تجديد وتنوير

شهادة في تسامح ماجد الغرباوي / مكي الربيعي

أيها الأنسان: لن تستطع الأنتصارعلى نفسك إلا بالتسامح، فهو قادر على دفعك إلى أمام، وإضاءة طريقك، ولفت نظرك إلى مالم تكن ملتفتاً إليه .

التسامح مصطلح غير قابل لأن نتخذ منه مسطرة نقيس به مايقع تحت إطاره من خلافات، فهو أن يصلح في مكان قد لايصلح لغيره، من هنا تأتي أهمية كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح، للباحث الأستاذ ماجد الغرباوي، حيت تناول في كتابه هذان المصطلحان من الجانب المعرفي الذي له مساس مباشر بعقائد الناس، وهذا الأشتغال من أصعب وأخطر الأشتغالات على الأطلاق، حيث يحاول الباحثون عدم الأقتراب منه، بإعتبار له مساس مباشر بإعادة صياغة الخطاب الديني، وإخضاعه لفحص ينسجم وتطور العصر والأنسان، وهذا الفحص لايتم، إلا بالمرور على آيات القرآن الكريم، والتي ترى بعض الواجهات الدينية أن المرور بها من غير طريق الفقهاء، غيرمسموح به، ولذلك يتجنب الكثير من الباحثين تسليط الضوء عليها، لما يشكله هذا الضوء من خطورة في كشف حقائق غير معلنة .

لقد حسم الكتاب منذُ البداية، في كشفه، من أن مصطلح التسامح، يعني الأنفتاح على الآخر، معرفياً، وعلمياً، وثقافياً، وعقائدياً، وهذا لايتحقق، مالم نتخلى عن الكثير من الأعتقادات الخاطئة التي تقلص فرص التعايش السلمي

مثلما يدعونا، لإعادة النظر، في تفسيرالآيات القرآنية، على ضوء الكشوفات العلمية الهائلة، والثورة المعرفية المعاصرة، لكشف وجهها المخبوء الذي يدعو للرحمة، ليدعم الباحث فيها فرضياته، ويعزز بها فرص قبول كشوفاته .

يقول الغرباوي : لم يبق أمام الشعوب الأسلامية خيار للحد من ثقافة الموت والأحتراب والعداء والأقصاء المتفشية في كل مكان، سوى تبني قيم التسامح

والعفو والمغفرة والرحمة والأخوة والسلام لنزع فتيل التوتر .، وتحويل نقاط الخلاف إلى مساحة للحوار والتفاهم ــ .

أنها دعوة لدراسة علوم الأديان، والأطلاع عليها، ومقاربتها مع مانؤمن به، لإستخلاص نتائج من مفرداتها، وطروحاتها، ورؤاها، والتي تلتقي في نهاية الأمر، بذات الطروحات، والمفاهيم، والرؤى، التي نؤمن بها، والتي تشكل عامل مشترك لجميع الأديان، حد وصول التطابق في الطقوس الدينية، في الكثير من الممارسات .

وعليه يجب أن نعترف أننا لسنا الوحيدين الذين نعيش على هذا الكوكب، وإنما هناك بشرٌ آخرون يشاركوننا هذا المشترك، وليس من بدٍ للتعايش السلمي ألا بخلق ظروف طبيعية تنظر بإحترام لرؤاهم، وبهذا الأنفتاح وحده، نستطيع أن نقلص نقاط الإختلاف .

أن دعوة الباحث الأستاذ ماجد الغرباوي : لمراجعة الذات ونقدها، والوقوف على مواضع الخلل فيها لتقويمها ومعالجتها ــ نابعة من إيمانه المطلق بقدرة الإنسان على خلق المستجدات التي من شأنها أن تعيد تأسيسه، وتحذف الكثير من المصطلحات القديمة الموروثة بعد أن يكتشف، أن المفاهيم القديمة بدأت تحد من قدراته، وطاقاته، سواء الفكرية منها أو الجسدية، مثلما يكتشف أنها بدأت تقلص فرص إستفادته من العلوم والمعارف التي تنتجها الحضارات الأخرى المنتمية لدين غير دينه .

ألم يدعو القرآن الكريم الأنسان، إلى النصح، والمعرفة، والعلم، وتقصي الحقائق في الكثير من آياته ؟ .

لقد وقف الغرباوي طويلاً أمام قيم اللاتسامح بأعتبارها ركيزة بحثه المهم، فهو يرى أن لافكاك من العنف الذي يتولد عن اللاتسامح إلا بتفكيك مفاقسه، إبتداءً من البيت إلى المدرسة ومن ثمة العشيرة وإنتهاء بالمنظومات الدينية التي تمجد العنف وتدعو إليه وصولاً للتخلي عن العادات والتقاليد المتعارضة وقيم المدنية .

لابد من الإشارة الى أن العنف لايشمل الدين الأسلامي فحسب وأنما لعبت الأديان الأخرى دوراً مهماً في تبني ورعاية مفاهيمه إبتداءً من محاكم التفتيش في أسبانيا والتي كانت تطارد المسلمين واليهود من أجل تغيير دياناتهم وليس أنتهاءً بالحملات التبشرية التي رافقت الحملات العسكرية ناهيك عن العنف العرقي إبتداءً من فلسطين وليس أنتهاءً بالبوسنة والهرسك .

وهذا عامل آخر قام بتأصل العنف الدموي لدى المتطرفين في الأسلام فيما بعد .

يقول الأستاذ الغرباوي في كتابه القيّم : يعتبر التطرف الديني أخطر منابع اللاتسامح، لتلبسه ببعد شرعي وتوظيفه للنص الديني، وسرعة تصديقه من قبل الناس، وقدرته على التخفي والتستر تحت غطاء الشرعية والواجب والجهاد والعمل الصالح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ــ .

هل يعني الجهاد في المفهوم الإسلامي إشعال حروب في المدن، والشوارع، وبيوت الله ؟ .

فإذا كان الجهاد لإصلاح الخطأ، فالخطأ موجود في كل مكان، حتى في نفوس أولئك الذين يدعون إليه، ليس هناك أحد معصوم من الخطأ سوى الله .

أليس هناك لغة أخرى للجهاد إذا كانت النية لإصلاح الخطأ وإشاعة العدالة، كلغة الحوار، المكاتبات، النصح، الإرشاد، المناظرة ـ وإلى آخره من الجهادات التي تعبر عن نصاعة وجه المجاهد وليس قبحه ؟ .

أليس من أولويات الجهاد الوقوف على الشرائع السماوية التي جاءت بها الأديان الأخرى، لتفحص خطابها وتقليبه من أوجه عدة، والتعامل على المشتركات التي تضع المجاهد أمام إختبار قدراته العقلية، وعلى إستيعابه تلك المشتركات والأيمان بها، بأعتبارها صادرة من سراج واحد كما جاء في القرآن الكريم ؟ .

أن المحنة تكمن كما أشار الباحث في رجل الدين الذي يعطي غطاءً شرعياً لممارسة العنف، من خلال إصدار فتاوي التكفير، والتصغير، والإلغاء .

لقد حاول الكثير من الباحثين فصل كلمة أصولي عن كلمة متطرف وحذروا من جمعهما بإعتبار أن للأصولي دور فقهي خالص لايمت للإرهاب بصلة، فيما المتطرف يشكل خطر على غيره وعلى الإسلام الذي ينتمي إليه .

أن هذا الغطاء الشرعي وبمرور الزمن حول التطرف من رغبة إلى غاية جهادية تمثل ركناً مهماً من أركان الإسلام، وطبعاً هذا إعتقادٌ خاطيء لايمت للدين الإسلامي بصلة، بعد أن تحول إلى تهديد إجتماعي، وإنساني، ومعرفي،ثم تحول من ملاحقة دم إلى ملاحقة فكرة ودم .

إذا كانت حجة المجاهد تعرض الإسلام إلى ضغوطات وملاحقات وإلغاء، فالجهاد لايأخذ برجليه الأخضر واليابس بل يقع على المعتدي، ولكن الذي يحدث الآن أن الناس تقتل في الشوارع والأسواق ومكانات التبضع وفي مجالس الأعراس، ومجالس الفواتح، في السيارة، في الطريق، فأي جهاد هذا ؟ وضد من ؟ إذا كان جميع الضحايا من الأبرياء المسلمين وغير المسلمين.

هناك في كتاب الباحث المجتهد الأستاذ ماجد الغرباوي محطات مهمة تناولت إضطهاد المرأة والسعي لإلغاء دورها الحضاري والمعرفي .

القبيلة ومساهماتها السلبية في تفعيل ونمو العنف لدى أبناء القبيلة، ولم يغفل الباحث الفلسفات الدخيلة ودور الكتب التربوية المستوردة من بيئات غريبة ومدى تأثيرها وأثارتها للنعرات والتطرف، وأشار بوضوح إلى المجموعات المرتدة في الإسلام،. ومن أخطر النقاط التي أشار إليها الباحث هي آيات التسامح وآيات القتال وكأنه أراد أن يؤكد ماذهب إلية هيجل حين قسم الآيات إلى مدنية ومكية، معتبراً أن الآيات المكية آيات تدعو لمحاورة الأنسان وأثارة دايلوك معرفة نفسه والكون وتحفيزه على إعادة النظر في مبادىء القسوة والعنف التي كانت تطبق في الصحراء، فيما الآيات المدنية إتصفت بالعنف ومحاولة إلغاء الأخر .

وعرج الباحث على تعدد المرجعيات وتباين القراءات والفهم بحسب الفقهاء وقابلياتهم وثقافاتهم وفهمهم للأحداث والقضايا الساخنة والمصيرية، ومدى إستجاباتهم لضرورات الزمان والمكان .

الكتاب غني ومليء بالموضوعات المهمة، وليس من صالحه وأنصافه قراءة بهذا الحجم القصير، فهو يستحق تأمله والوقوف أمامه طويلاً، وتحليله تحليلاً علمياً ومعرفياً .

مكي الربيعي

سيدني / إستراليا

في المثقف اليوم