تجديد وتنوير

التجديد.. ميادينه ومناهجه في مشروع "التراث والتجديد"

bobaker jilaliمقدمة: يحمل مشروع "التراث والتجديد" عند "حسن حنفي" هموم الإنسان فكرا وواقعا ووطنا في العالم العربي المعاصر، يقاوم لإبداء الموقف الحضاري الدقيق من التراث العربي الإسلامي ومن التراث الغربي ومن الواقع بأبعاده الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والثقافية والفكرية والفلسفية وغيرها، هذا الاجتهاد يتمّ بصورة لا تخلو من الانسجام والنسقية بين الجبهات التي فتحها المشروع، وهو يسعى للإمساك بشروط تجاوز التخلّف الفكري والاجتماعي، وأوّلها الانسجام بين العقل والتراث والواقع والآخر، من خلال الانتقال من التراث إلى التجديد، في سياق العصر ومن منظور معاصر، فما مدلول التجديد في التراث والتجديد؟ وأين وكيف يجري التجديد من منظور التراث والتجديد؟.

 

1- التجديد في مشروع التراث والتجديد

يمثل التجديد ظاهرة مهمّة جدّاً وضرورية لكل فكر يسعى إلى التحوّل أو عمل يسعى إلى التطوّر انطلاقاً من تغيير ظروفه وعناصره، ما دامت كلمة تجديد (innovation) مصدر لفعل جدّد، يجدّد والمصدر تجديد، "وجدّد الشيء صيّره جديداً، والتجديد إنشاء شيء جديد أو تبديل شيء قديم، وهو مادي كتجديد الملبس والمسكن أو معنوي كتجديد مناهج التفكير وطرق التعليم، ويغلب على التجديد أن يكون مذموماً في المجتمعات الزراعية الشديدة التمسك بتقاليدها،وأن يكون محموداً في المجتمعات الصناعية التي تقدّس روح الاختراع."[1] وإذا كان التجديد عند 'أندريه لالاند' هو: "Innovation : Production de quelque chose de nouveau."[2]

فالتجديد في تعريف 'لالاند' هو إنتاج شيء جديد قد يكون مادياً وقد يكون معنوياً. لكن التجديد لا يرتبط بالأشياء المادية والمعنوية فقط بل يعني تبديل شيء قديم، والشيء الذي يجري عليه التبديل هو الآخر قد يكون مادياً وقد يكون معنوياً كتبديل الكوخ الطيني بالمسكن الإسمنتي، وكتبديل طريقة العرض والإلقاء بطريقة الحوار في التعليمية.

والتجديد في معناه يرتبط بعدة مفاهيم تتطلبه ويتطلبها، فهو لا يقوم بدونها، بعضها يمثل شرطاً سابقاً عليه و بعضها يمثل عنصراً ملازماً له والبعض الآخر يمثل نتيجة حتمية له. فمفهوم التغيّر والذي يعني انتقال الموضوع أو الشيء من حال إلى حال، ومفهوم التحوّل الذي يعني تغيير يصيب الشيء أو الشخص في ماهيته أو في صفاته العرضية، ومفهوم التقدّم الذي يعني السير إلى الأمام وعدم الثبات، وهو عند الفلاسفة تقدم بالطبع وتقدم في الزمان وفي الرتبة وتقدم بالشرف وبالعلة. ومفهوم التطور الذي يعني تحول الموضوع أو الشيء من طور إلى طور وهو لدى الفلاسفة متعدد فهو النمو أو التبدل الموجّه أو الانتقال من البسيط إلى المركب أو الارتقاء من الأدنى إلى الأعلى وضد التطوّر التكوّر الذي يعني التقبض والتقلص والتّضام والتراجع، ومفهوم الإبداع الذي يعني إنشاء الجديد من القديم وهو كشف واختراع. وارتباط مفهوم التجديد بهذه المفاهيم من خلال علاقة التلازم والتكامل يدل على أن التجديد في الحضارة هو فاعلية إنسانية ترتبط بعدة فاعليات أخرى، هذه الفاعليات بعضها يمثل شرطا ضروريا لحصول التجديد في التاريخ والحضارة.

فضرورة التجديد في ارتباطه بالمفاهيم التجديدية الأخرى، ولا يمكن الاستغناء عنها في حياة الفرد والمجتمع داخل التاريخ ولبناء النهضة والحضارة، خاصة إذا عرفت حياة الأمة مثل الأمة الإسلامية والعربية ظاهرة التكوّر لا التطور وهي أمّة تملك من الإمكانات ما يمنحها الأهلية الحضارية والريادة التاريخية مادياً ومعنوياً، فلها من الماضي والتاريخ صفحات مشرقة وبيضاء وهو تراثها العتيق العتيد، ولها من الثروات المادية الكثير المتنوع، لكن واقعها فاسد مادياً ومعنوياً، لا هي استطاعت أن تحافظ على تراثها وقيّمها وماضيها بالرغم من دعوات الأصالة والمحافظة والتقليد وهو موقف التيار التراثي ولا هي استطاعت أن تعيش عصرها وتعيش ما فيه من تقدم علمي وتكنولوجي وفكري بالرغم من دعوات الحداثة والتغريب وهو موقف التيار اللاتراثي، وعجزت عن التوفيق بين الاثنين في وقت مطالبة بعدم التفريط في الماضي وبعدم التفريط بالعصر وظروفه خاصة وهي أمة تراثية، التراث حيّ فيها في مجال الشعور القومي والفردي وفي داخل اللاشعور القومي والفردي. وأمام تيار التواصل مع التراث إلى درجة الانقطاع عن العصر وتيار التواصل مع العصر إلى درجة الانقطاع عن التراث وتيار التوفيق أو التلفيق بين التراث والعصر بغير إيجابية وفعّالية لا من جهة التراث ولا من قبل العصر، يقوم مشروع'التراث والتجديد' لطرح قضية التراث كأساس وشرط وقضية التجديد كمنهج وميدان وعلم داخل مشروع حضاري قومي من شأنه يحلّ أزمة العالم العربي والإسلامي المعاصر بأسلوب علمي التزامي بعيداً عن الأحادية في المنظور وفي المنهج والدراسة والنتائج، فهو مشروع يؤسس للتغيير الاجتماعي من خلال منهج أو نظرة تجمع بين التراث والتجديد بكيفية جديدة لا تسمح بسيطرة التراث بمفرده أو سيطرة العصر بمفرده أو سيطرة التغليف و التلفيق مثلما هو الحال في النماذج السائدة والمشاريع القائمة والتي لم تستطع حتى الآن تجاوز وضعية التخلف وأزمة التحضر في العالم العربي والإسلامي المعاصر.

في كثير من الأحيان تكون المشكلة في اتجاهات الفكر العربي والإسلامي المعاصر في المفاهيم، لذا يؤكد صاحب مشروع 'التراث والتجديد' على ضبط مفهومي التراث والتجديد. إن نقطة الانطلاق في المشروع هو التراث وليس الغرض من ذلك تجديده لأجل المحافظة عليه وعلى أصالته، "بل من أجل المحافظة على الاستمرار في الثقافة الوطنية، وتأصيل الحاضر، ودفعه نحو التقدم، والمشاركة في قضايا التغيير الاجتماعي. التراث هو نقطة البداية كمسؤولية ثقافية وقومية، والتجديد هو إعادة تفسير التراث طبقاً لحاجات العصر، فالقديم يسبق الجديد، والأصالة أساس المعاصرة والوسيلة تؤدي إلى الغاية التراث هو الوسيلة، والتجديد هو الغاية، وهي المساهمة في تطوير الواقع، وحلّ مشكلاته، والقضاء على أسباب معوقاته وفتح مغاليقه التي تمنع أيّة محاولة لتطويره."[3]

فالتجديد في ارتباطه بالتراث يجعل التراث ليس هو غاية في ذاته أو قيمة في ذاته، مجرد متحف للأفكار نتغنى ونفتخر بها بل مادة حيّة تعطي النظرية العلمية في تفسير الواقع والسعي إلى تطويره، ونظرية للعمل ومحددا للعمل ومحددا وموجهاً لسلوك الإنسان ومادة قومية تُكتشف وتُستثمر لإعادة بناء الإنسان وعلاقته بالأرض، فالتخلف بمختلف مظاهره وفي جميع قطاعات الحياة يعود إلى غياب مشروع حضاري قومي محكم وإلى غياب ثورة إنسانية في الوعي والفكر، والثقافة سابقة على الثورة في الزراعة أو الصناعة أو غيرها، "فالنهضة سابقة على التنمية وشرط لها والإصلاح سابق على النهضة وشرط لها والقفز إلى التنمية هو تحقيق لمظاهر التقدم دون مضمونه وشرطه. 'التراث والتجديد' إذن يحاول تأسيس قضايا التغيّر الاجتماعي على نحو طبيعي و في منظور تاريخي، يبدأ بالأساس والشرط، قبل المؤسس والمشروط."[4]

المنهج السائد في التعاطي مع التراث يعيق تجديد التراث وتحويله إلى ذخيرة فردية وقومية تضطلع بإعادة بناء الإنسان انطلاقاً من الإصلاح، فالنهضة فالتنمية فالتقدم. وإذا كان الغرب الحديث ابتدأ نهضته العلمية من الواقع باعتباره مصدر الفكر الأول والأخير، فإن تراثنا جزء من الواقع حيث مازلنا نعيش بفكرة القضاء والقدر وثنائية الله والعالم وبتصور الكلي والجزئي في النظري على حساب العملي، وبالقيّم السلبية في التصوف مثل الصبر والتواكل والقناعة والتسليم، وتتشعب المناقشات في الفروع التي لا تغيّر شيئاً في الواقع. فالتراث ما زال حياً في شعور العصر ووجدانه، يمكن للتراث أن يؤثر في العصر ويكون محدداً وموجهاً للسلوك فيه، و"تجديد التراث إذن ضرورة واقعية، ورؤية صائبة للواقع، فالتراث جزء من مكونات الواقع وليس دفاعاً عن موروث قديم، التراث حيّ يفعل في الناس ويوجّه سلوكهم، وبالتالي يكون تجديد التراث هو وصف لسلوك الجماهير وتغييره لصالح قضية التغير الاجتماعي. تجديد التراث هو إطلاق لطاقات مختزنة عند الجماهير بدلاً من وجود التراث كمصدر لطاقة مختزنة... تجديد التراث هو حلّ لطلاسم القديم وللعُقد الموروثة وقضاء على معوقات التطوّر والتنمية والتمهيد لكل تغيّر جذري للواقع، فهو عمل لا بد للثوري من أن يقوم به."[5]

وتجديد التراث لا يكون إلا بتحليله، وتحليل التراث هو تحليل للعقلية القومية المعاصرة وإظهار مكوناتها وعناصرها وأسباب ضعفها وتخلفها، وتحليل العقلية القومية المعاصرة وهي عقلية تراثية تاريخية فهو تحليل للتراث ذاته مادام التراث القديم مكوناً رئيسياً في العقلية المعاصرة، وهذا من شأنه يسمح برؤية الحاضر داخل الماضي ورؤية الماضي داخل الحاضر، فالتراث والتجديد في المشروع يؤسسان حسب 'حسن حنفي' علما جديداً "وهو وصف للحاضر وكأنه ماض يتحرك، ووصف الماضي على أنّه حاضر معاش خاصة في بيئة كتلك التي نعيشها حيث الحضارة فيها مازالت قيمة، وحيث الموروث مازال مقبولاً... ولما كان التراث يشير إلى الماضي والتجديد يشير إلى الحاضر، فإن قضية التراث والتجديد هي قضية التجانس في الزمان وربط الماضي بالحاضر وإيجاد وحدة التاريخ... فلا يعني انتقال شعب ما من مرحلة إلى أخرى حدوث قطع أو انفصال حضاري بل يعني استمرار الحضارة ولكن على أساس جديد من احتياجات العصر، قضية التراث والتجديد هي إذن الكفيلة بإظهار البعد التاريخي في وجداننا المعاصر واكتشاف جذورنا في القديم... التراث والتجديد يمثلان عملية حضارية هي اكتشاف التاريخ وهو حاجة ملحّة ومطلب ثوري في وجداننا المعاصر. كما يكشفان عن قضية البحث عن الهوية عن طريق الغوص في الحاضر... عن طريق تحديد الصلة بين الأنا والآخر."[6]

ومسألة تجديد التراث هي مسألة إعادة جميع الاحتمالات في القضايا المعروضة، وإعادة الاختيار حسب متطلبات الحياة في العصر الحاضر، "فلم يعد الدفاع عن التوحيد بالطريقة القديمة مفيداً ولا مطلوباً، فكلنا موحدون منزهون، ولكن الدفاع عن التوحيد يأتي عن طريق ربطه بالأرض، وهي أزمتنا المعاصرة."[7] وإذا كان التشبيه أو التجسيم اختياراً قديماً غير مقبول، قد يحرك العقول والقلوب نحو الربط بين الله والأرض، بين الله وفلسطين. وإذا كان الفصل قديماً بين الله والعالم والإنسان جزء من العقل هذا الفصل يبرره الدفاع عن الألوهية ضد الثقافات والفلسفات الأخرى، أما حال عصرنا مختلف فأصبحت المأساة هي التراث والتعاطي معه، فسيطرة الفكر الأشعري لمدة أكثر من عشر قرون وكان إحدى معوقات العصر آنذاك لأنه قام على التصور الرأسي للعالم لا التصور الأفقي الذي جعل البديل في الاختيار الاعتزالي الذي بلغت بوجوده الحضارة الإسلامية أوجها وقوتها لأنه الاختيار الذي يعبّر عن حاجات ذلك العصر ومتطلباته. وكان أكثر سلبية لمطالبه. 'فالتراث والتجديد' "إذن هي إعادة كل الاحتمالات القديمة بل ووضع احتمالات جديدة واختيار أنسبها لحاجات العصر، إذ لا يوجد مقياس صواب وخطأ نظري للحكم عليها بل لا يوجد إلاّ مقياس عملي فالاختيار المنتج الفعّال المجيب لمطالب العصر هو الاختيار المطلوب. ولا يعني ذلك أن باقي الاختيارات خاطئة بل يعني أنها تظل تفسيرات محتملة لظروف أخرى، وعصور أخرى ولّت أو مازالت قادمة."[8]

لا يجوز القول بأن حضارتنا حضارة وحدة لا تنوع واتفاق لا اختلاف، فتراثنا القديم قدّم جملة من الاحتمالات. فالاجتهاد مثلاً ليس هو منهجاً في أصول الفقه فقط فهو كذلك منهج في أصول الدين ووظيفته لا تقتصر على القياس بل كذلك اختيار النظريات المناسبة للعصر ولروحه. وروح العصر أو احتياجات العصر أو الواقع المعاصر لا يعني الإشارة إلى جماعة بشرية ما بل الإشارة إلى تركيبات نفسية وأبنية اجتماعية، هذه التركيبات وهذه الأبنية هي التي تحدد الهوية. وأي تفسير ينطلق من العنصر أو القومية أو الجنس فهو تفسير تابع للهوى والمزاج ولا صلة له بالعلم وبتحليل الواقع، وقد يكون تفسيراً منحرفاً عن الموقف الحضاري وتابعاً في مساره لمسار بيئة الحضارة الغربية وظروفها الفكرية والمادية. كما يصعب التحليل في تناول قضية 'التراث والتجديد'. فتحليل القديم يؤدي إلى الأكاديمية والتعالم والانعزال عن الواقع. وتحليل الواقع المعاصر يُجرد البحث من التراث القديم ويصبغه بصبغة اجتماعية معاصرة بحتة، فمعادلة تحليل التراث والواقع تقتضي تحليل التراث وليس تركه وتقتضي تحليل الواقع دون عزل التراث عن واقعه الذي يتحرك بفعل التراث.

وتجديد التراث ليس بدافع عاطفة التبجيل والتقديس والتعظيم بل كون الإنسان الذي يجدد ينتمي إلى أرض ما وإلى شعب ما ويشرح 'حسن حنفي' هذا الموضوع قائلاً: "لذلك أتأسف كل التأسف لغياب هذا الطابع الوطني من معظم دراسات معاصرينا في التراث وكأنهم لا يعيشون عصرهم أو أي عصر بالمرّة. وربما يرجع ذلك إلى أن الدافع على التأليف هو الكتاب الجامعي المقرر أو على أكثر تقدير الحصول على درجة علمية دون الالتزام بأي هدف أو مجرد الشهرة والتشرف بقضية يتاجر بها المشاهير على صفحات الجرائد بغية التصدر والزعامة، وهم أقرب الناس إلى الارتزاق والعهر الفكري."[9] فتجديد التراث ليس مطلوباً لذاته بل هو أداة للبحث عن العصر وروحه والسعي إلى تطويرها من خلال دراسة البعد الاجتماعي فيه فهو جزء من علم الاجتماع الديني أو علم الاجتماعي الحضاري. وتجديد التراث لا يبحث في نشأة التراث، "والمجدد هنا كعالم الحديث مهمته البحث عن صحة الحديث في التاريخ وليس عن مصدر الحديث في النبوة وصدقها."[10] وإذا كان التراث قضية شخصية قومية يلتزم الباحث بالتراث بحيث يصير هو والموضوع المدروس أمرا واحدا. ولا يُنقص الالتزام هنا من موضوعية وحياد الباحث المجدد فالالتزام هو نفسه موضوع العلم وبذلك "تتكشف المشاكل القديمة في شعور الباحث المعاصر كمشاكل شخصية في حياته وحيوية ثقافته الوطنية، ويتحول التراث القديم بالفعل إلى مشكلة الثقافة الوطنية، فهو مصدر الثقافة باعتباره مخزوناً نفسياً موجّهاً لسلوك الجماهير، وهو موجّه نحو الواقع باعتباره أسسا لنظرية ممكنة للتغيير والتنمية وإذا كانت ثقافتنا الوطنية تتأرجح بين القديم والجديد، بين الماضي والحاضر، فإن تجديد التراث يعطي لثقافتنا الوطنية وحدتها الضائعة وتجانسها المفقود."[11]

والتساؤل عمّا يقدمه 'التراث والتجديد' بالنسبة للمنهج والعلم والميدان يقرّر صاحب المشروع بصعوبة تصنيف التجديد بين هذه الأطر الثلاثة، فالمنهج علم يؤسس للعلم والعلم المؤسس ميدان. فتحليل الواقع وبداخله التراث وتحليل التراث على أنه مخزون نفسي واجتماعي يهدف إلى تحليل الواقع، 'فالتراث والتجديد' "إذن يغطّي ميادين ثلاثة:

1- تحليل الموروث القديم وظروف نشأته ومعرفة مساره في الشعور الحضاري.

2- تحليل الأبنية النفسية للجماهير وإلى أي حد هي ناتجة عن الموروث القديم أو من الأوضاع الاجتماعية الحالية.

3- تحليل أبنية الواقع وإلى أي حد هي ناشئة من الواقع ذاته ودرجة تطوره أم أنّها ناشئة من الأبنية النفسية للجماهير، الناشئة بدورها عن الموروث القديم، وإن شئنا فالتراث والتجديد يودّ الانتقال من علم الاجتماع المعرفة إلى تحليل سلوك الجماهير. أي من العلوم الإنسانية إلى الثقافة الوطنية ومن الثقافة الوطنية إلى الثورة الاجتماعية والسياسية."[12]

وقضية تجديد التراث ليست جديدة، تناولها العديد من المصلحين الدينيين والمفكرين المعاصرين لكن التحليل جاء إمّا جزئياً أو للتعبير عن الأماني والنيات الحسنة وإما جاء خطابها حماسياً وإما جاء في قوالب وأُطر التراث الغربي. وتجديد التراث ليس مهمة فرد بل دور كافة المثقفين وجميع الباحثين، فجوانب التراث متعددة ومتنوعة وتحتاج إلى التخصص كل في مجاله. والنمو الحضاري لأي مجتمع كان يحصل بالإبداع الحضاري في الفن والسياسة، "أو في الروح العامة باسم 'المحافظة والتقدم'، فالنمو بطبيعته هو خروج الجديد من براعم القديم، مشكلة خطيرة إذن لو استطاع المجتمع النامي دراستها دراسة علمية لحافظ على تجانسه في الزمان، ولتأكّد من إرساء قواعد ثورية واطمأنّ إلى مسارها العلمي."[13]

 

2- ميادين التجديد

يطرح 'حسن حنفي' إشكالية التراث والتجديد في وضعها الحالي من خلال الاتجاهات التي تتنازعها لأجل حلها وهي ثلاثة اتجاهات:اتجاه يكتفي بالحل الذاتي التراثي فيقع في العجز والنفاق والنرجسية. واتجاه يرفض الحل الذاتي التراثي ويأخذ بالحل الخارجي المستورد للجديد فيقع في القصور والتقليد والازدواجية. أما الاتجاه الثالث، فلا يأخذ بالحل التراثي الذاتي بمفرده ولا بالحل المستورد بمفرده بل يوفّق بين الحلّين طلباً للتوازن والاعتدال من خلال الجمع بين القديم وما يتفق مع العصر، وإرجاع الجديد لمقاييس القديم فيكون فيه التجديد من الخارج من خلال ظاهرة الانتقائية من الفكر الأوربي الحديث والمعاصر ثم قياس التراث عليه أو التجديد يكون من الداخل من خلال إظهار الجوانب المشرقة في التراث القديم المنقول واستثمارها في تلبية متطلبات العصر وحاجات الواقع المعاصر مما يحتاجه من تغير اجتماعي وتقدم في مجالاته المختلفة. لكن لا توجد محاولة واحدة من هذه المحاولات استطاعت أن تعي الأزمة، أزمة التراث والتجديد وتبني مشروعاً حضارياً قومياً يعالج قضية التراث والتجديد من جذورها ويصل إلى حل الأزمة من خلال الموروث والوافد في الواقع المعاصر.

ومما زاد مشكلة التراث والتجديد تعميقاً وتفاقما كما هي في وضعها الحالي، أزمة البحث العلمي في الواقع العربي والإسلامي المعاصر وهو ما يعرف بأزمة أو مشكلة المنهج في الدراسات الإسلامية. بحيث تضاف أزمة البحث العلمي في التراث والتجديد إلى أزمة التغيير الاجتماعي وهي أزمة ثورة. فسيطرت النعرة العلمية كما يريدها الغرب على الدراسات والبحوث في مجتمعاتنا، بمناهجها وأساليبها مما ألحق الخلل والجمود في دراسة ثقافتنا الحالية أو موروثنا القديم سواء باستخدام المنهج التاريخي أو التحليلي أو باستخدام الإسقاط وفكرة الأثر والتأثر وهي مناهج ارتبطت أساساً بعمل الاستشراق والمستشرقين وبدعواتهم وأغراضهم. من جهة أخرى شهدت النزعة الخطابية التي سيطرت على بحوث ودراسات المفكرين والباحثين من أبناء العالم العربي والإسلامي نفس النتائج في الخلل والفساد وغياب مشروع حضاري واضح المعالم ومجدد المنطلقات والمرامي، ذلك لسيطرة التكرار والاجترار والتقريظ والدفاع والتبرير والجدل والمهاترات ووصل كل من أصحاب النزعة العلمية وأصحاب النزعة الخطابية إلى باب مسدود في التعاطي مع أزمة التراث والتجديد فغاب الحل و بقيت الأزمة قائمة.

يؤكد 'حسن حنفي' أن أزمة البحث العلمي في العالم العربي والإسلامي لا تُحل بأي منهج من المناهج الثلاثة السابقة بل يتم بطرق أخرى عديدة تتعلق بأبعاد التفكير المعروفة، بعد اللفظ وبعد المعنى وبعد الشيء، وتجديد التراث يحتاج إلى لغة جديدة تماماً تكون خالية من عيوب اللغة القديمة وقصورها وحتى عادت اللغة القديمة غير مواكبة تماماً للعصر وللتقدم العلمي التكنولوجي والاجتماعي المستمر، فالعصر في حاجة إلى لغة فعّالة وإيجابية تتميز بأن تكون عامة و مفتوحة وعقلية ولها ما يقابلها في مجال التجربة والمشاهدة والحس وأن تكون إنسانية لا محلية ضيّقة. وفي إطار التجديد اللغوي ضرورة تتبع الأساليب الثلاثة: أسلوب الانتقال من اللفظ القديم إلى لفظ جديد أو أسلوب الانتقال من المعنى الضمني في اللفظ القديم إلى لفظ جديد وأسلوب الانتقال من الشيء أو الموضوع المشار إليه إلى لفظ جديد. هذا في مجال منطق التجديد اللغوي أما في مجال تحليل التراث وتفكيكه في نشأته وعند أصحابه وفي تكوينه في ظروفه التاريخية تمكين الانتقال إلى مستوى التحليل الشعوري أو الظاهراتي وهو مستوى حديث للتحليل يمثل المنظور الذي يُقرأ منه التراث وهو مستوى موجود في التراث القديم بجميع جوانبه ابتداء من الوحي القرآن والسنة فاجتهادات العلماء إلى العلوم المختلفة إلى الثقافة الشعبية في صورتها البسيطة. وهذا التجديد في منطق اللغة في مستوى التحليل لا ينجح إلاّ بتغيير البيئة الثقافية، وواقع البيئة الثقافية يمثل مستوى ثالث للتحليل لأن الثقافة التقليدية نشأت في ظروف وأوضاع خاصة بها والتجديد المطلوب والمستورد في عصرنا لحياتنا الفكرية والثقافية والنظرية له ظروفه وأحواله المعاصرة، فإن لم تتغير البيئة الثقافية الحالية في عصرنا وهي بيئة كلاسيكية، بيئة القدماء فيكون التجديد في هذه البيئة مجرد وهم لأنه ليس تجديداً بل تكرار وإعادة لبيئة ماضية واعتبارها جديدة. فلا يتم التجديد بالظروف والأوضاع الثقافية والفكرية الحالية في واقعنا المعاصر، بل يشترط تغيير بيئتنا الثقافية لينطلق التجديد الفعلي من خلال قراءة القديم وتجريده من كافة الشوائب التي اتصلت به وإعادة بنائه داخل الشعور وتحرير المعاني لتتجاوز ألفاظ النص أي بواسطة تحليل القديم وتنقيته وإعادة بنائه وتحليل الواقع المعاصر بنظرية التفسير ثم مقابلة القديم بالواقع، "أو تركيب الأولى عن الثانية وتأسيس الموضوع المثالي على الواقع العصري وإعطاء النفس بدناً، والروح طبيعة، والفكر واقعاً، والله عالماً، وهنا لا يخطأ الباحث، فهو ليس مسئولا عن الموضوع المثالي ولا عن روح العصر وإنما مسؤوليته في توجيه أحدهما بالثاني والربط بين القديم والجديد، وإحياء التراث، وتأصيل العصر."[14]

يرتبط التجديد بكل جبهة من الجبهات الثلاث، جبهة التراث وجبهة الآخر وجبهة الواقع. وكل جبهة من الجبهات الثلاث ترتبط بموقف حضاري ما، يتبلور فيه التجديد ويقوم بداخله النهوض الحضاري تغييرا للوضع الحالي لمشكلة التراث والتجديد والموقف الحضاري بأبعاده الفكرية والتاريخية، بُعد التراث والماضي وبُعد الآخر وثقافته وبُعد الواقع وتحدياته يمثل الميدان الواسع للتجديد والإبداع كما يمثل الساحة الكبرى للمعارك الثلاث في الجبهات الثلاث. والموقف الحضاري بأبعاده الثلاثة الأنا والآخر والواقع يرتبط من جهة أخرى بالزمان، فيرتبط في الموقف الحضاري بُعد الحاضر بالواقع ومتطلباته وتحدياته ويرتبط الماضي بالتراث وجوانبه المشرقة والمظلمة، كما يرتبط المستقبل بالآخر وثقافته وأمام هذه الثلاثية النظرية والزمنية يحتاج التجديد إلى أن يكون في كل ميدان من هذه الميادين الثلاثة، الميدان التراثي، وميدان علاقة الأنا بالآخر وميدان الواقع.

بالنسبة لميدان التراث، فمجتمعاتنا تراثية تاريخية، تعيش بالتراث وعلى التراث فهو مخزونها النفسي الذي يؤثر في سلوك أفرادها شعورياً ولاشعورياً، وتجديده أمر ضروري، ولما كانت الأزمة هي أزمة التغيير داخل المجتمع أو أزمة ثورة، وأزمة منهج البحث والدراسة وأزمة البحث العلمي، ولما عجزت المناهج والاتجاهات القائمة حالياً عن التجاوب الايجابي والفعّال في حلّ هذه الأزمة صار من الضروري تجديد الموروث القديم بطرق وأساليب تسمح بالتعاطي مع هذه الأزمة بفعالية ونجاعة، والخروج من الوضعية التي تجعل أقصى جهد البحث هو "إعادة الاختيار بين البدائل التي وُجدت عند القدماء دون إبداع بديل جديد من وحي العصر. ينتقي مما هو موجود ولكنه لا يضيف إليه شيئاً، وبالتالي يظل الفكر محكوماً بالبدائل القديمة، ومع ذلك قد تكون إعادة الاختيار بين البدائل بداية الاجتهاد ولكنها ليست نهايته."[15] والتجديد في التراث يخص أساساً العلوم التراثية وهي عقلية نقلية تتمثل في علم أصول الدين وعلوم الحكمة (الفلسفة) وعلم أصول الفقه وعلم التصوف، وأخرى نقلية وهي علوم القرآن وعلوم التفسير وعلوم الحديث والسيرة والفقه، أما العلوم العقلية فهي الرياضة وعلوم الطبيعة والعلوم الإنسانية. فتجديد هذه العلوم يتمثل في إعادة بنائها وتحويلها إلى طاقات متفجرة في الحاضر تشارك في بنائه بإيجابية وفعاّلية، وفي هذا يقول 'حسن حنفي': "ولما كان التراث يرتكز في شعور الناس على تراث السلطة، الأشعرية في العقيدة، وليس الاعتزال، والاشراقية في الحكمة وليس العقلانية، والنصية في أصول الفقه وليس المصلحة، والأحوال والمقامات السلبية وليس الإيجابية كانت مهمة إعادة التراث هو إعادة التوازن في شعور الناس وثقافة الجماهير بين تراث السلطة وتراث المعارضة العقلاني الاعتزالي الفلسفي، والوضعي الفقهي والاجتماعي الصوفي حتى تنشأ حركات التغير الاجتماعي من الداخل وليس من الخارج، بتراث الأنا وليس بتراث الغير. فيحدث التغير الاجتماعي من خلال التواصل وليس من خلال الانقطاع، ويقع التراكم التاريخي المتصل دون الوقوع في الردّة والانكسارات والعودة إلى الصفر باستمرار."[16]

حسب 'حسن حنفي' فإن طرق ومناهج التجديد الثلاثة المقترحة وهي منطق التجديد اللغوي، ومنطق التحليل الشعوري ومنطق تغيير البيئة الثقافية عامة تشمل التراث برمّته وتوجد طرق خاصة يمكن بها إعادة بناء كل علم من العلوم التراثية على حدة الذي هو ميدان التجديد والإبداع. هذه الطرق تتمثل في 'منطق التفسير' و'منطق الظواهر' و 'منطق التقييم' و'منطق التجديد'. وإعادة بناء العلوم الدينية العقلية الغرض من ذلك اكتشاف الوحي وكيفية تحوّله إلى علوم عقلية، "حتى يمكن أن يكون مثالاً للمحاولات الحالية لتحويل الوحـي إلى عـلم محـكم... وفي إعادة بناء العلوم يمكن أن يوضع كل شيء موضع التساؤل من جديد، ولكن تظلّ نقطة البداية هي الوحي الموجود بالفعل في الكتاب... وكل المشاكل التي تعرضها العلوم التقليدية تحتاج إلى إعادة بناء."[17] أن العلوم التراثية كلها صدرت من الوحي وشقت طريقها نحو الإبداع والتجديد فعلم الكلام حوّل النص إلى معنى دون أن يتصل بحضارة أخرى بل بجهد داخلي. والفلسفة استطاعت أن تقدم نظريات شاملة وأقسام عامة هي الإلهيات والطبيعيات والمنطق. وقدّم أصول الفقه منهجاً خارجياً عن الفلسفة وأصول الدين في التشريع، وجاء التصوف يستخدم التأويل ويقدم منهجاً صاعداً من الله إلى العالم في مقابل أصول الفقه أو التنزيل كمنهج نازل من الوحي إلى العالم. والعلوم العقلية البحتة الرياضية والطبيعية والإنسانية فهي لم تصدر من الوحي لكن لها بواعثها في الوحي والحضارة مثل الدعوة إلى التأمل والبحث والتجريب. أما العلوم النقلية فهي قامت من أجل ضبط الوحي تدويناً وتفسيراً وإعادة بناءها تسمح باكتشاف دلالات جديدة للعلوم القديمة وتلبية متطلبات العصر من خلالها. والعلوم التراثية لما كان مصدرها الوحي فهي بعد تطورها صارت ظواهر فكرية من خلال ارتباطها بالشرعي والعقلي والواقعي وهذه الظوهر محتواه في الوحي وتعرف بعملية 'الاحتواء'.

كان الغرض من العلوم التراثية خاصة العقلية النقلية هو تحويل الوحي إلى نظرية أو علم أو منهج، وذلك من خلال ظاهرة توحيد العلوم التراثية لارتباط كل علم ببقية العلوم الأخرى تأييدا أو معارضة ونقداً، ويحدد 'حسن حنفي' طبيعة 'التراث والتجديد' بالنسبة لظاهرة توحيد العلوم فيقول: "فالتراث والتجديد مع أنه دراسة في الفكر إلا أنه يقوم على منهج فقهي بمعنى أنه يُطبق على الفكر القياس الفقهي، ويعتمد على الاجتهاد في الفكر... فالصالح العام هو الأصل وأحد مصادر الشرع ... 'التراث والتجديد' دراسة فقهية يقوم بها فقيه في الحضارة الإسلامية ككل وليس في الفقه وحده... فإذا كانت بداية العلوم العقلية التقليدية هو الوحي فإن نهاياتها هي الإيديولوجية. 'التراث والتجديد' في النهاية إن هو إلا تحويل للوحي من علوم حضارية إلى إيديولوجية، أو ببساطة تحويل للوحي إلى إيديولوجية. وارتباط الإيديولوجية بالواقع، وتعبيرها عن عصر معين لا يعني أنها متطورة ومتغيرة باستمرار، فالوحي أيضاً علم للمبادئ العامة التي يمكن بها تأسيس العلم ذاته وتأسيس العلوم الجزئية، والتي يمكن أن تكون الأساس العقلي للإيديولوجية. تكون مهمة 'التراث والتجديد' إذن تحويل الوحي إلى علم شامل يعطي المبادئ العامة التي هي في نفس الوقت قوانين التاريخ وحركة المجتمعات فالوحي هو منطق الوجود."[18]

فمهمة 'التراث والتجديد' في ميدان التراث لدى 'حسن حنفي' وبالنسبة للعلوم التراثية هو "دورنا في إعادة بنائها وتطويرها من واقع المسؤولية، فإن القدماء رجال ونحن رجال نتعلم منهم ولا نقتدي بهم، رسالتنا هي التبليغ والتعبير وإيصال الحقيقة للناس، وتقديم التراث لهم يقرؤون فيه حياتهم، ويجدون فيه هويتهم، لذلك يجد الباحث نفسه اليوم في مواجهة قضية اللغة والمصطلحات، ومستويات التحليل، والمحاور والبؤر الحضارية وإعادة الاختيار بين البدائل القديمة... في هذه اللحظة فقط تبدو إمكانية الثورة أعني حين تضغط المحافظة إلى أدنى ترسب ممكن، وتمتد العقلانية والطبيعية إلى أقصى حد ممكن. هنا فقط سيتحرك التاريخ من جديد، وتبدأ مرحلة ثالثة بعد الأولى التي اكتملت فيها من القرن الأول حتى السابع. وبعد الثانية التي حافظت فيها على نفسها من السابع حتى الرابع عشر. فيكون جيلنا معاصراً لمرحلة ثالثة و ممهدا لها إذ يجمع فيها بين تأويل القديم وبين إبداع الجديد."[19]

والميدان الثاني المعني بالتجديد في مشروع 'التراث والتجديد' هو جبهة الموقف من الآخر، من الغرب وثقافته وفكره والتجديد هنا يخص الموقف من العلاقة بين الأنا والآخر حيث عرفت الساحة الفكرية في العالم العربي والإسلامي المعاصر عدة مواقف تجاه الغرب، "الموقف الأول هو موقف الانقطاع عنه ورفضه لأنه تراث الآخر المخالف، الوافد الذي يمثل خطراً على الموروث وعلى الهوية والذي ينتهي إلى الوقوع في تقليد الآخر والتغريب والتبعية... أما الموقف الثاني فهو موقف التواصل وهو موقف التيار العلمي العلماني الذي يرى أن الغرب نمط التحديث... والموقف الثالث هو موقف الانتقاء من التراث الغربي ما يعبّر عن حاجاتنا العصرية ومطالبنا في التقدم والنهضة."[20] كل هذه المواقف لم تستطع أن تحل الأزمة، ودخل بعضها في حوار مع الآخر على حساب "الحوار مع الأنا مع أن الحوار مع الذات يسبق الحوار مع الآخر، ومعرفة النفس سابقة على معرفة الآخر، والتساهل في معرفة الذات يؤدي إلى تساهل في معرفة الآخر، وبالتالي يعزّ الحوار، ويقع سوء التفاهم. لذلك لم ينجح الحوار مع الآخر حتى الآن لأنه لم يقم على الحوار مع الذات أولا."[21] ولم يجد الحوار إلا في اعتبار الغرب النموذج الواحد والوحيد لأي تقدم حضاري وهو ممثل البشرية جمعاًء، و"اعتبار الغرب المعلم الأبدي واللاّغرب التلميذ الأبدي ... رد كل إبداع ذاتي للشعوب غير الأوربية إلى الغرب ... أصبح الغرب هو الإطار المرجعي الأول والأخير لكل إبداع غير أوربي، كما كان الحال مع الحكماء الأوّلين بالنسبة لليونان فخرج ابن رشد أرسطيا."[22]

صحيح أصبح التراث الغربي يشكل واحدا من الروافد الرئيسية للوعي القومي في البلاد العربية والإسلامية، "لم تحدث بيننا وبينه قطيعة إلا في الحركة السلفية. ولم تقم حتى الآن حركة نقدية له إلا في أقل الحدود وبمنهج الخطابة أو الجدل دون منهج النقد ومنطق البرهان، وقد يتم التركيز على هذا المصدر وحده فتنشأ ثقافتنا العلمية العلمانية وحركاتنا الإصلاحية والتحديثية وتعليمنا العصري ونظمنا الحديثة اقتناعاً وإيماناً أو دفاعاً عـن مصـالح الحكـام... وبالتالي بدأ وعينا يسيطر على قدمين: الأولى طويلة وقوية وربما رفيعة نظراً لأننا نجهل تراثنا القديم، والثانية قصيرة ومتورمة نظرا لانتشار الثقافة الغربية في وعينا القومي لدرجة الانبهار بها والتبعية لها."[23] لذا "نشأ 'الاستغراب' في مواجهة التغريب الذي امتد أثره ليس فقط إلى الحياة الثقافية وتصوراتنا للعالم وهدد استقلالنا الحضاري بل امتد إلى أساليب الحياة اليومية ونقاء اللغة ومظاهر الحياة العامة وفن العمارة ... الاستغراب هو الوجه الآخر والمقابل بل والنقيض من الاستشراق يهدف 'علم الاستغراب' إذن إلى فك العقدة التاريخية المزدوجة بين الأنا والآخر ... يعبر عن قدرة الأنا باعتباره شعوراً محايداً على رؤية الآخر ودراسته وتحويله إلى موضوع وهو الذي طالما كان ذاتاً يحوّل الآخر إلى موضوع...مهمة هذا العلم الجديد رد ثقافة الغرب إلى حدودها الطبيعية."[24] لذلك تتغير علاقة الأنا بالآخر في إطار وعي حضاري يشمل موقفاً حضارياً من الآخر كما يشمل بعد المستقبل الذي يصنعه الحاضر الممتد في التاريخ والماضي.

والميدان الأخير الذي يشمله التجديد هو الواقع، والواقع ليس ذا طبيعة نصية مثلما الأمر في الموروث والوافد. فالواقع له مشكلاته وتحدياته تحتاج من الفكر موقفا حضاريا هو نظرية التفسير أو نظرية في تفسير الواقع، الفكر العربي الإسلامي المعاصر وقف من الواقع أكثر من موقف تأرجح بين التبرير والرفض والانعزال. "وأول موقف للفكر العربي الحديث من الواقع هو التبرير، تبرير النظم القائمة وتبرير الوضع القائم لأن وظيفة العقل هي تبرير المعطيات السابقة سواء كانت في العقائد الدينية أم في النظم الاجتماعية ... والموقف الثاني هو موقف الرفض والتمرد والغضب... أما الموقف الثالث فهو الانعزال كلية عن الواقع لا تبريراً ولا رفضاً بل نفورا أو تعففاً."[25] و لمّا كان من غير الممكن فهم التراثين بعيدا عن الواقع الحالي وظهر عجز المواقف الحالية في الساحة الفكرية عن التعبير عن الأزمة وحلّها وعجزها عن "تغيير الواقع أو حتى إلى فهمه بل تدل على عدم نضج في التعامل معه. وهنا تأتي أهمية الموقف الرابع الذي يقوم على التنظير المباشر له- الواقع- بعد العيش معه وتجربته وإدراك مكوناته والإحساس به ثم محاولة فهمه والتعبير عنه دون الاعتماد على قال فلان أو علاّن من التراث القديم أو من التراث الغربي."[26] لأن الفكر العربي المعاصر يفتقد إلى نظرية التفسير ونظرية التفسير "هي التي تربط بين الوحي والواقع –أو إن شئنا- بين الدين والدنيا أو إن فضّلنا يبن الله والناس. فإذا نظرنا إلى تفسيرنا الحالي نجد أننا لا نملك نظرية محكمة... ومنهج تحليل الخبرات هو النظرية الوحيدة الممكنة في التفسير وذلك لأن فهم النصوص لا يأتي إلا بإرجاعها إلى مصدرها في مجموع الخبرات الحيّة التي نشأت فيها."[27]

تتعاطى نظرية التفسير التي تستخدم منهج تحليل الخبرات مع الواقع حسب تحدياته. وهي تحرير الأرض من الغزو والاستعمار وتحرير المواطن من الظلم والاستبداد والدفاع عن حريته وحقوقه في مقابل قهره وتعذيبه وتحقيق العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثورة على الناس وتحقيق الوحدة في مواجهة التجزئة والعنصرية والطائفية وتحقيق الهوية في مواجهة التغريب والحرص على تحقيق التنمية ضد كل مظاهر وصنوف التخلف واللجوء إلى الغير وتجنيد الناس وحشد الجماهير ضد السلبية واللامبالاة. فنظرية التفسير منهجها أسلوب تحليل الخبرات الذي يربط النص التراثي القديم أو النص الوافد الجديد بالظروف التي نشأ فيها ويردّه إلى أصوله في مجمل التجارب الإنسانية الحيّة التي أفرزته، وبالتالي تتكامل الجبهات الثلاث والموقف الحضاري بأبعاده الثلاثة، كما تندمج ميادين الإبداع الثلاثة ميدان الموروث وميدان الوافد وميدان الواقع، بأبعادها الزمنية ومع بعضها البعض فتنطلق الحضارة ويتحرك التاريخ.

هذا الموقف الحضاري يتكامل في مكوناته و يتعاطى مع الواقع والآخر والموروث وفق تصور عام "للمرحلة التاريخية الرامية من منظور كلي شامل يمكن إدراك أهمية النقد الحضاري المزدوج للموروث القديم وللوافد الغربي الحديث فقط كالعولمة، ونظام العالم الجديد، ونهاية التاريخ، وصراع الحضارات، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والأقليات، وتلوث البيئة و الطائفية، والعنف، و النزاعات العرقية الجديدة. يُضاف إلى ذلك النقد الاجتماعي لمشاكل السكان والبطالة والطفولة والشيخوخة والأمراض الاجتماعية وعلوم الحياة، والجينات والهندسة الوراثية. بل ويعني أيضاً النقد الاجتماعي المباشر للتسلّط والنظام الأبوي والتجزئة والتزلّف والظلم الاجتماعي والتغريب ولامبالاة الناس."[28]

 

3- مناهج التجديد

يربط 'حسن حنفي' ظاهرة التخلف العام في الواقع العربي والإسلامي المعاصر بغياب مشروع حضاري قومي على المستوى النظري، وبغياب نظرية محكمة في تفسير الواقع ترتبط بها النهضة وينطلق منها التجديد. ولما كان الموقف الحضاري غير واضح بل لم يتبلور ومن أسباب ذلك أزمة التغير الاجتماعي وأزمة المنهج في الدراسات والبحوث أي أزمة البحث العلمي، يقترح صاحب مشروع 'التراث والتجديد' مناهج وبدائل يربطها باللّغة وبمعاني اللّغة وبالأشياء تبعاً لأبعاد الفكر الثلاثة، اللّفظ والمعنى والشيء.

ولا يقوم العلم بدون لغة، والعلم الجديد مرتبط بلغة جديدة تكشف عنه، والتجديد بواسطة اللّغة هو بداية العلم. وهكذا مع الحضارة التي تتطور وتتجدد بفعل اللّغة وإذا ما ضاقت لغتها تُسقطها وتضع لغة جديدة قادرة على التعبير والتواصل. فالعلوم التراثية عندنا مازالت تستخدم اللّغة القديمة بمفاهيمها ومصطلحاتها في أصول الفقه وفي علوم التفسير وفي علوم الحديث وغيرها. "هذه اللّغة لم تعد قادرة على التعبير عن مضامينها المتجددة طبقاً لمتطلبات العصر نظراً لطول مصاحبتها للمعاني التقليدية الشائعة التي تريد التخلص منها ومهما أعطيناها معاني جديدة فإنها لن تؤدي غرضها لسيادة المعنى العرفي الشائع على المعنى الاصطلاحي الجديد. ومن ثم أصبحت لغة عاجزة عن الأداء بمهمتها في التعبير والإيصال."[29]

وإذا كانت معاني اللّغة القديمة هي معاني التراث أما اللّغة فهي لغة التجديد، لا يمكن إسقاط لفظ واستبداله بلفظ آخر يرادفه أو يشبهه بكيفية تلقائية. فلا تتجدد اللّغة بالإرادة بل فعل يحصل في الوعي لدى الباحث الذي يكتشف أن عجز اللّغة القديمة عن التعبير عن معانيها لارتباطها بثقافة حديثة وببيئة ثقافية جديدة عليها، والتجديد اللّغوي ضروري في هذه الحالة لأنه لا يتخلص من جمود اللّغة القديمة وعجزها على التعبير عن الماضي بل يتخلص من الغموض في الاستعمال، فيصبح التجديد اللّغوي أمراً ضرورياً طبيعياً لاستبدال اللّغة القديمة بالجديدة لأجل التعبير عن تجدد المعاني وفقاً لحاجات العصر ومتطلبات الواقع، والتجديد بواسطة اللّغة لا يغيّر أو يشوّه مضمون الفكر، فاللّفظ حامل للمعنى وموصول له يعطيه قوّة للتعبير عن نفسه بلفظ جديد يكشف عن معطى كان مخفياً في اللّغة القديمة، وهكذا مع لغة العلم، فاللّغة تلعب دوراً كبيراً في إنشاء العلم وبنائه. "بل إنه يمكن القول بلا أدنى مبالغة إن العلم هو لغة و أنّ تأسيس العلم هو إنشاء اللّغة."[30]

الحاجة إلى تغيير اللّغة التقليدية تصبح ضرورة عندما يعلن اللسان القديم على عجزه عن أداء وظيفته في التعبير والتواصل ويؤكد أن الخصائص المميزة له التي أدت مهمتها في التعبير والتواصل قديما صارت عيوباً وصعوبات تعيقه على التكيف مع البيئة الثقافية الجديدة. ولغتنا التقليدية أصبحت قاصرة وعاجزة عن التعبير والتواصل في واقعنا المعاصر لأنها ارتبطت بالإلهيات وبلفظة الله التي تحتوي على بعض النقائص في الاستعمال والتداول لكونها مادة لغوية تحدد المعنى أو التصور باعتبار المعنى مطلقاً يقصد التعبير عنه بلفظ محدود مقيد. وترتبط بالدين فألفاظها تشير إلى موضوعات دينية بحتة فأي لفظ ديني أصبح عاجزاً عن أداء وظيفته في الإيصال نظراً لارتباطه بمعاني عديدة جاءت نتيجة لطول تاريخ استعماله وقد تتعارض هذه المعاني أو بعضها مع المعنى الأصلي الأول الذي أعطاه الوحي، فاللفظ هنا مرتبط بالتاريخ وليس بالوحي. ومن هنا نجد اللغة في تراثنا القديم ذات طابع تاريخي لأنها تعبّر عن أحداث التاريخ لا عن الفكر. وكل الألفاظ في اللغة القديمة "لا تشير إلا إلى وقائع تاريخية، وأشخاص أو حوادث أو مناطق جغرافية، وليست مفاهيم علمية لها دلالـتها المستقلة... واللغة في تراثنا القديم لغة تقنينية تضم الوجود وتضعه في قوالب. فهناك قانونية المصطلحات في أصول الفقه، والتقسيمات العقلية في أصول الدين والفلـسفة علـى السـواء...ولكن لغة التقنين لا تصلح لكل عصر. فعصرنا مشابه لعصر الوحي القديم وقت نزوله... فالواقع يقتضي فكرة كما اقتضى الواقع القديم الوحي. صحيح أن تقنين الثورة من قاموسنا المعاصر ولكنه لا يعني فرض قوانين على الواقع بقدر ما يعني تنظيم ما يفرضه الواقع من تغيّر ثوري حتى لا يجهض أحد ما هذه التغييرات أو يستعملها لحسابه الخاص."[31]

بالإضافة إلى كون اللغة التقليدية ذلت طابع إلهي ديني تاريخي وتقنيني نجدها صورية مجردة، فالتقسيمات العديدة والتفريعات المتعددة في كل علم من العلوم التراثية مثل تقسيمات الوجود إلى ممكن وواجب ومستحيل وجوهر وعرض في الفلسفة أو علوم الحكمة وكذلك في علم أصول الفقه نجد أنواع العلل إلى موجبة وقاصرة ومؤثرة، وملائمة وغيرها. وكذلك الأمر في التصوف دون ربط ذلك بالواقع والتجربة الإنسانية الشعورية البحتة المعاشة حسياً وفكريا ونفسياً. تحولت تلك المفاهيم والتقسيمات إلى تجريد أفقد اللغة المتداولة ارتباطها المباشر بالإنسان والواقع. أما الألفاظ الجديدة مثل الأنا، الآخر، التاريخ، الثورة، التقدم، التخلف، والأزمة فهي تمثل أسلوب العصر ولغة الجيل ومنطق عمل وجدل في التاريخ وبناء في المجتمع. "إن التجريد ينشأ بعد نشأة العلم كموضوع وكمنهج وكبناء، ونحن الآن بصدد إعادة بناء العلوم من حيث النشأة. ومن ثم فمستوى التجريد في العلوم لا يلاءم مرحلتنا الحالية في إعادة بنائنا للعالم ووصف نشأته وتكوينه من جديد."[32] ولما رفض عصرنا اللغة التقليدية لكون ارتباط اللفظ فيها بشحنات تاريخية وخلافات مذهبية. تصبح من غايات 'التراث والتجديد' "عمل ثقافة وطنية يمكن التعبير عنها بلغة يقبلها الشعور العامي. فالألفاظ التي يتقبلها العصر هي التي يمكن استعمالها... ويعني أيضاً تطويع اللغة نشأتها واختيار ألفاظها إلى متطلبات الواقع حتى لا تقع في انعزالية الثقافة بصورية اللغة... اللغة التقليدية إذن قاصرة عن أداء وظيفتها في إيصال المعاني التي يمكن للباحث أن يعبر عنها للآخرين. فإذا بدأ الباحث برؤية الشيء وفهمه لمعناه ثم وضعه في اللفظ المناسب للتعبير فإن السامع يبدأ سماع اللفظ ثم يحدد معناه ثم يرى الشيء الذي رآه الباحث أولا. فإذا كان تجديد اللغة مهمّا بالنسبة للباحث بإعطائه المعنى وإشارته إلى الشيء فإنه مهم أيضاً للآخر باستقباله المعنى ورؤيته للشيء."[33]

وإذا كانت اللّغة التقليدية لا تفي بالغرض في تحقيق التغيير والتواصل لأنها تحمل تلك الخصوصيات التي أعطتها القدرة على التعبير والتواصل والإبداع في القديم، وصارت حالياً عيوباً تعيق التعبير والتواصل بل تزيد الأزمة تفاقما وتعميقا وتعقيداً فظهور لغة جديدة تفي بمتطلبات العصر وبحاجات الواقع ضرورة ملحّة وعاجلة، هذه اللغة الجديدة تزيح عيوب اللغة التقليدية وتستبدلها بخصائص أخرى تُسهل التعبير والإيصال. وأهم خاصية ينبغي أن تتوفر في اللغة الجديدة هي أن تكون عامة لتخاطب جميع الأذهان، فمن أهم خصائص العلم المضبوط أن تكون مفاهيمه ومصطلحاته عامة بحيث يستطيع كافة العلماء التعامل معها. وأن تصير قابلة للتغيير والتبديل ذات طابع عقلي غير قطعية لأن الثبات والقطعية والتوفيق في اللغة كل هذه الصفات تجعل منها مغلقة لا تقبل التجديد في ألفاظها وفي معانيها وفي وجودها ككل. ومما هو أساسي في اللغة يجعلها ذات وظيفة في الفكر وفي النفس وفي المجتمع وفي التاريخ والحضارة ارتباطها بما يقابلها في الحس والمشاهدة والتجربة أي ارتباطها بالواقع الذي تعيش فيه تكويناً وتعبيراً وتواصلاً وتجديداً. فالواقع هو المرجع والمحك للمعاني داخل الإشارات اللغوية. وبهذا يُصان الفكر من الألفاظ الخاوية وتختفي عزلة الفكر والمفكرين. والطابع الإنساني للغة يجعل الإنسان يستعملها مهما كان اتجاهه الفكري أو عقيدته، أما اللغة الخاصة فهي اصطلاحية تشير إلى مقولات غير إنسانية إذا عرفت التأويل والتفسير وتغذّت من مدلولات إنسانية. واللغة الجديدة في الواقع العربي والحالي لا ينبغي أن تكون مستعربة أو معربة بواسطة النقل الحرفي والصوتي للغات أخرى. بحجة قصور اللغة العربية، فذلك دعوة إلى ثقافات أخرى دخيلة. 'فالتراث والتجديد' جاء ليعبر عن فعل جماهيري ثقافي وطني يقرؤه الجميع، ويصيغ لغة واحدة مشتركة يستعملها جميع المثقفين بصرف النظر عن اتجاهاتهم المتباينة.

وفي 'التراث والتجديد' نجد ارتباط التجديد باللغة الجديدة وارتباط هذه اللغة بمنطق علاقة أبعاد الفكر فيما بينها، اللفظ والمعنى والشيء وفي هذا يقول 'حسن حنفي': "يمكن إخضاع التجديد اللغوي إلى منطق محكم يقوم على التعبير المطابق للمعنى والذي يقوم بوظيفته في الإيصال. فالمنطق اللغوي يشمل جانبين جانب التعبير وجانب الإيصال. وهما لا ينفصلان بل يشيران معاً إلى حياة اللفظ ودورانه بين المتحدث وبين السامع. ويمكن وصف هذا المنطق لتجديد اللغة بطرق ثلاث: إما بالانتقال من اللفظ التقليدي إلى معناه وإمّا بالانتقال من معنى اللفظ التقليدي إلى لفظ جديد، وإما بالانتقال من الشيء نفسه الذي يشير إليه التقليدي إلى لفظ جديد."[34] بالنسبة للحالة الأولى وهي الانتقال من اللفظ التقليدي إلى لفظ جديد لا لكون اللفظ القديم معيب لذاته بل لارتباطه بالتاريخ وتجريده من التاريخ لا يضمن صلاحيته مثل لفظ الإجماع أو الاجتهاد أما لفظ الخبرة بين الذوات أو التجربة المشتركة فهو لفظ معاصر ويدل على معنى اللفظ القديم دون كشف لعيوبه. أما بالنسبة للانتقال من المعنى الضمني إلى اللفظ الجديد، ففي حالات كثيرة يكون اللفظ القديم في معناه غير قادر على التعبير والتواصل فيعبر عن معناه الضمني بلفظ آخر جديد يكون قادراً على التعبير عن هذا المراد الضمني وتبليغه مثل التعبير عن معنى الكفّارة والحد بألفاظ جديدة مثل لفظة السلب ولفظة الإيجاب أو السالب والموجب. أما التجديد اللغوي بالانتقال من الشيء المشار إليه إلى لفظ جديد يقوم لوجود شيء يحتاج إلى لفظ يدل عليه و يحدث الأمر نتيجة التفاعلات الحضارية الفكرية والمادية كما يحدث نتيجة التطور والازدهار الحضاري في حياة الإنسان في جميع مستوياتها. "وأنه من التجاوز أن يسمى هذا اللفظ جديداً لأن ليس له مقابل تقليدي يعادله أو يوازيه بل نشأ نشأة تلقائية للتعبير عن الموضوع والإشارة إليه. فمثلاً ألفاظ صورة ومضمون وموضوعية، ألفاظ جديدة يمكن بواسطتها التعبير عن الهيكل العام لعلم أصول الفقه."[35]

لم يكتف 'حسن حنفي' بمنطق التجديد اللغوي الثلاثي الأبعاد والمكونات والذي يعطي قدرة كبيرة على التعبير عن المدلولات والبناءات المثالية الموروثة التي أغلقتها اللغة القديمة. بل اعتمد على مستوى حديث للتحليل في نظره يعطي مجالا خصباً وواسعاً تتكشف فيه خصوبة التراث واتساعه. ويعني بمستوى التحليل "المنظور الذي يُنظر منه إلى تراث.وهذا لا يتم إلا برؤيا معاصرة له. فالتراث يمكن قراءته بمنظورات عدة كلها ممكنة، والتجديد هو إعادة قراءة التراث بمنظور العصر. ليس معنى ذلك أن القراءات القديمة له خاطئة أو أن القراءات المستقبلية له غير واردة. بل كلها صحيحة، ولكن الخطأ هو قراءة التراث من المعاصرين بمنظور غير عصري. هنا يكمن الخطأ، خطأ عدم المعاصرة."[36] والمستوى الحديث لتحليل الموروث القديم هو مستوى الشعور. لأن الشعور "مستوى أخص من الإنسان، وأهم من العقل، وأدق من القلب وأكثر حياداً من الوعي، يكشف عن مستوى حديث للتحليل موجود ضمناً داخل العلوم التقليدية نفسها ولكن نظراً لظروف نشأتها لم يوضع في مكان الصدارة، ولم تعط له الأولوية الواجبة، ولكن يُفهم ضمنا، ويُقرأ فيما بين السطور... لم يظهر الإنسان واضحاً في الحضارة كبعد مستقل كالإلهيات أو الطبيعيات لأن الإنسان كان موجوداً بالفعل. ومع ذلك فنجد أن الإنسان و بوجه أخصّ الشعور موجود ولكنه متخفيا وراء الإلهيات وداخل العلوم التقليدية."[37] فكل العلوم التقليدية العقلية النقلية أو العقلية أو النقلية نشأت في الشعور الذي يظهر في البنية الثلاثية لأصول الفقه، الأدلة واللغة والأحكام وكذلك في الفلسفة وأصول الدين والتصوف والفقه والسيرة وغيرها. "ونصوص الوحي ذاتها نشأت في الشعور، أما في الشعور العام الشامل وهو ذات الله أو في الشعور المرسل إليه والمعلن فيه، وهو شعور الرسول أو شعور المتلقي للرسالة، وهو شعور الإنسان العادي الذي قد يشعر بأزمة فينادي على حل ثم يأتي الوحي مصدقاً لما طلب."[38] وإذا كان القرآن عبارة عن مواقف يعمل فيها الشعور العام وكانت السنّة مواقف إنسانية يعمل فيها شعور النبي فإن في الإجماع والاجتهاد مواقف إنسانية يعبر فيها عن التجارب المشتركة والتجارب الفردية، فهذا يعني أن الشعور أساس المعرفة والوجود قديماً وحديثاً وفي عصرنا، ولغته لغة شائعة وهو جزء من وسطنا الثقافي بواسطته تتكشف الحقائق ويصبح العقل التجديدي المعني بالموروث أمرا ًممكناً.

يقترح 'حسن حنفي' فيما سبق منهجين لتجديد التراث، المنهج اللغوي والمنهج الظاهراتي الشعوري على أساس عجز اللغة الكلاسيكية عن التبليغ والتواصل، وعجز المناهج في الساحة الثقافية عن حلّ أزمة التراث والتجديد لكونها تقع في خطأ قراءة التراث وتحليله بمنظور غير عصري، خطأ عدم المعاصرة. ويؤكد على اللّجوء إلى مستوى ثالث إلى جانب منطق اللغة ومنطق الشعور هو مستوى تغيير البيئة الثقافية لأن العلوم التقليدية التي تمثل موروثنا نشأت في واقع معين له ظروفه وأحواله والعلوم ليست مطلقة حدثت وتثبتت بصفة مطلقة، فالعلم نسبي ومتطور باستمرار، فالبناء في العلم لا يتغير بينما مادته تتغير تعطيها البيئة الثقافية المعينة في الزمان والمكان، وهذا ما فعله فلاسفة الإسلام إذ غيّروا مادة الفلسفة اليونانية بمادة إسلامية، ففي أصول الفقه طغت العبادات على المعاملات، وفي أصول الدين طغت مشكلة التوحيد على مشاكل الإنسان الاجتماعية وتكثر في الفلسفة المشكلات التي لم تعد مواكبة لعصرنا الحاضر لارتباطها بظروف نشأتها في عصرها الماضي. "أما الآن فهذه المادة لم تعد ذات دلالة فالأفلاك موضوع لعلم الفلك، والطبيعة موضوع لعلم الطبيعة، والعقل والنفس موضوعات لعلم النفس، والتوحيد ذاته موضوع لعلم النفس والاجتماع لتحديد نشأة الأفكار الدينية في ظروف نفسية واجتماعية معينة اضطهادا أو غلبة... إن الخطر علينا الآن هو الخرافة والأسطورة والخلط بين المستويات...وهناك مشاكل تاريخية خالصة لا تلزم العصر الذي نعيش فيه... كل ذلك حوادث تاريخية صرفة ووقائع لا تهمنا إلا من حيث أنها تحقيق لنظم، وحتى في هذه النظم يفرض واقعنا المعاصر نظمه ولا يحتاج إلى شرح للنصوص أو تأويل للماضي مناف لتطور الحاضر ومانع له."[39]

يؤكد 'حسن حنفي' على إمكانية تغيير المادة العلمية والتأسّي بالقدماء مع تعاطيهم مع الحضارات والثقافات والديانات الأخرى. فتجديد مادة العلم تتم بتجريد الموضوع من كافة شوائب الحضارات التي علقت به وبمعناه وبكيفية عرضه وتحليله وبنتائج فهمه. ويُعاد بناء الموضوع الأولي، بناء معناه بعد أن تجرّد من الشوائب، والبناء يكون داخل الشعور والواقع ثم إطلاق المعنى حتى يتجاوز حدود اللفظ فتصبح المعاني مباحث الوجود العام وإطلاق المعنى يكون من الاشتقاق ويمكن إطلاقه مجازاً إذا اقتضى الأمر ذلك. ولما كانت الغاية من تغيير البيئة الثقافية هو اكتشاف الواقع في العصر الحاضر والعيش فيه بدل من العصر القديم وثقافته من خلال قراءة هذه الثقافات وتجديد مادتها، هذا لا يحصل إلا من خلال تحليل القديم وتخليصه من الشوائب وتحليل المعاصر بواسطة نظرية في التفسير تعطي موقفاً من الواقع ثم مقابلة القديم بالمعاصر، "أو تركيب الأولى على الثانية وتأسيس الموضوع المثالي على الواقع العصري، وإعطاء النفس بدناً، والروح طبيعة والفكر واقعاً، والله عالماً. وهناك لا يخطئ الباحث فهو ليس مسئولا عن الموضوع المثالي ولا عن روح العصر وإنما مسؤوليته في توجيه أحدهما بالثاني والربط بين القديم والجديد، وإحياء التراث، وتأصيل العصر."[40] كل هذا ليبدأ 'حسن حنفي' في محاولاته لإعادة بناء العلوم التراثية على الرغم مما تواجهه هذه المناهج التجديدية من صعوبات ومشاكل في الواقع المعاصر.

 

خاتمة

إنّ الموقف الحضاري في المشروع مرتبط بالتراث والواقع والآخر، فلسفته ذات طابع تحليلي نقدي يظهر ذلك في آثار صاحب المشروع من مقالات ومؤلفات وحوارات وغيرها، كما يطغى على هذه الكتابات التكرار والاجترار في وقت يُعرض عن القراءة الطويلة، وإن كان التكرار قد يكون في بعض الحالات مشروعا ومطلوبا تتطلبه الحاجة إلى الدقة والعمق والتفصيل من أجل الإلمام بجميع جوانب الموضوع، وإذا كان المشروع يتميز بالثورة والتثوير فهو غزير وضخم جدّا مفتوح على أكثر من جبهة يصعب إتمامه كما يصعب تطبيقه خاصة إذا كانت عناصره وأجزاؤه وأقسامه وجبهاته متكاملة من الناحية النظرية، فلا يتحقق بجزء واحد أو ببعض الأجزاء دون الأخرى لأنّ الأمر يحتاج إلى المشروع بأكمله. لا نعرف إذا ما كان المشروع مآله النجاح خاصة وأنّ التراث ضخم والمواقف منه كثيرة ومتباينة وأنّ الواقع متأزم وأزمته عميقة وأبعادها كثيرة وأنّ ثقافة الآخر صارت محرك الحياة المعاصرة وميزة الواقع المعاصر فهل يجد المشروع حيّزا له في هذه الحياة وفي هذا الواقع أم يبقى مجرد إعلان عن مبادئ ونوايا ومقاصد في واقع مريض شبه ميئوس من شفائه يسهل فيه الحديث ويكثر ويقلّ فيه العمل ويغيب الإبداع.

ويُحسَب على المشروع انتماءُ صاحبه التاريخي الثقافي والحضاري كإعجابه بمذهب المعتزلة وتراثهم وغير ذلك من جوانب التراث العربي الإسلامي، والانتماء الإيديولوجي وهو اليسار الإسلامي وربط ذلك بالماركسية كاتجاه فكري وفلسفي، وبالمادية التاريخية كمنهج فكري في تفسير الحضارة والتاريخ. وفي المشروع وفي الفلسفة التي يقوم عليها يطغى العقل والواقع والمصلحة على الوحي وعلى النص وهذا لا يُرضي التيار التراثي السلفي المحافظ فيصفه بالعلمانية ويُوصف بفقدانه للصبغة العلمية وللتوازن في الرؤية وفي المنظور على المستويين النظري والعملي. وبهذا فالمشروع لا يزيل التباين السلبي السائد في الساحة الفكرية العربية والإسلامية المعاصرة فهو لا يُرضي التيار العلماني لأنّه تراثي ولا يُرضي التيار السلفي لأنّه عقلاني واقعي فهو محسوب على العلمانيين لكنه غير علماني ومحسوب على السلفيين لكنه ليس سلفيا، هذا التفرد وهذه الخصوصية هما ما يميّز فكر "حسن حنفي" ومشروعه وفلسفته وسائر أعماله عن غيرها.

على الرغم من الانتقادات التي تعرّض لها مشروع "التراث والتجديد" وتعرّضت لها فلسفته يبقى المشروع الذي يتصدر الواجهة على الساحة الفكرية والفلسفية المعاصرة في العالم العربي والإسلامي، لأنّ فيه تعبير عن الموقف الطبيعي في الإنسان وفي حياته، فالماضي مرتبط بالحاضر في الشعور ووصف الشعور وتحليل الوعي هو ذاته وصف التراث وتحليل الماضي في تفاعله مع الواقع المعاصر، وتجديد التراث هو تحرير الطاقات المختزنة لدى الجماهير من كل ما يعيقها نحو التفجر والإسهام في تحريك التاريخ وبناء الحضارة، ولما كان المشروع يحمل هذه الدلالات والمعاني والقيّم الإنسانية التاريخية الماضية والحاضرة ويسعى إلى ترسيخها في منطلقاته ومبادئه ومناهجه ومضامينه وتوطيدها في أهدافه وغاياته ومراميه فهو يستحق بحق كلّ تقدير، كما يحتاج إلى العناية اللاّزمة والاهتمام المطلوب بحثا ودراسة وتحليلا ونقدا ولما لا عرضا على الواقع والتاريخ والعصر اختبارا له واستثمارا لقيّمه.

 

الدكتور جيلالي بوبكر

.....................................

[1]- جميل صيبا : المعجم الفلسفي، الجزء الأول، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، بدون طبعة، سنة 1982، ص242.

[2] - Andre-lalande : Vocabulaire Technique et Critique de laphilosophie, presse universitaire de France, 13eme édition, Paris, 1980, P516-517.

[3]- حسن حنفي: التراث والتجديد، ص13.

[4]- المرجع نفسه: ص13-14.

[5]- المرجع نفسه : ص19.

[6]- المرجع نفسه : ص19-20-21.

[7]- المرجع نفسه : ص21.

[8]- المرجع نفسه : ص22.

[9]- المرجع نفسه : ص23، أنظر هامش الصفحة.

[10]- المرجع نفسه : ص24.

[11]- المرجع نفسه : ص25.

[12]- المرجع نفسه : ص26.

[13]- حسن حنفي: قضايا معاصرة، في فكرنا المعاصر، ص78.

[14]- حسن حنفي : التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم، ص145.

[15]- حسن حنفي: هموم الفكر والوطن، الجزء الثاني، ص456.

[16]- المرجع نفسه : ص457.

[17]- حسن حنفي: التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم، ص151-152.

[18]- المرجع نفسه : ص173-174-175-176.

[19]- حسن حنفي: دراسات فلسفية، ص27-32.

[20]- حسن حنفي: هموم الفكر والوطن، الجزء الثاني، ص458-459.

[21]- حسن حنفي: حصار الزمن، إشكالات، ص414.

[22]- حسن حنفي: دراسات فلسفية، ص33.

[23]- حسن حنفي : مقدمة في علم الاستغراب، ص13-14.

[24]- المرجع نفسه : ص18-23-25-28.

[25]- حسن حنفي : هموم الفكر والوطن، الجزء الثاني، ص462.

[26]- المرجع نفسه : ص463.

[27]- حسن حنفي: دراسات إسلامية، ص177-180.

[28]- حسن حنفي: حصار الزمن، إشكالات، ص533.

[29]- حسن حنفي: التراث والتجديد: ص110.

[30]- المرجع نفسه : ص112.

[31]- المرجع نفسه : ص118.

[32]- المرجع نفسه : ص118.

[33]- المرجع نفسه : ص118-119.

[34]- المرجع نفسه : ص123.

[35]- المرجع نفسه : ص127.

[36]- المرجع نفسه : ص132.

[37]- المرجع نفسه : ص132-133.

[38]- المرجع نفسه : ص135.

[39]- المرجع نفسه : ص141-142-143.

[40]- المرجع نفسه : ص145.

 

في المثقف اليوم