تجديد وتنوير

أزمة الاديان بين الدعوة الكونية والخطاب الضيق (1)

mustafa alomariكلمة الدين هي المفردة الاستثنائية التي تحيلك بلا شعور الى الايمان، ايمان يستدعي الغيب والتخفي مع بعض الممارسات الطقوسية التي تحاول جلب استقرار خفي للنفس، في ذات الوقت تحيلك كلمة الدين الى الإطمئنان والسكينة والانفراد باستنشاق نسيم يصعب على من يجاروك استنشاقه . عاشت معظم المجتمعات العالمية على ذلك النسيم غير المرئي، النسيم الديني، رغم اختلاف الاديان وتباعد نصوصها وتشعب محاور التدين فيها لكنها بقيت (الاديان) متمسكة بطابع عام، انها تريد الخير والامان والاستقرار للعالم أجمع . والحقيقة ان الديانات الالهية رسالة كبيرة مفادها خدمة الانسان والحفاظ على ديمومته واستقراره، مع محاولة كبيرة للرفع من مستواه العلمي والفكري، لذلك تجد الإلحاح الالهي للمطالبة في مسألة التفكر في الخالق والطبيعة والانسان والموجودات عامة .

الإلحاح الالهي للحث على استخدام العقل والعلم، يستقبله إعتراض بشري من أُناس يدّعون القرب من الله خالق الخلق، غاية هؤلاء المدّعون القرب من الله، هو التشويش والعطب في ذهنية الناس ان الله جزئي ومتحزب، إيهامهم ان الدين الحق هو الذي عليه انت وليس الذي يعتنقه غيرك .

... قلتُ ان غاية الاديان الالهية، هي لمصلحة الانسان وخدمته والحفاظ عليه، أما ما دون ذلك فهو تشريع بشري اودى في بعض تفاصيله الى انهيار اخلاقي فتاك لبس ثوب الدين .

يصّر معظم رجال الدين (يهود، مسيحيين، مسلمين) على ان الدين المنجي والمخلص للبشرية هو الدين الذي يعتنقه المنتمي لدينهم فقط، اليهودي زعم ان دينه المنجي والمخلص فقط وتلك الدعوة شاطره بها المسيحيين والمسلمين، لا مجال ولا خيار أمام خلق الله الاخرين لدخول الجنة او الشمول برحمة ربانية إلا باعتناق دين واحد فقط هو دينهم الذي وجدوا عليه ابائهم . في قياسات رجل الدين المسيحي ان الله خلق مخلص واحد وجنة واحدة ووضع هذا الخلاص في دين واحد ايضاً الذي ينأى عن ذلك الدين ويبتعد فنهايته محتومة الى جهنم وبئس المصير ولن يستنشق عبير الجنة او يتلذذ بمميزاتها الاستثنائية من يرفض دعوة الخلاص تكون هذه نهايته الحتمية ! .

قبل أيام دار حديث بيني وبين أحد رجال الدين المسيحيين (مبشر معروف) قلت له هل سادخل الجنة وأنا مسلم ؟ ... تململ قليلاً وبجواب فيه قدر من الإستحياء لأنه سوف يطردني من الجنة، ذنبي ان الله خلقني مسلم ! وميزته ان نفس الخالق خلقه مسيحي ! قال في جوابه النهائي للأسف لن تدخل الجنة ! هو يعتقد بكونية وشمولية الدين المسيحي، اي يجب ان تعتنق الانسانية جميعاً نفس الدين .

الحال عند رجال الدين المسلمين ليس اسهل مراناً بل هو أعقد بأساً واشد وطأة، كل البشرية ستخلّد في نار جهنم الا المسلمون فهم يتمتعون بحوريات وانهار من خمر جزاءً من الله لأختيارهم الاسلام كدين الله الخاتم !

منهم من يستند الى بعض الاحاديث التي تقول سيكون على باب الجنة فلان الصحابي وبيده سوط لا يستطيع ان يدخل الجنة اي شخص الا بعد ان يأذن لك صاحبنا (الصحابي) أي لا يستطيع المرور الا من انتمى الى نفس المذهب والمذهب فقط، يجب ان تنتبهوا الى كلمة فقط ..

يسأل احد الاشخاص عبر احدى الفضائيات، يسأل رجل دين: شيخنا ماذا سيصنع الله بالاشخاص الذين افادوا البشرية وخدموها، مثل (توماس اديسون) مخترع الكهرباء و(ألكسندر جراهام بيل) مخترع التلفون وعموم الذين صنعوا الطب الحديث والمواصلات والتكنلوجيا؟ أجاب الشيخ وهو يبتسم لعظمة الجواب السمح قال نعم هؤلاء خدموا البشرية جميعاً ولذلك حسب النصوص التي عندنا هم يختلفون عن بقية الناس غير المسلمين، ما هذا الاختلاف يا شيخ؟ قال سيضعهم الله في ضح ضاح من نار! (نار اقل حرارة من نار جهنم) بعض رجال الدين المسلمين يعتقدون بكونية الاسلام ويجب ان يسود الدين الاسلامي جميع ربوع الكرة الارضية ولأجل تلك السيادة الكونية العالمية يجب ان نضحي بالنفوس والاموال ونقاتل الى اخر قطرة لكي ننتصر لدين الله . (داعش إنموذجاً)

في اليهودية هناك شيئاً مختلفاً حيث هناك دعاية لكن بدون دعوة، الدعاية مفادها انهم شعب الله المختار وان الله ميزهم عن باقي الامم والشعوب وارتقى بهم وبلونهم ودمهم . لهذا السبب ليس عندهم دعوة لإنقاذ البشرية دعوة للناس لكي تنتمي لليهودية .

من خلال هذا العرض نستطيع ان نتساءل مع الخالق ومع المخلوق الواعي، الذي وهبه الله أفقاً ممدوداً حتى يتسنى له رؤية المختلف والمؤتلف فيقارن ويبحث ويجدد وبإمكانية العقل الذي وهبه الله ثم قال تفكروا وتدبروا، تساؤل غير مشروط ولا مقيد منفتح وجريء، لانه مع الخالق وليس مع المخلوق، الخالق ليس كما حاول أرباب الدين وصفه وتبيان طبائعه الموغلة بالشدة والقسوة والتعذيب او كما يصوره الاخرين من انه مشبع بانانية مستفحلة تطلب منك الانصياع والانصياع فقط وتلزمك بتغيير بوصلة معرفتك الاولية البيئية التلقينية الى حيث تفكيره وموروثه الديني البيئي، وكأن الله غير قادر ولا يستطيع ان يخلق الناس امة واحدة ليأتي البشر ليجعلوا من إمكانياتهم فوق امكانيات الله ليجعلوا الناس امة واحدة !.

يقترح ابن رشد المولود عام 1126م لكيفية التعامل مع الخطاب الديني فيقول : ان الخطاب الديني هو دوماً على وفاق مع ما يقرره العقل أما بدلالته الظاهرة وأما بالتاويل .

كما ينظرعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا إلى الدين على أنه مجموعة من الأفكار المجردة، والقيم أو التجارب القادمة من رحم الثقافة.

يجوز لنا ان نسأل الان ومن رحم ثقافتنا البيئية وبعقل منفتح على الجميع وبأسئلة ربما داهمت بعض العقول الواعية لكنها اصتدمت بصخرة الخوف من التكفير والتشهير او تجنب الخوض بمثل هذه القضايا لئلا ان تزل بنا القدم فنسقط في نار جهنم !

السؤال الذي يمر بالذهن ويتموضع ويستقر بداخله دون الكشف عنه او البحث فيه، سيجعل منك مشتت مشدوه وستجري بك عربة الحياة وانت غافل سرحان، الحذر ان تنقلب بك الموازين فيتدفق منك الوعي متأخراً ويرجع بك الكبت مقلوباً فتهجر كل الارض وتغادر كل البيئة لكن بعد فوات الاوان . السؤال هو المادة المباحة بالمطلق في هذا الكون، السؤال هو العربة التي استطيع ان استقلها لكي توصلني الى الجانب الاكثر أمناً واستقراراً . البوح هو كسر الخوف والاتجاه نحو التقدم، الكبت إذلال نفسي يسحق الشخص من الداخل فيحيله الى رماد.

 

مصطفى العمري

 

في المثقف اليوم