أقلام ثقافية

ثامر عباس: المثقف العصامي والثقافة العصامية

نتحدث اليوم عن نمط آخر من أنماط (المثقفين) قليل التداول في الأوساط الثقافية، ونمط مختلف عن أنماط (الثقافات) قليلة الشيوع في الدراسات السوسيولوجية والانثروبولوجية. لذلك نادرا"ما يصادفنا في المصادر الثقافية والإعلامية، لاسيما وسائل التواصل الميديائي العديدة والمتنوعة، الإشارة إلى مصطلح (المثقف العصامي) وأكثر منه ندرة نظيره الآخر مصطلح (الثقافة العصامية). ولعل ذلك متأت من اعتقاد البعض ممن يتعاطى الشأن الثقافي أو الإعلامي؛ أن كلا المصطلحين يتشابهان في المعنى ويتماثلان في الدلالة - وهو محض اعتقاد خاطئ – بل ويكاد الأمر يصل لدى بعضهم حدّ (المماهاة) بين الاثنين. وهو ما يحمل المعنيين على النفور بشدة من اللجوء إلى تلك المصطلحات وتحاشي استخدامها أو التعاطي معها، من منطلق كونها تغامر بإضافة صفة (العصمة) المنبوذة إلى شخصية الموصوف (المثقف) و(الثقافة). بيد أننا لو دققنا جيدا"في المضامين سنكتشف إن موقفنا المبني على (الرفض) المسبق لا يقوم على أسس واقعية أو حجج عقلانية، بقدر ما يتأسس على افتراضات خاطئة وتصورات قاصرة تستدعي منا التريث والتروي قبل إصدار الأحكام القاطعة وإطلاق التعميمات الباتة.
صحيح إن صفة (العصمة) تحيل في المتخيل الجمعي إلى مساوئ توظيف (المقدس) الديني في مجالات (المدنس) السياسي والإيديولوجي، لاسيما وان تجربة (المثقف) العراقي في هذا المضمار غنية بالوقائع إلى حدّ التخمة. إلا إن فرقا"هائلا"يتموضع ما بين صفة (العصمة) في الحالة الأولى (المثقف) من جهة، وبين معناها ودلالتها في الحالة الثانية (الثقافة) من جهة أخرى. ف(عصامية) المثقف – كما نفهمها – هي التعبير النوعي لمجهود الفاعل الاجتماعي في المجالات الفكرية والمعرفية بناء على قدراته الذاتية وطاقاته الشخصية وخبراته الاجتماعية، دون أن يكون – بالضرورة – قد استعان بمؤسسات علمية (مراكز بحوث) أو جهات أكاديمية (جامعات وكليات) تؤطر وعيه وتبلور تفكيره، استنادا"إلى نظريات متفق عليها ومنهجيات متعارف عليها سلفا". بحيث يستطيع من خلال هامش (الحرية) الشخصية الذي يتمتع به وفرشة (الخيارات) المتنوعة التي يمتلكها، أن يبدع في مجالات معرفية عديدة وفكرية متنوعة، ربما لا تتاح دائما"لدى نظيره (المثقف المسلكي) سليل المؤسسات الأكاديمية الذي غالبا"يكون مقيدا"بمناهج وبرامج حكومية صارمة. هذا بالإضافة إلى كون تلك المؤسسات قد لا تبيح الخروج عن السياقات التقليدية لتاريخ الدولة (القومي)، ولا تسمح بالتجاوز على ثوابت معتقد السلطة (الإيديولوجي)، ولا تتسامح بالانحراف عن نسق الوعي الاجتماعي (التقليدي). وكما هو ملاحظ، فان صفة (العصامية) هنا تحمل دلالات عالية (الايجابية) من حيث كونها ليست فقط خصائص مرغوبة ومطلوبة من قبل الجميع، كتعبير عن الاستقلالية الفكرية والنأي عن الاستقطابات الإيديولوجية فحسب، بل وتكاد ترقى إلى مصاف الضرورة المعرفية في بعض الأحيان.
وهنا نسارع للقول؛ إن إشارتنا إلى (المثقف المسلكي) لا يقصد منها التعميم بقدر ما يراد منها التخصيص، أي بمعنى ليس كل من حمل شهادة جامعية أو تمتع بمؤهلا"أكاديميا"عاليا"، وفقا" للضوابط والمعايير العلمية التي تجيز له الحصول على تلك الاستحقاقات المادية والاعتبارية المشروعة، يمكن إدراجه ضمن هذا الصنف من مثقفي (المكاتب) المتسكعين. وإنما المقصود أولئك الذين تحصلوا على شهاداتهم الجامعية ونالوا مؤهلاتهم الأكاديمية بأساليب مريبة وطرق ملتوية، ليس لأغراض تنوير عقولهم وتطوير وعيهم وعقلنة تفكيرهم وتجديد معارفهم وبناء شخصيتهم، وإنما لاستخدامها بمثابة سلم للحصول على؛ إما مكاسب شخصية (مردود مالي، أو درجة وظيفية، أو وجاهة اجتماعية)، أو مصالح فئوية (نعرة عنصرية، أو فزعة قبلية، أو عصبية طائفية) ليس إلاّ. وهنا الشواهد أكثر مما يحصى في هذا المجال !.
أما فيما يخص معنى (الثقافة العصامية) وما يرشح عنها من دلالات وإيحاءات، فلربما لا نجانب الصواب حين نقول؛ إن ادعاء (العصمة) لثقافة ما لا يمنحها امتيازا"حضاريا"وإنسانيا"، بقدر يقلل من شأنها ويحط من قيمتها ويضعف من تأثرها. فالثقافة وان حملت بين ثنايا تكوينها خصائص المجتمع النوعية التي تجسّد فرادة شخصيته، وتعكس نمط عقليته، وتمثل خصوصية هويته. بيد أنها لا تتمكن من تحقيق ذلك إلاّ عبر الاحتكاك بثقافات أخرى؛ بالتفاعل والانفعال، بالتأثير والتأثر. ليس فقط لإثبات جدارتها وشرعنة استحقاقاتها بين تلك الثقافات فحسب، وإنما لاغناء مضمونها وتوسيع آفاقها وتطوير منظورها. ومتى أصرّت ثقافة ما على رهان (العصمة) سواء بدعاوى الأقدمية التاريخية، أو مزاعم الأسبقية الحضارية، فان ذلك يعني إن تلك الثقافة شرعت – تحت مزاعم الحفاظ على الأصالة والمنافحة عن التراث - بولوج أطور الاحتضار المحقق والتحجر الأكيد. إذ ليس من طبيعة الثقافة – أية ثقافة – أن تغلق المنافذ بينها وبين باقي الثقافات المختلفة، أو تلغي قنوات التنافذ بين الفكريات المغايرة، أو تمنع جسور التواصل بين العلاقات، إن في مجال الأخذ / التأثر، أو في مضمار العطاء / التأثير.
وهكذا نكون قد أدركنا الفرق بين دلالات (العصمة) حين نصف بها شخص ما (مثقف) من جهة، وبين دلالاتها المختلفة نوعيا"حينما تدعي لنفسها (ثقافة) ما هذه الصفة أو الخاصية من جهة أخرى. اذ ليس ما يعيب الإنسان – الأحرى أن يجعله فخورا"- فيما لو أغنى حصيلته المعرفية وأثرى مخزونه الثقافي، بناء على مجهوده الشخصي وخبرته الذاتية، حتى ولو لم تسعفه الظروف الموضوعية في بناء تلك المعارف والثقافات على أسس أكاديمية ومنهجية كما يحصل للبعض. ولكن الأمر لا يبدو على هذه الشاكلة بالنسبة للثقافة التي سيعيبها الادعاء بان معمارها الفكري ومدماكها القيمي، أقيم على أرضية قومية / وطنية (نقيّة) خالية من امتدادات وتأثيرات الثقافات الأخرى، حيث أنها ستحكم على ذاتها بعقم الإبداع وجمود التطور.

ثامر عباس

 

في المثقف اليوم