تجديد وتنوير

مصطفى العمري: تأثير الفلسفة في إحياء عقل المسلم

mustafa alomariعادةً ما تجتاح المجتمعات موجات من ثقافات مغايرة تحرك تلك الموجات الركود وتعيد صياغة بعض القوانين العامة او تلغيها، ويعتمد هذا التغيير او الالغاء على العقل المنتج والعقل المستقبِل في تحريك الوعي العام . فالمنتج يجب ان يكون واعياً صادقاً حريصاً غير منتفعاً، أما المستقبِل فعليه ان يكون حذراً يقظاً حيال استقبال المعرفة وخاصة التي تتناغم مع معتقداته الاولية، فكثير من الاختراقات التدميرية التي تنسف او تسفه الكيانات او المذاهب العامة تاتي من داخلها، فتكون اكثر تأثيراً وإيلاماً .

المتابع للوضع العربي بالتحديد يجده مختلفاً عن سائر خلق الله، فبالوقت الذي لا تخلو فيه مدينة او قرية،من مسجد او مكان يعبد فيه الله، ولا يخلو شارع من مكان للعبادة، ترتفع من كل بيت الخطب والمواعظ التي تقدمها الفضائيات وتصدرها للمستهلك كوجبة سريعة مكفولة التوصيل الى غرفة النوم والمطبخ .

وبالوقت الذي يصّر الشارع العام بدفاعه عن هذا الهذيان المنطلق عبر خطابات الفضائيات والمساجد، يبقى كما هو دون ان تحرك فيه الخطب التي تدعوا الى احترام البشر او تلك التي تحثه على النظافة مثلاً . يبقى الشارع العام عندنا هزيلاً ضعيفاً مالم نغير منتج المعرفة الاصلي والا سيبقى تغيير بعض الالوان كخدعة واهمة على تغيير المنتج الاصل، وسيستمر هذا الوهم في تغذية الشارع العام بالمعرفة . 

في كتابات سابقة كنت قد حذرت من رجال الدين السيئين وأعتقد اني بعثت بمنتجي الى المستقبِل عبر الصحف والمواقع . بعض الاشخاص قبلوا بالفكرة بعد تحليل واعي ودراسة جادة، البعض الاخر لا يستطيع البحث او التساؤل بهذا الامر، فأوصد بابه وجلس مستريحاً !

مرت النهضة الاسلامية بمنعطف خطير لم يحصل لها من قبل وأكاد أجزم لم يحصل بعدُ ان حدث مثل ذلك المنعطف، وهو الحوار الجاد  والمشروع الكبير بين ابن رشد 595 هج وابو حامد الغزالي 505هج، فبينما كان الغزالي قد أصل للفقه واصوله وإضفاء مشروعية القداسة على القديم من النص غير المحَقَق، إنتهج ابن رشد منهجاً مغايراً وهو منهج فلسفي فكري عقلي . وبين صراع منهجين عقلي ونقلي بالتأكيد ستهرول العوام نحو النقل بينما يترك العقل مضرجاً يتلوى من طعنات الجهلاء .

تغلب منهج الغزالي لأن أجدادنا كما مجتمعنا اليوم يحبذ النقل على العقل، فمات العقل او كما يقول عنه رابرت رايلي في كتابه إغلاق عقل المسلم . وضع الغزالي الختم على عقل المسلم فالعقل بالنسبة للغزالي هو العدو الاول بالنسبة للاسلام لذا رأى ان على المسلم الاستسلام الكلي الى ارادة الله اي كل ما جاء في الوحي من قران وسنة النبي ومن السلف الصالح من تفسير للنصوص والشريعة بدون اي سؤال او مناقشة . 

انتصر الغزالي لأن المستقبِل (الشارع العام) لم يكن واعياً بل كان شبه مخدراً، والمنتج اعني الغزالي كان واعياً جداً فالرجل كان فيلسوفاً ومفكراً قبل ان ينحدر انحدارته قبل الاخيرة ليكوِّن منهجاً دفن به عقل المسلم وسلب به إرادته الى اليوم .

في كتابه نحو تاريخ مقارن للاديان يقول الدكتور محمد اركون الشيء المسيطر على عقلية العرب والمسلمين حالياً ليس فكر ابن رشد وانما فكر الغزالي، في كتابه المعروف فيصل التفرقة بين الاسلام والزندقة، أسّس للتكفير كمنهاج في التراث الاسلامي، وهو منهاج لا يزال للأسف ساري المفعول حتى الان . 

لو قدر وكان منهج ابن رشد هو السائد اليوم أجدني أقرب للجزم ان حركة وفعل المجتمع الاسلامي سنجدها مختلفة تماماً عما نراه الان، ابن رشد رد على الغزالي بطريقة غير مباشرة في كتابه (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) فلم يعتمد التكفير او الالغاء في منهجه رغم انه كان يستطيع فعل ذلك وله القوة فيما اذا أرآد لأنه كان قاضي قضاة زمانه، ويحق له اطلاق الفتاوى مثل الغزالي ولكنه اتبع المنهج العقلاني القائل بضرورة تفحص حجج كلا الطرفين اي الطرف المتبع للشريعة والطرف المتبع للحكمة والفلسفة.

في هذه المقدمة التي تحوم حول مسألة مهمة في تاريخ الوعي الاسلامي والتي كتب عنها كبار المفكرين العرب والغربيين، أجدني مضطراً لإعادة بعض من ذلك التأريخ لكي لا يستغفل العقل الاسلامي ولا يُستهزء به من قبل القائمين عليه، ولا يغرر بالابرياء بنصوص دافعة لسحق الانسان وكرامته وعقله .

فبالوقت الذي احذر فيه من الادعياء باسم الدين او اللصوصية الدينية يجب ان اشير الى مسألة مهمة غالباً ما يسير خلفها العوام من الناس وعادةً ما يسكت حيالها الواعون منهم وهي انني مع رجل الدين الواعي الذي يحترم انسانية الناس جميعاً، مع المثقف الجاد في طلب العلم والقراءة وليس بالضرورة ان نتفق في إيماناتنا بالقدر الذي نسمح لعقولنا بالحوار والمناقشة.

بالوقت نفسه أنا ضد كل مزور مدعِ وهنا يجب القول ان بعض المتصدرين للوعي الديني والذين يجنون ارباحاً من ذلك، فارغون مدعون،  مخادعون لأستمالة الشارع العام وتأييده، بينما تجد البعض وهم قلة قليلة يمكثون في بيوتهم رغم العلم الحقيقي الذي يمتلكونه والقابلية المعرفية على استيعاب الحوار المختلف كما كان منهج ابن رشد، مع ذلك نلحظ ان الشارع لا زال كما هو زمن الغزالي فهو يخشى من الفلسفة والتفكير ويأنس للخنوع والتسليم والإذعان .

وهنا يبزغ الدكتور السيد طالب الرفاعي كمثال حي على ما قلته، فالرجل الذي افنى عمره في دراسة وتدريس العلوم الدينية والاكاديمية أضحى شبه معزولاً بعدما نزى الجهلاء والوهميون واقارب المتصدرين على المؤسسة التي خدمها لفترة طويلة من عمره.

 اية الله السيد الدكتور طالب الرفاعي الحاصل على شهادات ووكالات مطلقة من كبار مراجع وفقهاء الدين الشيعة والحاصل على شهادة الدكتوراه من مصر، وهو ايضاً استاذ بعض المراجع في حوزة النجف، لا يحبذ لقب اية الله رغم ان طلاب طلابه غدو ايات والبعض إنتحل اسم اية الله كهوية مزورة في بازار مجتمع لا يسأل كثيراً لكنه ينصهر أمام الالقاب .

يعود بنا الرفاعي الى موضوعنا الاول وهو بين الغزالي وابن رشد كمادة ومنهج مستمر لتسطيح وعي الناس، ويذكر بهذا الشآن رئيس قسم الفلسفة في جامعة القاهرة الدكتور محمود قاسم فيقول : أدركته ايام تقديمي للدراسات العليا في كلية دار العلوم جامعة القاهرة في ستينيات القرن الماضي وكان استاذاً متخصصاً في الفلسفة الاسلامية، كان الدكتور قاسم ومن خلال محاضراته وحديثه يرفض فكر الغزالي، لأن الغزالي كان ساخطاً على الحكمة والفلسفة.

وبما ان الرفاعي رجل دين ومن انصار ابن رشد يعتقد هو والدكتور محمود قاسم استاذ الفلسفة ان الغزالي كان أحد اسباب تأخر المسلمين وانحطاط العقل في المجتمع الاسلامي وتفشي ظاهرة التكفير والقتل والتشدد . وكم يركز الرفاعي على خصوصية ابن رشد وما قاله عنه صديقه قاسم (كم خسر العالم الاسلامي يوم اخر الفكر الفلسفي لأبن رشد واستعاض عنه بفكر الغزالي الممثل في كتابه احياء علوم الدين)

قبل ان نغادر الى مكان اخر يجب ان انوه الى محورين مهمين في هذا الموضوع

أولاً:  أتمنى ان لا يفهم من كتاباتي اني ضد رجال الدين بالمطلق، وهذا ما يحاول بعض رجال الدين إشاعته، لذلك قدمت مثالاً حياً لرجل دين كبير هو السيد طالب الرفاعي، علني أسهم في دفع بعض رجال الدين الفارغين والمهتمين بالالقاب او المتصدرين بهوية القرابة او المصاهرة للتفكير وإعادة ترتيب مشاريعهم الحاثة على طمس كل ما هو نابت، والتقدم نحو مسارات علمية مضيئة بوعي ومطالعة فزمن الاختباء والتبرير اختفى او هو كذلك ..

ثانياً: هذه الكتابات تحريضية للعقل لكي يمارس مهامه التي فطره الله عليها، وليس التيبس على القيود التي صنعها البشر، وبدعوة فيها من الشراهة للبحث والتفتيش والمراجعة والتحليل والاخذ والرد يجب ان يكون العقل غير مكبل وغير مسبوق باحكام ضد او مع .

من يحاول المغامرة والبحث عن معظم مصائبنا والمحن التي مرت وتمر علينا سيجد ان السبب الاول هو تعطيل العقل وعدم السماح له بالتفكير، الركون الى الموروث والعادات والخضوع والتقليد سبب رئيس في موت عقل المسلم .

 

مصطفى العمري   

 

في المثقف اليوم