تجديد وتنوير

مضار الدين والعلم والفلسفة والايديولوجيا

ali almirhig"كل حزب بما لديهم فرحون"، فللدين أحزاب وللعلم أحزاب وللفلسفة في بعض صراعاتها مع الدين أو العلم نزوع نحو التحزب. والآيديولوجيا هي العامل المشترك والمحرك لعوامل الصراع بين الجميع، فللدين بكل تمظهراته نزوع نحو الآيديولوجيا، وللعلم آيديولجيته الخاصة، ولم تستطع الفلسفة على الرغم من نزوعها الأنسني والعقلاني الخلاص من هيمنة الآيديولوجيا وسطوتها.

الآيديولوجيا هي الحصان الرابح في خضم الصراع بين العلم والدين، وبين الفلسفة والدين، أو بين العلم والفلسفة وحتى بين العلم وتحولاته.
فالنفس الإنسانية تهوى التدين كما يؤكد علماء الاجتماع، فإن لم تجد لها ديناً في السماء أوجدته في الأرض، وكما يبدو لنا اليوم ومن قبل أن النزوع الديني لدى الإنسان سجية وفطرة، ولا مشكل في ذلك، ولكن المشكل الحقيقي ليس في الدين أو التدين حينما يكون حاجة مُلحة ومصيرية تستشعرأهميته بعض الشعوب أو كثير وتعتقد بأنه حاجة اجتماعية وحياتية مُلحة تُلبي بعض مُتطلبات النفس البشرية الطامحة للإستمرار والخلود في الدنيا أو في الآخرة. وهذا التصور للدين لا يُشكل عائقاً بحد ذاته، لأن في دنيا الواقع كثير من الخفايا والخبايا في الطبيعة المادية والبشرية مما هو خارج عن قدرة العقل الإنساني في التعليل والتفسير والتأويل، ولا يوجد لدى منكر ومُنتقد مبررٌ عقلاني كاف للتهجم على من يعتقد بوجود ممكنات أخرى مفارقة للطبيعة ومن الصعب إدراكها لأنها تقع خارج حدود العقل وقدرته الطبيعية. ولهذا الحد ينبغي لكل معارض لمتبني الدين والتدين القبول بمغايرة وإختلاف دعاة الفكر الديني لأن في تصوراتهم هذه تبرير ل "اللامعقول" الموازي في الوجود (إن لم تكن الغلبة له) للمعقول في الطبيعة المادية والبشرية.
لكن اللامبرر واللامقبول عند دعاة التفكير الديني هو إعتقادهم الجازم بأن العلم كله، طبيعي "فيزيقي" و ما وارئي "ميتافيزيقي" هو من ممكنات التفسير الديني، وأن في الدين إجابة نهائية وتفسير يقيني لكل خلجات النفس الإنسانية وإضطراباتها العقلية والنفسية والعلمية.

والأدهى من ذلك هو حينما يجعل دُعاة النص الديني "المُقدس" من رؤاهم دستوراً للحياة، علمية كانت أم سياسية أو أخلاقية، متناسين أن المَهمة الرئيسة للدين هي مَهمة أخلاقية طِبقاً لقول النبي الأكرم "إنما جئت لأُتممَ مكارم الأخلاق". ولذا فإني أرى أن المشكل الأساسي ليس في تدين الناس ولا حتى في التعبير الطقوسي المُفرِط لإظهار أو الظهور بالتقمص الجسدي طقوسياً تارة، أو بالتعبير الخطابي تارة ثانية أو في كلاهما معاً تارة أخرى. على ما في طرق التعبير هذه من تقزيم للآخر (الموطن) المغاير لنا في الدين والملة والمُعتقد، وإن كان يعتقد المُتبنون لهذه الرؤى أن أشكال التعبير الطقوسي والشعائري للمعُتقد الديني إنما هي شكل من أشكال التعبير عن حرية الرأي والفكر، وعلى الرغم مما في طرق التعبير هذه عن الولاء من إقصاء وتهميش، إلا أنني أجد أن هذا ليس المشكل الوحيد، بل المشكل الأساس كما أعتقد كامن ويكمن خلف طُرق التعبير هذه والمسكوت عنه فيها، وهو الإعلان ضمناً وربما صراحة عن أن طرق التعبير الولائي هذه عن الإنتماء لهذا المقدس، إنما هي رسالة صريحة أو ضمنية لكل مُغاير أو مُعارض أو مُعترض على الكيفية التي تتم بها عملية التعبير الطقوسي على أنه خارج عن الملة، وما إعتراضه على قاعدة (سوء الظن) في هذا المُغاير حتى وإن أظهر بعض تقبل، ولا يُشكل مُعتقد بأفضل حالات التسامح والقبول به كشريك سوى النظر لإعتقاداته على أنها سوء تقدير منه وتفريط بالحق الذي "لا مجمجة فيه"، وأن كل مختلف أو مُخالف إن لم يكن في خانة المُلحدين، فإنه حتماً سيكون في خانة المُعاندين. وهنا أصل المشكل الحقيقي، فليس المشكل في تدين الناس وقناعاتها المذهبية والأثنية، بل المشكل في تصور (جماعات الضغط) هذه أن متبنياتهم هي "السراط المستقيم"، وحين ذاك سيتحول الدين من حاجة إنسانية طبيعية إلى آيديولوجيا ضاغطة، تُقسر الجماعات المغايرة والمختلفة "الشريك الوطني" على التماهي مع رؤية (جماعات الضغط)هذه.
وفي حال رفضهم وممانعتهم يُضعون في دائرة الإتهام والتخوين، فيضطر أغلب هؤلاء، إما لمغدرة (الوطن الأم)، أو الإستعانة بالأجنبي المشابه آيديولوجياً أو عقائدياً أو عرقياً لحلحلة الخلاف، وإن لم يستطع حلحلة الأمر فالحل سيكون بالسعي لإستجداء دعمه ومُساندتهم في خيارات المواجهة سواء باللجوء للعنف والصراع المسلح.، أو المُصالحة المشروطة.

أما في العلم، فلا شك أن جل الناس يتمشدقون ويدعون تمسكاً باللجوء للعلم، ولكن العلم ليس واحداً، فكل ما لا نجد له في الدين جواباً وافياً حول مصير الإنسانية بعد الموت، سعينا جاهدين مُجهدين للبحث عن إجابة عنه في النظريات العلمية، ولكننا لم نستطع إيجاد جواب لسؤالنا الأزلي عن أصل الوجود، وبقيّ الإنسان "حائراً بين العلم والخرافة"، وإن كان كثير من العلماء والفلاسفة قد وثقوا بالعقل الإنساني وقدرته على الإحابة عن جميع ما يعترضنا في دنيا الواقع، إلا أن جل هؤلاء قد وقعوا أسارى آيديولوجيا العلم نفسه، ولم يستطيعوا إيجاد جواب عن سؤال سبب الوجود أو معناه، فأجاب الوضعيون المناطقة بجواب اللاجواب عن سؤال الأصل (الوجود) وسببه.


فقد كان الجواب: أن كل كلام في هذا الموضوع هو "كلام لا معنى له ومحض هُراء"، ولكن هذا السؤال باق والوضعيون المناطقة مضوا.
وبقيّ المشكل لا في العلم ولا في قابليته على التجدد والتجديد، ولكن المشكل الحقيقي في العلم الفيزيقي حينما يكون أداة بيد الدول الأقوى لتهديد الدول الفقيرة والتلويح ب "الفيتو" لكل قرار يخدم الدول المغلوبة، فمن حق إسرائيل المُتصهينة إمتلاك النووي وإغتصاب أراضي الفلسطينيين المغلوبين على أمرهم وإنشائهم المستوطنات على أرض فلسطين المُغتصبة، وكل العالم الغربي المُتقدم علمياً وسياسياً ساكت وصامت. ولا حق لدول الممانعة والرفض للسياسة الشايلوكية الروبسن كروزية الإعتراض والرفض أو في السعي لإمتلاكها السلاح النووي أو الذري. هنا يكون العلم علمان علم يخدمك وعلم تخدمه، والسياسة الشايلوكية تُريد لك علماً تخدمه لا علماً يخدمك.

ولم تتخلص الفلسفة على الرغم من تبنينا لها والدفاع عن مُتبنياتها العقلانية والأنسانية، من هيمنة الآيديولوجيا وقناعة أغلب فلاسفتها بأنهم أدركوا اليقين المعرفي ووصلوا للحقيقة. إلا أن اجل الفلسفات لم تستطع الخلاص من سطوة هذه الآيديولوجيا، فهناك فلسفة تأملية مُغرقة في المثالية يدعي أصحابها أن هذا العالم الذي نعيش فيه ما هو إلا عالم زائف وخلاصنا يكمن في مُفارقتنا له، إنهم يعيش في "أبراج عاجية" ينظرون للحقائق وفقاً لرغاباتهم وأهوائهم في تكوين مجتمع مثالي لا كون له في دنيا الواقع وليس بإستطاعته التواصل مع حركيته وديناميكيته.
ولم تكن الفلسفة المادية ببعيدة عن آثار الآيديولوجيا وسطوتها بعد إقصائها لكل عوامل التغيير الاجتماعي وإصرارها على تفسير مُتغيراته طِبقاً للعامل الاقتصادي (المادي)، ومحاولة تفسير المتغيرات الاجتماعية والحتمية التاريخية لمُقتضيات التغيير على أساس غلبة "البروليتاريا" للرأسماليين، وسيطرتهاعلى وسائل الإنتاج للوصول للمُبتغى في التعايش الشيوعي خارج الهيمنة للطبقة البرجوازية ورأسها الرأسمالي.

المستخلص من كل قولنا فيما سبق ليس المشكل في الدين ولا في العلم أو في الفلسفة، بل فيما نبغي نحن الحالمين (المثقفين) كما ندعي فيما يجب أن يوجد ويتواجد ويفعل فعله في التأثير التكاملي بين قوائم المثلث، الدين والعلم و الفلسفة، حينما نُلغي التداخل بين فروعهما المعرفية، وحينما نُخّلص كل فرع منهما من هيمنة الآيديولوجيا وسطوتها.

 

د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم