تجديد وتنوير

وحدة الأصل الإنساني

laythe alatabiقال تعالى: ((هَلْ أَتى عَلَى الإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)) سورة الإنسان، الآيات (1) ـ (3) .

يشكَّل الإنسان محور التفكير عند العلماء والمفكرين بمختلف منظوماتهم الفكرية والعقائدية، ولكي نبيَّن أصوله التاريخية والاجتماعية لابد من العودة إلى كيفية خلق الإنسان في المصادر الإسلامية، وذلك من خلال تتبع الآيات القرآنية، وأحاديث المعصومين (عليهم السلام) .

فقد ورد في آيات الذكر الحكيم وفي الأحاديث المباركة للمعصومين (عليهم السلام) أطوار خَلق الإنسان الأول، وبأنه خُلق من تراب، أو من طين، أو من طين لازب، أو من سلالة من طين، أو أنه من حمإ مسنون، ومن صلصالٍ كالفخار .

وفي هذه المراحل يكمن الإيذان بتحول جديد، بولادة مخلوق مميز بسمات وملامح الطور الآدمي، ومكلف بمهمة خاصة خُلق من أجلها .

فمادة الخلق الأول هي (التراب) والتي يكمن فيها قوة هذا المخلوق وضعفه، فضلاً عن أنها أساس مبدأ الوحدة بين أبناء البشر .

فقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى خلق آدم (عليه السلام) من تراب:

قال تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) سورة آل عمران، الآية (59) .

كما وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ((النَّاسُ بَنُو آدَمَ وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ))1 .

وقال تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ) سورة السجدة (7) .

والطين هو التراب الممزوج بالماء، ويعد الماء الأصل لجميع المخلوقات .

قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) سورة الأنبياء (30) .

فآدم خلق من طين خُمّر بالماء . فالماء مبدأ الخلق الأول والذي وجد قبل كل موجود، وهو العنصر الأساس في ديمومة الحياة .

و بيّن الله سبحانه وتعالى أنه خلق آدم من سلالة من طين .

قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) سورة المؤمنون (12) .

وهنا وصف للطين الذي خلق منه آدم (عليه السلام) وبأنه استل من سلالة من طين: أي من طين خالص .

ونجد أن الله سبحانه وتعالى يصف الطين وصفاً آخر في قوله جل وعلا: (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) سورة الصافات (11) .

يقول ابن عباس (رضي الله عنه): (اللازب الطين الحر الجيد اللزج).

وتعدّ مرحلة خلق الإنسان من طين لازب ثالث مراحل خلق الإنسان، ثم يتحول هذا الطين إلى حمإ مسنون فصلصال كالفخار .

قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) سورة الحجر (26) .

فالطين الذي خلق منه آدم بعد أن خمرّ بالماء، اصبح من حيث اللون والرائحة كالحمإ المسنون، فهو مائل إلى السواد منتن . ثم تُرك حتى جفّ فأصبح من حيث الصلابة والصوت صلصالاً كالفخار .

تلك المراحل التي مرّت بها المادة التي خُلِقَ منها آدم (عليه السلام) خَلْقُ الله الأول، وأصل البشرية الأول، وأبو البشرية جمعاء .

إن قصة خلق آدم (عليه السلام) في الفكر الإسلامي وفي المنظومة الإسلامية، قد تمت بمعجزة إلهية، وأن هناك صلة ما بين مادة الخلق وطباع المخلوق، فقد خُلق الإنسان من تراب ليكون متواضعاً وليكون أشد التصاقاً بالأرض التي خلق منها . فضلاً عن أن طبيعة تكوينه الملائمة للتفاعل مع البيئة التي يعيش فيها منسجمة مع طبيعة تكليفه ليكون خليفة الله في الأرض . فطبيعته تكون من طبيعة تكوينه، فكان تكوينه مناسباً لمكونات البيئة، وللمهمة التي خلق من أجلها .

وبعد أن خلق الله تعالى آدم (عليه السلام)، وهو المخلوق الأول من البشر، اقتضت إرادته أن يخلق المرأة وهي صنو الرجل، فكانت حواء .

قال تعالى: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً) سورة النساء (1) .

كل ذلك إشارة إلى أن هذه الحقائق الفطرية البسيطة فيها دلائل كبيرة وعميقة جداً، فهي توحي بأن هذه البشرية صدرت عن إرادة واحدة، وانبثقت من أصل واحد، وتنتسب إلى نسب واحد، وتتصل برحم واحد، وتلتقي في وشيجة واحدة . وما الفوارق الموجودة والموضوعة ـ جميعها ـ إلا أمر طارئ .

فالبشر كلهم من أصل واحد، وأب واحد، وأم واحدة، ثم تكاثروا وانتشروا وتفرقوا، بخلاف النظريات الآخرى القائلة بتعدد أصل البشر، وأن لكل فئة، ولكل عرق، ولكل لون أب خاص به .

وسواء كان للبشرية آدم واحد، أم أنه كان هناك آوادم آخرين متعددين، فالأصل يبقى (آدم)، ويبقى للبشرية ـ الموجودة ـ أب واحد وأم واحدة .

و ذلك هو مصداق قوله تعالى: ((يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) سورة الحجرات (13) .

فقوله تعالى ((مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى)) أي: من ذكر واحد، ومن أنثى واحدة، وإلا فما الداعي لذكر ذلك والتأكيد عليه، إذ من المعروف أن أصل التوالد يكون من الذكر والأنثى، إذن فالمراد أن الخلق كان من ذكر واحد وأنثى واحدة تزاوجوا وتوالدوا فكانت منهم الشعوب والقبائل، ثم البشرية جمعاء .

لقد تناول القرآن الكريم موضوع (الخَلق) بأسلوب علمي رصين ودقيق، يتوافق توافقاً تاماً مع نهجه العام الملتزم بالموضوعية العلمية . فقد وجه الإنسان إلى البحث والنظر في الأرض ذاتها بما فيها من آثار ومخلوقات يمكن من خلالها أن يكشف عن كيفية بدء الخلق ومن ثم عن تفرعه وتكاثره وتنوعه .

فذكر القرآن الكريم أن الأصل الأول للإنسان هو الماء والتراب أي (الطين)، والصلصال من الحمإ المسنون أي (الطين المختمر) . وهذا يعني أن العناصر التي يتكون منها جسم الإنسان هي العناصر الموجودة في طين الأرض، ومائها، وترابها .

أما العقائد غير القرآنية ـ وبشكل عام ـ فقد نظرت إلى بداية الخلق نظرة أسطورية خيالية تبتعد كثيراً عن أسلوب التفكير العلمي السليم .

إن قصة الخلق في العقائد غير القرآنية طويلة ومتهافته مليئة بالأساطير والخرافات البعيدة عن منطق العقل السوي .

(ومما يؤسف له أن تمت في العصر الحديث صياغة إيديولوجيات ومعتقدات دوغمائية تستند على أصول وهمية من دعاوي التفوق العنصري أو الديني أو السلالي، وتدَّعي أن شعباً ما هو " شعب الله المختار " أو أن جنساً من الأجناس " فوق الجميع " وكل هذه الادعاءات ظهرت في قلب حضارة الغرب، وذاق العالم ويلات كثيرة من المنازعات والصراعات والحروب ولا يزال يعاني منها في مواضع شتى)3-4 - .

إن الإيمان بنظرية (وحدة الأصل البشري) القرآنية هو الحل الأنجع للبشرية لكي تخرج من جميع مآزقها، ولتتخلص من العنصرية والحروب والصراعات التي لا تنتهي .

لقد كشفت الشواهد العلمية بأن الطقس الأوربي لم يكن قبل ما يقارب العشرين ألف سنة طقساً يساعد الإنسان على العيش في كنفه، إنه الإنجماد، ولم تحدث الهجرة من الشرق بوجه عام والشرق الأوسط بشكل خاص إلى الاصقاع الشمالية (الأوربية) إلا بعد المرحلة الجليدية الأخيرة، كما وإن لقصة نبي الله نوح (عليه السلام) والطوفان الأثر الكبير في التأكيد ـ غالباً ـ على انبثاق الجنس البشري من الشرق .

يعتقد الباحث الإيطالي (لويجي لوكا كافالي سفورزا)5 وعدد من العلماء بنظرية أن أصل البشر من منطقة الشرق التي يبدو أنهم قد زحفوا إليها من أفريقيا .

 

الشيخ ليث عبد الحسين العتابي

....................

1- رواه الترمذي، برقم (3193) .

2-   ألفاظ خلق الإنسان في القرآن الكريم، يونس حمش الجوعاني، ص 16 .

3 - المبادئ العامة للعلاقات الدولية، إبراهيم البيومي غانم، ص 201 .

4- ومن المضحك المبكي أن بعض المستشرقين وعلماء الغرب يصفون عصر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعنف والوحشية مقارنة بعصرهم الذي يصفونه بالأمن والوداعة والإستقرار . ولا أدري أين نضع سنوات الجنون العالمي في الحربين العالميتين ووحشيتهما التي فاقت جميع التصورات . أم أين نضع الملايين الذين سفكت دماؤهم على يد ستالين، وهتلر، وتشرشل، وهاري ترومان رئيس أمريكا الذي ضرب اليابان بالقنابل النووية، وغيرهم من تجار الدم البشري !؟

5- في كتابه (الجينات، الشعوب، واللغات) الذي صدر عام 2000 ميلادي، والذي ترجم في عام 2004 ميلادي بمصر، وقد نقلنا عباراته بأختزال وتصرف .

في المثقف اليوم