تجديد وتنوير

محمد صاحب: تاثير المنطق العاطفي على نشوء المعتقدات

المعتقدات كانت ولا زالت ابرز العوامل الكبرى في تحديد ملامح حياة الشعوب فمنها ينتج فهم الحياة ويتولد السلوك . وعندما تم التعامل معها على انها يقينيات مرتبطة بقوى خارقة او آلهة او مثال اعلى لابد من اخضاع الجميع لها والدفاع عنها بكل ثمن حدثت انعطافات تاريخية كبيرة على اثرها جرت صدامات وحروب دامية أدت الى ازهاق الكثير من الأرواح وتدمير البلاد وأقيمت محاكم مارست اقسى انواع العقوبات بحق الخارجين عن العقائد الحاكمة . وما نصنفه احيانا كصراعات بين الخير والشر هي من زاوية اخرى ليس الا صراعات بين قناعة واُخرى مخالفة لها . فاذا كانت المعتقدات بهذه الأهمية والدور في حياتنا فالجدير بِنَا ان لا ننشغل بتصنيف المجتمعات وفقا لنوع معتقداتها بل ان نتقدم خطوة جديدة تهدف الى فهم اسباب نشوء المعتقدات وماذا يقف خلف كل هذا التنوع العقائدي.

 هناك من يرى ان الاختلاف في نشوء المعتقدات مبني بالتحديد على اختلاف القدرات الذهنية بين البشر وان نشوء المعتقدات يحدث دائما بشكل واعي . ولكن هذه الإجابة غير سليمة والا فماذا نفسر وجود اشخاص يمتلكون قدرات ذهنية ابداعية حققت إنجازات علمية واكتشافات كبيرة وفي نفس الوقت نجدهم يعتنقون معتقدات غريبة الأطوار مليئة بالخرافات والأساطير . بمعنى انهم يجمعون بين العقلانية واللاعقلانية في آن واحد . وهذا يعني ان اعتقاداتهم بالخرافات والأساطير غير مرتبطة بضعف قدراتهم الذهنية بل هناك عوامل اخرى . كشف لنا علم النفس الحديث عن وجود عوامل كثيرة تؤثر في نشوء المعتقد بعضها داخلية واُخرى خارجية كما كشف عن انواع مختلفة من المنطق تقف خلف نشوء الاراء والمعتقدات فبالإضافة الى المنطق العقلي هناك المنطق العاطفي والمنطق الديني والمنطق البايلوجي والمنطق الروحي تحدث عنها بعض الباحثين في علم النفس وكان أشهرهم الباحث غوستاف وما يهمنا هنا في هذه المقالة ان نكتفي بتسليط الضوء على دور المنطق العاطفي .

 ان حصر نشوء المعتقدات بالمنطق العقلي جعل الاغلب يدعي انه الأكثر عقلانية من بين الاخرين ولكي يسوق معتقداته فانه يعمل على تأطير معتقداته بمفاهيم عقلية وأقيسة منطقية لتلاقي مقبولية جيدة بين الناس . وطالما نشاهد في الجدالات والمناظرات الدينية ما يحدث من تبادل الاتهامات بالغباء وعدم العقلانية والتزمت بالراي لان كلا الطرفين يجد ان معتقداته عقلانية والادلة عليها واضحة كوضوح الشمس، غافلا عن الدور اللاشعوري الذي يدير الجزء الاكبر من عملية الاعتقاد . وفي تصوري ان الخطا الجوهري في هذه الاشكالية هو الخلط بين دوافع وأسباب نشوء المعتقدات من جهة والقضايا العلمية من جهة اخرى. فالحديث عن صفات المربع او المثلث او المخروط بما هم اشكال هندسية لا يحمل بعد عاطفي بخلاف الحديث عن الامور اللاهوتية او المسميات التي تحمل رمزية دينية او عقائدية فالابعاد العاطفية هنا تلعب دور كبير جدا. الى درجة ان المنطق العاطفي عادة ما يتخذ قراره تجاه معتقد معين قبل ان ياخذ المنطق العقلي كفايته في محاولة تعقل ذالك المعتقد .

 ان ما يجري هو ان كلا من المنطق العقلي والمنطق العاطفي يعمل بشكل مختلف عن الاخر، فكما نحن مختلفون في قدراتنا على ادارة الذهن كذلك نحن مختلفون في حساسية العناصر العاطفية، اي تلك المجاميع من العناصر العاطفية والتي بمجموعها تكون ما يسمى الطبع . ان تقلبات الحساسية الفردية والمجتمعية تكشف لنا سبب تغيير اراءنا وأفكارنا وتقبلنا و تقلبات الحساسية العاطفية كما هي تؤثر في توجه الفرد كذلك هي تقلبات الحساسية للمجتمع، ومن هنا تعد دراسة الاعمال الفنية والشعرية والأدبية لمجتمع معين في زمن ماضي يعتبر مصدر جيد للتنقيب عن الحساسية الجمعية لذالك المجتمع وفهم مظاهر حياتهم العاطفية في تلك الحقبة الزمنية . ان الجزء الصعب هنا هو ان العناصر العاطفية تعمل ضمن المنطق العاطفي بشكل لاواعي مما يجعل مراقبتها وتفحصها ليس بالأمر الهين وهنا يجب ان يزول استغرابنا عندما نرى بعض المشاهير من العلماء رغم كونهم اصحاب نتاجات علمية ونظريات رائعة وفي نفس الوقت نراهم يؤمنون ببعض الخرافات والأساطير . لان منشأ المعتقد خاضع لمنطقهم العاطفي . وهنا يتضح مدى دهاء من يقوم بتسويق معتقد ما تحت تاثر عناصر عاطفية قوية كعنصر الخوف مثلا . ولنا ان نلاحظ بشاعة من يحاول ترسيخ الإيمان تحت سطوة الخوف، ان هذا ما يجري فعلا عندما يطلب من شخص ان يؤمن بفكرة معينة وفي نفس الوقت يتم اخباره بان عدم الإيمان بتلك الفكرة يستوجب العذاب واللعنة . ولَك ان تتخيل كيف سيكون عمل المنطق العاطفي لهذا الشخص تحت تاثير سطوة الاٍرهاب الفكري . ان تقلبات العناصر العاطفية في اللاوعي تخلق لدينا ايضا دوافع كامنة في اللاوعي تحملنا على تقبل اعتقادات معينة وفقا لإشباع تلك الدوافع .. ما أود ان أشاركه هو تسليط الضوء على العناصر الاخرى اللاواعية التي تكمن عميقا تحت ارضية المعتقدات، وبما اننا نتوجه الى منطقة اللاوعي فان الموضوع يصبح ذا صلة وثيقة جدا بما يقدمه علم النفس الحديث وخاصة ما كشفه من حقائق علمية خلال الملاحظة والتجربة عن دور اللاوعي في حياتنا اليومية حيث قدم لنا قوانين ومعادلات فعالة تعمل في عالم اللاوعي تم اعتمادها في علوم تطبيقية ففي الطب الحديث تبين ان انواع من الأمراض الجسدية تعود اسبابها الى اضطرابات عاطفية مكبوتة تحت منطقة اللاشعور وكذلك تطور علاج الأمراض النفسية وعلم التنويم الايحائي وبرمجة العقل الباطن والتحليل النفسي وتطوير مناهج التعليم وقد ألفت العديد من الكتب في هذه المجالات. من المهم جدا ان ندرك خطورة جهل طبيعة العناصر العاطفية وتاثيرها في نشوء المعتقدات فالقدرة على استغلال المنطق العاطفي للمجتمع يمكن ان يحسم الكثير من الامور المصيرية . فبواسطة التلاعب بتلك العناصر العاطفية امكن احداث انعطافات خطيرة في التاريخ . ولنا ان ننظر كيف ان العديد من الخطابات السياسية والدينية استطاعت ان تخلق عند المجتمع دوافع مخيفة حملت الانسان للاقدام على اعمال جنونية كتفجير جسده بل امكنها تحريك الساحة السياسية والاقتصادية لمصالح دنيئة، ان التلويح بعنوان ديني قد يكفي لكسب تأييد الراي العامة واشاراة الى فكرة معينة قد تدفع الآلاف بالخروج في مظاهرات حاشدة وكذلك جر الناس الى حروب طائفية طاحنة امتدت لمئات السنين . وعلى الرغم من ان الذاكرة العاطفية تضعف بشكل كبير جدا قياسا بالذاكرة العقلية الان انها يمكن ان تعيد نفسها بالتغذية عن طريق حقنها بجرعة عاطفية . وكما تقول الحكمة . حقد لا يغذى لايبقى .

 ان ما يدعم ما تقدم هو توجه علم النفس الحديث الى التحول من المفهوم الكلاسيكي القديم للذكاء الاحادي الى فهم موضوعي اخر حيث اصبح يرى ان تصنيف شخصين بشكل مطلق احدهما ذكي وآخر غبي امر مخطئ لوجود مستويات متعددة للذكاء والتي أسس لها جاردنر واطلق عليها (الذكاءات المتعددة) وبذلك قدم لنا مستويات مختلفة من الذكاء كالذكاء المنطقي والموسيقي والبصري والاجتماعي والذاتي وغيرها فوفقا للذكاء الذاتي الذي يتمحور حول قدرة الانسان على تامل ذاته وفهمه لانفعالاته ونواياه فنحن مختلفون في قدرتنا على التواصل مع مكنوناتنا ودوافعها الذاتية ووفقا للذكاء العاطفي الذي تناوله دانيال جولمان في كتابه (الذكاء العاطفي) كذلك نحن مختلفون ايضا في مستوى قدرتنا على التواصل مع عواطف الاخرين .

 ان خلاصة هذه المقالة هي دعوة لإعادة النظر في النقاط التالية:

 ١- مراجعة معتقداتنا بشكل دوري للتاكد من مدى عقلانيتها فجميعنا يحمل دوافع عاطفية كامنة في اللاشعور .

 ٢- النظر بمرونة وموضوعية تجاه من يختلف معنا وعدم التسرع في إطلاق الأحكام ضد الاخر بتهم عدم العقلانية او محاربة الحقيقة التي نراها نحن . فالجزم بامتلاك الحقيقة ادعاء غير عقلاني

 

في المثقف اليوم