تجديد وتنوير

ابحثوا عن عُـقـدة المِقـصلة أولاً..

saida taqiفي ما يتردد من حكايات المِقصلة عن أزمان سابقة كان فيها لله على أرض أخرى، غير أراضينا نحن الآن، ظـلٌّ يمشي بجانب الأرسـتقراطـيين والسَّاسة، وكان له رجالٌ يحكمون باسـمه ويسـعـون إلى إحـقـاق قـانـونه وفـق ما يـرتضيه ما يـرتديه رجالُ "الله" و"الدين" و"الكهنوت" العِظام من حكمة ومصلحة وكَرَاسٍ، حكايةٌ خالدة. تُروى القصة بطرافة متعددة رغم الصوت الواحد الذي نسجها. وتتخذ في كل حكي أبعادا مختلفة، يُكسبها السياق ما تريده حكمة الراوي من مغزى أو من دروس. أسوق الحكاية خارج طرافتها وأدعوكم للتأمل معي.

تقول الحكاية:

يحكى أنّ ثلاثة أشخاص، وهم رجل دين ومحامٍ وفيزيائي، قد حُكم عليهم بالإعدام.

وعند لحظة تنفيذ حكم الإعدام، تقدّم رجل الدين أولاً، فوضعوا رأسه تحت المقصلة وسألوه: "هل هناك كلمة أخيرة توّد قولها؟" فقال رجل الدين: "الله..الله.. الله.. هو من سينقذني". أنزلوا المقصلة. لكن المقصلة عندما وصلت إلى مستوى رأس رجل الدين توقفت. فتعجّب النّاس، وهتفوا: "أطلقوا سراح رجل الدين فقد قال الله كلمته". ونجا رجل الدين من تنفيذ حكم الإعدام. جاء دور المحامي إلى المقصلة، فسألوه: "هل هناك كلمة أخيرة تودّ قولها؟" فقال: "أنا لا أعرف عن الله مثل رجل الدين، ولكنني أعرف أكثر عن العدالة.. العدالة.. العدالة.. العدالة هي التي ستنقذني". فأنزلوا المقصلة على رأس المحامي، لكنها مرة ثانية عندما وصلت إلى مستوى رأس المحامي توقفت. فتعجّب النّاس وصرخوا: "أطلقوا سراح المحامي، فقد قالت العدالة كلمتها". ونجا المحامي.

وأخيرا جاء دور الفيزيائي، فسألوه: "هل هناك كلمة أخيرة تودّ قولها؟" فأجابهم رجل العلم: "أنا لا أعرف الله مثل رجل الدين، ولا أعرف العدالة مثل المحامي، ولكنّي أعرف أنّ هناك عقدة في حبل المقصلة تمنع المقصلة من النزول نحو الأسفل عند مستوى الرأس". فنظر الجميع إلى المقصلة، وتحقَّقوا فِعلا من وجود عقدة تمنع المقصلة من النزول.

فتم إصلاح العقدة والمقصلة وأنزلوها على رأس الفيزيائي، وفصلوا رأسه عن باقي جسده.

في ختام الحكاية تقتضي الطُّرفة أو الطرافة الممزوجة بالحكمة أن يكرر كل الرواة "هكذا عليك أن تتحلى ببعض الغباء وتبقي فمك مقفَلاً أحياناً، حتى وإن كنت تعرف عن الحقيقة ما لا يعرفُه الآخرون."، أو يضيفون: "إنه من الذكاء أن تكون غبياً في بعض المواقف".

لكنني أريدكم أن تتنزّهوا عن حكمة الطرافة قليلاً، لكي ننظر جميعا إلى المقاصل الشَّرهة المفتوحة هنا وهناك وهنالك.. إنها لا تقف ولا تتعثر ولا تشبع.

لنتجاوز مستوى الرأس الذي توقّفت عنده المقصلة مرتين في الحكاية، وبلغَـتْه بعد تدخُّل الفيزيائي "الغـبي" الذي لم يكن "ذكياً"، مثلما يقتضيه "رصيد المعرفة" الذي يمتلكه، واقترف "حقّ التنوير" الذي قضى بأن يكون رأسه ثمنا لشرًفه.

لنتوقف جميعا بتأمل أمام لوحة رأس ذلك الفيزيائي المفصولة عن جسده، دون طرافة الحكمة أو حكمة الطرافة، ودون التشفي في الغباء أو غباء التشفي.

إن الواقع لا يتغيَّر بمفرده. ولا يستطيع الدين أو القانون أن يغيِّرا دون تدخل العلم. الدين يقف عند مستوى الإيمان بالله أو بالإله أو بتلك القوة الغيبية التي يمكنها أن تصنع المعجزات في الإنسان والكون والحياة. لكن الدين لا يقدر على الفعل ولا على التغيير. إنه يراهن على شحن الروح بالطاقة الإيجابية (أو بالطاقة السلبية عند التأثيم أو الإحساس الفردي بالإثم)، لكنه لا يغيِّر الواقع.

أما القـانـون فيسعى إلى إحقاق العدالة، يقـرر الحـدود والـواجبات والحـقـوق، يـشـرٍّع ويحمي، ويفصل في النزاعات وتضارب المصالح، ويعاقب، لكنه لا يغيِّر الواقع.

الأمـر يـتجاوز منحى سقوط المِقصلة في الحكاية الطريفة، مثلما يتـجاوز مناحي سقوط وإسقاط كل المَقاصل المفتوحة في وطننا/أوطاننا في الحروب وعلى حواشيها وفي السلام وبين أحضانه.. الأمر ماثل في واقع معطوب لا يرتفع، مهما كِـلْـنا للإيمان هاماتِنا، ومهما أسلمنا للقانون قيادنا.

إن الـواقع لا يغـيِّره غير العلم، لأجل ذلك لا يمكن للعالِـم إلا أن يكون شـريفا وصادقـاً وحقيقياً.. لا يمكن للعالِـم إلا أن يكون نزيها في تبليغ عِلمه حتى وإن كان المقابِـل المفتَرَض لـنزاهته يعني أن يتم إصلاح المقصلة بالاستفادة من عِلمه، ويعني أن تَـفْصِل المقصلة رأسَه عن جسده بعد إصلاحها.

العلمُ الحق لا يفكِّر في لحظته بل في كل اللحظات السابقة والآنية واللاحقة. إنه يفكر في التجارب التي مضت، أي في خبرة الأمس. ويلاحق معطيات هذه اللحظة الآنية، أي لحظة الواقع المعطوب. ويستشرف الحلول الأنسب للإنجاح، أي اللحظات الآتية والأجيال اللاحقة.

لأجل ذلك كان رجل الدين بالله مؤمنا تهتف الجماعة بحياته إبراءً لذمة الدين الذي في جُعبته، وكان المحامي بالعدالة منادياً تتبَّعه أعين المستضعفين نشداناً لنُصرَته. أما رجل العلم فكان بالمعرفة مقاوماً للجهل وكاشفاً للعطب، وبالعلم فاضِحا للوهم ومُعلياً للحق، لكن وسط الناس والعامة كان من نجحت المِقصلة في قطف رأسه اليانعة بعد إصلاح العُقدة.

إن كنتم ترغبون في تغيير الواقع، ابحثوا أولاً عن عُقدة المِقصَلة.

 

كاتبة من المغرب

في المثقف اليوم