تجديد وتنوير

قراءة نقدية لتأريخ اسلامي مخيف

mustafa alomariبطريقة الاحتيال المعرفي نفذ نفرٌ قليلٌ من اصحاب العقل المنطلق، في المساحة العربية الاسلامية محاولين تشكيل وعي مختلف ومغاير، همُّ هذا الوعي ان يكون حداثوياً جديداً، يسير وفق المعايير العلمية للنهضة التي يواكبها العصر . هذا النفاذ السائر بخوف وترقب من بطش المجتمع شكل عائقاً حقيقياً أمام النمو الطبيعي للبحث العلمي في المجتمعات العربية والاسلامية المنكوبة، بغلظة النصوص والفتاوى والكثير من رجال الدين .

كل العلماء والفلاسفة الذين ينتمون الى تلك البيئة المنكوبة، كانوا يملكون وعياً لم يصرّحوا عنه، إختنق ذلك الوعي ومات مع موتهم.

مع كل هذا الحذر والخوف ترشح لنا من وعيهم ما نستطيع ان نستنج منه علمانية قديمة بلباس ديني (كابن رشد وعبدالله بن المقفع)

السابقون واللاحقون من الفلاسفة والمفكرين العرب أرادوا ان يوصلوا رسالة كبيرة وعظيمة، مفادها واستدلالتها قرانية عصرية حديثة، وهي ان لكل زمان معرفته ونصوصه واستنتاجاته الخاصة به، يجب ان يعيش الناس في زمنهم ومرحلتهم، ويتركوا فيه أحراراً لا ان يقمعوا او يقتلوا . يقول جون ستوارت إننا اذا اسكتنا صوتاً نكون قد اسكتنا الحقيقة .

محال جداً ان تعود بنا الى الزمن الماضي لأنه سيُعد نكسة كالتي نعيشها الان، الرجوع الى أي حقبة تأريخية من تأريخ المسلمين من بداية الدعوة الى اخر صحابي، سنجد السيف والدم، فتشوا في تأريخ أي شخص ترونه جليلاً مؤمناً تقياً لا يأتيه الباطل ولا يروم عمل المنكر، ستكتشفون انه تزوج سبية وربما بعد قتل زوجها، ستجدونهم ملطخين بالدم من الرؤوس والاقدام والاعقاب .

سألني احد الذين كانوا مقيدين بالنصوص الدينية بقوة قال: ما رأيك في عمل رسولك عندما تزوج صفية بنت حييّ بعدما قتل زوجها وأهلها والاسرى من قومها؟

فأجبته على الفور قلت له هل تعلم كيف تزوجها؟

انها بمشورة احد اصحابه ولو كنت مع الرسول لأشرت عليه بعكس ذلك الصحابي ان لا يتزوجها ويتركها في قومها وان يحتجز الاسرى في مكان ما او يعتقهم. اقتنع الرجل بجوابي لكنه بقي مصراً على استهجان فعل الرسول .

على الرغم من ان هذه الاسئلة كانت غير قابلة للعرض ولا للبحث ولا للتفكير فتموت حبيسة مقهورة بدواخل اصحابها،هذه الاسئلة وغيرها باتت تؤرق الكثيرين من العقول الباحثة المتسائلة، ورجال الدين عاجزون كسالى في البحث والمسايرة مع عمق الاسئلة وجديتها.

ما عادت الاجوبة الماورائية تقنع العقل المتحرك الذي يبحث عن الدلائل العلمية ولم تجدي تلك التبريرات التي تحيل العقل لمشهد غير مرئي وتطلب منك الايمان والتصديق .

في كتابه الفكر الاصولي واستحالة التأصيل يقول الدكتور محمد اركون : كل المسلمات المدعوة ميتافيزيقية يستحيل البت فيها، ولذلك ينبغي ازاحتها من الخط التأريخي الذي يجبرنا العقل الأدواتي على إتباعه .

إصرار الاسلاميين على جر المجتمع الاسلامي للانقياد خلف قيادة (السلف) يستدعي، إصرار عقل اخر مختلف للتنقيب في تأريخ السلف وعندما يُبحث في تأريخ السلف بحثاً علمياً (إبستملوجياً) كما في الدراسة التي قدمها المفكر المغربي محمد عابد الجابري، سيجد الباحث أننا أمام مهزلة حقيقية وسيطلب منا إزاء هذه المهزلة التصديق والايمان والاذعان، وإلا ستكون نصوص الفقيه حادة وقاتلة.

نصوص الفقية التي عجزت عن الاجابة وتغيبت عن الحوار العلمي وتهربت من البحث الجاد، سنجدها شاخصة بقوة رافعة رايتها بعدما احاطها الجهال والمخدرون والمنتفعون بصيحاتهم، لدحر كل من يسأل او يفكر .

الاصرار على البحث في ذلك التأريخ الذي تلطخت بالدماء ايدي الجميع من الذين قادوه وصاغوا ثقافته، أكانوا مبشرين بالجنة او لم يكونوا، يستدعي نتيجة مفادها الكفر بذلك التأريخ والانعتاق حيث اللارجعة .

الذين يريدون إزاحتنا نحو تأريخ ميت هل راجعوا ذلك التأريخ وما حمله من قسوة وشدة وقهر لعباد الله من المختلفين والمأتلفين معه ؟

في الدراسة التي قدمها ناقد العقل العربي،محمد عابد الجابري،

يقول : الجاهلية مصطلح اسلامي يقصد به ليس فقط الجهل بمعنى عدم العلم وانتفاء المعرفة بل ... ايضاً ما يرافق الجهل وينتج عنه، أعني به الفوضى وانعدام الوازع الجماعي سياسياً كان ( الدولة ) او اخلاقياً ( الدين ) من هنا تشبيه الجاهلية بالظلماء والاسلام بالنور فالظلمة تعني هنا الفوضى والتطاحن وغياب افق مستقبلي كما تعني الجهل وعدم تقدير المسؤولية، في حين ان النور يعني الوضوح في العلاقات والمسؤوليات وأيضاً وضوح الافاق، هذا فضلاً عن حلول النظام محل الفوضى والتضامن محل التطاحن، السؤال المهم، هل حقق الاسلام بالفعل هذا التحول الجذري في حياة عرب الجاهلية؟

ونستطيع ان نشطر هذا السؤال على عدة اسئلة مشابهة، أسئلة تعمق الجرح لكنها ستدمله بدون مضاعفات سلبية . سنتحفظ عليها الان لكنها ستبزغ ان شاء لها ذلك .

عندما نراجع نصوصنا الدينية والتأريخية سنجد ان الانموذج الاقرب لها في هذا العصر هي (داعش) لا مناص في ذلك ولا تردد، داعش التي تتقن قراءة القران وحفظ الاحاديث الصحيحة المرسل منها والآحاد والضعيف، داعش التي اتبعت منهجية العنف والتفنن عند السلف الصالح ! عندما قام احدهُم بقتل احدهِم ثم قطع رأسه ووضعه منصبة للقدر بعدها اضرم النار لتختلط رائحة الاكل بدم البشر مع نكهة العمل الصالح وغبار الشعر المحترق، ثم يضاجع سيف الله زوجة المقتول لتكون زوجة له في نفس الليلة التي قطعت اوداج الرأس لينفصل عن الجسد بمباركة المسلمين !

لم يكن المسلمون على قدر من المسؤولية البحثية العلمية او الجرأة التي تمكنهم من ادانة المنتمي للدين الاسلامي، بل هناك الكثير من التبريرات المنهالة بقوة لكي تقلب المنكر الى صالح وكذلك العكس .

وجه داعش القبيح ما هو الا توأم لذلك الوجه القبيح الاخر . الوجه التأريخي الذي يتقاتل عليه الداعشيون من سنة وشيعة لأعادتنا له بالقوة . داعش حركت المناخ العربي والاسلامي بقوة واضحت الاسئلة والتساؤلات المضمرة والمعلنة شاخصة بقوة أيضاً، أعمال داعش الاجرامية سرعت في مركبة البحث لاكتشاف زيف المقدسات او المحذورات المركونة في اذهاننا بالقوة والخوف .

لست هنا للمقارنة بين داعش والسلف فهذا أمر ساتركه للقارئ، لكن الذي اريد البوح به، هو أننا بحاجة الى منهجية مختلفة تماماً عما كانوا (السلف) وكنّا، منهج:

1_ يرحم بعقولنا من التسخيف والمصادرة الى حيث الحرية فيما أفكر او أؤمن به.

كما يرى ابن حزم الاندلسي: لا يحل لأحد ان يقلد أحداً حياً ولا ميتاً وكل أحد له من الاجتهاد حسب طاقته .

2- الاستعانة بالعقل الغربي المتقدم، لم يتخلى العقل العربي من طلب المساعدة من العقل الغربي من زمن بعيد جداً فالمأمون صاحب العقل المتحايل المنطلق استنجد بالثقافة الغربية ولولاها لم يكن المأمون شيئاً .

التصور الشائع ان التقدم يتحقق تلقائياً بواسطة التراكم .. ولكن مسيرة تاريخ الحضارة وواقع المجتمعات المتخلفة يؤكد العكس تماماً فالتخلف هو الاصل أما الخروج من هذا الاصل فيتطلب طاقات استثنائية كافية وأفكاراً تقدمية خارقة وجهوداً واعية كثيفة ، كما يقول المفكر السعودي ابراهيم البليهي .

والحق أني طلّقتُ التأريخ ومزابله وسيرة السلف ونصوص الدين التي كتبت بعد مئتين سنة وأحاديث التلفيق والتصفيق للحاكم لأتركه لداعش ومن يشابهها في الرأي والقمع بالسيف او الكلمة . وركنت الى انسانيتي التي تدفعني الى حب الاخر مهما كان لونه او دينه او قوميته .

(من كتابي القادم قراءات معاصرة).

 

مصطفى العمري

في المثقف اليوم