما هو يعبر عن رغبات القطيع التي يحملها ولا يستطيع العيش دونها، ولذلك أيضاً سرعان ما يترك أطر العلمانية في وجهها الإنساني الداعي إلى إحترام الإنسان والإلتزام بالتنوع والحرية والتعددية، وسرعان ما يهمل مسئولية الإبداع والتفكير العميق والإسهام الحقيقي لا الطفيلي على أكتاف الآخرين شرقاً وغرباً.

وهذا ما جعل شعارات العلمانية الآن (هي المودة الرائجة) بعد غسق جماعات الإرهاب الديني، إذ يعلن (بائعوها الجائلون) عن (مساحيق علمانية) لتذويب بقع الدم نتيجة عمليات نحر وقتل الدواعش وتنظيم القاعدة للمسلمين وأهل الأديان الأخرى، ويعلنون عن (عقاقير علمانية) لتقوية المناعة الفكرية ضد التطرف واحتكار الحقيقة، ويعلنون عن عمليات (غسيل دماغ) مجانية لتربية مواطني الدولة على المدنية والليبرالية، ويعلنون كذلك عن (خدمات علمانية ديليفري) لإقامة ندوات ومؤتمرات في مواجهة شيوخ الدين والدعاة الجدد، ويعلنون تباعاً عن (عمليات تجميل علمانية) لتعديل المعالم والنقوش والتجاعيد البدوية الموروثة في مجتمعات دول المنطقة وسياساتها، ويعلنون مرة بعد مرة عن (صناعة علمانية) لأراء نسوية بصدد مكانة المرأة وإمكانية تحريرها وسط العادات والتقاليد الآسنة!!

كل ذلك.. ويظل (العلماني المتجول) مسكونا بإهدار الأفكار الجادة حتى داخل العلمانية ذاتها كما نشأت في الثقافة الغربية، لأنه (كما قلت) لم يعش تجاربها ولا مرجعيتها الفلسفية ولا يدرك أبعادها ولم يكن مبدعاً في تلقيها ونقدها. وفوق ذلك لا يستطيع الإتساق (ككائن مخاطي) مع معايير الرؤى التي تقدمها لأن غرائزه وأهواءه هي المقدمة على أي شيء آخر. كما أن النموذج الذي يسكونه ويعبر عنه (هذا العلماني المتجول) دون وعي هو نموذج (الشيخ – المُريد) المؤدلّج الذي ينتقده أمام المارة في الفضاء الإفتراضي وعلى الشاشات الفضية. إذن هو العلماني الذي يجسد (الشيخ- المريد) المغلق، عنيف النوايا والطوايا تجاه المجتمعات، ولا يرى غير أصابعة الغارقة ببقايا أطعمة السلطة ومهرجاناتها الغاصة بالأشربة والمسليات والرغبات الفاخرة، ليعيش الليالي سكرانا بآمال الحظوة والجنة الأرضية.

هكذا ليس إزاء الواقع العربي من تنوير بمعناه الحديث غير (الفشل الواضح) في معرفة هذا الواقع نفسه وظروف انتاجه. لقد ألقى الواقع العربي مشكلاته المعقدة فوق ما نرث ونحيا. لدرجة أنَّ الأزمة الواحدة قد تتناسل إلى أزمات حتى تخلق (قيامتها الكبرى) عقب توالدها أكثر من مرة. ولم تستطع (قراءات التراث) ولا (نقل النظريات الغربية) الدفع بفكرٍ نافذ لاختراق هذا التراكم الحاد. كلُّ شعار فكري ما لبث أنْ توهم حقيقةً هو لا يراها. فما كان منه إلاَّ أن طرح مضموناً ليس لنا تحديداً ولن يكون. نظراً لإختلاف السياق حتى وإنْ اعتمد على قرائن من التاريخ والثقافة والحياة اليومية. فأصحاب الخطاب التحديثي والنهضوي ظلوا غائبين داخل مشكلات (أفرزتها العصور الحديثة) اسماً لا جذراً، شعاراً لا فعلاً، فيما نمارس ونفكر ونعيش. راحت تحليلاتهم المستعارة تلوي عنق الحقائق حتى جاءت بتنظيرات برانية غير ذات صلة.

على المنوال نفسه، لم يكن حتى (التنويريون القريبون) أمثال سلامة موسى وشبل شميل وزكي نجيب محمود أقل انخداعاً إمام توصيفهم لقضايا المجتمعات العربية من غيرهم. فإذا كانت الحرية هي الأساس كما ضَمّن الأخيرُ في عنوان كتابه الشهير (عن الحرية أتحدث)!!، فلم تكن هناك عبر شرقنا العربي الإسلامي (ذات ولا أنا مركزية) بمعناها الحديث في أوروبا (كي تتحرر وكي تفكر فتوجد) على الطريقة الديكارتية. وحتى ليست هناك من مفاهيم لتلك الذات كي نطلب لها نقداً وعصراً جديداً وقواماً سياساً ملائماً. وبالمقابل لم تكن هناك مفاهيم حول الآخر والغير والتنوع الثقافي والإنساني قابلة للتشغيل في مجتمعاتنا. على أي أساس إذن ستكون الحرية ؟ ومَنْ سيتحرر ممَنْ؟ وما هي أطر التحرر في الزمان والمكان؟ وكيف ستكون هناك آفاق للحرية بلا مستقبل حر بالتوازي؟

لم يمس التنوير المزيف جوهر الأزمات الثقافية والسياسية، بل (استطاع التكيف والتلون معها كالحرباء) والتربح من تداعياتها بقدر ما يستطيع خدمة الأنظمة الحاكمة. مع غياب شبه تام للإبداع الحقيقي والمحاولات العميقة والدؤوبة للنهوض بالفكر. فأية مبادلة نظرية (بين نتاج الثقافة الغربية والشرقية) وتحويلها إلى شعارات جذابة هي بمثابة (هدنة) لم تُزد الواقع غير التسويف والمراوغة.

 

د. سامي عبد العال

 

مراد غريبيمفتتح: إن التحولات التي تشهدها المنطقة العربيّة منذ العام2011، تؤشر لعدة إشكالات ومشكلات جوهرية، تتطلب نفض الغبار عنها وفتح البحث والحوار والنقاش حول عدّة قضايا،. ومن بين القضايا التي تستحقّ في نظرنا، إعادة دراستها، هي مسألة الثقافة ومشكلاتها أو وظائفها في مشاريع الإصلاح والتجديد والتغيير المنشودة عربيا وإسلاميا. لماذا يتوجب علينا تصحيح الثقافة؟ وهل الوعي الثقافي عربيا مأزوم فعلا أم مجرد أوهام الجدل الثقافي؟ هل الراهن الثقافي يختزن بذور التمدن؟ أم أنّ أزمة الثقافة أعمق مما يفقدها إمكانية بعث التمدن؟

في الحقيقة، تتزاحم الأسئلة وتتدافع عند طرح إشكاليات ومشكلات، موضوع الثقافة في تجديد الوعي بقضية التمدن عربيا وإسلاميا من جهة لأنّ مفهوم الثقافة ليس محدد ومضبوط حيث هناك تداخل مفاهيمي ومنهجي، فالحديث عن تصحيح الثقافة في مجالنا العربي اليوم، هو حديث عن مسألة، متداخلة الأنساق والأبعاد والآفاق، ومن جهة أخرى وعي التجديد كعملية ثقافية استراتيجية في توفير الإجابات الأساسية والمركزية في مشوار تصحيح الأخطاء الثقافية وتجاوز الأزمات المنهجية وتفعيل الحركة الثقافية..

عن مطلب الوعي:

أزمة الوعي تمثل إشكالية إنسانية تاريخية لا تكاد تنفك عن كل ماهو تطلع ورغبة ومقصد في ماهية الإنسانية أفرادا وجماعات وأمما، هذه المشكلة تعتبر أم الأزمات لأنه بدون تجاوزها وتفعيل آليات الوعي وتعبيد الطريق أمامها ومد الجسور لها على طول وعرض آفاق الواقع لا يمكن لأمة أن تراوح مكان سباتها الحضاري بل على العكس ستزداد استغراقا في أوحال ضعفها واستغلالا من لدن مستثمري وهنها، هكذا كان حال الغرب الذي تبهرنا نظمه وانظمته ومنتجاته وتقنياته وحضارته وثقافاته..

كما يعبر بول هازار عن تاريخ خروج الغرب من نفق التخلف والانحدار على كل مستويات الحياة الإنسانية في بحثه حول أزمة الوعي الأوروبي 1680-1715، من خلال رصده المحددات الكبرى لذلك والتي أنهت حقبة الغرب القديم وأنظمته الفكرية والثقافية والاجتماعية. وقد بين بول هازار كيف أسهمت أفكار القرن ١٨ في ترتيب الواقع لميلاد مجتمع جديد، تحكمه مبادئ الحركة مقابل الثبات، وقيم النسبية في التعامل مع الظواهر بدل المقاربات اليقينية والقطيعة، مع تمكين قيم العقل والحرية والمواطنة من صياغة البنى الثقافية العامة، هذا الطرح لهازار يعتبر نافذة مهمة في فهم سنن التاريخ القريب والاشد تأثيرا في حيثيات واقعنا بل هو مركز انبعاث الجدليات المتطايرة في جنبات يومياتنا، مما يعني حاجتنا لنزعة وعي خاصة وموضوعية قادرة على إنهاء مخاض الواقع بميلاد مجتمع عربي واسلامي جديد بقيم إنسانية حضارية..

مشكلة الوعي وإشكاليات الثقافة؟؟

الوعي كمفهوم بحد ذاته يشكل إشكالية لدى رواد التبرير التاريخي مما يجعله مشكلة في الواقع تتغذى من انتكاسات على مستوى حقول ثقافية متعددة ترتبط بالثبات المعرفي للمفاهيم الاستراتيجية في هندسة شروط النهضة، من قبيل مفاهيم التاريخ، العدالة، الحرية، الدين، الاصلاح، التغيير، القيم، بالمختصر حزمة مولدات الوعي كنواة أساسية لميلاد مجتمع متمدن ليس بمفهوم الغرب وإنما إنسانيا بما يبرز ماهية الدين كحاجة حضارية للإنسان في مشوار تطلعاته نحو الطبيعة والكون والمطلق...

تلك المفاهيم وغيرها يعتبر تجدد فهمها بما يعالج جدليات واقع ثقافتنا العامة كأفراد وشعوب وقبائل وأمة، مفتاح فك طلاسم مشكلة الوعي، فالتاريخ مثلا يشكل حضوره في ثقافتنا العامة مأزق ليس لدى العامة بل لدى بعض الأكاديميين ورواد الخطاب الديني، لأن منطلق التداول الثقافي لهذه المفاهيم مؤسس في الغالب الأعم على تناقضات منهجية تطبيقية حيث التاريخ كمثال سابق لم يضبط منهجيا فلسفة وعلما ونظما، مما يجعل فوضى المفاهيم تشكل ضبابية معرفية اجتماعية تنحرف بالوعي عن تصور الأولويات والواجبات والحقوق والقيم العادلة والإيجابية الإنسانية وهكذا دواليك..

انسداد مجرى الوعي مرده أساسا كمشكلة للثقافة في شتى تمثلاتها وسياقاتها الاجتماعية، وهذا ما حفلت به مسيرة المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي رحمه الله، بدءا من المفهوم وعبر حرب الأفكار التي انتبه لها مبكرا من خلال بحثه للصراع الفكري في البلاد المستعمرة ثم التصنيف الدقيق لمنظومة الأفكار وآثارها ومقاربة شروط النهضة ومعادلة الحضارة كمفهوم دون مفهوم الثقافة وتابع للأخيرة ونتاجها، مع رسم المعالم الكبرى للوجهة الإسلامية من طنجة إلى جاكرتا، كل ذلك عبر عملية صناعة الوعي التجديدي كمعامل في سنن التاريخ، وعكس بمشروعه التفكيكي الإصلاحي للثقافة صورة المثقف المجتهد في دوره، كما هناك أيضا مقاربات الدكتور مهدي منجرة التي ناقشت التحولات الثقافية الكبرى، مستشرفا أهم المسارات ومآلاتها وتأثيراتها على مصير الإنسان والمجتمع في الجغرافية العربية والإسلامية دون أن ننسى المشاريع الإصلاحية الدينية التي حاولت رسم معالم التغيير والإصلاح على ضوء قراءات متعددة لآفاق النصوص الإسلامية من الكتاب والسنة وكذا الحضارات المعاصرة منها ما كان بخطاب وأخرى بلغة علمية نقدية أكثرها يشخص دون التعمق في صلب المشكل الثقافي بجدية ودون مجاملة، ولعل أهمها انطلقت من الحاجة للوحدة بين تنوعات الأمة مركزا على تنمية وعي الإنسان بضرورات الحوار والتسامح والتعايش والتجديد والانفتاح الثقافي الإنساني ومن ابلغها خطابا وادقها منهجية واوسعها آفاقا مشروع السيد محمد حسين فضل الله رحمه الله الذي كان مفكرا إسلاميا مجددا بإمتياز عبر مزاحمة العلماني بكل رحابة في تقرير النزعة الانسانية والتمدن على ضوء الفهم المتحرر للإسلام كدين للإنسان والحياة...

مستخلص:

هناك عدة مشاريع تجديدية على طول طنجة-جاكرتا تتقاطع مع جل الإسهامات النقدية التصحيحية للثقافة وتفعيل الوعي بالدور الحضاري للفرد والمجتمع في أمتنا على المدى الإنساني وعلى ضوء القيم الدينية والإنسانية العادلة، بعضها بقي حبيس التنظير وأخرى تزايدت مع مطلع الألفية الثالثة والى يومنا من خلال تفكيك مشكلة الوعي التجديدي، حيث سنحاول من خلال سلسلة مقالات تسليط الضوء على أهم المواضيع ذات العلاقة بمطلب وعي التجديد الثقافي عبر عدة رؤى لنخبة من الفاعلين في الحقل الفكري والفلسفي والديني حتى لا نبخس الناس أشياءهم وكل مرادنا العرض والمناقشة والتقريب بين وجهات النظر كلها بما يكفل التصحيح الأدق والسليم لأخطاء البناء الثقافي وعلاج مشكلات الثقافة العالقة بسبب الأمزجة والمصالح والمغالطات وأملنا الكبيرتجديد ثقافتنا العربية والإسلامية تأسيسا للتمدن الحضاري الأمثل المحتضن للإنسان بما كرمه الله بعيدا عن الأغلال المبتدعة والتي ما نزل الله بها من سلطان...

 

مراد غريبي - كاتب وباحث في الفكر

 

 

محمود محمد عليالحركة النسوية Feminism، تعبر عن مضمون فلسفي وفكري، برزت أفكارها في أطاريح أكاديمية، وأساس فكري (المساواة)، وأطر تحليلية متعددة تحمل الطابع الفلسفي الحداثي من النظرة المادية التجزيئية للإنسان .ترتكز علي أساس فكري، المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، وإلغاء أي بعد للأدوار والوظائف للجنسين المترتبة على الفروقات البيولوجية بينهم . تهدف من خطاباته المنظرة إلي إلغاء ثقافة التمييز، وتمكن المرأة في جميع المجالات، من خلال التغيير الجذري للأسس والمفاهيم، في العلاقات المتبادلة بين الجنسين، تحت مصطلح الجندر في جميع الأسس والبني .

وقد ظهر مصطلح النسوية في الغرب، الذي يعبر عن مفهوم نظرية المساواة بين الجنسين، في المجال السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والديني، القائم على التحليل والتنظير من وجهة نظر نسوية بحتة.

وقد ساهم رجال عصر النهضة العربية بنصيب رافاعة الطهطاوي في الاهتمام بالفكر النسوي، وهنا في هذا المقال أركز على إسهامات شيح النهضة العربية الحديثة، وهو رفاعة رافع الطهاوي، من خلال مواقفه الرائعة والجيدة تجاه قضية المرأة وتعلميها ح وهذا إن دل علي سء فإنما يدل علي السنين والأعوام تمر وتمضي بنا عبر الزمان، ولكن تبقى الأعمال خالده.. فالبرغم من مرور 148 عام على رحيل قائد النهضة العملية بمصر رفاعه رافع الطهطاوى، إلا أن أعماله وأفكاره مازالت معروفة ومتداولة ومحفورة بالكتب التى تدرس للطلاب والتلاميذ بالمراحل التعليمية المختلفة ليس فقط بمصر بل في العالم كله.

وقبل أن ندلف في عصر أبعاد المقال يمكننا القول بأنه في هذه الأيام نحتفل في مصرنا الحبيبة بالذكرى  148 على وفاة رفاعة رافع الطهطاوى، قائد النهضة العلمية فى مصر فى عهد محمد على باشا، والذى ولد بمدينة طهطا إحدى مدن شمال محافظة سوهاج بصعيد مصر، والذى يتصل نسبه بالحسين السبط ووالدته تنتمى إلى قبيلة الخزرج الأنصارية.

وقد عاش الطهطاوي بموطنه طهطا، ووجد من أخواله اهتماماً كبيراً، حيث كانت مدينة طهطا زاخرة بالشيوخ والعلماء فحفظ على أيديهم المتون التى كانت متداولة فى هذا العصر، وقرأ عليهم شيئا من الفقه والنحو.

بدأ رفاعة الطهطاوي حياته دارساً للفقه والدين في حلقة إمامه وأستاذه الشيخ حسن العطار، الذي رشحه للسفر إماماً لـ40 مبتعثاً أرسلهم حاكم مصر محمد علي باشا، للدراسة في فرنسا، ولم يكن عمره حينها قد تجاوز الـ21 عاماً إلا أن الطهطاوي انبهر بالحياة الأوروبية وتحول إلى دارس للفرنسية، ومن هنا انطلقت شرارة حلمه بنقل مفردات النهضة الحديثة في أوروبا إلى القاهرة.

ولد رفاعة رافع الطهطاوى فى 1801ميلاديه بمدينة طهطا شمال محافظة سوهاج، ويرجع نسبه من والده إلى الإمام الحسين بن على بن أبى طالب، ووالدته إلى قبيلة الخزرج الأنصارية، والتحق وهو فى السادسة عشرة من عمره بالأزهر فى عام 1817 وشملت دراسته فى الأزهر الحديث والفقه والتفسير والنحو والصرف، وغير ذلك، خدم بعدها "إماما" فى الجيش النظامى الجديد عام 1824، وسافر رفاعة الطهطاوى خارج مصر لأول مرة سنة"1242هـ /1826م"، إلى فرنسا ضمن بعثة عددها أربعون طالبًا أرسلها محمد على باشا لدراسة اللغات والعلوم الأوروبية الحديثة، وكان عمره حينها 24 عامًا.

وعاد رفاعة لمصر سنة 1247 هـ / 1831 م مفعماً بالأمل منكبّاً على العمل فاشتغل بالترجمة فى مدرسة الطب، ثُمَّ عمل على تطوير مناهج الدراسة فى العلوم الطبيعية وافتتح سنة 1251هـ / 1835م مدرسة الترجمة، التى صارت فيما بعد مدرسة الألسن وعُيـِّن مديراً لها إلى جانب عمله مدرساً بها وافتتحت المدرسة بالقاهرة سنة 1835م وقد كان له دوره فى الصحافة أيضا، حيث قام بتعريب الوقائع وجعلها ناطقة باللغة العربية بدلا من التركية.

وننتقل للحديث عن صلب موضوعنا فنقول الرغم من أن الدين الإسلامي قد دعا إلى تعليم كل من المرأة والرجل، إلا أن بعضهم ما زال يمنع تعليمها بسبب نظرتهم إلى أنها قد تجلب عن طريق تعليمها الفساد لها، وأصروا علي ضرورة تعليمها القرآن الكريم فقط، وبعضهم دعا إلى تعليمها القراءة والكتابة، والقرآن الكريم، والطب، وبأنها كالرجل.

ومن هنا حظيت المسائل المتعلقة بالمرأة وعلاقاتها، وموقعها الاجتماعي، وتحررها، وتعلميها، وتقديم الخدمات لها، ورغبة مشاركتها في العمل والإنتاج المادي للمجتمع، بمساحة واسعة من اهتمام الفكر والدراسات المعاصرة وإلحاحها. حتى أخذت مشاريع وخطط التنمية، وتنمية المجتمعات المحلية، تضع في رأس اهتماماتها مسألة تمكين المرأة وإدماجها في نشاطات المجتمع الإنتاجية.

وهناك من الرجال من نادى بتحسين أوضاع المرأة وتعليمها وتثقيفها وما يهمنا هنا هو إلقاء الضوء على هذه الشخصيات، وما قامت به من جهود في سبيل إصلاح المجتمع والرفع من شأن المرأة وذلك لمعرفة الأوضاع التي كانت سائدة في ذلك العصر، والإحاطة بالفكر الذي كان يسود الساحة الرجالية، ونتناول في هذا السياق شخصية رفاعة الطهطاوي، وقد قام الطهطاوي بدور بارز في استنهاض الهمم، ليتكاتف الناس وينهضوا لإعطاء المرأة حقوقها وتعليمها وواجباتها بطريقته الخاصة، وضمن حدود أفكاره وآرائه.

وقد هاجم الطهطاوي من يدعون بأنها ناقصة العقل، وبأن الله لم يخلق النساء، كالرجال، وإنما خلقت للبيت، وحفظ النسل، ورد عليهم بقوله المرأة في كتابه تخليص الإبريز" بأن مثل هذه الأقوال لا تفيد أن جميع النساء على هذه الصفات الذميمة، ولا تنطبق علي جميع النساء.

لقد كان الطهطاوي رائدا في نصرة المرأة، وبضرورة تعليمها ؛ حيث قال:" ينبغي صرف الهمة في تعليم البنات، والصبيان معاً، لحسن معاشرة الأزواج، فتتعلم البنات: القراءة والكتابة، والحساب، ونحو ذلك، لإإن هذا مما يزيدهن أدباً وعقلاً ويجعلهن بالمعارف أهلاً".

ويعترض الطهطاوي على الذين يقولون بأن هناك أحاديث نبوية نهت عن تعليم المرأة، فذكر أن هذه الأحاديث مزعومة في روايتها عن رسول الله – صلي الله عليه وسلم، وشكك في صحتها، من خلال اهتماده علي أزواج النبي صلي الله عليه وسلم، كان منهن من تقرأ وتكتب، والرسول صلي الله عليه وسلم حث علي العلم . فهم ينسبون إلي الدين ما يعارض مبدائ الدين الإسلامي، الذي يرفع من شأن العلم والعلماء.

ولم يقف اهتمام رفاعة الطهطاوي علي الاهتمام بقضية المرأة في كتابه تخليص الإبريز"، بل نراه يهتم بها في كل مؤلفاته الأخرى، ففي كتابه "المرشد الأمين":"المرأة.. (مثل الرجل) سواء بسواء، أعضاؤها كأعضائه، وحاجتها كحاجته، وحواسها الظاهرة والباطنة كحواسه، وصفاتها كصفاته، حتى كادت أن تنتظم الأنثى في سلك الرجل!... فإذا أمعن العاقل النظر الدقيق في هيئة الرجل والمرأة، في أي وجه كان من الوجوه، وفي أي نسبة من النسب، لم يجد إلا فرقا يسيرا يظهر في الذكورة والأنوثة وما يتعلق بهما، فالذكورة والأنوثة هما موضع التباين والتضاد"..

وقد دافع الطهطاوي عن المرأة وفند اتهـام البعض لها بالمكر والدهاء ورفض النظر لها "كوعاء يصون مادة النسل" وناقش الأحاديث المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم بالنهي عن تعليمها فقال: "كيف ذلك، وقد كان في أزواجه-  صلى الله عليه وسلم، من تكتب وتقوأ كصفحة بنت عمر، وعائشة بنت أبي بكر، وغيرهما من نساء كل زمن من الأزمان؟ ولم يُعهد أن عددا كبيرا من النساء ابتذلن بسبب آدابهن ومعارفهن، على أن كثيرا من الرجال أضلهم- التوغل في المعارف"، ثم ذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب من "الشفاء" التي كانت تعلم النساء. فى عهده: "علمي حفصة رقية النمل، كما علمتها الكتابة .

لم يكتف الطهطاوي بذلك، بل اتهم أعداء المرأة بالجاهلية "وليس مرجع التشديد في حرمان البنات من الكتابة إلا التعالي في "الغيرة" عليهن من إبراز محمود صفاتهن، أيا ما كانت، في ميدان الرجال تبعا للعوائد المحلية المشوية بجمعية جاهلية (أي بمجتمع جاهلي!)- ولوجوب خلاف هذه العادة لصحت التجربة...!".

وأكد الطهطاوي على أهمية تعليم الفتاة، وحسن تربيتها، فقال:" آدب المرأة ومعارفها تؤثر كثيراً في أخلاق أولادها، إذ إن البنت الصغيرة متى رأت أمها مقبلة على مطالعة الكتب، وضبط أمور البيت، والاشتغال بتربية أولادها جذبتها الغيرة إلى أن تكون مثل أمها، بخلاف ما إذا رأت أمها مقبلة علي مجرد الزينة والتبرج، وإضاعة الوقت بندر الكلام، والزيارات غير اللائقة، حيث تتصور البنت من الصغر أن جميع النساء كذلك، فتألف ذلك في صغرها، فشتان ما بين هذه، وبين من تعتمد على معارفها وآدابها، وتفعل ما فيه إرضاء بعلها، وتربية أولادها لأنها نشأت على ذلك .

ويري الطهطاوي بأن الآداب للمرأة يحسنها، لأن في النساء الرقة والمحاسن، فبالأدب تصبح جميلة حساً ومعني، وأكد على أن من واجب ولي الأمر تعليم البنات ما يليق بهن من القراءة، وأمور المعارف، مثل إذارة المنزل، والحساب، وتعليمها الأخلاق، والآداب، وحسن السلوك لهن ... ونكتفي بهذا القدر وللحديث بقية في الأيام المقبلة.

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.............................

1- الطهطاوي، رفاعة رافع: تخليص الإبريز في تلخيص باريس، وزارة الثقافة والإرشاد، القاهرة، 1905.

2- ــــــــــــ: المرشد الأمين للبنات والبنين، مطبعة المدارس الملكية، القاهرة، 1872.

3- ــــــــــــــ: مناهج الألباب المصرية في مباهج الأداب العصرية، مكتبة النهضة، القاهرة، 1911.

4- محمد حسين جابر جوابرة وآخرون: الفكر التربوي عند رفاعة الطهطاوي بدوي رافع الطهطاوي: دراسة تحليلية، رسالة ماجستير غير منشورة، اجلامعة الأردنية، 2002.

5- إقبال بركة: رفاعة رافع .. الطهطاوي ونظرة قديمة جديدة إلي المرأة.. مقال..

 

حاتم السرويلم تعد الرغبة في الإصلاح الديني الآن موضعًا للشك والخلاف؛ فجميعنا نطالب بإصلاح بنيوي للفكر الديني بناءً على فهمٍ سليم لجوهر التعاليم الإسلامية وروح الشريعة ومعرفة مقاصدها، ولأننا جربنا الاستماع كثيرًا إلى الخطاب المتشنج غير المنطقي والمغرق في الإرهاب الفكري ونبذ الآخر، والقائم على المنع والكبت والوقوف عند ظواهر النصوص ومنع التفكير مطلقًا بحجة أن العقل لا دخل له في الدين، مع أن غير العاقل لا يًخَاطب بنصوص الكتاب والسنة ويخرج عن دائرة التكليف، لأننا جربنا كل ذلك وكانت النتيجة هزيمة حضارية كبرى؛ فلماذا لا نجرب النهج الحداثي المبني على استيعاب التراث العقلي عند المسلمين، والذي دعا إليه المصلح الثائر جمال الدين الأفغاني، وتلميذه الحكيم الأستاذ الإمام محمد عبده.

وقبل الشروع في الحديث عن دور المصلح الفيلسوف جمال الدين الأفغاني وتلميذه الإمام محمد عبده، تجدر الإشارة إلى أن الكاتب لا يأخذ آراءهما كلها بمأخذ الإيمان المطلق، إذ تقوم دعوتهما على إعمال الفكر واحترام الشخصية الباحثة المستقلة، وقد خالف الإمام محمد عبده بعض تلاميذه النجباء ولم يروا في ذلك حرجًا، وما يهمنا الآن من تراث محمد عبده وأستاذه الأفغاني هو تلك النهضة التي كان لهما فضل ابتعاثها، وهذه الروح الإصلاحية التي ساهمت ولا شك في إعمار دنيانا وحفظت علينا ديننا أيضًا.

ولا نبالغ إذا قلنا أن عقلية جمال الدين الأفغاني كانت في مستوى عقليات الفارابي وابن سينا وابن رشد، فقد امتاز بالحكمة "ومن يؤت الحكمة فقد أوتيَ خيرًا كثيرا" وهو لم يكتفِ بحكمته لنفسه؛ وإنما بعزيمته الماضية وروحه الطيبة ورغبته الصادقة في إصلاح أمته، رأيناه ينهض لبث أفكاره الإصلاحية في بلاده أولاً..هناك حيث أفغانستان البعيدة بطبيعتها الجبلية الوعرة، ثم حاول أن يقدم أفكاره النهضوية في إيران التي كان يجيد لغتها الفارسية، على أنه لم يجد يدًا تحنو عليه ولا أذنًا تصغي إليه ولا عقلاً يفكر في عباراته إلا في مصر، التي اهتمت نخبتها بأفكار الأفغاني وجعلتها موضعًا للتنفيذ.

 وقد نجح الأفغاني بفضل المشروع الحداثي الشامل والذي كان يجري العمل به في مصر حينذاك، فلم تكن الشعارات التي رفعها ذلك المصلح غريبةً على مسامع النخبة المثقفة لدينا في سبعينيات القرن التاسع عشر، لكنها الآن تعد غريبةً على مسامع الجامدين الذين علا صوتهم وانتشر خطابهم المدمر، وهذا لعمري من عجائب الكنانة، فنحن الأمة الوحيدة التي كان ماضيها أكثر تقدمًا من حاضرها!.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: بماذا تميز الأفغاني ليصبح محل احترام النخبة المثقفة في مصر وموضع تقديرها؟ والإجابة أنه تميز بعلمه الغزير، وموسوعيته المدهشة، وأنه كان ذكيًا بل عبقرياً، فقد أعمل ذهنه فيما تعلمه، واستطاع أن يبلور أفكاره الإصلاحية الطموحة من خلال سيل المعلومات والمعارف التي لديه.. وقد كان له مجلس أدبي ضم كثيرًا من رموز الحداثة المصرية، والذين كان لهم الفضل في بناء المؤسسات العلمية التي لا تزال قائمةً حتى الآن، وبفضلهم عرفت مصر واقعًا ثقافيًا مختلفًا ومثمرًا، ومن مجلسه الأدبي هذا تخرج ذلك العالم الأزهري الذي نفخ روح الحداثة في الجامع العريق، وأعني به الإمام محمد عبده.

لقد سيطرت شخصية الأفغاني على قلب وروح محمد عبده، فقد كان طلق اللسان، فصيحًا بليغًا، ولحديثه حلاوة تعجب السامعين، وكان يجيد الفارسية والتركية والعربية الفصحى، ثم تعلم الفرنسية فأجادها أيضًا، بل إنه كان يعرف بعض العبارات من اللغة الروسية، وبفضل تشجيعه تعلم الإمام محمد عبده اللغة الفرنسية، كما شجعه كذلك على الاهتمام بالعلوم العقلية عند المسلمين وإحياء المصنفات العربية القديمة في مجال الفلسفة، ومن هنا رأينا محمد عبده يضع حاشيةً على شرح الدُوَاني للعقائد العَضُدِيَّة، ومن هذه الحاشية عرفنا براعة الإمام رحمه الله في علم الكلام والإلهيات، وقد خرجت هذه الحاشية للنور عام 1875م وكانت انعكاسًا لآراء جمال الدين الأفغاني ودعوته إلى عودة الاهتمام بالفلسفة العربية والتصوف.

 ومصطلح التصوف هنا يعني تلك الفلسفة الروحية وعلم الأخلاق الذي قدمه كبار حكماء المسلمين، إنه الميراث الراقي الذي وجدناه عند ذي النون المصري والحارث المحاسبي وسهل التستري والجنيد البغدادي والسري السقطي ورابعة العدوية وأبي عبد الرحمن السُّلَمي وأبي القاسم القشيري وأبي طالب المكي؛ أما التصوف الطرقي الذي نعرفه الآن فقد كان موضع انتقاد واضح من السيد جمال الدين، ولم يتوانَ تلميذه محمد عبده في الهجوم على الطرق وما أشاعته من خرافات وما أحدثته من بدع؛ ولهذا كان محمد عبده ولا يزال محل نقمة وكراهية أبناء الطرق بشيوخها ومريديها، وقد سمعت بأذني أحد أبناء الطريقة العزمية يصفه بأنه كان عميلاً للإنجليز وصنيعةً للاستعمار؛ مع أن الإمام كان قد تصوف بمطلع شبابه ولم يترك المنهج الصوفي حتى مات، لكنه بعد أن خلع نفسه من الطرق التي اتصل بها في بداياته، عاد إلى روح التصوف وأخلاقه العالية وحكمته التي مثلت للشيخ معينًا للرؤية الحكيمة المستنيرة، والروح الثائرة على الفساد والجهل.

وقد كان الإمام ولا يزال محل هجوم من الشيوخ التقليديين، وذلك أنه دعا لفتح أبواب الاجتهاد وعدم الاقتصار في تلقي العلم وإصدار الفتوى على مذهب واحد، فالحق لا يقتصر على مذهب دون آخر؛ بل إنه لا يقتصر على المذاهب الأربعة وحدها، فقد يوجد عند الظاهرية على سبيل المثال، كما أن الإمام رغم تعلمه في الأزهر خالف الأشاعرة في بعض ما ذهبوا إليه.

 وبعض الباحثين أو أغلبهم يحلو لهم القول بأن الإمام كان من المعتزلة؛ غير أنني مع البحث والتدقيق وجدت أن الإمام  لم يكن مع أولئك ولا هؤلاء كما قال عن نفسه؛ ولا يمكن حسبانه معتزليًّا أو أشعريًّا مجددًا كما كنت اعتقدت في السابق؛ فقد طرح عن نفسه روح التقليد وعصبية الانتماء للفرق، وأخذ من كل فريق ما يعتقد أن الدليل يدعمه ويقويه، وبهذا كانت للإمام الريادة والأسبقية في الدعوة إلى علم كلام جديد، وهي الدعوة التي شرع في تطبيقها على نحوٍ عملي حين كتب رسالته في التوحيد، والتي هي حاصل جمع دروس  كان يلقيها للطلبة في بيروت التي كان منفيًّا إليها، وفي الرسالة نرى أسلوبًا مختلفًا في الكتابة العلمية الدينية، وهو أسلوب بليغ وفي الوقت نفسه يمكن فهمه بسهولة، حيث يخلو من المعضلات، ويتحدث في المسألة بوضوح ومباشرة ودونما حشوٍ أوغموض،  ونرى فيها قضايا حديثة لم تكن تخطر على بال العلماء التقليديين، وحتى الآن رغم هجمات الإلحاد الشرسة لم تخطر على هذا البال! كما ترجم الإمام رسالة أستاذه الأفغاني في الرد على الدهريين من الفارسية التي كان يجيدها إلى العربية، وفيها تكريس واضح لمبدأ العقلانية في فهم العقائد الإسلامية والرد على خصومها من الملحدين.

ويمكن القول أن أفضل ما في الإمام محمد عبده هو شخصيته التي جمعت بين النزعة العملية والروح المثالية، وهو جمعٌ نغبطه عليه، لأن أغلب الناس لا يوفقون إلى هذه الخلطة الساحرة، ولقد كانت له نظرة عامة شاملة وعميقة، وقدرة على تشخيص أمراض الأمة مع وضع العلاجات المناسبة، ولهذا نراه يدعو إلى إصلاح اجتماعي شامل ومتعدد الأبعاد، ويأخذ بعض خصومه إهماله للسياسة وعدم مقاومته المباشرة للاستعمار الإنجليزي، والسبب في ذلك هو إيمانه بعدم قدرة البلاد في ذلك الوقت على مواجهة دولة كبرى لها أدوات سيطرة كبيرة وهائلة، وأدرك محمد عبده أن الذي تنبغي مقاومته قبل الاستعمار هو قابليتنا للاستعمار، فالشعب الواعي الذي يمتلك أبناؤه تعليمًا جيدًا وهمة عالية وقدرة على التعاون والإنجاز، هو شعب غير قابل للخضوع ولا للسيطرة، أما الشعب الذي يفشو فيه الجهل والخنوع والثرثرة والأنانية فهو شعب قابل للإبادة وليس للاستعمار فقط.

وقد عمل الإمام على إصلاح التعليم وحاول ذلك مرارًا في الأزهر الشريف، ولاقى عنتًا من شيوخه لدرجة أنه أحضر معه عصا، حتى إذا جاء الشيخ عليش يُشَغِّب عليه في درسه كعادته رفعها أمامه عَلَّهُ ينصرف! وعندما أنشئت دار العلوم في عهد الخديوي إسماعيل كان في طليعة أساتذتها، وكانت مدرسة عصرية تسير على منهج الحداثة في طرائقها التعليمية وتجمع بين علوم الدين واللغة والعلوم الطبيعية والجغرافيا والفلك، ونظرًا لأفكاره الحداثية التي بعثت القلق في نفس الحكام تم إبعاده عن دار العلوم والتدريس فيها، وأُسْنِدَت إليه رئاسة تحرير "الوقائع المصرية" فلم تكن حكومة الخديوي مؤهلة لتقبل أفكار محمد عبده الجريئة، وظنوا أنهم بنفيه إلى الوقائع المصرية سوف يستريحون من صوته الثائر، فعاندهم أكثر وحوَّل الصحيفة إلى منبر للإصلاح الاجتماعي بعد أن كانت منشورًا حكوميًا لا وزن له في عالم الفكر والإصلاح.

وعندما عُين الإمام قاضيًا في مدينة الزقازيق عمل على إصلاح القضاء بدوره، ولم يكتفِ بتحري العدالة في أحكامه بل كان يحكم أيضًا بروح القانون، وكانت أحكامه في الجملة فتاوى قانونية مثيرة للاهتمام وجديرة بالتعلم منها، ولَمَّا عُيَّنَ مفتيًا للديار المصرية في آخر ست سنوات من عمره القصير بحساب السنين والكبير بحجم الإنجازات، أصدر عدة فتاوى لا زالت حتى الآن موضع اهتمام من العلماء ودارسي الفقه الإسلامي، وفيها يظهر تمكنه العلمي وقوته في هذا المنصب الذي تشرف به، وكان محمد عبده أول مفتي للديار المصرية ولا يمكن لعاقل أن يشكك في قدراته العلمية التي أقر بها أعتى خصومه سواءً من الشيوخ التقليديين أو أتباع التيار السلفي الذين كالوا له مع الأسف العديد من الاتهامات.

وقد اتجه الإمام في أواخر عمره الذي لم يزد على 56 سنة إلى العمل الخيري وعمل على خدمة الفقراء واليتامى وأنشأ جمعية إسلامية للبر والصدقات، وبعد هذا الميراث الحافل من التعليم والكتابة والدعوة الإصلاحية والعمل الخيري، هل يمكن أيها السادة أن نسمح بإطلاق سهام التكفير على هذا الرجل الذي آمن بدينه وبلده حتى أنه لم يجد وقتًا ليهتم بنفسه، وساءت أحواله الصحية حتى مات شهيدًا بداءٍ في بطنه وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "شهداء أمتي خمس: المطعون والمبطون والحريق والغريق والهدم"..لقد كان محمد عبده أمة في رجل، ونحن الآن في أمس الحاجة إلى أمثال هذا العالم الذي كان آخر ما قاله من الدنيا:

ولست أبالي أن يقال محمدٌ أَبَلَّ.. أم اكتظت عليه المآتمُ

ولكنه دينٌ أردت صلاحًهُ.. أُحاذِرُ أن تقضي عليه العمائمُ

رحم الله الإمام البطل..مولانا محمد عبده...

 

حاتم السروي

 

سامي عبد العالإزاء عصر العولمة والتكنولوجيا واسعة النطاق والتأثير، تحدث ذات مرةٍ الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر عن "خطر اقتلاع الإنسان من الجذور". حيث يتعرض هذا الإنسان إلى الإلقاء في العراء مقذُوفاً به في وجه العواصف. وبالفعل (كما نرى الآن) لقد دُفع به إلى ساحة العالم جُملةً واحدةً دون إختيارٍ. فمنذ أنْ يستيقظ باكراً حتى يخلُد إلى الراحة لا يستطيع فتح نافذته نحو الأشياء اللصيقة بقدر ما تقتحمه رياح العولمة في كل مكان وزمان. تقتحم وجوده الحميم (عارضةً) إيّاه على قارعة الكون والتاريخ والحياة الرائجة.

وكلمة (العَرْض display) هنا كلمة مثقلة بكافة الحُمولات الثقافية:

1- فقد تعني الإنكشاف ونزع الخصوصية: فالعالم ليس قريةً واحدةً كما يُشاع، بل هو أضيق من ذلك: إنه غرفة كونية غاصةٌ بالوجوه والأشكال والمودات والأقنعة. فما بالنا لا نتخيل هذ التراكم البشري إزاء بعضنا البعض، وأنّ ما يفصلنا ليست سوى النظرات المحملقة في الأشياء. حتى باتت الخصوصية من أحلام المثاليين لا الذين يعيشون في ثنايا الحياة الاعتيادية. والأنكى أننا عرفنا عاجلاً أن الخصوصية ليست إلاً وهماً كبيراً، لأن صورتنا حول أنفسنا أخذت تتشكل عبر هذه الحملقة التقنية المتواصلة. وهي الصورة الملوثة حتى النخاع بما لدى الآخرين بعد أن انكشفتَ أنتَ لهم في أدق التفاصيل.

2- وقد تعني الكلمة التسليع والتسوُق: فأنت مادة رائجة للعيون والرغبة في البيع والشراء. دوما لا تنسى هذه الأسواق التي تنتصب في كل مكان ولا تنتهي بمجرد الإطلالة الافتراضية عبر التقنيات وصولاً إلى الإطلالة القصيرة خارج منزلك. فما إن تخطو خطوات قليلات حتى تجد نفسك معلقاً في متجر أسمه (الفيس بوك) أو حانة تسمى بـ (التيك توك Tik Tok) أو ممتداً بكل شغف (منك ومن المتابع) على طاولة تويتر وقد خرجت أحشاؤك النفسية والفكرية والأيديولوجية.

3- وقد تدل كلمة العرض على الإلقاء عُرياً في العوالم الإفتراضية: وليس العُري بمعناه الاخلاقي عادة وإن كان متضمناً في المشهد، لكنه يعبر عن انعدام أية حماية ولا مناعة، وحتى الهواجس لم تسلم، فالفيس بوك لو تأخرت عنه قليلاً يباغتك بسؤال مباشر: أيا هذا.. ما الذي تفكر فيه الآن؟ ما الذي يشغلك حالاً؟ بماذا تشعر؟ هل تريد التواصل مع الآخرين؟

والعُري نوع من الاستدراج الذي يعول على جزءٍ أنت ترغب فيه وعلى جزء آخر لا تستطيع تجنبه. الجزء المرغوب هو الرغبة في الاستعراض، إغواء التجلي للآخر، القول بأنك هنا ويا حبذا لو كنت هناك أيضاً (عكس قانون عدم التناقض في المنطق: إما أنْ يكون أ موجوداً- هنا أو غير موجود- هناك) . والجزء الآخر أنك لن تكون ملْك نفسك من فورها. أنت خرجت بلا عوده لتُعرض كصورة حية هنالك حيث ترغب. وليس هذا فقط وإنما ستتناولها الأنامل والأبصار فضلاً عن كونها قد سكنت الذاكرة التي لا تمحى.

4- وقد تعني الكلمة الإفتضاح إلى حدَّ اللعنة: الافتضاح ذو أبعاد متعددة، وفي أحد أبعاده أنه لم تعد أحشاء المجتمعات واعماقها محجوبة عن النظر. هناك آلاف الأقمار والعيون الالكترونية والمجسات الفضائية التي تنزع الجلد عن العظم وتخلع الأغطية الثقافية الراهنة وصولاً إلى التراثات العميقة لبنية الواقع وحركته اليومية. وظهرت الصراعات والحروب جميعها كأنها عمليات جراحية مفتوحة في غرفة طبية عسكرية كبيرة، ووفوق ذلك يُجرى العمليات أناسٌ لا ينتمون إلى السياق ذاته بالضرورة. ولكن المؤكد أنهم يشكلون هيكل الجثة الممددة أمام الأنظار بحسب ما يريدون. ويؤكد ذلك على أن الفاعل الكوني جزء من تكوين الصور المحلية. وهذا هو الشيء المرعب في الأمر: أنك منزوع الحرية الذاتية وقد تلاعبت أيد أخرى بأخص ما تملك وما لا تملك.

5- وربما تعني كلمة العرض جعل الإنسان كياناً تافهاً: لأن الأيدي والعيون والمعارف والتقنيات التي تتناولك ليست لها حدود، كما أنها تضعك في سياق آخر يُخرج ما يريد إخراجه. وليس أقرب إلى ذلك من التفاهة ولاسيما مع ثقافة التسلية وأهدار الوقت وضعف القدرات وقلة الوعي وانعدام الإختلافات الثرية بين البشر. أن تكون تافها هو أن تدخل حلبة التسابق على الغث ولا تجد فوارق مميزة بينك وبين سواك. وهذا المحتوى هو التسطيح النافذ إلى قلب أعقد المشكلات وأكثرها أهمية. مثل التراشق بالألفاظ والمكايدات حول قضايا مهمة في حياة الشعوب واستعمال لغة التهريج والبهلوانية في شأن الحياة العامة. عندئذ فإنك إذا وجدت نفسك وسط بهلوانات، فلن تكون الحياة سوى سرك للإستعراض بطبيعة الحال، كل منهم يحصل ما يريد بابتياع تفاهاته الأثيرة لتافهين أمثاله حيث التسابق المحموم نحو الهاوية.

6- وقد تشير الكلمة إلى مضامين الاستعمال والتوظيف: وهو تحويل الإنسان من قيمة إلى خامة، ومن أساس إلى جاسوس، ومن إبداع إلى استنطاع ومن حقيقة إلى شيء زائف عليه الالتصاق بغيره. كل العولمة قائمة على هذه المعاني. تسلب إنسانية الإنسان وتلصق بدلاً عنها عنواناً هو يريده ويحبه. وبالتالي سيكون أداةً في أيدي غيره، أصبح مجرد ورقة نقدية خارج سياقها تُشترى بها المصالح وتنفذ بها الخطط وتعلَّق تحت أية شعارات عولمية.

وهنا يبدو أنَّ الأديان بظلالها السياسية قد خطت سريعاً كخيول جامحة نحو بعض تلك الأفكار. ذلك حينما خلعت جذور الإنسان من قاع التربة الاجتماعية والثقافية ملقيةً إياه في الخارج بعناوين: مملكة الرب أو دولة الخلافة أو الجهاد أو الصراعات الدينية، تركته وحيداً معلَّقاً من عرقوبه في فضاء مفتوح على مصراعيه يتأرجح باستمرار. وإذا كان التدين "اعتناقاً شخصياً " لما هو متعالٍّ ومقدس، فالمسئولية عن الإيمان لابد أن تُترجِم المعاني على سطح الأرض. ففي تاريخ الأديان كان ثمة (تكوير لا هوتي) لفكرة الأرض بعمومها في دوائر توضع تحت سلطة معينةٍ. إذ لا توجد ديانة متأخرة (وبخاصة المسيحية والاسلامية) إلاَّ وتنحت هذه (الكُرة الترابية) بين شعاراتها وأيقوناتها (مثل فكرتي: كثلكة العالم التي تعني العالمية واستاذية العالم عند الاسلام السياسي) .

كانت تلك الوضعية انحناءة تاريخية حاسمة لتدفق الهويات القاتلة نحو أية مواقع يحددها الإرهاب في أرجاء العالم. مثلما رأينا تجمُع واختلاط المجاهدين من كل حدب وصوب في أماكن الجهاد الديني عبر قارات العالم الست (افغانستان وليبيا والعراق واليمن وسوريا وألمانيا وفرنسا..) . وكأن الهويات أصُول حصرية تندفع لتحريك كائنات من جنس الاسلاميين (الاسلام) وفي السابق من جنس المُبشرين وأصحاب الارساليات اللاهوتية (المسيحية) . وقد وجدوا ترحيباً عولمياً بهم في أكثر بقاع العالم سخونة واضطراباً وصراعاً (لأنهم جزء من تكوين المشاهد السياسية المعولمة)، لدرجة أنَّ هؤلاء وألئك كانوا أكبر ممول لمشروعات الدول الكبرى ثقافةً وهيمنةً وتسلطاً وحروباً ونهباً لثروات الأمم. وفي غير حالةٍ، كانت هويتهم الدينية أداةً خفية لتحريك الجموع السائلة كالجراد المنتشر لإرباك الصورة. وتم الزج بهم في صراعات عرقية وسياسية فتتت دولاً شرقية كانت متماسكة في يوم من الأيام. ولعل هذه المسألة لا تنفصل عن بعضها البعض داخل أجواء الدين والعولمة (العراق وسوريا نموذجاً) .

بالأحرى نجحت العولمة في تسويق أصوليات دينيةٍ، حتى وإنْ بدت هذه الأصوليات تعادي بعض نقاطها ومنطلقاتها المركزية. وربما كان المقصُود ترويج العداوة بين الاثنين (الدين والعولمة) لاقتناص الفرص المتاحة بشكل مقلوبٍ. ومن ثمَّ، فإننا لو تصورنا كون العولمة تناقض معنى الخصوصية، فهذا محض خطأ فادح. فالعولمة لا يهمها على الإطلاق: ما إذا كانت ثمة هوية من عدمها، ولا يهمها كظاهرة كوكبية إلاَّ اعاد ة تدوير الرأسمال الرمزي والعيني داخل دوامات مصالح القوى الكبرى، سواء أكان الرأسمال شرقياً أم غربياً، أبيض أم أسود، ميتافيزيقياً أم أرضياً، توحيدياً أم وثنياً، ملائكياً أم شيطانياً. الأهم هو: كيف يمكن استثماره في تأكيد الأهداف والمارب وجنى الأرباح المادية ونهب الثروات بشكل نّهم.

ثمة نقطة التقاء راهن بين العولمة والدين السياسي. نقطة " الهوية المطاردَّة stalked identity " كفريسة بين أنياب هذين الوحشين الكبيرين. وهكذا ضاعت جذور الهويات بين شد وجذب وتقطيع ونزع وترقيع حتى تمزقت واهترأت ولم يبق منها غير آثار الحنين إلى الماضي. لكن الهوية (رغم ذلك) تصالحت مع العنف على المستوى ذاته، وكم زحزحت الإنسان عن موطنه الأرضي المحلي وعن جمجمته البشرية بالمثل. وبوضوح عام أضحت تلك الهوية (جثة خيالية) تتلاعب بها الجماعات والحركات الدينية والسياسات على نطاق أوسع. وفي هذا الشأن ستتعشق الأيديولوجيات الدينية مع العولمة وستخدم الواحدة منها الأخرى بقدر ما تستطيع، بل هناك تناغم شبه كوني بينهما. لا لشيءٍ إلاَّ لأنهما يلعبان اللعبة الواحدة نفسها حول خلخلة الهويات ونزعها من الجذور. بلغة الإقتصاد، هناك (تعويم مثل تعويم العملات المحلية) لكل هوية خاصةٍ بأصحابها، حين يرونها قدرةً على احداث (ثقب أسود) يمتص كل انفتاح حُر على العالم.

أولاً: أيديولوجيات الدين والعولمة تتبادل تأثيرات عنيفة تصنع صوراً وخطاباً حول الإنسان. فلئن كانت العولمة لا تستأذن الهويات، فأيديولوجيا الدين ترد بشكل أعنف لنزعها بالتكفير والإرهاب والتوظيف. إضافة إلى ذلك تعمم (تصنِّم) هوية واحدة كامنة في المعتقد خارج أسوار الدولة الوطنية. إنَّ الحس التسويقي التعبوي الاستثماري هو الرابط المشترك بين الطرفين (الدين والعولمة) . وإن كانت نتائج العولمة كارثية من جهة تسطيح الأرض، تسطيح قضاياها وامتدادها بلا أعماق لخصوصيات الثقافة، فأيديولوجيا الدين تُسطّح العقل والعاطفة والاعتقاد عن طريق الإيمان بأن (صورة الإله كما رسمتها هذه الجماعة أو تلك) هي الوطن الأول والأخير. ومن حينه بات هذا الانتماء يشترط خلع كل آفاق الإنسان الأخرى من التاريخ والجغرافيا. كما يجعل منه بمثابة الكائن الراكض الأبرز وراء (جماعته المؤمنة كما يعتقد) أينما حلَّت أو ضاعت بالمثل. لأنَّ الجماعات الدينية تضيع بالفعل في غابات العولمة، أي أنها تنخرط في مآربها ومخططاتها الإقتصادية السياسية دون أنْ تعي ماذا تفعل ولا أين موضع أقدامها، فتبدو كفرائس تقتل وتمتص الدماء لإطعام وحش أضخم وأكبر امتداداً هو قوى العولمة الشرسة.

وحالما ينخلع البشر من جذورهم وأصولهم، ينبغي توضيح ما هي صورة الإله. هكذا سيشرح الاسلام السياسي عبر كلِّ مراحله ما معنى الإله. لأنه يدرك قدرة تلك المقولة المقدسة في تدمير جميع الهويات الأخرى. ابو الأعلى المودودي على سبيل المثال ذكر ذلك في كتابه الشهير" المصطلحات الأربعة في القرآن: الإله والرب والعبادة والدين". وهو يحاول تقعيد المساحة الكبرى للإله من وجدان الاسلاميين ومشاعرهم كما يرسم ويعتقد. فليس ثمة (أي تكوين هوياتي) لا يمر بدلالة الإله حصرياً من وجهة نظره. وقد أكد على أن معنى الإله هو الأساس، معتبراً أن الانتماء الأول والنهائي لمفهوم (الله الإسلامي) الذي هو مطلق التوحيد والتوجُّه والجدير بالاخلاص في السر والممارسة. ولكن لم يره المودودي سوى مفهوم بحده الجهادي والاقصائي لجميع المفاهيم المختلفة عنه. فإما هو المفهوم الإسلامي الذي يجب أن يكون فوق كل المفاهيم في جميع الأديان، وإما فهو الكفر به.. لا خيار ثالث ولا توجد أية بدائل أخرى. ولئن كان هناك أناس أخرون يؤمنون بمفاهيم غير المفهوم الإسلامي للإله، فيجب محاربتهم طالما لم يخلصوا لصحيح الاعتقاد وحده.

من هنا أخذ سيد قطب المعنى ذاته والنتائج ذاتها في "كتابه معالم في الطريق" ليؤكد أنَّ "لا إله إلا الله" وحدها شهادة هوية كونية لحياة مكتملة، هي الوطن والأرض والسماء والجنة في الآخرة. شهادة لا تحتاج أي شيء سواها لكي تضمن اندماج المسلم داخلها إقامةً واعتقاداً وحرباً. وكانت الشهادة- امتداداً لهذا- بمثابة (الفيزا) التي تسمح للأفراد والجماعات الناطقين بها بالهجرة إلى الله وحده تاركين أوطانهم وثقافتهم وأدمغتهم. وبالفعل أخذ يشجع في كتاباته الأخرى ضرورة الهجرة إلى الجماعة المؤمنة التي تعتنق هذه الفكرة بملئ الكلمة. بينما المهاجرون (في الحقيقة على أرض الواقع) كانوا يهاجرون إلى الإخوان والقاعدة وداعش وجيش النصرة والسلفية الجهادية والوهابية المسلحة التي تتجاوز الحدود والدول. وستتواصل عمليات الهجرة طالما كانت الهوية قابلة للتمدد والتمطع في هيئة سلع دينية معولمة ضمن حروب قذرة أو غسيل أدمغة أو تجارة مرتزقة أو إدارة مصالح للدول الكبرى على الأرض.

ثانياً: أيديولوجيا الدين والعولمة يتعايشان لدى مناطق الحدود دائماً. ويمارسان أدوارهما السياسية بامتياز لاهوتي أدائي. وفي هذا الإطار غدت الهوية صناعة وتوليف. لأن كل مظاهر العولمة دعت الاسلاميين المؤدلجين للتعبير عن هويتهم بجميع السبل الممكنة. وحدثت المطاردة الاسطورية بين بعض الدول والإرهابيين بشكل جيو سياسي مع حركة العالم. ذلك أنه لم تكن هوية الاسلاميين منكفئة على ذاتها فقط، بل سمحت للاعتقاد بأن يلتهم غيره من اعتقادات مغايرة. حتى بواسطة الصراع الصريح معها. وكأن الاسلاميين هم الحاضر الغائب في كل مكان. ونتيجة التطور المذهل لمنتجات العولمة (الحروب والتقنيات والإتصالات) بات الناس يتوقعون وجودهم هنا أو هناك.

إن الحدث الارهابي (أي حدث كتفجيرات برجي التجارة بنيويورك مثلاً) لا يقف بمفرده. إنه يخطط لعولمة ما كانت لتأتِ بصورة سواه رغم عنفه الواضح. عندئذ سيكون الحدث تعبيراً عن حدود تتنازع البقاء حتى الرمق الأخير. وسيكون الصراع حول حدود داخلية بينه وبين العولمة وليست خارجية. فالعولمة توجد بخرائطها داخل خطط هؤلاء الارهابيين والعكس صحيح أيضاً. ومع هذا تتمايز فجأة الأشكال والأحداث وتكشف أبعاد الملاحقة داخلياً كذلك. من يلاحق من؟ رموز قوى العولمة أم رموز الإرهاب؟ أين حدودهما من حدود الآخر، أي أين الحدود خارج الآخر؟ يثار ذلك الاستفهام بفضل الهوية المتجاوزة، المتقاطعة التي يعبرون عنها في الموضع نفسه الذي تتنازعه العولمة.

وبالمناسبة هي أيضاً تلك الحدود التي تتخطى كل حدٍّ عبر الأقاليم السياسية التي اشتعلت فيها الحروب تسويقاً وصداماً واسثماراً (دول الشرق الأوسط الغنية بالنفط والثروات) . وفي هذا السياق فإن عبارة صمويل هنتنجتون " صراع الحضارات" قضية تحتاج إلى تفكيك ونقض، إن مجرد صياغتها تقتضي مساءلة جذرية من الداخل. لأن حضارة الرأسمالية هي الغالبة في الواقع. كما أن جميع الحدود التي تلعب فيها ليست خارجة عنها، بل لا يبدو أن ثمة خارجاً لها أصلاً. بالقطع عندما تتكلم حضارة رأسمالية مهيمنة عن الآخر، فإنها تلجأ إلى قانونها الخاص لنصب محاكمة تاريخية له لن تكون عادلة بحال. ولن يفلت أي آخر مهما يكن من حكم إعدامها المؤكد لسبب بسيط. مؤداه: أن كل آخر هو بالفعل يعيش في كنفها ولا يستطيع أن يرى نفسه إلاَّ عبر مرآتها. والتأثير الأبعد أن تلك الحضارة الرأسمالية تحدد نقائضه، حتى هواجسه وماذا يريد وما عساه أن يفعل. هي تمارس هذا الدور الاستعماري حتى وإن لم يكن الآخر يناصبها العداء المباشر.

ثالثاً: تقدم العولمة نماذجها المشوهة في زحزحة الهويات وتنويعها وتهجينها. وقد التقطها الاسلام السياسي (أي الهويات) كغنائم حرب افتراضية في الفضاء السبراني cyber space. ذلك عن طريق انتشار الايديولوجيات الدينية والخُطب والمذاهب وعودة المقدس إلى الواجهة الثقافية في العالم. لعل العولمة قد خدمت الأيديولوجيات الدينية حين أضفت طابع التفضية (إزاحة الكيان العضوي والخيالي) بحكم عدم ربط الإنسان بأصوله الثقافية. وبخاصة أن الدين السياسي يضع أتباعه باستمرار في مفترق طرق الاختيار بين معتقداته وبين سواها. وإذا نجح في خلخلة تلك النقطة سيكون للتيارات المتشددة عامل الحسم في جر الإنسان نحو التطرف والإرهاب. كم كان الاخوان قصيري النظر عندما دفعوا بهوياتهم المحلية نحو التنظيم الدولي، حيث تلقفتهم القوى الدولية لجعلهم حشواً لإقتصاد المؤامرات والحروب. وظل خطاب الإخوان يعمل على تعميق اللاهوية non- identityظانين أنهم يخدمون الاسلام بينما تتربص بهم تلك القوى وتستعملهم لأغراضها النوعية كما قلت. حتى بمجرد اعطائهم مساحة للحركة والنشاط عبر اراضي الدول الأوروبية، فهذا يجعل فكرة الهوية غير ذات موضوع خارج ذاتها.

وفي الإتجاه نفسه، يحافظ الاخوان على فكرة الولاء للجماعة باسم الدين. ويظل الاعضاء يمارسون تلك التراتيل اليومية جرياً وراء اقتلاع هوياتهم، وهم على ثقة (فيما يظنون) بأنهم يسايرون الاسلام في منطلقاته وغاياته. غير أنَّك مع الأحداث ستجدهم يفرون إلى الأوهام القاتلة خارج أوطانهم. لأنه لا توجد هوية متخيلة في تلك الدوائر المحكمة والمراقبة دوماً إلاَّ وتسير نحو التوظيف العولمي الاستعماري الأكبر. والأصل في المسألة أنه ما لم يكن الإنسان قادراً على الانفتاح الإنساني بلا حدود، سيكون مصيره البحث عن هوية بديلة وإن كانت مشوهة. والهوية بالنهاية سترتد إلى دجما جماعية أشبه باليوتوبيا المستحيلة. ولهذا كانت مشكلة الاخوان هي معنى الواقع ذاته.. كيف يفهمونه؟ ولماذا هو لا ينحو نحو ما يتوهمون وكما يرغبون؟

رابعاً: ترسيم وتخطيط المسافات آتٍ من اللامكان الذي تشجعه العولمة وكأننا أحرار بينما الأمر عكس ذلك. فالارهاب الديني لم يكد يختفي في موقع حتى يقفز بالظهور في مواقع تالية. حيث أنه نتيجة تصفية الهويات سيُحدث الفراغ الحاصل تصوراً ضبابياً ومشوشاً. إذن فكرة الهوية من تلك الجهة تتقمص الأفكار والوعود والآفاق وأخيلة الجماعات المصطفاة. فالخلافة الاسلامية هي هوية مؤجلة منذ الإسلام الأول حتى المستقبل لدرجة أنها أصبحت وعداً لعمل الجماعات الإسلامية. ولقد سقط في استعجالها الدواعش تحت قصف المدافع وتحت سيكن الذبح باسم الدين، فكان نموذج الخلافة كهوية هو هذا السفك المتواصل للدماء.

كانت دولة الخلافة بهذا المفهوم خريطة عولمية جديدة لحروب الهويات. لقد انضمت تحت لوائها فصائل الاسلاميين من شتى اصقاع الأرض، باحثين عن أصل تم الإيمان والوعد به. وإذ ذهبوا تاركين بلدانهم وهوياتهم الخاصة فقد ساروا إلى الهوية الجديدة بأدواتها وطرائقها في النظر إلى العالم والحياة. إنه معنى الجهاد الذي يقطع كل ارتباط بالواقع. وفي القرآن جاءت بعض العبارات التي تؤكد أنَّ " أرض الله " بها الوسع والسعة لهوية الإنسان. لكن ليس الاسناد هنا تلقائياً ولا مطلقاً كأن الأرض التي سيختارها المسلم فارغة من البشر. لأنه لا يوجد أي مكان غير سياسي بالمرة. وهو بنية الدولة الحديثة التي تلتئم حول اقليم وشعب ونفوذ اقليمي ودولي.

على وجه الإجمال ربما يظهر شكلياً التناقض بين اختلافات العولمة والنزوع المحافظ للدين. إلاَّ أن الدين يحقق الامتلاء الشاغر فيما وراء الوطنية بمعناها الحديث والمعاصر. لقد كانت تلك هي فكرة كون الاعتقاد وطناً رمزياً والتي تحدث عنها المودودي وأخذها سيد قطب. وبصرف النظر عن اتساع فهمهما للدين والإله وما إذا كانت هذه مفاهيم متعلقة بقضايا عقدية أم لا، غير أنها مفاهبم تعين النقطة الأضيق للهويات في أيديولوجيا سابحة عبر اللا أرض. وكان ذلك تحولا جوهرياً في مفاهيم الهوية وانماطها نحو العنف لا الانفتاح الإنساني المفترض. فإذا كانت الهوية تقليدياً هي مجموعة السمات الجوهرية الفاصلة لشعب ما والمانعة لضياع كيانه المعنوي والثقافي مع شعوب أخرى، فالأيديولوجيا الدينية تقطع هذا الجذر لصالح معان خارج الواقع لتعود وتحارب المعنى الأول. فهي لا تدعه وشأنه إنما تشتبك معه في كل مجال. حيث تؤسس لهوية مرتهنة بماهية الإله حصراً وما يسقطه من أخيلة تالية على تفاصيل الواقع.

خامساً: ليس ثمة تعارض على الإطلاق بين الإسلام السياسي والقوى العولمية، كما قد يتبادر إلى الإذهان نتيجة حروب القوى الدولية (أمريكا وروسيا وانجلترا وفرنسا) على الإرهاب، بل إن الجماعات الإرهابية هي الامتداد الطبيعي والمكمل للرأسمالية، إنها الإستثمار الحقيقي والسلع باهظة الثمن والتي تجلب الثروات الطائلة وتغذي الوحوش الكاسرة دولياً. وبالتالي فهذه الجماعات جزءٌ لا يتجزأ من العتاد الإقتصادي العابر للقارات. وأعضاؤها ومجاهدوها هم فاتحو أسواق السلاح والنهب والخدمات العولمية التي ستموت ما لم تكن هناك جماعات تحرك أسباب فتحها وشراء الأصول وحرق الممتلكات والتواجد على الأرض. ليست ثمة رأسمالية عولمية دون وجود إرهاب وأيديولوجيات ومذاهب وطقوس وشعائر تنظيمية تطعمها وتسقيها. وصحيح أن بعض منها أيديولوجيات مخلَّقة كما تخلق الفيروسات في المعامل السرية، غير أنَّ انتشارها وحقنها بالتضخم العولمي شيء له آلياته وطرائق عمله.

لكن اللافت أن الهوية العائمة (كما لدى الجماعات الدينية) كانت هي العملة النقدية الرائجة التي فتحت المضاربة العولمية واجترت كافة المجاهدين وغير المجهدين لدخول الجنة (تحت رايات الجهاد) رغم أنهم بالفعل في (جهنم العولمة) بامتياز، وإنْ كان الجهل فيما يبدو حجاب ثقيل الوطأة من حيث لا يدري المتوهمون.

اختصاراً، رغم أنَّ (الهوية بمعناها الصحي والثري) تنطوي على (اللا هوية مهما تكن)، إلاَّ أنه لايجب الإقرار بانحرافها نحو الفهم الديني الأيديولوجي تحديداً. إنما لا بد من تنوع الهويات مع اغراقها الفاعل في النسبي من التواريخ والثقافات والحيوات المتداخلة. ولهذا تنطوي كلُّ هوية على استحالة أن تكون كذلك هوية جامعة مانعة. شريطة أن يكون الانتماء اختلافاً وثراءً إنسانياً لا البحث عن مرجعية ثابتة أو قوى مهيمنة تنقلب إلى عنفٍ في أية لحظة من اللحظات.

 

د. سامي عبد العال

 

 

المُجتمعُ الحقيقيُّ لا يُؤَسِّس سُلطةً معرفية من أجل تَغييب العقول، والتلاعبِ بالمشاعر، واحتكارِ الوَعْي، وإنَّما يُؤَسِّسها بهدف تحريرِ التفكير من التقليد الأعمى، وصناعةِ طبيعة لغوية رمزية قادرة على حمل الأشواق الروحية والنزعات المادية . وكُل سُلطة معرفية فاعلة في ذاتها، وفَعَّالة للعناصر المُحيطة بها، لا بُد أن تتجذَّر في اللغة دَلالةً منطقية، ثُمَّ تترسَّخ في السُّلوك تجربةً عقلانية، ثُمَّ تتكرَّس في الواقع مُمَارَسَةً اجتماعية. وهذه الأطوار الثلاثة تُعيد تعريفَ المجتمع اعتمادًا على التوازن بين الدَّور الوظيفي (التطبيق العَمَلي) والغاية المنشودة (الحُلْم الجَمْعي). وتأصيلُ السُّلطة المعرفية في أعماق الواقع المُعاش، يَكشف الثغراتِ في النظام الشُّعوري للإنسان، ويُحدِّد الفجواتِ في علاقة المعرفة بالزمان والمكان. وهذا يُوضِّح أهميةَ السُّلطة المعرفية باعتبارها ظاهرةً ثقافيةً ونظامًا اجتماعيًّا قادرًا على كشف العُيوب بُغية تصحيحها. وكُل فِكْر إنساني يَمتلك حركةً تصحيحية ذاتية نابعة مِن كِيانه، وغَير مفروضة عليه من العناصر الخارجية، يُمثِّل فِكْرًا إبداعيًّا مُتحرِّرًا من الأوهام والضغوطات والمُسلَّمات الافتراضية، والمنظومةُ الفكرية الحُرَّة قادرة على تحرير العلاقاتِ الاجتماعية بين البشر، والعلاقاتِ المادية بين عناصر البيئة ومُكوِّنات الطبيعة. وحريةُ الكِيان (البُنية القائمة بذاتها والمَوجودة في مجالها الحيوي) شَرْط لتحرير الكَينونة (الوجود المُشتمل على الشعور والتفكير والعمل). ووَحْدَها الذات الحُرَّة قادرة على تحرير غَيْرها .

2

العلاقةُ بين السُّلطة المعرفية والعلاقات الاجتماعية تُحدِّد طبيعةَ الظواهر الثقافية، وتُكوِّن الدَّلالاتِ اللغوية الخاصَّة بسياقات المجتمع، وتبني أُسُسَ تأويل السلوك الإنساني، مِمَّا يَدفع باتجاه تطويرِ الفكر المعرفي، وربطِ البُنية العميقة في الفِعل الاجتماعي بالبُنية السطحية، وهذا يَمنع الصِّدامَ بين الذات والموضوع، ويُلغي احتماليةَ ظُهورَ التناقض والتعارض بين الشُّعور وامتداده في حَيِّز الزمان والمكان، ويَحفظ جوهرَ المعنى الوجودي من التَّشَظِّي بسبب ضَغط الأطراف على المركز . والإشكاليةُ الخطيرة التي تُواجِه مسارَ العلاقات بين الإنسان ومعاني الأشياء هي مُحاولة سيطرة الهامش على المَتْن، وهذا يستلزم اختراع صِرَاع بين اللفظ اللغوي والمعنى الاجتماعي، مِمَّا يُفْقِد اللغةَ طاقتها الرمزيةَ، ويُحوِّل العلاقاتِ بين البشر إلى تراكمات فوضوية في مجتمع الشظايا . لذلك، يجب إبعاد مفاهيم الصِّراع والصِّدام والفوضى عن الإنسان والمجتمع، لأن هذه المفاهيم تمنعَ عمليةَ البناء الاجتماعي على قاعدة إنسانية صُلبة، وكُل بناء لا يتأسَّس على قاعدة صُلبة، سينهار عاجلًا أَمْ آجِلًا .

3

قُوَّةُ التفاعل الاجتماعي تنبع مِن الأفكار المُنضبطة بالوَعْي، التي تَصنع مِن البُنى الشعورية الإنسانية منظومةً أخلاقية عَصِيَّة على التَّمَزُّق والتَّشَظِّي . وصياغةُ مفاهيم أخلاقية مُتماسكة ضِمن الإطار الاجتماعي العقلاني، تُمثِّل الضَّمانةَ الأكيدة لمنع تحوُّل السُّلطة المعرفية إلى ماهيَّة احتكارية، تُجرِّد الإنسانَ مِن إنسانيته، من أجل السيطرة عليه، والتَّحَكُّم بمساره، والهَيمنة على مصيره . ولن يتقدَّم المجتمعُ الإنساني إلا إذا تحوَّلت المعرفة الاجتماعية إلى لُغة رمزية تقتل الوَحْشَ داخل الإنسان بُغية إحيائه، ولا تَقتل الإنسانَ بُغية إحياء النَّزعة الاستهلاكية على أنقاضه.

 

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

 

محمد عمارة تقي الدينواحدة من الجرائم الكبرى التي ترتكبها جماعات التشدد والعنف بحق الدين هي محاولة صبه في قالب أيديولوجي حديدي يستحيل معه أن يُفهم الدين إلا من خلاله، ومن ثم يتم تطويع كل عقائد الدين لتبرير هذه الأيديولوجيا، فنجد أنفسنا في نهاية الأمر أمام دين جديد مخالف تمامًا لدين التأسيس بل ومضاد ومعادٍ له في كثير من الأحوال.

بالطبع لا يمكن للإنسان أن يفكر من دون أيديولوجيا بل مجموعة من الأيديولوجيات المتقاطعة والمتفاعلة مع بعضها البعض والقابلة للتحديث والتطوير المستمر إذ من شأنها تمكينه من بلورة رؤية للذات وللعالم في آن، غير أن ما نقصده هنا هو الأيديولوجيات الحديدية المُغلقة والتي تكتسب طابعاً عنصرياً إقصائياً، والتي من شأنها خلق ما يسمى بالمناعة الأيديولوجية أي وضعك داخل سياج أو قفص حديدي من الأفكار يجعلك غير متقبل لأي أفكار جديدة أخرى باعتبار أن الأفكار القديمة كافية جداً، فالعقلية الأيديولوجية عقلية اختزالية تبسيطية تُحيل كافة القضايا لحل واحد سحري هو ما تطرحة أيديولوجيتها ومن ثم فكل الحلول الأخرى هي بالضرورة خاطئة.

وفي الأديان تقوم الأيديولوجيات ذات الديباجات الدينية بتوظيف مجمل العقائد الدينية لشرعنة أطروحاتها بشكل يقوض الدين من الداخل عبر العبث بمقاصده، إذ عندما يتحول الدين إلى أيديولوجيا حديدية مغلقة ومن ثم محاولة إجبار الجميع على العيش وفقًا لأولويات وأطروحات تلك الأيديولوجية، فإن الدين في تلك الحالة يفقد جوهر التراحم النائم داخل نسقه العقائدي، إذ يتم استدعاء نصوص دينية بعينها وإعادة تأويلها بشكل مجحف لتصبح بمثابة مبرر لعمليات فرض تلك الأيديولوجية وإنزالها على الواقع بشكل جبري وفق منهجية يتم من خلالها التضحية بالوسائل على مذبح الغايات، بقيم الأخلاق والعدالة والتراحم لصالح العنف والقتل والإبادة بحجة تحقيق غاية نهائية وفردوس أرضي في آخر الزمان.

وإذا كانت وظيفة الدين هي إنتاج المعنى، معنى لحياة الإنسان ولماذا هو موجود على ظهر هذا الكوكب، وبعبارة أخرى إذا ما كانت وظيفة الدين هي إنهاء التوتر القائم بين الإنسان وعالمه، فإن الأيديولوجيا تؤجج هذا التوتر وتحشده لمهمة مستحيلة غالبًا ما تبؤ بالفشل فيصيبه اليأس والإحباط، أو أنه يُسرف في العنف لأجل فرض أيديولوجيته تلك بالقوة على الجميع فيتحول بمرور الوقت لسلوك الغابة في عالم لن تحكمه في هذه الحالة إلا قاعدة البقاء للأقوى.

وفي حين أن كل الأديان في نبعها الصافي وإصدارها الأول تُحتِّم الإصغاء لمستجدات العصر ومتطلباته من هنا جاءت مرونة النصوص المقدسة وإحالتها لأكثر من قراءة، إلا أن الأيديولوجيا التي تعتنقها جماعات التشدد الديني دائمًا ما يكون لديها قراءة واحدة وحرفية وجامدة للنصوص الدينية ـ غالبًا ما تكون قراءة مؤسسيها التي تجاوزها الزمان ـ ومن ثم تسعى لفرضها على الجميع.

فاتباع أي جماعة دينية متشددة ذات رؤى أيديولوجية مغلقة ودون شعور منهم تجدهم وقد استندوا لفكر ونصوص الزعيم المؤسس أكثر من النص الديني ذاته، أو أنهم يقرءون النص الديني على ضوء أطروحات ذلك الزعيم المؤسس فيتم لىّ عنق النصوص المقدسة لتتفق وتلك الأطروحات، من هنا تحريف مقاصد الأديان.

وفي حين أن الدين وكما أفهمه من شأنه أن يجعل المستقبل أمرًا مفتوحًا على كافة الاحتمالات احترامًا لحرية الإنسان ودوره في صياغة عالمه إلا أن الأيديولوجيا تسعى دائمًا لمصادرة المستقبل ووضعه في مسار واحد فقط هو مسار تحقيق أهدافها ورؤيتها باعتبارها أمر حتمي.

وفي حين أن سنة الله في كونه هي الحركة، فكل شيء يتحرك وإلا كان مصيره الهلاك والدمار: إذا توقف الماء عن الجريان أثن، إذا كفت الكواكب عن الدوران تدَّمر الكون،إذا توقفت الدماء عن التدفق تجلطت، كذلك سنن التفكير والتجديد والاجتهاد وهكذا، في حين أن هذه هي سنة الله في كونه في مقابل كل هذا تجد الأيديولوجيا دائمًا ما تدعو للجمود والتحجر عند اجتهاد ما ولحظة تاريخية معينة فتذبل الحياة وتموت أو أن أطروحاتها تصبح غير مقبولة في عالم يتغير فيلجأ معتنقوها لفرضها بالقوة.

من هنا تنبثق نبتة العنف في رحم الواقع، والخطورة أنه بدلًا من أن يتم توجيه اللوم للفكر الأيديولوجي باعتباره مسببًا لهذا العنف نجد أصابع الاتهام وقد اتجهت نحو الدين ذاته، فما قتل الأديان سوى الأيديولوجيا ومحاولات صب النص الديني في قالبها الحديدي، من هنا يتحتم إعادة قراءة الدين قراءة جديدة قراءة تقوم على المعرفة والتفكير وليس الأيديولوجيا والتبرير.

إن خطورة التفكير الأيديولوجي تتمثل في أنه يسعى إلي تغيير العالم وفقًا لرؤيته هو ولا يكتفي بتفسير هذا العالم ومن ثم ترك الجموع تختار رؤيتها في التغيير بل يفرض تغييرًا معينًا ورؤية وحيدة لمستقبل العالم وفقًا لقناعاته.

وفي علم المنطق نجد تفسيراً لتلك الظاهرة، ظاهرة صب الدين في قالب أيديولوجي حديدي، وهو ما يسمى بمغالطة القولبة أو سرير بروكرست (procrustean bed)، وتعود تلك المغالطة لأسطورة قديمة تقول أن المجرم بروكروست (Procrustes) كان يأخذ ضحاياه ويضعهم على سريره الحديدي ومن ثم يقتلهم بقطع الأجزاء الزائدة من أجسادهم عن حجم السرير إذا كان حجمهم أكبر منه، أو بتمزيقهم عبر شدهم لأطراف السرير إذا كان حجمهم أصغر منه، وقد تم القبض عليه وحُكِم بالموت بنفس الطريقة عقابًا له، ومن ثم فتلك المغالطة تشير، وكما يذهب الدكتور عادل مصطفي في كتابه المغالطات المنطقية، إلى أي نزعة لفرض القوالب الفكرية الجاهزة عبر تأويل النصوص أو تلفيق البيانات لكي تنسجم قسرًا مع مخطط ذهني مسبق ونتيجة متعمدة يُراد الوصول إليها في نهاية الأمر.

ويطلق مصطفى على تلك المحاولة لأدلجة النصوص الدينية مسمى البروكرستية التأويلية والتي تتبدى في محاولتنا فرض رؤيتنا المسبقة على النصوص، أي أن نُحمِّل النص فوق ما يحتمل أو حتى عكس ما يحتمل ليتفق مع أيديولوجيتنا المسبقة.

كما أن واحدة من استراتيجيات إفساد الأيديولوجيات المغلقة للدين هي العبث بأولويات الأديان إذ تقوم بإعادة ترتيب تلك الأولويات بما يتفق وطرحها، عبر استدعاء بعض المعتقدات أو الفرائض الدينية الهامشية ومن ثم إعادة تموضعها كأولوية مركزية في الدين، بل هي كل الدين، ضاربة بمقاصد تلك الأديان عرض الحائط، أي الإتيان بقضايا من الهامش والقذف بها في المركز لتكتسب وضعًا جوهريًا في الدين وبمرور الوقت تبتلع هذا الدين وتلتهمه داخلها، ومن ثم نجد أنفسنا أمام دين مغاير تمامًا لدين التأسيس عبر إستراتيجية إعادة ترتيب أولوياته وإعادة موضعة العقائد داخله، فعلى سبيل المثال نجد جماعات العنف في اليهودية وقد اختزلت الدين اليهودي في عقيدة استيطان الأرض وبناء الهيكل، وجماعات العنف في المسيحية كجماعة المسيحية الصهيونية نجدها وقد اختزلت المسيحية في عقيدة الخلاص ونبوءات معارك آخر الزمان، أما في الإسلام فقد تمركزت أطروحات جماعات العنف على إقامة الخلافة بغض النظر عن بدائية ودموية الوسائل المؤدية إلى تلك الغاية.

ولكن ما العمل إزاء تلك المحاولات اللانهائية لأدلجة الأديان وتوظيفها سياسيًا ومصلحيًا؟

نعتقد بأنه أمر لا يمكن الفكاك منه من دون الخروج من أسر تلك الأيديولوجيات الحديدية والمغلقة وحتمية الانفتاح على كل الرؤى والأطروحات الحداثية عبر التأويل الإنساني والأخلاقي للنصوص المقدسة، ذلك التأويل الذي من شأنه أن يدشِّن لعلاقة جديدة بين النص وحيثيات الواقع ومعطياته دون الخضوع المطلق لإكراهاته علاقة تتأسس على المقاصد العليا للأديان وتنطلق منها.

وهو أمر من شأنه أن يفتح الباب واسعًا أمام إعادة تفسير وتأويل النصوص الدينية بإطار رؤية كلية شاملة، وبما يسمح بمراجعة التراث الديني البشري ونقده والتعاطي معه باعتباره منجزاً بشرياً محكومًا بمشروطية زمانية مكانية خاصة، والتوقف عن ما أسماه عبد الجبار الرفاعي ” الموقف الارتيابي المسكون بالتوجس من فتوحات واكتشافات عقل الآخر والكف عن فوبيا الخوف من كل ما هو جديد في العلوم والمعارف البشرية”.

والإيمان بأن محاولات صب الدين في أيديولوجيا معينة وإجبار العالم على قبولها باعتبارها الخير الوحيد في هذا العالم وبالتالي تصنيف ما عاداها باعتباره شر مطلق هو تصور من شأنه تغذية الصراعات والحروب في العالم، في حين أن الدين وكما أفهمه جاء لإفشاء السلام وإرساء قيم التسامح عبر تقليص تلك الصراعات لحدها الأدنى.

بل ويتحتم القبول بهذا العالم بكل اختلافاته وتنوعاته الفكرية والدينية والسياسية، فلا شك أن الميل إلى توحيد العالم في عقيدة واحدة أو قالب أيديولوجي واحد هو أمر من قبيل المستحيل وضد حركة التاريخ وسنن الله في كونه، وفي هذا الشأن يقول الشاعر الإغريقي هيزيودس: ” المنافسة هي صاحبة اليد البيضاء على الإنسانية، إنها شرط وجود الديانات والفنون والعلوم وكل ما يستحق أن يحظى بدراستنا وإعجابنا، لو كانت أشكال العبادة واحدة لدى جميع البشر لما بقي للدين أثر منذ أمد بعيد…وكما أن الراكضين في الحلبة يتجهون كل من موقعه الخاص نحو الحكم نفسه كذلك ندين كلنا على مرّ مراحل حياتنا إلى حكم واحد سيّد عادل تتعدد الطرق المؤدية إليه…فإن لم يكن بد من قول الحقيقة تجاسرنا على الجزم بأن تطابق الآراء هو حلم الأشخاص الجهلة، فالله نفسه يحظر تماثل العبادات بل يريد من كل فرد أن يعبده بطريقته “.

وبالمجمل فإن ما تتّبعه جماعات التشدد الديني من إستراتيجيات لإخضاع النص الديني الحر للأيديولوجيا ومحاولة صبه داخل قالب هذه الأيديولوجيا الحديدي هي الطغيان على النص، هي الطاغوت بعينه، هي نزاع الله في نصه المقدس، هي بالمجمل تقويض لهذا الدين من الداخل، وعليه يمكن القول أن هناك دين الأيديولوجيا (أي الكهنوت والانغلاق)، ودين الابستومولوجيا(أي المعرفة الحرة).

وفي التحليل الأخير فعلى الجميع وأنا واحد منهم أن نصرع ذئب الأيديولوجيا الرابض داخلنا، ألا نسجن عقلنا داخل أيديولوجيا فكرية أو سياسية أو دينية مغلقة نحاول تبريرها طوال الوقت لنجد أنفسنا في نهاية الأمر، إذا جاز لنا أن نستعير من ماكس فيبر، أسرى قفص حديدي من الأفكار المغلقة، بل علينا أن ننفتح على كافة الأفكار والاتجاهات ونقف على مسافة واحدة من الجميع ليتأسس وعي عام حقيقي يقوم على المعرفة والتفسير وليس الأيديولوجيا والتبرير.

 

دكتور محمد عمارة تقي الدين

 

سامي عبد العالأينما وُجدت فكرة "الخِراف الضَّالة"، فإنَّها تستحضر معاني المُخلِّص القادم حتى ولو جاء كائناً عابراً. والعبور هو وضع ثقافي (اجتماعي– سياسي) بالمقام الأولِّ، يخلق رموزه الطارئة التي تهيمن على المجتمعات المقهورة. وفوق هذا وذاك، تطلب الخراف السائمة أهدافها مثلما تقتات على العشب الأخضر واضعةً رؤوسها بين الوريقات، ولا تسعى نحوها تلقائياً في غير مرةٍ إنما تحتاج راعياً منتَّظَراً. يحدوها إلى موارد الكلأ ويهدر استقلالها رجوعاً إلى قيادته طائعةً دون حراكٍ. يحدث هذا كنمط رائج على صعيد الحيوان بقدر ما يحدث على صعيد الثقافة والفكر والتربية والاعتقاد.

قال السيد المسيح: "... لم أُرسل إلاَّ إلى خِراف بيتِ إسرائيل الضَّالة ". صحيح كانت رسالته الدينية تستهدف خراف بيتَّ إسرائيل تحديداً، وهذا مثال بشري مشروط بسياقه للإشارة إلى الانحراف في السلوك والاعتقاد، وبخاصة أنَّ الخراف نوع من الحيوان يميز تلك البقاع الزراعية الشرقية التي اعتبرها المسيح (بيئة جيو سياسية دينية). وهو ما يستحضر المعنى الثقافي للفكرة بالتبعية، أي أنه لا تكون هناك خرافٌ ضالة دون عشب ديني متعاضد مع نباتات سياسية متسلقة وضارة بالإنسان في الوقت نفسه. وهي الأعشاب التي تنبت في حواشي السياسات الشرقية ومتونها كيفما تجري في مجتمعات رعاةٍ بالأساس. فلئن وجدت خراف ضالة، فهناك أساليب للحكم والتعليم والاجتماع بالطريقة ذاتها. وكأنَّ المسيح يخبرنا على نحو غير مباشر عن مدى وجود نماذج أخرى في هذه المجالات يمكن أن توجد وتتناسل مع التاريخ من مرحلة لأخرى.

 لأنَّ حيواناً من هذا النوع المشهور (الخراف) يعدُّ على علاقةٍ وثيقةٍ بالإنسان، من حيث كونه يؤكد إطاراً معيناً حول (الرُعاة والرعاية والرعاع والراعي والرعية)، وهي مفردات و تدابير لا تخلو منها البيئة الثقافية وتنعكس على حيوات الشعوب بالبقاع الشرقية تخصيصاً نظراً لميراث اجتماعي من هذا الصنف. لكن كلَّ رسالة (عملية أو نظرية) على غرار رسالة المسيح تعرف جيداً إلى من تتجه، ومن هي خرافها الضالة بالتحديد. وكيف تتعامل معها على المستوى نفسه من التأثير والأسلوب.

 مقولة " الخراف الضالة" هي حالةٌ جمعيةٌ من الفوضى، وانعدام الرؤى، وضحالة الوعي، وانتشار روح القطان، وسيادة التيوس والكباش الفارغة من المعرفة والفكر والفهم على مقاعد السلطة أيا كانت، وشيوع اليقينيات الأصولية والأيديولوجية حشواً للأدمغة، والتناحر على أتفه أسباب، والركض وراء الأوهام لتغدو ممارسة يومية بفعل السياسة والتعليم والإعلام. حتى أننا نستطيع اعتبار المقولة السابقة عنواناً لمجتمعات ومؤسسات وأفعال وأنظمة سياسية لعبت أدوارا في ترويض الشعوب المغلوب على أمرها.

في هذا الشأن، لو كانت هناك بقايا لمقولة المسيح، فماذا عن خراف بيت العرب والمسلمين؟ ومن الذي أُرسل إليهم؟ وكيف يقود الراعي المنتظر خرافه الضالة؟ وكيف تتعامل هذه الخراف مع الرسالة الموجهة إليهم؟ وإلى أي مدى تسير حياتها مع تحولات السياسة والدول والأنظمة الحاكمة التي خضعت للروح ذاتها؟ هل هناك سياق فقد مبرره كانت تتعامل هذه الأنظمة خلاله إزاء شعوبها؟

 أيا كانت الإجابات، فهي واضحة تجاه الأحوال العربية الذي انتشرت فيها فكرتا الرعاة والرعية ولكن تحتاج إلى زوايا أخرى من التحليل والتقليب المتواصلين، ولابد أنْ تفتح أفقاً أوسع لعمل التاريخ وتراكمه نحو الأفضل. والمفارقة هنا بارزة إلى حد السخرية بعد كل هذه الخطوات التي قطعتها الإنسانية من تقدم تكنولوجي والدفاع عن كيانها مستقلاً وحراً وتأسيس آفاق للحقوق والحريات وخلق أشكال الإبداع الفردي والجمعي وتأكيد المعالم الخاصة بالإنسان في المقام الأول وإنشاء أنظمة سياسية ليبرالية مفتوحة تقبع التنوع والتعدد في العيش الاعتقاد.

 أقول: بعد كل ذلك نجد هناك بالعالم العربي مَن يبحث عن تربية البشر كتربية النعاج الضالة ويبني حظائرها ويؤسس لأجيال تالية تعيش الأوضاع نفسها. و قد لا يغادر هذا المسئول أو ذاك موقعه (سياسياً ودينياً وإعلامياً) دون التعامل مع المواطنين إلاَّ بهذا الوضع. ولو افتراضنا أنه يخضع لمنطق العصر الراهن بوسائله المتقدمة، فإنه يتخفى في مظاهر حداثية بينما جوهر ما يقوم به هو في النهاية "رعاية الخراف الضالة".

نجحت نتاجات الحداثة وما بعد الحداثة في إنجاز التجريف التاريخي لرواسب مقولة المسيح السابقة وتدميرها تماماً، فلا تقارن مقولة (الخراف الضالة) إلاَّ بما يناقضها من قيم التحرر في كيان الإفراد وأفكارهم وممارساتهم كما هو موجود لدى بعض مجتمعات الحضارة الغربية: أي الاهتمام بالإبداع والانطلاق والتحلُّل من الحشد والاستقلال والعلمانية وتدمير الميتافيزيقا المتعالية والنقد الجذري وإعلان حقوق الإنسان والاعتراف بالآخر وكشف زيف الأساطير سياسياً واجتماعياً. حيث التأكيد على قيم الذات وإذاقة الإنسان معرفة أناه الحر وخياله الطلق، هذا الترياق الشافي من جروح القطعان وضغوطهم.

وإضافة إلى هذا تمَّ تفكيك حتى ما يُسمى بالضلال في مقولة (الخراف الضالة)، لأنَّ ضلالاً بمعناه اللاهوتي المسيحي يعني:

1-  تأكيد سلطة دينية متعالية إزاء من هم أدنى مكانة، وهي كذلك سلطة قد تكفر الضالين وتفرزهم عن المؤمنين والأخيار. لأن كل إقرار بالضلال إزاء البعض إنما يضمر معايير تحتاج إلى من يمسك بها للحكم على الآخرين. وهذا ما حدث عندما أفرزت مفاهيم (الضلال) وتصنيفاته تراتباً اجتماعياً وسياسياً في المجتمعات التي تستند إلى أُطر دينية أيديولوجية. وتلك السمة لا تنتهي من تربة الحياة العامة بسهولة إنما يجب الحفر حول بذورها وجذورها المهملة بين طيات التراب الثقافي وتحت أكثر الأنشطة سريانا في تضاعيف الأفعال والممارسات.

2- ترتبط المقولة بالحكم على أُناس بعينهم بالضلال والخبال. وهذا المعنى أخطر ما كان يؤدلج تعاليم الديانات عبر التاريخ، لأنَّه كان يحوِّل فكرة العمومية (المساواة والعدالة والتنوع الأفقي) بين جميع الناس إلى أداة إقصاء وإرهاب. والأداة تخلق أصحابها من وقت لآخر بموجب عدم قدرة الإنسان على الاستقلال والشعور بخصوصية متفردة. في مقابل عدم إنهاء الاستغلال، لكونه لصيق الصلة ببنية المجتمع وذراته الفرعية المكونة.

3- تحُول المقولة دون اتساع رقعة المجتمع المدني civil society، وهو مجتمع لا يلجأ إلى أية قوى خارج قدراته الذاتية ومؤسساته الحقوقية المدافعة عن مصالح أفراده والضامنة لحرية حركتهم والتعبير عنها بكامل الإرادة والشفافية. ولكن عندما يكون هناك نظام مستبد (متخلف)، فالمقولة السابقة تصبح قيد التطبيق بشكل لاوعٍ، بل هي النموذج الأمثل الذي يخدم السلطة المستبدة ويغذيها بأسباب استمراريتها.

4- تدعو المقولة إلى انتظار الرسل حتى بعد انقطاع النبوات واستحالة مجيئها. وهذا في الثقافة الإنسانية معناه ملء الفراغ بأنبياء مزيفين يتحكمون في رقاب البشر، ويتلاعبون بمعاناة الناس وآلامهم وأوضاعهم المزرية. فقميص النبوة في التراث الاجتماعي الشرقي كان يُخلع على أي صاحب سلطة نافذة ولا سيما السلطة السياسية، فالحاكم الملهم هو نبي بدرجةٍ ما إن لم يكن إلها يتحرك على رجلين.

5- تكرس المقولة نوعاً من اللغة الدينية وكأن الحياة المدنية والسياسية لم تفرز معجمها اليومي الخالي من ثنائيات الضلال والصلاح. وهي معاني أخلاقية لاهوتية لا يوجد لها مقابل في خطابات الحياة بين البشر المختلفين. فما معنى الضلال في الأفعال والسلوك ضمن آفق  متعدد الديانات والاعراق والاتجاهات؟ وكيف يأتي الضلال عبر الظواهر السياسية والاجتماعية العامة طالما وجدت ثقافة التنوع وطالما هناك لغة القوانين والمؤسسات والحقوق؟

رغم ذلك يلوك السياسيون العرب نغمة الضلال الغابرة، ففي محاربة الإرهاب يستخدمون المقولات الدينية لمحاربة خصومهم ولا يضعون حدوداً لانتشارها وتداولها. كأن يقولون أننا نحارب الجماعات الدينية الضالة وأننا نحاول القضاء على ضلال الفكر والسلوك!! وكذلك يرددون النغمة نفسها بصدد خصومهم السياسيين الذين ينعتونهم بالضلال والانحراف، والأسوأ أن يعاملوا مواطني دولهم على أساس حركة القطعان الضالة. فنجد أحدهم أو غيره يتمسكن ويتمطع ويتلوى ويزمزم ويطلق ألفاظاً ناعمة لا تخلو من الخداع الماكر على خلفية دينية سلفية. وقد اعتبر هذا المسئول أو ذاك مواطني دولته نعاجاً ليست ضالة فقط، بل تحمل ما ثقل وزنه وغلا ثمنه من  شحم ولحم وصوف وجلود. فينتظر جز صوفها وصناعة لحماً مقدداً من ذبحها بين الفنية والأخرى.

 والأغرب أن الخراف أو المواطنين ينتظرونه كما ينتظر المغلوبون على أمرهم عودة المُخلِّص في التراثات الشعبية، هذا الفتوة الذي يهزم الطاغية ويخلِّص الضعفاء والفقراء من القهر والظلم، ثم سرعان ما يتحلقون حوله ويحملونه فوق أكتافهم كمشهدٍ من مشاهد القضاء على الفتوات المتسلطين على يد فتوة جديدٍ في رواية الحرافيش لنجيب محفوظ. والفتوة الجديد سواء أكان في الرواية أو الواقع لا يُفلت الفرصة السانحة. فالخراف كنوز بشرية متحركة بدءاً من اغتصاب إرادتها والضحك الهستيري على أحوالها وإطلاق الوعود دون أجل وانتهاء  باستمرارية الأوضاع وكسب مزيد من المكاسب. لدرجة أنَّ هذه الحالة العربية أو تلك في مجملها مازالت تشكل دراما الخراف الضالة ويبدو أن دلالة المسيح كراعٍ سياسي في أوضاعه البشرية هو البطل الفعلي الذي ينذر نفسه لقيادة خراف بني الإنسان العربي.

وكذلك دينياً ينصِّب الشيوخ الإسلاميون أنفسهم كالمسيح رغم عداوتهم التاريخية لكل ما ينتمي إلى المسيحية وتكفيرها، فلا يعتبرون متابعيهم بشراً أسوياء ولا أناساً لهم مؤهلات وسمات الإنسانية المجردة داخل كل منهم، بل (هم) من وجهة نظر أولئك الشيوخ خراف سائمة لا تنطق ولا تعقل، وإلاَّ ما سبب هذه الفتاوى حول الظلم والقهر والفاقة والضنك في الحال والمآل الذي هو - كما يرددون - مما كسبت أيدي الناس، وأنَّ ما هم فيه هؤلاء لا دفعَ له لكونه بلاءً من رب العباد، رغم أنَّ الفاعلين معروفون في كل مجتمع عربي والاستبداد مشهور والتخبط السياسي والفساد المالي والإداري لا يحتاج إلى دليلٍّ. وهذا يثبت زيف هؤلاء الشيوخ وزيف خطابهم القائم على حيوانية الإنسان وهو خطاب يوضع في خدمة أي تيس قوي في الحظيرة له الغلبة والشكيمة على باقي الخراف.

ولقد فاقَ خطاب الإعلام العربي - باختلاف توجهاته ودوله - كل الحدود في تربية الخراف الضالة واجتذابهم حوله على غرار فج وقميء. إحدى القنوات الخليجية المشهورة مازالت تطرح الأخبار والتعليقات والبرامج بمنطق قطيع الخراف، حتى أنها تعول على حركته السائبة في شوارع الفوضى والإهمال والحشود، شوارع بعض الدول العربية. ونظراً لكونها قناة مؤدلجة دينياً، فإنَّها تستخدم كلَّ حيل الحظيرة السياسية لتزييف وعي المشاهدين واستعمالهم في تلوين الحقائق.

حالة الخراف الضالة لا تعلَّن بصراحة، لكنه نمط ثقافي سائد وله جذوره البعيدة بل الضاغطة ويحكم ضمنياً طرائق الفكر وممارسات السلطة وفنون الخطاب وتداول المعارف. حيث يتجاوز النمط كافة الأحزاب والاتجاهات: تجد ليبرالياً متلوناً يمارس ليبراليته بوضعية الخروف الضال، تجد قومياً قحاً يمارس قوميته بمعجم الخروف الضال، تجد سلفياً يمارس سلفيته برمزية الخروف الضال، تجد عقلانياً يزعم تمرده ولوذعيته يمارس العقلانية المنتظرة بلهجة الخروف الضال ويفرض على الآخر هذه الوضعية من التلقي السلبي والطاعة العمياء وكأنه لم يتعلم شيئاً من استعمال العقر بحرأة ودون خوف... ماذا بقيت من شرائح المجتمع لم تتشبع بهذا المعنى اللاهوتي السياسي؟

وفي الأخير إذا أراد العرب التأسيس لمرحلة من التطور وتحديث المجتمعات وبناء أجيال تسهم في عصر التقنيات والمعارف المتقدمة وتعيش الثقافات الكونية الحرة، فيستحيل الانخراط في ذلك الوضع (الذي كشفه المسيح) دون تفكيك الجهاز المفاهيمي والفكري لهذا النمط الأبوي من الحياة. ليس أقل من نسف كل ما ينتمي إليه بصلة نسفاً جذرياً، لأن الأبوة والرعاعية يتعاونان مع بعضهما في مناطق اجتماعية ودينية متناهية الصغر وعظيمة الهدم لكل محاولات نقدية حقيقية وتعطيل مسيرة الإنسان تجاه الإحساس بذاته وإنضاج رؤاه حول العالم والتاريخ.

  إنه بملء الكلمة، لا يوجد في السياسة ولا في الدين خراف ضالة، هذه الحالة لابد من تفريغها وتكسير مفاصلها وإعادة قراءتها في التفاصيل الدقيقة للوعي والحياة، ذلك بعملية تاريخية وثقافية طويلة الأمد تشتغل على صور السلطة الجارية وتلوينها بالدين والأخلاق والنظام الاجتماعي والمعرفي. حتى ولو اقتضى الأمر تثوير أبنية المجتمعات العربية وتحطيم قيودها المنتجة لهذا السلوك الفارز.

 وكما انخرطت مجتمعات الربيع العربي فجأة ودون سابق إنذار في عملية تحول بشكلٍّ ما وإن كانت منحرفةً عن جادة التطور السليم في أغلب حالاته، فلابد من تقعيد الوعي الثوري والتنويري بإنتاج خطابات تستثمر في تنمية  قدرات الإنسان وطاقاته وتطلق العنان لحرياته المتنوعة ولا تعتبره خروفاً في قطعان هائمة نحو مصيرها المجهول. إنَّ الحرية بتنوع وجوهها الإنسانية جزء من بناء وعي مضاد لفكرة (الضلالة) التي تهدد المجتمعات العربية في مستقبلها وتطورها المنشود. ولا ينبغي انتظار مالا يأتي من رسل آخرين بعد خاتم الانبياء ولو كانوا في عباءات سياسية أو اجتماعية، لأنَّ الحياة والتطور لا ينتظران أكثر من قدرة الإنسان على الإبداع والاختلاف.

 

د. سامي عبد العال

 

 

عبد الجبار الرفاعيوجودُ الإنسان مرآةُ وجود الله. الإيمانُ نورٌ يكشفُ للإنسان حقيقةَ وجودِه، ثمرةُ الإيمان تُعرف بإثرائه لسكينة الروح، وطمأنينة القلب: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"1. الإيمانُ حالةٌ للروح تعيشها، وتجربةٌ للحقيقة تتذوّقها. يسكنُ الإيمانُ الروحَ مثلما تسكنه، ويرتوي بالروح مثلما ترتوي به. الإيمانُ عودةُ الروح إلى أصلها الإلهي، أودع اللهُ في كلّ إنسان روحًا منه، إلا أن هذه الوديعةَ تحتجب متى احتجب الإنسانُ عن الله، اللهُ لا ينسى الإنسانَ إلا عندما ينساه الإنسانُ: "نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ"2. لا يستردّ هذه الوديعةَ إلا الإيمان، الإيمانُ إيقاظٌ لصوت الله في ضمير الإنسان، وانبعاثٌ لما ينتمي الى الله فيه. الروحُ تنتمي إلى الله، إنها وديعتُه التي استؤمن الإنسانُ عليها، كما يؤكّد القرآنُ الكريم ذلك، فإذا ذكرَ اللهُ الروحَ في القرآن قرنها به، كما تشير هذه الآية وغيرُها: "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ"3 .

الإيمانُ يكرّس الروحَ والقلب ويتوحّد بهما، حتى يبلغ توحّدُ القلب والروح بالإيمان مرتبةً لا يخضعان معها لمعادلاتِ الذهن ومشاكساتِه مهما كانت. الإيمانُ حالةٌ ديناميكيةٌ حيّة، تتغذّى وتنمو وتتطوّر وتتجذّر. إنه جذوةٌ متوهجة، كأنها طاقةٌ مشعّة، يضيء الإيمانُ الروحَ لحظةَ تحقّقها به، مثلما تضيء الكهرباءُ المصباحَ المظلم لحظةَ وصله بها، وهذا معنى كونه حالةً نتذوّقها كما نتذوّق الطعامَ الشهي والشرابَ اللذيذ. كلُّ ما يتذوقه الإنسانُ ضربٌ من التجربة، والتجربةُ تفشلُ لغةُ الإنسان في التعبير عن حقيقتها وكلِّ حالاتها وأطوارها.

يفيضُ الإيمانُ على صاحبه طاقةً مُلهِمة، إذ لا يجد نفسَه في غربة إلا ويهمس إليه صوتُ الله، فتستفيق روحُه بعد غفوتها، وتمتلئ بعد خوائها، وترتوي بعد ظمئها، ويتجدّد وصالُها بمن أودعها عنده. في كلّ غيابٍ للإنسان عن ذاته يرى حضورَ الله هو الحضور، واحتجابَ الله هو الاحتجاب.

الإيمانُ مُستقرَّه القلب، ومأواه الروح. إنه ليس صورةً ندركها، الصورةُ يختزنها الذهنُ. الإيمانُ، خلافًا للفهم والمعرفة، لا يتحقّق بالنيابة، في عملية الفهم يمكن أن يتلقّى الإنسانُ معارفَه من شخصٍ آخر، أو يقلّد غيرَه في آرائه. الإيمانُ تجربةٌ تعكس تسامي الروح في سفر النور من الخلق إلى الحق. إنه ضوءٌ ينبعث داخل الإنسان، إنّه صيرورةٌ تتحقّق فيها الروحُ وتتكامل، ونمطُ وجودٍ يرتوي به الظمأُ الأنطولوجي للمقدس، إنه مما تضيق في التعبير عنه العبارةُ، ولا تشير اليه إلا الإشارة.

يحقّق الإيمانُ الإنسانَ في طور وجودي جديد، فحيث يسافر الإنسانُ للحقّ تتكرّس قدرتُه، وتترسّخ إرادتُه، وتتعذّر هزيمتُه. لأنه يتحقّق بالحق فلا يشعرُ بهشاشةِ وخواء وجوده. بذلك يجعل الإيمانُ الاشياءَ المستحيلةَ ممكنة، والشاقّةَ سهلة، والمرّةَ حلوة.

الإيمانُ وحبُّ الله كلاهما كيمياءٌ للروح، كلاهما ينبثقان من جوهر واحد. يولدان معًا، ويرتضعان معًا، ويتكرّسان معًا، ويتوحّدان معًا، فحيث ينمو الإيمانُ ينمو الحبُّ، وحيث يذبل الإيمانُ يذبل الحبُّ. إنهما في صيرورة وتفاعل وفوران، يتحوّل الإيمانُ إلى حب، كما يتحوّل الحبُّ إلى إيمان. الإيمانُ عصارةُ الحبّ، والحبّ عصارةُ الإيمان، كلا الحالتين تستقيان من الشلّال ذاته، يصبح كلّ منهما صورةً لحقيقة واحدة متعدّدةَ الوجوه. حين يصير الإيمانُ حبًّا والحبُّ إيمانًا تشهد حياةُ الإنسان أنوارَ الأبد. ما أجمل التعبير الوارد في مناجاة المحبين للامام السجاد "ع": "اِلـهي مَنْ ذَا الَّذي ذاقَ حَلاوَةَ مَحَبَّتِكَ فَرامَ مِنْكَ بَدَلاً، وَمَنْ ذَا الَّذي أنـِسَ بِقُرْبِكَ فَابْتَغى عَنْكَ حِوَلاً".

الإيمانُ فرحُ الروح في زمن قلما تفرح فيه الروحُ، إذ يتهدّدُ العالَم تدينٌ كئيبٌ يغمر الروحَ بالأسى. في الإيمان تتناغم الأديانُ وتتعايش وتأتلف، بعد أن تكتشف شفرةَ اللغة الروحية الواحدة المشتركة التي يتكلّم فيها إيمانُها، وإن كانت في الاعتقاد تتكلّم لغاتٍ شتى لا تفقه كلٌّ منها الأخرى. يقول ابن عربي: "تنوعت المشاربُ، واختلفت المذاهبُ، وتميزت المراتبُ، وظهرت الأسماءُ الإلهية والآثارُ الكونية، وكثرت الأسماءُ والآلهةُ في العالم"4 .

2323 مؤمنة

لا يولد السلامُ بين الأديان في فضاء الاعتقاد، بل يولد السلامُ بين الأديان في فضاء الإيمان. الإيمانُ يتكلّمُ لغةً واحدة، المؤمنون في كلّ الأديان يستوحون إيمانَهم من منبع مشترَك هو الحق، وإن تجلّى لكلّ منهم في صورة، تتنوّع صورُ الحق بتنوّعِ دياناتِهم، وبصمةِ ذواتهم وبيئاتهم، غير أنهم يعيشون التجاربَ الروحيةَ المُلهِمةَ للطمأنينة والسكينة والسلام. الإيمانُ حقيقةٌ يتجلّى فيها جوهرُ الأديان، وأرضيةٌ تتوحّد في فضائها، ومنبعٌ مُلهِم للحياة الدينية فيها. لا يتخلّص الإنسانُ من نزاعات الأديان وحروبها إلا في فضاء الإيمان.

إن كانت نصوصُ الدين مقدّسةً غير أن تفسيرَها وتأويلَها وفهمَها يتجلى فيه الأفقُ التاريخي الذي يتموضع فيه الكائنُ البشري، لا يمكن أن يكون ذلك الفهمُ عابرًا للإطار المعرفي الذي يعيش فيه ذلك الكائنُ. إن تطبيقَ المناهج العلمية في دراسة الأديان وفرقها ومذاهبها ضرورةٌ يفرضها التعرّفُ على كيفيةِ ولادتها وصيرورتها عبر التاريخ، والآثارِ المتنوعة لها في الحياة البشرية. الأديانُ تولد في عصر مؤسّسيها، لكنها تظلّ تتخلّق وتنمو في صيرورة لا تتصرّم عبر الزمان والمكان، في سياقات نسيجِ المتطلبات المتنوّعة لحياة الإنسان فردًا وجماعةً، والعلاقاتِ العضوية بين السلطة والمعرفة، كما يشرحها ميشيل فوكو.

ما لم يتسع حقلُ دراسةِ الأديان ومقارنتِها لدى الباحثين في الدراسات الدينية، لا يمكن تصويبُ سوء الفهم والأحكام السلبية السابقة، وحذفُ الكثير من الأخطاء المتراكمة في فهم أتباع ديانةٍ لمقولات ومعتقدات أتباع ديانةٍ أخرى، إذ تتوالد من سوءِ الفهم والأحكامِ السلبية السابقة دائمًا أحكامٌ إقصائية حيالَ الآخَر المختلف.

إن دراسةَ الأديان ومقارنتَها هي المعيارُ الحقيقي لاختبار وفاءِ الأديان بوعودها، ومصداقيةِ ادعاءات أتباعها. ولا يتحقّق ذلك إلا بالعودة إلى نصوصِها المقدّسة، ومدوناتِها الخاصة الموازية لهذه النصوص، والتعرّفِ على أنماطِ حضورها في حياة الأفراد والمجتمعات التي تعتنقها، ومدى تأثيرِها الإيجابي في تنمية الحياة الروحية والأخلاقية، والتفتيشِ عن أثرها السلبي، وفضحِ ما تعمل على إخفائه أو تتعمّد حذفَه من تراثها وتاريخها الخاص. دراسةُ الأديان الوحيانية مثلًا لا تصحّ إلّا بالعودة إلى نصوصِها المقدّسة وتراثها الخاص، وطبيعةِ تأثيرها في حياة الفرد والمجتمع الذي يعتنقها، وكيفياتِ حضورها في التاريخ البشري، وما تركته من آثار مختلفة في البناء والهدم.

ليس هناك ديانةٌ تستأثر وحدها بالمحبة والحرياتِ والحقوقِ واحترامِ كرامة الإنسان، وليس هناك تاريخُ ديانةٍ منزّهٌ من التعصب والعنف وانتهاك الكرامة. لا يكفي الحكمُ على أخلاقية وإنسانية الديانة بما تشتمل عليه مدوّنتُها، وليس بشهاداتِ أتباعِها عنها، مهما ادعوا من انحصار الأخلاق والإنسانية فيها. لا يكون الحكمُ صادقًا إلا بمقارنتها بالديانات الأخرى، وتفحّص وغربلة مسيرتها التاريخية، وما صنعته في محطات رحلتها عبر الزمان، وما قدمته من مكاسب للحضارات البشرية، مضافًا إلى اكتشاف مقدار تجلّي القيم الإنسانية لهذه الديانة وأخلاقياتها في سلوك معتنقيها أفرادًا وجماعاتٍ في الماضي والحاضر.

كي تتعايش الأديان وتأتلف ينبغي العمل على تكريس المشترك الإنساني الروحي والأخلاقي والجمالي للأديان، ‏وتوظيف الرصيد الايماني والرمزي الحي لها من أجل صناعة السلام في العالَم. والكفّ عن نبش ذاكرة حروبها المريرة والانتهاكات الشنيعة في مسيرتها، وما يختبئ في أرشيفاتها من تعصّبات وكراهيات وصراعات دينية مريرة. وأن ينشد الكلُّ الكفَّ عن ثنائية أنا / أنت، والانتقال إلى الـ "نحن"، على وفق رؤية البابا فرنسيس في ترسيخ معنى "العائلة البشرية"، بوصفها مقصدًا إنسانيًا أسمى يكشف عن الغاية العظمى لكلّ الأديان، وبوصف: "الأخوّة أقوى من قتل الإخوة، الرجاء أقوى من المَوت، السلام أقوى من الحرب".

أما أن نعيشَ معًا وذلك ما ينشده كلُّ حكيم في الأرض، وأما أن نموت معًا وذلك ما يعمل عليه كلُّ متعصب أحمق. كتب الأديان المقدسة وميراثها منجم يكتنز بالمعاني الروحية والأخلاقية الأصيلة، التي تبني أُسس العيش معًا. "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"5 .

من الضروري الارتقاءِ بالحوار بين الأديان، والانتقالِ من الكلام المكرّر، كلام العلاقات العامة والمجاملات إلى اعتماد المناهل الروحية والقيم الأخلاقية المختزنة في جوهرها، والبناءِ عليها بوصفها منطلقاتٍ للبحث في دراسة الأديان والحوار بين أتباعها. في ضوء ذلك ينبغي رفضُ مواقف كلّ من يستخفّ بمعتقدات أيّ دين آخر أو يسفهها، وأن تتعاقدَ كلُّ الأديان على رفض التكفير، وإن كان التكفيرُ يمتلك حججَه وأدلتَه داخل منطق الديانة وتراثها، مهما كانت تلك الحجج والأدلة مقنعةً ومقبولةً لأتباع الديانة. وأن ينطلق الكلُّ من واقع الحياة البشرية، وليس من الرغبات والأماني والأحلام والأوهام، هذا الواقع الذي يدلل على أن الناسَ لا يمكن أن يجتمعوا على قناعة واحدة، أو اعتقاد مشترك، أو ديانة واحدة. "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ"6 .

 

د. عبدالجبار الرفاعي

....................

1- الرعد، 28.

2- الحشر، 19.

3- الحجر، 29.

4- ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكية، ج3: ص 94..

5- البقرة، 62.

6- هود، 118.

 

 

سامي عبد العالفي تاريخ الأوبئة هناك أمرٌ ساخر يشوبه التناقض داخل المجتمعات العربية: هو أننا نعزل أنفسنا هُروباً من كل وباءٍ واسع الانتشار بوصفه طاعوناً للعصر، مترقبين تحسُن الأوضاع مع التملمُل لدرجة السأم من فترات الانعزال، بينما نحن (كنا ومازلنا) نحْجِر على حركة العقل طوال قرون من الخمول الحضاري، ولم نتململ قط من انعزال العقول المتمردة عن حياتنا الرتيبة.

بالفعل لقد تمَّ الحَجْر الصارم على إبداع العقول رغم أنَّ فيروسات الفكر الراكد أشد فتكاً، ليس أقلُّها انتشار التطرف والإرهاب والجهل والسقوط المريع في الحياة. ومن ثمَّ لم يكُن مُجديّاً بالتماثل (بين فيروسات الطبيعة وفيروسات العقل) حظْر تجول الأفكار المختلفة لمنع العدوى وتعطيل العقل عن أن أتي بالجديد وبما هو إنساني؟!

لعلَّ أخطر ما فعله وباء كورونا أنه قد كشف أشياء أخرى في تاريخنا الراهن، بالتحديد كشف أوبئة ثقافية وحضارية ضاربة الجذور في ثقافتنا اليومية. مثل فيروسات التخلف السياسي والجُمود الفكري وتراجع مستويات التعليم المبدع وضياع فكرة الإنسان وتدني الإسهام في الحضارة الكونية. لدرجة أننا أصبحنا مرضى لا نقوى على علاج أنفسنا وننتظر الآخرين أن يقدموا لنا علاجاً ومعرفة وفوق هذا وذاك نتاجر في أمراضنا كأنها مصالح أو استثمارات.. أية كارثة غير إنسانية نعيش؟!

الأمر أشبه بالجسم الذي يبدو قوياً صلباً في الظاهر أمام النظر طالما لم يُصبْ بأية أمراض، ولكنه عندما يُصاب بأي مرض (ولو كان بسيطاً) يبدأ في إظهار علل أخرى، نتيجة مداهمة الوهن والخلل لبنيته وبفعل انخفاض مستوى المناعة لدرجة أنَّ الفيروسات الدقيقة قد تعصف بكيانه إجمالاً. فالتباعد الاجتماعي بسبب كورونا والحَجْر على الجسم أظهرا أنواعاً من الحجْر كنا نمارسها طوال الوقت، رغم كوننا أولى بمقاومتها والتطلع لحياة أفضل.

على سبيل المثال نحن أولى بمقاومة الحَجْر على الفكر والحرية والتنوع وعلى انسانية المرأة والإبداع وقيمة الآراء المغايرة. ذلك لإحداث" ثورات نقدية" بمعناها الحقيقي تجاه عصور سالفة أُزيحت خلالها مسارات العقل وتمَّ حجبها في غياهب التقاليد الموروثة. كانت سلطة الموروثات متغلغلة في كافة التفاصيل بغطاء ديني وسياسي معاً ليس أكثر ولا تنتمي إلى أصول الديانات، واستطاعت وضع العقل ومشروعاته وشطحاته وخروقاته للمألوف تحت "الإقامة الجبرية". فلم يكُّن هناك عصر عربي اسلامي واحد يمكننا أنْ نسميه عصر العقلانية أو حرية استعمال العقل أو زمن المراجعة والنقد أو فترات التحرر من التقاليد الآسنة. مما أفقد تاريخنا (وبخاصة السياسي والثقافي) القدرة المرنة على التطور وتأكيد التنوع بطرق طبيعية.

دوماً كان الميلاد التاريخي الجديد لدينا يتم بانفجار الثورات الطارئة والهوجاء والحركات المذهبية والانقسامات الطائفية وانقلابات السياسة والأحزاب السرية والاغتيالات والدسائس والمؤامرات ... إلى آخر النفق المظلم. حتى أنظمة دولنا العربية الغابرة والراهنة، فقد جاءت على أسنة الرماح أو تحت صهيل الخيول أو فوق المدافع ووسط الفوضى والقمع إلى مداهما الأكبر. وكم أحدث ذلك الوضع رُعباً لدى أصحاب الأفكار الأخرى والديانات والمذاهب المختلفة.

وبمناسبة عدوى الفيروسات الطبيعية، تخاف مجتمعاتنا لحد الرعب من عدوى الحريات، وبات أصحاب الحرية العقلية منبوذين ولا أمل في تأثيرهم اجتماعياً وسياسياً. وهذا واضح تماماً من أنَّ أي إنسان يأتي بالجديد سيصير نهباً للإهمال والتكفير والازدراء والملاحقة والتشوّه. وعليه أنْ يموت عارياً دون مأوى أو أن يلقى في أحد السجون الاجتماعية أو السياسية نتيجة الحجب والمنع. وحتى لو كان ما أتى به جديراً بالاعتبار، فلن يتم معرفته ولا نشره في عصره إطلاقاً، بل علينا الانتظار سنوات وسنوات كي يُعاد النظر فيما فعل وترك من أفكار.

هناك المثل الشعبي الشهير في لغتنا الجارية " ذمّار الحي لا يُطرب" أو" لا كرامة لنبيٍّ في وطنه" ... وأتصور أنَّ هذا المثل يعري ذهنية المجتمعات العربية التي لا تقبل تجديداً لجلدها بسهولة رغم تمزقه وقدمه الواضحين للعيان وأنَّ  النبي على ما له من مكانة سامقة في تراثنا الثقافي لن يؤثر في قومه، سيكون مهملاً هو الآخر أو على أفضل الأحوال سيكون منبوذاً. والسخيف في المسألة أنَّ العقل يأتي من العقال في المعجم العربي، أي عقال الدابة وهو العقال لحياة الإنسان عن الرذائل واتيان القبائح. ونتيجة الخلط بين (الابداع والإسفاف بفعل فاعل تاريخي) تم وضع العقال داخل كل عقل منتج وحر، حتى بات يترقب من ذاته أدنى خروج على الشائع والمكرر. وعادة يفضل الانضمام لقطعان المدجنين سياسياً واجتماعياً عن أن يختلف فكراً. لأن المسؤولية تضع فوق عنقه تحت سيف الملاحقة وقيام وانهيار  قيم الأمة كأنه شمشون الجبار بينما هو مجرد قط بائس يلعق أرجله أو شواربه على أعتاب الحكام.

إنَّه منذ حوارات الفرق الاسلامية كالمعتزلة والاشاعرة والجهمية وفرق الشيعة المتعددة حول النص الديني لم يُعترف بنتاج العقول الحرة كنظام مشترك للتفكير والمناقشة وطرح أعقد المشكلات الكونية واللغوية قيد الفحص، وأنه منذ المتصوفة الأوائل أبو منصور الحلاج وابن عربي والسهروردي وجلال الدين الرومي المقتول لم تخرج التجارب الحرة روحياً وإنسانياً إلى الواجهة، فالتصوف كمثال بخلاف (رأي المعتوهين فيه) هو طريق فذ لرؤى الحياة والعالم والنصوص الدينية وقضايا المصير والآخر والكون والتاريخ والزمن. تختلف أو تتفق مع أقطابه تفكيراً أو سلوكاً، إلاَّ أنَّه قد راكم في تاريخ الفكر (أقول الفكر بالتحديد) طُرقاً حرة للإيمان المفتوح open faith، أي الإيمان الحُر بعبارة كانط الذي باستطاعته استيعاب الإنسانية في شخصنا المحدود.

1- التجارب الروحية ذات الطابع الإنساني تضع وجودنا فسيحاً يقبل التنوع والاختلاف والتعددية كما عند ابن عربي والحلاج.

2- أظهرت مأساة الحلاج بنية الثقافة العربية الإسلامية المستندة إلى الفهم الحرفي التقليدي للنصوص وسيادة الخطابات السلطوية حول الشريعة. وقد أودت بحياته كلمات قالها ولم يحاول الفقهاء فهما مغايراً لها رغم احتمالات التأويل.

3- تراث العقل تراث إنساني بالمقام الأول ولا يجب حجبه لصالح السياسي والديني، إنما ينبغي اعتباره تراثا قابلا لكل القراءات الممكنة.

4- أبرز ما في التصوف هو الجرأة والمبادرة على مناقشة كافة المسائل والفهم المختلف للقضايا الدينية التي تكرس السلطة وتسهم في تخلفها.

5-  ليس التصوف فقط مقصوداً لذاته، لكنه يطلعنا من ناحية الفكر على أدوات حرة ومختلفة لفهم العقل (حتى وإن كان التصوف يخالفه) وسبر أغوار الحياة ومعرفة دقائق اللغة وطبائع الأشياء والحوار معها وفهم الموت والحياة.

الآن بدت إجراءات التباعد من كورونا سخيفة إلى أبعد حد. لذلك ينبغي طرح الأسئلة التي لا تتوقف حول هكذا معانٍ: كيف نأخذ تدابير ضد الكوفيد المستجد ولا نأخذ تدابير ضد رواج التقاليد القاتلة لروح للمجتمعات مع أنَّ الاثنين قاتلان؟ بأي معنى نفرض حجْراً على الأجسام المريضة ولا نكسر حجراً عن العقول المبدعة؟ وبالمقلوب إذا كانت تشير الأفكار المختلفة إلى أفكار جديدة، فكيف نوفر مناخاً خصباً للعدوى في مجال حرية العقل؟ هل عدوى الأفكار نافذة لدرجة تحديد أفاق المعرفة والحياة؟! بأي معنى أفهمنا الكوفيد المستجد عدوى الفكر سلباً وايجاباً، فهي أشدَّ خطراً وراوحت أزمنة برمتها حتى اللحظة؟! وما الدلالة اللطيفة ثقافياً إزاء الحجْر الصحي بين الجسد والعقل؟!

التفرقة غير المنصفة التي كان يجب إدراكها بين الجانبين (تفرقة بائسة) كلّفت العالم العربي والاسلامي قروناً من الانكفاء والتخلف. فلو تم تجنب حاملي فيروسات التخلف والسقوط والدعة والاستبداد ما كانت هناك هذه العدوى التاريخية. لأن هناك تماثلاً بين فيروسات الفكر والطبيعة كما أشرت، وإذا كان الكوفيد يُفشل عملية التنفس ويدمر أنسجة الرئة ويسبب الموت البطيء بالنهاية، فإننا بقينا قروناً بلا تنفس فكري نقي ولا رئات ثقافية حرة تجدد آفاق عقولنا العامة. إن الفكر غالياً لا يكاد يحس بأهميته أحدٌ، ربما لكونه بعيداً عن "الفم والبطن والفرج" عند الإنسان العربي، هذا الثلاثي العتيد الذي يهم الرئة اليومية لحيواتنا العربية المباشرة. وهو الثلاثي نفسه الذي يحدد اليوم سياسات بعض أنظمة الدول والاعلام والفنون والأخلاقيات والعلاقات العامة ويضبط إيقاع التمدد البشري ويحكم القبضة الممسكة برقاب القطيع. فالغرائز تبقينا على مسافة مناسبةٍ داخل الحياة وتجعلنا قادرين على مواصلتها، لكن انحرافها وتضخمها يجعلنا مرتعاً لفوضى التخلف. أمَّا  مضمار الفكر (وهو المجال الأثير للعقل المنتج) فقد ظلّ نهباً لكل من هدب ودب، مجهول الهوية، لا يسأل عنه أحد .. ملْك مشاع كموضع لنفايات ثقافية.

إنَّ مجال الأفكار الجديدة والمواكبة لكونية الثقافات ليس هو المجال المناسب للحظر أيا كان، حتى ولو جاءت الأفكار شديدة القسوة في كشف واقعنا. لأنَّ الأفكار مهما حُجبت لن يحُول أيُّ شيءٍ دون انتشارها، تزيد إذا وُضعت تحت الحجر. فلم يحُل التاريخ دون زيادة قوة الأفكار حتى في أحلك العصور إلاَّ إلى حين فقط، ثم سرعان ما تنفجر في وجوه الطغاة وآكلي عقول البشر. ويجب على دولنا العربية فهم ماذا يعني تحرير العقول لا قمعها وأن هذا التحرير يخدم مستقبلاً آتياً لأجيال قادمة لأنه بناء للإنسان.

ومن أسفٍ أنْ كانت الدولة العربية الراهنة أداة تغليب للأفكار التقليدية تمشيّاً مع أهواء الحكام والساسة وأهل الحل والعقد لأنها تغذي مصالحهم بالدرجة الأولى. ولذلك لا يخشى أي حاكم عربي (صغيراً كان أم كبيراً) من أي شيء قدر ما يخشي من التفكير الحر. فهو تفكير يتوجس منه ليلاً ونهاراً ويبحث عن قتله في مهده قبل أنْ يظهر، لدرجة أن نظامه السياسي يتحول إلى أخطبوط يلتف حول أيَّة عقول مختلفة خانقاً إياها حدَّ الموت. والغريب أن مجتمعاتنا العربية تأخذ خطوات استباقية خلال هذا الاتجاه قبل أية أنظمة سياسية في ممارسة هذا الفعل الفاضح ذاته، وأصبح أي مسئول، بل أي مثقف (من الصنف المرقط) متواطئاً مع تلك الاستراتيجية التاريخية. ليتحول الإنسان إلى مجرد قطّع غيار عليه أن يخلع ذاته أمام أية ممارسة دون تفكر حر ولا أي موقف تجاه ما يرى.

 

سامي عبد العال

 

 

لا شك أنه في عمق التحولات الكبرى الحاصلة في العالم وفي عمق الواقع العربي والإسلامي على مختلف الصعد والميادين، طافت على السطح إشكالات عديدة من جراء المشكلات المتراكمة والباحثة لحلول ومخارج من الأزمات اللامتناهية، وتوالدت الكثير من التساؤلات والقراءات والمقاربات وفق منهج الشك وقوانين المراجعة والاختبار والتقويم لعدة عناوين ارتبطت باليقينيات المختلفة، مما زاد من حدة التعقيدات الفكرية والعملية، لكن بحسب الرؤية الإسلامية القرآنية، أساس التقدم والتطور هو العلم والمعرفة على هدى تقوى النظر والتفكر..

خيار التعارف.. الإنفتاح على الحقيقة أولا:

كل جهد نظري منفتح على الحقيقة، ينطلق في مقارباته الإصلاحية والتجديدية سواء بالنسبة للفرد أو المجتمع من قاعدة الإنفتاح الثقافي بعدما تجاوز الكهوف الخمسة التي أشار إليها بيكون، لأن محطة الانفتاح ثقافيا هي مقدمة لمحطات توسيع دائرة المعرفة وتركيز العلم المنهجي فالتمكن من فن التساؤل العميق، ثم معرفة هندسة بناء النقد التجديدي، كل هذا يشكل أسس تثبيت  خيار التعارف، في كل بيئات المجتمع وظروفه، هذا الخيار الاستراتيجي في تسريع خطط الإصلاح والتجديد على مختلف الصعد والمستويات بحاجة لتأسيس وترصين وفحص ومداولات فكرية جدلية مع الواقع مستمرة..

لماذا خيار التعارف؟

قد يبدو السؤال غريبا على واقعنا العربي والاسلامي العام، لأننا كمكونات ثقافية متعددة ومتنوعة لا نزال لا نعرف بعضنا عز المعرفة بل لا أبالغ ان قلت لا نعرف بعضنا الا معرفة مشوهة غير مكتملة محتشمة، معرفة قبليات ثقافية تقليدية مصداقيتها مهزوزة في الغالب الأعم، لأننا كإجتماع بشري متعدد الثقافات ومتنوع القوميات والقبائل لا نزال نصارع المراهقة الثقافية ولم ينضج اجتماعنا الثقافي لمستوى وعي التعارف كخيار تجديدي لحياتنا الحضارية المنشودة وفق معالم التقوى وآفاق الكرامة..

خيار التعارف بين الصحة والمصداقية:

التعارف كعنوان في كل البيئات السوسيوثقافية، ينال القسط الوفير من المباركة والصحة، الجميع مؤمن مبدئيا  به كرافعة ومنارة في نهج التجديد والإصلاح والتنمية، شأنه في ذلك شأن جميع القيم الحضارية كالتسامح والتعايش والاعتدال والتعاون والتقريب والوحدة،  بل إن الفاعلين في الشأن الثقافي العام يتشبثون ولو شكليا بخطاب وخيار التعارف مع الشركاء في الوطن والدين والإنسانية، بينما المأزق يتركز في مصداقية التعارف لدى كل طرف من الأطراف، وخصوصية التعارف أنه كقيمة في ذاته يمثل قيمة مضافة لكل القيم الحضارية على مستوى مناشط الفاعلية والواقعية..

خيار التعارف ليس فيلم اشهاري او لقلقة لسان أو تكتيك مرحلي، بل هو نهج حياة وتراكم معرفي ومسيرة وعي وتقوى ثقافية تكاملت في شكل سلوكيات حضارية مستديمة، تستهدف ترسيخ  مفهومي الكرامة الإنسانية والمواطنة الناظمة للتعدد والتنوع..

خيار التعارف...مسؤولية حياة:

في جميع حقول الحياة الاجتماعية تطفو على الواجهة قيم الحرية وما تفرزه من آفاق للمسؤولية الذاتية والجمعية، فالتعارف كإنفتاح ثقافي يستدعي وعيا معمقا بضرورات ومنطلقات الاجتماع التنموي الراشد، وكما أشار المفكر الأستاذ محمد المحفوظ في إحدى أبحاثه المهمة حول ثقوب الوعي الاجتماعي إلى اننا كأمة: " أحوج ما نكون اليوم، إلى تعزيز وحدتنا الوطنية، وتمتين جبهتنا الداخلية.. ولا يتم كل هذا إلا بطرد تلك الثقافة، التي تربي الإنسان على الحقد والكراهية والفرز بين أبناء الوطن والمجتمع الواحد.. لا يمكن أن تنمو حقائق الوحدة في أي مجتمع مع ثقافة التعصب والكراهية، وذلك لأن هذه الأخيرة تقوّض كل أسس التوافق وأسباب الوحدة وضرورات الالتحام والائتلاف." ، بكل بساطة المأزق ثقافي بإمتياز، كما أن الإصلاح ثقافة قبل أن يصبح آليات وبرامج، لابد من مسؤولية ثقافية منفتحة على حياة كريمة سمتها الأساسية العدالة التنموية، بما يسمح لإصلاح الوعي وتجديد المؤسسات والبرامج والقوانين والتطلعات والقراءات حتما، تجاوزا لكل الاختلالات والانحرافات والتقاليد السلبية واللاإنسانية التي كرست ثقافة الخصام والتنافر والعداء والاعتداء على بعض رمزيا وجسديا وإنسانيا بإسم درء الفتن وحماية الوحدة الوطنية والدينية وما هنالك من تزييف للوعي الجمعي حتى لا ينتبه لمسؤولية التعارف كما حددها الباري عز وجل في القرآن الكريم !!

خيار التعارف...مصنع المواطنة الفاعلة

لا يمكننا بناء تصور او تمثل سليمين وواقعيين لمفهوم المواطنة خارج اطار خيار التعارف، لأن معادلة المواطنة قائمة على المساواة والاعتدال والحوار كضمانات لحقيقة المواطنة، كما أنه ليس من السهل ادعاء حقيقة المواطنة دون تعارف شركاء الوطن (الانساني، الديني، المذهبي، الاثني، الأممي، الثقافي بوصف عام..) فيما بينهم وفق اعتراف واحترام لبديهيات التعدد والتنوع والاختلاف، الاحترام المتبادل، الحوار التكاملي لا التسقيطي، لا يحق لأي طرف أن ينسب لنفسه ملكية حقيقة المواطنة ويسلبها من الآخرين المختلفين معه سواء على الصعيد الديني أو المذهبي أو القومي أو القبلي أو الأممي أو الثقافي العام.

كما أن المواطنة في حقيقتها لا تعني تمتع الأغلبية بها وبآثارها التكريمية في الحياة الاجتماعية العامة، بل هي حق وحقيقة لكل مكونات المجتمع بغض النظر عن الأكثرية والأقلية او الغنى والفقر، المواطنة في ظل التعارف تكريم للإنسان بما هو إنسان، وترسيخ لحقوقه العامة والخاصة وتفعيل لكفاءاته وتطلعاته بما يعود بالخير والامن والتطور والتقدم لنظرائه جميعا في نسيج المجتمع-الوطن، "إننا نتطلع إلى مواطنة متساوية في الحقوق والواجبات، لا تبنى على أنقاض خصوصياتنا التاريخية والفكرية، وإنما تبنى على أساس احترام هذه الخصوصيات والاعتراف بمتطلباتها والعمل على حمايتها من كل التهديدات والمخاطر ..

والتجارب الديمقراطية الكبرى في التاريخ الإنساني، لم تبن بدحر الخصوصيات والتعدديات المتوفرة في المجتمع، بل بخلق ميثاق وطني حضاري، يأخذ بعين الاعتبار حاجات التنوع ومتطلبات التعدد . مما وفر الأرضية القانونية والسياسية المناسبة، لانخراط كل القوى والتعدديات في بناء الوطن وتطوير المجتمع على مختلف الصعد والمستويات.

فالخطر الذي يتهدد الأوطان واستقرارها، ليس من جراء التعددية المذهبية والفكرية، بل هو من جراء سياسة التمييز الطائفي التي تعمل على تفتيت المجتمع على أسس طائفية مقيتة."

المواطنة  كمفهوم مدني معاصر تمتد جذور تبلوره لأحقاب بعيدة في التاريخ الإنساني ومنها الحقبة الإسلامية الأولى وبعض الومضات التالية لها إلى يومنا هذا، لقد تكامل المفهوم ولايزال يتجدد ويتطور مع كل منعطف من منعطفات الاجتماع الإنساني، بفضل تعدد الرؤى وتمايز القناعات حول الطريق المؤدي إلى النماء الإجتماعي، والخطوات العملية المفضية إلى تعزيز خيار التعارف على مستوى البيئات السوسيوثقافية في المعمورة، كما أقر الاسلام قاعدة الأخوة، عرفت الثقافة الأمريكية قاعدة "العصا الناطقة"، على كل حال وبعيدا عن السجالات التاريخية والصراعات الأيديولوجية المتعلقة بحقيقة المواطنة، يمكننا القول: إن خيار التعارف سواء على المستوى الاثني أو المستوى الديني أو المذهبي أو المستوى القبلي أو الأممي، يعني المسؤولية واحدة على عاتق كل عنصر من عناصر التنوع والتعدد وحقائقها الموجودة في العالم الإنساني عامة والعربي المسلم خاصة. ثمة علاقة عميقة بين مطلب التعارف وحقائق المواطنة في الفضاء العربي كما أي فضاء إنساني اجتماعي آخر. سواء أكانت هذه الحقائق دينية أو مذهبية أو جهوية أو عرقية أو قبلية أو ما هنالك من تعددية وتنوعات واختلافات بين أبناء الوطن أو الأمة أو الدين أو الطائفة أو القومية.

خيار التعارف..اجتثات للطائفية

من يطمح  لتنمية الاجتماع العام لأي جغرافية إجتماعية، لابد أن يتمتع بمعرفة دقيقة بالواقع الاجتماعي، خصوصا التكوين الثقافي لتلك الجغرافية الاجتماعية ويدرك تمام الإدراك الخيارات الثقافية والسياسية الغالبة والمطلوبة لتفعيل حقائق التعدد والتنوع إيجابيا في هذا الفضاء الاجتماعي، حتى يتسنى له خوض غمار بناء السلم الأهلي والاستقرار الاجتماعي المنتج للتمدن، كون أغلب الفضاءات الاجتماعية المتخلفة تعاني من مأزق التعامل السلبي مع الاختلافات الطبيعية، مما يسمح للطائفية من التوغل والتغول في الواقع وتفشي توابعها في جل خيارات نظام الاجتماع العام، وعليه لا يمكن التعارف أن يجد مساحة في ظل الهيمنة الطائفية على الواقع الاجتماعي العام، والنخب أو الأطراف أو الجهات الطامحة لتفعيل آليات التعارف في ظل اقتصاد الطائفية لن تحصد إلا المزيد من التشرذم والتصادم والتسقيط والتشويه بين مختلف الأطراف والأطياف. التأسيس لخيار التعارف ينطلق من استثمار فرص الاتحاد وتعزيز آليات تناغم الحريات في بيئات المجتمع الثقافية، أو ما يعبر عنه بالغرس الثقافي ليس اعلاميا فقط بل بالأخص تربويا وتعليميا، مما سينسج ويجذر علاقات إيجابية وتواصلية بين مكونات المجتمع سواءا الجديدة أو العلاقات القديمة التي تراكمت فوقها طبقات الأتربة الطائفية عبر الزمن..

 

بقلم: مراد غريبي

كاتب وباحث في الفكر

 

 

الصفحة 1 من 2

في المثقف اليوم